كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وتقدَّم الكلامُ على نصب « فَيَكُونَ » .
فصل فيما تشير إليه « ذلك »
« ذَلِكَ » إشارةٌ إلى ما تقدَّم .
قال الزَّجَّّاج - رحمه الله- ، أي : ذلك الذي قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة ، لا أنَّه ابنُ الله [ كما زعمت النصارى ] .
وقوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } ، أي : يختلفوُن ، وأما امتراؤهُم في عيسى ، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله ، وقائلٌ يقولُ : هو الله ، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران .
ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه- لمَّا رفع ، حضر أربعةٌ من [ أكابر ] علمائهم ، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، خلق ، وأحيى ، ثم صعد إلى السَّماء ، فتبعهُ على ذلك خلقٌ ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ؟ قال : هو ابنُ الله ، فتابعهُ على ذلك ناسٌ ، وهم النسطورية ، [ وقيل للثالث : ما تقول؟ قال : هو غله ، والله إله ، فتابعه على ذلك أناس ، وهم الاسرائيلية ] ، وقيل للرابع : ما تقولُ . فقال : عبدُ الله ورسولهُ ، وهو المؤمنُ المُسْلم ، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ ، ونيام ، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه ، فخصمهم .
قوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } نفى عن نفسه الولد ، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد .
والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ ، أي : لا يصحُّ ذلك ، ولا ينبغي ، بل يستحيلُ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ ، وإن كان بصُورة النَّفِي .
وقيل : اللاَّم منقولةٌ ، أي : ما كان من ولدٍ ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ ، إنَّه ولدي؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان لله أن يظلم ، أي : لا يلِيقُ بحكمته ، وكمالِ إلهِيَّتِهِ .
قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً } إذا أراد أن يحدث أمْراً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً ، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا ، فهو محالٌ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته ، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ ، ] ولو كان [ مُمْكِناً ] لذاته ، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته ، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه ، كان ممكناً لذاته ، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته ، فيكُون عبداً له؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك .
وإن كان الولدُ مُحْدَثاً ، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم ، وإيجاده ، وهو المرادُ من قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .
فيكونُ عَبْداً ، لا ولداً؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ .
فصل في قدم كلام الله تعالى
دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ ، قال له : { كُن فَيَكُونُ } فلو كان بقوله : « كُنْ » مُحْدَثاً ، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر ، ولزمَ التَّسَلْسُل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى ، قديمٌ ، لا مُحْدَث .
واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه :
أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة « إذَا » وهي دالَّة على الاستقبال؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال .
ثانيها : أنَّ « الفاء » للتعقيب ، و « الفاءُ » في قوله : « فإنَّمَا يَقُولُ » يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ .
وثالثها : « الفاءُ » في قوله « فَيَكُونُ » يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ ، والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً ، فقولُ الله محدثٌ .
قال ابنُ الخطيبِ - رحمه الله- واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ .
أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله « كُنْ » قديماً ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق .
وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف ، والأصوات مُحْدَثاً؛ وذلك لا نزاع فيه ، [ لأن ] المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ .
فصل في أقوال الناس في قوله « كُنْ »
من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها ، وزعم أنَّه تعالى ، إذا أحدث شيئاً ، قال له : كُنْ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه إما أن يقُول له : كُنْ قبل حدوثه ، أو حلب حُدُثه ، فإن كان الأوَّل ، كان خطاباً مع المعدُوم ، وهو عبثٌ ، وإن كان حال حدوثه ، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة ، والإرادة ، لا بقوله « كُنْ » ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله : « كُنْ » هو التخليقُ والتكوينُ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير ، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل ، وغير مُكَوِّن في الأول؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم ، وغير مكوِّن له ، فالقادريَّة غير المكنونيَّة ، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث؛ لأنَّ الله تعالى كونه ، وأوجده ، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن؛ لكان قولنا : « المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله » بمنزلةِ قولنا : « المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه » وذلك محالٌ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن ، فقوله « كُنْ » إشارةٌ إلى الصفة [ المسمَّاة ] بالتكوين .
وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى : « كُنْ » عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة .
قوله : { وَإِنَّ الله } : قرأ ابن عامرٍ ، والكوفيُّون « وإنَّ » بكسر « الهمزة » على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ « إن الله » بالكسر ، دون واو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده ، والتقدير : وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه؛ كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى : لوحدانيَّته أطيعوه ، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخيل وسيبويه - رحمة الله عليهم- .
الثاني : أنها عطفٌ على « الصلاةِ » والتقديرُ : وأوصاني بالصلاةِ ، وبأنَّ الله ، وإليه ذهب الفراء ، ولم يذكر مكِّي غيره؛ ويريِّده ما في مصحف أبيِّ « وبأنَّ الله ربِّي » بإظهاره الباءِ الجارَّة ، وقد استُبْعِد هذا القولُ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين ، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ؛ فلا يُرجِّحُ هذا؛ لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ ، فهي كاللاَّم .
الثالث : أن تكون « أنَّ » وما بعدها نسقاً على « أمْراً » المنصُوب ب « قَضَى » والتقديرُ : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على « أمْراً » لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب « إذَا » وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتَّة ، بل هو ربُّنا على الإطلاق ، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو ، وعدُّوا له غلطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها .
الرابع : أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديره : والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذكر ذلك عن الكسائيِّ ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ .
الخامس : أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على « الكتاب » في قوله « قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ » على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله- والقائلُ لهم ذلك عيسى ، وعن وهبٍ ، عهد إليهم عيسى : أنَّ الله ربي وربُّكم ، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف « إنَّ الله » على قوله « إنِّي عبد الله » فهو داخلٌ في حيِّز القولِ ، وتكون الجملُ من قوله « ذلك عيسى ابْنُ مريمَ » إلى آخرها جمل اعتراضٍ .
وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال : إنَّي عبد الله ، والله ربِّي وربُّكم ، فاعبدوه ، وهذا قول أبي مسلمٍ ، الأصفهانيِّ ، وهو بعيدٌ .
فصل في دلالة الآية
قوله : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [ على ] خلافِ قول المُنَجَّمين : أنَّ المدبِّر للنَّاسِ ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ؛ لأنَّ لفظ « الله » اسمٌ علمٌ له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فلمَّا قال : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، أي : لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد .
وقوله « فاعْبُدُوهُ » قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مُشْعِرٌ بالعليَّة ، فها هنا وقه الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة ، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه؛ لكونه ربَّا لنا؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] أي : إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ ، لم تجزِ عيادتها ، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً ، وجبتْ عبادتهُ ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً ، ثم قال : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً ] تشبيهاً بالطَّريق؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة .
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } .
قيل : المرادُ النَّصارى ، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النَّسْطُوريَّة ، والملكانيَّة [ واليعقوبيَّة ] وقيل : المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ ، والنصارى ، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد- صلوات الله وسلامه عليه- وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه ، ويريِّدهُ قوله تعالى : { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } .
قوله : { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } : « مَشْهَد » مفعل : إمَّا من الشَّهادة ، وإمَّا من الشُّهود ، وهو الحضورُ ، و « مَشْهَدا » هنا : يجوز أن يراد به الزمانُ ، أو المكان ، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمرادُ به الزمانُ ، فتقديرهُ : من وقتٍ شهادة ، وإن أريد به المكانُ ، فتقديره : من مكانِ شهادةِ يومٍ ، وإن أريد المصدرُ ، فتقديره : من شهادة ذلك اليومِ ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، والملائكة ُ ، والأنبياءُ ، وإذا كان من الشهود فيه ، وهو الموقفُ ، أو من وقت الشُّهود ، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين ، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم : إمَّا حقيقة ، وإمَّا مجازاً .
ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله .
قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظ أمرٍ ، ومعناه : التعجُّب ، وأصحُّ الأعاريب فيه ، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ ، والباءُ زائدة ، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ « أفْعِلْ » أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً ، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله : [ الطويل ]
3606- تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا ... فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا
أي : بأنْ تسربل ، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضمير في « أفْعِلْ » ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ .
ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقدير : أحسن ، يا حُسْنُ ، بزيدٍ ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً ، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية ، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم ، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو .
فصل في التعجب
قالوا : التعجُّب استعظام الشيء ، مع الجهل؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب ، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله .
قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ : { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } [ الصافات : 12 ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء ، إنما يعجبُ من لا يعلم ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ -رضي الله عنه- فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } .
ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجُّب صيغتان :
إحداهما : ما أفعلهُ ، والثانيةُ أفعل به .
كقوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان :
الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ ، أصل « أكرم زيدٌ » أيك صار ذا كرمٍ ، ك « أغَدَّ البَعِيرُ » أي : صار ذا غُدَّة ، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر ، ومعناه الخبرُ ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] ، { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ ، والباء زائدةٌ .
الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً ، أي : بأن يصفه بالكرمِ ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
قال ابن الخطيبِ : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً ، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ بك غرضك .
فصل في معنى الآية
المشهورُ أنَّ معنى قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } « ما أسمعهُمْ ، وما أبْصَرهُم » والتعجُّب على الله تعالى محالٌ ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا .
وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ ، ويصدعُ قلوبهم .
وقال القاضي : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أيك عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا .
وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء ، ليعرفُوا أمرهُم ، وسُوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ ل « أبْصِرْ » . [ ولا يجوز أن يكون معمولاً ل « أسْمِعْ » لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب ، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال ، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة ، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية .
قوله تعالى : { لكن الظالمون اليوم } .
نصب « اليَوْمَ » بما تضمَّنه الجار من قوله « في ضلالٍ مُبينٍ » أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزَّمان؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنه يجوز الاعتباران .
فصل في معنى الآية
المعنى : { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : خطأ بيِّنٍ ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ .
وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين .
وقوله { لكن الظالمون } من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر .
قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } هذا أمرٌ لمحمَّد -صلوات الله عليه وسلم- بأن ينذر من في زمانه ، والإنذار : التخويفُ من العذاب ، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى ، ويوم الحسرة : هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار .
وقيل : يتحسَّر أيضاً في الجنَّة ، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله -صلوات الله عليه وسلامه- : « مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ ، قالوا : فَما ندمهُ يا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ كان مُحْسناً ، ندم ألاَّ يكون ازداد ، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ » والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [ هَمٌّ ] ، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة .
قوله : { إِذْ قُضِيَ الأمر } : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ ، والمصدرُ المعرَّفُ ب « ألْ » يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم ، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من « يَوْم » فيكون معمولاً ل « أنْذِرْ » كذا قال أبو البقاء ، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان ، ولم يذكر غير البدل ، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي ، فإن جعلت « اليوم » مفعولاً به ، أي : خوِّفهُم نفس اليوم ، أي : إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة .
فصل في قوله تعالى { إِذْ قُضِيَ الأمر }
في قوله تعالى : { إِذْ قُضِيَ الأمر } وجوه :
أحدها : قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل ، وشرح أمر الثَّواب والعقاب .
وثانيها : [ إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا ، وزوالِ التَّكليف ، والأول أقرب؛ لقوله : { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
وثالثها : ] « إذْ قُضِيَ الأمْرُ » فُرِغَ من الحساب ، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة ، وأهلُ النَّار النَّار ، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : { إِذْ قُضِيَ الأمر } فقال : « حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ ، فيذبحُ ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ » .
قوله تعالى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملتان حاليتان ، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما حالان من مفعول « أنذِرْهُم » [ أي : أنذرهُم على هذه الحالِ ، وما بعدها ، وعلى الأول يكون قوله « وأنْذِرْهُم » ] اعتراضاً .
والمعنى : وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون بذلك اليومِ .
قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } أي : نُميتُ سُكَّان الأرض ، ونُهلِكُهم جميعاً ، ويبقى الرَّبُّ وحده ، فيرثُهُم { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ، فنجزيهم بأعمالهم .
[ وقرأ العامَّةُ « يُرْجَعُون » بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول ، والسُّلمي ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى مبنيًّا للفاعل ، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب ، ويجوز أن يكون التفاتاً ، وألا يكون ] .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ } اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان :
منهم : من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا ، عاقلاً ، فاهماً ، وهم النصارى .
ومنهم : من أثبت معبُوداً غير الله ، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ ، وهم عبدةُ الأوثان .
والفريقان ، وإن اشتركا في الضَّلال ، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم ، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل ، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدةُ الأوثان؛ فقال : { واذكر فِي الكتاب } والواو في قوله : { واذكر } عطف على قوله { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى ، وعيسى -صلوات الله عليهم- قال : قد ذكرتُ حال زكريَّا ، فتذكر حال إبراهيم -صلواتُ الله عليه- وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه -صلوات الله عليه- ما كان هُو ، ولا قومُه ، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم ، ومطالعةِ الكتب ، فإذا أخبر عن هذه القصَّة ، كما كانت من غير زيادةٍ ، ولا نقصانٍ ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ، ومُعْجِزاً [ قاهراً ] دالاَّ على نُبُوَّته ، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لوجوه :
الأول : أنَّ إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- كان أبا العرب ، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه ، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] فكأنه تعالى قال للعرب : إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم -صلوات الله عليه- فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان ، وإن كُنتم [ مستدلين ] ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان ، وبالجملةُ : فاتَّبِعُوا إبراهيم ، إمَّا تقليداً ، أو استدلالاً .
الثاني : أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله -صلوات الله عليه وسلامه- كانوا يقولون : نتركُ دين آبائنا ، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- و [ بيَّن ] أنه ترك دين أبيه ، وأبطل قوله بالدليل ، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه .
الثالث : أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد ، [ وينكِرُون ] الاستدلال؛ كما حكى الله تعالى عنهم { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 53 ] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم ، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق ، القائم عليه ، يقال : رجلٌ خميرٌ ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال .
وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به ، والأول أولى؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق ، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل .
فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون } [ الحديد : 19 ] فالجوابُ : المؤمنون بالله [ ورسله ] صادقُون في ذلك التَّصديق .
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه ، ومُصدَّق الله صادقٌ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله ، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله على النَّاسِ؛ لقوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والشَّهيد : إنَّما يقبلُ قوله ، إذا لم يكن كاذباً؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] و { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] .
فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً ، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا .
وأما النبيُّ : فمعناه : كونهُ رفيع القدر عند الله ، وعند النَّاس ، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه ، وبين عباده ، وقوله : { كَانَ صِدِّيقاً } معناه : صار ، وقيل : وجد صدِّيقاً نبيًّا ، أي : كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ } : يجوز أن يكون بدلاً من « إبْراهيمَ » بدل اشتمال؛ كما تقدَّم في { إِذِ انتبذت } [ الآية : 16 ] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه؛ بقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : « رأيتُ زيْداً -ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ » وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق « إذْ » ب « كَانَ » أو ب « صدِّيقاً نبيًّا » ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء أن يعمل فيه « صدِّيقاً نبيًّا » أو معناه .
قال أبو حيان : « الإعرابُ الأوَّلُ -يعني البدلية- يقتضي تصرُّف » إذْ « وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ » كان « في الظرف ، وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين ، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل » صدِّيقاً « لأنَّه قد وصف ، إلا عند الكوفيِّين ، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل » نبيَّا « لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة » .
قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم ، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : « أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه » .
وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ « يَا أبَتَ » وفي مصحف عبد الله « وا أبتِ » ب « وا » التي للندبة .
والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلاَّ يجمع بين العوض ، والمعوَّض منه ، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء .
قوله تعالى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه :
أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم ، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم ، وفروعها على [ ما تقدم ] في تفسير قوله تعالى :
{ إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ آل عمران : 51 ] ، وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها ، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة ، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها .
وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع ، ولم تُبْصر ، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات .
وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي ، فأيُّ منفعةٍ في عبادته؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه ، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب؟ .
ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك ، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثنِ ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ؟ .
وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ ، ولا تضرُّ ، فلا يرجى منها منفعةٌ ، ولا يخافُ من ضررها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها؟! .
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- جُذاذاً ، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير؟َ ، فكأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر ، ويجيبُ دعوة الدَّاعي ، إذا دعاه .
فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم -صلوات الله عليه- كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ ، مختارةٌ ، خالقة .
أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب ، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر ، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب ، قلَّما يتَّفِقُ مثلها ، أو لغير ذلك .
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل ، كان في نهاية الجُنُونِ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسَّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة ، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً ، والمجنونُ لا يناظرُ ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك . فالجوابُ : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنَّما أورد إبراهيمُ -صلوات الله وسلامه عليه- هذه [ الدلائل ] عليهم؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضُرُّ ، فبيَّن إبراهيم -صلواتُ الله عليه وسلامه- أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرَّة في الإعراض عنها؛ فوجب أن تجتنب عبادتها .
قوله : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم } بالله ، والمعرفة { مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني } على ديني { أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستقيماً . { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } أي : لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان؛ فوجب حملُه على الطَّاعة { لشَّيْطَانَ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } أي : عاصياً ، و « كَانَ » بمعنى الحالِ ، أي : هو كذلك .
فإن قيل : إثباتُ الصَّانع .
وثانيها : إثباتُ الشيطان .
وثالثها : أن الشيطان عاصٍ [ لله ] .
ورابعها : أنَّه لما كان عاصياً ، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء .
وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان ، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم : أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ ، يسلِمها الخصمُ ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات ، وكيف ، والمحكيُّ عنه : أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن؟
وإذا لم يسلِّم وجوده ، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان ، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه .
فالجوابُ :
أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب « آزَرَ » هو قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة ، فسقط السُّؤال .
قوله تعالى : { ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ } .
قال الفرَّاء- رحمه الله- : أخافُ : أعلمُ ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره ، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه- عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر ، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب ، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك ، كان خائفاً لا قاطعاً ، والأوَّلُون فسَّروا الآية ، فقالوا : أخافُ ، بمعنى أعلمُ ب « أن يسمِّك عذابٌ » يصيبك عذابٌ من الرحمن ، إن أقمت على الكفر ، « فتكُون للشيطانِ وليَّا » قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة ، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً .
وقيل : المرادُ بالعذابِ هنا : الخِذْلانُ ، والتقدير : إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله ، فتصير موالياً للشيطان ، ويتبرأ الله منك .
فصل في نظم الآية
أعلمْ أنَّ إبراهيم- صلوات الله وسلامه عليه- رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان ، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر ، والاستدلال ، وترك التقليد ، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي ، ثم إنَّه - صلوات الله عليه- أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه : « يا أبت » دليلٌ على شدَّة الحبِّ ، والرغبة في صونه عن العقاب ، وإرشاده إلى الصَّواب ، وختم الكلام بقوله : { ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ } وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه ، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ :
الأول : لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى :
{ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق ، كان نُوراً على نُور .
والثاني : أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء .
وثالثها : - ما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال : قال صلوات الله عليه وسلامه- : « أوْحَى اللهُ- تبارك وتعالى- إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي ، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ ، وأدينه من جواري » .
قوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « راغبٌ » مبتدأ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام ، و « أنْتَ » فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر .
والثاني : أنه خبر مقدمٌ ، و « أنْتَ » مبتدأ مؤخَّر ، ورُجِّح الأول بوجهين :
أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ ، ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه .
والثاني : أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك أنَّ « عَنْ آلهتي » متعلقٌ ب « رَاغِبٌ » فإذا جعل « أنْتَ » فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل؛ بخلاف جعله خبراً؛ فإنه أجنبيٌّ؛ إذ ليس معمولاً ل « راغبٌ » .
فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم
اعلم أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد ، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [ مضاد ] لذلك ، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي } فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً ، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم ، وقابل رفقه في قوله « يا أبَتِ » بالعنف ، فلم يَقُلْ له : يا بنيَّ ، بل قال له : يا إبراهيمُ ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ- صلواتُ الله وسلامه عليه- تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين ، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة ، ثم قال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } .
قال الكلبيُّ : ومقاتلٌ ، والضحاكُ ، لأشتنمَّك ، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] ؛ أي : بالشَّتْم ، ومنه : الرَّجيمُ ، أي : المرميُّ باللَّعْن .
قال مجاهدٌ : كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم ، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] .
وقال ابنُ عبَّاسٍ- رضي الله عنه- : لأضربنَّك .
وقال الحسنُ : لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام ، فحمله عليه أولى .
وقال المروِّج : « أقْتُلَنَّكَ » بلغة قريش ، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد ، والإبْعاد قوله : { واهجرني مَلِيّاً } .
قوله تعالى : « مَلِيَّاً » في نصبه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ ، أي : زمناً طويلاً ، ومنه « الملوانِ » للَّيلِ والنهار ، وملاوةُ الدَّهر ، بتثليث الميم قال : [ الطويل ]
3607- فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً ... فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ
وأنشد السدى على ذلك لمهَلْهَلٍ قال : [ الكامل ]
3608- فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ ... وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
أي : أبداً .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال ، معناه : سالماً سويَّا ، قال ابن عباس : [ اعتزلني سالماً؛ لا يصيبك مني معرة ] فهو حالٌ من فاعل « اهْجُرْنِي » وكذلك فسَّره ابن عطيَّة؛ قال : « معناه : مستبدَّا ، أي : غنيَّا عني من قولهم : هو مليٌّ بكذا وكذا » قال الزمخشريُّ : « أي : مُطِيقاً » .
والمعنى : مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي ، والهجران ، قيل : أن أثخنك بالضَّربِ؛ حتى لا تقدر أن تبرح .
والثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : هجراً مليَّا ، يعني : واسعاً متطاولاً؛ كتطاول الزمان الممتدِّ .
قال الكلبيُّ - رحمه الله- اجتنبني طويلاً .
والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدَّار والبلدِ ، وهي كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنِّي؛ لكي لا أراك .
وقيل : اهجرني [ بالقول ، وعطف « واهجرني » على معطوف عليه محذوف عليه محذوف يدل عليه : « لأرجمنك » أي : فاحذرني ، واهجرني ] ؛ لئلا أرجمنك ، فلما سمع إبراهيمُ- صلوات الله وسلامه عليه- كلام أبيه ، أجاب بأمرين :
أحدهما : أنه وعدُه بالتَّباعُد منه؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه .
والثاني : قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } توديعٌ ، ومتاركةٌ ، أي : سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ ، وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره؛ كقوله تعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] ، { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح ، إذا ظهر منه اللَّجاج ، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان ، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة؛ استمالة له .
ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه؟
كقوله سبحانه : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
وقرأ أبو البرهسم « سلاماً » بالنصب ، [ وتوجيهها ] واضحٌ ممَّا تقدَّم .
قوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } ، أي : لمَّا أعياه أمرُه ، وعدهُ أن يراجع الله فيه ، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } برَّا لطيفاً .
واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ- صلوات الله عليهم- وذلك أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- استغفر لأبيه ، وأبُوه كافراً ، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ؛ فثبت أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- فعل ما لا يجوزُ .
أما استغفارهُ أبيه؛ فلقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } وقوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشعراء : 86 ]
وأما كون أبيه كافراً؛ فبالإجماع ، ونصِّ القرآن .
وأمَّا أن الاستغفار [ للكافر ] لا يجوزُ؛ فلقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } [ التوبة : 113 ] ولقوله- عزَّ و جلَّ- في سورة الممتحنة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] .
والجوابُ : أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله- صلوات الله عليه وسلامه- ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها ، مع أنَّها كانت مباحةٌ له .
وأيضاً : لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى ، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ .
قوله : { اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } .
قال مقاتلٌ- رحمه الله- : كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من « كوثى » ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه ، « وأدعُو ربِّي » أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ ، والذي خلقني ، وأنعم عليَّ { رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّا } ، أي : عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام ، ذكر ذلك على سبيل التواضُع؛ كقوله تعالى : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] .
وقوله : « شَقِيَّا » فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهِتْهمْ .
وقيل : عسى أن يجيبني ، إن دعوتُه .
قوله تعالى : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } .
ذهب مهاجراً إلى ربِّه ، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته ، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه ، ويُلزم الخلق طاعتهُ ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرةِ .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } : « كُلاَّ » مفعولٌ مقدَّم هو الأول ، و « نبيَّا » هو الثاني .
ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته ، قال الكلبيُّ : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ، قالوا : هو ما بسط لهم في الدَّنيا من سعة الرِّزق .
وقيل : الكتاب والنبوَّة . { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } :
يعني : ثناءٌ حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان ، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان ، منا عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ ، وهو العطيَّة ، فاستجاب الله دعوته في قوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] ، فصيَّره قُدوةً ، حتى ادَّعاه أعلُ الأديان كلهم . فقال سبحانه وتعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب موسى } قرأ أهلُ الكوفة مخلصاً ، بفتح اللام ، أي : مختاراً اختاره الله تعالى ، واصطفاه .
وقيل : أخلصه الله من الدَّنس .
والباقون بالكسر ، ومعناه : أخلص التَّوحيد لله والعبادة ، ومتى ورد القرآنُ بقراءتين ، فكلٌّ منهما ثابتٌ مقطوعٌ به ، فجعل الله تعالى من صفة موسى - صلوات الله عليه- كلا الأمرين .
ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } وهذان وصفان مختلفان ، لكنَّ المعتزلة زعمُوا كونهما متلازمين؛ فكلُّ رسول نبيٌّ ، وكلُّ نبيٍّ رسولٌ ، ومن الناس من أمرك ذلك ، ويأتي الكلامُ عليه - إن شاء الله تعالى- في سورة الحج عند قوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ] ثم قال : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } يعني : يمين موسى ، والظاهر أنَّ الأيمن صفة للجانب؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } [ طه : 80 ] وقيل : إنه صفة للطُّور ، إذا اشتقاقهُ من اليُمْن والبركة ، والطُّور : جبلٌ بين مصر ومدين ، ويقالُ : إنَّ اسمه الزُّبير ، وذلك حين أبل من مدين ، ورأى النَّار ، فنودي { ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } [ القصص : 30 ]
قوله تعالى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } ، أي : مناجياً ، والنجيُّ : المناجي؛ كما يقالُ : جليسٌ ونديمٌ ، و « نجيَّا » حالٌ من مفعول « قرَّبناهُ » وأصله « نجيوا » لأنه من نجل يَنْجُو
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنه- معناهُ : قرَّبه وكلَّمه .
وقيل : أنجيناه من أعدائه ، ومعنى التقريب : إسماعه كلامهُ .
وقيل : رفعه على الحُجُب؛ حتَّى سمع صرير القلم؛ حيث تكتبُ التوراةُ في الألواح ، وهو قولُ أبي العالية .
قال القاضي : المرادُ بالقرب : أنَّه رفع قدره ، وشرَّفه بالمُنَاجاة؛ لأنَّ استعمال القُرْب في الله ، قد صار في التعارف لا يرادُ به إلا المنزلةُ؛ كما يقالُ في العبادة : تقرُّب ، وفي الملائكة - عليهم السلام- : إنَّهم مقرَّبُون .
قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ } : في « مِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها تعليليةٌ ، أي : من أجل رحمتنا ، و « أخَاهُ » على هذا مفعولٌ به ، و « هارُون » بدلٌ ، أو عطف بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار أعني ، و « نبيًّا » حالٌ .
والثاني : أنها تبعيضيةٌ ، أي : بعض رحمتنا ، قال الزمخشريُّ : « وأخاه » على هذا بدلٌ ، و « هَارُون » عطف بيان . قال أبو حيان : « الظاهرُ أنَّ » أخَاهُ « مفعولُ » وَهَبْنَا « ولا ترادفُ » مِنْ « فتبدل » أخاه « منها » .
فصل في نبوة هارون
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : كان هارونُ أكبر من موسى -صلوات الله عليه- وإنما وهب الله تعالى له نُبُوَّته ، لا شخصه وأخُوّته ، وذلك إجابة لدعائه في قوله : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي }
[ طه : 29- 31 ] فاجابه الله تعالى بقوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وقوله : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } [ القصص : 35 ] .
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ } .
وهو إسماعيلُ بن إبراهيم جدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } .
قال مجاهدٌ لم يعد شيئاً إلاَّ وفَّى به .
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه [ واعد ] صاحباً له أن ينتظره في مكانٍ ، فانتظره سنة . وأيضاً : وعد من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح ، فوفَّى حيث قال : { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] ويُروى أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- قال له رجلٌ : انتظرني؛ حتى آتيك ، فقال عيسى : نعم ، وانطلق الرجلُ ، ونَسِيَ الميعاد ، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان ، وعيسى -صلوات الله عليه- هناك للميعاد .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ واعد رجُلاً ، و [ ونَسِيَ ذلك الرَّجلُ ] ، فانتزهرٌ من الضُّحى إلى قريبٍ [ مِنْ ] غروب الشمس ، وسُئِلَ الشعبيُّ عن الرجل يعدُ ميعاداً : إلى أيِّ وقتٍ ينتظر؟ قال : إن واعدهُ نهاراً ، فكُلَّ النَّهارِ ، وإن واعدهُ ليلاً ، فكُلَّ اللَّيْلِ .
وسُئِلَ إبراهيمُ بنُ زيدٍ عن ذلك ، فقال : إذا وعدتهُ في وقتِ الصَّلاةِ ، فانتنظرهُ إلى وقت صلاةِ أخرى ، ثم قال : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } وقد مرَّ تفسيرهُ ، { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة } ، والمرادُ بالأهل : قومهُ .
وقيل : أهله جميع أمَّتِهِ .
قال المفسِّرون : إنه كان رسولاً إلى « جُرْهُم » .
والمراد بالصلاة هناك [ قال ] ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- : يريد التي افترضها الله عليهم ، وهي الحنيفية التي افترضها علينا .
قيل : كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة ، ليجعلهم قٌدوة لمن سواهُم؛ كما قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } [ طه : 132 ] { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ } [ التحريم : 6 ] ، أمَّا الزكاةُ ، فعن ابن عبَّاس -رضي الله عنه- أنَّها طاعةُ الله ، والإخلاصُ؛ فكأنَّه تأوَّله على ما يزكُو به الفاعلُ عند ربِّه ، والظاهرُ : أنَّه إذا قُرنتِ الصَّلاة بالزَّكاة : أن يُرَاد بها [ الصدقات ] الواجبةُ .
قوله تعالى : { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } قائماً بطاعته .
وقيل : رضيه لنبوته ورسالته .
والعامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصله مَرْضُووٌ ، بواوين : الأولى زائدةٌ؛ كهي في مضروبٍ : والثانية : لام الكلمة؛ لأنه من الرِّضوان ، فأعلَّ بقلب الواو [ ياءً ، وأدغمت ] الأخيرةُ ياءً ، واجتمعت الياءُ والواوُ ياءً ، وأدغمت ، ويجوز النطقُ بالإصلِ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا .
وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصل ، وهوالأكثرُ؛ ومن الإعلالِ قوله : [ الطويل ]
3609- لقَدْ عَلِمَتْ عرسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي ... أنَا المرءُ مَعْدِيًّا عليْهِ وعَاديَا
وقالوا : أرضٌ مسنيَّةٌ ، ومسنُوَّةٌ ، أي : مسقاة بالسَّانيةِ .
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ } الآية إدريسُ هو جدُّ أبي نوحٍ -صلوات الله عيله وسلامه- وهو نوحُ بنُ لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس -عليه السلام- .
قيل : سُمِّي « إدريسَ » لكثرة دراسة الكُتُب ، وكان خيَّاطاً ، وهو أوَّلُ من خطَّ بالقلم ، وخاط الثِّياب ، ولبس المخيطَ ، وكان قبلهُ يلبسُون الجُلُود ، وأوَّل من اتَّخذ السِّلاح ، وقاتل الكُفَّار ، وأوَّلُ من نظر في علم الحساب { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } .
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } .
قيل : يعني في الجنَّةِ ، وقيل : هي الرِّفعة بعُلُوِّ الرُّتْبَة في الدُّنيا؛ كقوبه تعالى { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] وقيل : إنَّه رفع إلى السماءِ؛ روى أنسُ بن مالكٍ -رضي الله عنه- عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى إدريسَ -صلوات الله عليه- في السماءِ الرَّابعةِ ، ليلة المعراج وكان سببُ رفع إدريس على ما قاله « كَعْبٌ » وغيره -أنَّهُ [ سَارَ ] ذات يومٍ في حاجةٍ ، فأصابه وهج الشمس؛ فقال : يا ربِّ ، أنا مشيتُ يوماً فيها؛ فأصابني المشقةُ الشديدة من وهج الشمس ، وأضرَّني حرُّها ضرراً بليغاً -فكيف يحملُها مسيرة خمسمائةِ عامٍ في يومٍ واحدٍ؟! اللَّهُمَّ ، خفِّف عنه من ثقلها ، وحرِّها ، فلمَّا أصبح الملكُ ، وجد من خفَّة الشَّمس ، وحرها ما لا يعرف؛ فقال : يا ربِّ ، ما الذي قضيت فيه؟ قال : إنَّ عبدي إدريس سألني أنَّ أخفِّفق عنك حملها ، وحرِّها؛ فأجبته ، فقال : ربِّ ، اجعل بيني وبينه خُلَّة ، فأذن له؛ حتى أتى إدريسَ ، فكان يسألُه إدريسُ ، فقال له : إنِّي أخبرتُ أنَّك أكرمُ الملائكةِ ، وأمكنُهم عن ملكِ الموتِ؛ فاسشفعْ لي إليه؛ ليُؤخِّر أجلِي؛ فأزداد شكراً وعبادة ، فقال الملكُ : يؤخِّرُ الله نفساً ، إذا جاء أجلهان وأنا مُكَلِّمُهُ ، فرقعهُ إلى السَّماءِ ، ووضعهُ عند مطلع الشَّمس ، ثُمَّ أتى ملك الموتِ ، فقال : حاجةٌ لي إليك؛ صديقٌ لي مِنْ بني آدم ، تشفَّع بي إليك؛ تُؤخِّر أجله ، قال : ليس ذلك إليّ ، ولكت إن أحببت ، أعلمته أجله؛ فيتقدَّمُ في نفسه ، قال : نَعَم ، فنظر في ديوانه ، فقال : إنَّك كلَّمتني في إنسانٍ ، ما أراه أن يموت أبداً ، قال : وكيف؟ قال : لا أجده يموتُ إلا عند مطلع الشَّمس ، قال : فإني أتَيْتُكَ ، وتركته هناك : قال : انطللقْ ، فلا أرَاكَ تجده إلاَّ وقد مات؛ فواللهِ ، ما بقي من أجلِ إدريسَ شيءٌ؛ فرجع الملكُ ، فوجده ميتاً .
واحتلفُوا في أنَّه حيٌّ في السماء ، أم ميِّتٌ؛ فقيل : هو ميتٌ ، وقيل : حيٌّ ، وقيل : أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ ، اثنان في الأرض؛ « الخَضِرُ ، وإلياسُ » واثنان في السماءِ « إدريسُ ، وعيسَى » صلواتُ الله عليهم .
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قوله تعالى : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين } الآية .
« مِنْ » الأولى؛ للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء منَعَّمٌ عليهم ، فالتبعيضُ محالٌ؛ والثانيةُ للتبعيض؛ فمجرورها بدلٌ مما قبله بإعادة العاملِ ، بدلُ بعضٍ من كلٍّ .
وقوله : « وإسرائيلَ » عطفٌ على [ « إبْراهيمَ » .
قوله : « وممَّنْ هديْنَا » يحتملُ أن يكون عطفاً على « مِنَ النبييِّينَ » وأنْ يكون عطفاً على ] « مِنْ ذرَّية آدمَ » .
فصل
اعلم أنَّه تعالى أثنى على كل واحدٍ ممَّن تقدم ذكرهُ [ من الأنبياء ] ، بما يخُصُّه من الثناء ، ثمَّ جمعهم آخراً؛ فقال تعالى : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } أي : بالنبوَّةِ ، وغيرها ، و « أولئِكَ » إشارةٌ إلى المذكورين في هذه السورة من « زكريَّا » إلى « إدريس » -صلوات الله عليهم- ثمَّ جمعهُم في كونهم من ذرية آدم .
ثُمَّ خصَّ بعضهم بأنهم من ذريَّةِ آدمَ ، ممَّن حمله مع نُوحِ ، ومنهم من هو من ذرية آدم ، دثون من حمله مع نوحٍ؛ وهو إدريسُ -عليه السلام- فقد كان سابقاً على نُوحٍ .
والذين هم من ذُريَّة من حمل مع نوحٍ ، وهو « إبراهيمُ » ؛ لأنَّه [ ولدُ ] سام بن نُوح ، وإسماعيلُ ، وإسحاقُ ، ويعقوبُ من ذريةِ إبراهيم .
ثم خصَّ بعضهم أنه من ولد إسرائيل ، أي : يعقوب ، وهم : مُوسَى ، وهارونُ ، وزكريَّا ، ويحيى ، وعيسى؛ من قبل الأمِّ .
فرتَّب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب؛ منبهاً بذلك على أنَّهم كما فُضِّلُوا بأعمالهم ، فلهم منزلةٌ في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء .
ثُمَّ بيَّن أنَّهم ممَّن هدينا ، واجتبينا؛ منبِّهاً بذلك على أنَّهُم خُصُّوا بهذه المنازِلِ؛ لهداية الله تعالى لهمُ ، ولأنَّهم اختارهم للرسالةِ .
قوله : « إذا تُتْلى » جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان :
أظهرهما : أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها .
والثاني : أنها خبرُ « أولئكَ » والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإشارة ، وعلى الأول؛ يكونُ الموصول نفس الخبر .
وقرأ العامَّةُ « تُتْلَى » بتاءين من فوق ، وقرأ عبدُ الله ، وشيبةُ ، وأبو جعفرٍ ، وابنُ كثير ، وابن عامرٍ ، وورشٌ عن نافعٍ في رواياتٍ شاذةٍ : بالياء أوَّلاً من تحت ، والتأنيثُ مجازيٌّ؛ فلذلك جاز في الفعل الوجهان .
قوله تعالى : « سُجَّداً » حالٌ مقدرةٌ؛ قال الزجاج : « لأنهم وقت الخُرُورِ ليسُوا سُجَّداً » .
و « بُكِيًّا » فيها وجهان «
أظهرهما : أنه جمعُ باكٍ ، وليس بقياس ، بل قياسُ جمعه على فعلة؛ كقاضٍ وقُضاة ، ولم يسمع فيه هذا الأصلُ ، وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسران فاءهُ على الإتباع .
والثاني : أنه مصدرٌ على فعولٍ؛ نحو : جلس جُلُوساً ، وقَعَد قُعُوداً؛ والصلُ فيه على كلا القولين » بكُويٌ « بواو وياء ، فأعلَّ الإعلال المشهور في مثله ، وقال ابن عطيَّة : » وبكيًّا بكسر الباء ، وهون مصدرٌ لا يحتمل غير ذلك « قال أبو حيَّان : » وليس بسديدٍ ، بل الإتباعُ جائزٌ فيه « وهو جمعٌ؛ كقولهم : عُصِيٌّ ودُلِيٌّ ، جمع عصا ودلو ، وعلى هذا؛ فيكون » بكيًّا « : إمَّا مصدراً مؤكِّداً لفعل محذوفٍ ، أي : وبكَوا بُكِيًّا ، أي : بكاء ، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال ، أي باكينَ ، أو ذوي بكاء ، أو جعلُوا نفس البكاءِ مبالغةً .
قال الزجاج : « بُكِيًّا » جمع باكٍ؛ مثل شاهدٍ وشُهوجٍ ، وقاعدٍ وقُعُودٍ ، ثمَّ قال : الإنسانُ في حال خُرُوره لا يكن ساجداً ، والمرادُ : خرُّوا مقدِّمين للسُّجُودِ ، ومن قال في « بُكِيًّا » : إنَّه مصدرٌ ، فقد أخطأ؛ لأنَّ سُجَّداً جمع ساجدٍ ، وبكياً معطوف عليه .
فصل
قال المفسِّرون : إنَّ الأنبياء -عليهم السلام- كانُوا إذا سمعُوا آيات الله؛ والمرادُ : الآياتُ التي تتضمنُ الوعد والوعيد ، والتَّرغيبَ والتَّرهيب خروا سُجداً جمع ساجدٍ ، وبكيًّا : جمع باكٍ خشُوعاً وخُضُوعاً ، وحذراً وخوفاً .
قال بعضهم : المراد بالسُّجود : الصَّلاة .
وقال بعضهم : المراد : سجودُ التِّلاوة .
وقل : المرادُ بالسُّجود : الخضوعُ والخشُوع عند التِّلاوة .
قال -صلوات الله وسلامه عليه- : « اتلُوا القُرآنَ ، وابْكُوا ، فإنْ لَمْ تَبْكُوا ، فَتَبَاكَوْا » .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية .
لما وصف الأنبياء بالمدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذرك بعدهم من بالضد منهم ، فقال : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد هؤلاء الأنبياء « خَلْفٌ » من أولادهم ، يقال : خلفه إذا عقبه خلف سوء -بإسكان اللام- والخَلَف- بفتح اللام -الصالح ، كما قالوا : وعد في ضمان الخير ، ووعيد في ضمان الشر ، وفي الحديث : « في الله خلفٌ من كل هالك » وفي الشعر :
3610- ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ ... وبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
قال السديُّ : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم . وقال مجاهد وقتادة : هم في هذه الأمة . « أضاعُوا الصَّلاة » تركوا الصلاة المفروضة . وقال ابن مسعود وإبراهيم : أخروها عن وقتها . وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس . « واتَّبعُوا الشَّهواتِ » قال ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة وشربوا الخمور ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة . « فَسَوْفَ يقَوْنَ غيًّا » قال وهب وابن عباس وعطاء وكعب : هو وادٍ في جهنم بعيد قعره .
وقال أبو أمامة : مجازاة الآثام . وقال الضحاك : « غَيًّا » : خسراناً . وقيل : هلاكاً وقيل : عذاباً ، ونقل الأخفش أنه قرئ « يُلَقَّوْنَ » بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقَّاه مضاعفاً . وقوله : « يَلْقَوْنَ » ليس معناه « يرون » فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية . قوله : « إلاَّ من تَابَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء متصل . وقال الزجاج : هو منقطع . وهذا بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار .
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعة « الصلوات » جمعاً .
وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن « يُدْخَلُونَ » مبنيًّا للمفعول .
فصل
« احتجوا » بقوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } على أن الإيمان غير العمل ، لأنه عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف غير المعطوف عليه .
أجاب الكعبي : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان ، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما .
وهذا الجواب ضعيف ، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما ، لأن التوبة عزم على الترك ، والإيمان إقرار بالله ، وهما متغايران ، فكذلك في هذه الصورة .
ولما بيَّن وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم .
وهنا سؤالان :
السؤال الأول : الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح ، وليس الأمر كذلك ، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن الصلاة لا تجب عليه ، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل ، فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح .
والجواب : ان هذه الصورة نادرة ، والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب .
السؤال الثاني : قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا بالتفضّل ، لأنه لو كان بالتفضل ، لاستحال حصول الظلم ، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد .
وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه .
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من « الجنة » . وعلى هذه القراءة يكون قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه .
والثاني : أنه حال . كذا قال أبو حيان .
وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال .
وقرأ أبو حيوة ، وعيسى بن عمر ، والحسن ، والأعمش : « جنَّات » بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : تلك أو هي جنات عدن .
والثاني : وبه قال الزمخشري : أنها مبتدأ ، يعني ويكون خبرها « الَّتي وَعدَ » .
وقرأ الحسن بن حيّ ، وعلي بن صالح ، والأعمش في رواية « جنَّة عدنٍ » نصباً مفرداً . واليماني ، والحسن ، والأزرق عن حمزة ، « جَنَّةُ » رفعاً « مفرداً » . وتخريجها واضح مما تقدم .
قال الزمخشري : لما كانت مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك أبصرت دارك القاعة والعلالي ، و « عَدْن » معرفة بمعنى العدن ، وهو الإقامة كما جعلوا فينة ، وسحر ، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى مجرى العجن لذلك ، أو هو أعلم لأرض الجنة ، لكونها دار إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها ب « التي » .
قال أبو حيان : وما ذكره متعقب ، أما دعواه : إن عدناً علم لمعنى العدن . فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعواه العلمية الشخصية فيه ، وأما قوله : ولولا ذلك ، إلى قوله : موصوفة؛ فليس مذهب البصريين ، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون ، وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه ، وملازمته فاسدة . وأما قوله : ولما ساغ وصفها ب « التي » ، فلا يتعين كون « التي » صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً .
قال شهاب الدين : إن « التي » صفة ، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً : فإن الموصول في قوة المشتقات ، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ، ضعيف ، فكذلك ما في معناه .
قوله : « بالغَيْبِ » فيه وجهان :
أحدهما : ان الباء حالية ، وفي صاحب الحال احتمالان :
أحدهما : ضمير الجنة ، وهو عائد الموصول ، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها .
والثاني : أن يكون هو « عِبَادَهُ » ، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها ، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه .
والوجه الثاني : أن الباء سببية ، أي : بسبب تصديقه الغيب ، وبسبب الإيمان « به » .
قوله : « إنَّهُ كَانَ » . يجوز في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على « الرحمن » أي : إن الرحمن كان وعده مأتياً .
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن ، لأن مقام تعظيم وتفخيم .
وعلى الأول يجوز أن يكون في « كان » ضمير هو اسمها يعود على الله -تعالى- و « وَعْدُهُ » بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال ، و « مَأتِيًّا » خبرها .
ويجوز أن لا يكون فيها ضمير ، بل هي رافعة ل « وعده » و « مأتياً » الخبر أيضاً .
وهو نظير : إن زيداً كان أبوه منطلقاً .
و « مأتيًّا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول على بابه ، والمراد بالوعد : الجنة ، أطلق عليها المصدر ، أي : موعود ، نحو درهم ضرب الأمير .
وقيل : الوعد مصدر على بابه ، و « مأتيا » مفعول بمعنى فاعل . ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال : قيل في « مأتيا » مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها ، أوهو من قولك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً .
وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه ، وما أتاك فقد أتيته .
والمقصود من قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } بيان أن وعده تعالى -وإن كان بأمر غائب- فهو كأنه مشاهد حاصل ، والمراد تقرير ذلك في القلوب .
قوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } . اللغو من الكلام : ما يلقى ويطرح ، وهو المنكر من القول كقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] . وقال مقاتل : هي اليمين الكاذبة وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو ، لأن الله -تعالى- نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها ، ولقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، وقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] الآية .
أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك ، فهو من وادي قوله :
3611- وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ
الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع .
الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلامة هي دار السلامة ، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لولا ما فيه من فائدة الإكرام .
وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل ، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح ، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره .
وأما الاتصال في الأول فعسر ، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً ، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله -تعالى- عند قوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] .
قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فيه سؤالان :
السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة .
والجواب من وجهين :
الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم ، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرَّة ، وكانت عادة أشراف اليمن ، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك .
الثاني : المراد دوام الرزق ، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء ، تريد الدوام ، ولا تقصد الوقتين المعلومين .
السؤال الثاني : قال تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } وقال عليه السلام : « لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً » .
والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء .
والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي ، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً ، إذ لا ليل فيها .
وقيل : إنهم يغرقون النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب .
وقيل : المراد رفاهية العيش ، وسعة الرزق ، أي : لهم رزقهم متى شاءوا .
قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ } صحت الإشارة ب « تِلْكَ » إلى « الجَنَّة » لأنها غائبة .
وقرأ الأعمش : « نورثها » بإبراز عائد الموصول .
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وقتادة : « نُوَرِّثُ » بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً ، وقوله : « نُورث » استعارة ، أي : نبقي عيله الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث ، وقيل : معناه : ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم ، فجعل هذا النقل إرثاً ، قاله الحسن .
المتقي : هو من اتقى المعاصي؛ واتقى ترك الواجبات .
قال القاضي : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً ، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك .
وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها ، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها؛ وأيضاً : فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر ، ومن صدق عليه أنه متقٍ ( عن الكفر ، فقد صدق عليه أنه متق ) ، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر ، وإذا كان صاحب الكبيرة ( يصدق عليه أنه متقٍ ، وجب أنه ) يدخل الجنة ، ( فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة ) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها .
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . قال ابن عطية : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً .
وقد أغرب النقاش في حكاية قول : وهو أن قوله : « وما نَتَنَزَّلُ » متصل بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] .
وقال أبو البقاء : « وما نَتَنَزَّلُ » أي : وتقول الملائكة . فجعله معمولاً لقول مضمر .
وقيل : هو من كلام أهل الجنة . وهو أقرب مما قبله . و « نَتَنَزَّلُ » مطاوع نزَّل -بالتشديد- ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :
3612- فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ
لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت .
ثال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع .
وقرأ العامة « نَتَنَزَّلُ » بنون الجمع . وقرأ الأعرج « يتنزَّلُ » بياء الغيبة ، وفي الفاعل حينئذ قولان :
أحدهما : أنه ضمير جبريل -عليه السلام- .
قال ابن عطية : ويرده قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، لأنه لا يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلاً ما بين أيدينا .
والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي . ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً .
قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية وهو كقول زهير :
3613- واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ
فصل
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا جبريل ما منعك أن تزورنا » فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي : « احتبس جبريل -عليه السلام- عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : » أخبركم غداً « ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم » أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك « فقال له جبريل -عليه السلام- إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست »
فنزل قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ } [ الكهف : 23 ، 24 ] وسورة الضحى وفي هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] كلام الله ، وقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } كلام غير الله ، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل؟ .
وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله -تعالى- : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] ، ( وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه ) { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } [ مريم : 36 ] . واعلم أنَّ ظاهر قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم . ثم قال : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } أي : علم ما بين أيدينا قال سعيد بن جبير وقتادة ، ومقاتل : « ما بَيْنَ » أيدِينَا « من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب ، » ومَا خَلْفَنَا « من أمر الدنيا ، » ومَا بَيْنَ ذلِكَ « ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل : » مَا بَيْنَ أيْدِينَا « من أمر الآخرة ، » ومَا خَلْفَنَا « من أمر الدنيا ، » ومَا بَيْنَ ذلِكَ « أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة .
وقيل : » مَا بَيْنَ أدينَا « ما بقي من أمر الدنيا ، » ومَا خَلْفَنَا « ما مضى منها ، » ومَا بَيْنَ ذَلِكَ « هذه حياتنا . وقيل : : مَا بَيْنَ أيْدِينَا » بعد أن نموت ، « ومَا بَيْن ذلكَ » مدة الحياة . وقيل : « مَا بَيْنَ أيدِينَا » الأرض إذا أردنا النزول إليها ، « ومَا خَلْفَنَا » السماء وما أنزل منها ، « ومَا بَيْنَ ذلِكَ » الهواء ، يريد أن ذلك كله لله -عز وجل- فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره . ثم قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ناسياً ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك ، كقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك .
قوله : { رَّبُّ السماوات } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « ربُّكَ » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هُو ربُّ .
الثالث : كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده . وهذا ماشٍ رأي الأخفش ، إذ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً .
قوله : « لِعبادَتِهِ » متعلق ب « اصْطَبَرْ » فإن قيل : لِمَ لَمْ يقُلْ : واصطبر على عبادته ، لأنها صلته ، فكان حقه تعديه ب « على » ؟ .
فالجواب : أنَّه ضمن معنى الثبات ، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر لها ، فكأنَّه قيل : واثبت لها مصطبرا . واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله -تعالى- ، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السموات والأرض ، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما .
قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أدغم الأخوان ، وهشام ، وجماع لام « هَلْ » في « التاء » .
وأنشدوا على ذلك بيت مُزَاحِم العُقيليّ :
3614- فَذَرْ ذَا ولكِن هَتُّعِينُ مُتَيَّماً ... عَلى ضَوْءِ برْقِ آخِرِ اللَّيْلِ نَاصِبِ
فصل
دلَّ ظاهر الآية على أنَّه- تعالى- رتب الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له ، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي يقتضيها كونه منعماً بأصول ( النعم وفروعها ، وهي خلق الأجسام ، والحياة والعقل ، وغيرها ، فإنه لا يقدر على ذلك ) أحد سواه -سبحانه وتعالى- وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام ، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم ، وهي العبادة .
قال ابن عباس : هل تعلم له مثلاً .
وقال الكلبي : ليس له شريك في اسمه . وذلك لأنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله -تعالى- على شيء . قال ابن عباس : لا يسمة بالرحمن غيره . وأيضاً : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل ، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية ، لأنها غير معتد بها ، والقول الأول أقرب .
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ } الآية . « إذَا » منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى : { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } ، تقديره : إذا مت أبعث أو أحياً ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه « أخْرَجُ » لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء : لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها ك « إنَّ » قال شعاب الدين : قد جعل المانع مجموع الحرفين ، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع ، لأن حرف التنفيس يعمل كا بعده فيما قبله ، تقول : زَيْداً سأضَرِبُ وسوف أضرب ، ولكن فيه خلاف ضعيف ، والصحيح الجواز ، وأنشدوا عليه :
3615- فَلَمَّا رَأتْهُ آمَناً هَانَ وجْدُهَا ... وقَالَتْ أبُونَا سَوْفَ يَفْعَلُ
ف « هَكَذَا » منصوب ب « يَفْعَلُ » بعد ( حرف التنفيس ) ، ( وقال ابن عطية ) : واللام في قوله : « لَسَوْفَ » مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى ، كأن قائلاً قال للكافر : ( إذا متُّ ) يا فلان لسوف تخرج حيًّا ، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد ، وكرر اللام حكاية للقول الأول . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكاية للقول الأول . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكاية لكلام تقدم بل هو من كلام الكافر ، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد . وقال الزمخشري : فإن قيل : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلتُ : لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض ، واضْمَحَلَّ عنها معنى التعريف .
قال أبو حيان : وما ذكر من أن اللام تعطي « معنى » الحال مخالف فيه ، فعلى مذهب من لا يرى ذلك يسقط السؤال ، وأما قوله : كما أخلصت الهمزة .
فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله : إله ، وأما من يزعم أن أصله : لاه . فلا تكون الهمزة فيه للتعويض « إذْ لم يحذف منه شيء ، ولو قلنا : إنَّ أصله إله ، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض » ، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره ، ولما جاز حذفها في النداء ، قالوا : يا الله بحذفها ، وقد نصوا على أن « قطع » همزة الوصل في النداء شاذ .
وقرأ الجمهور : « أءِذَا » بالاستفهام ، وهو استبعاد كما تقدم . وقرأ أبو ذكوان بخلاف عنه ، وجماعة « إذَا » بهمزة واحدة على الخبر أو الاستفهام وحذف أداته للعلم بها ، ولدلالة القراءة الأخرى عليها .
وقرأ طلحة بن مصرِّف « لسَأخرجُ » بالسين دون سوف . هذا نقل الزمخشري عنه . وغيره نقل « سَأخْرَجُ » دون لام الابتداء ، وعلى هذه القراءة يكون العامل في الظرف نفس « أخْرَجُ » ، ولا يمنع حرف التنفيس على الصحيح .
وقرأ العامة « أخْرَجُ » مبنياً للمفعول . والحسن ، وأبو حيوة « أخْرُجُ » مبنياً للفاعل . و « حيًّا » حال مؤكدة ، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا ، وهو كقوله : { أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] .
فصل
لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها ، فكأنَّ سائلاً سأل وقال : هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا ، وأمَّا في الاخرة فقد أنكرها قوم ، فلا بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعيادة ، فلهذا حكى الله -تعالى- قول منكري الحشر ، فقال : { وَيَقُولُ الإنسان } الآية : قالوا ذلك على سبيل افنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين :
أحدها : أن يكون المراد الجنس كقوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] .
فإن قيل : كلهم غير قائلين بذلك ، فكيف يصح هذا القول؟ .
فالجواب من وجهين : الأول : أنَّ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ اسنادها إلى جميعهم ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناًَ ، وإنما القاتل رجل منهم .
الثاني : أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به .
القول الثاني : أنَّ المراد بالإنسان شخص معين ، فقيل : أبيُّ بن خلف الجمحي .
وقيل : أبو جهل . وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث .
ثم إن الله -تعالى- أقام للدلالة على صحة البعث فقال : { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ } الآية قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وجماعة : « يَذْكُرُ » مضارع ذكر .
والباقون بالتشديد مضارع تذكَّر . والأصل : يتذكر ، فأدغمت التاء في الذال . وقد قرأ بهذا الأصل وهو « يتذكَّر » أبيٌّ .
والهمزة في قوله : « أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور وقد رجع الزمخشري إلى قول الجمهور هنا فقال : الواو عطفت » لا يذكُرُ « على » يَقُولُ « ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف » عليه « وحرف العطف .
ومذهبه : أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها .
وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه .
قوله : « مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل بعضه ، وقدره الزمخشري : من قبل الحالة التي هو فيها ، « وهي حالة » بقائه .
فصل
قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه ، إذ لا شك أنَّ اعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ، ونظيره قوله تعالى { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ، وقوله : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء ، وهو ضعيف؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض ، وهذا المجموع ما كان شيئاً ، ولكن لم قلت : إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل : كيف أمر الله -تعالى- الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ .
فالجواب : المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ « أو لا يذَّكَّرُ » مشدداً ، أما إذا قرئ « أو لا يذكُرُ » مخففاً ، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا .
ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتشديد فقال { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين } أي : لنجمعنهم في المعاد ، يعني المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة .
وفائدة القسم أمران : أحدهما : أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين .
والثاني : أنَّ في قسام الله -تعالى- باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعاً منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ الذاريات : 23 ] . والواو في « والشَّياطين » يجوز أن تكون للعطف ، وبمعنى « مع » وهي بمعنى « مع » أوقع . والمعنى ، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم . { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ } أي : نحضرهم على أذل صورة لقوله : « جِثِيًّا » لأنَّ البارك على ركبتيه صورته الذليل ، أو صورة العاجز .
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] ، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق ، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل ، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار .
فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال ، وذلك يوجب مزيد ذلهم .
قوله : « جِثِيًّا » حال مقدرة من مفعول « لنُحْضرنَّهُمْ » . و « جِثِيًّا » جمع جاثٍ جمع على فعول ، نحو قَاعد وقُعُود ، وجَالس وجُلوس ، وفي لامه لغتان :
أحدهما : الواو .
والأخرى : الياء .
يقال : جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا ، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا .
فعلى التقدير الأول : يكون أصله جُثُوو . بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة ، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ ، وتقدم تحقيقه في « عِتيًّا » .
وعلى الثاني يكون الأصل : جُثُوياً ، فأعل إعلال هيِّن وميِّت .
وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات ، جمع جثْوة ، وهوالمجموع من التراب والحجارة ، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول . ويجوز في « جِثِيًّا » أن يكون مصدراً على فعول ، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً ، إمَّا جُثُوو ، وإمَّا جُثُوي .
وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه ، والباقون يضمونها .
والجثوّ : القعود على الركب .
قوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي : ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة : ومنه الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت غاوياً من الغواة .
قال تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } [ الأنعام : 159 ] . والمعنى : أنه -تعالى- يحضرهم أولاً حول جهنم ، ثم يميز البعض من البعض ، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم ، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره ، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد ، ومعنى الآية : أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص « بشدة العذاب لا التخصيص » بأصل العذاب ، فلذلك قال في جميعهم : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } ولا يقال : « أوْلَى » إلا مع اشتراكهم في العذاب .
قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } فيه أقوال كثيرة ، أظهرها عند جمهور المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أنَّ « أيُّهُمْ » موصولة بمعنى « الذي » ، وأنَّ حركتها حركة بناء ، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر .
و « أشَدُّ » خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلة ل « أيُّهُمْ » ، و « أيُّّهُمْ » وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله : « لنَنْزِعَنَّ » .
و ل « أيّ » أحوال الأربعة : إحداها تبني فيها ، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها ، ومثله قول الآخر :
3616- إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ ... فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ
بضم « أيُّهُمْ » . وتفاصيلها مقررة في كتب النحو .
وزعم الخليل -رحمه الله- أنَّ « أيُّهُمْ » هنا مبتدأ ، و « أشدُّ » خبره ، وهس استفهامية ، والجملة محكية بالقول مقدراً ، والتقدير : لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم .
وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر :
3617- ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ ... فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
قال : فأبيتُ يقالُ فيَّ : لا حرجٌ ولا محْرُوم .
وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة ل « نَنْزِعَنَّ » ، فهي في محل نصب ، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الفعال ، ولا يخصه « بأفعال القلوب كما يخصه » بها الجمهور .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لننزعنَّ بعض كل شيعة ، فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هُمْ؟ فقيل : أيهم أشدّ عِتِيًّا .
فجعل « أيُّهُمْ » موصولة أيضاً ، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هم أشد . قال أبو حيان : وهذا تكلف ما لا حاجة إليه ، وادعاء إضمار غير محتاج إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين . وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أن مفعول « نَنْزعنَّ » : « مِنْ كُلِّ شيعةٍ » و « مِنْ » مزيدة ، قال : وهما يجيزان زيادة « مِنْ » « في الواجب » ، و « أيُّهُم » استفهام أي : لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ .
وهذا مخالف في المعنى تخريج الجمهور ، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض ، وهذا يؤدي إلى العموم ، إلاَّ أن يجعل « مِنْ » لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان ، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى « لنَنْزِعَنَّ » لنُنَادِينَّ ، فعومل معاملته ، فلم يعمل في « أيّ » . قال المهدوي : « ونادى » يعلق إذا كان بعده جملة نصب ، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ . وقال المبرد : « أيُّهُمْ » متعلق ب « شيعةٍ » فلذلك ارتفع ، والمعنى من الذين تسايعوا أيهم أشد ، كأنهم يتبادرون إلى هذا . « ويلزمه على هذا » أن يقدر مفعولاً ل « ننزعنَّ » محذوفاً وقدر بعضهم في قول المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيهم .
قال النحاس وهذا قول حسن . وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى تعاونوا قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة المنسوبة للمبرد قلق ، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكن جعل « أيهم » فاعلاً لما تضمنه « شِيعَةٍ » « من معنى الفعل ، قال : التقدير : لننزعن من كل » فريق يشيع أيهم . وهي على هذا بمعنى « الذي » ونقل الكوفيون أنَّ « أيُّهُم » في الآية بمعنى الشرط ، والتقدير : إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد ، كما تقول : ضرب القوم أيهم غضب .
المعنى : إن غضبوا أو لم يغضبوا . وقرأ طلحة بن مصرِّف « ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء ، وزائدة » عن الأعمش « أيُّهُمْ » نصباً .
فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها ، وهو المشهور عند النقلة عنه ، « وقد نقل عنه » أنَّه يحتم بناءها .
قال النحاس : ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه ، « قال : وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : ما يبين لي أنَّ سيبويه » غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما . قال : وقد أعرب سيبويه « أيًّا » وهي مفردة ، لأنَّها تضاف فكيف يبينها مضافة . وقال الجرميّ : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول : لأضربن أيهم قائم ، بالضم بل ينصب .
قوله : « على الرَّحمنِ » متعلق ب « أشَدُّ » ، و « عِتِيًّا » منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ ، « إذ التقدير » : أيُّهُم هو عتوه أشد . ولا بدَّ من محذوف يتم به الكلام ، التقدير : فيلقيه في العذاب ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق « عَلَى » ، و « البَاء » ، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه .
قلتُ : هما للبيان لا للصلة ، أو يتعلقان بأفعل ، أي : عتوهم أشد على الرحمن ، وصليهم أولى بالنار ، كقولهم : هو أشد على خصمه ، وهو أولى بكذا .
يعني ب « عَلَى » قوله : : على الرَّحمنِ « ، وب » الباء « قوله : » بالَّذِينَ هُمْ « وقوله : بالمصدرين . يعني بهما » عتِيًّا « و » صِلِيًّا « .
» وأما كونه لا سبيل إليه « ، فلأن المصدر في نية الموصول ، ولا يتقدم معمول الموصول عليه » وجوَّز بعضهم « أن يكون » عِتِيًّا « ، و » صليًّا « في هذه الآية مصدرين كما تقدم وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوز أن يتعلق » عَلَى « و » الباء « بهما لزوال المحذوف المذكور .
قال المفسرون : معنى قوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } أي أحق بدخول النار . يقال : صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقْيًّا ، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا ، إذا دخل النار ، وقَاسَى حرَّها .
قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الآية . الواو في » وإنْ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها . وقال ابن عطية : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قسم ، والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم » من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحله القسم « وأراد بالقسم قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } . قال أبو حيان : » وذهل عن « قول النحويين : إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو ب » إنَّ « ، والجواب هنا على زعمه ب » إنْ « النافية ، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا .
وقوله : والواو تقتضيه . يدلُّ على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نَحْوِي إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم ، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجاء ، ولا يجوز بذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه ، كما أولوا في قولهم : نِعْمَ السًّيْرُ على بِئْسَ العيرُ . أي : على عير بئس العير ، وقول الشاعر :
3618- واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ ... أي : بِلَيْل نام صاحبه ، وهذه الآية ليست من هذا الضرب ، إذ لم يحذف المقسم « به » وقامت صفته مقامه . و « إنْ » حرف نفي ، « و » مِنْكُم « صفة لمحذوف تقديره : وإن أحد منكم » ويجوز أن يكون التقدير : وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر . والخطاب في قوله : : مِنْكُمْ « يحتمل الالتفات وعدمه .
قال الزمخشري : التفات إلى الإنسان ، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة ، » وإنْ مِنْهُمْ « أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور .
والحَتْمُ : القضاءُ ، والوجوب حَتْم ، أي : أوجبه حتماص ، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] ، وهذا درهمٌ ضرب الأمير . و » على ربِّك « متعلق ب » حَتْم « ، لأنَّه في معنى اسم المفعول ولذلك وصفه ب » مَقْضِيًّا « .
فصل
المعنى : وما منكم إلا واردها ، والورود هو موافاة المكان . وقيل القسم فيه مضمر ، أي : والله ما منكم من أحد إلا واردها . واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون : الورود ههنا هو الدخول ، والكناية راجعة إلى النار ، وقالوا : يدخلها البر والفاجر ، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] .
روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول . وقال نافع : ليس الورود الدخول ، فتلى ابن عباس { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله ، وما أرى أن يخرجك منها بتكذيبك .
ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى » ثُمَّ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوْا « ، أي : ننجي من الواردين من اتقى ، ولا يجوز أن يقول » ثُمَّ نُنجي الذين اتقول ونذر الظالمين فيها جثياً « إلاَّ والكل واردون . والأخبار المروية دل على هذا القول ، وهو ما
« روي عن عبد الله بن رواحة قال : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم » يا ابن رواحة « اقرأ ما بعدها » ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا « فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » الورودُ الدخولُ ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها « .
وقيل : المراد من تقدم ذكره من الكفار ، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة . قالوا : ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ، ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها .
وقوله : { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ النمل : 89 ] . والمراد في قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الحضور والرؤية لا الدخول ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها .
وقال ابن مسعود : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني القيامة والكناية راجعة إليها .
وقال البغوي : والأول أصح ، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار ، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان ، لقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أي : الشرك ، وهم المؤمنون ، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي : كان ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم .
قوله : » ثُمَّ نُنَجِّي « . قرأ العامة : ثُمَّ نُنَجِّي » بضم « ثُمَّ » على أنَّها العاطفة .
وقرأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي ، والجحدري ويعقوب « ثَمَّ » بفتحها على أنَّها الظرفية ، ويكون منصوباً بما بعده ، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا .
وقرأ الجمهور « نُنَجِّي » بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن « نُنَجِي » من أنْجَى .
والفعل على هاتين القراءتين مضارع .
وقرأت فرقة « نُجِّي » بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول ، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء ، ولكنه سكنه تخفيفاً .
وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء .
وقرأ علي بن أبي طالب -أيضاً- « نُنَحِّي » بحاء مهملة من التنحية .
ومفعول « اتَّقَوْا » محذوف مراد للعلم به ، أي : اتقوا الشرك والظلم .
قوله : « جِثِيًّا » إمَّا مفعول ثان إن كان « نَذَرُ » يتعدى لاثنين بمعنى أن « نترك ونصير » .
وإمَّا حال إن جعلت « نَذَرُ » بمعنى نخليهم . و « جَثِيًّا » على ما تقدم .
و « فيها » يجوز أن يتعلق ب « نَذَرُ » ، وأن يتعلق ب « جِثِيًّا » إن كان حالاً ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « جِثِيًّا » ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب حالاً .
فصل
اختلفوا في أنَّه كيف يندفع عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول . فقيل : « البقعة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، وإذا كان كذلك لا يمتنع » أن يدخل الكل في جهنم ، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار ، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عيله وسلم قال « إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد دخلتموها وهي خامدة » .
وقيل : إنَّ الله -تعالى- يخمد النار فيعبرها المؤمنون ، وتنهار بالكافرين . قال ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة . وقيل : إنَّ الله -تعالى- يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم ، وكما في حق إبراهيم -عليه السلام- ، وكما في حق الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً ، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً ، وفي الحديث : « تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » وعن مجاهد في قوله تعالى « { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها . وفي الخبر » الحمى كنز من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار « واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين . فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه . وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إيله وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم الكفار وسرور المؤمنين . وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ، ويستدلون على ذلك ، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه ، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ } الآية .
لما أقام الحجة ، على مشركي قريش المنكرين للبعض ، وأتبعه بالوعيد حكى عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام ، فقالوا : لو كنتم انتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا ، لأنَّ الحكيمَ لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة ، وإنما كان الأمر بالعكس ، فإنَّ الكفار في النعمة والراحة والاستعلاء ، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة ، فدل على أنَّ الحق ليس من المؤمنين ، هذا حاصل شبهتهم .
وقوله : { آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ } أي : واضحات ، وقيل : مرتلات ، وقيل : ظاهرات الإعجاز .
{ قَالَ الذين كَفَرُواْ } يعني النضر بن الحارث وذويه من قريش { لِلَّذِينَ آمنوا } يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونةٌ ، وفي ثيابهم رثاثةٌ ، وكان المشركون يرجلون شعورهم ، ويلبسون خير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } منزلاً ومسكناً ، وهو موضع الإقامة ، « وأحْسَنُ نديًّا » أي : مجلساً ، ومثله النادي .
قوله : « مَقَاماً » . قرأ ابن كثير « مُقَاماً » بالضم .
ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ، وهي قراءة ابن محيصن وهو موضع الإقامة والمنزل .
والباقون بالفتح وفي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مكان « أو اسم مصدر من قَامَ ثلاثياً ، أو من أقَامَ أي : خير مكان » قياماً أو إقاَمَة .
فصل
قالوا : زيْدٌ خيرٌ من عمروٍ ، وشرٌّ من بكر ، ولم يقولوا : أخير منه ، ولا أشرّ منه ، لأنَّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ، ولم يثبتا إلا في فعل التعجب ، « فقالوا : أخير بزيدٍ وأشرر بعمرو ، وما أخْيَر زيْداً ومَا أشرَّ عَمْراً .
والعلة في إثباتها في فعلي التعجب أنَّ » استعمال هاتين اللفظتين اسماً أكثرُ من استعمالهما فعلاً ، فحذفت الهمزةُ في موضع « الكثرة ، وبقيتْ على أصلها في موضع » القلة ثابتة . والنَّديّ فعيل ، أصله : نَدِيو ، لأنَّ لامه واو ، يقال : ندوتُهُمْ أندوهم ، أي : أتَيْتُ نَاديَهُمْ والنَّادِي ، مثله ، ومنه : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي : أهل ناديه . والنَّدِيِّ والنَّادي مجلس القوم ومحدثهم .
وقيل : هو مشتق من النَّدى ، وهو الكرم ، لأنَّ الكرماء يجتمعون فيه . وانْتَديْتُ المكان والمنتدى كذلك ، « وقال حاتم » :
3619- ودُعِيتُ في أولَى النَّديِّ ولَمْ ... يُنْظَر « إليّ بأ » عْيُنٍ خُرْزِ
والمصدر النَّدو . و « مَقَاماً » و « نَدِيًّا » منصوبان على التمييز من أفعل .
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن « يُتْلَى » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق . واللام في « اللَّذينَ » يحتمل أن تكون للتبليغ ، وهو الظاهر ، وأن تكون للتعليل .
قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } . « كَم » مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأنَّ له مصدر الكلام ، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية ، وهي محمولة على الاستفهامية .
و « أهْلَكْنَا » متسلط على « كَمْ » ، أي : كثير من القرون أهلكنا .
و « مِنْ قَرْنٍ » تمييز ل « كَمْ » مبين لها .
قوله : « هُمْ أحْسَنُ » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء : أنَّه في محل نصب صفة ل « كَمْ » قال الزمخشري : ألا ترى أنك لو أسقطت « هُمْ » لم يكن بُدّ من نصب « أحْسَنُ » على الوصفية .
وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ « كَمْ » الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها .
الثاني : أنها في محل جرّ صفة ل « قَرْن » ، ولا محذور في هذا . وإنما جمع في قوله : « هُمْ » ، لأنَّ « قَرْنٍ » وإنْ كَانَ لَفظهُ « مفرداً فمعناه جمع ، ف » قَرْن « كلفظ » جَمِيع « ، و » جَمِيع « يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد كقوله تعالى { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
فصل
لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله عنها بقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } أي : متاعاً وأموالاً .
قوله : » ورئيا « الجمهور على » رِئْياً « بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً . وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء على أصله في تخفيف الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإظهار اعتباراً بالأصل ، والإدغام اعتباراً باللفظ .
وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى ، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى ، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة ، ولذلك ترك أبو عمرو وأصله في تخفيف الهمزة .
وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر » ورِيًّا « بياء مشددة بعد الراء .
فقيل : هي مهموزة الأصل ، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء ، وأدغمتْ . والرِّئْيُ بالهمز وقيل : من رؤية العين ، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي : مَرْئِيٌّ . وقيل : من الرواء وحسن المنظر . وقيل : بل هو من الريّ ضد العطش ، وليس مهموز الأصل ، والمعنى : أحسن منظراً ، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما ، ومعناه الارتواء من النعمة ، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر . وقرأ حميد وأبو بكر عن عاصم في رواية الأعمش : وَرِيْئَا » بياء ساكنة بعدها همزة وهو مقلوب من « رِئْياً » في قراءة العامة ، ووزنه « فِلْع » ، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر :
3620- وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ ... من أجْلِكِ هذا هامةُ اليَوْمِ أوْ غَدِ
وفي القلب من القلب ما فيه . وروى اليزيدي قراءة « ورَيَاء » بياء بعدها ألف « بعدها همزة » ، وهي المراءاة ، أي : يرى بعضهم حسن بعض ، ثم خفف الهمزة الأولى بقلبها ياء ، وهو تخفيف قياسي .
« وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة » وَرِياً « بياء فقط مخففة ، ولها وجهان :
أحدهما : أن يكون » أصلها كقراءة قالون ، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين ، وهي الثانية ، لأنَّ بها حصل الثقل ، ولأنها لام الكلمة ، والأواخر أحرى بالتغيير .
والثاني : أن يكون أصلها كقراءة حميد « وَرَيْئاً » بالقلب ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الياء قبلها ، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل ، فصار « وَرِياً » كما ترى . وتجاسر بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً ، وليس اللاحن غيره ، لخفاء توجيهها عليه . وقرأ ابن عباس -أيضاً- وابن جبير وجماعة « وَزِياً » بزاي وياء مشددة .
والزِّيّ : البِزَّةُ الحسنة والآلات المجتمعة ، لأنه من زَوَى كذا يَزْوِيهِ ، أي : يجمعه ، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه .
قوله : { مَن كَانَ فِي الضلالة } . « مَنْ » يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر ، لما تضمنه الموصول من معنى الشرط .
وقوله « : فَلْيَمْدُدْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه طلب على بابه ، ومعناه الدعاء .
والثاني : لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر . قال الزمخشري : أي : مدَّ له الرحمن بمعنى أمهلهُ « وأمْلَى له في العمر » فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك . . . أو فيمد له في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته .
قوله : « حتَّى إذَا » في « حتَّى » هذه ما تقدم في نظائرها من كونها حرف جر أو حرف ابتداء ، وإنَّما الشأن فيما هي غاية له في كلا القولين .
فقال الزمخشري : وفي هذه الآية وجهان :
الأول : أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما ، أي : قالوا : « أي الفَريقِيْنِ خيرٌ مقَاماً وأحْسَنُ نديًّا » ، « حتَّى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون » ، أي : لا يبرحون يقولون هذا القول ، ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعد رأي العين .
فقوله : { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } مذكور في مقابلة قوله « خَيْرٌ مَقَاماً » ، وأضْعَفُ جُنْداً « في مقابلة قولهم : » وأحْسَنُ نَدِيًّا « . فبين تعالى أنَّهم عن ظنوا في الحال أنَّ مَنزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله بالمقام والندي ، فسيعلمون من بعد أنَّ المر بالضد من ذلك وأنَّهم شر مكاناً ، فإنَّه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب ، » وأضْعَفُ جُنْداً « فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أنَّ اجتماعهم ينفع ، فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه .
» ثم قال : « والثاني : أن تتصل بما يليها ، والمعنى أنَّ الذين في الضلالة ممدود لهم ، ثم ذكر كلاماً كثيراً ، ثم قال : إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين ، أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها ، فإن قلت : » حتَّى « هذه ما هي؟ قلتُ : هي التي تُحْكى بعدها الجمل ، ألا ترى أنَّ الجملة الشرطية واقعة بعدها ، وهي » إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون فَسَيَعْلمُونَ « قال أبو حيان : مستبعداً الوجه الأول ، وهو في غاية البعد ، لطول الفصل بين قوله : : أيُّ الفَرِيقَيْنِ » وبين الغاية ، وفيه الفصل بجملتي اعتراض ، ولا يجيزه أبو علي .
وهذا الاستبعاد قريب .
وقال أبو البقاء : « حتَّى » تَحكي ما بعدها ههنا ، وليست متعلقة بفعل .
قوله : { إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } تقدم الكلام في « إمَّا » من كونها حرف عطف أو لا ، ولا خلاف أنَّ أحد معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة .
و « العَذَابَ » و « السَّاعَةَ » بدلاً من قوله : « مَا يُوعَدُون » المنصوبة ب « رَأوا » ، و « فَسَيعْلَمُونِ » جواب الشرط . « مَنْ هُو شرٌّ مكاناً » يجوز أن تكون « مَنْ » موصولة بمعنى « الَّذي » ، ويكون مفعولاً ل « يَعْلَمُونَ » ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و « هُوَ » مبتدأ ثان ، و « شرٌّ » خبره ، والمبتدأ والخبر خبر الأول ، ويجوز أن تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية ، فالجملة في محل نصب على التعليق .
فصل
قال المفسرون : مَدَّ له الرحمن ، أي : أمهله ، وأملى له في الأمر ، فأخرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر ، أي : يدعه في طغيانه ، ويمهله في كفره { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب } وهو الأسر ، والقتل في الدنيا ، و « إمَّا السَّاعةَ » يعني القيامة ، فيدخلون النار .
وقوله : « وإمَّا السَّاعة » يدلُّ على أنَّ المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة ، فيحتمل أن يكون المراد به الأسر والقتل كما تقدم ، ويحتمل أن يكون عذاب القبر ، ويمكن أن يكون تغير أحوالهم من العز إلى الذُّل ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن الصحة إلى المرض ، ومن الأمن إلى الخوف . « فَسَيَعْلمُونَ » عند ذلك « مَنْ هُو شرٌّ مكاناً » منزلاً ، « وأضْعَفُ جُنْداً » أقل ناصراً ، لأنَّهم في النار والمؤمنون في الجنة ، وهذا ردٌّ عليهم في قولهم : « أيُّ الفريقَيْن خيرٌ مَقَاماً وأحْسَنُ نَدِيًّا » .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } الآية .
« أفَرَأيْتَ » عطف بالفاء إيذاناً بإفادة التعقيب ، كأنه قيل : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر عقيب أولئك . وأرأيت بمعنى : أخبرني كما تقدم ، والموصول هو المفعول الأول ، والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله : « أطَّلع الغَيْبَ » .
و « لأوتَينَّ » جواب قسمٍ مضمر ، والجملة القسمية كلها في محل نصب بالقول .
وقوله هنا « وولداً » ، وفي آخر السورة : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ مريم : 88 ] موضعان وفي الزخرف { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } [ الآية : 81 ] ، وفي نوح { مَالُهُ وَوَلَدُهُ } [ الآية : 21 ] .
وقرأ الأخوان الأربعة بضم الواو وسكون اللام ، ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو على الذي في نوح دون السورتين ، والباقون وهم نافع وابن عامر وعاصم قرأوا ذلك كلَّه بفتح اللام والواو . فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحة ، وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع .
وأما قراءة الضم والإسكان ، فقيل : هي كالتي قبلها في المعنى ، يقال : وَلَدٌ ووُلْدٌ كما يقال : عَربٌ وعُرْبٌ ، وعدمٌ وعُدْمَ .
وقيل : بل هي جمع ل « ولد » نحو أسَدٌ وأسْدٌ ، « وأنشدوا على ذلك :
3621- ولقَد رَأيْتُ مَعَاشِراً ... قَدْ ثَمَّرُوا مالاً ووُلدا »
وأنشدوا شاهداً على أن الوَلَد والوُلْدَ مترادفان قول الآخر :
3622- فَلَيْتَ فُلاناً كان في بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ فُلاناً كانَ وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر « ووِلْدا » بكسر الواو ، وهي لغة الولد ، ولا يبعد أن يكون هذا من باب الذبح والرئي ، فيكون ولد بمعنى مولود ، وكذلك في الذي بفتحتين نحو القبض بمعنى المقبوض . قوله : « اطَّلَعَ » هذه همزة استفهام سقط من أجلها همزة وصل ، وقد قُرئ بسقوطها درجاً ، وكسرها ابتداء على أن همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة « أمْ » عليها ، كقوله :
3623- لَعمركَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارياً ... بسَبْعٍ رمَيْنَ الجَمْرَ أمْ « بِثَمَانِ »
و « أطَّلعَ » من قولهم : اطلع فلان الجبل ، أي : ارتقى أعلاه .
3624- لاقَيْتَ مُطَّلِعَ الجِبَالِ « وعُوراً » ... و « الغَيْبَ » مفعول به ، لا على إسقاط حرف الجر ، أي : على الغيب ، كما زعم بعضهم .
فصل
لمَّا استدل على صحة البعث ، وأورد شبهة المنكرين ، وأجاب عنها ذكر عنهم ما قالوه استهزاء طعناً بالقول في الحشر فقال : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } . قال الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها نزلت في العاص بن وائل ، قال خباب بن الأرت : كان لي عليه دين ، فأتيت أتقاضاه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . فقلت : لا والله لا أكفر بمحمدٍ حيًّا ولا ميتاً . وفي رواية : حتى تموت ثم تبعث . فقال : وإنّي لميتٌ ثم مبعوثٌ؟ قلت : نعم . قال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثمَّ ، فإنه سيكون لي مالٌ وولد .
ثم قال تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب } . « قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ » .
وقال مجاهد : أعلمَ علن الغيب حتى يعلم افي الجنة هو أم لا؟ .
والمعنى : أنَّ الذي ادعى حصوله لا يتوصل إلاَّ بأحد هذين الطريقين : إمَّا علم الغيب ، وإمَّا عهدٌ من عالم الغيب ، فبأيهما توصل إليه .
قيل : العهد كلمة الشهادة . وقال قتادة : عملاً صالحاً قدَّمه ، فهو يرجو بذلك ما يقول . وقال الكلبي : عهد إليه أن يدخله الجنة .
« كَلاَّ » للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس أنها حرف ردع وزجر .
وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن ، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية حيث زجرت وردعت ذلك القائل .
والثاني : وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم ، فيكون جواباً ، ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً ، وقد تستعمل في القسم .
والثالث : وهو مذهب الكسائي ، وأبي بكر بن الأنباري ، « ونصر بن يوسف » وابن واصل أنها بمعنى حقًّا .
والرابع : وهو مذهب أبي عبد الله محمد بن الباهلي أنها رد لما قبلها . وهذا قريب من معنى الردع .
الخامس : أنها صلة في الكلام بمعنى « إي » كذا قيل . وفيه نظر ، فإن « إي » حرف جواب ، ولكنه مختص بالقسم .
السادس : أنها حرف استفتاح ، وهو قول « أبي حاتم ولتقرير هذه المذاهب موضع يليق به .
وقد قرئ هنا بالفتح والتنوين في كَلاَّ » هذه ، وتروى عن ابن نهيك وحكى الزمخشري هذه القراءة ، وعزاها لابن نهيك في قوله : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ } كما سيأتي ويحكى أيضاً قراءةٌ بضم الكاف والتنوين ، ويعزيها لابن نهيك أيضاً « .
فأما قولهم : ابن نهيك ، فليس لهم ابن نهيك ، إنما لهم أبو نهبك بالكنية .
وفي قراءة الفتح » والتنوين أربعة أوجه :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره « : كَلُّوا كَلاًّ ، أي : أعيُوا عن الحقِّ إعياء ، أو كلُّوا عن عبادة الله ، لتهاونهم بها من قول العرب : كَلَّ السَّيْفُ ، إذا نبا عن الضرب ، وكلَّ زيدٌ ، أي تعِبَ . وقيل : المعنى : كلُّوا في دعواهم وانقطعوا .
والثاني : أنه مفعولٌ به بفعل مقدر من معنى الكلام ، تقديره : حُمِّلُوا كلاًّ . والكلُّ أيضاً : الثقل : تقول : فلان كلٌّ على الناس ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } [ النحل : 76 ] .
والثالث : أن » التنوين بدل من ألف « » كلاَّ « ، وهي التي يراد بها الردع والزجر ، فتكون حرفاً أيضاً .
قال الزمخشري : ولقائل أن يقول : غن صحت هذه الرواية ، فهي » كلاَّ « التي للردع » قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قوله : « قوارِيرا » .
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ، لأنه قال : التي للردع ، « والتي للردع » حرف ، وجه لقلب ألفها نوناً ، وتشبيهه ب « قَوَارِيراً » ليس بجيد ، لنَّ « قَوَارِيرَ » اسم يرجع به إلى أصله ، فالنون ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف ، وهذا اجمع مختلف فيه أيتحتَّمُ منع صرفه أم يجوز؟ قولان .
ومنقول أيضاً : أن بعض لغة العرب يصرفون ما لا ينصرف ، فهذا القول ، إما على قول من لا يرى بالتحتم ، أو على تلك اللغة .
والرابع : أنه نعتٌ ل « آلهة » ، قاله ابن عطية . وفيه نظر ، إذ ليس المعنى على ذلك ، وقد يظهر له وجه ، « أن يكون وصف » الآلهة بالكلِّ الذي هو المصدر بمعنى الإعياء والعجز ، كأنه قيل : آلهةٌ كالِّين ، أي : عاجزين منقطعين . ولمَّا وصفهم وصفهم بالمصدر وحده . وروى ابن عطية والداني وغيره عن أبي نهيك أنه قرأ « كُلاًّ » بضم الكاف والتنوين ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال ، أي : سيكفرون جميعاً؛ كذا قدره أبو البقاء ، واستبعده .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، يرفضون ، أي : يجحدون ، أو يتركون كلاًّ ، قاله ابن عطية . وحكى ابن جرير أن أبنا نهيك قرأ « كُلُّ » بضم الكاف ورفع اللام منونة على أنه مبتدأ والجملة الفعلية بعده خبره .
وظاهر عبارة هؤلاء أنه لم يقرأ بذلك إلا في « كلاًّ » الثانية . وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب « ونُمِدُّ » من أمدَّ ، وقد تقدم القول في مدَّهُ وأمدَّهُ .
قوله : : ونَرثهُ ما يقُولُ « . يجوز في » مَا « وجهان :
أحدهما : أن يكون مفعولاً بها ، والضمير في » نَرِثُهُ « منصوب على إسقاط الخافض تقديره : ونرثُ منه » ما يقوله « .
والثاني : أن يكون بدلاً من الضمير في » نَرِثُهُ « بدل اشتمال . وقدَّر بعضهم مضافاً قبل الموصول ، أي : نرثه معنى ما يقول : أو مسمَّى ما يقول ، وهو المال والولد ، لأن نفس القول لا يورث . » و « فَرْداً » حال إمَّا مقدرة نحو { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، أو مقارنة ، وذلك مبنيٌّ على اختلاف معنى الآية « .
قوله تعالى : » سَنَكْتبُ « سنحفظ » ما يقُولُ « فنُجازيه في الآخرة .
وقيل : نأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يقول . { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي : نزيده عذاباً فوق العذاب ، وقيل : نطيل عذابه . و » نَرِثهُ ما يقُولُ « » أي : ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال قوله ، وقوله « مَا يَقُولُ » ، لأنه زعم أنَّ له مالاً وولداً ، أي : لا نعطيه ونعطي غيره ، فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول . وقيل : معنى قوله « ونَرِثهُ ما يقُولُ » أي : نحفظ ما يقول حتى نجازيه به « ويَأتِينَا فَرْداً » يوم القيامة بلا مالٍ ولا ولد « .
قوله تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله } الآية . لمَّا تكلَّم في مسألة الحشر والنشر تكلَّم الآن في الرد على عُبَّاد الأصنام فقال : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً } يعني كفار قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها « ليكُونُوا لَهُمْ عِزًّا » أي منعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك . ثم أجاب الله -تعالى- بقوله : « كَلاَّ » ليس الأمر كما زعموا { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } أي : « كُلُّهم سيكفُرُون بعبادِة » هذه الأوثان .
قوله : « سَيَكْفرُونَ » يجوز أن يعود الضمير على الالهة ، لأنه أقرب مذكور ، ولأن الضمير في « يَكونُونَ » أيضاً عائد عليهم فقط ، ومثله { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } [ النحل : 86 ] ثم قال { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [ النحل : 86 ] .
قيل : أراد بذلك الملائكة ، لأنهم يكفرون بعبادتهم « ويتبرءون منهم » ويخاصمونهم وهو المراد بقوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] .
وقيل : إن الله -تعالى- يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبِّخوا عبَّادها ويتبرءوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم .
وقيل : الضمير يعود على المشركين ، ومثله قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } إلا أنَّ فيه عدم توافق الضمائر ، إذ الضمير في « يَكُونُونَ » عائد إلى الآلهة .
و « بِعبَادتهِمْ » مصدر مضاف إلى فاعله ، إن عاد الضمير في عبادتهم على المشركين العابدين ، وإلى المفعول إن عاد على الالهة .
قوله : « ضِدًّا » إنما وحَّده وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين : إما لأنه مصدر في الأصل ، « والمصادر موحَّدة مذكَّرة ، وإمَّا لأنه مفرد في معنى الجمع .
قال الزمخشري » : والضِّدُّ : العَوْن ، وحِّد توحيد قوله عليه السلام : « وهُم يَدٌ على مِنْ سِوَاهُم » لاتفاق كلمتهم ، وأنَّهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم . والضَّدُّ : العونُ والمعاونة ، ويقال : من أضدادكم ، أي : أعوانكم .
قيل : سمي العونُ ضدًّا ، لأنه يضاد من يعاديك وينافيه بإعانته لك عليه .
وفي التفسير : إنَّ الضِّدَّ هنا الأعداء . وقل : القرن . وقيل : البلاء . وهذه تناسب معنى الآية .
قيل : ذكر ذلك في مقابلة قولهم « عِزًّا » ، والمراد ضد العِزّ ، وهو الذُّلُّ والهوان ، أي : يكونون عليهم ضِدًّا لما قصدوا وأرادوه . كأنه قيل : ويكون عليهم ذلاًّ لهُم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا } الآية .
لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا ، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله -تعالى- سلَّطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم ، ويتأكد هذا بقوله « تؤزُّهُم أزًّا » فإن معناه لتؤزُّهُم أزاً ، ويتأكد بقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] .
قال القاضي : حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء ، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم ، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عيله الشياطين من الإغواء ، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين ، وذلك كفر من قائله ، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك ، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله -تعلاى- خلق فيهم الكفر وقدر الكفر ، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين . وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل ، فنحمله على أنه -تعالى- خلَّى بين الشياطين وبين الكفار ، وما منعهم من إغوائهم ، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة ، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال : أرسل كلبه علينا ، وإن لم يرد أذى الناس .
وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبوا منهم ، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم ، والدليل عليه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ } قال ابن الخطيب : وهذا لا يمكن حمله على ظاهره ، فإنَّ قوله : الشياطين لو أرسلهم الله -تعالى- إلى الكفار « لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين .
قلنا : الله -تعالى- ما أرسل الشياطين إلى الكفار » بل أرسلهم عليهم ، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه ، فأين هذا من الإرسال إليهم .
وقوله : ضلال الكافر من قبل الله -تعالى- ، فأي تأثير للشياطين فيه .
قلنا : لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة بوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع ، لأن كلام الشياطين « من خلق الله -تعالى- فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان ، وإلى الله -تعالى- من هذين الوجهين . وقوله : لِمَ لا يجوز أن يكن الإرسال التخلية .
قلنا : كما خلَّى بين الشياطين والكفرة » فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء ، ثم إنه -تعالى- خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه ، فلا بد من فائدة زائدة ههنا .
ولأن قوله « تؤزُّهُمْ أزًّا » أي : تحركهم تحريكاً شديداً ، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله -تعالى- إذ يحصل المقصود منه .
قوله : « أزًّا » مصدر مؤكد . والأزُّ ، والأزيزُ ، والاستفزاز . قال الزمخشري : أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج ، أي : تغريهم على المعاصي ، وتهيجهم لها بالوساوس .
قال ابن عباس : « تَؤزُّهُمْ أزًّا » أي : تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية .
والأزُّ أيضاً : شدة الصوت ، ومنه : أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً ، أي : غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت ، وفي الحديث « فكَان له أزيزٌ » أي للجذع حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي : لا تعجل بطلب عقوبتهم ، يقال : عجلت عيله بكذا إذا استعجلت منه « إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا » .
قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام .
وقيل : الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم .
وقيل : نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها .
وقيل : نَعُدُّ الأوقات ، أي : الوقت الأجل المعين « لكل أحد » الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان .
قوله : « يَوْمَ نَحشُرُ » منصوب ب « سَيَكْفُرون » ، أو ب « يَكونُونَ » عليْهِمْ ضدًّا « أو ب » نَعُد « لأن » نَعُدُّ « تضمن معنى المجازاة ، أو بقوله : » لا يَمْلِكُونَ « الذي بعده ، أو بمضمر وهو » اذكُرْ « أو » احْذَرْ « .
وقيل : هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : » متى يكون ذلك؟ فقيل « : يكون يوم نحشر .
وقيل : تقديره : يوم نحشر ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف .
قوله : » وفداً « نصب على الحال ، وكذا » ورْداً « .
والوَفْدُ : الجماعة الوافدون ، يقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً ، أي : قدم على سبيل التكرمة ، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف .
وقال أبو البقاء : وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب ، وصاحب وصَحْب .
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه ، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه . وأجازه الأخفش .
فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها ، قال :
3625- أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَاديَا ... فإن قيل : لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي .
فالجواب : أنه قال بعد قوله هذا : والوِرْد اسم لجمع وارد . فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع . والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء ، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص ، يقال : وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً ، قال الشاعر :
3626- رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا ... كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا
وقال أبو البقاء : هو اسم لجمع وارد ، » وقيل : هو بمعنى وارد « وقيل : هو محذوف من وراد ، وهو بعيد . يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل . وقرأ الحسن والجحدري » يُحْشَرُ المتَّقُونَ « » ويُسَاقُُ المُجْرِمُون « على ما لم يسم فاعله .
فصل
قال المفسرون : اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً ، أي جماعات ، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب . وقال ابن عباس : رُكْبَاناً : وقال أبو هريرة : على الإبل .
وقال علي بن أبي طالب- « رضي الله عنه » - : ما يُحْشَرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رجالها الذهب ، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت . { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } أي : مُشاة ، وقيل : عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش .
وقوله « ونَسُوق المجرمينَ » يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء ، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء ، فسمي به « الواردون » .
فصل
طعن الملاحدة في قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن } فقالوا : هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن ، أما إذا كان الحشر عند الرحمن ، فهذا الكلام لا ينتظم . وأجاب المسلمون : بأنَّ التقدير : يوم نحشرُ المتقِّين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن .
قوله : « لا يَمْلِكُون » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك .
والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم .
وفي هذه الواو قولان :
أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة ، وإنما هي علامة ، كهي في لغة أكلُوني البراغيثُ والفاعل « من اتَّخَذَ » لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً .
قال أبو حيَّان : ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، مع وضوح جعل الواو ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : إنَّها لغةٌ ضعيفة .
قال شهابُ الدين : قد قالوا ذلك في قوله : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فلهذا الموضع بهما أسوة . ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف ، والواو ، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع ، وصريح التثنية ، « أو العطف » ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى ، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل ، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب ، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع .
والثاني : أن الواو ضميرٌ ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه :
أحدها : أنها تعود على الخلق جميعهم ، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم ، إذ هما قسماه .
والثاني : أنه يعود على المتقين والمجرمين ، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً . لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه .
والثالث : أنَّه يعوج على المتقين فقط ، أو المجرمين فقط ، وهو تحكُّم .
قوله : « إلاَّ من اتَّخَذَ » هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق ، أو على الفريقين المذكورين « أو على المتقين فقط » .
فالاستثناء حينئذ متصل ، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدا ، وإما النصب على أصل الاستثناء . وإن قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً ، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب ، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل « كالمتصل » . وجعل الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً .
وقال بعضهم : إن المستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً ، فحذف المستثنى « منه للعلم » به ، فهو كقول الأخرِ :
3627- نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ... ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا
أي : ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ .
وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً ، وإن عاد الضمير في « لا يَمْلِكُون » على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين . قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد . قال شهاب الدين : ولا بعد فيه ، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة ، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه .
فصل
قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون .
وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم . وهذا أولى ، أن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح . وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة أهل الكبائر . لأنه قال عقيبه « إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً » ، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً ، يعني للمؤمنين « ، كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه ، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو التوحيد ، فوجب دخوله تحته ، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام- » قال لأأصحابه يوماً : « أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء » عند الرَّحمن عهداً « قالوا : وكيف ذلك؟ قال : » يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء « : اللَّهُمَّ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ ، وأنَّ مُحَدَّداً عبدُكَ ورسُولَك ، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر ، وتُباعدني من الخَيْرِ ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد . فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع تحت العرش ، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة » .
فظهر أن المراد من العد كلمة الشهادة ، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة أهل الكبائر .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } تقدم خلافُ القراء في قوله « ولداً » بفتح اللام وسكونها ، وأنهما لغتان مثل العَرَبِ والعُرْبِ والعَجَم والعُجْم .
واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الرَّد على من أثبت له ولداً .
فقالت اليهود : عزيزٌ ابنُ الله ، وقالت النصارى : المسيحُ ابن الله ، وقالت العرب : الملائكة بناتُ الله . وههنا الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان ، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة .
قوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } . العامة على كسر الهمزة من « إدَّا » ، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه . قاله ابن عباس . « وقال مجاهد : عظيماً » وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها . وخرَّجوه على حذف مضاف ، أي شيئاً أدَّ « لأنَّ الأدَّ - بالفتح- يقال : أدَّ الأمر وأدَّني يؤدِّنِي أدَّا . أي : أثقلني .
وكان أبو حيان ذكر : أنَّ الأدَّ والإد- بفتح الهمزة وكسرها- هو العجب ، وقيل : » هو العظيم المنكر ، والإدَّة : الشدَّة . وعلى قوله : إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف « إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها ، والإدَد في كلام العرب الدواهي .
قوله : » تَكَادُ « . قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت . والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان ، إذ التأنيث مجازي . وكذا في سورة الشورى .
وقرأ أبو عمرو : وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة » يَنْفَطْرن « مضارع انفطرَ ، لقوله تعالى : { إِذَا السمآء انفطرت } والباقون : » يتفَطّرْن « » مضارع تفطَّر « بالتشديد في هذه السورة ، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء . والباقون على أصولهم في هذه السورة . فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين . وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما ، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون ، وفي الشورى بالياء وتشديد الطاء » فالانفطار من فطرهُ إذا شقه ، « والتفطُّر إذا شقَّقهُ » ، وكرر فيه الفعل .
قال أبو البقاء : وهو هنا أشبه بالمعنى ، أي : التشديد .
و « يَتَفَطَّرْنَ » في محل نصب « خبراً ل » كَانَ « وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة ، وأنشد :
3628- كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصِّبابةِ مَا مَضَى
فصل
يقال : انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق . وقرأ ابن مسعود » يتصَدَّعْنَ « .
و » تَنْشَقُّ الأرْضُ « أي تخسفُ بهم ، والانفطار في السماء ، أي : تسقط عليهم .
» وتخُرُّ الجِبَالُ هدَّاً « أي : تُهَدُّ هَداً ، بمعنى » تنطبق عليهم .
فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ فالجوابُ من وجوه :
« الأول : أنَّ الله - تعالى- يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود » هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها ، لولا حلمي ، وإني لا أعجِّل بالعقوبة ، كقوله- تعالى- : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] .
الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وهدمها لأركان الدين وقواعده .
الثالث : أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول ، وهذا تأويل أبي مسلم .
الرابع : أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب ، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها .
قوله : « هدَّا » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مصدر وفي مضع الحال ، أبي : مهدودة ، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدَّا ، أي : « هدمهُ » .
والثاني : وهو قول أبي جعفر : أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه ، لأن الخرور : السقوطُ والهدمُ ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر- انهدم ، فيكون لازماً .
الثالث : أن يكون مفعولاً من أجله ، قال الزمخشري : أي : لأنها تهد .
قوله : « أنْ دَعَواْ » في محله همسة أوجه :
أحدها : أنه في محل نصب على المفعول من أجله ، قاله أبو البقاء ، والحوفي ، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه ، ويجوز أن يكون العامل « تَكَادُ » ، أو « تَخُرُّ » ، أو « هَدَّا » ، أي : تَهُدُّ لأن دعوا ، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود ، وهو اتحاد « الفاعل في المفعول له والعامل فيه ، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في » أنْ « فقريب » . وقال الزمخشري : وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام « وإفضاء الفعل ، أي هدَّا أن دعوا » ، علل الخرور بالهدِّ ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن .
فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض . « وليس مفعولاً له صريحاً » .
الوجه الثاني : أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض « كما هو مذهب الخليل والكسائي .
والثالث : أنه بدل من الضمير في » مِنْهُ « كقوله :
3629- عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً ... عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ
» بجر « حاتم » الأخير بدلاً من الهاء في « جوده » .
قال أبو حيان : وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين .
الوجه الرابع : أن يكون مرفوعاً ب « هَدَّا » . قال الزمخشري : أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن . قال أبو حيان : وفيه بعدٌ ، لأن الظاهر في « هَدَّا » أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل ، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً ، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً ، وأضربا زيداً؟ على خلاف فيه ، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري ، أي : هدَّها دعاء الولد للرحمن .
فلا ينقاس ، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس :
3630- وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ ... يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ
أي : وقَفَ صَحْبِي .
الخامس : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم . كذا قدره أبو البقاء . و « دَعَا » يجوز أن يكون بمعنى سمَّى ، فيتعدى لاثنين ، ويجوز جر ثانيهما بالباء ، قال الشاعر :
3631- دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا « بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا ... مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ »
وقول الآخر :
3632- ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ ... تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ
وأولهما في الآية محذوف ، قال الزمخشري : طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد ، ويجوز أن يكون من « دَعَا » بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله- عليه السلام- : « مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ » ، وقول الشاعر :
3633- إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب ... عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا
لأي : لا ننتَسِبُ إليه .
« يَنْبَغِي » مضارع انْبَغَى ، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى ، أي : طلب ، و « أنْ يتَّخِذَ » فاعله . وقد عد ابن مالك « يَنْبَغِي » في الأفعال التي لا تتصرف .
وهو مردودٌ عليه ، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا : انْبَغَى . وكرَّر لفظ « الرَّحْمَنِ » تنبيهاً على أنه - تعالى- هو الرحمنُ وحدهُ ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه .
فصل
قال ابن عباس وكعب : فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكةُ ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ ، ثم نفى الله- تعالى- عن نفسه فقال : « وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً » أي : ما يليق به « اتِّخاذُ الولد » ، لأنة ذلك محال؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها ، وأما التبني ، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ، ولا شبيه لله - تعالى- ، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور ، أو استعانةٍ ، أو ذكرٍ جميلٍ ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى- .
قوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض } . يجوز في « مَنْ » أن تكون نكرة موصوفة ، وصفتها الجار بعدها ، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك ، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك ، فإنه قال : « مَنْ » موصوفة فإنها وقعت بعد « كُل » « نكرة أشبهت وقوعها بعد » رُبَّ « في قوله :
3634- ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ ... انتهى « .
ويجوز أن تكون موصولة . قال أبو حيان : ما كُل الذي في السموات ، و » كلُّ « تدخل على الذي ، لأنها تأتي للجنس كقوله- تعالى- : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ونحوه :
3635- » وكُلُّ الذي « حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ ... يعني أنه لا بد » من تأويل « الموصول بالعموم حتى تصح إضافة » كُل « إليه ، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة » كُلّ « إليه .
و » آتِ الرَّحْمَنِ « خبر » كل « جعل مفرداً حملاً على لفظها ، ولو جمع لجاز ، وقد تقدم أول الكتاب : أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان . وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال : » كُلُّ « إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى ، تقول : كُلكم ذاهب ، أي : كل واحد » منكم ذاهب ، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح . فإن قلت في قوله : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } : إنما هو حمل على اللفظ ، لأنه اسم مفرد . قلنا : بل هو اسم للجمع ، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد ، تقول : القوم ذاهبُون ، ولا تقول : ذاهب ، وإن كان لفظ « القَوْم » لفظ المفرد ، وإنما حسن « كُلكُم ذاهِبٌ » لأنهم يقولون : كل واحد منكم ذاهب ، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى .
قال أبو حيان : ويحتاج « كُلكُم ذاهِبُون » ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب .
قال شهاب الدين : وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى .
وقال أبو البقاء : ووحد « آتِي » حملاً على لفظ « كُل » ، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها .
قال شهاب الدين : قوله : في موضع آخر . إن عني في القرآن فلم يأت الجمع إلا و « كُل » مقطوعة عن الإضافة نحو { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، وإن عني في فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم .
والجمهور على إضافة « آتي » إلى « الرَّحمَن » .
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب « الرَّحْمَن » وانتصب « عَبْداً » و « فَرْداً » على الحال .
فصل
المعنى : أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا ياتي الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد . ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة .
والأول أولى ، لأنه لا تخصيص فيه .
{ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي : عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم ، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أي : كل واحد منهم يأتيه { يَوْمَ القيامة فَرْداً } وحيداً ليس معه من الدنيا شيء « ويبرأ المشركون منهم » .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } إلى آخر السورة .
لمَّا ردَّ على الكفرة ، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين . قوله : « وُدَّا » العامة على ضم الواو . وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها ، وجناح بن حبيش بكسرها . فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً ، والمكسور والمضموم اسمين .
قال المفسرون : سَيَجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً ، قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام- : » قَدْ أحبَّ فلاناً فأحبُّوه ، فيحبه أهلُ السَّماء ، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ ، وإذا أبغضَ العبد « قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك . والسِّين في » سَيَجِعَلُ « إما لأن السورة مكية ، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة ، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام .
والمعنى : سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة . وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم . روي عن كعب قال : مكتوب في التوراة لا محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى- ينزلها على أهل السماء ، ثم على أهل الأرض . وتصديق ذلك في القرآن قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } . وقال أبو مسلم : معناه يهبُ لهم ما يحبون . والوُدُّ والمحبَّةُ سواء ، يقال : آتيتُ فلاناً محبته ، وجعلت له ودَّه ، ومن كلامهم : يَوَدُّ لو كان كذا ، » وودتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ « ، فالمعنى : سيعطيهم الرحمن ودَّهم ، أي : محبوبهم في الجنة .
والقول الأول أولى ، لتفسير الرسول - عليه السلام- ، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ، » ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى « .
قال أبو مسلم : القول الثاني أولى لوجوه :
أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار ، وقد يبغضه كثير من المسلمين .
وثانيها : أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر ، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين؟
وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى- فعله ، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى .
وأجيب عن الأول : بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء .
وعن الثاني : ما روي عنه- عليه السلام- : أنه حكى عن ربه- سبحانه وتعالى- أنه قال : » وإذا ذكرني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ « في نَفْسِي ، وإنْ ذَكَرنِي ) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل » والكافر والفاسق ليسا كذلك .
وعن الثالث : أنه محمول على فعل الألطاف ، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم .
قوله : « بِلِسَانِكَ » يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال ، واللسان هنا اللغة ، أي : أنزلناه كائناً بلسانِكَ .
وقيل : هي بمعنى « على » ، وهذا لا حاجة إليه ، بل لا يظهر له معنى ، « و لُدَّا » جمع « ألَدَّ » ، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ .
قال أهل اللغة : اللُّدُّ جمع الألَدّ ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه ، وفي الحديث « إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ » أي المعوج « قوله : » يَسَرْنَاهُ « سهلناهُ يعني القرآن » بِلِسَانِكَ « يا محمد » لِنُبَشِّر به المتَّقِين « يعني المؤمنين ، وهذا كلام مستأنف » بيَّن به عظيم « موقع هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر ، والرد على فرق المبطلين ، فبين - تعالى- أنَّه يسَّر ذلك بلسانه ، ليبشر وينذر ، ولولا أنه - تعالى- نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر لك على الرسول . وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال : » ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدَّا « ، وهو جمع الألد ، » وهو الشديد الخصومة . وقال مجاهد : هو الظالم الذي لا يستقيم . وقال أبو عبيدة الألد « الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل . وق الحسن : الألد الأصم عن الحق .
ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال : » وكمْ أهْلَكٍنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ « لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب ، ثم أكد تعالى ذلك فقال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } . قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ .
وقرأ أبو حيوة ، وأبو جعفر ، وابن أبي عبلة » نَحُسُّ « » بفتح التاء وضم الحاء « وقرأ بعضهم : » تَحِس « بالفتح والكسر ، من حسَّه : أي شعر به ، ومنه الحواس الخمس . و » مِنْهُم « حال من » أحَد « ، إذ هو في الأصل صفة له . و » مِنْ أحَد « مفعول زيدت فيه » مِنْ . وقرأ حنظلة « تُسْمَعُ » بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول . و « رِكْزاً » مفعول على كلتا القارءتين ، إلا أنه مفعول ثان في القراءة « الشاذة » . والرَِّكْزُ : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، « ومنه ركز الرمح أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه ، ومنه الرِّكاز ، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره ، وأنشدوا :
3636- فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعَها ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ ، والأنيسُ سَقامُهَا
فصل
قال المفسرون : » هّلْ تُحِسُّ « ، وقيل : هل تجد .
» مِنْهُم مِنْ أحَدٍ « ، لأنَّ الرسول - عليه السلام- إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان ، ولا يسمع لهم ركزاً ، أي : صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية .
قال الحسن : بادوا جميعاً ، يبق عين ولا أثر .
روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وموسى ، وهارون ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من دعا لله ولداً ، وبعدد من لم يدع له ولداً « .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَتِ الرَّحِيمِ ) . قوله تعالى : « طَهَ » قرأ أبو عرمو بفتح الطاء وكسر الهاء ، وكسرهما جميعاً حمزة والكسائي وأبو بكر والباقون بفتحهما . قال الزجاج : وتقرأ « طَهْ » بفتح الطاء وسكون الهاء ، وكلها لغات . قال الزجاج : من فتح الطاء والهاء ، فأن ما قبل الألف مفتوح . ومن كسر الطاء والهاء أمال إلى الكسر ، لأن الحرف مقصور ، والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسر .
فصل
قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة أول الكتاب ، وفي هذه ، وفي هنا قولان ، الصحيح أنها من ذلك .
وقيل : إنه مفيد . فقال الثعلبي : « طَا » شجرة طوبى « والهاء » الهاوية . فكأنه أقسم بالجنة والنار . وقال سعيد بن جبير : هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي . وقيل : يا مطمع الشفاعة للأمة ، ويا هادي الخلق إلى الملة .
وقيل : ( الطاء ) تسعة في الحساب ، و ( الهاء ) خمسة يكون أربعة عشر ، ومعناه يا أيها البدر ، وقيل غير ذلك .
فصل
قيل : كعنى ( طَهَ ) يا رَجُل ، وهو مرويّ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، والكلبي ، ثم قال سعيد بن جبير : بالنبطية ، وقال قتادة : بالسريانية ، ( وقال عكرمة ) : بالحبشية ، وقال الكلبي : بلغة عك ، وقيل : عُكْلٌ ، وهي لغة يمانية .
وقال الكلبي : إنك لو قلت في عَك ، يا رَجُل لم تجب حتى تقول : طَهَ .
وقال الطَّبَري : طَهَ في عك بمعنى يا رجل ، وأنشد قولَ شاعرهم :
3637- دَعَوْتُ بِطَهَ في القِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوَائِلاَ
وقول الآخر :
3638- إنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلائِقِكُمْ ... لاَ قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ المَلاَعِينِ
قال الزمخشري : وأثر الصنعة ظاهر في البيت المستشهد به .
وقال السُّدِّي : معناه يا فلان . وقال الزمخشري أيضاً : ولعل عكَّا تصرفوا في « يَا هَذَا » كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء ، فقالوا في ( يَا هَذَا ) : طَا هَذَا ، واختصروا ( هذا ) ( فاقْتَصَرُوا عَلَى هَا ) .
فكأنَّه قيل في الآية الكريمة : يَا هَذَا ، وفيه بُعْدٌ كبير . واعترض عليه بعضهم فقال : لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طَاهَا .
قال أبُو حيَّان : ثم تخرص وحرز على عَكَّ ما لم يقله نحوي ، وهو أنهم يقلبون « ياء » التي للنداء ( طاء ) ، ويحذفون اسم الإشارة ويقتصرون منه على ( ها ) التي للتنبيه وقيل : ( طَهَ ) أصله : طأها بهمزة ، ( طَأْ ) أمر ، من وطئ يطأ ، و ( ها ) ضمير مفعول يعوج على الرض ، ثم أبدل الهمزة لسكونها ألفاً ولم يحذفها في الأمر نظراً إلى أصلها ، أي : طأ الأرض بقدميْكَ ، وقد جاء في الحديث : « أنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاه » وقرأ الحسن ، وعكرمة ، وأبو حنيفة ، وورش في اختياره « طه » بإسقاط الألف بعد الطاء ، و ( هاء ) ساكنة وفيها وجهان :
أحدهما : أن الأصل ( طأ ) بالهمزة ، أمراً أيضاً من وَطِئ يَطَأ ، ثم أبدلت الهمزة هاء كإبدالهم لها في : هرقت ، وهرحت ، وهنرت ، والأصل : أرقت ، وأرحت ، وأنرت .
والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفاً ، كأنه أخذه من وطئ يطأ بالبدل كقوله :
3639- . . .. . . . لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ
ثم حذف الألف حملاً للأمر على المجزوم ، وتناسباً لأصل الهمز ثم ألحق هاء السكت ، وأجرى الوصل مجرى الوقف وقد تقدم في أول يونس الكلام على إمالة « طا » و « ها » . قوله : « أنْزَلْنَا » هذه قراءة العامة .
وقرأ طلحة : « مَا نُزِّلَ » مبنياً للمفعول « القُرْآن » رفع لقيامه مقام فاعله .
وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة إن جعلت « طَهَ » تعديداً لأسماء الحروف . ويجوز أن تكون خبراً ل ( طَهَ ) إن جعلتها اسماً للسورة ، ويكون القرآن ظاهراً واقعاً موقع المضمر؛ لأنَّ ( طه ) قرآن أيضاً ، ويجوز أن تكون ( جواب قسم ) إنْ جعلت ( طَهَ ) مقسماً به . وقد تقدَّم تفصيل ذلك .
فصل
قال الكلبي : لمَّا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان بين قدميه في الصلاة لطول قيامه ، وكان يصلي الليل كله ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمره أن يخفف على نفسه فقال : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] .
وقيل : لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا : إنَّك لتشقى حين تركت دين آبائك أي : لتتعنَّى وتَتْعَب وما أنزل عليك القرآن يا محمد لشقائك ، فنزلت : « مَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى » . وأصلُ الشقاء في اللغة العناء .
وقيل المعنى : إنَّك لاَ ترم على كفر قومك كقوله : « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ » وقوله { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ الأنعام : 106 ] ، أي : إنك لا تؤاخذ بذنبهم .
وقيل : إنَّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة ، وكان عليه السلام في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء ، فكأنه تعالى قال : لا تظن أنَّك تبقى أبداً على هذه الحالة ، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرماً .
قوله : « إِلاَّ تَذْكِرَةً » في نصبه أوجه :
أحدها : أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه فعل الإنزال ، وكذلك « لِتَشْقَى » علة له أيضاً ، ووجب مجيئ الأول مع اللام ، لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاته شريطة الانتصاب على الفمعولية .
والثاني : جاز قطع اللام عنه ونصبه ، لاستجماعه الشرائط هذا كلام الزمخشري ، ثم قال : فإن قلت : هل يجوز أن تقول : « مَا أنْزَلْنَا أنْ تَشْقَى » ، كقوله : « أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم » قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في « وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه » ، وأما النصبةُ في « تَذْكِرَةً » فهي كالتي في ضربت زيداً ، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها .
قال شهاب الدين : قد منع أبو البقاء أن يكون « تَذْكِرَةً » ، مفعولاً له ل « أنْزَلْنَا » المذكورة لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو « لِتَشْقَى » فلا تتعدى إلى آخر من جنسه .
وهذا المنع ليس بشيء ، لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يقتضي العامل من هذه الفضلات إلا شيئاً واحداً إلا بالبدلية أو العطف .
الثاني : أن تكون « تَذْكِرَةٌ » بدلاً من محل « لِتَشْقَى » وهو رأي الزجاج ، وتبعه ابن عطية ، واستبعده أبو جعفر ، ورده الفارسي ، بأن التذكرة ليست بشقاء وهو رد واضح . وقد أوضح الزمخشري هذا فقال : فإن قلت هل يجوز أن تكون « تَذْكِرَةً » بدلاً من محل « لِتَشْقَى » ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي ( إلاَّ ) إلا بمعنى ( لكن ) .
قال أبو حيان : يعني باختلاف الجنسين أن نصبه « تَذْكِرَةُ » نصبة صحيحة ليست بعارضة ، والنصبة التي تكون في « لِتَشْقَى » بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه .
قال شهاب الدين : ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما نقل عن الفارسي رداً على الزجاج ، وأي أثر لاختلاف النصبتين في ذلك .
الثالث : أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع أي : لَكِنْ أَنْزَلْنَا تَذْكِرَةً .
الرابع : أنه مصدر مؤكد لفاعل مقدر ، أي : لكن ذكرنا ، أو تذكرتَه أنت تذكرةً .
وقيل التقدير : مَا أنْزَلْنَا عَلَيكَ القرآن لتحملَ متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة ، كما يقال : ( مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الكلامَ لِتَتَأَذَّى إِلاَّ ليَعْتَبِر بكَ غَيْركَ ) .
الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي إلا مُذَكِّراً .
السادس : أنه بدل من القرآن ، ويكون القرآن هو التذكرة . قاله الحوفي .
السابع : أنه مفعول له أيضاً ، ولكن العامل فيه « لِتَشْقَى » ، ويكون المعنى كما قال الزمخشري : إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ ، ومقاومة العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم ، وغير ذلك من أنواع المشاق ، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب الشاق إلاَّ ليكون تَذْكِرَةً . وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له . انتهى .
فإن قيل : من أين أخذت أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه « لِتَشْقَى » ، وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال؟
فالجواب : أن هذا الوجه قد تقدَّم له في قوله : وكل واحد من « لِتَشْقَى » ، و « تَذْكِرَةً » علة للفعل ، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ على تسلط « لِتَشْقَى » على « تَذْكِرَةً » إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل « لِتَشْقَى » في « تَذْكِرَةً » ، فقال : ولا يصح أن يعمل فيها « لِتَشْقَى » لفساد المعنى وجوابه : ما تقدَّم .
( ولا غرو في تسمية التعب شقاءً ) ، قال الزمخشري : والشقاء يجيء في معنى التعب ، ومنه المثل : أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ .
و « لِمَنْ يَخْشَى » متصل ب « تَذْكِرَةًُ » وزيدت اللام في المفعول ، تقوية للعامل لكونه فعلاً . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « تَذْكِرة » . وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر ، لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : « هُدًى لِلْمُتَّقين » .
قوله : « تَنْزِيلاً » في نصبه أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من « تَذْكِرَةً » إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً ، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه ، لأنه يصير التقدير : مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلاَّ لِلتَّنْزِيل .
الثاني : أن ينتصب ب « نزل » مضمراً .
الثالث : أن ينتصب ب « أنْزَلْنَا » ، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلاَّ تذكرة : أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً .
الرابع : أن ينتصب على المدح والاختصاص .
الخامس : أن ينتصب ب « يَخْشَى » مفعولاً به ، أي أنزلناه للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله ، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن . قال أبو حيان : والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب ب « نَزَل » مضمرةً ، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره فمتكلف : أما الأول ففيه جعل « تَذْكِرَةً » و « تَنْزِيلاً » حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس . وأيضاً فمدلول « تَذْكِرَةً » ليس مدلولاً « تَنْزِيلاً » ، ولا « تَنْزِيلاً » بعض « تّذْكِرَةً » فإن كان بدلاً فيكون بدلَ اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة ، وغيرها . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً ، فليس كذلك ، لأن معنى الحصر يفوت في قوله : « أنزلناه تذكرةً . وأما نصبه على المدح فبعيد .
وأمَّا نصبه على » يَخشَى « ففي غاية البُعد ، لأن » يَخْشَى « رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون » تَنْزِيلاً « منصوباً ب » يَخْشَى « ، وقوله : وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة . قال شهاب الدين : ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة .
قوله : » مِمَّنْ خَلَقَ « . يجوز في ( مِنْ ) أن يتعلق ب » تَنْزِيلاً « ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل » تَنْزِيلاً « .
وفي » خَلَقَ « ( التفات ) من تكلُّم في قوله : » مَا أنْزَلْنَا « إلى الغيبة وجوز الزمخشري أن يكون » مَا أنْزَلْنَا « حكاية لكلام جبريل عليه السلام وبعض الملائكة فلا التفات على هذا .
قوله : » العُلَى « جمع عُلْيَا ، نحو دُنْيَا ودُنًى ، ونظيره في الصحيح كُبْرَى وَكُبَر ، وفُضْلَى وفُضَل ، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى .
ومعنى الآية : « تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ » أي : ( مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى ) يعني العالية الرفيعة .
وفائدة وصف السَّوات بالعُلَى : الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها ( وبعد مرتقاها ) .
قوله : « الرَّحْمنُ » العامة على رفعه ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من الضمير المستكن في « خَلَقَ » ذكره ابن عطية ، ورده أبو حيان بأن البدل يحل محل المبدل منه ، ولو حل محله لم يجز لخلو الجملة الموصولة بها من رابط يربطها .
الثاني : أن يرتفع على الابتداء مشاراً إلى « مَنْ خَلَقَ » والجملة بعده خبر . وقرأ جناح بن حُبَيش : « الرَّحْمنِ » مجروراً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من الموصول . لا يقال : إنه يؤدي إلى البدل بالمشتق وهو قليل ، لأن ( الرحمن ) يجري مجرى الجوامد لكثرة إيلائه العوامل .
والثاني : أن يكون صفة للموصول أيضاً .
قال أبو حيان : ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص ك « مَنْ » و « مَا » لا يوصف منها إلاَّ الذي وحده ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون صفة . قال ذلك كالراد على الزمخشري .
والجملة في قوله : « عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى » خَبَر لقوله « الرَّحْمنُ » على القول : بأنه مبتدأ ، أو خبر مبتدأ مضمر ، إن قيل : إنه مرفوع على خبر مبتدأ مضمر ، وكذلك في قراءة مَنْ جرَّه . وفاعل « اسْتَوَى » ضمير يعود على « الرَّحْمنُ » .
وقيل : بل فاعله « مَا » الموصولة بعده ، أي : استوى الذي له ما في السموات قال أبو البقاء : وقال بعضُ الغلاةِ : « مَا » فاعل « اسْتَوَى » ، وهذا بعيد ، ثم هو غير نافع له في التأويل ، إذ يبقى قوله : « الرَّحْمنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى » كلاماً تامّاً ومنه هرب .
قال شهابُ الدين : هذا يُروى عن ابن عبَّاس ، وأنَّه كان يقفُ على لفظ « العَرْشِ » ثم يبتدئ ب « اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ » ، وهذا لا يصح عنه .
قوله : الثَّرَى : هو التراب النَّدِي ، ولامه ياء بدليل تثنيته على ثَرَيَيْن وقولهم : ثَرِيَتْ الرضُ تَثْرَى ثَرًى . والثَّرَى في انقطاع المودة ، قال جرير :
3640- فَلاَ تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى ... فَإنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي
والثَّراء بِالمَد : كثرة المال ، قال :
3641- أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وَما أَحسن قولَ ابن دُرَيد في قصيدته التي جمع فيها بن الممدود والمقصور باختلاف معنى .
فصل
قال المفسرون : معنى « لَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ » لما شرح ملكه بقوله : « الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى » ، والملك لا ينتظم إلا بالقدوة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم .
أما القدرة فهي هذه الآية ، والمعنى : أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من مَلَكٍ ونَجْم وغيرهما ، ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ، ومالك لما بينهما من الهواء ، ومالك لما تحت الثرى . قال الضحاك : يعني ما روى الثرى من شيء .
وقال ابن عباس : إن الأَرضينَ على ظهر النون ، والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش ، والبحر على صخرة خضراء اخضرت السموات منها . وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان « فَتَطُنْ فِي صَخْرَةٍ » ، والصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ، و « مَا تَحْتَ الثَّرَى » لا يعلمه إلا الله تعالى . وذلك الثور فاتح فاه ، فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوف الثور فإذا وقعت في جوفه يبست .
وأما العلم فقوله : « وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ الشِّرَّ وَأَخْفَى » قال الحسن السر : ما أسر الرجل إلى غيره ، وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : السر ما تسر في نفسك ، وأخفى من السر : ما يلقيه الله في قلبك من بعد ، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسَك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم اليوم ولا تعلم ما تسر إذا ، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غدا .
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : السِّرُّ ما أٍر ابن آدم في نفسه ، وأخفى : ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه .
وقل مجاهد : السِّرُّ العمل الذي يُسِرُّ من الناس وأخفى : الوسوسة وقيل : السِّرُّ هو العزيمة ( وأخفى : ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه . وقال زيد بن أسلم : « يَعْلَمُ السِّرَّ » وأخْفَى « أي : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد .
قوله : » وَأخْفَى « جوزوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه أفعل تفضيل ، أي : وأخفى من السر .
والثاني : أنه فعل ماض ، أي : وأخفى عن عباده غيبه كقوله : » وَلاَ يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً « .
قوله : » اللهُ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ « الجلالة إما مبتدأ والجملة المنفية خبرها ، وإما خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو الله . والحسنى تأنيثُ الحسنِ ، وقد تقدم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة .
ولما ذكر صفاته وحَّدَ نَفْسَه فقال : » اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هوَ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى « .
فصل
قالوا : كلمة » لا « ههنا دخلت على الماهية ، فانتفت الماهية ، وإذا انتفت الماهية تنتفي كل أفرادها . وإنما » اللهُ « اسم علم للذات المعينة ، إذ لو كان كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد .
وقالوا : » لاَ « استحقت عمل » إِنَّ « لمشابهتها لها من وجهين :
الأول : ملازمة الأسماء .
والآخر : تناقضهما . فإن أحدهما لتأكيد الثبوت ، والآخر لتأكيد النفي ، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم ، وإذا كان كذلك ، فنقول : لمَّا قالوا : إنَّ زيداً ذاهبٌ كان يجب أن يقولوا : ( لا رجلاً ذاهب ) إلاَّ أنهم بنوا « لا » مع ما دخل عليه من الاسم مفرداً واحداً فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توقيفاً بين الدليل الموجب للإعراب ، والدليل الموجب للبناء . وخبره محذوف تقديره : لاَ إِله في الوجود ، ولا حول ولا قوةَ لنا ، وهذا يدل على أن الوجود زائدة على الماهية . فإن قيل : تصور الثبوت مقدم على تصور السلب ، فإنَّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره ، فكيف قدم هنا السلب على الثبوت؟
فالجواب : لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه .
فصل
ينبغي لأهل لاَ إله إلاَّ الله أنْ يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إلهَ إلا الله : التصديق ، والتعظيم والحلاوة والحرية ، فمن ليس له التصديق فهو منافق ، ومَن ليس له التعظيم فهو مبتدع ، ومَن ليس له الحلاوة فهو من مراء ومَنْ ليس له الحرية فهو فاجر .
فصل
( قال بعضهم ) قوله تعالى : « ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ » أنَّه لا إله إلاَّ الله . « إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ » لا إله إلاَّ الله « وَتَواصُّوْا بالحَقِّ » لا إله إلاَّ الله . « قُلْ إنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ » بلا إله إلاَّ الله . « وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئولُون » عن قول لا إله إلاَّ الله . « بَلْ جَاءَ بالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِين » هو لا إله إلاَّ الله . « يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ فشي الحَيَاةِ الدُّنْيَا » هو لاَ إله إلاَّ الله . « وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ » عن قول : لا إله إلاَّ الله .
فصل
قال عليه السلام : « أفضل الذكر لاَ إله إلاَّ الله ، وأفضل الدعاء أستغفر الله » ، ثمّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فاعْلَم أنَّه لا إلهُ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ » وقال عليه السلام : « إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ مَلَكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول : أشهد أن لا إله إلاَّ الله مادًّا بها صوته لا يقطعها ، ولا يتنفس فيها ، ولا يتمها ، فإذَا أتمَّها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله تعالى » .
وعن أنس قال عليه السلام : « ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني ، وأشفع إليه ويشفعني ، حتى قلت : يا رب فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي ، لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله »
وقال سفيان الثوري : سألت جعفر بن محمد عن « حم عسق » فقال : الحاء حُكمه ، والميم ملكه ، والعين عظمته ، والسين سناؤُه والقاف قدرتُه ، يقول الله عز وجل : بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي ولا قدرتي لا أعذب بالنار من قال : لاَ إله إلاَّ الله محمد رسول الله .
وعن ابن عرم قال عليه السلام : « من قال في الشوق : لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيي ويُميتُ وَهُوَ حيٌّ لا يَمُوتُ بيدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قدِير ، كَتَبَ الله لهُ أَلفَ حَسَنةٍ ومَحَا عَنْهُ ألفَ سيئةٍ وبَنَى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ »
وروي عن موسى بن عمران عليه السلام قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال : قل : لا إله إلاَّ الله ، قال : كل عبادك يقول : لا إله إلاَّ الله . فقال : قل : لا إله إلاَّ الله . قال : إنما أردت شيئاً تخصني به . قال يا موسى : لو أن السموات السبع ومن فوقهن في كفة ولا إله إلاَّ الله في كفة لماتْ بهِنَّ لاَ إله إلاَّ الله .
فصل
قيل : إنَّ الله تعالى أربعة آلاف اسم لا يعلمها إلا الله والأنبياء أما الألف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها ، فثلثمائة في التوراة ، وثلثمائة في الإنجيل ، وثلثمائة في الزبور ومائة في القرآنه تسعة وتسعون ظاهرة وواحد مكنون فمن أحصاها دخل الجنة .
واعلم أن الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناءً ومدحاً ، كقوله : جاعل ، وفالق ، وصانع . فإذا قيل : « فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً » صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قُرِنَ بغيره أبلغ نحو قولنا : حيّ ، فإذا قيل : الحَيُّ القَيُّومُ ، أو الحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ . كان أبلغ . وأيضاً بديع . فإذن قلت : بَديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ازداد المدح .
ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده ، كقولنا : دَلِيلٌ ، وكَاشِفٌ ، فإذا قيل : يا دليلَ المتحيرين ، يا كاشفَ الضُرِّ والبلوى جاز .
ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً ومقروناً كقولنا : الرَّحيم الكريمُ ( ومن الأسماء ما يكون تقارنُها أحسنَ كقولك : الأول الآخر ، المبدئ المعيد ، الظاهر الباطن ، العزيز الحكيم ) .
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
قوله تعالى : { وَهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى : إذْ رَأَى نَاراً } . . . الآية : لما عظم حال القرآن ، وحال الرسول عليه السلام بما كلَّفه أتبع ذلك بما يقوي قلبَ رسوله من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ ، كقوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] . وبدأ بموسى لأن فتنته كانت أعظم « ليتسلَّى قلبُ الرسول عليه السلام بذلك ، ويصبر على تحمل المكاره . قوله : » وَهَلْ أتَاكَ « يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى فقال : » وَهَلْ أتَاكَ « أي لم يأتك إلى الآن ) وقد أتاك الآن فتنبه له ، وهذا قول الكلبي . ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال : أليس قد أتاك ، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس ، وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله على لكن المقصود منه تقرير الخبر في قلبه ، وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك : هَلْ بلغكَ عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمي إليه ، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قِبَل موسى لا من قِبَل الله ( تعالى ) .
قوله : » إذْ رَأَى « يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب ( اذكر ) مقدراً قاله أبو البقاء . أو بمحذوف بعده ، أي إذا رأى ناراً كان كيت وكيت كما قاله الزمخشري . و » هَلْ « على بابها من كونها استفهام تقرير . وقيل : بمعنى قد . وقيل : بمعنى النفي . وقرأ » لإِهْلِهُ امْكُثُوا « بضم الهاء حمزة ، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز .
وقاله أبو البقاء : إن الضم ( للإتباع ) .
قوله : » آنَسْتُ « أي أبصرت ، والإيناس : الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان العين ، لأنه يبصر به الأشياء ، والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم . وقيل : هو الوجدان . وقيل : هو الإحساس فهو أعم من الإبصار . وأنشدوا للحارث بن حلزة :
3642- آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ
والقَبَس : الجَذْوَةُ من النار ، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة و نحوها وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنفوض . ويقال : إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال : قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً ( ناراً وعلماً ) وقوله : » مِنْهَا « يجوز أن يتعلق ( ب » آتِيكُمْ « أو ) بمحذوف على أنه حال من » قَبَس « وأما بعضهم ألف » هُدًى « وقفاً ، والجيد أن لا تُمال ، لأن الأشهر أنها بدل من التنوين .
فصل
قال المفسرون : استأذن موسى شعيباً في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة والدته وأخته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام .
فولدت امرأته في ليلة شاتية ، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، فقدح زنده فلم يورِهِ ، فبينما هو في مزاولة ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور .
قال السُّدي : فظن أنها نارٌ من نيران الرعاة .
وقال آخرون : إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك . وقال بعضهم : الذي رآه لم يكن ناراً ( بل تخيله ناراً ) والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره ، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء . قيل : النار أربعة أقسام :
نارٌ تأكل ولا تشرب ، وهي نار الدنيا . ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً } [ يس : 80 ] .
ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة . ونارٌ لا تأكل ولا تشرب ، وهي نار موسى عليه السلام .
وقيل أيضاً : النار أربعة : أحدها : نارٌ لها نور بلا حرقة ، وهي نار موسى عليه السلام .
ونارٌ لها حرقة بلا نور ، وهي نار جهنم . ونارٌ لها حرقة ونور ، وهي نار الدنيا . ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار . فلما أبصر النار « قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا » يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة وولدها والخادم .
ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً ، أي : أقيموا في مكانكم . « إنِّي آنَسْتُ نَاراً » . أي أبصرتُ ناراً ، والإيناس : الإبصار وقيل : إبصار ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس -وكان منتفياً- حقيقة لهم أتى بكلمة « إنِّي » ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، فقال : « لَعَلِّي » ولم يقطع فيقول : إنِّي آتيكُمْ ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به ، والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو محال ، لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز فلم يقل : إِنِّي آتِيكُمْ ، بل قال « لَعَلِّي آتِيكُمْ » . والقَبَسُ : النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما . « أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى » أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر ، فكأنه قال : أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة .
ومعنى الاستعلاء على النار « ( أنَّ أهلَ النارِ ) يستعلون المكان القريب منها ، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا مشرفين عليها ، فكأنه قال : أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي . » فَلَمَّا أتَاهَا « أي النار ، قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتّقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغير خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار .
قال ابن مسعود : كانت الشجرة سمرة خضراء .
وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت من العَوْسَج .
وقال وهب : كانت من العُلِّيْق . وقيل : كانت من العِنَّاب .
قال أكثر المفسرين : إنَّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ ( تبارك وَتَعالى ) ذُكِرَ بلفظ النار ، لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً .
قال وهب : ظن موسى أنها نار أوقدت ، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده ، فتأخر عنها وهابَها ، ثم لم تزل تطعمه ، ويطمع فيها ، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها ، فإذا خضرتها ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك وضع يديه على عينيه ، فنودي يا موسى .
قال القاضي : الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز ، وما رُوِي من أن النار كانت تتأخر عنه ، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلاَّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء ، لأن قوله : « وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى » دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة ، وجعله نبيًّا . وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك ، قوله تعالى : « فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ » ولو كانت تتأخر عنه حالاً بعد حالٍ لَمَا صحَّ ذلك ، ولَمَا بقي لفاء التعقيب .
قوله : « نودي : القائم مقام الفاعل ضمير موسى .
وقيل : ضميرُ المصدر ، أي نُودِي النداء ، وهو ضعيف . ومنعُوا أنْ يكون القائم مقامه الجملة من » يا مُوسَى « ، لأن الجملَةَ لا تكونُ فاعلاً .
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
قوله : « إِنِّي » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي : بأِنِّي ، لأن النداء يوصل بها . تقول : ناديتُه بكذا ، وأنشد الفارسيُّ قول الشاعر :
3643- نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ ... إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ
وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى : لأجل ، وليس بظاهر . والباقون بالكسر إمَّا على إضمار القول عند الكوفيين . وقوله : « أَنَّا » يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر ( إنَّ ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب . ويجوز أن يكون ( فصلاً ) .
فصل
قال المفسرون : لمَّا نُودِي يَا مُوسَى أجاب سريعاً ما يدري من دعاه ، فقال : إنِّي أسمع صوتك ولا أرَى مكانَك ، فأين أنت؟ فقال : أنا فوقَكَ ، وَعَكَ ، وأمَامَكَ ، وخلفَكَ ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك . فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عزّ وجلّ فأيقن به . « فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ » روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله : « اخْلَعْ نَعْلَيْكَ » قيل : كانَتَا من جلد حمار ميت . ويروى غير مدبوغ .
وقال عكرمة ومجاهد : ليباشر بقَدَمَيْه تراب الأرض المقدسة ، فيناله بركتها ، لأنه قُدِّسَتْ مرتين ، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي .
قيل : إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى ، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن الخُضْرة ما كانت تطفئ تلك النار ، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى .
قوله : « طُوَى » قرأ الكوفيون وابنُ عامر « طُوًى » بضم الطاء والتنوين .
وقرأ الباقون : بضمها من غير تنوين .
وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة وابن محيصن بكسر الطاء منوناً ، وأبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون .
فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرف : لأنَّه أوَّله بالمكان . ومن منعه فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية .
الثاني : أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل ، وإن لم يعرف اللفظ المعدول عنه وجعله كُعَمر وزُفَر .
الثالث : أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة . ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً . فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب ، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى . ومن نَوَّنه فباعتبار المكان .
وعن الحسن البصري : أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر ، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة : أنه طهر مرتين ، فيكن مصدراً منصوباً بلفظ ( المقدس ) ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : المقدس مرتين من التقديس .
وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك « طَاوِيْ اذْهِب » . وطُوَى : إما بدل من الوادي أو عطف بيان له . أو مرفوع على إضمار مبتدأ ، أو منصوب على إضمار أعْنِي .
فصل
استدلت المعتزلة بقوله : « اخْلَعْ نَعْلَيْكَ » على أن كلام الله تعالى ليس بقديم ، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى : اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى ، ومعلوم أن ذلك سفه ، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل ، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين يعد ذلك جنوناً وسفهاُ .
فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى؟ وأجيب عن ذلك بوجهين :
الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً .
الثاني : أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء ، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة ، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة ، فكذا ههنا ، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق .
فصل
قال بعضهم : في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل ، والصحيح عدم الكراهة ، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي ، وتعظيم كلام الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة .
وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت ، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت ، وإن كان مدبوغاً ، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام : « أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ » « وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة ، فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا : خلعتَ فخلعنا قال : » فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً « فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل ، وأنكر على الخالعين خلعها ، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر .
فصل
قال عكرمة وابن زيد : طُوَى : اسم للوادي .
قال الضَّحاك : طُوَى : واد مستدير عميق الطويّ في استدارته .
وقيل : طُوَى معناه مرتين نحو ثنى . أي : قدِّس الوادي مرتين أي : نُودِيَ موسَى نِدَاءَيْن يقال : ناديته طُوًى أي : مثنى . وقيل : طُوى أي؛ طيًّا . قال ابن عباس : إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً فطواه ، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي : قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ، ومن ذهب إلى هذا قال : طُوًى مصدر أخرج عن لفظه كأنه قال : طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال : هدى يهدي هُدًى .
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قوله تعالى : « وَأنَا اخْتَرْتُكَ » أي للرسالة والكلام .
قرأ حمزة « وَ » أنَّا اخْتَرْنَاكَ « بفتح الهمزة فضمير المتكلم المعظم نفسه .
وقرأ السلمي والأعمش وابن هرمز كذلك إلا أنهم كسروا الهمزة .
والباقون : » وَأنَا اخْتَرْتُكَ « بضمير المتكلم وحده . وقرئ » أَنِّي اخْتَرْتُكَ « بفتح الهمزة .
فأما قراءة حمزة فعطف على قوله » أنِّي رَبُّكَ أَنَا رَبُّكَ « وذلك أنه يفتح الهمزة هناك ففعل ذلك لما عطف غيرها عليها . وجوز أبو البقاء أن يكون الفتح على تقدير : وَلأنّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ ، فعلقه باسْتَمِعْ . والأول أولى .
ومن كسرها فلأنه يقرأ » إنِّي أنَا رَبُّكَ « بالكسر . وقراءة أُبي كقراءة حمزة بالنسبة للعطف . ومفعول » اخْتَرْتُكَ « الثاني محذوف ، أي اخترتك من قومك .
قوله : » لِمَا يُوحَى « الظاهر تعلقه ب » اسْتَمِع « ويجوز أن تكونَ اللام مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى » رَدِفَ لَكُمْ « وجوَّز الزمخشري وغيره أن تكون المسألة من باب التنازع بين » اخْتَرْتُكَ « وبين » اسْتَمِعْ « كأنه قيل : » اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى « . قال الزمخشري : فعلق اللام باسْتَمِعْ أو باخْتَرْتُكَ وقد رد أبو حيان هذا بأن قال : ولا يجوز التعليق باخْتَرْتُكَ لأنه من باب الإعمال فكان يجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون : فاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى ، فدل على أنه من باب إعمال الثاني .
قال شهاب الدين : والزمخشري عنى التعليق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يَعْنِهِ .
( و » ما « ) يجوز أن تكون مصدرية وبمعنى الذي ، أي فاسْتَمِعْ للوحي أو للذي يوحى ) .
فصل
هذهالآية تدل على النبوة لا تحصل بالاستحقاق ، لأن قوله : » وَأَنَا اخْتَرْتُكَ « يدل على أن ذلك المنصب العالي إنما حَصَل لأنه تعالى اختاره له ابتداء لا أنه يستحقه على الله تعالى .
وقوله : » فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى « أي : إليك فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه قال : لَقَدْ جَاءَك أمْرٌ فتأهَّبْ له ، واجعَلْ كلَّ عقلك وخاطرِك مصروفاً إليه .
ثم قال : » إنَّنِي أَنَا لاَ إلَه إلاَ أَنَأ فَأعْبُدْنِي « ولا تعبد غيري ، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع : لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع .
وأيضاً فالفاء في قوله : » فَاعْبُدْنِي « تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين :
الأولك أنه تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة ، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان .
الثاني : أنه قال : » أَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي « ولم يبين كيفية الصلاة .
قال القاضي : لا يمتنع أن موسى عليه السلام -قد عرف الصلاة إلى تعبُّدَ الله تعالى -بها شُعَيْباً- عليه السلام- وغيره من الأنبياء ، فتوجه الخطاب إلى ذلك ، ويحتمل أنه تعالى بيَّن له في الحال ، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فه إلا هذا القول .
وأجيب عن الأول : بأنه لا يتوجه في قوله تعالى : « فَاعْبُدْنِي » وأيضاً فحَمْلُ مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم ، لأن موسى -عليه السلام- ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب -عليه السلام- ، فلو حملنا قوله : « وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة ، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة . وقوله : لعلَّ اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع ، وإن لم يحكه في القرآن قلنا : لا شك أن البيان ( أكثر فائدة ) من المجمل ، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية .
قوله : « لِذِكْرِي » يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله ، أي : لأنِّي ذكرتُها في الكتب ، أو لأني أذكرك . ( ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله ، أي : لأنْ تَذْكُرْنِي ) وقل : معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها ، لقوله -عليه السلام- : « مَنْ أقَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا » .
قال الزمخشري : وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا ثم قال : ومَنْ يَتمحّل له أن يقول إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكِر صلاتي ، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة وقرأ أبو رجاء والسلمي « لِلْذِكْرَى » بلام التعريف وألف التأنيث . وبعضهم : « لِذِكْرِي » منكَّرة وبعضهم : « لِلْذِّكْرِ » بالتعريف والتذكير .
فصل
ذكرُوا في قوله تعالى : « لِذِكْرِي » وجوهاً :
أحدها : لِذِكْرِي بمعنى لِتَذْكُرَنِي ، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي .
والثاني : لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار؛ وعن مجاهد .
وثالثها : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها .
ورابعها : لأن أَذْكُرَك بالمدح والثناء .
وخامسها : لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري .
وسادسها : لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين ، كقوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] .
وسابعها : لأوقات ذِكْرِي ، وهي مواقيت الصلاة ، لقوله : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
وثامنها : أقِم الصَّلاة حين تذكرها أي : إنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها ، قال عليه السلام : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ولاَ كَفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذلِك » ثم قرأ « أقِم الصَّلاَةَ ( لِذِكْرِي ) . قال الخطَّابي هذا الحديث يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يكفرها غير قضائها .
والآخر : أنه لا يلزمه فغي نسيانها غرامة ، ولا كفارة ، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر ، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام إنما يصلّي ما ترك فقط .
فإن قيل : حق العبادة أن يقول : صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها ، كما قال عليه السلام : « إذَا ذَكَرَهَا »
فالجواب : قوله : « لِذِكْرِي » معناه : للذِّكْر الحاصل بِخَلْقِي . أو بتقدير حذف مضاف أي : لذكر صلاتي .
( فصل )
لو فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ، فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي -رحمه الله- ، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة ، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز ، وأن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى . ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة . ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت بعدها ، ولا يجب . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال : ولو تذكر في صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت ، فيقضي الفائتى ، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل ، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر . أما الآية فقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي عند دلوك الشمس ، فالمعنى : أَقِم الصَّلاَةَ عِنْدَ تَذْكرها ، وذلك يقتضي وجوب الترتيب . وأما الخبر فقوله عليه السلام : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها » والفاء للتعقيب . وروي في الصحيحين « أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول : والله يا رسول الله ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وَأنَا والله ما صلَّيْتُهَا بعد « قال : فنزل إلى بُطْحَان فَصلى العصرَ ( بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ ) ثم صلى بعدها المغرب » والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه قال : « صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي » وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه .
والثاني : أن فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة ، وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله : « أَقِيمُوا الصَّلاةَ » ولهذا قالوا : إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها ، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة . وأما الأثر : فرُوِي عن ابن عمر أنه قال : « مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلا في صَلاةِ الإمام فليمض في صلاته ، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته ، ثم ليعُد التي صلاها مع الإمام » وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما القياس : فإنهما صلاتا فرض جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة ، فأشبهتا صلاتي عرفةٍ والمزدلفة ، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما ، وجي أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك .
واحتج الشافعي رحمه الله بما روى أبو قتادة : « أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم ثُمَّ صَلاَّهَا » ولو كان وقت التذكير معيناً للصلاة لما جاز ذلك ، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه ، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع ، وإذا ثبت هذا فنقول : إيجاب قضاء الفوائت ، وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين ، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان ، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيْم ، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال ( والعصر بعد الزوال ) فإنه يعيدهما جميعاً ، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما ، فها هنا أيضاً لو كلن الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان .
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قوله تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } .
( لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله : « فَاعْبُدْنِي وَأَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » أتبعُه بقوله : « إنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها » ، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل قوله : « لِذِكْرِي » أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك « إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ » لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ، ثم قال : « أَكَادُ أُخْفِيَهَا » . العامة على ضم الهمزة من « أَخْفِيَها » .
وفيها تأويلات :
أحدها : أن الهمزة في « أُخْفِيهَا » للسلب والإزالة ، أي : أزيل خفاءها نحو : أَعْجَمْتُ الكتابَ أي : أزلت عجمتَه ، وأشكيتُه أي أزلت شكواه ، ثم في ذلك معينان :
أحدهما : أن الخفاءَ بمعنى ( الستر ) ، ومتى أزال سترها فقد أظهرها ، والمعنى : أنها لتحقّق وقوعها وقربها أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير .
والثاني : أن الخفاءَ هو الظهور كما سيأتي ، والمعنى : أزيل ظهورها ، وإذا أزال ظهورها فقد استترت ، والمعنى : أن لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها ، ولذلك يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : « أَكَادُ أُخْفِيَهَا من نفسي فكيف أظهركم عليها » وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء ، قال الشاعر :
3644- أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا ... مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الخَبَرِ
وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه؟ قال القاضي : هذا بعيد ، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار ، وذلك مستحيل عليه تعالى ، لأن كلَّ معلومٍ له ، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل . ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير ، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس أخفيته عني ، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير ، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه .
والتأويل الثاني : أن ( كَادَ ) زائدة قاله ابن جبير ، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل :
3645- سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ ... فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
وقول الآخر :
3646- وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي ... وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ
ولا حجة في شيء منه .
والتأويل الثالث : أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة ، قاله الأخفش وجماعة ، وهو قول إبِي مسلم ، فهو كقوله : « كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ » ومن أمثالهم المتداولة « لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ .
أي : لا أُريد أَنْ أفعله ، وهذا ) لا ينفع فيما قصدوه .
التأويل الرابع : أنَّ خبرها محذوف ، تقديره : أكادُ آتِي بها لقُرْبِها ، وأنشدوا قول ضابئ البرجمي :
3647- هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهُ
أي : وكدت أفعل . فالوقف على » أَكَادُ « والابتداء ب » أُخْفِيَها « ، واستحسنه أبو جعفر .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً : فقال : إنَّ ( كادَ ) نفيه إثبات وإثباته نفي ، قال تعالى : » وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون « ، أي : ففعلوا ذلك ، فقوله : » أكَادَ أُخْفِيَها « يقتضي أنه ما أخفاها .
وذلك باطل لوجهين :
أحدهما : لقوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ]
الثاني : إنَّ قوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار . ثم أجاب بوجوه : الأول : أنَّ « كَادَ » موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات ، فقوله : « أَكَادُ أُخْفِيها » معناه : قرب الأمر فيه من الإخفاء . وأمَّا أنَّه هل حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار .
الثاني : أنَّ « كَادَ » من الله : وجب ، فمعنى قوله : أَكَادُ أُخْفِيَها « أي : أنا أُخْفِيها عن الخلق ، كقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ] أي هو قريبٌ قاله الحسن . وذكر باقي التأويلات المتقدمة .
وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد : » أَخْفِيَها « بفتح الهمزة والمعنى : أظهرها بالتأويل المتقدم ، يقال : خَفَيْتُ الشيء : أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى . وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ وبمعنى سَتَرَ . وعلى هذا تتخذ ( القراءتان ) . ومن مجِئ خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس :
3648- خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ
( وقول الآخر :
3649- فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ ... وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ )
قال الزجاج : وهذه القراءة أبْيَنُ ، لأن معناها : أكادُ أَظْهِرُها ( فيفيد أنه قد أخفاها ) . والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت : أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية ، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز . قوله : » لِتُجْزَى « هذه لام كي ، وليست بمعنى القسم أي : لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم ، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها . وجعلها بعضهم متعلقة ب ( آتِيَةٌ ) ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن » أكَادُ أُخْفِيِهَا « معترضة بين المتعلق والمتعلق به ، أما إذا جعلتها صفة ( آتِيَةٌ ) فلا يتم على مذهب البصريين ، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز .
وقال أبو البقاء : وقيل : ب ( آتِيَةٌ ) ، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن ( أخفيها ) .
قوله : » بِمَا تَسْعَى « متعلق ب » لِتُجْزَى « . و » مَا « يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية ، ولا بد من مضاف ، أي : لِتُجْزَى بعقاب سعيها ، أو : بعقاب ما سعته .
فصل
لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه ، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي ، وهو المعنيُّ بقوله :
{ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] .
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل ، لأن ( الباءَ ) للإلصاق ، فقوله : « بِمَا تَسْعَى » يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة « .
قوله : » فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا « من لا يؤمن هو المنهي صورة ، والمراد غيره ، فهو من باب : لا أريَنَّك هَهُنَا . وقيل : إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب . والضميران في » عَنْهَا « و » بِهَا « للسَّاعة قاله ابن عباس : وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة . وقيل : للصلاة .
وقال أبو مسلم : الضمير في ( عَنْهَا ) للصَّلاة ، وفي ( بِهَا ) للسَّاعة ، قال : وهذا جائز في اللغة ، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه .
وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ( ههنا ) .
قوله : » فَتَرْدَى « يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار » أَنْ ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : فَأَنْتَ تَرْدَى .
وقرأ يحيى : « تَرْدَى » بكسر التاء ، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال : رَدِيَ يَرْدَى رَدّى ، قال دُرَيْد ( بن الصمة ) :
3650- تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً ... فَقُلْتُ أَعْبُدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
فصل
الخطابُ في قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يحتمل أن يكون مع موسى ، وأن يكون مع محمد - عليهما السلام- . والأقرب أنه مع موسى - عليه السلام- ، لأنَّ جميع الكلام خطاب له . وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج : إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره ، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ - عليه السلام- لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك ، وليس الأمر كما ظن ، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ، ( ويكون المراد ) هو وغيره . ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله : « فَلا يَصُدنَّكَ عَنْهَا » النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم .
فصل
المقصودُ نَهْيُ موسى - عليه السلام- عن التكذيب بالبعث ، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى- عليه السلام- وفيه وجهان :
أحدهما : أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب . ( ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين ، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب ) كقولهم : لاَ أضرَيَنَّكَ هَهُنَا .
المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا ، كأنه قيل : لا تكن رخواً بل كن في الدين شهيداً .
فصل
دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول ، لأن قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يرجع معناه إلى صلابته في الدين ، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق ، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل ، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِهِ .
( فصل )
قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون ، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّاد دونهم ، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر . وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم ( والداعي ) . ثم قال تعالى : « واتَّبَعَ هَوَاهُ » والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، لأن المقلّد متبعٌ للهوى ( لا للحجة ) ثم قال : « فَتَرْدَى » أي : فتهلك .
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب } الآية . ( مَا ) مبتدأة استفهامية و « تِلْكَ ) خبره ، و » بِيَمِينِكَ « متعلق بمحذوف ، لأنه حال كقوله : » وَهَذَا بَعْلِي شَيْخَاً « ، والعامل في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون ( تِلْكَ ) موصولة بمعنى ( التي ) و ( بِيَمِينِكَ ) صلتها . ولم يذكر ابنُ عطية غيره . وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا ( من أسماء ) الإشارة موصولاً ( إذَا ) بشروط تقدمت . وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها ، ومنه هذه الآية عندهم أي : وَمَا التي بيمينك وأنشدوا :
3651- نَجَوْتَ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ ... أي والذي تحملين .
وقال الفراء معناه : وَمَا هذِهِ التي فِي يمينِكَ .
فصل
السؤال إنما يكون لطلب العلم ، وهو على الله تعالى محال . فما فائدة قوله : » وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ « ؟
والجواب فيه فوائد ، الأولَى : حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا ، حتى إذا قلبها حية عَلِمَ أنها معجزةٌ عظيمةٌ ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره : هَلْ تَعْرِف هَذَا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه .
الثانية : أن يقرِّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها .
الثالثة : أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسْمَعَهُ كلام نفسه ، ثم أورد عليه التكليف الشاق ، وذكر له المعاد ، وختم ذلك بالتهديد العظيم ، فتحيَّر موسى - عليه السلام- ودُهِشَ ، ( فقيل له : » وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ « ، وتكلم معه بكلام البشر إزالةٌ لتلك الدهشة والحيرة ) .
فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة ، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضَل من محمد عليهما السلام .
فالجوابُ : أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله : » فَأَوْحَى إلَى عِبْدِهِ مَا أَ وْحَى « إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق . وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام : » المُصَلَّى يُنَاجَي رَبَّهُ « والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قوله : » هِيَ عَصَايَ « هِيَ يعودُ على المستفهم عنه .
وقرأ العامة » عَصَايَ « بفتح الياء . والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق » عَصِيَّ « بالقلب والإدغام . وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة ، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك .
وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً ( والحسن » عِصَاي « بكسر الياء لالتقاء الساكنين ، وعن أبي إسحاق ) » عِصَايْ « بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في » مَحْيَايَ « فجمع بين ساكنين وصلاً ، وقد تقدم الكلام هناك .
قوله : « أَتَوَكَّأُ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ل « هِيَ » ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ « عَصَايَ » وإمَّا مِنْ « الياء » وفيه بُعدٌ ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل ، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا .
ويجوز أن تكون مستأنفة . وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره : أن يكون « عَصَايَ » منصوبة بفعل مقدر ، و « أَتَوَكَّأُ » هو الخبر . ولا ينبغي أن يقال ذلك .
والتَّوكّؤُ : التحامُلُ على الشيء ، وهو بمعنى الاتِّكاء ، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة ، وذكر هنا ، لاختلاف وزنيها .
والهَشُّ بالمعجمية : الخَبْطُ ، يقال : هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي : خبطته ليسقط ، والمعنى : أَخْبِطُ بِهَا وَاَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ- بكسر العين في المضارع ، فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك ، فقيل : هو بمعنى : أَهُشُّ- بالضم- والمفعول محذوف في القراءتين أي : أهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل : هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشةً إذا مال . وقرأ وقرأ الحسن وعكرمة : « وأَهُسُّ » بضم الهاء والسين المهملة وهو السُّوْقُ ، ومنه الهَسُّ ( والهَسَّاسُ ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه ، ولكنه ضمَّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم ( وَأَهْوَنُ ) .
ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ « وأُهِسُّ » بضم الهمزة وكسر الهاء من ( أَهَسَّ ) رباعياً بالمهملة . ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة ، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائحِ عن مجاهد وعكرمة « وأهُشُ » بضم الهاء وتخفيف الشين ، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف ، وهي بمعنى قراءة العامة .
وقرأ بعضهم : « غَنَمِي » ( بسكون النون ) ، وقرئ « عَلَيَّ » بتشديد الياء والمْآرِبُ : جمع مَأْرُبَة ، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً . وفي ( راء ) المَأرُبَة الحركات الثلاث .
وإنما قال : « مَآرِب » في معنى جماعة ، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ، ولم يقل أخر لرؤوس الآي ( و « أُخْرَى » ) كقوله : « الأسْمَاءُ الحُسْنَى » وقد تقدَّم قريباً .
قال أبو البقاء : ولو قال : أخر لكان على اللفظ . يعني أُخَر كقوله : « فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر » بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع . ونقل الأهوازيّ عن شيبة والزهري : مَارِبُ « قال : بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ .
فصل
قيل : كما قال : » هِيَ عَصَايَ « فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الآخر ، لأنه كان يجب المكالمة مع ربه تعالى ، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض .
» أتَوكَّأُ عَلَيْهَا « التوَكُّؤْ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء ، أي أعتمد عليها إذا عييت ، أو وقفت على رأس القطيع » وأهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي « أي : أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم ( فتأكله ) .
« وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى » أي حوائج ومنافع ، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ( ذلك ) .
قال وهب : كانت ذا شعبتين ( ومحجن ، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن ، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ) . فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب ، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً .
وقيل : كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر ، وتصير شعبتاها دلواً ، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء ، وإذا رفعها نضب ، وكان تقيه الهوام قال مقاتل : كان اسمها نبعة .
وروي عن ابن عبَّاس : أنها كانت تماشيه وتحدثه .
قال الله تعالى : « ألْقِهَا يَا مُوسَى » أي انبذها .
قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا « فَألْقَاهَا » على وجه الأرض ثم ينظر إليها « فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى » صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرَس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، صارت شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز ، وعيناها متقدان كالنار ، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها ، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ، ويسمع لأسنانها ( صريف عظيم ) .
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون .
فصل
والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه :
أحدها : لتكون معجزةً لموسى -عليه السلام- يعرف بها نبوة نفسه ، لأنه عليه السلام -إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء . والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا انه لم يكن معجزاً ، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن ، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة .
الثاني : أنه تعالى عرضَها عليه ليشاهدوها أولاً ، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها .
وثالثها : أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمِنْصبِ العظيمِ فلعله بقي يتعجب من ذلك ، فقلب العصا حيَّةً تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك ، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين .
فإنْ قيل : كيف قال ههنا « حَيَّة » وفي موضع آخر « جَان » وهو الحية الخفية الصغيرة ، وقال في موضع « ثُعْبَانٌ » وهو أكبر ما يكون من الحيات؟
فالجواب : أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الجَانَّ فقيل : عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً .
وقيل : كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] .
( و « تسعى » ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة ل « حَيَّةً » فلما عاين موسى ذلك « وَلَّى مُدْبِراً » ، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي : « خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا » ( وهيبتها ) « الأُولَى » أي نردها عصا كما كانت . قوله : « سِيرَتَهَا » في نصبها أوجه :
أحدها : أن تكون منصوبةً على الظرف ، أي في سيرتها أي : طريقتها .
الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من « ها » « سَنُعِيدُهَا » بدل اشتمال لأن السيرة الصفة ، أي سنعيدها صفتها وشكلها .
الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه ، فيتعدى لمفعولين ، ومنه بيت زهير :
3652- وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ ... وهذا هو ( معنى قول من قال : إنه على إسقاط ( إلى ) و ) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم ، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة ( في ) إلا فيما ( شذ . والسيرَةُ ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب ، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة ، قال خالد الهذلي :
3653- فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا
وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر ، أي : يسير سيرتها الأولى ، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال؛ أي : سَنُعيدُهات سائرةً سيرتَهَا .
فإن قيل : لمَّا نوديَ يا موسَى ، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه -عليه السلام- ما شاهد مثل ذلك قط ، وهذا معلوم بدلائل العقول . قال أبو القاسم الأنصاري : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة .
وثانيها : خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها .
وثالثها : أن مجرد قوله « وَلاَ تَخَفْ » لا يدل على حصول الخوف كقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الأحزاب : 1 ، 48 ] لا يدل على وجود تلك الطاعة ، لكن قوله : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] يدل عليه .
فصل
قال المفسرون : كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان . فلما قال له : « خُذْهَا » لف طرف المَدْرَعَةِ على يده ، فأمره الله أن يكشف يده ، فكشف . وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً؟ فقال : لا ولكني ضعيف ، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ ، فكشف يده ، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ . واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر ، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر ، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت .
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قوله : { واضمم يَدَكَ إلى جناحكواضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } لا بد هنا من حذف والتقدير : واضمم يَدَك تنضم وأخرجها تخرج ، فحذف من الأول والثاني وأبقى مقابلهما ليدلان على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا ، لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج . وقوله : « بَيْضَاءَ » حال من فاعل تخرج .
قوله : « مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « تَخْرُج » وأن يكون متعلقاً ب « بَيْضَاءَ » لما فيها من معنى الفعل حو ابيضت من غير سوء . ( ويجوز ) أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في « بَيْضَاء » .
وقوله : : مِنْ غَيْرِ سُوءٍ « يسمى عند أهل البيان الاحتراس ، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم مَنْ يتوهم غير المراد ، وذلك أن البياض قد يراد به البَرَص والبَهَق فأتى بقوله : » مِنْ غَيْرِ سُوءٍ « نفياً لذلك .
قوله : » آيَةً « فيها أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً ، أعني أنها بدل من ب » بَيْضَاءَ « الواقعة حالاً .
الثاني : أنها حالٌ من الضمير في » بَيْضَاء « .
الثالث : أنها حالٌ من ( الضمير في ) الجار والمجرور .
والرابع : أنها منصوبة بفعل محذوف ، فقدره أبو البقاء : جعلنَاهَا آيَةً ، ( أو آتيناك ) آيةً . وقدره الزمخشري : خُذْ آيَةً ، وقدر أيضاً : دونك آية . ورد أبو حيان هذا ، لأن ذلك من باب الإغراء ، ولا يجوز إضمار الظروف في الإغراء . قال : لأن العامل حُذِف وناب هذا مكانه ، فلا يجوز أن يحذف النائب أيضاً ، وأيضاً فإن أحكامها تخالف العامل الصريح ، فلا يجوز إضمارها وإن جاز إضمارها وإن جاز إضمار الأفعال .
فصل
يقال لكل ناحيتين ، جَنَاحان كجناحي العسكر لطرفيه ، وجناحا الإنسان جانباه والصل المستعار منه جناحا الطائر ، لأنه يجنحها عند الطيران .
وجناحا الإنسان عَضُدَاه أي : اضمم يدّك إلى إبْطِكَ تخرج بيضاء نيرة مشرقة من غير سوء وعن ابن عباس : » إلى جَنَاحِكَ « أي إلى صدرك .
والأول أولى ، لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر ، ولأنه قال : » تَخْرُج بَيْضَاءَ « ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله » تَخْرُج « معنى . ومعنى ضم اليد إلى الجناح ما قاله في آية أخرى » وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ « ، لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان كأنه قد ضم يده إلى حناحه .
والسوءُ : الرداءة والقبح في كل شيء ، وكنّى عن البَرَص كما كنّى عن العورة بالسَّوْأَة ، والبرَرَص أبغضُ شيء إلى العرب ، فكان جديراً بأن يُكْنَى عنه بالسُّوء ، وكان عليه السلام شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه ، وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق ، وقيل : مثل الشمس ، من غير برص ، ثم إذا ردَّها عادت إلى لونها الأول .
« آيَةً أُخْرَى » دلالة على صدقك سوى العصا .
قوله : « لِنُريََكَ » متعلق بما دلَّت عليه « آيَةً » أي : دللنا بها لُنِرِيَكَ ، أو ب ( جَعَلْنَاهَا ) ، أو ب ( أتَيْنَاكَ ) المقدر . وقدره الزمخشري : لِنُرِيَكَ فِعْلَنا ذلك ، وجوَّز الحوفي أن يتعلق ب « اضْمُمْ » . وجوَّز غيرُه أن يتعلق ( بتَخْرُج ) . ولا يجوز أن يتعلق بلفظ آية ، لأنها قد وصفت . وقدره الزمخشري أيضاتً : لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآيةَ أيضاً .
قوله : « مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » .
يجوز أن يتعلق « مِنْ آيَاتِنَا » بمحذوف على أنه حال من « الكُبْرَى » حال كونها من آياتنا ، على هاذ مفعولاً ثانياً « لُنِريَكَ » والتقدير : « لُنِريَكَ المُبْرَى » حال كونها من آياتنا ، أي : بعض آياتنا ويجوز أن يكون المفعول الثاني نفس « مِنْ آيَاتِنَا » فيتعلق بمحذوف أيضاً ، و « الكُبْرَى » على هذه صفة ل « آيَاتِنَا » ووصف الجمع المؤنث غير العاقل وصف الواحد على حد « مَآربَ أُخْرَى » و « الأَسْمَاءُ الحُسْنَى » .
وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي ( وأبو البقاء ) واختار أبو حيَّان الثاني قال : لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته كلها هي الكبرى ، لأن ما كان بعض الآيات الكُبَر صدق عليه آية الكبرى ، لأنها هي المتصفة بأفْعَل التفضيل ، وأيضاً إذا جُعِلت « الكبرى » مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً ، إذ كان يلزم التثنية ، ولا جائز أن يخصَّ أحدهما بالوصف جون الأخرى ، لأن التفضيل في كل منهما .
فصل
قال المفسرون : قال : « لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » ولم يقل : الكُبَر لرؤوس الآي . وقيل : فيه إضمار معناه : لُنِرِيَكَ من آياتنا الآية الكبرى ويدل عليه قول ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته وهو قول الحسن قال : اليد أعظم في الإعجاز من العصا ، فإنه جعل « الكُبْرَى » مفعولاً ثانياً لنريك وجعل ذلك ( راجعاً للآية القريبة ، وقد ) ضُعِّفَ ذلك بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون ، ( وأما العصا ففيها تغير اللون ) وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والإعضاء المختلفة ، وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عاجت عصا بعد ذلك ، فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم .
وأما قوله : « لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام ، وأنه غير مختص باليد .
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قوله تعالى : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } لما أظهر له الآيات عقبها بأنْ أرمه بالذهاب إلى فرعون ، وبيَّن العلة في ذلك ، وهو أنه طغى ، وإنما خص فرعون بالذكر مع أنه بُعِثَ موسى إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبًّر ، وكان متبوعاً فكان ذكره أولى . ومعنى « طَغَى » جاوز الحد في العصيان والتمرد ، فبلِّغْهُ رسالتي وادْعُهُ إلى عبادتي وحذِّرْهُ نِقْمتي .
قال موسى : « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي » وسّعه للحق .
( قال ابن عباس ) : يريد حتى لا أخاف غيرك . والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } [ الشعراء : 13 ] وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفاً شديداً ، لشدة شوكته وكثرة جنوده ، وكان يضيق صدراً ( بما كُلِّفَ ) من مقاومة فرعون فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أن أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى ، وإذا علم ذلك لم يَخَفْ فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده .
( قوله : « لي ) صَدْرِي » متعلق ب « اشْرَحْ » ، قال الزمخشري : فإن قلت : ( لي ) في قوله : « اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي » ما جدواه والأمر مستتب بدونه . قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقال : « اشْرَحْ لِي » « وَيَسِّرْ لِي » فعلم أن ثَمَّ مشروحاً وميسراً ، ثم بين ورفه الإبهام بذكرهما ، فكان ىكد لطلب الشرح لصده ، والتيسير لأمره .
ويقال : يَسَّرْتُهُ لكذا ، ومنه « فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى » ويسرت له كذا ، ومنه هذه الآية .
قوله : « وَيَسِّرْ لِي أمْرِي » أي سَهِّل عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال ، والأقوال والحركات ، والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له ، فهذه الإرادة صفة محدثة ، ولا بد لها من فاعل ، وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم ففي الحقيقة هو الميسر للأمور .
قوله : « واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي » ، وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره ، فلطم فرعون لطمةً ، وأخذ بلحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : إن هذا عدوِّي وأراد أن يقتلهن فقالت آسية : إنه صبي لا يَعْقِل ولا يميز جَرِّبْه إن شئت ، فجاء بطشتين في أحدهما جمر ، والآخر جوهر ، فوضعهما بين يدي موسى ، فأراد أن يأخذ الجوهر ، فأخذ جبريل عيله السلام يد موسى فوضعها على النار ، فأخذ جمرة فوضعها في فيه ، فاحترق لسانه ، ( وصارت عليه عقدة ) .
وقيل : قرَّبا إليه ثمرةً وجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه .
[ قالوا ] : ولم تحترق اليد ، لأنها آلة أخذ العصا .
وقيل : كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته . واختلفوا في أنه لِمَ طلب حل العقدة؟ فقيل : لئلا يقع في خلل في أداء الوحي . وقيل : لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه . وقيل : لإظهار المعجزة كما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً في حقه ، فكذا إطلاق لسان موسى -عليه السلام- معجز في حقه .
فصل
قال الحسن : إن تلك العقدة زالت بالكلية ، لقوله تعالى : « قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى » ، وقيل : هذا ضعيف ، لأنه عليه السلام لم يقل : واحْلُلْ العقدة من لساني بل قال : « واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي » ، فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله ، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء لقوله حكاية عن فرعون « أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِين » مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن المراد بقوله : « وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ » أي لا يأتي ببيان وحجة .
والثاني : أن ( كَادَ ) بمعنى قَرُبَ . فلو كَانَ المراد هو البيان اللساني ، لكان معناه : أنه لا يقارب البيان ، فكان فيه نفي البيان بالكلية ، وذلك باطل ، لأنه خاطب فرعون وقومه ، وكانوا يفهموزن ، فكيف يمكن نفي البيان ، بل إنما قالوا ذلك تمويهاً ليصرفوا الوجوه عنه . واعلم أن النطق فضيلة عظيمة ، ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] ، ولهذا قيل للإنسان : هو الحيوان الناطق .
الثاني : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير :
3654- لِسَانُ الفَتَى نِصْفَ وَنصْفٌ فؤاده ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّّحْمِ وَالدَّمِ
وقالوا : ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة . أي لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم .
وقالوا : المَرْءُ بأصغريه أي قلبِه ولسانِه .
وقالوا : « المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ » .
الثالث : أن في مناظرة آدم -عليه السلام- مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال : { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض } [ البقرة : 33 ] .
قوله : « مِنْ لِسَانِي » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « عُقْدَة » أي : من عقد لساني ، ولم يذكر الزمخشري غيره . ويجوز أن يتعلق بنفس « احلُلْ » ، والأول أولى . قوله : « واجْعَلْ لِي وَزِيراً » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً مقدِّماً و « وَزِيراً » ويجوز أن يكون متعلقاً بالجعل ، و « هَارونَ » بدل من « وَزِيراً » وجوَّز أبو البقاء أن يكون « هَارُونَ » عطف بيان ل « وَزيراَ » . ولم يذكر الزمخشري غيره . ولما حكى أبو حيان هذا لم يعقبه بتنكير ، وهو عجب منه فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافق تعريفاً وتنكيراً ، وقد عرفت أن وزيراً نكرة ، وهارون معرفة .
والزمخشري قد تقدَّم له مثل ذلك في قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ، وتقدم الكلام معه هناك ، وهو عائد هنا .
ويجوز أن يكون « هارون » منصوباً بفعل محذوف كأنه قال : « أخصُّ من بينهم هارون من بين أهلي ويجوز أن يكون » وَزيراً « مفعولاً ثانياً و » هارُونَ « هو الأول ، وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة . وعلى هذا فقوله : » لِي « يجوز أن يتعلق بنفس الجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » وَزِيراً « مفعولاً أول ، و » مِنْ أهْلِي « هو الثاني . وقوله : » لِي « مثل قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] يعنون أنه به يتم المعنى . ذكر ذلك أبو البقاء .
ولما حكاه أبو حيان لم يعقبه بنكير ، وهو عجب ، لأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية ، وأنت لو ابتدأت بوزيرٍ وأخبرت عنه ب ( مِنْ أَهْلِي ) لم يجز ، إذ لا مسوِّغ للابتداء به . و » أَخشي « بدل أو عطف بيان ل » هَارُونَ « .
وقال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جازِ وحَسُن .
قال أبو حيَّان : ويبعُدُ فيه عطفُ البيان ، لأن عطف البيانِ الأكثر فيه أن يكون الأول دونه في الشهرة ، وهذا بالعكس .
قال شهاب الدين : لم يُرِد الزمخشري أنَّ » أَخِيط عطفُ بيان ل « هَارُونَ » حتى يقول الشيخ : إن الأول وهو « هَاروُنَ » أشهر من الثاني وهو « أخِي » ، إنما عنى الزمخشري أنه عطفٌ بيان أيضاً ل « وزيراً » ، ولذلك قال : آخر ، ولا بد من الإتيان بلفظه ليعرف أنه لم يرد إلا ما ذكرته .
قال : « وَزيراً » و هَارُونَ « مفعولاً قوله : : اجْعَلْ » ، أوْ « لي وَزِيراً : معفولاه ، و » هَارونَ « عطفُ بيان للوزير ، و » أخِي « في الوجهين بدل من » هَاروُنَ « ، وإن جعل عطف بيان آخر جازَ وحَسُنَ فقوله : ( آخر ) يُعَينُ أن يكون عطفَ بيان لما جُعِل عنه عطف بيان قبل ذلك .
وجوَّز الزمخشري ( في » أَخِي « ) أن يرتفع بالابتداء ، ويكون خبره الجملة من قوله : » اشْدُدْ بِهِ « ، وذلك على قراءة الجمهور له بصيغة الدعاء ، وعلى هذا فالوقف على » هَارُونَ « . وقرأ ابن عامر » أَشْدُد « للمضارعة ، وجزم الفعل جواباً للأمر ، » وَأُشْرِكْهُ « بضم الهمزة للمضارعة ، وجزم الفعل نسقاً على ما قبله حكاية عن موسى : أنا أفعل ذلك . وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول ، وفتح همزة القطع في الثاني على أنهما دعاء من موسى لربه بذلك ، وعلى هذه الجملة قد ترك فيها العطف خاصة دون ما تقدمها من جمل الدعاء وقرأ الحسن » أَشْدُدْ « مضارع شدد بالتشديد .
والوزير : قيل : مشتق من الوِزْر ، وهو الحبل الذي يحتضن به وهو الملجأ لقوله تعالى : « كَلاَّ لاَ وِزْرَاً » قال :
3655- مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهَا وَزَرٌ ... وَالنَّاسُ شَرُّهُمُ مَا دُونَهُ وَزَرُ
كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤذِهِمْ سَبْعٌ ... وَلاَ تَرَى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِم بَشَرُ
وقيل : من المُؤَازَرَةِ ، وهي المعاونة ، نقله الزمخشري عن الأصمعي قال : وكان القياس أَزيراً يعني بالهمزة ، لأن المادة كذلك ، قال الزمخشري : ( فقلبت ) : الهمزة إلى الواو ، ووجع قبلها إليها أنَّ فَعِيلاً جاء بمعنى مُفَاعِل مجيئا صالحاً كقولهم : عَشِيرِ ، وجَلِيسِ ، وخَلِيط وصَدِيق ، وخَلِيل ، ونَدِيم فلما قلبت في أخيه وإلى المؤازرة . يعني أن وزيراً بمعنى مُؤَازر ، ومُؤازر تقلب فيه الهمزة واواً قليلة قياساً ، لأنها همزة مفتوحة بعد ضمة فهو نظير مُؤَجَّل ويُؤاخذكم وشبهه ، فَحُمِلَ أَزير عليه في القلب ، وإنْ لم يكن فيه سبب القلب . والمُؤازرة مأخوذةٌ من إزار الرجل ، وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل متعب .
فصل
اعلم أن طلبَ الوزير إما أنه خاف على نفسه العجزَ عن القيام بذلك الأمر فطلب المُعين ، أو لآنه رأى أنَّ التعاونَ على الدين والتظاهرَ عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة قربةٌ عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى ، ولذلك قال عيسى ابن مريم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } [ آل عمران : 52 ] ، وقال لمحمد عليه السلام { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وقال عليه السلام : « إنَّ لِي في السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ ، وَفِي الأَرْضِ وَزِيرَيْن فاللَّذانَ فِي السَّماءِ جِبْريلُ وميكائيلُ ( عليهما السلام ) وّاللَّذانِ في الأرض أبو بكرٍ وَعمَرُ ( رضي الله عنهما » ) « .
وقال عليه السلام : » إذَا أَرَادَ اللهُ بِمَلِكٍ خيراً قَيَّضَ اللهُ لَُ وَزِيراً صَالِحاً إنْ نَسِيَ ذكَّره ، وإنْ نَوَى خَيْراً أعانَه ، وإنْ أَرَادَ شَرَّاً كَفَّهُ « وقال أنوشروان : لاَ يَسْتَغْنِي أجودُ السيوف عن الصقي ، ولا أكرمُ الدوابَّ عن السَّوْط ( ولا أعلمُ الملوك عن الوزير ) . وأراد موسى - عليه السلام- أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه ، وأن يكون أخاه هارون ، والسببُ فيه إما لأن التعاونَ على الدين منفعة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا بأهله ، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه .
وكان هارونُ أكبرَ سناً من موسى بأربع سنين ، وكان أفصحَ منه لساناً ، وأجملَ وأوسمَ أبيض اللون ، وكان موسى آدم اللون أقْنَى جَعْداً .
و » اشْدُدْ بِهِ ( أزري ) قَوِّ ) ظَهْري ، « وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » في النبوة . والأَزْرُ القوة ، وَآزَرَهُ : قَوَّاه . وقال أبو عبيدة : أَزْرِي : ظَهْرِي . وفي كتاب الخليل : الأَزْرُ الظَّهرُ .
ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال : « كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراًط قال الكلبي : نُصَلِّي لكَ كثيراً ، ونحمدكُ ، ونثني عليك .
والتَّسبيحُ : تنزيهُ اللهِ تعالى في ذاته وصفاته عمَّا لا يليق به . » وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً « أي : نصفُك بصفاتِ الجَلالِ والكِبْرِيَاء .
قوله : » كَثِيراً « نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون نعتاً لزمان محذوف ، أي : زماناً كثيراً .
قوله : » إنَّك كُنْتَ بِنَا بَصيراً « أي عالِماً بأنَّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهَك ورضاك ، أو بصيراً بأنَّ الاستعانةَ بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليه ، أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأَعْطِنَا ما هو أصلح لنا .
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
قوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك : خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول ، ولا ينقاس و « مَرَّةً » مصدر ، و « أُخْرَى » تأنيث آخر بمعنى : غير ، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمَّها أخرَى وهي أولَى ، لأنها أخرى في الذكر .
فصل
إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية ، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه ( لا يتم إلا بإجابته إليها ، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به ) فقال : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } فنبه بذلك على أمور :
أحدها : كأنه تعالى قال : إني رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال .
وثانيها : إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان ، فكيف يليق بكرمي .
وثالثها : إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه ، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية ، وهي درجة النبوة ، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب . ومعنى « مَنَنَّا عَلَيْكَ » أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ « مَرَّةً أُخْرَى » فإن قيل : لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟
فالجواب : إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها ، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان .
فإن قيل : لم ثال : « مَرَّةٌ أُخْرَى » مع أنه تعالى ذكر « مِنَنَاً » كثيرة؟
فالجواب : لَمْ يُعْنِ ب « مَرَّةٌ أُخْرَى » مرة واحدة من المنن ، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير .
قوله : « إذْ أَوْحَيْنَا » العامل في « إذِ مَنَنا » أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك ، وأبهَمَ في قوله : « مَا يُوحَى » للتعظيم كقوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] وهذا وحي إلهام ، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام- ما كانت من الأنبياء ، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة ، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] .
والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 11 ] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه :
الأول : أنه رؤيا رأتها أم موسى ، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت ، وقذفه في البحر ، وأن الله تعالى يرده إليها .
الثاني : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة .
الثالث : المراد منه خطور البال وغلبته على القلب .
فإن قيل : الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك ، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها ، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقع الولد في يد فرعون ، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره ، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة ، أو مراسلة .
واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحجقها الخوف . وأجيب : ذلك الخوف كان من لوازم البشرية ، كما أن موسى - عليه السلام- كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى- كان أمره بالذهاب إليه مروراً .
الرابع من الأوجه : لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب - عليهم السلام- أخبروا بذلك الخبر ، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه . أو لعل الله بَعَثَ إليها مَلَكَاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] .
وأما قوله : « مَا يُوحى » معناه : أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحى ، وإنما وجب ذلك الوحي ، لأن الواقعة عظيمة ، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي ، فكان الوحي فيها واجباً .
قوله : « أَن اقْذِفِيهِ » يجوز أن تكون « أَنْ » مفسِّرة ، لأن الوحي بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وجوز غيره أن تكون مصدرية ، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من « مَا يُوحَى » والضمائر في ( قوله : « أن ) اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا عائدة على موسى - عليه السلام- لأنه المحدِّث عنه .
وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله : { فاقذفيه فِي اليم } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى - عليه السلام- وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم ، فإن قلت : المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر ، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر .
قال أبو حيَّان : ولقائلٍ أن يقول : إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد ، كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا ، فعوده على التابوت في قوله : { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم } راجح ، والجواب : أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى : » فَإنَّه رِجْسٌ « عائد على ( خِنْزِير ) لا على ( لَحْم ) ، لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه ، وغضروفه وعظمه وجلده ، فإن المحدِّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير .
وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام .
قوله : « فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ » هذا أمر معناه الخبر ، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله « يَأْخُذُه » ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها ، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر ، ويتمثل رسمه فقيل : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } . و « بالسَّاحِلِ » يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال . أي : ملتبساً بالسَّاحل . وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( في ) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع ، ومنه قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] واليَمُّ البحر ، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ ( في قول الجميع ) واليَمُّ : اسم يقع على النهر والبحر العظيم .
قال الكسائي : والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول ، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي : يغمره إلى أعره « .
فصل
روي أنها اتخذت تابوتاً .
قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً ، ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسَه ، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قال ابن عباس : أَحّبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه .
وقال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه .
فإن قيل : قوله : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له .
فالجواب : من وجهين :
الأول : كونُه كافراً عدواً لله ، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام- ، فإنه بحيث أو ظهر له على حاله لقتله .
والثاني : عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته .
قوله : » مِنِّي « فيه وجهان : قال الزمخشري : » مِنِّي « لا يخلو إما أن يتعلق ب » أَلْقَيْتُ « فيكون المعنى : على أني أحببتك ، ومن أحبه الله أحبته القلوب .
وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل » مَحَبَّةٌ « أي : محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب ، وزرعتها فيها ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } [ القصص : 9 ] . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه ، وهو كقوله - تعالى- :
{ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] قال القاضي : هذا الوجه أقرب ، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب .
فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة يستحلى ويغتبط به ، وكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته . ( ويمكن أن يقال ) بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار ، وهو أن يقال : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ حاصلةٌ مِنِّي وواقعة بتخليقي ، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار .
وأما قوله : إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله . فممنوع ، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده ، وهذا المعنى كان حاصلاً ي حقه في زمان صباه ، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره ، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة . قوله : « وَلِتُصْنَع » قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول ، ونصب الفعل بإضمار ( أنْ ) بعد لام ( كي ) ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها .
والتقدير : ليتلطف بك ولتصنع ، ( أو ليعطف عليك ) . وترأم ولتصنع ، وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله : « وَأَلْقِيْتُ » أي : ألقيت عليك المحبة ( ليعطف عليك ولتصنع ، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّةِ ) .
والثاني : أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها ، تقديره : ولتصنع على عيني فعلت ذلك ، أي : ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي ، أو كان كيت وكيت .
ومعنى « وَلِتُصْنَعَ » أي لِتُرَبِّى ويُحْسِن إلَيْكَ ، وأنا مراعيك ، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به . قال الزمخشري .
ومجاز هذا أنَّ مَنْ صنعَ للإنسانِ شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا . وفي كيفية المجاز قولان :
الأول : المراد من العَيْنِ العلم ، أي تُرَبَّى على علم مِنِّي ، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم ( لاشتباههما ) من هذا الوجه .
الثاني : المراد من العَيْنِ الحراسة ، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده ، فالعين كأنها سبب الحراسة ، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] . ويقال : عَيْنُ الله عليك ، إذا دعا له بالحفظ ( والحياطة ) .
وقرأ الحسن وأبو نهيك : « وَلِتصْنَعَ » بفتح التاء .
( قال ثعلب ) : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني .
وقال قريباً منه الزمخشري .
وقال أبو البقاء : أي : لتفعل ما آمرك بمرأى مني . وقرأ أبو جعفر وشيبة « وَلْتُصْنَعْ » بسكون اللام والعين وضم التاء ، ( وهو أمر معناه : لتُربِّ وليُحْسَن إليك ) . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر .
ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حال تسكين العين أن تكون لام كي ، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد ، والفعل منصوب ، والتسكين في العين لأجل الإدغام لأنه لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط .
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قوله : « إذ تَمْشِي » ( في عامل هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنَّ العامل فيه « أَلْقِيَتُ » ، أي : ألقيتُ عليكَ محبَّةٌ منِّي وقت مشي أختِك .
الثاني : أنه منصوب بقوله : « وَلِتُصْنَع » ، أي : لتربَّى ويُحسنَ إليك في هذا الوقت : قال الزمخشري : والعامل في « إذ تَمْشِي » « أَلْقَيْتُ » أو « لِتُصْنَعَ » وقال أبو البقاء : « إذْ تَمْشِي » يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين . يعني بالفعلين ما تقدم من « أَلْقِيْتُ » أو « لِتُصْنَعَ » ) . وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى ، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهذا إنما يتجه كل الاتجاه إذا جعلت « وَلِتُصْنَعَ » معطوفاً على علة محذوفة متعلقة ب « أُلْقِيْتُ » .
أما إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك ، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى .
الثالث : أن يكون « إذْ تَمْشِي » بدلاً من « إذْ أَوْحَيْنَا » .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لَقيتُ فَلاناً سَنَةَ كذا ، فتقول : وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاك ، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها . قال أبو حيان : وليس كما ذكره ، لأن السنة تقبل الاتساع ، فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين ، فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه ، فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت ، فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة .
قال شهاب الدين : وهذا تحامل منه عليه ، فإن زمن اللقاء أيضاً ضيق لا يسع فعليهما ، وإنما ذلك مبني على التساهل ، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون بدلاً من ( إذ ) الأولى : لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه .
يعني أن قوله : « إذْ أَوْحَيْنَا » منصوب بقوله : ( « مَنَنَّ » ) فإذا جُعِلَ « إذْ تَمْشِي » بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه .
الرابع : أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره : اذكر إذ تَمْشِي ، وهو على هذا مفعول به ( لفساد المعنى على الظرفية ) .
قوله : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ } ( اسمها مريم ) .
يروي أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل ، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، لأن الله - تعالى- حرَّم عليه المراضع غير أمه واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته متعرفة خبره ، فجاءت إليهم متنكرة فقالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } أي على امرأة ترضعه؟ قالوا نعم : فجاءت الأم ، فَقَِبِلَ ثديها ، فذلك قوله : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك .
قوله : { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } . قرأ العامة « تَقَرَّ » بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة : « تَقِرَّ » بكسر القاف ، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان .
وقرأ جناح بن حبيش « تُقَرَّ » بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول « عَيْنُها » رفعاً لما لم يسم فاعله .
فإن قيل : ( لو قال ) : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها ، فلما قال أولاً { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } كان قوله « وَلاَ تَحزَن » فضلاً ، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة .
فالجواب : المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها ، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك . قوله : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } ، وهذه المنّة الخامسة . قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن ( وكزه ) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه ، فحصل له الغم من وجهين :
الأول : من عقاب الدنيا ، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه { فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] .
والثاني : من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله . فنجاه الله- تعالى- من الغمين ، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين ، وأما من عقاب الآخرة ( فلأن الله تعالى غفر له ذلك ) . ( قال كعب الأحبار : كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ) .
قوله : « فُتُوناً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس ، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر ، كقوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
والثاني : أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة ، أي : فَتناكَ ضروباً من الفتن . عن ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان ، وألقته أنه في البحر ، وقَتَل البطيَّ ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين ، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة . ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم ، وصار يقول عند كل واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير ، قال معناه الزمخشري .
وقال غيره : بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها ، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ ، ثمو تناولت الجملة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ ، وخروجه إلى مدين خائفاً .
فعلى هذا معنى : فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه .
فإن قيل : إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام ، فكيف يليق بهذا قوله : « وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : ما تقدم من أنَّ « فَتَنَّاكَ » بمعنى خلصناك تخليصاً .
والثاني : أن الفتنة تشديد المحنة يقال : فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه . قال تعالى : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] ، وقال : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وقال : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم .
فإن قيل : هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله : « وفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب : لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب ، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي .
قوله : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ } والتقدير : « وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى : { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } [ القصص : 27 ] وقال وهب : لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته .
ويرده قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ } [ القصص : 29 ] الأجل المشروط عيله في تزويجه .
ومَدْيَن : بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر .
قوله : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « جِئْتَ » أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك ، كذا قدره أبو البقاء ، وهو تفسير معنى ، والتفسير الصناعي : ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين ، كقول الآخر :
3656- نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ
ولا بد من حذف في الكلام ، أي : على قدر أمر من الأمور .
وقال محمد بن كعب : جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل : كان موعداً ( في تقدير الله .
وقال عبد الرحمن بن كيسان : كان على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الذي ) يوحي فيه إلى الأنبياء . وهذا قول أكثر المفسرين ، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
قوله : { واصطنعتك لِنَفْسِي } ( أي اخترتُك واصطفيتُك افتعال من الصنع لوحيي ورسالتي . وأبدلت التاء طاء ) ، لأجل حرف الاستعلاء .
وهذا مجازٌ عن قرب منزلته ، ودنوه من ربه ، لأن أحداً لا يصطنع إلا من يختاره .
قال القفال : واصطنعتُكَ أصله من قولهم : اصطنع فلانٌ فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال : هذا صنيعُ فلانٍ وجريحُ فلانٍ . وقوله : « لِنَفْسِي » أي : لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به ، وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي ، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك .
وقال الزجاج : اخترُكَ لأمري ، وجعلتك القائم بحجتي ، والمخاطب بيني وبين خلقي : كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم .
قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا } لما قال : { واصطنعتك لِنَفْسِي } عقبه بذكر ما له اصطنعته ، وهو الإبلاغ والأداء ، و « الياء » في « بِآيَاتِي » بمعنى ( مع ) ، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان ، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد .
قال ابن عباس : يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى . وقيل : إنها العصا واليد ، لأنهما اللذان جرى دكرهما في هذا الموضع ، ولم يذكر أنه -عليه السلام- أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الأعراف : 106- 108 ] ، وقال : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [ القصص : 32 ] .
فإن قيل : كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن العصا كانت آيات ، انقلابُها حيواناً ، ثم إنها كانت في أول الأمر صغيرة ، لقوله تعالى : { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى ، ثم كانت تنقلب عصا وهذه آية أخرى ، وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشُعَاعَها آية أخرى ، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى ، فدل ذلك على أنهما كانتا آيات كثيرة .
وثانيها : هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات ، لأن انقلابها حيةً يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ، ويدل على نبوة موسى ، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً ، فهذه آيات كثيرة ، ولذلك قال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } [ آل عمران : 96 ] . . . إلى قوله . . . { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] فهاهنا أولى .
وثالثها : قال بعضهم : أقل الجمع اثنان .
وقيل : معنى قوله : « بِآيَاتِي » أمُدكُّما بآياتي ، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه ، والمعنى : فإن آياتي معكما كما يقال : اذهب فإن جندي معك أي : إنِّي أمدك بهم من احتجت .
وقيل : الآيات : العصا ، واليد ، وحل العقدة من لسانه ، وذلك أيضاً معجزة .
قوله : « وَلاَ تَنِيَا » يقال : « وَنَى يَنِيَ وَنْيَاً كَوَعَد يَعِدُ وَعْداً ، إذا فَتَرَ .
والوَنْيُ الفُتُور ، ومنه : امرَأةٌ أَنَاةٌ ، وصفوها بفتور القيام كناية عن ضخامتها . قال زهير :
3657- مَنَّا الأَنَاةُ وَبَعْضُ القَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ وفي إبْطَائِنَا سِرْعُ
بكسر السين وفتح الراء مصدر ( سَرُع ) بفتح السين وضم الراء .
تقول : سَرُعَ سِرَعاً كصَغُرَ صِغَراً .
والأصل : ونَاةٌ ، فأبدلوا الهمزة من الواو كأحَد وليس بالقياس ، وفي الحديث : » إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ والأَنَاةُ « .
والوَانِي : المقصِّر في أمره ، قال الشاعر :
3658- فَمَا اَنَا بالوَانِي وَلاَ الضَّرْع الغُمْرِ ... ووَنَى فعلٌ لازم يتَعَدى وزعم بعضهم أنه يكون من أخوات ( زال وانفك ) فيعمل بشرط النفي أو شبهه عمل ( كان ) ، فيقال : » مَا وَنِيَ زيدٌ قائماً ، وأنشد ابن مالك شاهداً على ذلك قوله :
3659- لاَ يَنشي الحُبُّ شِيمَةَ الحُبِّ مَا دَا ... مَ فَلاَ يَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ
أي : لا يزال الحُبُّ بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي : بكسرها وهو المحب . ومن منع ذلك يتأول البيت على حذف حرف الجر ، لأنَّ هذا الفعل يتعدى تارة ب ( عَنْ ) وتارة ب ( في ) يقال : ما ونَيْتُ عن حاجتك ، أو : في حاجتك فالتقدير : لا يفتر الحب في شيمة المحب ، وفيه مجاز بليغ وقد عدي في الآية الكريمة ب ( في ) .
قرأ يحيى بن وثَّاب « وَلاَ تِنِيَا » بكسر التاء إتباعاً لحركة النون ، وسكن الياء في « ذِكْرِي » .
وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو « لِنَفْسِيَ اذْهَبْ » ذِكْرِي اذْهَبَا « و { إِنَّ قَوْمِيَ اتخذوا } و { مِن بَعْدِيَ اسمه } بفتح الياء فيهن وافقهم أبو بكر في { مِن بَعْدِيَ اسمه } .
وقرأ الآخرون بإسكانها .
والمراد بالذكر تبليغ الرسالة . وقيل : لا تفترا عن ذكر الله . ( والحكمة فيه ) أنَّ مَنْ ذكر جلالَ الله استخف غيره ، فلا يخاف أحداً ، ويقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصوده ، ومن ذكر الله فلا بد وأن يكون ذاكراً إحسانه ( وذاكرُ إحسانه ) لا يفتر في أداء أوامره .
وقيل : لاَ تَنِيَا في ذِكْرِي عند فرعون ، وكيفية الذكر أن يذكرا لفرعون وقومه أنَّ الله تعالى لا يرضى منهم الكفر ، ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } ذكر المذهوب إليه في قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } وحذفه في الأول في قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] اختصاراً في الكلام .
وقال القفال : فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد ، فقيل مرة أخرى : « اذْهَبَا » ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر .
والثاني : أن قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } [ طه : 42 ] أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ، ثم قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } أمر بالذهاب إلى فرعون وحده .
قيل : وهذا فيه بُعْدٌ ، بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وهو فرعون ، وقد حذف من كل الذهابين ما أثبته في الآخر ، وذلك أنه حذف المذهوب إليه من الأول وأثبته في الثاني ، وحذف المذهوب به ، وهو « بِآيَاتِي » من الثاني وأثبته في الأول .
فإن قيل : قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } خطاب من موسى وهارون ، ( وهارون عليه السلام ) لم يكن حاضراً هناك ، وكذا في قوله تعالى : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] وأجاب القفال بوجوه :
أحدها : أن الكلام كام مع موسى إلا انه كان متبوع هارون ، فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون ، ( وكلام هارون ) على سبيل التقدير بالخطاب في تلك الحالة ، وإن كان مع موسى -عليه السلام- وحده ، إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقوله : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] روي أن القائل هو عبد الله ابن أُبَيِّ وحده .
وثانيها : يحتمل أن الله تعالى لمَّا قال : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] سكت حتى لقي أخاه ، ثم إن الله -تعالى- خاطبهما بقوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } .
وثالثها : حكي في مصحف ابن مسعود « قال رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُُ » أي أنَا وأخي .
قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } قرأ أبو معاذ « قَوْلاً لَيْناً » وهو تخفيف من لَيِّن كَمَيْت في ميِّت .
وقوله : « لَعَلَّهُ » فيه أوجه :
أحدها : أن « لَعَلَّ » على بابها للترجي ، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون ، أي اذهبا على رجائكماوطمعكما في إيمانه أي اذهبا مترجَيْن طامعَيْن ، وهذا معنى قول الزمخشري ولا يستفقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى ، إذ هو عالم بعواقب الأمور . وعن سيبويه : كل ما ورد في القرآن من ( لَعَلَّ ، وَعَسَى ) فهو من عند الله واجب . يعني أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى .
والثاني : أنَّ « لَعَلَّ » بمعنى ( كَيْ ) فتفيد العلية ، وهذا قول الفراء قال : كما تقول : اعْمَلْ لَعَلَّكَ تأخذُ أجرَكَ ، أي : كي تأخذَ .
والثالث : أنها استفهامية ، أي : هل يتذكر أو يخشى؟
وهذا قول ساقط ، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى كما يستحيل الترجي ، فإذا كان لا بد من التأويل فجَعْلُ اللفظ على مدلوله باقياً أولى من إخراجه عنه .
فإن قيل : لِمَ أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه قد ربَّى موسى -عليه السلام- فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق ، وهاذ تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين .
والثاني : أنَّ من عادة الجبابرة إذا غُلِّظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبُّراً .
والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر ، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق .
قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } أي يتعظ ويخاف .
فصل
اختلفوا في ذلك القول اللين ، فقال ابن عباس : لا تعنِّفا في قولكما .
وقال السُّدِّي وعكرمة : كَنَّياه ، فقولا : يا أبا العباس . وقيل : يا أبا الوليد .
وقال مقاتل : القول الليِّن : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى } [ النازعات : 18- 19 ] ، وقولهما : { فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] إلى قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
وقال السدي : القول اللِّين ان موسى اتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم ، ومُلْكاً لا ينزعُ منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعم ، والمشرب ، والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة . فأعجبه ذلك ، وكان لا يقطع أمراً دون هامان ، وكان غائباً ، فلما قَدِم أخبره بالذي دعاه إليه موسى ، قال : أردتُ أنْ أقبل مِنْه . فقال له هامان : كنت أرى عقلاً ورأياً ، أنت ربٌّ تريد أن تكون مربوباً ، وأنت تُعْبَدُ تريدُ أن تَعْبُدَ ، فقلبه عن رأيه .
فصل
قال ابن الخطيب : هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله ، فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان ، وإذا كان عالماً بذلك ، فكيف أمر موسى بذلك الرفق ، وكيف بالغ في الأمر بتلطف دعوته إلى الله -تعالى- مع علمه باستحالة حصول ذلك منه؟ ثم هَبْ أن المعتزلة ينازعون في هذا الانتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ، ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأن لا يحصل ذلك الإيمان ، وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى -عليه السلام- إلا استحقاق العذاب ، والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً من عَلِمَ قَطعاً أنه يمزق به بطن نفسه ، ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه؟ يا أخي : العقولُ قاصرةٌ عن معرفة هذه الأسرار ، ولا سبيل فيها إلا التسليم ، وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة « فَقُولاَ لَهُ قََوْلاً لَيِّناً وسَأقْسي قلبَه فلا يؤمن » .
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
قوله : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } قد تقدم أن هارون لم يكن حاضراً هناك ، فكيف قال : { قَالاَ رَبَّنَآ } وتقدم جوابه .
فإن قيل : إن موسى -عليه السلام- قال : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي } [ طه : 25 ] وأجابه ( الله تعالى ) بقوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وهذا يدل أنه شرح صدره ، ويسر ، وعيّن له ذلك الأمر ، فكيف قال بعده : « إنَّنَا نَخَافُ » ، فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر ، فالجواب : أن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السَّهو تلك والتحريف ، وذلك شيء آخر غير زوال الخوف . فإن قيل : أما علم موسى وهارون -عليهما السلام- وقد حمَّلهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل .
فالجواب قد أمِنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما من قبل الأداء أو بعده ، وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه ، وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما في قوله تعالى : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] .
فإن قيل : لمَّا تكرر الأمر من الله -تعالى- بالذهاب ، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية؟
فالجواب : إن اقتضى الأمر الفور كان كذلك من أقوى الدلائل على المعصية ، لا سيما وقد أكثر الله -تعالى- من أنواع التشريف ، وتقوية القلب ، وإزالة الغم ، ولكن الأمر ليس على الفور ، فزال السؤال ، وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل .
قوله : « أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » مفعول « يَخَافُ » ، ويقال : فَرَطَ يَفْرُط سبق وتقدم ، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وفرس فرط تسبق الخيل ، أي : نَخَاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . قاله الزمخشري . ومن ورود الفارط بمعنى المتقدم على الواردة قول الشاعر :
3660- وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كمَا تَقَدَّم فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
وفي الحديث : « أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ » أي سابقكم ومتقدمكم .
وقرأ يحيى بن وثاب وابن محيصن وأبو نوفل « يُفْرَط » بضم حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول ، والمعنى : خافَا أن يسبق في العقوبة أي يحمله حامل عليها وعلى المعاجلة بها إما قومه وإما الشيطان وإما حبه الرياسة ، وإما ادعاؤه الإلهية .
وقرأ ابن محيصن في رواية الزعفراني : « أن يُفْرِط » بضم المضارعة وكسر الراء من أفرط .
قال الزمخشري : من افرَطَهُ غيره ، إذا حمله على العجلة خَافَا ان يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب .
وقال كعب بن زهير :
3661- تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عضنْهُ وَأفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
أي سبقت هذه البيض لتملاه .
وفاعل يفرط ضمير فرعون ، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أن لا يعدل عنه ، وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلام عليهن فقال : فيجوز أن يكون التقدير : أن يَفْرُط علينا منه قولٌ فأضمر القول لدلالة الحال عليه كما تقول : فَرَط منِّي قول ، وأن يكون الفاعل ضمير فرعون كما كان في « يَطْغَى » .
فصل
قال ابن عباس : « يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » يعجل علينا بالقتل والعقوبة . يقال : فَرَطَ عَلَيْنَا فلان إذا عجل بمكروه ، وفَرَط منه أي بدر وسبق { أَوْ أَن يطغى } يجاوز الحد بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك . واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه لأعذار يذكرها فلا بد أن يختم كلامه بما هو الأقوى ، كما أن الهُدْهُدَ ختم عذره بقوله : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } [ النمل : 24 ] ، فكذا هاهنا بدأ موسى بقوله { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } ، وختم بقوله { أَوْ أَن يطغى } لما كان طغيانه في حق الله -تعالى- أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون .
قوله : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان ، لأن ذلك هو المفهوم من الكلام ، لأنه -تعالى- لم يؤمنهما من الرد ، ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة وقوله : « إِنَّنِي مَعَكُمَآ » أي : بالحراسة والحفظ وقوله : « أَسْمَعُ وأرى » قال ابن عباس : اسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما .
وقال القفال : ( قوله : أَسْمَعُ وَأَرَى ) قال ابن عباس : اسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما .
وقال القفال : ( قوله : « أسْمَعُ وَأرَى » يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله { يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } { أَوْ أَن يطغى } بأن لا يسمع منّا « يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » بأن يقتلنا ، فقال الله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ } كلامكما فأسخّره للاستماع منكما ، « وَأَرَى » أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن مفعول ) ( أسْمَعُ وَأَرَى ) محذوف ، فقيل : تقديره : أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما .
وعن ابن عباس : أسمع جوابه لكما ( وَأَرَى مَا يُفْعَل بِكُمَا ) .
أو يكون من حذف الاقتصار ، نحو « يحيي ويُميت » .
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قوله : « فَأتِيَاهُ » أعاد التكليف المتقدم فقال : { فأتِيَاهُ فَقُولاَ لَهُ } وذلك أنه تعالى قال أولاًَ { اذهب إلى فِرْعَوْنَ } [ طه : 24 ] وثانياً قال : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] وقال ثالثاً : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } [ طه : 43 ] . ورابعاً ( قال هاهنا « فَأتِيَاهُ » ) .
فإن قيل : إنه تعالى أمرهما بأن يقولا له « قَوْلاً لَيِّناً » ، وهاهنا أمرهما بأن يقولا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } وفي هذا تغليظ من وجوه :
الأول : « إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ » ) وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما ، وذلك يعظم على الملك المتبوع .
والثاني : قوله : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } فيه إدخال النقص على ملكه ، لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال وأيضا : أمرهم بالإرسال يقتضي وجوب الطاعة والانقياد فيصير تحت أمرهم .
والثالث : نهيهم له بقولهم : « وَلاَ تُعَذِّبهُمْ » .
والرابع : قوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } .
فما الفائدة في القول اللين أولاً والتغليظ ثانياً؟
فالجواب : أن الإنسان إذا أظهر اللجاجة فلا بد له من التغليظ .
فإن قيل : أليس أن الأولى أن يقولا إنا رَسُولاَ رَبِّكَ قَدْ جئنَاكَ بآيةٍ فأرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُم ، فإن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه؟
فالجواب : بل هذا أولى ، لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجز .
قوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } قال الزمخشري : هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا بينتهما التي هي مجيء الآية .
فإن قيل : إن الله تعالى أعطاه آيتين ، وهما العصا واليد ثم قال : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } [ طه : 42 ] ، وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } ، وذلك يدل على أنها كانت واحدة ( فكيف الجمع ) ؟
أجال القفال : بأن معنى الآية هاهنا الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال : جئْنَاك ببيان من عند الله . ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة .
وقال غيره : المراد في هذا الموضوع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال :
قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعينا من الرسالة كقوله : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 105 ] ، وقوله : { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 106 ] وقوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 30 ] .
وتقدم الجواب عن التثنية والجمع ، وأن في العصا واليد آيات .
قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } يحتمل أن يكون تسليماً منهما ولم يؤمرا به ، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قال بعضهم : إنَّ ( عَلَى ) بمعنى ( اللام ) أي والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى : { لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ الرعد : 25 ] أي : عليهم اللعنة ، وقال تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] وقال :
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] .
وهذا وعد منهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام والسلام بمعنى السلامة ، كما يقال : رضاع ورضاعة .
وقيل : هذا من كلام الله تعالى كأنه قال : « فَقُولاَ إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ وَقُولاَ لَهُ والسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى » ، وليس المراد منه التحية إنما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم .
قوله : « أرسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائيلَ » خلِّ عنهم وأطلقهم عن أعمالك « وَلاَ تُعَذِّبهُم » لا تتعبهم في العمل ، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة .
قوله تعالى : { لْعَذَابَ على مَن كَذَّبَ وتولى } هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم ، لأن الألف واللام للاستغراق ، أو الإفادة ( الماهية ، وعلى ) التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس في « من كذب وتولى ) فوجب أن لا تحصل لغير المكذب المتولي .
وظاهر هذه الآية يقتضي بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات ، فجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام ، ولأن العقاب المتناهي إذا حصل بعد السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يجسن مع حصول ذلك القجر أن يقال : إنه لا عقاب .
وأيضاً فقوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى ، إذا فسَّرنا السلام بالسلامة . والعارف بالله قد اتبع الهدى ، فوجب أن يكون صاحب السلامة . ومعنى الآية : إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه .
قوله : » أنَّ العَذَابَ « » أنَّ « وما في خبرها في محل رفع لقيامه الفاعل الذي حذف في » أُوْحِيَ إِلَيْنَا « بنائه للمفعول ( خوفاً أن يبدر من فرعون بادرة لمن أوحي لو سمياه فطويا ذكره تعظيماً له واستهانة بالمخاطب ) .
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
قوله : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } وحده بعد مخاطبته لهما معاً إمَّا لأنَّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرُّتَّة التي في لسان موسى ، ويعلم فصاحة هارون بدليل قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] وقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] فأراد استنطاقه دون أخيه .
وإما لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون وقاله أبو البقاء وبدأ به . وقد يقال : حَسَّنَ الحذف كون موسى فاصلة ، لا يقال : كان يغني في ذلك أن يقدم هارون ويؤخر موسى فيقال : يا هارون وموسى فتحصل مجانسة الفواصل من غير حذف ، لأن نداء موسى أهم فهو المبدوء به . واعلم أن في الكلام حذف ، لأنه لما قال { فَأْتِيَاهُ فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } [ طه : 47 ] إلى قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] أمر من الله تعالى لموسى بأن يقول لفرعون ذلك الكلام والتقدير : فَذَهبا إلى فرعون فقالا له ذلك فقال مجيباً لهما من رَبُّكما؟
قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } في هذه الآية وجهان :
أحدهما : أن يكون « كُلُّ شَيْءٍ » مفعول أول و « خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه التي تطابق المنفعو المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه ، وكذلك اليد والرجل واللسان . قاله مجاهد . أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين ، والناقة والبعير ، والرجل والمرأة ، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه ، ولا ما هو مخالف لخلقه .
( وقيل : المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ ، أي هو الذي ابتدعه ) .
وقيل : المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان ، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا بالعكس ، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً .
الثاني : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً و « خَلْقَه » هو الأول فقدَّم الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به .
وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله « خَلَقَهُ » بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء . وهذا معنى قول الزمخشري : صفة المضاف يعني « كُلّ » ( أو للمضاف إليه يعني « شَيْء » ) ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه . أي : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله ، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار ) ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه .
فصل
اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به ، ولم يؤذه ، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة ، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى -عليه السلام- عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال ، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع ، وذلك يدل على فساد التقليد ، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول ، لأن موسى -عليه السلام- اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول . ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل ، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله ، وحكى شبهات منكري النبوة ، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال ( كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك ) .
ودلت الآية على ان المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش ، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا ، ولقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] ، وقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] .
فصل
قال بعضهم : إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً وتجبراً ، لقوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض } [ الإسراء : 102 ] فيمن نصب التاء في « عَلِمْتَ » كان ذلك خطاباً لموسى -عليه السلام- مع فرعون ، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك ، وقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه ، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر ، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر ، ولأن قول موسى -عليه السلام- { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } يقتضي ذلك ، لأن كلمة « الَّذِي » تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب . وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ ، ولم يبلغ الشام ، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين } [ القصص : 31 ] ، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم؟
وقال آخرون : إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه .
واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر ، وأنه خالقُ نفسه ، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله ، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها .
واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى ، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر ، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة ، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة ، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له .
فصل
قال هاهنا : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } ، وقال في سورة الشعراء : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ 23 ] ، وهو سؤال عن الماهية ، فهما سؤالان مختلفان ، والواقعة واحدة ، والأقرب أن يقال : سؤال « مَنْ » كان مقدماً على سؤال « مَا » ، لأنه كان يقول : أنا اللهُ والرَّبُّ ، فقال : « فَمَنْ رَبُّكُما » ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود ، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام ، لظهوره وجلائه ، عدل إلى طلب الماهية ، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله ، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره؛ وشرع في المقام الصعب ، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر .
قوله : « قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا » ولم يقل : « فَمَن إلَهُكُمَا » لأنه أثبت نفسه رباً في قوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] ، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر ، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قال نمروذ : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى -عليه السلام- ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ، أي : أنا الرَّبُّ الذي ربيتك ، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ .
فصل
استدل موسى عليه السلام- على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وهو قوله : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد -عليه السلام- في قوله : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 1 ، 2 ، 3 ] وقال إبراهيم -عليه السلام- : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 77 ، 78 ] .
واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان ، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام ، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى أن قال : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] .
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة :
أحدها : أنَّ الطبيعي يقول : الثقيل هابط ، والخفيف صاعد ، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء ، وأخفها النار ثم الهواء ، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر ، وهما أيْبَسُ ما في البدن ، وهما بمنزلة الأرض ، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء ، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب ، وهي بمنزلة النار ، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى ، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة .
وثانيها : أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها ، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات .
وثالثها : أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم ، والمشروب ، والملبوس ، والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال ، واللآلئ من البحار ، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ، ويجمعون بين الأشياء المختلفة ، ويستخرجون لذائذ الأطعمة ، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان ، فأعطى الإنسان إنسانةً ، والحمار حمارةً ، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل ، وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غيب مختص بالحيوانات ، بل هو حاصل في أعضائها ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيه قوة الأخذ ، وخلق الرَّجل على تركيب خاص ، وأودع فيها قوَّة المشي ، وكذا العين ، والأذن ، وجميع الأعضاء ، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان .
وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع ، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى ، فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجِّح ، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان ، ولا قواه ، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه ، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان ، لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل؛ فلا بد وأن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر ، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً ، لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر ، والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل ، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية ، وبعضها بالحيوانية؟
فثبت أن المؤثر والمدبر قادر ، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وصفاته ، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان واجب الوجود في قادريته وعالميتهن والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض ، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً ، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً ، فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى وقررها احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات ، قادر على كل المقدورات ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى .
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قوله : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } البال : الفكر ، يقال : خطر بباله كذا ، ولا يثنى ولا يجمعن وشذ جمعه على بالات ، ويقال للحال المكترث بها ، وكذلك يقال : ما بَالَيتُ بالة ، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً .
فصل
قال المفسرون : البَالُ ، الحالُ ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود .
وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه :
الأول : أنَّ موسى -عليه السلام- لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون : إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } ما أثبتوه بل تركوه ، فكأن موسى -عليه السلام- لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله : إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها . فعارض الحجة بالتقليد .
الثاني : أنَّ موسى -عليه السلام- لما هدده بالعذاب في قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] قال فرعون : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } فإنها كذبت ولم يعذبوا؟
الثالث : وهو الأظهر ، وأن فرعون لما قال : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] فذكر موسى -عليه السلام- دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة ، فيظهر للناس صدقه ، وفساد طريق فرعون ، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ، ويشغله بالحكايات فقال : { فَمَا بَالُ القرون الأولى } فلم يلتفت موسى -عليه السلام- إلى ذلك الحديث وقال : عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ « ولا يتعلق غرضي بأحوالهم ، ولا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول ، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم .
فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب ، كيف يكون في الكتاب؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به ، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول ، فذكروا في الجواب وجهين :
الأول : معناه : أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : » فِي كِتَابٍ « يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب ، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أولالأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة؟
الوجه الثاني : أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب ، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه ، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } .
وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله ، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ .
قوله : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر هذا المبتدأ وجوه :
أحدها : أنَّه « عِندَ رَبِّي » وعلى هذا فقوله : « فِي كِتَابٍ » متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبر ثان .
الثاني : أن الخبر قوله : { عِندَ رَبِّي } ، فَعَلى هذا قوله : { فِي كِتَابٍ } معمول للاستقرار الذي تعلق به « في كتاب » كما تقدم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً ، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي ، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وقوله :
3662- رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ ... فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ
وقال بعض النحويين : إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عندالأخفش وغيره ، وهذا منه ، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكون حالاً من المضاف إليه ، وهو الضمير في « عِلْمُهَا » ولا يجوز أن يكون « فِي كِتَابٍ » متعلقاً ب « عِلْمُهَا » على قولنا : إنَّ « عِنْدَ رَبِّي » الخبر ، كما جاز تعلق « عِنْدَ » بِهِ ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته .
الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ . والضمير في « عِلْمُهَا » فيه وجهان : أظهرهما : عوده على « القُرُونِ » والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر « القُرُونِ » على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم ، والبعث يدل على يوم القيامة .
قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها في محل جر صفة ل « كِتَاب » ، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي ، أو لا يضل حفظَه رَبِّي ، ف « رَبِّي » ، فاعل « يَضِلُّ » على هذا التقدير .
وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي ، فيكون في « يَضِلُّ » ضمير يعود على الكتاب ، و « رَبِّي » منصوب على التعظيم ، وكان الأصل عن ربي ، فحذف الرحف اتساعاً .
يقال : ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح .
والثاني : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب -ساقها الله- تعالى- لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى .
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة « لا يَضِلُّ » بضم الياء ، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ ، أي : لا يضيعُه ، يقال : أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و « رَبِّي » فاعل على هذا التقدير .
وقيل : تقديره : لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه ، أي من علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم . وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ ، فقال : ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف ، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف ، نقل ذلك الرماني عن العرب .
وقال الفراء : يقال : ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت في مكانه ، وَضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتد له كقوله : ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ، ولا يقال : أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها .
قوله : « وَلاَ يَنْسَى » في فاعل « يَنْسَى » قولان :
أحدهما : أنه عائد على « رَبِّي » أي : ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب .
والثاني : أن الفاعل ضمير عائد على « الكِتَابِ » على سبيل المجاز كما أسند إليه الإحصاء مجازاً في قوله : « إلا أحْصَاهَا » لما كان محلاً للإحصاء .
فصل
قال مجاهد في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } : إن معنى اللفظين واحد أي : لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه . وفرق الأكثرون بينهما ، فقال القفال : لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها ، وما عُلِم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات ، وقوله : « وَلاَ يَنْسَى » دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير .
وقال مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي ، ولا يَنْسَى ما فيه .
( وقال الحسن : لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمرو : وأصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى : لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
وقال ابن جرير : لا يُخطئ في التدبير ، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً ، وإذا عرفه لا ينساه ) . وكلها متقاربة ، والتحقيق هو الأول . واعلم أن فرعون لمَّا سال موسى عن الإله فقال : « فَمَنْ رَبُّكُمَا » وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال ، أجاب بالصواب بأوجز عبارة ، وأحسن معنى ، ولما سأله عن القُرون الأولى ، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبرمن ذلك ، وكلها إلى عالم الغُيوب .
قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } في هذا الموصول وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أو منصوب بإضمار أمدح ، وهو على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى ، وإنما احتجنا إلى ذلك ، لأن قوله : « فَأَخْرَجْنَا بِهِ » وقوله : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } وقوله : « مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ » إلى قوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يتأتى أن يكون من كلام موسى يعني : أنه وصف ربَّه تعالى بذلك ، ثم التفت إلى الإخبار عن الله -تعالى- بلفظ التكلم؟
قيل : إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول ، لأت المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه الالفتات المذكور وأخواته من كلام الله .
والثاني : أن « الَّذِي » صفة ل « رَبِّي » ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب « رَبِّي » . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله : « فَأخْرَجْنَا » وأخواته من عدم جواز الالتفات ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشريي والحوفي . وقال ابن عطية : إن كلام موسى تم عند قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } وأن قوله : « فَأخْرَجْنَا » إلى آخره من كلام الله تعالى . وفيه وقرأ الكوفيون « مَهْداً » بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف . والباقون : « مَهَاداً » بكسر الميم وفتح الحاء وألف بعدها . وفيه وجهان :
أحدهما : ثال المفضل : إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً .
والثاني : أنهما مخلفان ، فالمِهَادُ هو الاسم ، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش ، فالفَرْش المصدر ، والفراش اسم لما يُفْرَش . أو أن مِهَاداً جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ وكَعْب وكِعَاب . ووصف الأرض بالمَهْد إما مبالغة ، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ .
قال أبو عبيد : الذي اختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل .
وقال غيره : المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاشِ .
أجاب أبو عبيد : بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ فعل .
قوله : « شَتَّى » فَعْلَى ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع الشَّتيت نحو مَرْضَى في جميع مَرِيض ، وجَرْحَى في جمع جَرِيح ، وقتلى في جمع قتيل .
يقال : شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ أي تفرق ، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى : افْتَرَقَ ، ولذلك لا يكتفي بواحد . وفي « شَتَّى » أوجه :
أحدها : أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج ، أي أزواجاً متفرقة ، بمعنى مختلفة الألوان ( والطعوم ) .
والثاني : أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج ، وجاز مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة ، وهي « مِنْ نَبَاتٍ » .
الثالث : أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار ، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً فاعلاً .
الرابع : أنه في محل جر نعتاً لنبات ، قال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة لنبات ، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت ، واستوى فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم ووافقه أبو البقاء أيضاً ، والظاهر الأول .
قوله : « كُلُوا » منصوب بقول محذوف ، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل « أخْرَجْنَا » تقديره : فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا .
وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى : « وَكُلُوا واشْرَبُوا » « وارْعُوا » ( رعى ) يكون لازماً ومتعدياً ، يقال : رَعَى دابَّته رعياً فهو راع ، ورعى الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية ، وَجَاء في الآية متعدياً ، و « النُّهَى » فيه قولان : أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة .
والثاني : أنَّها اسمٌ مفرد ، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى ، قاله أبو عليّ وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على « فُعَلٍ » من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى ، وأن بعضهم زاد لُقَى ، وأنشد عليه بيتاً .
وهذا لفظ فيكون خامساً . والنُّهَى : العقل سُمِّي لعقل به ، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح .
فصل
لما ذكر موسى -عليه السلام- الدلالة الأولى ، وهي ( دِلاَلَةٌ عامَّة « تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال : » الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً « أي جعلها بحيث يتصرف العباد ، وغيرهم عليها من النوم ، والقُعُود ، والقِيَام ، والزراعة ، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] .
{ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } السَّلْكُ : إدخال الشيء في الشيء ، أي : أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها .
قال ابن عباس : سَهَّل لكم فيها طرقاً . { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } تقدم الكلام فيه في البقرة » فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً « تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره : يقول ربِّي الذي دعل كذا وكذا » فأخْرَجْنَا « نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة » أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ « .
وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى ، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى -عليه السلام- ، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة ، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام ، فثبت أنه كلام الله تعالى .
وقوله : » أزْوَاجاً « أي أصنافاً سميت بذلك ، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض . » شَتَّى « مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .
» كُلُوا « أمر إباحة . » وَارْعَوْا أنْعَامَكُمْ « تقول العرب : رَعَيْتُ الغنمِ فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى . » إنَّ في ذَلِكَ « أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم » لآيَاتٍ « لعبرة ودلالات . » لأُولِي النُّهَى « لذوي العقول .
( قال الضحَّاك ) » لأُولِي النُّهَى « الذي ينتهون عما حرم الله عليهم .
وقال قتادة : لذَوِي الورع .
قوله تعالى : » مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « الآية ، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها ، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة ، فقال : » مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « أي من الأرض .
فإن قيل : إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم -عليه السلام- من تُرابٍ كما قال تعالى : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] حسن إطلاق ذلك علينا .
الثاني : أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث ، وهما يتولدَّان من الأغذية ، والغذاء إما حيواني أو نباتي ، والحيواني ينتهي إلى النباتي ، والنبات إنما يحدث من المتزاج الماء والتراب ، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا ، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة .
الثالث : روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه ، والأرض التي يُدْفَن فيها ، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ، ثم يدخلها في الرحم . ثم قال : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي عند الموت ، { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } عند البعث .