كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

قولُه تعالى : { الحمد للَّهِ } .
الحمدُ : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ .
يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارح ، إذ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير .
يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسانِ ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] .
37- أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً ... يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه .
وقيل : الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم : « الحمدُ لِلَّهِ شُكراً » .
وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق .
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ .
وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله ] فالحامدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة .
وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ -وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن .
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله -تعالى- ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك .
ولقائلٍ : أَنْ يقولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الرَّاغِبُ : « الحَمْدُ لله » : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ ، وصَبَاحةِ وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ .
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه :
أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ .
الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان .
الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : « احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ » . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال -عليه الصلاة والسلام- : « مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ »
الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل .
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ .
وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك .

وقال الرَّاغِبُ -رحمه الله- : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً .
ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ .
واحمدُ أَيْ : أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ .
والألفُ : واللام في « الحَمْد » قِيل : للاستغراقِ .
وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
38- . . ... إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنسِ .
والصلُ في « الحَمْدِ » المصدريّة؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ .
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على « أَفْعُل » ؛ وأنشد : [ الطويل ]
39- وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ ... بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي
وقرأ الجُمْهُورُ : « الحَمْدُ للهِ » برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة .
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لله .
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ ، فلا أَقَلُّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : « خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ » وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ « يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ] ؛ لأنَّ » إذا « الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيَّا ، فكان اعتباره أوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ] .
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ]
40 ... - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ ... وأما قولُه تبارك وتَعَالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين . وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من » الحَمْد « ، وفيه وجهان :
أظهرُهُما : انه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار : » حمداً ، وشكراً لا كُفْراً « والتقدير : » أَحمد الله حمداً « ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ .

وقال الطَّبريُّ -رحمه الله تعالى- : « إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّهُ قال : » قولوا : الحَمْد للهِ « وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إيَّاكَ » .
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه .
والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ . وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء -رحمهم الله- : إن جوابَ إِبْرَاهيمَ -عليه الصلاة والسّلام- في قوله تَعَالَى حكايةً عنه : { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة : { قَالُواْ سَلاَماً } [ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .
و « لله » على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : « سُقْياً له ورَعياً لك » تقديرُه : « أَعْنِي له ولك » ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ « لَهُمْ » لا يتعلَّقُ ب « تَعْساً » كما مَرَّ .
ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في « سُقياً لك » ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده .
وقُرىءَ : -أَيْضاً- بِكَسْرِ الدَّال ، وجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ « تَمِيم » ، وبَعْضِ « غَطَفَان » ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجانسِ . ومنه : [ الطويل ]
41- .. اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه ، [ البسيط ]
42 ... - وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً
وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ ... الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللَّامَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : « وَيْلِمِّهَا » .
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : « وَيْلُمِّهَا » بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ]
43- وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ
ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ .
قرىء أيضاً : « لُلَّهِ » بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُوا : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ « قَيْس » ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : « مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ » بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرىء :

{ مُرُدفين } [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ .
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في « الحَمْدِ للهِ » .
ومعنى لام الجَرِّ -هنا- الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله -تعالى- ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي :
المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْليكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها .
والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ .
والتعليلُ : نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ النساء : 105 ] ، والتبليغُ : نحو : قُلْتُ لَكَ .
والتبليغُ : نحو قلتُ لك .
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله : [ البسيط ]
44- للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ
والتَّبيِينُ نحو قولِه تَعَالَى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] .
والصيرورةُ : نحو قولِهِ تَعَالَى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى « فِي » : كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أَوْ بِمَعْنَى « عِنْدَ » : كقولِهم : « كَتَبُتُهُ لِخَمْسٍ » ، أيْ : عِنْدَ خَمْسٍ ، أَوْ بِمَعْنَى « بَعْدَ » : كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أيْ : بَعْدَ دُلُوكها .
والانتهاءُ : كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .
والاستعلاءُ : نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] .
وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] [ وإذا ] كان العامِلُ فرعاً ، نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] .
وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [ الوافر ]
45- فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَليلاً ... أَنَخْنَا لِلكَلاَكِلِ فَارتَمَيْنَا
وأما قولُه تَعَالَى : { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقِيل : على التَّضْمِينِ ، وقِيلَ : هي زَائِدَةٌ .
ومن الناسِ مَنْ قال : تقديرُ الكَلام : قُولُوا : الحمد لله .
قال ابنُ الخَطِيب : -رحمه الله تعالى- : وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصارُ إليه ليصحّ الكلامُ ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكلامِ ، والدليل عليه : أن قوله -تعالى- « الحَمْدُ للهِ » إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقَّا [ لله تعالى ] وملكاً له ، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه ، فلا حاجةَ إلى الإضمار .
وأيضاً فإن قولَه : « الحمد لله » يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته ، وبحسبِ أَفْعَالِه ، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه .
قال ابنُ الخَطِيب : رحمه الله تعالى- : « الحَمْدُ للهِ ثمانيةُ أَحْرُفٍ ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [ أبواب ] ، فمن قال : » الحمد لله « بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية » والله أعلم .
فَصْلٌ
تمسَّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى : « الحمدُ للهِ » أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه : الأولُ : اَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ اشْرَفَ وأَكْمَل ، وكانت النعمةُ الصادِرةُ عنه أَعْلَى وأفضل ، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ ، فلو كان الإيمانُ فِعلاً للعبد ، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له ، ولما لم يكنْ كذلك ، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله -تعالى- لا بِخَلْقِ العَبْدِ .

الثاني : أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم : : الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ « ؛ باطلاً ، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لاَ يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] .
الثالثُ : أّن قوله تعالى : » الحمدُ للهِ « يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله ، وانه لَيْسَ لِغَيْرِ الله -تعالى- حَمْدٌ أَصْلاً ، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى ، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم ، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى .
الرابعُ : أَن قولَه : » الحَمد لله « مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بينَ الخَلْقِ ، فلما بدأ كتابَهُ بمدح النفْسِ ، دلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ ، وذلك يدلُّ على أنه -تبارك وتعالى- مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ .
الخامسُ : عند المعتزلةِ أفعالُه -تعالى- يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً ، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ ، وإلا كان عبثاً ، وذلك في حقه تعالى محالٌ ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [ أن تَكُونَ ] واجِبةً ، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ .
أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب ، والعوض إلى المُكَلَّفِين .
وأما الذي يكونُ من باب التفضل ، فهو مثلُ أنَّه يزيدُ على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ .
فنقولُ : هذا يَقْدّحُ في كونه -تعالى- مستحقاً للحمد ، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا : الحمدُ لله .
وتقريرهُ أن نقولَ : أما أداةُ الواجِباتِ ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارِ ، فادّاه ، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً ، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [ له ] عن الذَّمِّ ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد .
وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ ، لما حَصَل له الحمدُ ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع مِنْ كونه -تعالى- مُسْتحقاً للحمدِ والمدح .
السَّادسُ : قولُه : الحمدُ لله يدلُّ على أنه -تعالى- محمودٌ ، فنقولُ : استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْرا ثابتاً لذاتِه ، فإن كان الأوّل ، امتنَع ثُبوتُه لغيره ، فامتنع -أيضاً- أن يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه ، فوجب ألاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوابِ ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة .
وأمّا القسم الثَّاني -وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ- فنقول : فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُستكملاً بغيره ، وذلك على الله -تعالى- محالٌ .
أما قول المعتزلة : إنَّ قَوْلَهُ : » الحَمْدُ لله « لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ ، ولا جَورَ في قَضِيَّتِهِ ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ ، وعندنا أنَ الله -تعالى- كذلك؛ فكان مُسْتَحِقَّاً لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح .

أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه ، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه ، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر ، ثم يعذبُه عليه ، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا ، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟
وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله -تعالى- بسب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقُّهُ على العبدِ ، أَوْ عَلَى نفسه ، فغن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ .
وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ ، قالوا : فثبت أَنَّ القولَ لا يصحُّ إلا على قولنا .
فَصْل هل وجب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟
اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ .
مِنَ الناس مَنْ قال : إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ ، لقوله تبارك وتعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولقوله تبارك وتعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
ومِنْهم من قال : إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى : « الحَمدُ للهِ » وبيانه من وجوه :
الأولُ : أَن قولَه تعالى : « الحمدُ لله » يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ ، وملكُه على الإطْلاَقِ ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع .
الثاني : أنه تعالى قال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ؛ وقد ثَبَتَ في [ أصُول ] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوصف ، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه ، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمينِ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم ، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ -لله تعالى- في كل الأوقات ، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي ، أو بعده .
فصل
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : تَحميدُ اللهِ -تعالى- ليس عبارةً عن قَوْلِنا : الحمدُ للهِ ، إخبارٌ عن كُلِّ فِعْلٍ عن كُلِّ فِعلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعِماً ، وذلك الفعل : إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ ، أو فعل اللِّسان ، أوْ فِعلِ الجوارح .
أمَّا فعلُ القلبِ : فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُفاً بصفات الكمالِ والإجْلاَل .
وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [ والإجلال ] .
[ وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال ] .
واعلم أن أهل العلم -رحمهم الله- افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً :
فمنهم مَنْ قال : إنه لا يجوزُ عقلاً أن يأمرَ الله عَبِيدَه بان يَحْمَدُوه ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأولُ : أن ذلك التحميدَ ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم ، أَوْ لا بِنَاءَ عليه ، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه -تعالى- طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً ، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة .

وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً ، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ .
الثاني : قالُوا : إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره ، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً .
الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ ، لَعَاقَبْتُكَ ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ ، ولو تركته [ لعاقبتك ] أَبَدَ الآبادِ ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم .
والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله -تعالى- سُوءُ أَدَبٍ من وجوه :
الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ .
والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ .
والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله -تعالى- عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم ، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده ، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ ، وحظُّ النَّفسِ ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ .
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها ، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى : { وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وغَيْرِه .
فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة ، قُلْنَا : نُسلِّمُ ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به .
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع ، فقال اللهُ تعالى : { فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] .
قولُه تَعَالَى : { رَبِّ العالمين } .
الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ ، والمَالِكُ ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه : [ الطويل ]
46- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
والمُصْلِحُ ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ؛ وأنشد القائل : [ الكامل ]
47- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ ... بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ
والظاهِرُ أَنَّهُ -هنا- بمعنى المَالِك ، فليس هو معنى زائداً .
وقيل : يكون بمعنى الخَالِقِ .
واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟
فمنهم من قال : [ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى « مُرَبٍّ » ] ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه . [ فمنهم من قال ] : هو على « فَعِل » كقولك : « نَمَّ- يَنِمُّ- فهو نَمٌّ » من النّمام ، بمعنى غَمَّاز .
وقيل : وزنه « فَاعِل » ، وأصلُه : « رَابٌّ » ، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم : رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ .

ولقائلٍ أن يقولَ : لا نسلم أن « بَرَّ » مأخوذ من « بَارّ » بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ « ربَّا » أصله « رابٌّ » .
ومنهم مَنْ : قال إنه مَصْدرٌ « رَبَّهُ -يَرُبُّهُ -رَبَّاً » أي : مَلَكَهُ .
قال : « لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ » .
فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : « رجل عَدْل وصَوْم » .
ولا يُطْلقُ على غَيْرِ الباري -تعالى- إلاّ بقيد إضافةٍ ، نحو قوله تعالى : { ارجع إلى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : « هو رَبُّ الدَّارِ ، ورَبُّ البَعِير » ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ : [ الخفيف ]
48- وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ
وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ .
وقرأ الجمهورُ : « رَبِّ » مجروراً على النعتِ « لله » ، أو البَدَلِ منه .
وقرِئَ مَنْصوباً ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ :
إمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ ، تقدِيرُه : « أحمد ربُّ العالمين » .
أو على القطع من التبعية ، أو على النِّداءِ وهذا أضعفُهَا ، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف .
وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية ، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذّوفٍ ، أيْ : « هُوَ رَبُّ » وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ فنقول :
اعلم أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته ، وكان الوصفُ مَدْحَاً ، أو ذماً ، أو ترحُّما- جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ .
والقطعُ : إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرَّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإ مَحْذُوفٍ ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ ، ولا هذا المبتدإ ، نحو قولِهم : « الحَمْدُ لله أَهْلُ الحَمْدِ » رُوِيَ بنصبِ « أهْل » ورفعِه ، أيْ : أعني أَهْلَ ، أو هو أَهلُ الحمدِ .
وإِذا تكررتِ النُّعوتُ ، والحالةُ هذه ، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه :
إما إتباعُ الجَميعِ ، أو قَطْعُ الجَميع ، أوْ قَطْعُ البَعْضِ ، وإتباعُ البَعْضِ .
إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ ، نحو : « مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ » ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ .
و « العَالَمِينَ » خَفْضٌ بالإضافَةِ ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه ، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل « عَالَم » مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره ، فيزولَ المحذْورُ المذكور؟
وأُجِيبَ عنه : بأنه لَوْ جاز ذلك ، لَجَازَ أَنْ يُقالَ : « شَيْئُون » جَمْعُ « شَيءٍ » مُرَاداً به العاقل دون غيره ، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك .
وفي الجواب نَظَرٌ ، إذْ لِقائل أنْ يقول : شيئون « منع منه مانِعٌ آخرُ ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً ، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ » عَالَمِين « مراداً به العاقل .

ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضى الله تعالى عنهما- أنَّ « عَالَمِين » إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ .
وقال الراغِبُ أيضاً : « إنَّ العَالَم في الأصلِ اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ » وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه .
وقال الرَّاغبُ أيضاً : « إنَّ العَالَم في الأصل لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ » وجُعِلَ بناؤه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانِعه .
وقال الرَّاغِبُ : أيضاً : « وأما جمعُه جَمْعُ السَّلامةِ ، فلكون الناس في جُمْلَتِهِم ، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللَّفظِ غَلَبَ حُكْمُ » ، فظاهر هذا أَنَّ « العَالَمِين » يطلق على العُقَلاء وغَيْرِه ، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء ، كما زعم بعضُهم ، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ .
فصل في وجوه تربية الله لعبده
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : « وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، ونحن نذكر منها أمثله :
الأولُ : لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً ، ثم مُضْغَةً ثانيةً ، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ ، مثلُ العِظَامِ ، والغَضَارِيفِ ، والرّبَاطَاتِ ، والأَوْتَارِ ، والأوردَةِ ، والشرايِين ، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ ، ثمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى ، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ ، والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ »! .
والثَّاني : أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها ، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها ، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب .
أما الشق الأعلى ، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً ، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ ، واللطافة ، وهي القُشُور ، واللّبوبُ ، ثم الأدهان .
وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياع منعقدة ، ومع غايةِ لُطْفِها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قُوى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها ، والحكمةُ في كلِّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ ، والإدام ، والفواكه ، والأشربةِ ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } [ عبس : 25 ، 26 ] .
فَصْلٌ
اختلفوا في { العالمين } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ » ؛ قال الله تعالى :

{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
وقال قتادةُ : والحَسَنُ ، ومُجَاهِدٌ -رضي الله تعالى عنهم- : « جميعُ المخلوقينَ » ؛ قال تبارك وتعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 23-24 ] .
واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ ، سُمُّوا بذلك؛ لظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم .
قال أَبُو عُبَيد -رحمه الله تعالى- : هم أرْبَعُ أُمَم : والإنسُ ، والجِنُّ ، والشَّيَاطِينُ ، مُشْتَقٌّ من العلم ، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ .
واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم .
قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب -رضي الله عنه- : « للهِ ألْفُ عَالَمٍ : سِتُّمائةٍ في البَحْرِ ، وأربعمائة في البرِ » .
وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان -رضي الله عنه- : « ثَمانُونَ أَلْفاً ، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ ، وأربعونَ ألفا في البَرِّ » .
وقال وَهْبٌ -رضي الله عنه- : « لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ ، الدّنيا منها ، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسطاطٍ في صَحْراء » .
وقال كَعْبُ الحبارِ -رضي الله عنه- : « لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ -عز وجل- » ؛ قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

قوله تعالى : { الرحمن الرحيم }
نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ -وقرئا منصوبين ، ومَرْفُوعَيْنِ ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في : { رَبِّ العالمين } ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في « البَسْمَلَةِ » فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه .
قوله تعالى : { مالك يَوْمِ الدين }
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً ، أوْ بَدَلاًَ ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مُشْتَقٌّ من « المُلْك » -بفتح الميم- وهو : الشَّدُّ والرَّبْطُ ، قال الشاعرُ في ذلك : [ الطويل ]
49- مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
ومنه : إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ ، ورَبْطٌ ، للِّنِكاحِ .
وقُرِىءَ : « مَالِك » بالألَفِ .
قال الأَخْفَش -رحمه الله تعالى- يُقال : مَلِك بَيَّنُ المُلْكِ -بضم الميم ، و « مَالِك » من « المَلِكِ » بفتح الميم وكسرها .
ورُويَ ضمُّها -أيضاً- بهذا المعنى .
وروي عن العربِ : « لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ » مُثَلَّثُ الفاء ، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ :
فالمفْتُوح : الشَّدُّ والرَّبْطُ .
والمضْمُومُ : هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطَاعَةُ ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه ، والمقصور : هو التَّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه ، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه .
وقال الرَّاغِبُ : المِلْكُ أي « بالكَسْرِ » كالجِنْسُ للملك ، أي « بالضَّم » فكُلُّ مِلْكٍ « بالكسر » ملك ، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً ، فعلى هذا يكُونُ بينما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك ، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنَ المُلْكِ بالضمِ ومالِكا مأخوذ من المِلك « بالكَسْرِ » وقيل : إنَّ الفرقَ بينهما : أنَّ المَلِكَ : اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة ، إِمَّا في نَفْسِه ، بِالتمكُّنِ مِنْ زمام ِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا .
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ .
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَائَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى ، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب -رحمه الله تعالى- أنه قال : إِذَا اخْتَلَفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السَّبعةِ ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَابَاً على إعراب في القرآنِ ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ ، فصَّلْتُ الأَقْوَى . نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في « اليَوَاقيت » .
قال أَبُو شَامَة -رحمه الله : - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى ، ولَيْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِرَاءَتَيْنِ ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ -سبحانه وتعالى- بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ ، وبهذه في رَكْعةٍ ، ذكر ذلك عند قَوْلِهِ تعالى : مَالِك يَوْمِ الدِّين . وَرَوى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي ، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ ، عَنْ اَبِي عَمْروٍ : « مَلْكِ » بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً .

وقرأ الأَعْمَشُ ، ومحمدُ بنُ السّمفيع ، واَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد : « مَالِكَ » بنصب الكاف على النِّداءِ . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته : يا مالك يوم الدين ، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً ، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس ، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ بالأَلَف وَرَفْعِ الكَاف ، على مَعْنَى : « هُوَ مَالِك » .
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر « مالك » بالإمالة والإضجاع البليغ . وقرأ أيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ : بَيْنَ الإمَالةِ والتّفْخِيم ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي .
وقرأ الحَسَنُ « مَلَك يَوْمَ الدِّين » على الفِعْلِ ، وهو اختيارُ أبِي حَنِيفَة -رضي الله تعالى عنه- ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة ، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة « مَالِكِ » أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُوم إضافَتِه ، إذ يُقالُ : « مَالِكُ الجِنِّ ، والإِنْسِ ، والطَّيْرِ » ولا يُقالُ : « مَلِك الطّيْرِ » ، وأنشدوا على ذلك : [ الكامل ]
50- سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [ الوُجُوهُ ] لِوَجْهِهِ ... مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ
وقالُوا : فُلاَنُ مَالِك كَذَا ، لِمَنْ يَمْلِكُه ، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو : « مَلِكِ العَرَب ، والعَجَمِ » ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُّلُّ على الزيادةِ في المعنى ، كما تقدم في « الرحمن » ولأنَّ ثواب تالِيها أَكثرُ من ثوابِ تَالِي « مَلِك » .
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ « مَلِكِ » ما حكاه الفَارسيّ ، عن ابن السّرَّاجِ ، عَنْ بَعْضِهِم : أنه وصف [ نَفْسَه ] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ ، بقوله : « رَبِّ العَالَمينَ » ، فَلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ « مَالِكِ » ؛ لأنها تَكْرَارٌ .
قال أَبُو عَليٍّ : ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ ، يَذْكُرُ العَامَُّ ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] .
وقال حَاتم : « مَالِكِ » أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ ، و « مَلِكِ » أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ ، والفرق بَيْنَهُمَا : اَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ ، وإذا كَانَ اللهُ -تعالى- مَلِكاً كان مالكاً [ أيضاً ] واختاره ابنُ العَرَبيِّ .
ومِنْهَا : أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للملوكِ وغَيْرِ المَمْلوكِ ، بخلاف « مَالِكِ » فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم ، ولإشْعَارِه بالكثرةِ ، ولأنه تَمَدَّحَ تعالى -بقوله تعالى- « مَالِكِ المُلْكِ » ، وبقوله تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } [ آل عمران : 26 ] ، ومَلِكق مأخوذٌ منه [ كما تقدّم ، ولم يمتدح ب « مالك المِلْك » بكسر الميم الذي « مالك » مأخوذ منه ] .
وقال قَوْمٌ : « مَعْنَاهُمَا : واحِدٌ؛ مثلُ : فَرِهين وفَارِهِين ، وحَذِرِين وحَاذِرِين » .
ويُقالُ : المَلِكِ والمالِكِ : هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود ، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى . وجمع « مَالِكِ » : مُلاَّك ومُلَّك ، وجَمْعُ « مَلِك » : أَمْلاَك ومُلُوك .
وقُرِىء : « مَلْك » بسكون اللاّم ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

51 ... - وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
كما يُقالُ : فَخِذٌ وفَخْذٌ ، وجَمْعُه على هذا : أَمْلُك ومُلُوك ، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله .
و « مَلِيك » ، ومنه : الكامل
52- فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا ... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا
و « مَلَكي » بالإشْبَاعِ ، وتُرْوَى عن نَافِع -رحمه الله- .
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ « مَلِك » نعتاً لله -تعالى- ظاهراً ، فإنه معرفة بالإضافة .
وأما « مَالِك » فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضّيِ ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها ، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ : « مضلَكَ يَوْمَ الدِّينِ » فجعل « مَلَكَ » فِعْلاً مَاضِياً ، وإن أُرِيد به الحالُ ، أو الاستقبالُ [ فَيُشَكِلُ؛ لأنه : إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله ، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفاعلِ بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ] غَيْرُ محضةٍ ، فلا يُعْرَف ، وإذا لم يتعرَّفْ ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيه تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً .
وإِمَّا أنْ يُجْعَلَ بَدَلاً ، وهو ضَعيفٌ ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم .
والذي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ : إنه نعت على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ؛ لأَنَّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ ، فكان المعنى -والله أعلم- أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ ، ولاَ اسْتِقْبالٍ ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمة الله تعالى .
وإضافَةُ « مَالِكِ » و « مَلِكِ » إلى « يَوْمِ الدِّينِ » مِنْ بَابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقهما غيرُ اليومِ ، والتقديرُ : مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ .
ونظيرُ إِضَافَةِ « مَالِكٍ » إلى الظَّرْفِ -هُنَا- نَظِيرُ إِضَافَةِ « طَبَّاخٍ » إلى « ساعات » في قول الشاعر : [ الرجز ]
53- رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسَلْ
إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ -وهو « زادَ الكَسِلْ » ، وف الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه .
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [ على ظاهِرِه ] من غيرَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ .
ونسْبَةُ « المِلك » والمُلْك « إلى الزمان في حَقِّ اللهِ -تعالى- غَيْرُ مُشْكِلِةٍ ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرِاءَةِ مَنْ قَرأ : » مَلَكَ يَوْمَ الدّين « فِعْلاً ماضياً ، فإن ظاهِرَهَا كونُ » يَوْمَ « مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى » اللامِ « ، لأنَّها الأصل .
ومِنْهم مضنْ جَعلها في هذا النحو على معنى » في « مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِهِ تبارك وتعالى : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] قال : المعنى » مَكْرٌ في اللَّيْلِ « إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه .
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ : إِمَّا على معنى » اللامِ « وإما على مَعْنى [ مِنْ ] ، وكونٌُها بمعنى » في « غَيْرُ صَحِيحٍ .
وأَمَّا قولُه تعالى : » مَكْرُ اللَّيْلِ « فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ : نَهَارُهُ صَائِم ، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت : [ البسيط ]

54- أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ ... وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ
لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك ، وهو مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ .
و « اليَوْمُ » لُغَةً : القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ ، أيَِّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى : { والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 29 و 30 ] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى ، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار . وأما في العُرْف : فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس .
وقال الرَّاغِبُ : « اليوم » يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [ غُرُوبِها ] .
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ ، قال تبارك وتعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمٌ؛ كما يُقالُ : لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ . ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى . و « الدِّينِ » مضافٌ إِلَيْه أَيْضاً ، والمرادُ به -هنا- الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر : [ الهزج ]
55- وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
أي : جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا .
وقال آخَرُ في ذلك : [ الكامل ]
56- وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ ... وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ
ومثله : [ المتقارب ]
57- إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ ... وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا
ومثله [ الطويل ]
58- حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا ... يُدانُ [ الفَتَى ] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ
وقال ابنُ عباسٍ -رضي الله تَعَالَى عنهما- ومُقاتِلٌ والسُُّدَّيِّ : « مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ » : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى : { ذلك الدين القيم } [ التوبة : 36 ] . أي الحسابُ المستقيمُ .
وقال قَتَادَةُ : « الدِّين : الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً » .
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي : « مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ، يوم لا ينفعُ فيه إلاََّ الدِّين » .
وقيل : الدين القَهْرُ : يُقالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ أي : قَهَرْتُهُ فذلّ .
وقيل : الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه : « وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً » ، أيْ : طَاعَةٌ ، وله مَعَاٍ أُخَرُ : العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت : [ الطويل ]
59- كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ
أَيْ : كَعَادَتِكِ . ومثله : [ الوافر ]
60- تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي
ودَانَ : عَصَى وأطاعَ : وذَلَّ وعَزَّ ، فهو من الأضدَادِ [ قاله ثعلب ] .
والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] ، أَيْ : في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ .
والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال : « لو كنتُ على دِينٍ غير هذه ، لأَجَبْتُكَ » ، أَيْ : على حَالَةٍ .
والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك : [ البسيط ]
61- يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا ... ويُقالُ : جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً -بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر- أيْ : جَازَيْتُه .

{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
ويُقَالُ : دِينُ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ ، ومنه قِيل للعبدِ : مَدِين ، ولِلأَمَةِ : مَدِينَة . وقِيل : هو من دِنْتُهُ : إذا جازيته بطاعته ، وجعل بعضُهم « المَدِينَة » مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى .
وإنما خُصَّ « يوم الدين » بالذكر مع كونِه مالِكا للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة ، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] ، وقال : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ، وقال تعالى : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا
قرأ أَبُو عَمْرو -رحمه الله تعالى : - « الرَّحِيم ملك » بإدغام الميمِ في الميمِ ، وكذلك يُدْغِمُ كُلُّ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مَخْرج واحد ، أو [ كانا ] قرِيبَي المَخْرج ، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً ، إلاُّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً ، أَوْ مُنَوَّناً ، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً ، أوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين ، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإدغَامِ الكَبيرِ ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [ النساء : 81 ] [ الصافات : 1 و 2 و 3 ] ، { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] .
وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء ، وخَلَف ، والكِسَائِي [ في إدغام الساكن في المتحرك ] إِلاَّ في الراءِ عند اللام ، والدال عند الجيم ، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي ، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة .
فصل في كلام القدرية والجبرية
قال ابنُ الخَطِيب : قالتِ القدريَّةُ : إن كان خَالِقَ أَفْعالِ العبادِ ، هو الله -تعالى- امتنع القول بالثواب ، والعقاب ، والجزاءِ ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث ، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين .
وقالت الجبريةُ : لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه ، لم يكن مالكاً لها ، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد ، ولأعمالِهم ، عَلِمْنَا أَنَّهُ حالقٌ لها مقدرٌ لَهَا .

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

إِيَّاكَ : كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر ، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل ، وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعْمَلُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقال ، ما عنيتُ إلاَّ إِيَّاكَ .
وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على « نعبد » قدِّم للاختصاصِ ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ .
واخْتَلَفُوا فيه : هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ : على أنه مُضْمَرٌ .
وقال الزَّجَّاجُ رحمه الله تعالى : هو اسمٌُ ظاهر .
والقَائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ :
احدُهما : أنه كلمةُ ضَمِيرٍ .
والثاني : عَلَى أَنَّ « إِيَّا » وَحْدَهُ ضَمِيرٌ ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [ من تكلّم وغيبة وخطاب ] .
وثَالِثُها : أَنَّ « إِيَّا » وحده ضميرٌ ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [ من تكلم وغيبة وخطاب ] .
ورابعُها : أَنَّ « إيَّا » عمادٌ وما بعده هو الضميرُ ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم : « إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب » بِإضَافَةِ « إيَّا » إلى « الشواب » ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ ، والهاء ، والياء في محلّ جر ، إِذا قُلْتَ : « إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ » وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ ، فجعل له اشْتِقَاقَا ، ثمَّ قال : هَلْ هو مشتقٌّ من « أَوَّ » ؛ كقول الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
62- فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا .. . . .
أَوْ منْ « آيَة » ؛ كقوله [ الرجز ]
63- لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ ... وهل وَزْنُه : « إفْعَل ، أو فَعِيل ، أو فَعُول » ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ « إيَّا؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ : أَشْهَرُها : كَسْرُ الهمزةِ ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ ، ومنها ، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
64- فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ ... مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ
وقال بعضُهم : » إيَّاكَ « بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه بَصيرُ : » شَمْسَك نعبد « ؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ : ضَوْؤُها -بكسر الهَمْزةِ ، وقد تُفْتَحُ . وقيل : هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر ، فإذا حذفت التاءَ ، مَدَدْتَ؛ قال : [ الطويل ]
65- سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلاَّ لِثَاتِه ... أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ
وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً .
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب ، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به .
و » نَعْبُدُ « فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسمِ ، وهذا رأيُ البصريين .
ومعنى المضارع المشابه ، يعني : أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ ، وسكناتِهِ ، وعدَدَ حُرُوفِهِ ، ألاَ تَرَى أَنَّ » ضَارِباً « يُشْبِهُ » يَضْرِب « فيما ذكرت ، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ ، ويختص في الأَشْخاصِ ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة .

والعبادَةُ : غايةُ التذللِ ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ ، وهو الباري -تعالى- وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه . وقال طَرَفة في ذلك : [ الطويل ]
66- تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ ... وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
ومنه : العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ ، وبَعيرٌ معبَّدٌ : أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان .
وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ -بالتخفيف فقط- وعَبَّدْتُ الرجل- بالتشديدِ فقط ، أَيْ : ذللتُه ، واتخذتُه عبداً .
وفي قوله تعالى : « إيَّاكَ نَعْبُد » التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله ، لَقِل : الحمد لله ، ثم قيل : إيَّاهُ نَعبدُ ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ .
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله- : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه :
أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله -تعالى- بألفاظ الغيبة ، إلى قوله : « يَوْمِ الدِّينِ » ، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً ، ربَّا ، رحماناً ، رحيماً ، مالكاً ليوم الدين ، فَنَعْمَ العبْدُ أنت ، فرفعنا الحجابَ ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد .
الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ ، [ والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ .
ومن الالتفاتِ -إلاّ كونه عَكْسَ هذا- قولُه تبارك وتعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ولم يَقُلْ : « بكم » ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله : [ المتقارب ] .
67- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ ... وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي ... وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ
وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ -رحمه الله تعالى- في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ ، وقال : بل هما التفاتان :
أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ : « لَيْلُك » ، إلى الغَيْبَةِ في قوله : « وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ » .
والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم ، في قولِه : « مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ » .
والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً : « تَطَاوَلَ لَيْلُك » فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ : « تطاول لَيْلِي » ؛ لأنه هو المقصودُ ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة ، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل .
وقُرِىءَ شاذّاً : « إِيَّاكَ يُعْبَدُ » على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها : أن فيها استعارةً والتفاتاً :
أما الاستعارةُ : [ فإنه استُعِير ] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائع؛ كقولِهم : « عَسَاكَ ، وعَسَاهُ ، وعَسَانِي » في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر : [ الرجز ]
68- يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا ... وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا
فالكافُ في « عَصَيْكَا » نائبةٌ عن التاءِ ، والأصل : « عَصَيْتَ » .
وأما الالتفاتُ : فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ : « إِيَّاكَ تُعْبَدُ » بالخطابِ ، ولكنه التفت من الخطاب في « إِيَّاكَ » إلى الغَيْبَةِ في « يُعْبَدُ » إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه : [ الطويل ]

69- أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً ... سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال : « بِهِ » بعد قوله : « أَنْتَ » و « كُنْتَ » .
و « إِيَّاكَ » واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخر عم عامله- وجب اتصالُهُ « ، من نحو : » الدرهم إياه أعطيتك « لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ : » الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ « لم يَلْزَم الاتصالُ ، لما سيأتي بل يجوزُ : » أعطيتكَهُ « .
فصل في معنى العبادة
قال ابنُ الخَطيب رحمه الله تعالى : العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ ، من قولهم : طريقٌ مُعّبَّدٌ ، أَيْ : مذلَّلٌ ، فقوله : إيَّاكَ نَعْبُدُ ، معناه : لا أعبد أحداً سواك ، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه :
فَذّكَر من جملتها : تسميَة الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، ومالك يوم الدين ، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة ، وأَرْضاً بلا دِعَامة ، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر ، ويسكن القُطْبَيْن ، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ؛ وهو البرق ، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح ، وتارة الماء؛ وهو المطر .
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد ، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [ وهي الجبال ] ، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار ، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ ، ودفع محمداً -عليه الصلاة والسلام- إلى قَاب قَوْسَيْن ، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] ، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- ورفع مُوسَى- عليه السلام- فوق الطُّورِ ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ ، وجعل البحر يبساً لموسى -عليه الصلاة والسلام- فهذا من أداة الحَصْرِ .
والكلام في » إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ « كالكَلاَمِ في » إِيَّاكَ نَعْبُدُ « .
والواو : عاطِفَةٌ ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى ، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى .
وأصل » نَسْتَعِين « : » نَسْتَعْوِنُ « ؛ مَثْلُ : » نَسْتَخْرِجُ « في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها ، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً .
وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوَ : » مِيزَان ، وميِقَات « ، وهما من : الوَزْنِ ، والوَقْتِ .
والسِّينُ فيه معناها : الطلبُ ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل » استفعل « وله معََانٍ أُخَرٌ :
الاتخاذُ : نحو : » اسْتَحْجَرَ الطِّينُ « ، أَيْ : نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل » استفعل « ، وله مَعَانٍ أُخَرٌ :
الاتخاذُ : نحو : » اسْتَعْبِدْهُ « أي : اتخذْهُ عبداً .

والتحولُ؛ نحو : « اسْتَحْجَرَ الطِّينُ » أَيْ : صار حجراً ، ومنه قوله : « إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ » أي : تتحولُ إلى صفة النُّسور .
ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو : « اسْتَعْظَمَهُ » أَيْ : وجده عظيماً .
وعَدُّ الشَّيْ كذلك ، وإِن لم يكُنْ؛ نحو : « اسْتَحْسَنَهُ » .
ومطاوعةُ « أَفْعَل » ؛ نحو : أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى « .
وموافقتُه له أيضاً؛ نحو : » أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ « .
وموافقةُ » تَفَعَّلَ « ؛ نحو : » اسْتَكْبَرَ « بمعنى » تكبر « .
وموافقةُ » افْتَعَلَ « ؛ نحو : » اسْتَعْصَمَ « بمعنى » اعْتَصَمَ « .
والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو : » اسْتَكَفّ « و » اسْتَحْيَا « ، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه .
والإغْنَاءُ بهما عن » فَعَلَ « أي المجرد الملفوظ به نحو : » اسْتَرْجَعَ « و » استعان « ، أيْ : رجع وحَلَق عانته .
وقُرِىءَ : » نِسْتَعِينُ « بكسرِ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة . وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك ، على أنَّ بعضَهُم قال : » ييجَلُ « ، مضارع » وَجَلَ « ، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء ، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىءَ : { فإنَهم ييلَمُون } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى .
وأن يكونَ المُضَارع من ماضٍ مكسورِ العَيْنِ؛ نحو : » تِعْلَمْ « من » عَلِمَ « ، أو في أوله همزةُ وصلٍ ، نحو » نِسْتَعِينُ « من » اسْتِعَانَ « ، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو : » نِتَعَلَّمُ « من » تَعَلَّمَ « ، فلا يجوزُ في » يضْربُ « و » يقتلُ « كشر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشرُّوط المذكورة .
والاستعانَةُ : طلبُ العَوْنَ : وهو المُظَاهرة والنصرة ، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة .
وقال ابنُ الخَطيبِ : كأنه يقولُ : شَرَعْتُ في العِبَادَةِ : فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالمَْوتِ ، ولا بالمرضِ ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِها .
وقال البَغَوِيُِّ : رحمه الله تعالى- فإن قيل : لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟
قلنا : هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل ، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ ، والاستعانةَ مع الفعل ، فلا فرق بيت التقديم والتأخير .
وقيل : الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً ، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كل معبود به ، وكلَّ مُسْتَعان [ عليه ] ، أَوْ يكون المُرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ .
فصل في نظم الآية
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : قال تعالى : » إيَّاكَ نَعْبُدُ « فقدَّمَ قولَه : » إيَّاكَ « على قوله : » نعبد « ولم يقل : » نعبدك « لوجوه :
أحدُها : أنه -تبارك وتَعَالَى- قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ -تعالى- فلا يتكاسَلُ في التعظيم .

وثانيها : أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت ، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه : « إياك » ؛ لتذكرني ، وتحضر في قلبك معرفتي ، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي ، وعلمت أني مولاك ، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة .
وثالثها : أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته ، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار .
فصل في نون « نعبد »
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : لقائلٍ أّنْ يقولَ : النُّون في قوله تعالى : « نعبد » إما أن تكون نونَ الجمع ، أو نونَ العظمةِ ، والأول باطِلٌ ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعَاً ، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ ، اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ .
واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه :
أحدها : أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان ، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة .
الثاني : أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة ، فقوله : « نعبد » ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ ، وإن كان يصلّي الصَّلاة بالجماعة .
الثالث : أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ ، فلو قال : « إياك أعبدُ » كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه ، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه ، أما إذا قال : « إياك نعبدُ » كان قد ذكر عبادَة نفسِه ، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً .

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

اهْدِ : صِيغَةُ أمْرٍ ، ومعناها : الدعاءُ ، فقِيلَ معناه : أَرْشِدْنَا .
وقال عَليٌّ : وأُبَيُّ بن كَعْب -رضي الله عنهما- ثبتنَ؛ كما يُقال للقائِم : قم حتى أعودَ إليك ، أَيْ : دُمْ على ما أنت عليه ، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله -تعالى- لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة .
قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله تعالى- : المرَادُ من قوله تعالى : « اهِدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ » هو : أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله -تعالى- مُقْبِلا بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى .
مثالُه : أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح غيرُه ، لأطاعَ؛ كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأَنْ ينقادَ ، لأن يذبَحهُ غيرُه ، لأطاعَ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام ، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْق ] نفسَهُ في البحر ، لأطاعَ؛ كما فعله يُونُس عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات ، لأطاع؛ كما فعله موسى -عليه الصَّلاة والسلام- مع الخَضِر [ عليه الصَّلاةُ والسلامُ ] ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في المر بالمَعْرُوف ، والنهي عن المنكر على القتل ، والتفريقِ بنصفين ، لأطاع؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا -عليهما الصَّلاة والسلام- فالمراد بقوله تعالى « اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ » ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبرِ على الشدائدِ ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به .
واعلم أن صيغةَ « أَفْعَلْ » تَرُِ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ .
وقال بعضُهم : إن وردت صيغةُ « افعل » من الأعلى للأدنى ، قيل فيها : أَمرٌ ، وبالعكس دُعاء ، ومن المُساوي التماسٌ ، وفاعله مستتر وُجُوباً ، لِمَا مَرَّ ، أي : اهْدِ أنت ، و « ن » مفعولٌ أَوَّلٌ ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره ، أو المعظّم نفسه ، ويستعملُ في موضع : الرّفع ، والنصب ، والجر ، بلفظ واحد؛ نحو : « قُمْنَا » ، و « ضَرَبَنَا زَيْدٌ » ، و « مَرَّ بِنَا » ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر .
وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ : « أكرمني » ، و « مرّ بي » ، و « أنت تقومين يا هند » ، و « الياء » في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورته ، وفي الثالث مرفوعتهُ ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع ، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم ، وهذه المخاطبة المؤنثة .
وقيل : بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول : « هم نائمون » و « ضربتهم » و « مررت بهم » ، ف « هم » مرفوعُ المحلِّ ، ومنصوبُهُ ، ومجروره بلفظ واحد ، وهو للغائبين في كل حالٍ ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصل .

فافترقا ، بخلاف « نَا » فإنَّ معناها لا يختلِفُ ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة .
و « الصِّراطَ » مفعولٌ ثانٍ ، و « المستقيم » صِفَتُه ، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة .
وأصلُ « هَدَى » أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ ، وهو إما : « إلى » أو « اللام » ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ثم يُتَّسَعُ فيه ، فَيُحْذَفُ الجَرُّ ، فيتعدى بنفسه ، فأصلُ « اهْدِنا الصِّرَاطَ » : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط ، ثم حذف . والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ ، ويَدَّعُونَ في نحو : « اضْرِبْ » ، أنَّ أصله : « لِتَضْرِبْ » بلامِ الأَمْرِ ، ثم حذف الجازم ، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن ، وهذا مما لا حاجة إليه ، وللرد عليهم موضعٌ يليق به . ووزْنُ « اهْدِ » « افْعِ » ؛ حُذِفَتْ لاَمُه ، وهي الياءُ حملاً [ للأمر على المجزوم ، والمجزوم تُحْذَفُ ] منه لامه إذا كانت حرف علّة .
ومعنى الهِدايَة : الإرشادُ أو الدلاَلَةُ ، أو التقدّم . ومنه هواد الخيل لتقدمها . قال امرؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
70- فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
أي : المتقدّمات الهَادية لغيرها .
أو التَّبيينُ؛ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بيّنّا لهم؛ ونحو : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، أيْ : أَلْهَمَهُ لمصالحه .
أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، أيْ دَاعٍ .
وقيل : هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] والمعنى : بقلوبِنا إِلَّيْكَ ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادةٌ أخْرى من « هَادَ- يَهُودُ » .
وقال الرَّاغِبُ : الهِدَايَةُ : دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ ، ومنه الْهَدِيَّةُ ، وخصّ ما كان دلالةً ب ، « هديت » وما كان إعْطَاءً ب « أهديت » .
و « الصِّرَاط » : الطَّريقُ المستسهلُ ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال [ الرجز ]
71- فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ ... ومثله : [ الوافر ]
72- أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ
وقال آخَرُ : [ الوافر ]
73- شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
أَي : الطَّريقِ .
وهو مُشْتَقٌّ من « السَّرْطِ » وهو : الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه ، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم : قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا ، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام : [ الطويل ]
74- رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً ... رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه ، أو يلتقمُهُ سالِكُه .
وأصله : السّين : وقد قرأ به قُنْبُل رحمه الله تعالى حيث ورد ، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده؛ نحو : « صَقَر » في « سَقَر » ، و « صَلَخ » في « سَلَخ » ، و « أَصْبغ » في « أَسْبَغ » ، و « مُصَيْطر » في « مُسَيْطر » لما بينهما من التَّقارب .

وقد تُشَمُّ الصادُ في « الصِّرَاطِ » ونحوه زَاياً ، وقرأ به خَلَفٌ ، وحَمْزَةُ حيث ورد ، وخَلاَّد : الأوَّلَ فقط ، وقد تُقْرأُ زاياً مَحْضة ، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد ، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم .
و « الصِّراطَ » يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ : فالتذكيرُ لُغَة تَميم ، والتَّأنيثُ لغةُ « الحِجَازِ » ، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً ، جمع على « أَفْعِلَة » في القلّةِ ، وعلى « فُعُل » في الكَثْرَةِ ، نحو : « حِمَارِ » ، و « أَحْمِرَة » و « حُمُر » ، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثاً ، فقياسه أن يجمعَ على « اَفْعُل » : نحو : « ذِرَاع » و « أذْرُع » .
و « المُسْتَقيمَ » اسمُ فَاعِلِ من استقامَ ، بمعنى المُجَرّد ، ومعناه : السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج ، واَصْلُه : « مُسْتَقْوم » ثُم أُعِلّ كإعلالِ « نَسْتَعِيْن » وسيأتي الكلامُ [ مُسْتَوْفى ] على مادتِه إن شاء الله -تعالى- عند قوله تعالى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } [ البقرة : 3 ] .
و « الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ » قال ابنُ عَبَّاسٍ ، وجَابِرٌ -رضي الله عنهما- : هو الإسْلام ، وهو قولُ مُقَاتِلٍ ، وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما : هو القرآن الكريم ، وروي عن علي -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً : الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ : كِتَابُ اللهِ تَعَالى .
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رضي الله عنه « طَريقُ الجَنَّة » .
وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رحمه الله تعالى : هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة . وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيِّ : هو طريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أَبُو العَالِيةِ ، والحَسَنُ : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَاه .
قال ابنُ الخَطيب : الحِكْمَةُ في قوله : « اهْدِنَا » ولم يَقُلْ « اهدني » ؛ إما : لأن الدعاءَ مهما كان أعم ، كان إلى الإجابة أَقْربَ .
وإمَّا لقول النبي عليه الصلاة والسلام « ادْعوا الله تعالى بأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها » قالُوا : يَا رَسُولِ الله ، فمن لنا بتلك الأَلسِنَةِ؟ قال : « يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه ، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ » .
الثالث : كانّ العبدَ يقولُ : سمعتُ رَسُولَك يقولُ : « الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ » ، فلما أَرَدْتُ حمدك ، قلتُ : الحَمْدُ لله ، ولما ذكرت العبادة ، ذكرُ عبادةَ الجَمِيع ، ولما ذكرتُ الاستعانةَ ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع ، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ ، طلبتُها للجميع ، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين ، طلبتُ اقتداءَ الجميع؛ فقلتُ : « غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ » ، فلما لَمْ أُفارِق النبياءَ والصالحين في الدنيا ، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة؛ كما قال تعالى : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } [ النساء : 69 ] الآية الكريمةَ .

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
« صِرَاطَ الذِيْنَ » بدل منه ، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ .
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها :
بدلُ كُلَ من كُلّ ، ولد بَعْضٍ من كُلّ ، وبدلُ اشتِمَالٍ ، وبدلُ غَلَطٍ ، وبدل نِسْيَان ، وبدل بَدَاء ، وبدل كُلّ من بعض .
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ ، فلا خلاَف فِيها .
وأما بدلُ البدَاء ، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاً بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة ، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُها إلى العُشُرِ » ولا يَرِدُ هذا القرآن الكريمِ .
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ : فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ : [ البسيط ]
75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
قال : لأنَّ « الحُوّة » السّوادُ الخالِصُ ، و « اللَّعَسُ » سواد يشوبه حُمْرَة ، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ .
وأما بدل الكُلّ من البعض ، فأثبته بعضهُم ، مُسْتَدِلاَّ بظاهِر قوله : [ الخفيف ]
76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
في رواية مَنْ نَصَبَ « طَلْحَةَ » ، قال : لأنَّ « الأَعْظُمَ » بعضُ « طَلْحَةَ » ، و « طَلْحَةَ » كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ -أيضاً- بقول امرئ القيس [ الطويل ]
77- كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
ف « غَدَاةَ » بعضُ « اليوم » ، وقد أُبْدِلَ « اليوم » منها .
ولا حُجَّةَ في البيتَيْنِ ، أما الأولُ : فإنَّ الأَصْلَ « أعظماً دفنوها أَعْظَمَ طلحة » ثم حُذِفَ المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ « طَلْحَةَ » على أن الأصل : « اعظم طلحة » ولم يَقُم المضاف إليه مقامَ المضاف .
وأما الثاني : فإنَّ « اليَوْمَ » يُطلقُ على القطعةِ من الزمان ، كما تقدّم ، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن .
وقيل : « الصراط » الثاني غير الأول ، والمرادُ به : العلمُ بالله تعالى . قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى : وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ .
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى :
بدل ظاهِر من ظاهرٍ : ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، وظاهرٍ مٍنْ مضمر ، ومضمرٍ من ظاهر .
وفائدةُ البَدَلِ : الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى ، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل .
و « الذين » في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة ، وهو اسمُ موصولٍ ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ ، وهو جمع « الذي » في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ ، رفعاً ، ونصباً ، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه : [ الرجز ]
78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا ... يَومَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا
وقد تُحْذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله : [ الطويل ]
79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمَ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمِّ خَالِدِ

ولا يقع إلاّ على أولي العلم ، [ ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم ، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم ] وغيرهم .
و « أَنْعَمْتَ » : فِعْلٌ ، وفاعلٌ ، صِلَة المَوْصُولِ .
والتاء في « أنعمتَ » ضميرٌ مرفوعٌ مُتَّصل . و « عليهم » جار ومجرور متعلّق ب « أنعمتَ » ، والضميرُ هو العائدُ ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء ، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِهِ ومُنْفَصِلِهِ .
والهمزةُ في « أنعمتَ » ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه ، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه ، ولكن ضُمِّنَ معنى « تَفَضَّلَ » فَتَعَدَّى تَعْدِيَتُهُ .
وقرأ عمر بنُ الخَطّاب ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله -تعالى- « صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ » .
ول « أَفْعَلَ » أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى ، تقدّمَ وَاحِدٌ .
والتعدِيَةُ؛ نحو : « أَخْرَجْتُه » .
والكثرةُ؛ نحو : « أظْبَى المَكَانُ » أَيْ : « كَثُرَ ظِبَاؤُه » .
والصَّيرورة؛ نحو : « اَغَدَّ البَعِيرُ » صار ذا غُدّة .
والإعانةُ؛ نحو : « أَحْلَبْتُ فُلاَناً » أي : أعنتُه على الحَلْبِ .
والتَّشْكِيَةُ؛ نحو : « أَشكيته » أي : أزلتُ شِكَايَتَهُ .
والتَّعرِيضُ؛ نحوك « أبعتُ المبتاعَ » ، أي : عرضتُه للبيع .
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو : « أحمدتُه » أي : وجدتُه محموداً .
وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو : « أعشَرتِ الدَّرَاهِمُ » ، أي : بلغتِ العَشَرَة .
أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو « أصبح » ، أو مَكَانٍ؛ نحو « أَشْأَمَ » .
وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو : « أحزتُ المكانَ » بمعنى : حُزْتُهُ .
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو : « أَرْقَلَ البعيرُ » .
ومطاوعةُ « فَعَلَ » ؛ نحو قَشَعَ الريح ، فَأَقْشَع السّحابُ .
ومطاوعةُ « فَعَّلَ » ؛ نحو : « فَطَّرْتُهُ ، فَأَفْطَرَ » .
ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو : « أسرع » .
والتَّسميةُ؛ نحو : « أخطأتهُ » ، أَيْ : قلتُ له : سَقَاكَ الله تعالى .
والاستحقاقُ؛ نحو « أَحَصدَ الزرعُ » ، أيْ : استحقَّ الحصادَ .
والوصولُ؛ نحوه : « أَعْلَقْتُهُ » ، أيْ : وصَّلتُ عقلي إليه .
والاستقبالُ نحو : « أَفَفْتُهُ » ، أي : استقبلتُه بقول : أُفٍّ .
والمجيءُ بالشيء؛ نحو : « أكثرتُ » أَيْ : جئت بالكثير .
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَلَ ، نحو : أَشْرَقَتِ الشَّمسُ : أضاءتْ ، وشَرَقَتْ : طَلَعَتْ .
والهجومُ؛ نحو : اَطْلَعْتُ على القوم ، أيْ : اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ .
و « على » حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو : عليه دَيْنٌ : ولها معانٍ أُخَرُ ، منها :
المُجَاوزة؛ كقوله : [ الوافر ]
80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لِعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
أيْ : عَنِّي .
وبمعنى « الباءِ » { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] ، أي : بأَنْ ، وبمعنى « في » ؛ { الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أيْ : فِي [ مُلْكٍ ] ، { المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] .
والتعليلُ : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم .
وبمعنى « مِن » :

{ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] ، أيْ : إلاّ مِنْ أَزواجهم .
والزيادة كقوله : [ الطويل ]
81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ... عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ
لأنَّ « تُروقُ » يتعدى بنفسِه ، ولكل موضع من هذه المواضع مَجَالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكونه اسماً في موضعين : أحدهُما : أن يدخلَ عليها حَرْفَ الجَرّ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا ... تَصِلُ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها « فَوق » ، أيْ : من فوقه .
والثاني : أنْ يؤدي جعلُه حرفاً ، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله : [ المتقارب ]
83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيَن « عن » ، وستأتي إن شاء الله تعالى .
وزعم بعضُهم أنَّ « على » مترددةٌ بين الاسم ، والفِعْلِ ، والحرفِ .
أما الاسمُ والحرفُ ، فقد تقدما .
وأما الفعلُ : قال : فإنك تقولُ : « عَلاَ زيدٌ » أي : ارتفع . وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن « عَلاَ » إذا كان فِعْلاً ، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً ، فلا اشتقاقَ له ، فليس هو ذَاكَ ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلُ يَرُدَُّ هذا النظرَ ، [ بقولهم : إنَّ « خَلاَ » ، « وَعَدا » مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ ، ولم يلتفتوا إلى هاذ النظر ] .
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة ، أو كسرةٌ ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو : عَلَيْهِم وفِيهِمْ وبِهِمْ .
والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك ، والكسرُ قبل ساكن ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء ، أما إذا ضممتَ ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله : « وفِيهُمِ الحكام » بِكَسْرِ المِيمِ .
وفي « عَلَيْهِمْ » عشرُ لُغاتٍ :
قُرِىءَ بِبَعْضِها : « عَلَيْهُمْ » بكسر الهاء وضمها ، مع سُكُون الميم .
« عَلَيْهِمي » ، بكسر الهاء ، وزيادة الياء ، وبكسر الميم فقط .
« عليهُمُو » بضم الميم ، وزيادة واو ، أو الضم فقط .
« عليهِمُو » بِكَسْرِ الهاءِ ، وضم الميمِ ، بزيادة الواو .
« عليهُمِي » بِضَمِّ الهاء ، وزيادة ياي بعد الميم .
أو الكسر فقط « عليهِمُ » بكسر الهاء ، وضم الميم ، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَاري .
والتفسيرُ ، قال البَغَويُّ -رحمه الله تعالى- : « صراط الذين أنعمت عليهم أي : مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق ، وقال عِكْرِمة -رضي الله تعالى عنه- : مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَةِ وعلى الأنبياء عليهم السلام .
وقِيل : على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله -تعالى- من النَّبِيين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله -تعالى- في قوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] وقال ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما- هُمْ قومُ مُوسَى ، وعِيسَى- عليهما الصلاة والسلام ، قبل أن غيروا دينهم . وقال أَبُو العَالِيَةَ : هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ -رضي الله عنه- : هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بَيْتِهِ .

وقرأ حَمْزَةُ « عَلَيْهُمْ » ، و « إلَيْهُمْ » ، و « لَدَيْهُمْ » بضم الهاء .
ويضم يَعْقُوب كُلُّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً ، إلاّ قوله تعالى : { بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] .
والآخَرونَ : بكسرها . فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد .
ومَنْ كسرها ، فالأصل الياءُ السَّاكنة ، والياءُ أختُ الكسرة .
وضم ابنُ كَثِير ، وأَبُو جَعْفَر كلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصلِ ، إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكِنٌ فلا يُشبِعُ .
ونَافِعٌ يُخَيَّرُ ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع .
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ ، وقبل الهاء كسرٌ ، أو ياءٌ ساكنةٌ ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي -رحمهما الله- وكَسَرَهُما أبُو عَمْرو ، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله .
والآخرون : بضمّ الميم ، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها ، وضمّ الميم على الأصل ، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب -رضي الله تعالى عنه- : « صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » .
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : اخْتُلِفَ في حَدِّ النّعْمَةِ :
فقال بعضُهم : إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعَةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ .
ومنهم مَنْ يقولُ : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلَى الغير ] . قالوا : وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [ والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ] ، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ ، والذَّمِّ بمعصيةِ الله تعالى ، فلا يجوزُ أن يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك .
ولنرجع إلى تفسير الحَدِ : فنقول : أما قولُنا : « المنفعةُ » ؛ فلأن المَضَرَّةَ المحضةَ لا تكونُ نِعمَةً .
وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان؛لأنه لو كان نفعاً وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه ، نَفْعَ المفعولِ به ، فلا يكونُ نِعْمَةً ، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ ، ليربَحَ عليها .
وها هنا فوائدُ :
الفائِدَةُ الأُوْلَى : أنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع ، ودفع الضَّرر ، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } [ النحل : 53 ] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ :
أحدُها : نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله -تعالى- بإيجَادِهَا ، نحو : أنْ خَلَق وَرَزَقَ .
وثانيها : نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غيرِ الله -تعالى- في ظاهرِ الأمْرِ ، وفي الحقيقة فهي -أيضاً- إنّما وصلت إلينا من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه -تعالى- هو الخالقُ لتلك النعمةِ ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ ، كان ذلك العبدُ مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله -تعالى- ولهذا قال تعالى : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير }

[ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسِه ، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى .
وثالثها : نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله -سبحانه وتعالى- وَفَّقنا للطاعات ، وأعاننا عليها ، وهدانا إليها ، وأَزَاحَ الأعذار عَنا ، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها ، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى .
الفائدةُ الثانيةُ : اختلفوا [ في أنه ] هل لله -تعالى- نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله -تعالى- على الكافر نعمة .
وقالت المعتزلةُ : لله -تعالى- على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية . واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم ، بالقرآن [ الكريم ] ، والمعقول .
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ ، وذلك بَاطِلٌ ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله -تعالى- على الكافر نعمةٌ .
فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله : { الصراط المستقيم } يدفعُ ذَلِكَ .
قلنا : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِهِ : { الصراط المستقيم } ؛ فكان التَّقْدير : « اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم » ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ .
وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] .
وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام ، كالقَطْرةِ في البحر ، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً ، فقد احتجُّوا بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً } [ البقرة : 21 ، 22 ] ، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله -تعالى- لأجلِ هذه النعم ، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ ، وشرحِ النعم .
وقولِه تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وقولِه تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
ولو لم تحصل النعمة ، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة .
الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله- : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية : « اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم » والله -تعالى- قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين } [ النساء : 69 ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق -رضي الله تعالى عنه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- امرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ -رضي الله تعالى عنه- غيرَ إمام ، لما جَازَ الاقتداء به ] ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا ، أو نعمة الدين ، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين .

فنقول : كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان ، فرجع حاصل القول في قوله تعالى : { 1649;هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل ، فيتفرع عليه أحكام :
الأول : أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان ، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله -تعالى- هو المنعم بالنعمة ، ثبت أنّ الخالق للإيمان ، والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ، وكان الإيمان أعظم النعم ، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى ، ولو كان كذلك لما حسن من الله -تعالى- أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .
الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة ، فما كان يحسن من الله -تعالى- ذكره في معرض التعظيم .
الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله -تعالى- رعاية [ الصلاح والأصلح ] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله -تعالى- واجباً لم يكن ذلك إنعاماً ، وحيث سماه الله -تعالى- إنعاماً علمنا أنه غير واجب .
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار ، فلما خلص -تعالى- بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع .
قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين }
« غير » بدل من « الذين » بدل نكرة من معرفة .
وقيل : نعت ل « الذين » ، وهو مشكل؛ لأن « غير » نكرة و « الذين » معرفة ، وأجابوا عنه بجوابين :
أحدهما : أن « غير » إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف « غير » حينئذ بالإضافة ، تقول : « مررت بالحركة غير السكون » والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح .

والثاني : أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات .
وقيل : إن « غير » بدل من المضمر المجرور في « عليهم » ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محل المبدل منه ، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلة الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : « صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم » .
و « المغضوب » خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، ف « عليهم » الأولى منصوبة المَحَلّ ، والثانية مرفوعته ، و « أل » فيه موصولة ، والتقدير : « غير الذين غُضِب عليهم » .
والصحيح في « أل » الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ .
واعلم أن لفظ « غير » مفرد مذكر أبداً ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : « قامت غيرك » ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : « مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِذن وتِرب » .
وقد يستثنى بها حملاً على « إلاّ » كما يوصف ب « إلاّ » حملاً عليها ، وقد يراد بها النفي ك « لا » ، فيجوز تقديم معمولها عليها ، كما يجوز في « لا » تقول : « أنا زيداً غَيْرُ ضارب » أي : غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
84- إِنَّ امرْءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ ... عَلَى التَّنَائِي لَعِندِي غَيْرُ مَكْفُورِ
تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي .
لو قلت : « جاء القوم زيداً غير ضارب » ، تزيد : غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى « لا » التي لا يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في « لا » .
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً .
وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألاّ يكون فيجوز .
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً ، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ .
واختلفوا هل يجوز دخول « أل » على « غير وبعض وكل » والصحيح جوازه .
قال البغوي -رحمه الله تعالى- : « غير » ها هنا بمعنى « لا » و « لا » بمعنى « غير » ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها ، كما يقال : « فلان غير مُحسن ولا مجمل » ، فإذا كان « غير » بمعنى « لا » ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب « لا » ؛ لا يجوز في الكلام : « عندي سوى عبد الله ولا زيد » .
وقرىء : « غَيْرَ » نصباً ، فقيل : حال من « الَّذِين » وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى : وقيل : من الضمير في « عليهم » .

وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفَرَّاء؛ قال : لأن « لا » لا تُزَادُ إلاّ إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [ البسيط ]
85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ
وأجابوا بأن « لا » صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الرجز ]
86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا ... وقول الآخر : [ الطويل ]
87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ... ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
ف « لا » في هذه المواضع كلها صلةٌ .
وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن « لا » زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت « لا » زائدةً من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة .
ويحتمل أن تكون « لا » في قوله : « لا البُخْلَ » مفعولاً به ل « أَبَى » ، ويكون نصب « البُخْلَ » على أنه بدل من « لا » أي : أبى جُودُهُ قَوْلَ لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : « واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ » فجعل « نَعَمْ » فاعل « اسْتَعْجَلَتْ » ، فهو من الإِسْنَادِ اللّفظي ، أي : إلى وجود هذا اللَّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ .
وقيل : إن نصب « غير » بإضمار أعني . ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد « غير » محذوفاً قال : التقدير : « صِرَاطِ المَغْضُوب » ، وأطلق هذا التَّقدير ، فلم يقيده بِجَرّ « غير » ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله تعالى : { الصراط المستقيم } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفةً ل « صراط الذين » ، ويجوز أن تكون بدلاً من « الصراط المستقيم » ، أو من « صراط الذين » إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نَظَر ، وليس في المَسْألة نقل ، إلاّ انَهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة ، أو حالاً من « الصراط » الأول أو الثاني .
واعلم أنّه حيث جعلنا « غير » صفةً فلا بد من القول بتعريف « غير » ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ « غير » .
و « لا » في قوله تعالى : { وَلاَ الضآلين } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من « غير » لئلا يتوهّم عطف « الضّالين » على « الذين أنعمت » .

وقال الكوفيون : هي بمعنى « غير » وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صرح ب « غير » كانت للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيُّ رضي الله عنهما .
و « الضَّالين » مجرور عطفاً على « المغضوب » ، وقرىء شاذاً « الضَّأَلِّينَ » ، بهمز الألف؛ وانشدوا : [ الطويل ]
89- وَلِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلّلََتْ ... بَيَاضاً ، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ
قال الزَّمَخْشَرِي « : » وفعلوا ذلك ، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين « .
وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذّا العَأْلَمِ ... بهمز » العألم « .
وقال آخر : [ البسيط ]
91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْرَأَةً .. . . .
بهمز ألف » زَوْرَأَة « ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في القراءة ابن ذَكْوَان : » مِنْسَأَتَهُ « بهمز ساكنة : إنَّ اصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة .
فإن قيل : لم أتى بصلة » الذين « فعلاً ماضياً؟
قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله -تبارك وتعالى- عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة » أل « اسماً ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيَّاً للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطُّف ، وترفُّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام .
والإنعام : إيصال الإحسان إلى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاء ، فلا يقال : أنعم فلان على فَرَسِهِ ، ولا حماره .
والغضب : ثَوَرَان دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : » اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابنِ آدَمِ ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه « .
وإذا وصف به الباري -تبارك وتعالى- فالمراد به الانتقام لا غيره .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : هنا قاعدة كليةٌ ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية- أعني الرحمة ، والفرح ، والسُّرور ، والغضب ، والحَيَاء ، والعُتُوّ ، والتكبر ، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات .
ومثاله : الغضب : فإنّ أول غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [ المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً الحَيَاءُ ] له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .
ويقال : فُلاَن غُضبَّة : إذا كان سريع الغَضَب .
ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيَّا وغضبت به إذا كان ميتاً .
وقيل : الغضب تغيُّر القلب لمكروه .
وقيل : إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كانت صفة ذاتٍ .
والضلال : الخَفَاء والغيبوبة .
وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضَلَّ الناءُ في اللبن .
[ وقال القائل ] : [ الوافر ]
92- أَلَم تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ ... عَن الحَيِّ المُضَلِّلِ أَيْنَ سَارُوا؟
» والضَّلضلَة « : حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي .

ومن الثاني : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضّلال : العُدُول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسيْانِ كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليل قوله : { فَتُذَكِّرَ } [ البقرة : 282 ] .
التفسير : قيل : « المغضوب عليهم » هم اليهود .
وقيل : « الضالون » هم النصارى؛ لأن الله -تعالى- حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] .
وقيل : هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى .
وقيل : « المغضوب عليهم » : هم : الكُفَّار ، و « الضّالون » : هم المنافقون .
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : « غير المغضوب عليهم » بالبِدْعَةِ ، « والضّالين » عن السُّنَّة .
والأَوْلَى أن يحمل « المغضوب عليهم » على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل .
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : « غير المغضوب عليهم » يدلُّ على أن أحداً من الملائكةِ ، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلَّ عن الحق ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فَضْلٌ في إضافة الغضب لله
قالت المعتزلة : غَضَبُ الله -تعالى- عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلاّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله -تعالى- عليهم .
وقال أصحابنا -رحمهم الله تعالى- : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله -تعالى- عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله -تعالى- مؤثرةً في صفة العبد .
أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله -تعالى- عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك مُحَال .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } .
وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ الضآلين } .
فإن قيل : لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟
قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفِسْق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديماً فلم خلقه ، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [ يعقل ] إقدامه على إِجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري -تعالى- محلاَّ للحوادث ، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر ، وتسلسل ، وهو مُحَال .

والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .
سؤال آخر
وهو من أنعم الله -تعالى- عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه ، وأن يكون من الضَّالين ، فلما ذكر قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقبيه : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ؟
والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرَّجاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا » ، فقوله : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل ، وقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حَدِّ الكمال .
سؤال آخر
ما الحكمة في أنه -تَعَالَى- جعل المقبولين طائفةً واحدةً ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضَّالين؟ فالجواب : أنّ الذين كلمت نعم الله -تعالى- عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته ، والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المُرَادون بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [ النساء : 93 ] .
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] .
فصل في حروف لم ترد في هذه السورة
قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب ، فالثناء أوّل حروف الثبور .
والجيم أوّل حروف جهنم .
والخاء : أول حرف الخِزْيِ .
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة .
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء .
والفاء أول حروف الفراق تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .
قلنا : فائدته أنه -تعالى- وصف جهنَّم بأن { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذّاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة .
القول في « آمين » : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : اللَّهم اسمع واستجب .
وقال ابن عباس وقتادة -رضي الله تعالى عنهما- : معناه كذلك يكون فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ .
وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء البَارِي تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين :
أحدهما : أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ ، لنه منادى مفرد معرفة .

والثاني : أن أسماء الله -تعالى- توقيفيةٌ .
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله -تعالى- على معنى : أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب « المُغْرِب » .
وفي « آمين » لغتان : المَدّ ، والقَصْر ، فمن الأول قول القائل : [ البسيط ]
93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ ... حَتَّى اُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا
وقال الآخر : [ البسيط ]
94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَاً ... ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ : آمينَا
ومن الثاني قوله : [ الطويل ]
95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحَلٌ إِذ رَأَيْتُهُ ... أضمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا
وقيل : الممدود : اسم أَعْجَمِيّ ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيلَ وهَابِيل .
وهل يجوز تشديد الميم؟
المشهور أنه خطأ ، نقله الجَوْهَرِيّ -رحمه الله تعالى- ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق -رضي الله تعالى عنهما- التشديد ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ ، من أمِّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك .
ومنه : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] .
وقيل : معناه : هو طابع الدعاء .
وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ ، وظهور ما فيه . وقال النَّووي -رحمه الله تعالى- في « التهذيب » : وقال عطية العرفي : [ « آمين » ] كلمة عبرانية ، أو سُرْيانية ، وليست عربية .
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد : « آمِينَ » كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى .
وروي فيها الإمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي ، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل : أَيْنَ وَكَيْفَ .
وقيل : آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها .
وقيل : معناه : اللَّهم استجب ، وأعطنا ما سألناك « .
وقالوا : إن مجيء » آمِين « دليلٌ على أنها ليست عربية ] ؛ إذ ليس في كلام العرب » فَاعِيل « .
فأما » آري « فليس ب » فاعِيل « ، بل هو عند جماعة » فَاعُول « .
وعند بعضهم » فَاعلي « .
وعند بعضهم [ » فَاعِي « ] بالنقصان .
وقال بعضهم : إن » أمين « المقصورة لم يجئ عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [ الطويل ]
96- . . ... فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إِذّا قَالَ الإمَامُ : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ، فقولوا : آمِين ، فإنّ المَلائِكَةَ تقول : آمين ، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ « .
فصل في وجوب القراءة في الصلاة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة .
وعن الَصَمِّ والحسن بن صالح -رضي الله تعالى عنهما- أنهما قالا : لا تجب لنا [ أن كلّ دليل نذكره في بيان أن ] قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد -ها هنا- وجوهاً :
الأول : فهو قوله تبارك وتعالى :

{ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر } [ الإسراء : 78 ] .
والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب .
الثاني : عن أبي الدَّرْدَاء -رضي الله تعالى عنه- أن رجلاً سال النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال : « نَعَمْ » فقال السائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : « وَجَبَتْ » .
الثالث : عن ابن مَسْعُودٍ : رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « أَتَكُونُ صَلاَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ » ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني « .
وحجّة الأصم -رحمه الله تعالى- قوله عليه الصلاة والسلام : » صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي « جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم .
فصْلٌ
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- : قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه يقال الأكثرون .
وقال أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- : لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ .
لنا وجوه :
الأول : انه -عليه الصّلاة والسلام- وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، ولقوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] ، ولقوله تعالى : { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عمران : 31 ] .
ويا للعجب من أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه- انه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ ، في أنه -عليه الصلاة والسلام- مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه -عليه الصلاة والسلام- واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصَّلاةِ غير موقوفةٍ عليها ، وهذا من العَجَائب .
الثاني : قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السَّابق ، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاةِ إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها .
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر الوجوب ، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتِحَةِ في الصَّلاةِ .
الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنهم- واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلُّ عليه ما روي في » الصّحيحين « أن النَّبي -عليه الصلاة والسلام- وأبا بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- كانوا يستفتحون القراءة ب { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ، وإذا ثبت هذا وَجَب علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام :

« عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي » .
ولقوله عليه الصلاة والسلام : « اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي : أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ » رضي الله عنهما .
والعجب من أبي حنيفة -رحمه الله- أنه تمسّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان -رضي الله عنه- مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- كانا يخالفانه- ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث ، فلم يتمسّك بعمل [ كل ] الصحابة -رضي الله عنهم- على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن ، والإخبار ، والمعقول!
الرابع : أن الأمّة [ وإن ] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة ، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول : إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إنَّ الذين اعتقدوا انَّه لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها .
فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بيَّنَّا إطباق الكُلُّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَل فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ ، وهذا القدر يكفينا في الدَّليلِ ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .
الخامس : قوله عزَّ وجَلَّ : « قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن ، فإذا قَالَ العَبْدُ : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } يقول الله تَعَالى : حَمِدَنِي عَبْدِي . . . » ، إلى آخر الحديث .
وجه الاستدلال : أنه -تَعَالى- حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلا بسبب هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة .
السَّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : « لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ » .
قالوا : حرف النفي دخل على الصَّلاة ، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال .
والجواب من وجوه :
الأول : أنه جاء في بعض الرِّوَايات : « لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ » ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرَّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها ، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبتَ أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة ، وهذا [ هو ] أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه معنى تعذَّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب .

إذا ثبت هذا فنقول : المُشَابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [ أتم من المُشابَهةَ بين المعدوم وبين لموجود الذي لا يكون صحيحا ] ، لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى .
الحُجَّة السَّابعة : عن أ [ ي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج ، فهي خداج » أي غير تمام ، قالوا : الخِدّاجُ هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز .
قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاةِ دائم ، والأصل في الثابت ، البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ ، فعند الإتيان بها على سبل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- يصح الصوم يوم العيد إلا أنه قال : لو صام يوم العيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصُّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا للقضاء الخروج عن العُهْدَة .
وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟
الحُجَّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في « تعليقه » عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرَأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَاب » .
الحجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك -رضي الله عنه- أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن للرجل قال : علّمني الصَّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبَّرُوا ، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَاب » ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب .
الحُجّة العاشرة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها » قالوا : نعم ، قال : « فما تقرءونه في صَلاَتكم » ؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : « هِيَ هِيَ » .
وجه الدليل : أنه -عليه الصلاة والسلام- لما قال : « ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم » قالوا : الحمد لله رب العالمين ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة -رضي الله عنهم- أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم .
الحُجَّة الحادية عشرة : التمسُّك بقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ .
فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها .

وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة ، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز .
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ .
الحُجّة الثَّانية عشرة : الأصل بقاءُ التكليف ، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس .
أما الأول فباطل .
[ لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } وقد بينا أنه دليلنا . وأما القياس ] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاَة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .
الحُجّة الثالثة عشرة : أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره ، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع ، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : « اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا » ، و « أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرّ الأمُورِ مثحْدَثَاتُهَا » .
واحتج أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- بالقرآن والخبر .
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } .
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما- قال « أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لاَ صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ ، ولو بفاتحة الكِتَاب » .
والجواب عن الأول : أنا بيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا .
وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة ، وأيضاً لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : « لا صَلاَةَ إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب » وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى .
فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟
قال الشافعي -رضي الله عنه- : التّسمية آية من الفاتحة ، ويجب قراءتها مع الفاتحة ، وقال مالك والأوزاعي ، -رضي الله تعالى عنهما- : إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل ، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً ، إلاّ في قيام شهر رمضان ، فإنه يقرؤها .
وأما أبو حنيفة -رحمه الله- فلم ينص عليها ، وإنما قال : يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها ، ولم يقل : إنها آية من أول السورة أم لا .
قال : سُئل محمد بن الحسن -رحمه الله- عن « بسم الله الرحمن الرحيم » فقال : ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله -عز وجل- القرآن .
قلت : فَلِمَ يُسَرُّ بها؟ فلم يجبني .
وقال الكَرْخي -رحمه الله تعالى- : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة .

وقال بعض الحنفية -رحمهم الله- : تورّع أبو حنيفة وأصحابه -رحمهم الله- عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن ، أو ليست من القرآن أمر عظيم ، فالأولى السّكوت عنه .
حُجّة من قال : إن التسمية من الفاتحة :
روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية ، إيَّاكِ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية ، اهْدِنَا السِّراطَ المُسْتَقِيمَ آية ، صِرَاطَ الَّذِينّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية » ، وهذا نَصّ صريح .
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام- غيري » ؟ فقلت : بلى قال :
« بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاة؟ » قلت : بسم الله الرحمن الرحيم قال : « هِيَ هِي » وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن .
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحِمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له : « كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة » ؟ قال : أقول : الحمد لله رب العالمين ، قال : « قل : بسم الله الرحمن الرحيم » .
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى : { آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب ، فقيل للنابغة ، أين السَّابعة؟ فقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » .
وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، والنبي يحدث أصحابه ، إذ دخل رجل يصلّي ، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رجل ، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة ، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها تَرَكَ آيةً منها ، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته ، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا » .
وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم ، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى » .

وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما- : « مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى » ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل ، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة .
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم « المدينة » فصلّى بالناس : « مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم ، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى » .
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما- : « مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى » ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل ، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة .
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم « المدينة » فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها ، فقرأ أمّ القرآن ، ولم يقرأ « بسم الله الرحمن الرحيم » ، فلمى قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟ فأعاده معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم .
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة ، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها .
فصل في بيان عدد آيات الفاتحة
حكى عن الزَّمخشري : الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات .
وحكى ابن عطية قولين آخرين :
أحدهما : هي ستّ آيات ، فأسقط البَسْمَلَة ، وأسقط « أنعمت عليهم » .
والثاني : أنها ثماني آيات فأثبتهما .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري -رضي الله تعالى عنه- كان يقول : إنّ هذه السورة ثماني آيات ، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات ، وبه فسّروا قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] .
إذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ الذين قالوا : إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا : قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] إلى آخرها آية تامة منها .
وأما أبو حنيفة -رضي الله عنه- فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال : قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية ، وقوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } آية أخرى .
ودليل الشَّافعي -رضي الله تعالى عنه- أن مقطع قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة ، ورعاية التشابه في المَقَاطع لازم ، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين : مُتَقَاربة ، ومُتَشَاكلة . فالمتقاربة كَسُورَةِ « ق » .
والمُشَاكلَة في سورة « القمر » ، وقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين ، فامتنع جعله من المَقَاطع .
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } ابتداء آية ، فقد جعلنا أول الآية لفظ « غير » ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله ، أو استثناء مما قبله ، والصّفة مع الموصوف كالشَّيء الواحد ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد ، وإيقاع الفَصْل [ بينهما ] على خلاف الدليل ، أما إذا جعلنا قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [ كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً ، وآية واحدة ] ، وذلك أقرب إلى الدّليل .

فَصلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟
وللشافعي قولان :
قال ابن الخطيب : « والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور ، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة ، أو هي مع ما بعدها آية » .
وقال بعض الحنفية : إنّ الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل : إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور .
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن ، فوجب كونه قرآناً ، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم- قال في سورة « الملك » إنها ثلاثون آية ، وفي سورة « الكوثر » إنها ثلاث آيات ، ثم أجمعوا على أنَ هذا العدد حاصل بدون التسمية ، فوجب ألاّ تمون التسمية آية من هذه السّور .
والجَوَاب أنا إذا قلنا : بسم الله الرحمن الرحيم كع ما بعدها آية واحدة ، فالإشْكَال زائل . فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة ، فكيف يمكنكم أن تقولوا : إنها بعض آية من سائر السور؟
قلنا : هذا غير بعيدٍ ، ألا ترى أن قوله تعالى : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] آية واحدة ، فكذا ها هنا .
وأيضاً فقوله : سورة « الكوثر » ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات ، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السُّور ، فسقط هذا السُّؤال ، والله أعلم .
فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها
يروى عن أحمد بن حَنْبَل -رضي الله تعالى عنه- فإنه قال : ليست آية من الفاتحة ويجهر بها .
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : ليست آية من الفاتحة ، ولا يجهر بها .
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة ، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً ، وإما أن يكون بعضها سرياً ، وبعضها جهرياً ، فهذا مفقودٌ في جميع السور ، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية .
وقالت الشِّيعة : السُّنة هي الجَهْر بالتسمية ، سواء كانت الصلاة [ جهرية أو سرية ] .
والذين قالوا : إن السمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة ، وفيه قولان :
الأول : أن التسمية ليست من القرآن ، وهؤلاء فريقان :
منهم من قال : كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور ، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً ، فلا حاجة إلى إثبات التسمية ، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ .

ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها في المُصْحف ، ولا يجوز تركها أبداً .
والقول الثاني : أنها من لقرآن ، وقد أنزلها الله تعالى ، ولكنها آية مستقلة بنفسها ، وليست بآية من السورة ، وهؤلاء أيضاً فريقان :
منهم من قالك إن الله -تعالى- كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ .
ومنهم من قال : لا ، أنزلها مرة واحدة ، وأمَرَ بإثباتها في [ أول ] كل سورة .
والذي يدلّ على أن الله -تعاىل- أنزلها ، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد « بسم الله الرحمن الرحيم » آية فاصلةً .
وعن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينا : إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن « بسم الله الرحمن الرحيم » ليست من القرآن ، فقال : سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول : سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول : كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أنزل عليه « بسم الله الرحمن الرحيم » على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها .
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال : من ترك « بسم الله الرحمن الرحيم » فقد ترك مائة وثلاث عشرة آيةً .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله- : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم ، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن .
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن ، فحينئذٍ كان ابن مسعود -رضي الله عنه- عالماً فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل .
وإن قلنا : النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال : إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية .
والأغلب على الظن أن يقال : هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ ، والله الهادي إلى الصواب ، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب .

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

إن قيل : إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي ، بمعنى أن الميم اسم ل « مه » والعين ل « عَه » ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم ، ولكن عجزتم عنه ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدة ، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو : « واحد اثنان » ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة ، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال :
أحدها : ما تقدم .
والثاني : أنها معربة ، بمعنى أنها صالحة للإعراب ، وإنما فات شرطه وهو التركيب ، وإليه مال الزمخشري رحمه الله .
والثالث : أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ .
أو إن قيل : إنها أسماء السور المفتتحة بها ، أو إنها بعض أسماء الله -تعالى- حذف بعضها ، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس -رضي الله تعالى عنهما- كقوله : الميم من « عليهم » ، والصاد من « صادق » ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر : فالرفع على أحد وجهين أيضاً : إما بإضمار فعلٍ لائقٍ ، تقديره : اقرءوا : « الم » ، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
97- إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ
يريد : وأَمَانَةِ الله .
وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها .
وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه : أنّ القرآن في : { والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] وللقلم في { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } [ القلم : 1 ] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم ، أو للعطف ، والأول يلزم منه محذور ، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال : [ وهم يستكرهون ] ذلك .
والثاني ممنوع ، لظهور الجَرِّ فيما بعدها ، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب ، وهو ردّ واضح ، إلا أن يقال : في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [ فيما بعده ] كالموضعين المتقدمين؛ { حموالكتاب } [ الزخرف : 1-2 ] ، و { ق والقرآن } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع ، فالرد لازم كله .
والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ ، وهو أنها مقسمٌ بها ، حذف حرف القسم ، وبقي عمله كقولهم : « اللهِ لأفعلنَّ » أجاز ذلك الزمخشري ، وأبو البقاء رحمهما الله ، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها .
فتخلص مما تقدم أن في « الم » ونحوها ستة أوجه وهي : أنها لا محل لها من الإعراب ، أوْ لَهَا محل ، وهو الرفع بالابتداء ، أو الخبر .
والنَّصب بإضمار فعل ، أو حذف حرف القسم .
فصل في الحروف المقطعة
سئل الشعبي -رحمه الله تعالى- عن هذه الحروف فقال : سرّ الله ، فلا تطلبوه .
وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا ، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها ، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى .

قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : « في كل كتاب سِرّ » وسرُّ الله -تعالى- في القرآن أوائل السور « .
ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق ، واحتجوا عليه بآيات منها :
قوله تبارك وتعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] بالتدَّبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم ، فكيف يأمر بالتدبّر فيه .
ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقَّاً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : » أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم « .
وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان : منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات ، والسَّعي بين الصفا والمروة ، والرَّمل ، والاضْطِبَاع .
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله -تعالى- أن يأمر عباده بالنوع الأول ، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول ، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم ، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه .
أما الطاعة في النوع الثاني ، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال ، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [ الأمر ] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله -تعالى- تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارةً بما لا نقف على معناه ، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم .
القول الثَّاني : قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومة ، واختلفوا فيه ، وذكروا وجوهاً :
الأوّل : أنها أسماء السّور ، وهو قول أكثر المتكلمين ، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى .
قال القفَّال -رحمه الله تعالى- وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب » لام « : والد حارثة بن لام الطَّائي ، وكقولهم للنَّخاس : » صاد « ، وللنقد : » عين « ، وللسحاب : » غين « .
وقالوا : جبل » قاف « ، وسموا الحوت : » نوناً « .
الثاني : أنها أسماء الله تَعَالى ، روي عن علي -رضي الله تَعَالى عنه- أنه كان يقول : يا حم عسق .
الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى .
قال سعيد بن جبير رحمه الله : قوله : » الر ، حم ، ونون « مجموعها هو اسم الرحمن ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي .
الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكَلْبِيّ -رحمه الله تعالى- والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم .

الخامس : أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله -تعالى- وصفة من صفاته .
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في « الم » : « الألف إشارة إلى أنه [ أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، » واللام « إشارة إلى أنه لطيف ، » والميم « إشارة إلى أنه ] مَلِك مَجِيد مَنَّان » .
وقال في « كهيعص » : إنه ثناء من الله -تعالى- على نفسه ، « والكاف » يدل على كونه كافياً ، « والهاء » على كونه هادياً ، « والعين » على العالم ، « والصاد » على الصادق . وذكر ابن ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه حمل « الكاف » على الكبير والكريم ، « والياء » على أن الله يجير ، « والعين » على أن الله العزيز والعدل .
والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك .
السادس : بعضها يدلّ على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصّفات . قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في « الم » أنا الله أعلم ، وفي « المص » أنا الله أفصل ، وفي « الر » أنا الله أرى ، وهذه رواية أبي صالح ، وسعيد بن جبير عنه .
قال الزَّجَّاج : « وهذا أحسن ، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم : [ مشور السريع ]
98- قُلْنَا لَهَا : قِفِي لَنَا قَالت : قَافْ ... ... ... ... ... ... ... . .
وأنشد سيبويه لغيلان : [ الرجز ]
99- نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا ، أَلاَ تَاَ ... قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا
أي : لا تَرْكَبُوا ، قالوا : بَلَى فَارْكَبُوا .
وأنشد قُطْرب : [ الرجز ]
100- جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا ... تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا
السّابع : كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال ، ف » الألف « آلاؤه ، و » اللاّم « لُطْفه ، و » الميم « مَجْدُه ، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي .
الثَّامن : بعضها يدلّ على أسماء الله -تعالى- وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى .
قال الضَّحاك : » الألف « من الله ، و » اللم « من جبريل ، و » الميم « من محمد عليه الصلاة والسلام [ أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسلام ] .
التاسع : ما قاله المبرّد : واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين -أن الله- تعالى- إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار ، وذلك أن الرَّسول -عليه الصلاة والسّلام- لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن ، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ ، أو بسورة ، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفَصَاحة ، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ .
العاشر : قول أبي روق وقُطْرب : إن الكفَّار لما قالوا :

{ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله -تعالى- لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه ، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم ، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ، فأنزل الله -تعالى- عليهم هذه الأحرف ، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم ، وطريقاً إلى انتفاعهم ، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول .
الحادي عشر : قول أبي العَالِيَةِ « إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين » .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَتْلُو سورة البقرة » الم ذَلِكَ الكِتَابُ « ، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب ، وكَعْب بن الأَشْرَف ، وسألوه عن » الم « وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » نعم كذلك نزلت « ، فقال حُيَيّ : إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيَيّ : فهل غير هذا؟ قال : » نعم المص « فقال حُيَيّ : هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهب غير هذا؟ قال : » نعم الر « قال حُيَيّ : هذه أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً ، فهل غير هذا؟ قال : » نعم « قال : » المر « قال : فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوال نأخذ .
فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة ، ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } [ آل عمران : 7 ] الآية الكريمة .
ورُوي عن ابن عَبَّاس -رضي الله تعالى عنهما- أنا أقسام .
وقال الأخفش : أقسم الله -تعالى- لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة ، ومباني أسمائه الحسنى .
وقيل فيها غير ذلك .
واعلم أن الله -تعالى- أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم ، وهي أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والباء ، والنون في تسع وعشرين سورة .
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد ، فوردت » ص ق ن « على حرف .
و » طه وطس ويس وحم « على حرفين .

و « الم والر وطسم » على ثلاثة أحرف .
و « كهيعص وحم عسق » على خمية أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف ، فكذا هاهنا .
قوله : { ذَلِكَ الكتاب }
يجوز في « ذلك » أن تكون مبتدأ ثانياً ، و « الكتاب » خبره ، والجملة خبر « الم » ، وأغنى الربط باسم الإشَارة ، ويجوز أن يكون « الم » مبتدأ .
و « ذلك » خبره ، و « الكتاب » صفة ل « ذلك » ، أو بدل منه ، أو عطف بيان ، وأن يكون « الم » نبتدأ ، و « ذلك » مبتدأ ثانٍ ، و « الكتاب » : إما صفة له ، أو بدل منه ، أو عطف بيان له .
و « لا ريب فيه » [ خبر ] عن المبتدأ الثاني ، وهو خبره خبر عن الأول .
ويجوز أن يكون « الم » خبر مبتدأه مضمر ، تقديره : « هذا الم » ، فتكون جملة مستقلة بنفسها ، ويكون « ذلك » مبتدأ ثانياً ، و « الكتاب » خبره .
ويجوز أن يكون صفة له ، أو بدلاً ، أو بياناً ، و « لا ريب فيه » هو الخبر عن « ذلك » أو يكون « الكتاب » خبراً ل « ذلك » ، و « لا ريب فيه » خبر ثان ، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر ، وأحدهما جملة ، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] ، إذا قيل بأن « تسعى » خبر .
وأما إن جُعِلَ صفة فلا .
و « ذلك » اسم إشارة : الاسم منه « ذا » ، و « اللاَّم » للبعد ، و « الكاف » للخطاب ، ولها ثلاث رُتَب :
دُنْيَا : ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو : « ذا وذي » و « هذا وهذي » .
وَوُسْطَى : ولها المتّصل بحرف الخطاب ، نحو « ذاك وذيك وتيك » .
وقُصْوَى : ولها المتّصل ب « اللام » و « الكاف » نحو : « ذلك وتلك » .
ولا يجوز أن تأتي ب « اللام » إلاّ مع « الكاف » ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع « اللاَّم » ، فيمتنع للطول .
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين : دُنْيَا وغيرها . واختلف النحويون في « ذا » هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟
الأول قول البصريين ، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء ، فيكون من باب « حيي » ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب « غويت » ثم حذفت لامه تخفيفاً ، وقلبت العين ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، وهذا كله على سبيل التّمرين .
وأيَّا فهذا مبني ، والمبني لا يدخله تصريف ، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه : [ الطويل ]

101- أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد .
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام .
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ .
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد ، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً ، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك . وقال الأصَمّ وابن كيْسَان : إن الله -تعالى- أنزل قبل سورة « البقرة » سوراً كذب بها المشركون ، ثم أنزل سورة « البقرة » فقال : « ذلك الكتاب » يعني ما تقدّم « البقرة » من السّور لا شك فيه .
قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر ، لكن لا نسلّم أن لفظة « ذلك » لا يشار بها إلا إلى البعيد .
بيانه : أن « ذلك » و « هذا » حرف إشارة ، وأصلهما « ذا » لأنه حرف الإشارة ، قال تعالى : { مَّن ذَا الذي } لبقرة : 245 ] .
ومعنى « ها » تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي : تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه ، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه ، وقد تدخل « الكاف » على « ذَا » للمخاطبة ، و « اللام » لتأكيد معنى الإشارة ، فقيل : « ذلك » ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه ، فهذا يدلّ على أن لفظة « ذلك » لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع ، بل اختص في العُرْف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض .
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البُعْد ، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر .
قال تعالى : { واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [ ص : 45 ] ، إلى قوله : { وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار } [ ص : 48 ] ثم قال : { هذا ذِكْرٌ } [ ص : 49 ] وقال : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ } [ ص : 52- 53 ] .
وقال : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] .
وقال تعالى : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } [ النازعات : 24-25 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } [ الأنبياء : 105 ] وقال تعالى : { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً } [ الأنبياء : 106 ] .
وقال : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } [ البقرة : 73 ] [ أي هكذا يحيي الموتى ] .
وقال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 18 ] أي ما هذه التي بيمينك .
و « الكتاب » في الأصل مصدر؛ قال تعالى : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] وقد يراد به المكتوب ، قال الشاعر : [ الطويل ]
102- بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا

ومثله [ الوافر ]
103- تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ ... كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ ، ومنه كتيبة الجَيْش ، وكَتَبْتُ القربة ، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها ، وَالكُتَبة -بضم « الكاف » الخرزة ، والجمع كَتَب ، قال : [ البسيط ]
104- وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدَّابة [ إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ ] قال الشاعر : [ البسيط ]
105- لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ ... عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض .
قال ابن الخطيب : « واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن ، قال تبارك وتعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } [ ص : 29 ] .
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه :
أحدها : الفرض { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } [ البقرة : 178 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] ، { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان : { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الصافات : 157 ] أي : بِبُرْهانكم وحجّتكم .
ثالثها : الأَجَل : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أي : أَجَل .
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد عبده : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النور : 33 ] وهذا المصدر » فِعَال « بمعنى » المُفَاعلة « كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة .
والكتاب -هنا- المُرَاد به القرآن ، وله أسماء :
أحدها : الكِتَاب كما تقدم .
وثانيها : القُرْآن : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً } [ الزخرف : 3 ] ، { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] .
وثالثها : الفُرْقَان : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان } [ الفرقان : 1 ] .
ورابعها : الذِّكْر ، والتَّذْكِرَة ، والذِّكْرَى : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] ، { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] وقوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] .
وخامسها : التَّنْزِيل : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] .
وسادسها : الحديث : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] .
وسابعها : المَوْعِظَة : { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] .
وثامنها : الحُكْم ، والحِكْمَة ، والحَكِيم ، والمُحْكَم : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [ الرعد : 37 ] ، { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5 ] ، { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1-2 ] ، { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] .
وتاسعها : الشِّفَاء : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ } [ الإسراء : 82 ] .
وعاشرها : الهُدَى ، والهَادِي { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، { قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد } [ الجن : 1-2 ] .
وذكروا له أسماء أُخَر منها :
» الصِّرَاط المستقيم ، والعِصْمَة ، والرَّحْمَة ، والرُّوح ، والقَصَص ، والبَيَان ، والتِّبْيَان ، والمُبِين ، والبَصَائر ، والفَصْلُ ، والنُّجُوم ، والمَثَاني ، والنّعْمَة ، والبُرْهَان ، والبَشِير ، والنَّذِير ، والقَيِّم ، والمُهَيْمِن ، والنور ، والحق ، والعزيز ، والكريم ، والعظيم ، والمبارك « .
قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } .
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه .
قال بعضهم : هو خبر بمعنى النّهي ، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .
قرأ ابن كثير : » فِيهِ « بالإشباع في الوَصْلِ ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن ، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء ، وإنْ كان غيرها يشبعها بالضم واواً ، ووافقه حفص في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] فأشبعه .
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، و » لا « نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها .

« إنَّ » ، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به ، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف ، وهو « من » الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
106- فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وقيل : بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب . وزعم الزَّجَّاج أن حركة « لاَ رَجُلَ » ونَحْوِه حركة إعراب ، وإنما حذف التنوين تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله : [ الوافر ]
107- ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ
ولا دليل له لأن التقدير : إَلاَ تَرَونَنِي رَجُلاً؟
فإن لم يكن مفرداً -وأعني به المضاف والشبيه به- أُعْرِبَ نَصْباً نحو : طلا خيراً من زيد « ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة ، وأما نحو قوله : [ الطويل ]
108- تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ ... بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ
وقول الآخر : [ الوافر ]
109- أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
110- لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : » لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ ، إذا هلك كِسْرَى ، فلا كسرى بَعْدَه « فمؤوَّل .
و » رَيْبَ « اسمها ، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو » فيه « إلاّ أن بني » تميم « لا تكاد تذكر خبرها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريب كائن ، ويكون الوَقْفُ على » ريب « حينئذ تامَّا ، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها ، قالوا : » لا عليك « أي : لا بأس عليك .
ومذهب سيبويه رحمه الله : أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء ، ولا عمل لها في الخبر .
ومذهب الأخفش : أن اسمها في مَحَلّ رفع ، وهي عاملة في الخبر .
ولها أحكامٌ كثيرة ، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو .
واعلم أن » لا « لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي ، وهي فيه على قسمين :
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم ، وقسم تنفي فيه الوحدة ، وتعمل حينئذ عمل » ليس « ، ولها قسم آخر ، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله : { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
و » الرَّيْب « : الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك : [ الخفيف ]
111- لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري : » قلق النفس واضطرابها « .
ومنه الحديث : » دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك « .
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال : » لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ « .
فليس قول من قال : » الرَّيب الشك مطلقاً « بجيّد ، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم .
وقال بعضهم : في » الرّيب « ثلاثة معانٍ :
أحدها : الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى : [ الخفيف ]

112- لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ .. .
وثانيها : التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ : [ الطويل ]
113- بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي ... فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها : الحاجات؛ قال : [ الوافر ]
114- قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن الخطيب : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، كأنه ظن سوء ، تقول : رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً .
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : « ريب الدهر » و « ريب الزمان » أي : حوادثه ، قال تعالى : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ ، كقول الشاعر : [ الوافر ]
115- قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ .. . . .
قلنا : هذا يرجعان إلى معنى الشك ، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه : نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته ، ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] .
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : « لاَ رَيْبَ فِيهِ » وفي موضع آخر : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب .
ولو قلت : « لا فيه ريب » لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا ، كما قصد في قوله تعالى { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا . فإن قيل : من أين يدلّ قوله : « لاَ رَيْبَ فِيهِ » على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن قوله : « لا ريب » نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مُنَاقض نفي الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : « لا إله إلا الله » نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى .
وقرأ أبو الشعثاء : « لاَ رَيْبُ فِيهِ » بالرفع ، وهو نقيض لقولنا : « ريب فيه » ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ، فيتحقق التناقض .
والوقف على « فيه » هو المشهور .
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على « ريب » ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : { لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : « لا بأس » .
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه .

الجواب : [ المراد ] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
وقيل : في الجواب وجوه أخر :
أحدها : أن النفي كونه متعلقاً للريب ، المعنى : أنه منعه من الدلالة ، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه ، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر ، فريبه غير معتدّ به .
والثاني : أنه مخصوص ، والمعنى : لا ريب فيه عند المؤمنين .
والثالث : أنه خبر معناه النهي . والأول أحسن .
قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } . يجوز فيه عدة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا : إن خبر « لا » محذوف .
وإن قلنا : « فيه » خبرها ، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر « لا » ، تقديره : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو هدى ، وأن يكون خبراً ثانياً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » صفةً أو بدلاً ، أو بياناً ، و « لا ريب » خبر أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » خبراً أول ، و « لا ريب » ، خبراً ثانياً ، وأن يكون منصوباً على الحل من « ذلك » ، أو من « الكتاب » ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في « فيه » ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ ، وجعله حالاًَ مما تقدم : إما على المُبَالغة ، كأنه نفس الهُدَى ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا هُدَى ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً ، أو صفة ، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة ، أرجحها الأول .
وأجازوا أن يكون « فيه » صفةً ل « ريب » ، فيتعلّق بمحذوف ، وأن يكون متعلقاً ب « ريب » ، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً ، واسم « لا » إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه « ريب » لا لنفس « ريب » .
وقد تقدّم معنى الهدى « عند قوله تبارك وتعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .
و » هُدّى « مصدر على وزن » فُعَل « فقالوا : ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا » سُرّى « و » بُكّى « و » هُدّى « ، وجاء غيرها ، وهو » لَقِيتُهُ لُقًى « ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]

116- وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ ... بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا
و « الهدى » فيه لغتان : التذكير ، ولم يذكر اللّحْياني غيره .
وقال الفراء : بعض بني أسد يؤنثه ، فيقولون : هذه هدى .
و « في » معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : « زيد في الدار » ، { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] ولها معان آخر :
المصاحبة : نحو : { ادخلوا في أُمَمٍ } [ الأعراف : 38 ] .
والتعليل : « إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ » وموافقة « على » : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع ] ، والباء : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي بسببه .
والمقايسة نحو قوله تعالى : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
و « الهاء » في « فيه » أصلها الضم كما تقدم من أن « هاء » الكناية أصلها الضم ، فإن تقدمها ياء ساكنة ، أو كسرة كسرها غري الحجازيين ، وقد قرأ حمزة : « لأَهْلِهُ امْكُثُوا » وحفص في : « عَاهَدَ عَلَيهُ الله » [ الفتح : 10 ] ، { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ } [ الكهف : 63 ] بلغه أهل الحِجَاز ، والمشهور فيها -إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو : « فيه » و « منه » - الاختلاس ، ويجوز الإشْبَاع ، وبه قرأ ابن كثير ، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ، وقد تختلس وتسكن ، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى .
و « للمتقين » جارّ ومجرور متعلّق ب « هدى » .
وقيل : صفة ل « هدى » ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحله حينئذ : إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه ، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين .
والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها ، ف « الم » جملة إن قيل : إنها خبر مبتدأ مضمر ، و « ذلك الكتاب » جملة ، و « لا ريب » جملة ، و « فيه هدى » جملة ، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف .
قال الزمخشري : « وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق . [ وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق ] بعض ، والثانية متحدة بالأولى ، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة .
بيانه : أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال ، فكان تقريراً لجهة التحدي . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله .
ثم أخبر عنه بأنه » هدى للمتقين « ، فقرر بذلك كونه يقيناً ، لا يحوم الشّك حوله ، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [ من ] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة : ففي الأولى الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه .
وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة .

وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف .
وفي الثالثة ما في تقديم « الريب » على الظرف .
وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو « هدى » موضع الوصف الذي هو « هاد » وإيراده منكراً .
« المتقين » جمع « مُتَّقٍ » ، وأصله : مُتَّقِيينَ بياءينِ ، الأولى : لام الكلمة ، والثانية علامة الجمع ، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة ، وهي الياء الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحذف إحداهما وهي الأولى .
و « متقٍ » من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين ، ووقعت بعدهما « تاء » الافتعال أن يبدلا « تاء » نحو : « اتَّعَدض » من الوَعْدِ ، و « اتَّسَرَ » من اليُسْرِ . وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ ، قالوا : « اتَّزَرَ » و « اتَّكَلَ » من الإِزَارِ ، والأَكْلِ .
و ل « افتعل » اثنا عشر معنى :
الاتِّخَاذ نحو : « اتقى » .
والتسبب نحو : « اعمل » .
وفعل الفاعل بنفسه نحو : « اضطرب » .
والتخير نحو : « انتخب » .
والخطف نحو : « استلب » .
ومطاوعة « أَفْعَلَ » نحو : « انتصف » .
ومطاوعة « فَعَّلَ » نحو « عمّمته فاعتمّ .
وموافقة » تَفَاعَلَ « و » تَفَعَّلَ « و » اسْتَفْعَلَ « نحو : احتور واقتسم واعتصم ، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم .
وموافقة المجرد ، نحو » اقتدر « بمعنى : قَدَرَ .
والإغناء عنه نحو : » اسْتَلَم الحجر « ، لم يُلْفَظْ له بمجرد .
و » الوقاية « : فرط الصيانة ، وشدة الاحتراس من المكروه ، ومنه » فرس وَاقٍ « : إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه .
وقيل : هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام .
وفي الحديث : » التَّقِيُّ مُلْجَمٌ « .
ومن الصيانة قوله : [ الكامل ]
117- سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
118- فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ » الهدى « في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى :
الأول : بمعنى » البَيَان « قال تعالى : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] أي : على بيان ، ومثله ، { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] أي : لتبين ، وقوله تبارك وتعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بَيَّنَّا لهم .
الثاني : الهُدَى : دين الإسلام ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } [ آل عمران : 73 ] أي : دين الحق هو دين الله .
وقوله : { إِنَّكَ لعلى هُدًى } [ الحج : 67 ] أي : دين الحق .
الثالث : بمعنى » المَعْرِفَة « قال تعالى : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] أي : يعرفون ، وقوله تعالى : { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 41 ] أي : أتعرف .
الرابع : بمعنى » الرسول « قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] أي : رسول .

الخامس : بمعنى « الرشاد » قال تعالى : { واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } [ ص : 22 ] أي أرشدنا .
وقوله : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] .
وقوله تعالى : { اهدنا الصراط } [ الفاتحة : 6 ] .
السادس : بمعنى : « القرآن » قال تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } [ النجم : 23 ] أي : القرآن .
السابع : بمعنى : بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي } [ الشورى : 52 ] .
الثامن : بمعنى « شرح الصدور » قال تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .
التاسع : التوراة ، قال تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى } [ غافر : 53 ] يعني : التوراة .
العاشر : « الجنة » قال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ } [ يونس : 9 ] أي : يدخلهم الجنة .
الحادي عشر : « حج البيت » قال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] أي الحج .
الثاني عشر : « التوبة » قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } [ يوسف : 52 ] أي : لا يصلح .
الثالث عشر : « التوبة » قال تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
فصل في المقصود بالهدى
قال ابن الخطيب « رضي الله تعالى عنه » : الهُدَى عبارة عن الدلالة .
وقال صاحب « الكشاف » : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية .
وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال ، وقد ثبت الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء . واحتج صاحب « الكشَّاف » بأمور ثلاثة :
[ أوّلها ] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى ، قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : { قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وثانيها : يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي ، فلم يَهْتَدِ .
وثالثها : أن « اهتدى » مطاوع « هَدَى » يقال : هَدَيْتُه فَاهْتَدَى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم « الهدى » .
والجواب عن الأوَّلِ : أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل « الهدى » هو « الإضلال » ومقابل « الاهتداء » هو « الضلال » فجعل « الهدى » في مقابلة « الضلال » ممتنع . وعن الثاني : المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم .
وعن الثالث : أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار ، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد .

ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن الله -تعالى- وصف القرآن بأنه هدى ، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .
فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى ، والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين .
وفي الحديث : « كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم » .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب ، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار : « حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك التَّقوى » . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله -تعالى- ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين ، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد .
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
فروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : « لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ » . وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } [ الحجرات : 3 ] ، { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } [ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا } [ الأعراف : 96 ] ، { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] .
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله } [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة الإخلاص كقوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص القلوب .
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟
والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال :

{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] وقال : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } [ يس : 11 ] .
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذلك فيه ، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون هدى؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين -وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع -صار كله هُدًى .
السؤال الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله -تعالى- وصفاته ، وفي معرفة النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي العموم ، فإن الله -تعالى- وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى؟ قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

« الذين » يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر ، وهو من ثلاثة أوجه : أظهرها : أنه نعت ل « المتقين » .
والثاني : بدل .
والثالث : عطف بيان .
وأما الرفع فمن وجهين :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : « أولئك » الأولى .
والثاني : « أولئك » الثانية ، والواو زائدة ، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله : « والذين يؤمنون » يمنع كونه « أولئك » الأولى خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
والنصب على القطع .
و « يؤمنون » صلة وعائد .
قال الزمخشري : « فإذا كان موصولاً كان الوقف على » المتقين « حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً » .
وهو مضارع علامة رفعه « النون » ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به « ألف » اثنين ، أو « واو » جمع ، أو « ياء » مخاطبة ، نحو : « يؤمنان- تؤمنان- يؤمنون- تؤمنون- تؤمنين » .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث ، على تفصيل ياتي إن شاء الله -تعالى- في غُضُون هذا الكتاب .
وهو مضارع « أمن » بمعنى : صدق ، و « آمن » مأخوذ من « أمن » الثلاثي ، فالهمزة في « أمن » للصّيرورة نحو : « أعشب المكان » أي : صار ذا عُشْب .
أو لمطاوعة فعل نحو : « كبه فأكب » ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] ، { فَمَآ آمَنَ لموسى } يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل « يؤمنون » : « يؤأمنون » بهمزتين :
الأولى : همزة « أفْعَل » .
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الولى؛ لأن همزة « أفْعَل » تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : طأكرم « و » يكرم « و » أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم « .
وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو : » أنا أكرم « ، الأصل : أأكرم بهمزتين ، الولى : للمضارعة والثانية : همزة أفعل ، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب .
ولا يجوز ثبوت همزة » أفعل « في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله : [ الرجز ]
119- فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا ... وهمزة » يؤمنون « -وكذلك كل همزة ساكنة- يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفاً متجانساً نحو : » راس « و » بير « و » يومن « ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو : » إيمان « و » آمن « .

فصل
قال بعضهم : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : « الذين يؤمنون » .
وإما أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ، وأصلها الصَّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام : « الصَّلاَة عِمَاد الدِّين ، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام » أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة ، لقوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق :
الفرقة الاولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ، والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث .
أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً ، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء ، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة .
أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي -الذي هو التصديق- إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ، أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ ، وأبي الهذيل ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد .
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم .
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [ اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد . ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ] .
فالمؤمن عند الله كل من اجتنب ] كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النّظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها .
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة .

وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجثحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب .
والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه .
ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل .
الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللِّسان والقَلْب نعاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :
الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين :
أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فَسَّرها بالاعتقاد الجازم -سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو كان علماً صادراً عن الدليل- وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم .
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال .
وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف .
وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم ، أو عالماً بذاته ، وبكونه مرئياً أو غير مرئي ، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان .
القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس .
الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ ، حتى إن من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صَفْوَان .
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان .
وحكى الكعبي عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد .
ثانيهما : أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي .
الفرقة الرابعة الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :
الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل « غيلان » .

الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع .
و « بالغيب » متعلّق ب « يؤمنون » ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل ، أو اسم المفعول ، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من « غاب » وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم مفعول من « فَعَّلَ » مضعفاً متعدياً ، أي : المُغَيَّب ، وفيه بعد . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون مخففاً من « فَيْعِل » نحو : « هَيِّن » من « هَيْن » ، و « مَيِّت » من « مَيْت » . وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره ، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا خاصّة . ويجوز أن تكون « الباء » للحال فيتعلّق بمحذوف أي : يؤمنون متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و « الغيب » حينئذ مصدر على بابه .
فصل في معنى « يؤمنون بالغيب »
في قوله « يؤمنون بالغيب » قولان :
الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : « يؤمنون بالغيب » صفة المؤمنين معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين « إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، آمَنَّ : وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ » .
نظيره قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين .
الثاني : وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل .
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله -تعالى- وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم .
واحتج أبو مسلم بأمور :
الأول : أن قوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان المراد من قوله : « الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ » هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز .
الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب . أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور .

الثالث : لفظ « الغيب » إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله -تعالى- وصفاته ، فقوله : « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور .
والجواب عن الأول : أن قوله : « يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله بعد ذلك : « وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ » يتناول الإيمان ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] .
وعن الثاني : لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً .
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا؟
قلنا : قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه .
أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة .
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور ، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته ، والله أعلم .
واختلفوا في المراد ب « الغيب » .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : « الغيب -ها هنا- كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل : الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان » .
وقيل : الغيب هاهنا هو الله تعالى .
وقيل : القرآن .
وقال الحسن : الآخرة .
وقال زرُّ بن حبيش ، وابن جريج : بالوحي .
ونظيره : { أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب } [ النجم : 35 ] قال ابن كيسان : بالقدر .
وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب ، ثم قرأ : « الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ » إلى قوله « المفلحون » .
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدي المنتظر .
قال ابن الخطيب : « وتخصص المطلق من غير دليل باطل » .
قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو وورش : « يُؤمِنُونَ » ، بترك الهمزة .
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في { أَنبِئْهُمْ } [ البقرة : 33 ] ، و { يُنَبِّئُهُمُ } [ المائدة : 14 ] ، و { نَبِّئْنَا } [ يوسف : 36 ] .
ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو :

{ وَنَبِّئْهُمْ } [ الحجر : 51 ] ، « وأَنبئْهُمْ » ، و { تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] ، و { إِن نَّشَأْ } [ الشعراء : 4 ] ونحوها ، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو : { مُّؤْصَدَةُ } [ البلد : 20 ] ، و { وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] .
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت « فاء » الفعل ، إلا { وتؤويا } [ الأحزاب : 51 ] و { تُؤْوِيهِ } [ المعارج : 13 ] ، ولا يترك من عين الفعل إلا { الرؤيا } [ الإسراء : 60 ] وبابه ، أو ما كان على وزن « فعل » . و « يقيمون » عطف على « يؤمنون » فهو صلةٌ وعائد .
وأصله : يؤقومون حذفت همزة « أفعل » ؛ لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ، ففعل فيه ما فعل في « مستقيم » ، وقد تقدم في الفاتحة . ومعنى « يقيمون » : يديمون ، أو يظهرون ، قال تعالى : { على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 23 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]
120- أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ البطْ ... طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا
وقال آخر : [ الكامل ]
121- وَإِذَا يُقَالُ : أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا ... حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ
من قامت السّوق : إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق .
وفي ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها ، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور ، أو يكون عبارةً عن أدائها ، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت . وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق } [ البقرة : 213 ] يعني : الكتب .
و « الصّلاة » مفعول به ، ووزنها : « فَعضلَة » ، ولامها واو ، لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، واشتقاقها من : « الصَّلَوَيْنِ » وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ مفترقان من « الصّلاَ » ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجَبِ الذَّنْبِ ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ ، ومنه « المُصَلِّي » في حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند « صَلَوَي » السابق . ذكره الزَّمخشري .
قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ « الصلاة » من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل ، ولو جوزنا أن [ يقال ] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله -تعالى- من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر ، وكان مراد الله -تعالى- تلك المعان ] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا ، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل .

وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شَكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور .
وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا .
و « الصَّلاة » لغة : الدّعاءُ : [ ومنه قول الشاعر ] [ البسيط ]
122- تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً
أي : مثل الَّذي دعوت ، ومثله : [ الطويل ]
123- لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
وفي الشرع : هذه العبادة المعروفة .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : « صَلِيَ بِالنَّارِ » أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : { تصلى نَاراً حَامِيَةً } [ الغاشية : 4 ] قال : [ الخفيف ]
124- لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار ، أي : قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء -وهو حَرّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال : [ الوافر ]
125- فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ ... فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ
ذكر ذلك الخَارزنجِيّ ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن « الصلاة » من ذوات الواو ، وهذا من الياء . وقيل في قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار ، ومن المؤمنين الدعاء .
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } مما : جاء ومَجْرور متعلّق ب « ينفقون » و « ينفقون » معطوف على الصّلة قبله ، و « ما » المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون اسماً بمعنى « الذي » ، و « رزقناهم » صِلَتِهَا ، والعائد محذوف .
قال أبو البقاء : « تقديره رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه » .
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه ، نصُّوا عليه ، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض .
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً -وإن اتحدا رتبةً- جاز اتصاله؛ ويكون كقوله : [ الطويل ]
126- فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ ... لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا
وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي .
وعن الثَّاني : بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً .
الثَّالث : أن تكون مصدريةً ، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي : مرزوقاً .

وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال : « لأنَّ الفعل لا يتفق » ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول . والرزق لغة : العَطَاء ، وهو مصدر؛ قال تعالى : { وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] وقال الشَّاعر : [ البسيط ]
127- رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ ... إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وقيل : يجوز أن يكون « فِعْلاً » بمعنى « مفعول » نحو : « ذِبْح » ، و « رِعْي » بمعنى : « مَذْبوح » ، و « مَرْعيّ » .
وقيل : « الرِّزْق » -بالفتح- مصدر ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد .
وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره .
ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل؛ لأن الله -تعالى- أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا } [ المنافقون : 10 ] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه .
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة ، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به ، والعقل لي بمملوك ، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك . وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء ، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به .
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا -تعالى- أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ .
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً . وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً .
قال ابن الخطيب : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له .
الثَّاني : أنه تعالى قال : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً .
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب ، والسُّنة ، والمعنى :
أما الكتاب فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .
ثانياً : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : { مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } [ المنافقون : 10 ] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه ] ، بل يجب رَدّه ، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً .

ثالثها : قوله تَعَالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] فبين أن من حرم رزق الله ، فهو مُفْتَرٍ على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً .
وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب « الفرائض » بإسناده عن صفوان بن أمية قال : « كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة ، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي ، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ . فقال عليه الصّلاة والسلام : » لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [ رزقاً ] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً « .
وأما المعنى فإنَّ الله -تَعَالَى- منع المكلّف من الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا أمر بمنعهم منه .
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله ، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكِلاَب والخَنَازير ، وقال : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان الكُفَّار أيضاً من العباد ، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً .
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : » فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه « صريح في أن الرزق قد يكون حراماً .
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة ، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله أعلم .
و » نفقط الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ « نفذ » « نَفَشَ » « نَفَحَ » « نفخ » « نفض » « نفل » .
و « نفق » الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة : ماتت نُفُوقاً ، والنفقة : اسم المُنْفَق .
فصل في معاني « من »
و « من » هنا لابتداء الغاية .
وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أخر :
بيان الجنس :

{ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
والتعليل : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } [ البقرة : 19 ] .
والبدل : { بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
والمُجَاوزة : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] .
وانتهاء الغاية : « قربت منه » .
والاستعلاء { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] .
والفصل : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } [ البقرة : 220 ] .
وموافقة « الباء » { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] .
والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب . واشترط الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئاً . و « الهمزة » في « أنفق » للتَّعدية ، وحذفت من « ينفقون » لما تقدم في « يؤمنون » .
فصل في قوله تعالى « ومما رزقناهم ينفقون »
قال ابن الخَطِيبْ : في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فوائد :
إحداها : أدخل « من » للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه .
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ ، كأنه قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :
أحدها : الزكاة وهي قوله تعالى : { يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] .
وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته .
وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ } [ المنافقون : 10 ] ، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

« والَّذِين » عطف على « الذين » قبلها ، ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [ المتقارب ]
128- إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وقوله : [ السريع ]
129- يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ ... صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ
يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل : إن المراد بها واحد .
والثاني : أن يكونوا غيرهم .
وعلى كلا القولين ، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع « الَّذِين » المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله .
ويجوز أن يكون عطفاً على « المتقين » ، وأن يكون مبتدأ خبره « أولئك » ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير « الذين » الأولى . و « يؤمنون » صلة وعائد .
و « بما أنزل » متعلّق به و « ما » موصولة اسمية ، و « أنزل » صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل ، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل .
و « إليك » متعلّق ب « أنزل » ، ومعنى « إلى » انتهاء الغاية ، ولها معان أخر :
المُصَاحبة : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
والتبيين : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] .
وموافقة اللام و « في » و « من » : { والأمر إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي : لك .
وقال النابغة : [ الطويل ]
130- فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي ... إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
131- . ... أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي : لا يروى منّي ، وقد تزاد؛ قرىء : « تَهْوَى إليهم » [ إبراهيم : 37 ] بفتح الواو .
و « الكاف » في محل جر ، وهي ضمير المُخَاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك « تاء » المُخَاطب .
ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون ، وأبو عمرو ، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها .
و « النزول » الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ] أي حلّ ووصل .
قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي ، وكون القرآن منزلاً ، ومنزولاً به -أن جبريل سمع في السماء كلام الله -تعالى- فنزل على الرسول به ، كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القَصْر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر .
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله -تعالى- له سمعاً لكلامه ، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله -تعالى- خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل -عليه السلام- فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه جبريل -عليه السلام- ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم .

فصل في معنى فلان آمن بكذا
قال ابن الخطيب : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب « الباء » فالمراد منه التصديق .
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان -هاهنا- التصديق ، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان -هاهنا- خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً ، فهو إلى الذَّم أقرب .
و « ما » الثانية وَصِلَتُهَا عطف « ما » الأولى قبلها ، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على « ما » التي قبلها ، فتأمله .
واعلم أن قوله : « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو لم يكن مؤمناً بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } [ البقرة : 4 ] يعني : التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام .
و « من قبلك » متعلّق ب « أنزل » ، و « من » لابتداء الغاية ، و « قبل » ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض « بعد » ، وكلاهما متى نُكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً ، وأريدت معنى بني على الضم ، فمن الإعراب قوله : [ الوافر ]
132- فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
133- وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء قوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وزعم بعضهم أن « قبل » في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً .
فإذا قلت : « قمت قبل زيد » فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل زيد ] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله .
واعلم أن حكم « فوق وتحت وعلى وأول » حكم « قبل وبعد » فيما تقدّم .
وقرىء : « بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ » مينياً للفاعل ، وهو الله -تعالى- أو جبريل ، وقرىء أيضاً : « بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ » بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله : [ الرمل ]

134- إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ ... بتسكين « خُلط » ثم حذف همزة « إليك » ، فالتقى مِثْلاَن ، فأدغم لامه .
و « بالأخرة » متعلّق ب « يوقنون » ، و « يوقنون
» خبر عن « هم » ، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] لذلك ، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف : « وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ » ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : « ومما رزقناكم هم ينفقون » .
والمراد من الآخرة : الدَّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا . والآخرة تأنيث آخر مقابل ل « أول » ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، والنشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين الموصوفين ، قال تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] وقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] .
و « يوقنون » من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن « أفعل » [ يأتي ] بمعنى : « استفعل » أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم .
وقيل : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه ، فلذلك لا تقول : تيقّنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فوقي ، ويقال ذلك في العلم الحادث ، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً .
وقيل : الإيقان واليقين علم من استدلال ، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً ، إذ ليس علمه عن استدلال .
وقرىء : « يُؤْقِنُون » بهمز الواو ، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين ، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط :
منها ألاّ تكون الحركة عارضة ، وألاّ يمكن تخيفها ، وألاّ يكون مدغماً فيها ، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة « آل عمران » عند قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } [ آل عمران : 153 ] ، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك ، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ « بالسُّؤْقِ » [ ص : 33 ] و « على سُؤْقِهِ » [ الفتح : 29 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]
135- أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
بهمز « المؤقدين » .
وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث ، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك .
وجاء ب « أنزل » ماضياً ، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوع ، فكأنه نزل من باب قوله :

{ أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه .
فصل فيما استحق به المؤمنون المدح
قال ابن الخطيب : إنه -تعالى- مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب ، والسؤال ، وإدخال المؤمنين الجَنّة ، والكافرين النار .
روي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : « يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور ، وهو [ في ] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا -يعني النوم واليقظة- وعجباً ممن يؤمن بالجنّة ، ما فيها من النعيم ، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور ، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ ، وآخره جيفة قَذرة » .

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

« أولئك » مبتدأ ، خبره الجار والمجرور بعده أي : كائنون على هُدًى ، وهذه الجملة : إما مستأنفة ، وإما خبر عن قوله : الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية ، ويجوز أن يكون « أولئك » وحده خبراً عن « الذين يؤمنون » أيضاً إما الأولى أو الثانية ، ويكون « على هُدًى » في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال ، هذا كله إذا أعربنا « الذين يؤمنون » مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ ، فلا يخفى حكمه مما تقدم .
ويجوز أن يكون « الذين يؤمنون » مبتدأ و « أولئك » بدل أو بَيَان ، و « على هدى » الخبر . و « أولئك » : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث ، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهة بالحرف في الافتقار .
وقيل : « أولاء » كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو : « هم » و « الكاف » للخطاب ، كما في حرف « ذلك » ، وفيه لغتان : المد والقصر : ولكن الممدود للبعيد ، وقد يقال : « أولالك » قال : [ الطويل ]
136- أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةَ ... وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا
وعند بعضهم : المقصور للقريب والممدود للمتوسّط ، و « أولالك » للبعيد ، وفيه لغات كثيرة ، وكتبوا « أولئكَ » بزيادة « واو » قبل « اللام » .
قيل : للفرق بينها وبين « إليك » .
و « الهدى » الرشد والبيان والبَصِيرة .
و « مِنْ رَبِّهِمْ » في محل جر صفة ل « هدى » و « مِنْ » لابتداء الغاية ، ونكر « هدى » ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله : [ الطويل ]
137- فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ
وروي « من ربهم » بغير غُنّة ، وهو المشهور ، وبغّنَة ، ويروى على أبي عمرو ، و « أولئك » مبتدأ ، و « هم » مبتدأ ثانٍ ، و « المفلحون » خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون « هم » فصلاً أو بدلاً ، و « المفلحون » الخبر .
وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلاً ، ويفيد -أيضاً- التوكيد .
قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :
إحداهما : الدلالة على أن « الوارد » بعده خبر لا صفة .
والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان .
وقد تقدم أنه يجوز أن يكون « أولئك » الأولى ، أو الثاّنية خبراً عن « الذين يؤمنون » ، وتقدم تضعيف هذين القولين . وكرر « أولئك » تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى :

{ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرين -هنا- متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد ، فكانت عن العَطْف بمعزل .
قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة هو « أولئك » إيذانٌ بأن ما يراد عقبه ، والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم ، كقول حاتم : [ الطويل ]
138- وَللهِ صُعْلُوكٌ .. . . .
ثم عدَّد له فاضلة ، ثم عقَّب تعديدها بقوله : [ الطويل ]
139- فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً
و « الفلاح » أصله : الشقُّ؛ ومنه قوله : [ الرجز ]
140- إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ ... ومنه قول بكر النّطاح : [ الكامل ]
141- لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا ... إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ
ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال : [ الرجز ]
142- لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ ... أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقال : [ الطويل ]
143- نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
وقال : [ المنسرح ]
144- لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... والمْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهُ
والمُفْلج -بالجيم- مثله ، ومعنى التعريف في « المُفْلِحون » الدلالة على أن المتقين هم الناي أي : أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت السد ، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو .
فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه
هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة .
أما الوعيديّة فمن وجهين :
الأول : أن قوله : « وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ » يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة .
الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب إلا يحصل الفلاح .
وأما المُرْجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً ، وأن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق .
قال ابن الخطيب : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين معارض بالآخر ، فيتساقطان .
والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : « أولئك هم المفلحون » يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح ، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً .
وعن الثاني : أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى .
والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل ، لكن الحروف أشبه الفعل صورة ومعنى ، فاقتضى كونه عاملاً .
أما المُشَابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها ، ولزمت الأسماء كالأفعال ، وتدخل نون الوقاية نحو « إنّني وكأنّني » كما تدخل على الفعل نحو : « أعطاني وأكرمني » ، وأما المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم ، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل .
روى ابن الأنباري « أن الكِنْدِيّ » المتفلسف ركب إلى المبرد وقال : إني أجد في كلام العرب حشواً ، أجد العرب تقول : « عبد الله قائم » ، ثم يقولون : « إنَّ عبد الله قائم » ثم يقولون : « إنَّ عبد الله لقائم » .
فقال المبرد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ : فقولهم : : عبد الله قائم « إخبار عن قيامه ، وقولهم : » إن عبد الله قائم « جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : » إن عبد الله لقائم « جواب عن إنكار منكر لقيامه .
واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] إلى أن قال : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] ، وقوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } [ الكهف : 13 ] ، وقوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء } [ الشعراء : 216 ] .
قال عبد القاهر : والتحقيق أنّها للتأكيد ، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى » أن « ، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف ، فأما دخوله اللاّم معها في جواب المنكر ، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد .
فإن قيل : فلم لا دخلت » اللام « في خبرها في قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 16 ] ، وأدخل » اللام « في خبرها في قوله قبل ذلك : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] ، وهم كانوا يتيقنون الموت ، فلا حاجة إلى التأكيد ، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول » اللام « على البعث أشد ليفيد التأكيد .
فالجواب : أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله : { خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 12- 14 ] .
فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول » اللام « على خبر » إن « ، وهي تنصب الاسم ، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها .
وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً ، وتنصبهما معاً ، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما ، فلم يظهر للعمل أثر البتة ، ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الاسمين ، فلا معنى للاشتراك ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل .

والثاني -أيضاً- باطل ، لأنه مخالف لعمل الفِعْل ، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه .
والثالث -أيضاً- باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع؛ ثم في المفعول بالنصب ، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع .
ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع ، وهي أنها تنصب الاسم ، وترفع الخبر ، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل .
وتخفّف « إن » فتعمل وتهمل ، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال ، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول « لام » الابتداء في خبرها ، أو معمولة المقدم عليها ، أو اسمها المؤخّر ، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختص -أيضاً- بالعَطْفِ على محل اسمها ، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة .
و « الذين » اسمها و « كفروا » صلة وعائد ، و « لا يؤمنون » خبرها ، وما بينهما اعتراض ، و « سواء » مبتدأ ، و « أنذرتهم » وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر ، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه ، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ ، ويجوز أن يكون « سواء » خبراً مقدماً ، و « أنذرتهم » بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره : الإنذار وعدمه سواء .
قال ابنُ الخَطِيبِ : اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه؛ لأن قوله : « خرج ضرب » ليس بكلام منتظم ، وقد قدحوا فيه بوجوه :
أحدها : أنَّ قوله : « أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ » فعل ، وقد أخبر عنه بقوله :
سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ « ، ونظيره » ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ « فاعل » بَدَا « هو » يسجننه « .
وثانيها : أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم .
قلنا : فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه .
وثالثها : أنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه ، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه ، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه ، وهذا خطأ ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه .

ثم قال هؤلاء : لما ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر .
أما جمهور النحويين فقالوا : لا يجوز الإخبار عن الفعل ، فلا جرم كان التقدير : سواء عليهم إنذارك وعدمه .
وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم « إن » وخبرها ، وهو « لا يؤمنون » كما تقدم ، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً ل « إن » ، وجملة « لا يؤمنون » في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة ، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان -وهو بعيد- أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك .
ويجوز أن يكون « سواء » وحده خبر « إن » ، و « أأنذرتهم » وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له ، والتقدير : استوى عندهم الإنذار وعدمه .
و « لا يؤمنون » على ما تقدّم من الأوجه0 أعني : الحال والاستئناف والدعاء والخبرية .
والهمزة في « أأنذرتهم » الأصل فيها الاستفهام ، وهو -هنا- غير مراد ، إذ المراد التسوية ، و « أنذرتهم » فعل وفاعل ومفعول .
و « أم » -هنا- عاطفة وتسمى متصلةً ، ولكونها متصلة شرطان :
أحدهما : أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً .
والثاني : أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم ، وجوابها أحد الشِّيئين أو الأشياء ، ولا تجاب ب « نعم » ولا ب « لا » ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة ، وتقدر ب « بل والهمزة » ، وجوابها « نعم » أو « لا » ولها أحكام أخر .
و « لم » حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] . وهذا لا يتصور فيه الانقطاع ، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم . وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟
قولان : أظهرهما الثاني : وقد يحذف مجزومها كقوله : [ الكامل ]
145- إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِبِ ، إِنْ وَصَلْتَ ، وإِنْ لَمِ
و « الكفر » أصله : الستر؛ ومنه : « الليل الكَافِرُ » ؛ قال : [ الرجز ]
146- فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ الفَجْرِ ... وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ
وقال [ الكامل ]
147- فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَمَا ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
والكفر -هنا- الجحود . وقال آخر : [ الكامل ]
148- .. فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « الكفر » في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ :
الأول : الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } ؟

الثاني : بمعنى الجُحُود قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
الثالث : بمعنى كفر النّعمة ، قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ } [ إبراهيم : 7 ] أي : بالنعمة ، ومثله : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] وقال تعالى : { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [ النمل : 40 ] .
الرابع : البراءة ، قال تعالى : { إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ } [ الممتحنة : 4 ] أي : تبرأنا منكم ، وقوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [ العنكبوت : 25 ] .
و « سواء » اسم معنى الاستواء ، فهو اسم مصدر ، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ ، فيحتمل حينئذٍ ضميراً ، ويرفع الظاهر ، ومنه قولهم : « مررت برجل سواء والعدم » برفع « العدم » على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في « سواء » ، وشذ عدم بمعنى : « مثل » ، تقول : « هما سِيّان » بمعنى : مِثْلان ، قال : [ البسيط ]
149- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ
على أنه قد حكي سواءان . وقال الشاعر : [ الطويل ]
150- وَلَيْلٌ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتً العُيُونِ وَعُورُهَا
ف « سواء » خبر عن جمع هو « صحيحات » ، وأصله : العدل؛ قال زهير : [ الوافر ]
151- أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بِيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
أي : يعدل بيننا العدل . وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك : « قاموا سواء زيد » وإن شاركه لفظاً .
ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في « سوى » المستثنى به ، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في « سواء » الذي بمعنى الاستواء .
وأكثر ما تجيئ بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة ب « أم » كهذه الآية ، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى : { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة : [ الطويل ]
152- سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بأَسْعَدِ
ف « أي حين » منصوب ب « أتيته » ، وقد يعرى عن الاستفهام ، وهو الأصل؛ نحو : [ الطويل ]
153- . ... سَوِاءٌ صَحِيْحاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
فصل في استعمالات « سواء »
وقد ورد لفظ « سواء » على وجوه :
الأول : بمعنى : الاستواء كهذه الآية .
الثاني : بمعنى : العَدْل ، قال تعالى : { إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] أي : عدل؛ ومثله : { سَوَآءَ السبيل } [ الممتحنة : 1 ] أي : عدل الطريق .
الثالث : بمعنى : وسط ، قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] أي : وسط الجحيم .
الرابع : بمعنى : البَيَان؛ قال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] أي : على بيان .
الخامس : بمعنى : شرع ، قال تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } [ النساء : 89 ] يعني : شرعاً .
السادس : بمعنى : قصد ، قال تعالى : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] أي : قصد الطريق . و « الإنذار » : التخويف .
وقال بعضهم : هو الإبلاغ ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز ، فإن لم يسع زمانه الاحتراز ، فهو إشعار لا إنذار؛ قال : [ الكامل ]

154- أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ ... قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى عَمْرُو
ويتعدّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] ، { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره : أأنذرتهم العذاب أم لم تنذروهم إياه ، والأحسن ألا يقدر له مفعول ، كما تقدم في نظائره .
والهمزة في « أنذر » للتعدية ، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد؛ لأن التسوية هنا غير مرادة .
فقال ابن عَطيَّةَ : لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام؛ لأنَّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً : « سواء علي أَقُمْت أم قعدت » ، وإذا قلت مستفهماً : « أخرج زيد أم قام » ؟ فقد استوى الأمران عندك؟ هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام؛ لمشاركته إيَّاه في الإبهام ، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً ، إلاَّ أن بعضهم ناقشه في قوله : « أأنذرتهم أم لم تنذرهم » لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه « الخبر » بما معناه : أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم ، وعلى هاذ فليس هو وحده في معنى الخبر؛ لأن الخبر جملة ، وهذا تأويل مفرد ، وهي مناقشة لفظية .
وروي الوقف على قوله : « أَمْ لَمْ تُنْذِرْ » والابتداء بقوله : « هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ » على أنها جملة من مبتدأ وخبر . وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه ، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في « الوقف والابتداء » له .
وقرىء « أأنذرتهم » بهمزتين محقّقتين بينهما ألف ، وبهمزتين ، محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة « بني تميم » ، وأن تكون الأولى قوية ، والألف بينهما ، وتخفيف الثانية بين بين ، وهي لغة « الحجاز » وبتقوية الهمزة الأولى ، وتخفيف الثانية ، وبينهما ألف . فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله : [ الطويل ]
155- أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا آأَنْتَ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟
وقال آخر : [ الطويل ]
156- تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ ... فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ؟
وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة .
ونسب الزمخشري هذه القراءة لِلَّحْنِ ، قال : إنما هو بَيْنَ بَيْنَ . وهذا منه ليس بصواب ، لثبوت هذه القراءة تواتراً .
وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر ، وهمزة الاستفهام مرتدة ، ولكن حذفها تخفيفاً ، وفي الكلام ما يدلّ عليها ، وهو قوله : « أم لم » ؛ لأن « أم » تُعَادل الهمزة ، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير .
فصل في المراد بالكافرين في الآية
المراد من « الذين كفروا » يعني مشركي العرب كأبي لَهَبٍ؛ وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وأضرابهم .

وقال الكلبي : « هم رؤساء اليَهُودِ والنُعَاندون » وهو قول ابن عباس . والكفر -هنا- الجحود ، وهو على أربعة أضرب :
كفر إنكار ، وكفر جُحُود ، وكفر عِنَادٍ ، وكفر نفاق :
ف « كفر الإنكار » : هو ألا يعرف الله أصلاً ، ولا يعترف به .
وكفر الجُحُود : هو أن يعرف الله بقلبه ، ولا يقر بلسانه ، ككفر إبليس؛ قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
وكفر العناد : هو أن يعرف الله بقلبه ، ويعترف بلسانه ، ولا يدين به؛ ككفر أبي طَالِبٍ؛ حيث يقول : [ الكامل ]
157- وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
وكفر النفاق : هو أن يقر باللسان ، ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله -تعالى- بواحد منها؛ لا يغفر له .
فصل في تحقيق حد الكفر
قال ابن الخطيب : تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد -عليه الصلاة والسلام- أنه ذهب إليه ، وقال به ، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة ، أو بالاستدلال ، أو بخبر الواحد الذي علم بالضرورة ، فمن صدق به جميعه ، فهو مؤمن ، ومن لم يصدق بجميعه ، أو لم يصدق ببعضه ، فهو كافر ، فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عليه الصلاة والسلام .
ومثاله من أنكر وجود الصّانع ، أو كونه عالماً مختاراً ، أو كونه واحداً ، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات ، أو أنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ، فذلك يكون كافراً .
فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً بالعلم أو بذاته ، وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا ، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في ماهيّة الإيمان ، فلا يكون موجباً للكفر ، والدليل عليه أنه لو جاء جزءاً من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلمَّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه -عليه الصلاة والسلام- ما وقف الإيمان عليها ، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجباً للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل ، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد ، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه ، والله أعلم .
فصل في الردّ على المعتزلة
احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر }

[ الحجر : 9 ] ، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] على أن كلام الله محدث ، سواء كان الكلام هذه الحروف ، أو الأصوات ، أو كان شيئاً آخر .
قالوا : لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان مسبوقاً بالمخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير ، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً ، فيجب أن يكون محدثاً .
أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين :
الأول : أن الله -تعالى- كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ، ولم يلزم حدوث علم الله تَعَالَى ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن حبر الله -تعالى- في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟ .
الثاني : أن الله -تعالى- قال : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] ، فلما دخلوا المسجد الحرام ، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى انهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت : قوله : « إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا » صيغة جمع مع « لام » التعريف ، وهي للاستغراق بظاهره ، ثم إنه لا نزاع في تكلّم بالعام وأراد الخاص ، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول -عليه الصلاة والسلام- فحسن ذلك لعدم اللّبس ، وظهور المقصود ، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز ، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان التخصيص عن وقت الخِطَاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق ، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص ، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا جَرَمَ حين ذلك ، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم .
وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله أعلم .
فصل في المذهب الحق في « تكليف ما لا يطاق »
قال ابن الخطيب : احتج أهل السُّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره : أنه -تعالى- أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله -تعالى- الصدق كذباً ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما مُحَالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المُحَال محال ، فصدور الإيمان منه مُحَال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا في صورة العلم ، وهو أنه -تعالى- لما علم منه أنه لا يؤمن ، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً ، وذلك محال ، ويستلزم من المُحَال محال ، فالأمر واقع بالمحال .

ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً ، وهذا مُحَال ، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضِّدِّين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك مُحَال .
ونذكر هذا على وَجْه رابع : وهو أنه -تعالى- كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [ والإيمان يعتبر فيه تصديق الله -تعالى- في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط ] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنون بأنهم لا يؤمنون قط ، وهو مكلف بالجمع بين النفي والإثبات .
ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه -تعالى- عاب الكُفَّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } [ الفتح : 15 ] ، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه .
ثم هاهنا أخبر الله -تعالى- عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون -أيضاً- مخالفة لأمر الله ، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل . فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال ، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة ، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

اعلم أنه -تعالى- لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم .
واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو : الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية؛ لئلا يتوصّل إليه ، ومنه : الخَتْم على الباب .
« على قلوبهم » متعلّقة ب « ختم » ، و « على سمعهم » يحتمل عطفه على « قلوبهم » ، وهو الظاهر ، للتصريح بذلك ، أعني : نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23 ] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً ، وما بعده عطف عليه .
و « غشاوة » مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبَرُها ظرفاً ، أو حرف جر تاماً ، وقدم عليها جاز الابتداء بها ، [ ويكون تقديم الخبر حينئذٍ واجباً؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة ] ، والآية من هذا القبيل ، وهذا بخلاف قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] ؛ ويبتدأ بما بعده ، وهو « وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ » ف « على أبصارهم » خبر مقدم ، و « غِشَاوة » مبتدأ مؤخر .
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على « قلوبهم » ، وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين ، وهو : أن ختم القلوب غير ختم الأسماع .
وقد فرق النحويون بيم « مررت بزيد وعمرو » وبين « مررت بزيد وبعمرو » فقالوا في الأول هو ممرور واحد ، وفي الثاني هما ممروران ، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين ، أعني : جعل « وعلى سمعهم » معطوفاً على قوله : « على قلوبهم » ، وجعله خبراً مقدماً .
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول ، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين ، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ ، كما تقدم ذلك في الختمين .
وقرىء : غِشَاوة بالكسر والنصب ، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع ، وبالكسر والرفع -و « غشوة » بالفتح والرفع والنصب - و « غشاوة » بالعين المهملة ، والرفع من العَشَا . فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه :
الأول : على إضمار فعل لائق ، أي : وجعل على أبصارهم غِشَاوة ، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى : { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] .
والثاني : الانتصاب على إسقاط حرف الجر ، ويكون « على أَبْصَارهم » معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حذف الجر ، فانتصب ما بعده؛ كقوله : [ الوافر ]
159- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا ... كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
أي :
تمرون بالدِّيَار ، ولكنه غير مقيس .
والثالث : أن يكون « غشاوة » اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل « خَتَمَ » في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر ، فكأنه قيل : « وختم التغشية » على سبيل التأكيد ، فهو من باب « قعدت جلوساً » ، وتكون « قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة » .

وقال الفَارِسِيّ : قراءة الرفع الأولى ، لأن النَّصب إما أن تحمله على فعل يدلّ عليه « ختم » ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهذا الكلام من باب : [ الكامل ]
160- يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
وقوله : [ الرجز ]
161- عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حالة سَعَةٍ ، ولا اختيار .
واستشكل بعضهم هذه العبارة ، وقال : لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على « خَتَم » الزاهر ، وكيف تحمل « غشاوة » المنصوب على « ختم » الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟
قال : اللّهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى : « ختم الله على قلوبهم » دعاء عليهم لا خَبَر ، ويكون « غشاوة » في معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل ، فكأنه قيل :
وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على « ختم » عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء ، نحو : « رحم الله زيداً وسُقياً له » فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين « غشاوة » المعطوف وبين « خَتَمَ » المعطوف عليه بالجار والمجرور . وهو تأويل حسن ، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي بالحرف ، فتحرير التأويل أن يقال : فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور .
والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة .
والغِشَاوة فِعَالة : الغطاء من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء ، ومنه غشي عليه ، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع .
و « القلب » أصله المصدر ، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه ، ولهذا قال : [ البسيط ]
162- مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله ، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبِّ كل شيء وخالصه .
و « السمع » و « السماع » مصدران ل « سمع » ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال : [ البسيط ]
163- وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزَاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ
أي : ما في استماعه . و « السِّمْع » -بالكسر- الذِّكْر بالجميل ، وهو -أيضاً- ولد الذئب من الضَّبُع ، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة ، يقال : رَجُلان صَوْم ، ورجال صوم ، ولأنه على حذف مضاف ، أي : مواضع سمعهم ، أو حواس سمعهم ، أو يكون كني به عن الأُذُن ، وإنما لفهم المعنى؛ كقوله [ الوافر ]

164- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم .
ومثله قال سيبويه : « إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع » .
ومنه أيضاً قال تَعَالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] ، { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } [ ق : 17 ] ؛ قال الراعي .
165- بِهَا جِيَفُ الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
أي : جلودها .
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ : « أسماعهم » .
قال الزمخشري : واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم ، وفي حكم التَّغْشِيَةِ ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ]
و « الأبصار » : جمع بصر ، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات .
قالوا : وليس بمصدر لجمعه ، ولقائل أن يقول : جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين ، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية ، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب .
وقد قلتم : إنه في الأصل مصدر ثم سمي به ، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن ، كما كي بالسمع عن الأذن ، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم .
وقرأ أبو عمرو والكِسَائي : « أبصارهم » بالإِمَالَةِ ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها .
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء « كالقرار » ونحوه ، وزاد الكسائي إمالة { جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] ، و { الجوار } [ الشورى : 32 ] ، و { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، و { مَنْ أنصاريا } [ آل عمران : 32 ] ، و { نُسَارِعُ } [ المؤمنون : 56 ] وبابه ، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل ، أو كانت علماً للتأنيث مثل : { الكبرى } [ طه : 23 ] ، و { الأخرى } [ الزمر : 42 ] ، ولام الفعل مثل : { يَرَى } [ البقرة : 165 ] ، و { افترى } [ آل عمران : 94 ] يكسرون الراء منها .
و « الغشاوة » : الغطاء . قال : [ الطويل ]
166- تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا
وقال : [ البسيط ]
167- هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي ... إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا
وجمعها « غشاءٌ » ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة .
وقيل : « غشاوي » مثل « أداوي » .
قال الفارسي : لم أسمع من « الغشاوة » فعلاً متصرفاً ب « الواو » ، وإذا لم يوجد ذلك ، وكان معناها معنى ما « اللام » منه « الياء » ، وهو غشي بدليل قولهم : « الغِشْيَان » ، و « الغشاوة » من غشي ك « الجِبَاوة » من جبيت في أن « الواو » كأنها بدل من « الياء » ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة . وظاهر عبارته أن « الواو » بدل من « الياء » ، و « الياء » أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة « الواو » .

والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين « غ ش و » ، و « غ ش ي » ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين ، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى ، وهذا أقرب من ادعاء قلب « الواو » « ياء » من غير سبب ، وأيضاً « الياء » أخف من « الواو » ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و « لهم » خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف ، و « عذاب » مبتدأ مؤخر و « عظيم » صفة . والخبر -هنا- جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو صفة ونظيره : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من حيث الجواز .
والعذاب في الأَصْل : الاستمرار ، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ .
وقيل : أصله : المَنْع ، وهذا هو الظَّاهر ، ومنه قيل للماء : عَذَب؛ لأنه يمنع العطش ، والعذاب يمنع من الجريمة .
« عظيم » اسم فاعل من « عَظُمَ » ، نحو : كريم من « كَرُم » غير مذهوب به مذهب الزمان ، وأصله أن توصف به الأجرام ، ثم قد توصف به المعاني .
وهل هو و « الكبير » بمعنى واحد أو هو فوق « الكبير » ؛ لأن العظيم يقابل الحقير ، والكبير يقابل الصغير ، والحقير دون الصغير؟ قولان .
و « فعيل » له معانٍ كثيرة ، يكون اسماً وصفة ، والاسم مفرد وجمع ، والمفرد اسم معنى ، واسم عين ، نحو : « قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب » .
والصفة مفرد « فُعْلَة » ك « غَزِب » يجمع على غُزَاة « ومفرد » فَعَلَة « ك » سَرِي « يجمع على » سَرَاة « .
ويكون اسم فاعل من » فَعُلَ « نحو : عظيم من عَظُم كما تقدم .
ومبالغةً في » فَاعِل « ، نحو » عليم من عالم « .
وبمعنى » أَفْعَل « ك » شميط « بمعنى : » أشمط « و » مَفْعُول « ك » جريح « بمعنى : مجروح ، و » مُفْعِل « ك » سَمِيع « بمعنى » « مُسْمِع » ، و « مُفْعَل » ، ك « وَلِيد » بمعنى : مُولَد ، و « مُفَاعِل » ، ك « جَلِيس » بمعنى : مُجَالِس ، و « مُفْعَل » ، ك « بَدِيع » بمعنى : مُبْتَدِع ، و « مُفْتَعِّل » ك : « سَعِير » بمعنى : مُتَسَعِّر « ، و » مُسْتَفْعِل « ك » مَكِين « بمعنى : » مُسْتَمْكن « .
و » فَعْل « ك » رطيب « بمعنى : » رَطْبْ « ، و » فَعَل « ك » عجيب « بمعنى : » عجب « و » فِعَال « ك » صحيح « بمعنى : صِحَاح ، وبمعنى : » الفاعل والمفعول « ك » صريخ « بمعنى : » صاروخ ومصروخ « .

وبمعنى الواحد والجمع نحو : « خليط » ، وجمع فاعل ك « ريب » جمع غارب .
فصل في أيهما أفضل : السمع أو البصر؟
من الناس من قال : السَّمع أفضل منى البَصَرِ؛ لأن الله -تعالى- حيث ذكرهما قد السَّمع على البصر ، والتقديم دليلٌ على التفضيل ، ولأن السمع شرط النبوّة بخلاف البَصَرِ ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ ، وقد كان فيهم الأعمى ، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف ، والبَصَر لا يوقفك إلى على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ ، ولأن السمع متى بطل النُّطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق .
ومنهم من قدم البصر؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح .
فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم
الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي « الطَّبع » و « الكنان » و « الرين » على القلب ، و « الوقر » في الأذن ، و « الغشاوة » في ابصر .
واختلف الناس في هذا الخَتْم : فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله -تعالى- فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان :
منهم من قال : الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار .
ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر .
وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية ، ولم يرجوها على ظاهرها .
أما قوله تعالى : « لهم عذاب عظيم » أي : في الآخرة .
وقيل : الأَسْر والقَتْل في الدنيا ، والعذاب الدائم في العُقْبى .
و « العذاب » مشتق من « العَذْب » وهو القَطْع ، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً ، لأنه يقطع العطش .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

« من الناس » خبر مقدم ، و « من يقول » مبتدأ مؤخر ، و « مَنْ » تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة أي : الذي يقول ، أو فريق يقول ، فالجملة على الأول لا محل لها؛ لكونها صلة ، وعلى الثاني محلها الرفع؛ لكونها صفة للمبتدأ .
واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة ، قال : لأن « الذي » يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام .
وهذا منه غير مسلم؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه .
وقال الزمخشري : إن كانت أل للجنس كانت « منْ » نكرة موصوفة كقوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله } [ الأحزاب : 23 ] .
وإن كانت للعَهْد كانت موصولة ، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس ، والعهد للعهد ، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم ، بل يجوز أن تكون « أل » للجنس ، وتكون « منْ » موصولة ، وللعهد ، و « منْ » نكرة موصوفة .
وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة؛ كقوله : [ الرمل ]
168- رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطِعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر ، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة؛ قال : [ الكامل ]
169- فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرَنا .. . . .
و « من » تكون موصولة ، ونكرة موصوفة ، أو زائدة؟ فيه خلاف . واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة : [ الكامل ]
170- يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
ولا دليل فيه ، لجواز أن تكون موصوفة ب « قَنَصٍ » إما على المبالغة ، أو على حذف مضاف ، وتصلح للتثنية والجمع الواحد .
فالواحد كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [ الأنعام : 25 ] والجمع كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى . و « مِنْ » في « من الناس » للتبعيض ، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها . و « النَّاس » اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ ، ويرادفه « أَنَاسِيّ » جمع إنسان أو إنسي ، وهو حقيقة في الآدميين ، ويطلق على الجِنّ مجازاً .
واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين ، والأصل : أناس اشتقاقاً من الأُنس ، قال : [ الطويل ]
171- وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ ... وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
لأنه أنس ب « حواء » .
وقيل : بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً؛ يدلّ على ذلك قوله : [ الكامل ]
172- إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا
وقال آخر : [ الطويل ]
173- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
174- وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ

وذهب الكسائي إلى أنه من « نون وواو وسين » والأصل : « نوس » فقلبت « الواو » « ألفاً » لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، والنَّوسُ : الحركة .
وذهب بعضهم إلى أنه من « نون وسين وياء » ، والأصل « نسي » ، ثم قلبت « اللام » إلى موضع العين ، فصار : « نيس » ثم قلبت « الياء » « ألفاً » لما تقدم في « نوس » ، قال : سموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال : [ البسيط ]
175- فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً ... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
ومثله : [ الكامل ]
176- لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا ... سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي
فوزنه على القول الأول : « عَال » ، وعلى الثاني : « فَعَلٌ » ، وعلى الثالث : « فَلَعٌ » بالقَلْبِ « . و » يقول « : فعل مضارع ، وفاعله ضمير عائد على : » من « .
والقول حقيقةً : اللفظ الموضوعُ لمعنى ، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية ، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] . وتراكيبه السّتة وهي : » القول « ، و » اللوق « و » الوقل « ، و » القلو « ، » و « اللّقو » ، و « الولق » تدل على الخفّة والسرعة ، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر .
و « القول » أصل تعديته لواحد نحو : « قُلْتُ خطبة » ، وتحكي بعده الجمل ، وتكون في محل نصب مفعولاً بها ، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن ، فيعمل عمله بشروط عند غير « بني سُلَيْمٍ » ؛ كقوله : [ الرجز ]
177- مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا ... يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وقَاسِمَا
وبغير شرط عندهم ، كقوله : [ الرجز ]
178- قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا ... هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا
و « آمنا » فعل وفاعل ، و « بالله » متعلّق به ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكررت « الباء » في قوله : « وباليوم » ، للمعنى المتقدّم في قوله : { وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 7 ]
فإن قيل : الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟
فالجواب : أنّ هذا تفصيل معنوي ، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكَافرين ، ثم عقب بذكر المُنافقين ، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي ، نحو قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ } [ البقرة : 204 ] ، { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي } [ لقمان : 6 ] ، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق .
وأحسن من هذا أن يقال : إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك ، وهم غير مؤمنين ، فصار التقدير : وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت .
واعلم أن « مَنْ » وأخواتها لها لفظ ومعنى ، فلفظها مفرد مذكر ، فإن أريد بها غير ذلك ، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة ، ومعناها أخرى ، فتقول : جاء مَنْ قام وقعدوا ، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل : « من يقول » ، والمعنى ثانياً في « آمنا » .

وقال ابن عطية : جسن ذلك؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد .
فلو قلت « » ومن الناس من يقومون « وتتكلّم لم يجز .
وفي عبارة ابن عطية نظر ، وذلك لأنّه منه مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وذلك جائز ، إلاَّ أن مراعاة اللّفظ أولاً أولى ، يرد عليه قول الشَّاعر : [ الخفيف ]
179- لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ... نَ إِذَاَ كَافَحَتْهُ خَيْلُ الأَعَادِي
وقال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ } [ الطلاق : 11 ] إلى أن قال : » خَالِدين « ، فراعى المعنى ، ثم قال : » فَقَدْ أَحْسَنَ الله له رِزْقاً « ، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وكذا راعى المعنى في قوله : » أو يستكينون « ، ثم راعى اللفظ في : » إذا كافحته « ، وهذا الحمل جاز فيها من جميع أحوالها ، أعني من كونها موصولة وشرطية ، واستفهامية .
أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان : » ليس في محفوظي من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول : مررت بمن محسنون لك .
و « الآخر » صفة ل « اليوم » ، وهذا مقابل الأوّل ، ومعنى اليوم الآخر : أي عن الأوقات المحدودة .
ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له ، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له ، والمراد بالأخر : يوم القيامة .
« وما هم بمؤمنين » « ما » : نافية ، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية ، فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فيكون « هم » اسمها ، و « بمؤمنين » خبرها ، و « الباء » زائدة تأكيداً .
وأن تكون التَّمِيْمِيّة ، فلا تعمل شيئاً ، فيكون « هم » مبتدأ ، و « بمؤمنين » الخبر ، و « الباء » زائدة أيضاً .
وزعم ابو علي الفَارِسِيّ ، وتبعه الزمخشري أن « الباء » لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة ، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ ، وهو تميمي : [ الطويل ]
180- لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ ... وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ
إلا أنّ المختار في « ما » أن تكون حِجَازية؛ لأنه لما سقطت « الباء » صرح بالنصب قال الله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، وأكثر لغة « الحجاز » زيادة الباء في خبرها ، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظه النصب في غير القرآن ، إلاّ قول الشاعر : [ الكامل ]
181- وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ ... حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا
وأتى الضمير في قوله : « وما هم بمؤمنين » جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله : « آمنا » .

فإن قيل : لم أتي بخبر « ما » اسم فاعل غير مقيّد بزمان ، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم : آمنّا « : فيقال : وما آمنوا؟
فالجواب : أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات ، فلو أتى به مطابقاً لقولهم : » أمنا « فقال : وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط ، والمراد النَّفي مطلقاً أي : أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات .
فصل في سبب نزول الآية
قال ابن عباس -رضي الله عنه- إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب ، كعبد الله بن أبي سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ ، وجدّ بن قيس وأصحابهم ، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ، ويقولون : إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا ، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض .
فصل في حقيقة النفاق
قال ابن الخَطِيْبِ : الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم ، وهو أنّ أحوال القلب أربعة :
وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم ، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد ، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليدج وهو الجهل ، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها .
وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ، والإنكار ، والسكوت .
فأما الأول : وهو أن يحصل العرفان القلبي ، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان ، فإن مان الإقرار اختيارياً ، فصاحبه مؤمن حقًّا ، بالاتفاق .
وإن كان اضطراريَّاً فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار .
فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه ، فهذا الإنكار اضطرارياً كان مسلماً؛ لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] ، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً .
وإن كان عارفاً بقلبه ، وكان ساكتاً ، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان ، فهو مسلم حقّاً ، أو كما إذا عرف الله بالدليل ، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً؛ لأنه أتى بما كلف به ، ولم يجد زَمَانَ الإقرار ، فكان معذوراً فيه ، وإن كان السّكوت اختيارياً ، فهذا محل البحث ، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام : » يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّة من الإيمان « وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان ، فكيف لا يخرج من النار؟
النوع الثاني : أن يحصل في القلبِ الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان ، أو الإنكار أو السكوت .
فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان ، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟
وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فهاهنا لا كلام ، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أن بحكم هاهنا بالنِّفَاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً ، فمات يكون منافقاً عند التقليد .

فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني ، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر ، وإن كان اضطرارياً ، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة .
فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد .
النوع الثَّالث : اعتقاد الجَاهِل ، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني ، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق ، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدّث ، وهذا غير مستبعدٍ ، فهذا أيضاً من النفاق .
النوع الرابع : القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات ، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار ، أو السكوت . فإن وجد الإقرار ، فإن كان الإقرار اختيارياً ، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا؟
وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر ، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً .
فإن كان مع القلب الخالي السُّكوت ، فهذا إن كان في مُهْلة النظر ، فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره ، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة .
فصل في بيان أقبح الكفر
اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق؟
قال قوم : كفر الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان .
وقال آخرون : بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان ، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ، ولذلك قال تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وقال تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة :
أحدها : أنه قصد التَّلبيس ، والكافر الأصلي ما قصد ذلك .
وثانيها : أنّ الكافر على طبع الرجال ، والمُنَافق على طبع الخُثُونة .
وثالثها : أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء ، بخلاف الكافر الأصلي ، ولأجل غلظ كفره قال تعالى : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] .
وخامسها : قال كجاهد : إنه -تعالى- ابتداء بذكر المؤمنين في أربع آيات ، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين ، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاثة عشرة آية ، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً ، وفي هذا نظراً [ لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم ] لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي ، كالمُخَادعة والاستهزاء ، وطلب الغَوَائل وغير ذلك ، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار ، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار ، والله أعلم .

فصل في ادعائهم الإيمان واليوم الآخر
ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو : أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله ، واليوم الآخر ، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام- فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله ، واليوم الآخر؟
وأجاب فقال : إن حملنا على مُنَافقي أهل الكتاب -وهم اليهود- فإنما كذبهم الله -تعالى- لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان؛ لأنّهم يعتقدونه جماً ، وقالوا : عزيرٌ ابن الله ، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان ، فلما قالوا : آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً؛ لأنهم كانوا بقلولهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل ، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم : إنا آمنا بالله مثل إيمانكم ، فلهذا كذبهم الله -تعالى- فيه .

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

قوله : « يخادعون » هذه الجملة الفعلية يحتمل أن يكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو : ما بالهم قالوا : آمنا وما هم بؤمنين؟
فقيل : يخادعون الله ، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواعقة صلة ل « من » وهي « يقول » ، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع ، فهو نظير قوله : [ الرجز ]
182- إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
183- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
ف « تؤخذ » بدل اشتمال من « تبايع » ، وكذا « تُلْمِم » بدلٌ من « تَأْتِنَا » . وعلى هذين القولين ، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب .
والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك -وإن توهّم بعضهم ذلك- وهي : المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ « يقول » تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن ] في « بمؤمنين » ، والعامل فيها اسم الفاعل .
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير : « ما زيد أقبل ضاحكاً » ، قال : وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان :
أحدهما : نفي القيد وحده ، وإثبات أصل الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى : أن الإقبال ثابت ، والضحك منتفٍ ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية ، أعني : نفي الخِدَاع ، وثبوت الإيمان .
الطريق الثاني : أن ينتفي القَيْدُ ، فينتفي العامل فيه ، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل ، ولم يضحك ، وهذا المعنى -أيضاً- غير مراد بالآية الكريمة قطعاً ، أعني : نفي الإيمان والخداع معاً ، بل المعنى على نَفْي الإيمان ، وثبوت الخداع ، ففسد جعلها حالاً من الضمير في « بمؤمنين » .
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال ، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل « مؤمنين » ؟ قال : لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، ثم جعلها حالاً من ضمير « بمؤمنين » ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا .
و « الخداع » أصله : الإخفاءُ ، ومنه الأَخْدَعَان : عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ ، ومنه مخدع البيت ، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً : إذا توارى في جُحْرِه ، وطريق خادع وخديع : إذا كان مخالفاً للمقصد ، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع : أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه .
وقيل : هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر : [ الرمل ]
184- أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ

أي : فسد .
ومعنى « يُخَادعون الله » أي : من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى .
وقيل : لعدم عرفانهم بالله -تعالى- وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع .
وقال الزَّمخشري : إن اسم الله -تعالى- مُقْحَم ، والمعنى : يخادعون الذين آمنوا ، ويكون من باب : أعجبني زيد وكرمه . والمعنى : أعجبني كرم زيد ، وإنَّما ذكر « زيد » توطئةً لذكر كرمه .
وجعل ذلك نظير قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله -تعالى- بالأوجه المتقدّمة ، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى .
وأما « أعجبني زيد وكرمه » ، فإن الإعجاب أسند إلى « زيد » بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] .
والمصدر « الْخِدْع » بكسر الخاء ، ومثله : الخديعة .
و « فَاعَلَ » له معانٍ خمسة :
المشاركة المعنوية نحو : ضارب زيد عمراً .
وموافقة المجرد نحو : « جاوزت زيداً » أي : جُزْتُه .
وموافقة « أفعل » متعدياً نحو : « باعدت زيداً وأبعدته » . والإغناء عن « أفعل » نحو : « واريت الشيء » .
وعن المجرد نحو : سافرت وقاسيت وعاقبت ، والآية « فَاعَل » فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن .
أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله -تعالى- تقدم معناها ، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا ، ومُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله -تعالى- فيهم ، وأما كونه بمعنى المُجّرَّد ، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ « يَخْدَعُونَ » . وقرأ أبو عمرو والرميان « وَمَا يُخَادِعُونَ » كالأولى ، والباقون « وَمَا يَخْدَعُونَ » ، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد ، أي : يكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَل » ، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها ، أعني صدورها من اثنين ، فهم يُخَادعون أنفسهم ، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل ، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك ، فكأنها مُحَاورة بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر : [ المنسرح ]
185- لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا ... عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ
وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
186- يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا
قال الومخشري : الاقتصار ب « خادعت » على وجهه أن يُقَال : عني به « فعلت » ، إلا أنه على وزن « فاعلت » ، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَال لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة .
وقرىء : « وَمَا يُخَدِّعَونَ » ، ويُخَدِّعُونَ من خَدَّعَ مشدداً .

و « يُخَدِّعَونَ » بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون ، فأدغم .
وقرىء : « وما يُخْدَعُونَ » ، « ويُخَادَعُونَ » على لفظ ما لم يسم فاعله ، وتخريجها على أن الأصل : وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم « فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ : [ الوافر ]
187- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا .. .
» إلا أنفسهم « » إلا « في الأصل حرف استثناء و » أنفسهم « مفعول له ، وهذا استثناء مفرغ ، وهو : عبارة عما افتقر فيه ما قبل » إلا « لما بعدها ، ألا ترى أن » يخادعون « يفتقر إلى مفعول؟ ومثله : » ما قام إلا زيد « ، ف » قام « يفتقر إلى فاعل ، والتَّام بخلافه ، أي : ما لم يفتقر فيه ما قيل » إلا « لما بعدها ، نحو : قام القوم إلاّ ويداً ، وضربت القوم إلا بكراً ، فقام أخذ فاعله ، وضربت أخذ مفعوله ، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي ، أو شبهة كالاستفهام والنهي .
وأن قولهم : قرأت إلاّ يوم كذا ، فالمعنى على نفي مؤول تقديره : ما تركت القراءة إلاَّ يوماً ، هذا ومثله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] و { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى .
والنَّفْسُ : هنا ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، » وَمَا يَشْعُرُونَ « هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف ، وان يكون لها محلّ ، وهو النصب على الحال من فاعل » يخدعون « والمعنى : وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك ، ومفعول » يشعرون « محذوف للعلم به ، تقديره : وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم ، واطّلاع الله عليهم .
والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلِّقه ، والأوّل يسمى حذف الاختصار ، ومعناه : حذف الشيء بدليل .
والثاني يسمى حذف الاختصار ، وهو حذف الشيء لا لدليل .
والشُّعور : إدراك الشيء من وجه يدقّ ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته .
وقيل : هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعِر ، وهو ثوب يلي الجَسَد ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسّه الخمسة التي يشعر بها .
فصل في حد الخديعة
اعلم أن الخديعة مذمومة .
قال ابن الخطيب : » وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد ، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير ، أو التخلّص منه ، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن يوجب الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة ، كما يوجب المُخَالصة في العبادة « .
فصل في امتناع مخادعة الله تعالى
مخادعة الله -تعالى- ممتنعة من وجهين :
أحدهما : أنه يعلم الضَّمائر والسرائر ، فلا يصح أن يُخَادَع .

والثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم ، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله ، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره ، فلا بُدّ من التأويل ، وهو من وجهين :
الأول : أنه -تعالى- ذكر نفسه ، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره ، وتعظيم شأنه .
قال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
والمنافقون لما خادعوا [ الله ورسوله ] قيل : إنهم يخادعون الله .
الثاني : أن يقال : صورة حالهم مه الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع ، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرَةِ صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم ، فأجروا أحكامه عليهم .
فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية
الغرض من ذلك الخداع وجوه :
الأول : أنهم ظنوا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان .
الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي -عليه الصلاة والسلام- أَسْرَاره ، والاطّلاع على أسرار المؤمنين ، فينقلونها إلى الكفار .
الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار ، كالقَتْلِ وغيره .
الرابع : أنهم كانوا يطعمون في أموال الغَنَائم .
فإن قيل : فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخِداعهم ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟
قلنا : هو قادر على استئصال « إبليس » وذريته ولكنه -تعالى- أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو .
وقوله : « وما يَخْدّعُونَ إلا أنفسهم » فيه وجهان :
الأول : أنه -تعالى- يجازيهم على ذلك ، ويعاقبهم عليه ، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم .
والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أم وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله -تعالى- كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ونظائره .
« في قلوبهم مرض » الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى : { وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] . والمشهور تحريك الراء من « مرض » .
وَرَوَى الصمعي عن أبي عمرو سكونها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ .
« والمرض » : الفتور .
وقيل : الفساد .
وقيل : صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفعال الصادرة عن الفاعل ، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
188- فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ... فَمَا يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ
أي : لظلمتها ، ويجوز أن يكون أراد ب « مَرِضَتْ » فَسَدَت ، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمةِ .
قوله : « فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً » .
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها ، متسبّبة عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم ، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى .

و « زاد » يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك « أَعْطَى وكَسَا » ، فيجوز حذف مفعوليه ، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : « زاد المال » فهذا لازم ، و « زدت زيداً أجراً » ومنه : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] و « ودت زيداً » ولا تذكر ما زدته ، و « زدت مالاً » ولا تذكر من زدته .
وألف « زاد » منقلبة عن ياء؛ لقولهم : « يزيد » .
وقرأ ابن عامر وحمزة : « فزادهم » بالإمالة .
وزاد حمزة « زاد » حيث وقع ، و { زَاغَ } [ النجم : 17 ] { وَخَابَ } [ إبراهيم : 15 ] ، و { طَابَ } [ النساء : 3 ] ، و « حَاقَ » [ الأنعام : 10 ] ، والآخرون لا يميلونها .
فصل في أوجه ورود لفظ المرض
ورد لفظ « المرض » على أربعة أوجه :
الأول : الشّك كهذه الآية .
الثاني : الزِّنَا قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
الثالث : الحَرَجُ قال تعالى : { أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ } [ النساء : 102 ] .
الرابع : المرض بعينه .
قوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظيره قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] وقد تقدّم . و « أليم » هنا بمعنى : مُؤْلِم ، كقوله : [ الوافر ]
189- ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتِ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
ويجمع على « فُعَلاَء » ك : « شريف وشرفاء » ، و « أفْعَال » مثل : « شريف وأشراف » ، ويجوز أن يكون « فعيل » : هُنَا للمُبَالغة محولاً من « فَعِل » بكسر العَيْنِ ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذّابِ مجازاً ، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب ، فهو نظير قولهم : « شِعْرٌ شَاعِر » .
و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلّق بالاستقرار المقدر في « لهم » ، أي : استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم . و « ما » يجوز أن تكون مصدرية ، أي : بكونهم يكذبون ، وهذا على القول بأن ل « كان » مصدراً ، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر : [ الطويل ]
190- بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى ... وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ
فقد صَرّح بالكون ، ولا جائز أن يكون مصدر « كان » التَّامة لنصبه الخبر بعدها ، وهو « إياه » على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه .
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها ، لا تقول : « كان ويداً قائماً كوناً » ، قالوا : لأن الخبر كالعوض من المصدر ، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه ، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على « ما » ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح ، خلافاً للأخفش وابن السَّراجِ في جعل المصدرية اسماً .
ويجوز أن تكون « ما » بمعنى « الذي » ، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذبونه ، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط ، وهو كونه منصوباً بفعل ، وليس ثمَّ عائد آخر .

وزعم أبو البَقَاءِ أن كون « ما » موصولةً اسميةً هو الأظهر ، قال : لأنّ الهاء المقدرة عائدة على « الَّذِي » لا على المصدر . وهذا الَّذِي قاله غير لازم ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل « ما » اسمية ، بل من قرأ { يَكْذِبُونَ } مخففاً فهو عنده يكذبون الرَّسول والقرآن ، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف ، وقرأ الكوفيون : { يَكْذِبُونَ } بالفتح والتَّخفيف ، والباقون بالضَّم والتشديد .
و « يكذّبون » مضارع « كذَّب » بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمي بكذا ، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو : « فَرَّحْتُ زيداً » .
والتكثير نحو : « قَطَّعْتُ الأثواب » .
والجعل على صفة نحو : « قَطَّرْتُه » أي : جعلته مقطراً؛ ومنه : [ السريع ]
191- قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتَهَا ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
والتسمية نحو : « فَسَّقْتُهُ » أي : سميته فاسقاً
والدعاء له نحو : « سَقَّيْتُهُ » أي قلت له : « سَقَاكَ الله » .
أو الدعاء عليه نحو : « عَقَّرْتُه » أي قلت : عَقْراً لك .
والإقامة على الشي نحو : مَرَّضْتُه « والإزالة نحو : » قَذَّيْتُ عينه « أي : أزلت قَذَاها .
والتوجّه نحو : » شَرَّقَ وغَرَّبَ « ، أي : توجّه نحو الشرق والغرب .
واختصار الحكاية نحو : » أمَّنَ « قال : آمين .
وموافقة » تَفَعَّلَ « و » فَعَلَ « مخففاً نحو : وَلَّى بمعنى تولّى ، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر ، والإغناء عن » تَفَعَّلَ « و » فَعَلَ « مخففاً نحو » حَمَّرَ « أي تكلم بلغة » حمير « ، قالوا : » مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال « هو بمعنى مخففاًن وغن لم يلفظ به .
و » الكذب « اختلف النَّاس فيه ، فقائل : هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً ، وقيل : غير ما هو عليه في الخارج ، سواء وافق في ما في الخارج أم لا ، والصّدق نقيضه .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً ، وذلك معنى قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك ، وهو كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده ، وقال : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] .
قالت المعتزلة : لو كان المراد من المرض -هاهنا- الكفر والجَهْل لكان قوله : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ ، فيلزم أن يكون الله -تعالى- فاعلاً للكفر والجهل .

قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يكون الله -تعالى- فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه :
أحدها : أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمران بالإيمان؟
وثانيها : أنه -تعالى- ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم .
وثالثها : قوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟
ورابعها : أنه -تعالى- أضافه إليهم بقوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وبأنهم يفسدون في الأرض ، وأنهم هم السّفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطِينهم قالوا : إنا معكم ، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل ، وهو ن وجوه :
الأول : يحمل المرض على الغَمّ ، لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى : أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- ، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً ، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم ، كما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- مَرَّ بعبد الله بن أُبّيِّ على حِمَارٍ ، فقال له : نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيحُهُ ، فقال له بعض الأنصار ، اعْذُرْهُ يا رسول الله ، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِجَهُ الرياسة قبل أن تقدم علينا ، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } أي : زادهم غمَّاً على غَمِّهِمْ .
وثانيها : المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم . الثالث : أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون : جاريةٌ مريضةُ الطرف .
قال جرير : [ البسيط ]
192- إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا ... مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويً على المُحَاربة ، والمُنَازعة ، والمخاصمة ، ثم انكسرت شوكتهم ، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف ، والانكسار ، فقال تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } أي : زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف ، وحقق الله ذلك بقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ]
الرابع : أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاجَهَ ، وتألُّم قلبه ، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته ، فكان أولى .
وقوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً .
فأما ما يروى عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك .
والمراج بكذبهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

« إذا » ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً ، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق ، أو المرجح وقوعه ، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل ، فمن الجزم قوله : [ البسيط ]
193- تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي ... نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ
وقال آخر : [ الكامل ]
194- وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى ... وَإِذّا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
195- إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا ... خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ
فقوله : « فَنُضَارب » مجزوم لعطفه على محل قوله « كان وصلها » .
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
196- فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمِ ... وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ
وقد تكون للزمن الماضي ك : « إذ » كما قد تكون « إذ » للمستقبل ك « إذا » .
فمن مجيء « إذا » ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع « إذ » قوله تعالى : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ } [ التوبة : 92 ] ، وقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ، قال به ابن مالك ، وبعض النحويين .
ومن مجيء « إذ » ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 70 ] .
وتكون للمفاجأة أيضاً ، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها ، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟
ثلاثة أقوال : أصحُّها الأول استصحاباً للحال ، وهل تتصرف أم لا؟
الظاهر عدم تصرفها ، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } [ الواقعة : 1-4 ] بنصب « خافضة رافعة » ، فجعل « إذا » الأولى مبتدأ ، والثانية خبرها .
والتقدير : وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض ، وبقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] ، و { حتى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] فجعل « حتى » حرف جر ، و « إذا » مجرورة بها ، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضع . ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش .
وقوله : « قيل » فعل ماضٍ مبني للمفعول ، وأصله : « قَوَلَ » ك : « ضرب » ، فاستثقلت الكسرة على « الواو » ، فنقلت إلى « القاف » بعد سَلْبِ حركتها ، فسكنت « الواو » بعد كسرة ، فقلبت « ياء » ، وهذه أفصح اللغات ، وفيه لغة ثانية ، وهي الإشمام ، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ .
ولغة ثالثة وهي : إخلاص الضم ، نحو : « قُولَ وبُوعَ » ، قال الشاعر : [ الرجز ]
197- لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتَ ... لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ
وقال الآخر : [ الرجز ]
198- حُوكَتْ عَلَى نَوْلَيْنِ إذْ تُحَاكُ ... تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ
وقال الأخفش : « ويجوز » قُيُل « بضم القاء والياء » ، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً .

وتجيء هذه اللغات الثلاث في « اختار » و « انقاد » ، و « ردّ » و « حَبَّ » ونحوها ، فتقول : « اختير » بالكسر ، والإِشْمَام ، و « اختورط ، وكذلك : » انقيد « ، و » انقود « ، و » رَدَّ « ، و » رِدَّ « ، وأنشدوا : [ الطويل ]
199- وَمَا حِلُّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا ... وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ
بكسر حاء » حل « .
وقرىء : » وَلَوْ رِدُّوا « [ الأنعام : 28 ] بكسر الراء .
والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو : » ضرب « ، أو تقديراً نحو : » قيل « ، و » اختير « .
وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو : » تُدُحْرج الحجر « ، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو : » انْطُلِقَ بزيد « واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في » قيل « ، و » غيض « ، ونحوهما ألا يلتبس ، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس ، هكذا قال بعضهم ، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك ، وأشَمّ الكسائي : { قِيلَ } [ البقرة : 11 ] ، { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] ، { وَجِيءَ } [ الزمر : 69 ] ، { وَحِيلَ } [ سبأ : 54 ] { وَسِيقَ الذين } [ الزمر : 71 ] و { سياء بِهِمْ } [ هود : 77 ] ، و { سِيئَتْ وُجُوهُ } [ الملك : 27 ] ، وافقه هشام في الجميع ، وابن ذكوان في » حِيْل « وما بعدها ، ونافع في » سيء « و » سيئت « ، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع .
والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله : { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إن شاء الله تعالى .
و » الهم « جار ومجرور متعلّق ب » قيل « ، و » اللاَّم « للتبليغ ، و » لا « حرف نهي يجزم فعلاً واحداً ، و » تفسدوا « مجزوم بها ، وعلامة جزمه حذف النون؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة .
و » في الأرض « متعلّق به ، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله : » لا تفسدوا « لأنه هو القول في المعنى ، واختاره الزمخشري .
والتقدير : وإذا قيل لهم هذا الكلام ، أو هذا اللّفظ ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي .
وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، تقديره : وإذا قيل لهم هو ، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .
والمعنى؟ : » وإذا قيل لهم قول سديد « فأضمر هذا القول الموصوف ، وجاءت الجملة بعده مفسّرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم . وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ ، فإنه قال : » والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر ، وهو القول ، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره ، ولا يجزز أن يكون « لا تفسدوا » قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً ، فلا تقوم مقام الفاعل « .

وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى : وإذا قيل لهم هذا اللفظ ، ولا يجوز أن يكون « لهم » قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش ، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده .
وتلخصّ من هذا :
أنَّ جملة قوله : « لا تفسدوا » في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري ، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه ، والجملة من قوله : « قيل » وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه .
والعامل في « إذا » جوابها ، وهو « قالوا » ، والتقدير : قالوا « : إنما نحن مصلحون ، وقت قول القائم لهم : لا تفسدوا .
وقال بعضهم : الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها ، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط ، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها ، فكما أنك إذا قلت : » متى تَقُمْ أَقُمْ « كان » متى « منصوباً بفعل الشرط ، فكذلك إذا قال هذا القائل .
والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك : » إذا قمت فعمرو قائم « ووقوع : إذا » الفُجَائية جواباً لها ، وما بعد « الفاء » .
و « إذا » الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وهو اعتراض ظاهر .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } « إنَّ » حرف مكفوف ب « ما » الزائدة عن العمل ، ولذلك تليها الجملة مطلقاً ، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم .
وأبعد من زعم أنّ « إنما » مركبة من « إنَّ » التي للإثبات ، و « ما » التي للنفي ، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ .
واعلم أن « إن » وأخواتها إذا وَلِيْتَهَا « ما » الزائدة بطل عملها ، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مرَّ ، إلا « لَيْتَ » فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً ، وأنشدوا قول النابعة : [ البسيط ]
200- قَالَتْ : أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفهُ ، فَقَدِ
برفع « الحَمَام » ونصبه ، فأما إهمالها فلبقاء اختصاصها ، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا ، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً ، بأن تجعل « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، كالتي في قوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] و « هذا » خبر مبتدأ محذوف هو العائد ، و « الحَمَام » نعت لهذا ، و « لنا » خبر ل « ليت » ، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة .
والتقدير : ألا ليت الذي هو [ هذا ] الحمام كَائِنٌ لنا ، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها ، لأن المقتضى للإعمال -وهو الاختصاص- باقٍ .
وزعم بعضهم أنّ « ما » الزائدة إذا اتَّصلت ب « إنَّ » وأخواتها جاز الإعمال في الجميع .

و « نحن » مبتدأ ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم ، ومن معه أو المعظّم نفسه ، و « مصلحون » خبره ، والجملة في محل نَصْبٍ ، لأنها محكية ب « قالوا » .
والجملة الشرطية وهي قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } عطف على صلة « من » ، وهي « يقول » ، أي : ومن النَّاس من يقول ، ومن النَّاس من إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : وقيل : يجوز أن تكون مستأنفةً ، وعلى هذين القولين ، فلا مَحَلّ لها من الإعراب لما تقدم ، ولكنها جزء كلام على القول الأول ، وكلام مستقل على القول الثاني ، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على « يكذبون » الواقع خبراً ل « كانوا » ، فيكون محلّها النصب .
وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي « ما » من قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] خطأ ، وهو : أن تكون موصولةً بمعنى « الذي » ، إذْ لا عائد فيها يعود على « ما » المَوْصُولة ، وكذلك إذا جعلت مصدريةً ، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ ، وابن السراج . والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان « ما » موصولة حرفية .
وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به ، ولكنه يُشَكِلُ على أبي البَقَاءِ وحدهن فإنه يستضعف كون « ما » مصدرية كما تقدم .
فصل في أوجه ورود لفظ الفساد
ورد لفظ « الفساد » على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى العِصْيَان كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أهلكتا .
الثالث : بمعنى السحر قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } [ يونس : 81 ] .
فصل في بيان من القائل
منهم من قال : إن ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل .
والأقرب أن ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل .
والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام ، فإما أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- بلغه عنهم النفاق ، ولم يقطع بذلك ، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم ، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين ، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم ، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم : { لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } [ البقرة : 11 ] فإن قيل : إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟
قلنا : نعم ، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام ، وكذبوا النَّاقلين عنهم ، وحلفوا بالله عليه كما قال -تعالى- عنهم : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } [ التوبة : 74 ] . وقيل هذا الكلام لليهود .
و « الفساد » خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح .

واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي : الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى .
قال القَفّال -رحمه الله- : وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسكوا بها زَوَال العدوان ، ولزم كل أحد شأنه ، وحقنت الدّماء ، وسكنت الفتن ، فكان فيه صلاح الأرض ، وصلاح أهلها ، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع ، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه ، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب ، ووقع الفساد في الأرض .
وقيل : الفساد هو مُدْرَارَاةُ المنافقين للكافرين ، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره ، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول ، ونَصْبِ الحروب له .
وقال الأصَمَ : كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه ، وجَحْد الإسلام ، وإلقاء الشُّبهات ، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان .
فصل في مراد المنافقين بالإصلاح
قوله : { قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هم المُنَافقون ، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه ، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم : إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له ، وفي هذا احتمالان .
أحدهما : أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب ، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ، يعني : أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ لأجل تقوية ذلك الدّين ، لا جرم قالوا : « إنما نحن مصلحون » أي : نحن نصلح أمر الفساد .
وقال ابن الخطيب : العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجل إجراء حكم المؤمنين عليه ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ ، والله أعلم .
وقوله : { ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } « ألا » حرف تنبيه ، واستفتاح ، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و « لا » النافية ، بل هي بَسِيطَةٌ ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح ، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً ، وبين العرض والتخصيص ، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً ، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام ، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، وتكون للتَّمَنِّي ، فتجري مجرى « ليت » في بعض أحكامها .
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى « بَلَى » يقول القائل : ألم يقل زيد؟ فتقول : « ألا » بمعنى : « بلى قد قام » وهو غريب .
و « إنّهم » إنّ واسمها ، و « هم » تحتمل ثلاثة وجه :
أحدها : أن تكون تأكيداً لاسم « إنَّ » ؛ لأن الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل .
وأن تكون فصلاً ، وأن تكون مبتدأ .
و « المفسدون » خبره ، والجملة خبر ب « إن » .
وعلى القولين الأوّلين يكون « المفسدون » وحده خبراً ل « إن » ، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها : الاستفتاح والتنبيه ، والتَّأكيد ب « إن » ، والإتيان بالتأكيد ، والفَصْل بالضَّمير ، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوا من قولهم : « إنما نحن مُصْلِحُون » ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسميةً مؤكدةً ب « إنما » ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم ، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75