كتاب : توجيه النظر إلى أصول الأثر
المؤلف : طاهر الجزائري الدمشقي

من جملة الكلام كلمة أو أكثر وما أشبه ذلك
فيمد على مثل هذا خط أوله مثل الصاد ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها فلم يكمل عليه التصحيح وكتب حرف ناقص على حرف ناقص إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن
ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين الذين غيروا ثم ظهر الصواب فيما أنكروه والفساد فيما أصلحوه
وأما تسمية ذلك ضبة فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإفليلي أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها
قال المؤلف ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل فاستعير لها اسمها ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات
ومن مواضع التضبيب أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع فمن عادتهم تضبيب موضع الإرسال والانقطاع وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص
ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي تجتمع فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم فيتوهم

من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة وكأنها علامة وصل فيما بينها أثبتت تأكيدا للعطف خوفا أن تجعل عن مكان الواو والعلم عند الله تعالى
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورة تشبه صورة التضبيب والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان والله أعلم
وقد اعترض بعضهم على ما ذكره ابن الصلاح من أن الضبة سميت بهذا الاسم لأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل فاستعير لها اسمها فقال هذا بعيد لأن ضبة القدح جعلت للجبر وهذه ليست جابرة وإنما هي علامة لكون الرواية هكذا ولم يتجه وجهها أي علامة لصحة ورودها لئلا يظن الرائي أنها غلط فيصلحها وقد يأتي من بعد ذلك من يظهر له وجه ذلك وقد غير بعض المتجاسرين ما الصواب إبقاؤه
وأجيب عن ذلك بأن وجه الشبه بينهما كونهما موضوعين على ما فيه خلل وهذا كاف في صحة التشبيه وفي صحة الاستعارة
على أن في الإشارة إلى أن في ذلك الموضع خللا ما نوعا من أنواع الجبر وإن لم يكن خبرا تاما
وقال بعض العلماء التضبيب هو كتابة صورة ضب فوق ما هو ثابت من جهة النقل غير أن فيه خللا ما
وقد أشكل ذلك على بعض الباحثين فقال إن المعروف أن الضبة خط يكون أوله مثل الصاد المهملة وهذا يقتضي أن يكون أوله مثل الضاد المعجمة وعلى هذا يجب أن توضع نقطة فوقه أوله ولم تجر عادتهم بذلك
ويرتفع الإشكال إذا علم أن واضعي العلائم التزموا أن يجردوها ما له نقطة عن نقطته اختصارا من جهة ودفعا للالتباس من جهة أخرى ألا ترى أن النحاة جعلوا علامة السكون الخاء المأخوذة من أول خفيف ولما لم ينقطوها صارت هكذا ( حـ ) وعلامة الحرف المشدد الشين المأخوذة من أول شديد ولما لم ينقطوها صارت

هكذا ( سـ ) وعلامة الكسرة الياء ولما لم ينقطوها صارت هكذا ( ى )
غير أن أكثر العلائم يلحقها فيما بعد تغير حتى إنه ربما بعدت عن أصلها بعدا شديدا
وقد أشار سيبويه إلى شيء من ذلك في باب الوقف حيث قال ولهذا علامات فللإشمام نقطة وللذي أجري مجرى الجزم والإسكان الخاء ولروم الحركة خط بين يدي الحرف وللتضعيف الشين
وقال بعض الكتاب التصحيح هو وضع صح فوق ما صح من جهة الرواية وغيرها وهو عرضة للشك إشارة إلى أنه كان شاكا فيه فبحث عنه إلى أن صح فخشي أن يعاوده الشك فكتبها ليزول عنه الشك فيما بعد
والتضبيب هو وضع الضبة وهي بعض صح تكتب على شيء فيه شك ليبحث عنه فإذا تبين له صحته أتمها بضم الحاء إليها فتصير صح ولو جعل لها علامة غيرها لتكلف الكشط لها
وكتب صح مكانها
وإن وقع في الرواية خطأ محض لا شك فيه فينبغي أن يكتب فوقه كذا بخط دقيق ويبين الصواب في الهامش
الأمر السادس ينبغي الاعتناء بأمر اللحق واللحق في اصطلاح أهل الحديث والكتابة ما سقط من أصل الكتاب فألحق بالحاشية
وهو بفتح اللام والحاء ويجوز بسكون الحاء وهو في اللغة الشيء الرائد وكل شيء لحق شيئا
وقد استعمل اللحق بالمعنى الاصطلاحي بعض الشعراء فقال كأنه بين أسطر لحق
والمختار في تخريج الساقط في الحواشي أن يخط الكاتب من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق ويبدأ في الحاشية بكتبه اللحق مقابلا للخط المنعطف وليكن ذلك في الحاشية ذات اليمين وإن كانت تلي وسط ورقة إن اتسعت له فليكتبه صاعدا إلى أعلى الورقة لا نازلا به إلى أسفل
وإنما اختير كتابة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له لو كتب الأول نازلا إلى أسفل وإذا كتب الأول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له

وهذا إن لم يزد اللحق على سطر فإن كان اللحق سطرين أو سطورا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى بل يبتدئ بها من أعلى إلى أسفل بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة
وإنما اختير تخرج اللحق في جهة اليمين لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال حيث يشتبه موضع هذا السقط بموضع ذاك السقط وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين تقابلت عطفة التخريج إلى جهة الشمال وعطفة التخريج إلى جهة اليمين وربما تلاقتا فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال فلا يلتقيان
ولا يلزم إشكال إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقرب التخريج من اللحق وسرعة لحاق الناظر به وللأمن من نقص يحدث بعده
نعم إن ضاق ما بعد آخر السطر لقرب الكتابة من طرف الورق لضيقه أو لضيقه بالتجليد بأن يكون السقط في الصحيفة اليمنى فلا بأس حينئذ بالتخريج إلى جهة اليمين وقد وقع ذلك في خط غير واحد من أهل العلم
وينبغي أن يكتب عند انتهاء اللحق صح ومنهم من يكتب مع صح رجع ومنهم من يكتب انتهى اللحق
ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج ليؤذن باتصال الكلام
وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي من أهل المشرق مع طائفة وليس ذلك بمرضى إذ قد يقع في الكلام ما هو مكرر مرتين فأكثر لمعنى صحيح فإذا كررت الكلمة لم يؤمن أن توافق ما يتكرر حقيقة أو يشكل

أمرها فيحصل بذلك ارتياب وزيادة إشكال فالأولى الاقتصار على كتابة صح
وذكر بعض أرباب النكت أن كلمة صح قد ينتظم بها الكلام بعدها فيظن أنها من أصل الكتاب
وأجيب بأن هذا نادر بالنسبة لما قبله على أن الحذاق من الكتبة يكتبونها صغيرة وبعضهم يكتبها بمداد أحمر وبعضهم لا يتم كتابة الحاء منها
وقال بعضهم الأحسن الرمز لذلك بشيء لا يقرأ ويحصل ذلك بطمس صاد صح وعدم تعريف حائها
واختار ابن خلاد أيضا في عطفه خط التخريج أن تمد حتى تلحق بأول اللحق في الحاشية
وهذا غير مرضي لأن فيه تسويدا للكتاب لا سيما عند كثرة الإلحاقات مع عدم الاضطرار لذلك فإن العطفة اليسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق كافية في رفع اللبس وإن كان فيما ذهب إليه من مدها إلى أول اللحق زيادة في رفعه
قال العراقي فإن لم يكن اللحق قبالة موضع السقوط بأن لا يكون ما يقابله خاليا وكتب اللحق بموضع آخر فيتعين حينئذ جر الخط إلى أول اللحق أو يكتب قبالته يتلوه كذا وكذا في الموضع الفلاني ونحو ذلك لزوال اللبس
وقد رأيت في خط غير واحد ممن يعتمد عليه اتصال الخط إذا بعد اللحق عن مقابل موضع النقص وهو حينئذ حسن والأصل في التخريج قول زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى ( غير أولي الضرر ) بعد نزول ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) كما في سنن أبي داود فألحقتها والذي نفسي بيده ولكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف
وأما ما يكتب في حاشية الكتاب من غير أصل الكتاب في شرح أو تنبيه

على غلط أو اختلاف رواية أو نسخة أو نحو ذلك فقال بعضهم إنه لا ينبغي أن يخرج له لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل وإنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل لكن يجعل على ذلك الحرف المقصود علامة كالضبة والتصحيح لتدل عليه
واعترض عليه بأن كلا من الضبة والتصحيح اصطلح به لغير ذلك فخوف اللبس أيضا حاصل بل هو فيه أقرب
وقال بعضهم ينبغي أن يخرج له لكن على نفس الكلمة التي من أجلها كتبت الحاشية لا بين الكلمتين
قال ابن الصلاح التخريج أولى وأدل وفي نفس هذا المخرج ما يمنع الالتباس
ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل في أن خط ذاك الخريج يقع بين الكلمتين بينهما سقط الساقط وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية والله أعلم
وقد جرت عادة كثير من الكتاب أن يشيروا إلى الحاشية بالحاء المهملة مفردة وقد يمدونها وقد يكتبون لفظ حاشية بدون نقط
وإلى النسخة بالخاء المعجمة مفردة ويلتزمون نقطها لئلا تشتبه بالحاشية وقد يكتبون لفظ نسخة والأكثر كتابتها على صورة غير واضحة مع عدم النقط لتكون كالرمز
وينبغي أن يلاحظ في الحواشي عدم كتابتها بين السطور لا سيما إن كانت ضيقة وترك شيء من جوانب الورقة ونحو ذلك وقال بعض الشعراء في الحث على اقتناء الكتب الجيدة الخط والضبط
( خير ما يقتني اللبيب كتاب ... محكم النقل متقن التقييد )
( خطه عارف نبيل وعاناه ... فصح التبييض بالتسويد )
( لم يخفه إتقان نقط وشكل ... لا ولا عابه لحاق المزيد )
( فكأن التخريج في طرتيه ... طرر صففت ببيض الخدود )

القول الثامن قول من أجاز الرواية بالمعنى للصحابة والتابعين فقط ومنع من ذلك غيرهم
قال لأن الحديث إذا قيده الإسناد وجب أن لا يختلف لفظه فيدخله الكذب وذلك لأن الرواية بالمعنى لا سيما إن تعدد الراوون بها توجب رواية الحديث على وجوه شتى مختلفة في اللفظ والاختلاف في اللفظ كثيرا ما يوجب الاختلاف في المعنى وإن كان يسيرا بحيث لا يشعر به إلا قليل من أهل الفضل والنبل والاختلاف في المعنى يدل على أن ذلك الحديث لم يرو كما ينبغي بل وقع خطأ في بعض رواياته أو في جميعها فيكون فيها ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم -
وهذا المحذور إنما يظهر بعد تدوين الحديث وتقييده بالإسناد فإذا منع أتباع التابعين فمن بعدهم من الرواية بالمعنى لم يظهر ذلك المحذور هذا فحوى كلامه
هذا وقد كان التابعون فريقين فريق يورد الأحاديث بألفاظها وفريق يوردها بمعانيها روي عن ابن عون أنه قال كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني وكان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه
وروي عن سفيان أنه قال كان عمرو بن دينار يحدث الحديث على المعنى وكان إبراهيم بن ميسرة لا يحدث إلا على ما سمع
وهنا تمت الأقوال الثمانية التي قيلت في أمر الرواية بالمعنى
وقد ذكر بعضهم قولا تاسعا وهو قول من قال تجوز الرواية بالمعنى إن كان موجب الحديث علما فإن كان موجبه عملا لم تجز في بعض كحديث أبي داود وغيره مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم
وحديث الصحيحين خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور
وتجوز في بعض وقد أشكل هذا القول على كثير من الباحثين وذلك لأن موجب الحديث كان علما يجب الاحتياط فيه كثيرا لأن الرواية بالمعنى كثيرا ما لا تكون وافية

( فيناجيك شخصه من قريب ... وينايك نصه من بعيد )
( فاصحبنه تجده خير جليس ... واختبره تجده أنس الفريد )
وقال بعضهم في الحث على نسخ الكتب النافعة
( فوائد نسخ الكتب شتى كثيرة ... وكل على نهج السداد يعينه )
( فلو لم يكن منها سوى ترك غيبة ... وصحبة من يردي الفتى ويشينه )
( لكان جديرا باللبيب التزامه ... وإن سئمت في الطرس منه يمينه )
( ومنها اكتساب القوت من وجه حله ... وغنيته عن ذي نوال يمونه )
( ومنها اكتساب العلم وهو أجلها ... وعلم الفتى يسمو به ويزينه )
( ومنها بقاء الذكر بعد وفاته ... إذا نسياه إلفه وقرينه )
( وهذا إذا ما كان في الخير خطه ... وإلا ففي يوم المعاد يخونه )
الأمر السابع إذا وقع في الكتاب ما ليس منه فإنه ينبغي أن ينفى عنه ذلك إما بالضرب عليه والحك له أو المحو والضرب خير من الحك والمحو
قال ابن خلاد قال أصحابنا الحك تهمة وقال غيره كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يبشر شيء لأن ما يبشر منه ربما يصح في رواية أخرى وقد يسمع الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر يكون ما بشر وحك من رواية هذا صحيحا في رواية الآخر فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بشر وحك وهو إذا خط عليه من رواية الأول وصح عند الآخر اكتفى بعلامة الآخر عليه بصحته
وقال بعض العلماء إن تحقق كون غلطا سبق إليه القلم فالكشط أولى لئلا يتوهم بالضرب أن له أصلا وإلا فلا على أن الكشط فيه مزيد تعب مع إضاعة الوقت وربما أفسد الورقة وما تنفذ إليه وكثير من الورق يفسده الكشط

والكشط مأخوذ من قولهم كشط البعير إذا نزع جلده ولا يقال فيه سلخ وإنما يقال ذلك في الشاة تقول سلخ الشاة إذا نزع جلدها
ومرادهم بالكشط هنا الحك والبشر والبشر مأخوذ من قولهم بشرت الأديم إذا قشرت وجهه
والأكثر من الاستعمال لفظ الحك لإشعاره بالرفق بالقرطاس وقد وقع الكشط في قول الشاعر في ذم كاتب
( حذقك في الكشط دليل على ... أنك في الخط كثير الغلط )
وأما المحو فإنه يسود غالبا القرطاس وهو لا يمكن إلا إذا كانت الكتابة في لوح أو رق أو ورق صقيل جدا وكان المكتوب في حال الطراوة
وتتنوع طرق المحو فتارة يكون بالإصبع وتارة يكون بخرقه
ومن أغربها مع أنه أسلمها ما روي عن سحنون بن سعد أحد الأئمة من فقهاء المالكية أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه
وهذا يومئ إلى ما روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد
وذكر عن أبي إسحاق الشيرازي أن ثيابه كانت كأنما أمطرت مدادا وكان لا يأنف من ذلك
وذكر عن عبيد الله بن سليمان أنه رأى على ثوبه أثر صفرة فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ثم قال المداد بنا أحسن من الزعفران وأنشد
( إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوي عطر الرجال )
ويحكى عن بعض الفضلاء أنه كان يأكل طعاما فوقع منه على ثوبه فكساه حبرا وقال هذا أثر علم وذاك أثر شره
وللأديب أبي الحسن الفنجكردي

( مداد الفقيه على ثوبه ... أحب إلينا من الغالية )
( ومن طلب الفقه ثم الحديث ... فإن له همة عالية )
( ولو تشتري الناس هذي العلوم ... بأرواحهم لم تكن غالية )
( رواة الأحاديث في عصرنا ... نجوم وفي الأعصر الخالية )
وأما الضرب فلا محذور فيه وهو علامة بينة في إلغاء المضروب عليه مع السلامة من التهمة لإمكان قراءته بعد الضرب ولذلك قالوا أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله ويقرأ من تحته ما خط عليه
وقد اختلفوا في الضرب على خمسة أقوال
القول الأول أن يخط فوق المضروب عليه خطا مختلطا بالكلمات المضروب عليها ويسمى هذا الضرب عند أهل المشرق والشق عند أهل المغرب
ومثال ذلك على هذا القول
القول الثاني أن يخط فوق المضروب عليه خطا لا يكون مختلطا بالكلمات المضروب عليها بل يكون فوقها منفصلا عنها لكنه يعطف طرفي الخط على أول المضروب عليه وآخره بحيث يكون كالباء المقلوبة
ومثال ذلك على هذا القول
القول الثالث أن يكتب في أول الزائد لا وفي آخره إلى
وقد يكتب عوضا من لفظ لا لفظ من أو لفظ زائد وقد يقتصر بعضهم على الزاي منها
قال بعض العلماء ومثل هذا يحسن فيما صح في رواية وسقط في رواية أخرى
وقد يضاف إليه الرمز لمن أثبته أو لمن نفاه من الرواة
وقد يقتصر على الرمز لكن حيث يكون الزائد كلمة أو نحوها

القول الرابع أن يحوق على أول الكلام المضروب عليه بنصف دائرة كالهلال وكذلك على آخره ( ومثال ذلك على هذا القول )
القول الخامس أن تكتب أول الزيادة دائرة صغيرة وكذلك في آخرها وقد سماها واضعها صفرا لخلو ما أشير إليه بها من الصحة كما سماها الحساب بذلك لخلو موضعها من العدد ومثال ذلك على هذا القول ثم إذا أشير إلى الزائد بنصف دائرة أو بصفر فليكن ذلك في كل جانب في أصل الكتاب فإن ضاق المحل فلتجعل في الأعلى مثال ذلك في نصف الدائرة مثال ذلك في الصفر
وإذا كثرت سطور الزائد فلك على هذه القوال الثلاثة الأخيرة أن تكرر علامة الإبطال بأن تضعها في أول كل سطر وآخره لما في ذلك من زيادة البيان ولك أن لا تكررها بأن تكتفي بوضعها في أول الزائد وآخره
وقد اختلفوا في الضرب على الحرف المكرر
فقال بعضهم أولاهما بالإبطال الثاني لأن الأول كتب على الصواب والثاني كتب على الخطأ والخطأ أولى بالإبطال
وقال بعضهم أولاهما بالإبقاء أجودهما صورة وأدلهما على قراءته
وفصل بعضهم تفصيلا حسنا فقال إن تكرر الحرف في أول السطر فينبغي أن يضرب على الثاني صيانة لأول السطر عن التسويد والتشويه وإن تكرر في آخر السطر فينبغي أن يضرب على أولهما صيانة لآخر السطر عن ذلك فإن أوائل السطور وأواخرها أولى بالصيانة عن ذلك فإن اتفق أن يكون أحدهما في آخر السطر والآخر في أول السطر الآخر فينبغي أن يضرب على الذي يكون في آخر السطر فإن أول السطر أولى بالمراعاة
فإن كان التكرر في المضاف أو في المضاف إليه أو في الصفة أو في الموصوف أو نحو ذلك لم يراع حينئذ أول السطر وآخره بل يراعى الاتصال بين المضاف والمضاف إليه ونحوهما في الخط فلا يفصل بالضرب بينهما ويضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط
وإذا وقع في الكتاب تقديم وتأخير فينبغي أن

يشار إلى ذلك فمنهم من يكتب أول المتقدم كتابة يؤخر وأول المتأخر يقدم كل ذلك بأصل الكتاب إذا اتسع وإلا فبالهامش ومنهم من يرمز إلى ذلك بصورة م وهذا حسن إن لم يكن المحل قابلا لتوهم أن الميم رمز لكتاب مسلم
الأمر الثامن ينبغي للطالب إذا كان الكتاب مرويا بروايتين أو أكثر ووقع في بعضها اختلاف وأراد الإشارة إلى ذلك أن يحترز مما يوقع في اللبس
قال ابن الصلاح في الأمر الرابع عشر من الأمور المفيدة في كتابة الحديث وضبطه ليكن فيما تختلف فيه الروايات قائما بضبط ما يختلف فيه في كتابه جيد التمييز كيلا تختلط وتشتبه فيفسد عليه أمرها وسبيله أن يجعل أولا متن كتابه على رواية خاصة ثم ما كانت من زيادة لرواية أخرى ألحقها أو من نقص أعلم عليه أو من خلاف كتبه إما في الحاشية وإما في غيرها معينا في كل ذلك من رواه ذاكرا اسمه بتمامه فإن رمز إليه بحرف أو أكثر فعليه ما قدمنا ذكره من أنه يبين المراد بذلك في أول كتابه أو آخره كيلا يطول عهده به فينساه أو يقع كتابه إلى غيره فيقع من رموزه في حيرة وعمى
وقد يدفع إلى الاقتصار على الرموز عند كثرة الروايات المختلفة
واكتفى بعضهم في التمييز بأن خص الرواية الملحقة بالحمرة فعل ذلك أبو ذر الهروي من المشارقة وأبو الحسن القابسي من المغاربة مع كثير من المشايخ وأهل التقييد فإذا كان في الرواية الملحقة زيادة على التي في متن الكتاب كتبها بالحمرة وإن كان فيها نقص والزيادة في الرواية التي في متن الكتاب حوق عليها بالحمرة ثم على فاعل ذلك تبين من له الرواية المعلمة بالحمرة في أول الكتاب أو آخره على ما سبق والله أعلم
والذي سبق هو ما ذكره في الأمر الرابع حيث قال لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره فيوقع غيره في حيرة كفعل من يجمع في كتابه بين

روايات مختلفة ويرمز إلى رواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك فإن بين في أول كتابه أو آخره مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس ومع ذلك الأولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رواية اسم راويها بكماله مختصرا ولا يقتصر على العلامة ببعضها والله أعلم
تنبيه لا يسوغ للكاتب أن يكتب الحواشي في كتاب لا يملكه إلا بإذن مالكه
فإن قيل فهل يسوغ ذلك وجود عبارة في الأصل تخالف معتقده ويخشى إذا لم يكتب حاشية تتضمن الإشارة إليها أو الرد عليها أن تضر بعض المطالعين
يقال لا فإن له مندوحة عن كتابة الحاشية في نفس الكتاب بكتابتها في فرخة توضع هناك على أنه كثيرا ما تصدى لمثل هذا الأمر من ليس له بأهل ممن يظن أنه له أهل حتى ربما كان إفساده أكبر من إصلاحه حتى صح أن يقال كم حاشية أتت بغاشية
وقد وقع في ذلك القديم والحديث
الأمر التاسع ينبغي لكاتب الحديث تحقيق الخط وتجويده دون المشق والتعليق
قال بعض الأئمة شر الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة وأجود الخط أبينه
وقال بعضهم الخط علامة فكلما كان أبين كان أحسن
وقال بعضهم وزن الخط وزن القراءة وأجود القراءة أبينها وأجود الخط أبينه
والمشق سرعة الكتابة قاله الجوهري
وقال بعضهم المشق خفة اليد وإرسالها مع بعثرة الحروف وعدم إقامة الأسنان
والتعليق خلط الحروف التي ينبغي تفرقها وإذهاب أسنان ما ينبغي إقامة أسنانه وطمس ما ينبغي إظهار بياضه فيجتمعان في عدم إقامة الأسنان وينفرد التعليق بخلط الحروف وضمها والمشق ببعثرتها وإيضاحها بدون القانون المألوف وهو مفسد لخط المبتدي ودليل على تهاون غيره
وأهل العلم وإن لم يستقبحوا المشق والتعليق وإغفال النقط والشكل في

المكاتبات إذا كان المكتوب إليه ممن لا يستعجم عليه فإنه يعدون ذلك في كتب العلم مستقبحا
وتحقيق الخط هو أن تميز كل حرف بصورته المميزة له
وتجويد الخط تحسينه
والحسن في أي شي كان مما تميل إليه النفس طبعا وكثيرا ما دعا حسن الخط إلى المطالعة في كتاب لا يميل المطالع إليه
وسأل الصوفي بعض الكتاب عن الخط متى يستحق أن يوصف بالجودة فقال إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه واستقامت سطوره وضاهى صعوده حدوره وتفتحت عيونه ولم تشتبه راؤه ونونه وأشرق قرطاسه وأظلمت أنقاسه وأسرع إلى العيون تصوره وإلى القلوب تنوره وقدرت فصوله واندمجت أصوله وتناسب دقيقه وجليله وتساوت أطنابه واستدارت أهدابه وصغرت نواجذه وانفتحت محاجره وخرج عن نمط الوراقين وبعد عن تصنع المحررين وخيل إليك أنه يتحرك وهو ساكن
ولا تحصل جودة الخط إلا بإعطاء كل حرف ما يستحقه من التقوس والانحناء والانبطاح وغير ذلك من الطول أو القصر والرقة أو الغلظة ومراعاة المناسبة بين الحروف بعضها مع بعض وبين الكلمات كذلك إلى غير ذلك مما هو معروف عند أهله
ومن تتمة ذلك مراعاة الفواصل وحسن التدبر في فصل الكلمات
قال علماء الأثر يكره في مثل عبد الله بن فلان أن يكتب عبد في آخر

السطر والباقي في أول السطر الآخر ومثل ذلك ما أشبهه مما يستقبح صورة وإن كان غير مقصود نحو قاتل فلان في النار
فلا يكتب قاتل في آخر سطر وما بعده في أول السطر الآخر
وتشتد الكراهة إن وقع عبد ونحوه في آخر الصحيفة اليسرى وما بعده في أول الصحيفة اليمنى التي تليها فإن الناظر فيها ربما يبتدئ بالقراءة فيها كذلك من غير تأمل وإذا انتبه لذلك احتاج إلى قلب الورقة ليرى ما كتب في الصحيفة اليسرى السابقة
وجعل ذلك ابن دقيق العيد من باب الأدب لا من باب الوجوب
وحسن الخط تتفاوت درجاته تفاوتا شديدا وذلك على حس تفاوت رعاية النسبة المطلوبة فيه وقد أشار إلى ذلك بعضهم في أثناء البحث عن فن تركيب الحروف حيث قال كما أن للحروف حسنا مخصوصا في حال إفرادها كذلك لها حسن مخصوص في حال تركيبها من تناسب الشكل ونحوه
ومبادئ ذلك أمور استحسانية ترجع إلى رعاية النسبة الطبيعية في الأشكال وله استمداد من الهندسة ولذلك قال بعض الحكماء الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية
والناس كثيرا ما يختلون في ترجيح بعض الخطوط على بعض في الحسن وهو غير مستغرب فإنه نظير اختلافهم في ترجيح بعض الناس على بعض في ذلك
والاستحسان كثيرا ما يختلف باختلاف الإلف والعادة والمزاج إلا أن المرجع في ذلك إلى أرباب الفن ممن عرف بسلامة الطبع ودقة النظر وفرط البراعة فيه
واعلم أن الخط العربي يمكن فيه من السرعة ما لا يمكن في غيره ويحتمل من تكبير الحروف وتصغيرها ما لا يحتمل غيره ويقبل من النوع ما لا يقبله غيره ولذلك كثرت أنواع الخط العربي والمشهور منها عند المتأخرين ستة أنواع وهي الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع
والمراد بالتعليق هنا خط وضعه بعض الفرس ثم عنوا به عناية شديدة حتى

صار يقال له الخط الفارسي ويقال له أيضا الخط المعلق وهو خط تعصب الإجادة فيه وهو غير قديم العهد فلا ينبغي أن يتوهم من قول المتقدمين بكراهة الخط المعلق أنهم يعنون هذا بل مرادهم به الخط الذي أذهبت أسنانه وخلط فيه بين الحروف التي ينبغي تفرقها وطمس فيه بياض ما ينبغي إظهار بياضه
ويشبه هذا الخط من وجه الخط المسلسل وهو خط متصل الحروف ليس في حروفه شيء منفصل
وأما المتقدمون فقد اشتهر عندهم أنواع كثيرة من أنواع الخط العربي وقد تصدى لذكرها أبو الفرج محمد بن إسحاق البغدادي المعروف بابن النديم في كتاب الفهرست وقد أحببت إيراد شيء مما ذكره على طريق التلخيص قال في المقالة الأولى في وصف لغات الأمم من العرب والعجم ونعوت أقلامها وأنواع خطوطها وأشكال كتاباتها
أول الخطوط العربية الخط المكي وبعده المدني ثم البصري ثم الكوفي فأما المكي والمدني ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله إضجاع يسير
ثم استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض قطبة وكان أكتب الناس على الأرض بالعربية وكان في أيام بني أمية
ثم جاء الضحاك بعده فزاد على قطبة وكان أكتب الخلق بعده وكان في أول خلافة بني العباس
ثم ذكر من جاء بعدهما وأتبع ذلك بذكر أربعة وعشرين قلما وذكر أن مخرجها كلها من أربعة أقلام قلم الجليل وقلم الطومار الكبير وقلم النصف الثقيل وقلم الثلث الكبير الثقيل وأن مخرج هذه الأقلام الأربعة من القلم الجليل وهو أبو الأقلام
نقل ذلك من خط أبي العباس بن ثوابة
ثم نقل عن غيره أنه قال ولم يزل الناس يكتبون على مثال الخط القديم الذي ذكرناه إلى أول الدولة العباسية فحين ظهر الهاشميون اختصت المصاحف بهذه

الخطوط وحدث خط يسمى العراقي وهو المحقق الذي يسمى الوراقي ولم يزل يزيد ويحسن حتى انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ أصحابه وكتابه بتجويد خطوطهم فتفاخر الناس في ذلك
وظهر رجل يعرف بالأحوال المحرر من صنائع البرامكة عارف بمعاني الخط وأشكاله فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعا وكان هذا الرجل يحرر الكتب النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف في الطوامير وكان في نهاية الحرفة والوسخ وكان مع ذلك سمحا لا يليق على شيء فلما نشأ ذو الرياستين الفضل بن سهل اخترع قلما وهو أحسن الأقلام ويعرف بالرياسي ويتفرع إلى عدة أقلام
وفي أيام المقتدر ظهر إسحاق بن إبراهيم التميمي ويكنى بأبي الحسين وكان يعلم المقتدر وأولاده وله رسالة في الخط سماها تحفة الوامق ولم ير في زمانه أحسن منه خطا ولا أعرف بالكتابة وأخوه أبو الحسن نظيره ويسلك طريقته وابنه إسماعيل بن إسحاق وابنه القاسم بن إسماعيل ومن ولده أبو العباس عبد الله بن أبي إسحاق وهؤلاء كانوا في نهاية حسن الخط والمعرفة بالكتابة
وممن كتب بالمداد من الوزراء الكتاب أبو أحمد العباس بن الحسن وأبو الحسن علي بن عيسى وأبو علي محمد بن علي بن مقلة ولد سنة 272 وتوفي سنة 328

وممن كتب بالحبر أخوه أبو عبد الله الحسن بن علي ولد سنة 278 وتوفي سنة 338
وهذان رجلان لم ير مثلهما في الماضي إلى وقتنا هذا وعلى خط أبيهما مقلة كتبا واسم مقلة علي بن الحسن بن عبد الله ومقلة لقب
وقد كتب في زمانهما جماعة وبعدهما من أ÷لهما وأولادهما فلم يقاربوهما وإنما يندر من الواحد منهم الحرف بعد الحرف والكلمة بعد الكلمة وإنما الكمال كان لأبي علي وأبي عبد الله
وقد رأيت مصحفا بخط مقلة
قال بعض الكتاب يظن كثير من الناس أن الوزير أبا علي هو أول من ابتدع هذا الخط المعروف وليس كذلك فقد وجد من الكتب فيما قبل المئتين ما ليس على صورة الكوفي بل يبعد عنه إلى بعض هذه الأوضاع المتداولة الآن وإن كان هو إلى الكوفي أقرب منها وأميل لقربه من أصله المنقول عنه
نعم إن ابن مقلة قد زاد في التأنق في هندسة الحروف وفي إجادة تحريرها ومنه انتشر الخط
ثم جاء بعده علي بن هلال المعروف بابن البواب فزاد في التأنق

فازداد الخط بهجة وطلاوة ولشهرة خطه بالحسن الباهر
قال أبو العلاء المعري
( ولاح هلال مثل نون أجادها ... يجاري النضار الكاتب بن هلال )
وقد اخترع كثيرا من الأقلام وكانت وفاته سنة 413 ورثاه بعض الشعراء فقال
( استشعر الكتاب فقدك سالفا ... وقضت بصحة ذلك الأيام )
( فلذاك سودت الدوي وجوهها ... أسفا عليك وشقت الأقلام )
ثم جاء بعدهما كثير ممن اتبعهما بإحسان وهم مذكورون في طبقات الخطاطين
وقد تعرض بعض المتأخرين من الكتاب لذكر الأقلام على حسب ما وقف عليه فقال اعلم أن أصل الأقلام اثنان ومنهما تستنبط بقية الأقلام
الأول المحقق وهو أصل بذاته ويقال إنه أول قلم وضع والريحان مستنبط منه ويكتبان بالقلم المحرف وهو ما كان ذا سن مرتفعة من الجهة اليمنى ارتفاعا كثيرا إذا كان مكبوبا وذلك لأن الفركات وهي رقة الزوايا تظهر به أكثر ويرقق المنتصبات كالألف ورأس اللام كما أن المدور يثخنها
والمدور هو ما استوى سناه
وخصا بأن لا يطمس فيهما عين ولا فاء ولا قاف ولا ميم ولا واو وأن يكونا منيرين
والفرق بينهما أ الريحان بقلمه مفتح الأعين والمحقق بغيره
وقال ابن البواب نسبة الريحان إلى المحقق كنسبة الحواشي إلى النسخ
والنسخ مستنبط من الريحان والفرق بينهما أن النسخ إعرابه أقل من الريحان وفيه تعليق وطمس فقرب من الرقاع ويكتب النسخ بالقلم المدور وكذلك التواقيع الصغار والمراسلات
والثاني الثلث هو أصل بذاته وقلم التوقيع مستنبط منه والرقاع مستنبط من التوقيع فحد التوقيع أن لا يحتمل الإعراب وإلا فهو ثلث خفيف ولعدم

استدعائه الإعراب قصرت ألفه فإن قيل لم وفرت شحمته قيل ليزيد مع تدويره في تثخين منتصباته وإخفاء فركاته
والمؤنق وهو قلم الأشعار مستنبط من المحقق والثلث على رأي جماعة فلك إذا أن تكتبه بقطة قلم المحقق وإن شئت بقطة قلم الثلث لتركبه منهما والثلث يكتب بالقلم الذي يكون بين التحريف والتدوير وهو ما كان ذا سن مرتفعة من الجهة اليمنى ارتفاعا يسيرا إذا كان مكبوبا ويكتب بهذا القلم أيضا التواقيع الشبيهة بالثلث
وقال ابن البواب هو أصل بذاته وأنكر على من جعله مركبا منهما فقال المؤنق وهو قلم الأشعار ليس مركبا من المحقق والثلث كما يخيل لبعض المبتدئين وإنما وقع الاشتباه لمشاكلة بعض حروفه حروف المحقق وبعضها حروف الثلث لكن بينهما مباينة يدركها حذاق هذه الصناعة
والمحقق من أحسن الخطوط وأصعبها على الكتاب وقل من يقدر على كتابته بحيث لا يمزج شيئا من حروفه بحروف المؤنق
والثلث مما تقوي المداومة عليه اليد وتعينها على بقية الأقلام
ومما يبين الفرق أن الراء والنون والواو والياء المفردات إذا كانت في المؤنق لم تخل عن قصر وعماقة والمحقق بالعكس في هذه الحروف الأربعة وإذا كانت في الثلث كانت أعمق وأقصر فتبين بما ذكر أن المؤنق ليس مركبا من المحقق والثلث فمن قام في هذه الثلاثة على الصراط وجانب طرفي التفريط والإفراط فهو الكامل في علم الكتابة المشار إليه بالإصابة
واعلم أن لكل قلم من السبعة شيئا يختص به
فالمحقق والريحان بالمصاحف والأدعية والنسخ بالتفسير والحديث ونحوهما والثلث بالتعليم والتوقيع بالتواقيع الكبار التي للأمراء والقضاة والأكابر والرقاع بالتواقيع الصغار والمراسلات والمؤنق بكتابة الشعر
ولنرجع إلى ذكر ما يكره في الخط فنقول قد عرفت أنهم يكرهون فيه التعليق والمشق وكما يكرهون فيه ذلك يكرهون فيه التدقيق لأن الخط الدقيق لا ينتفع به

من في نظره ضعف وربما ضعف نظر كاتبه بعد ذلك فلا ينتفع به قال أحمد بن حنبل لابن عمه حنبل بن إسحاق وقد رآه يكتب خطا دقيقا لا تفعل فإنه يخونك أحوج ما تكون إليه
وقال أبو حكيمة كنا نكتب المصاحف بالكوفة فيمر بنا علي بن أبي طالب فيقوم علينا فيقول اجل قلمك قال فقططت منه ثم كتبت فقال هكذا نوروا ما نور الله عز و جل
وكان بعض المشايخ إذا رأى خطا دقيقا قال هذا خط لا يوقن بالخلف من الله
يريد أنه لو يعلم أن ما عنده من الورق لو توسع فيه لأتاه الخلف من الله لم يحرص عليه ذلك الحرص فكأن تدقيقه الخط لعدم إيقانه بالخلف من الله تعالى
وقال بعض العلماء إن الذي يكتب الخط الدقيق ربما يكون قصير الأمل لا يؤمل أن يعيش طويلا
وقد يقال إنه قد يكون طويل الأمل غير أنه لا يخطر بباله ضعف البصر في الكبر
وقد كان أناس مولعين بتدقيق الخط حتى بعد تقدمهم في السن منهم الحافظ شمس الدين ابن الجزري
ومنهم من المتقدمين أبو عبد الله الصوري فإنه كتب صحيح البخاري ومسلم في مجلد لطيف وبيع بعشرين دينارا

@ 803 @

@ 804 @

وذكر بعضهم أن في تدقيق الخط رياضة للبصر كما يراض كل عضو بما يخصه وأن من لم يفعل ذلك وأدمن على سواه ربما تصعب عليه معاناته فيما بعد إذا دعاه إلى ذلك داع فيكون كمن ترك الرياضة بالمشي فإنه يحصل له مشقة فيه فيما بعد بخلاف من اعتاده أحيانا
وهذه الكراهة إنما تكون فيما إذا كان ذلك بغير عذر فإن كان ثم عذر كأن لا يكون في الورق سعة أو يكون رحالا يريد حمل كتبه معه لتكون خفيفة المحمل لم يكره ذلك قال محمد بن المسيب الأرغياني كنت أمشي في مصر وفي كمي مئة جزء في كل جزء ألف حديث
وقيل لأبي بكر عبد الله الفارسي وكان يكتب خطا دقيقا لم تفعل هذا فقال لقلة الورق والورق وخفة الحمل على العنق

الأمر العاشر كما وقع التصحيف في غير الحديث وقع التصحيف في الحديث وقد عرفت أن التصحيف المتعلق بالحديث منه ما يتعلق بالمتن ومنه ما يتعلق بالإسناد
وقد ألف كثير من العلماء الأعلام كتبا في ذلك فمنهم من تعرض لبيان التصحيف مطلقا
ومنهم من اقتصر على بيان التصحيف الذي وقع في غير الحديث من كتب الأدب ونحوها
ومنهم من اقتصر على بيان التصحيف الذي وقع في كتب الحديث فقط
وليس مراد من ألف في ذلك الطعن في المصحفين والوضع من قدرهم فإن فيهم من وقع ذلك منه نادرا وهو من أهل التثبت لا سيما إن كان في موضع تعسر فيه السلامة من الخطأ ولذا قال بعض الحفاظ إن كثيرا من التصحيف المنقول عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه ومن يعرى عن الخطأ والنبيل من عدت غلطاته بل مرادهم بيان الصواب والتنبيه على ما يخشى أن يزل فيه من لم ينتبه له من الطلاب
والتصحيف قسمان تصحيف بصر وهو الأكثر وذلك كتصحيف بشر ببسر وتصحيف سمع كتصحيف عاصم الأحول بواصل الأحدب
قال الدارقطني في حديث لعاصم الأحول رواه بعضهم فقال عن واصل الأحدب هذا من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر يريد أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة وإنما أخطأ فيه سمع من رواه
والتصحيف ينشأ غالبا من الأخذ من الصحف من غير تدريب الأساتذة حتى قيل إنه مأخوذ منها فإذا قيل صحف كذا فكأنه قيل أخذه من الصحيفة ويقال له الصحفي
قال بعض اللغويين الصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه وإذا نسب إليها قيل رجل صحفي بفتحتين يريدون أنه يأخذ العلم منها دون المشايخ

والتصحيف تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المراد من الموضع يقال صحفه فتصحف أي غيره فتغير حتى التبس
ونقل عن الحافظ المزي وكان من أبعد الناس عن التصحيف ومن أحسنهم أداء للإسناد والمتن أنه كان يقول إذا أغرب عليه أحد برواية مما يذكره بعض شراح الحديث وكان ذلك على خلاف المشهور عنده هذا من التصحيف الذي لم يقف صاحبه إلا على مجرد الصحف ولم يأخذ إلا منها
وقد ذكر بعض من تعرض لبيان علل الحديث التي تعرض له فتحيل معناه أن من جملة ذلك نقل الحديث من الصحف دون السماع من أئمته وأن كثيرا من الناس يعول على إجازة الشيخ له دون لقائه والتلقي منه ثم يأخذ بعد ذلك علمه من الصحف والكتب التي لا يعلم صحتها من سقمها وربما كانت مخالفة لرواية شيخه فيصحف الحروف ويبدل الألفاظ وينسب جميع ذلك إلى شيخه وهو له ظالم
ومن ثم وجب على النقاد المليين بمعرفة الصحيح من السقيم إذا ورد عليهم حديث يخالف المشهور لا سيما إن كان مما ينبو عنه السمع أن ينظروا أولا في سنده فإن وجدوا في رواته من لا يوثق به لم يعولوا عليه وإن لم يجدوا ذلك رجعوا إلى التأويل فإن أمكن تأويله بغير تعسف قبلوه ولم ينكروه وإلا ردوه وحملوا ما وقع فيه على وهم عرض لبعض الرواة
والتحريف العدول بالشيء من جهته
وحرف الكلام تحريفا عدل به عن جهته وهو قد يكون بالزيادة فيه والنقص منه وقد يكون بتبديل بعض كلماته وقد يكون بحمله على غير المراد منه
فالتحريف أعم من التصحيف
وخص الأدباء التصحيف بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخط وتخالفها في النقط وذلك كتبديل العذل بالعدل والغدر بالعذر والعيب بالعتب
والتحريف بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخط والنقط معا وتخالفها في الحركات كتبديل الخلق بالخلق والفلك بالفلك والقدم بالقدم

وقد كان الخط العربي في أول الأمر خاليا من النقط والشكل فكان لا يؤمن فيه التصحيف والتحريف على كل قارئ ثم وضع بعد ذلك النقط والشكل
أما النقط فللتمييز بين بعض الحروف المشتركة في صورة واحدة فأمن بذلك من التصحيف
وأما الشكل فلبيان الحركات التي للحروف فأمن بذلك من التحريف فصار الخط العربي مع حسن الصورة وافيا بالغرض المطلوب من الخط
وإنما اختاروا جعل الشكل مستقلا لما أشرنا إليه في بعض رسائلنا في الخط حيث قلنا قد اختلفت مناهج أرباب الكتابة في أمر الحركات فمنهم من لم يتخذ لها علائم في الخط كالسامرة
ومنهم من اتخذ لها علائم
وهؤلاء أقسام منهم من اتخذ لها علائم متصلة بالحروف حتى تتغير صورة الحرف بتغير حركته كأهل الحبشة فإن لكل حرف عندهم صورا شتى تختلف باختلاف حركته ومنهم من اتخذ لها علائم لا تتغير صورة الحرف بتغيرها
وهؤلاء قسمان قسم اختاروا أن تكون علائم الحركات في أثناء الكلمة فرسموا حركة كل حرف متحرك بعده في أثناء السطر كاليونانيين واللاتينيين
وكأن هؤلاء جعلوا الحركة جزأ من الكلمة في الكتابة وبذلك سهلت القراءة وصعبت الكتابة وذلك أن الكابت بها يغدو كأنه يكتب الكلمة مرتين
وقسم اختاروا أن تجعل علائم الحركات مستقلة خارجة عن السطر فتوضع علامة الحركة فوق الحرف المحرك بها أو تحته كالعرب والعبرانيين والسريانيين
وهؤلاء قد جعلوا زمام الحركات في أيديهم وبذلك يتيسر لهم أن يجروا على مقتضى الحال من الشكل عند الإشكال وتركه عند عدم الإشكال وتركه أو شدة الاستعجال
وقد بلغ الخط العربي من الكمال ما لا يخفى على من نظر في الكتب التي غفل عنها الزمان فلم يصبها بآفة فبقيت إلى هذا العهد فإن كثيرا منها كتب بخط يروق الطرف مع حسن الضبط ووضع علائم الوقف بحيث يقرأ فيها كل قارئ بدون أدنى توقف

وقد توهم بعض أهل الأدب من أهل الأندلس أن في الخط العربي من الأشياء ما لا يوجد في غيره من الخطوط متلقفا ذلك من أناس لم يقفوا على حقيقة الأمر ثم ظهر بعد أعصر أناس من غير أهل الأدب فزعموا ذلك وقد شعروا بشيء يقال في الخط العربي فبادروا للاعتراض عليه والإزراء به وظنوا أن ذلك يشعر بنباهتهم ويقربهم عند الأمم الأخرى وهم في الأكثر لا يحسنون خطوطهم
وبينما هم ينتظرون الشكر وحسن الذكر عندهم إذا بكثير من أرباب تلك الخطوط والمهيمنين عليها قد ردوا عليهم وسددوا سهام اللوم إليهم وقالوا لهم قفوا مكانكم فما لكم ولأمر لم تخبروه وأبانوا أن شكايتهم ليست من نفس الخط العربي كما فعل أولئك الأغمار بل من بعض أنواع السقيمة الشديدة الاشتباه التي ألفها كثير من الناس وحثوا على الاعتناء بالخط المحقق والتزام الشكل ولو يما يشكل فقط ووضع العلائم الدالة على الوقف ونحوه
ولا يخفى أنه يوجد في بعض أنواع الخط العربي ما تعسر قراءته حتى على كثير من الحذاق كالخط المسلسل وهو الذي تتصل حروفه ولا ينفصل منها شيء وكأن واضعه قصد به أن يجعله من قبيل الإلغاز في الخط فلا ينبغي أن تكتب به وبما شابهه في عسر الحل إلا المذكرات التي يحب صاحبها أن لا يطلع عليها غيره ويسوغ أن تكتب به المراسلات الخاصة إذا كان المرسل إليه من العارفين به لا سيما إن كانا يحبان أن لا يطلع عليها غيرهما والحكيم من وضع كل شيء في موضعه
وليس الاعتراض على الخط واللغة ونحوهما منكرا بل هو مطلوب إذا كان على وجهه فإن بيان النقص في الشيء ربما دعا إلى إزالته فيكون من موجبات الكمال وإنما المنكر التهافت عل الاعتراض من غير معرفة ولا اختبار كما يفعله كثير من الأغمار
وقد وقفت على مقالات فيها بيان حال الخط العربي وما قاله أهل المعرفة فيه وهي صادرة ممن خبر كما خبر غيره من خطوط الأمم المشهورة
وقد أحببت أن أورد هنا ما ذكر فيها بعد الجمع بينها مع الاختصار والتنقيح وها هو ذلك

رأوا أن صور الحروف اللاتينية لا تشتمل على جميع حروفهم فجعلوا لكل حرف من الحروف المختصة بهم صورتين أو أكثر من صور الحروف اللاتينية
انظر إلى الشين مثلا وهي مما لا يوجد في اللاتينية فترى بعضهم يصورها بالسين والهاء وبعضهم بالسين والزاي وبعضهم بالكاف والهاء وبعضهم بالسين والكاف والهاء وبعضهم بغير ذلك وقس عليه سائر الحروف التي توجد في لغتهم ولا توجد في لغة اللاتين وليتهم كانوا سلكوا في ذلك مسلكا واحدا حتى لا يقع المطالع في كثير من المواضع في الحيرة
وقد أظهر العرب فيما استعاروه لهذه الأحرف من الصور حكمة بالغة تظهر مما قرره العارفون باللغات السامية وهو أن اللغة العربية والسريانية والعبرانية قد نشأت من أصل واحد هو لهن بمنزلة الأم وهي اللغة الآرامية نسبة إلى آرام أحد أبناء سام وهذه اللغات الثلاث بمنزلة الأخوات ومما يدل على ذلك كثرة التشابه بينهن
ولما كان الأمر كذلك أحبوا أن يراعوا في أمر تصوير هذه الحروف جانب الأختين إلا أن مراعاتهم لجانب السريانية التي أخذوا هذا الخط من أربابها كان أكثر وذلك أن الألفاظ العربية التي فيها صاد وهي موجودة في السريانية والعبرانية تجعل السريانيون ضادها عينا والعبرانيون صادا نحو أرض وضان وضاق وقبض فإنها في السريانية أرع وعان وعاق وقبع والعبرانية أرص وصان وصاق وقبص فاستعاروا للضاد صورة للصاد مجاراة للعبرانيين الذين يجعلون الضاد صادا ولم يستعيروا لها صورة العين مجاراة للسريانيين الذين يجعلون الضاد عينا لما بين الضاد والعين من البعد في اللفظ
وقد فعلوا عكس ذلك في الظاء فإنهم لم يصوروها بالصاد كما يلفظها العبرانيون ولكن صورها بالطاء كما يلفظها السريانيون وذلك لأن البعد ما بين الظاء والصاد أكثر من البعد ما بين الظاء والطاء ولأن صورة الصاد قد استعيرت لصورة الضاد ولأن مجاراة من أخذوا عنهم الخط أولى

والألفاظ العربية التي فيها ذال وهي موجودة فيهما يجعل السريانيون ذالها دالا والعبرانيون زايا نحو ذكر وذهب وذراع فإنها في السريانية دكر ودهب ودراع وفي العبرانية زكر وزهب وزراع
والألفاظ العربية التي فيها ثاء وهي موجودة فيهما يجعل السريانيون ثاءها تاء والعبرانيون شينا نحو ثلج وثعلب وثقل وثور ووثب واثنان وثلاثة
وقد نشأ من الاستعارة المذكورة أن صار لاثني عشر حرفا ست صور يشترك في كل صورة منها حرفان فحصل بذلك التباس وزاد بجعل الحاء كالجيم والزاي كالراء والشين كالسين والقاف كالفاء مع التشريك بين التاء والباء والياء والنون في صورة واحدة إذا كن في غير آخر الكلمة فصار الالتباس شديدا
وكيف لا والحروف العربية ثمانية وعشرون والصور الدالة عليها في الكتابة سبعة عشر
وبقوا على ذلك حينا من الدهر ثم حزبهم الأمر إلى ربع الالتباس فاخترعوا طريقة النقط فامتاز كل حرف بصورة لا يشاركه فيها غيره إلا أنه بعد اختراع هذه الطريقة قد كتبت كتب كثيرة بدون نقط جريا على الطريقة القديمة إلا أنهم الآن قلما يكتبون شيئا بغير نقط إلا أسماءهم في بعض المواضع كالرسائل ونحوها فإن أحدهم إذا كتب رسالة إلى غيره أو كتبت من طرفه فإنه يضع اسمه في آخرها بغير نقط وكثيرا ما يفعلون ذلك في الشهادات والصكوك ويسمى ذلك عندهم بالإمضاء وهو من الأمور التي تنكر عليهم
وقد جرى العرب في أول الأمر على ما جرى عليه الأمم السامية من عدم وضع علائم للحركات فكانوا يكتبون الحروف فقط ثم بعد حين اخترعوا لها علامات وجعلوها فوق الحروف أو تحتها ولم يدخلوها في صفها كما فعل كثير من الأمم غير السامية إلا أنهم انتبهوا من أول الأمر لأمر المد فجعلوا له علامة تدل عليه واعتنوا به حتى جعلوا العلامة حرفا من الحروف يوضع بعد الحرف الممدود داخلا معه في الصف فإن كان الممدود مفتوحا جعلوا علامة مده الألف وإن كان

مضموما جعلوا علامة مده الواو وإن كان مكسورا جعلوا علامة مده الياء
وقد غفل عن هذا الأمر الذي انتبه له العرب من أول الأمر كثير من الأمم التي لها عناية شديدة بأمر الكتابة حتى إنهم لم يضعوا له علامة أصلا
وقد أصبح الخط العربي بعد وضع علائم الحركات مع النقط وافيا بتمام الغرض بحيث صارت الكلمات العربية يقرؤها الواقف على حروفها وحركاتها من غير توقف
وهذه المزية قلما توجد في خط أمة من الأمم حتى إن بعض الأمم المتقدمة في العلوم والمعارف يحتاج المرء بعد تعلم خطها أن يتعلم قراءة جل الكلمات التي في لغتهم كلمة كلمة حتى يتيسر له بعد ذلك أن يقرأ في كتبهم قراءة خالية من الشوائب إلا أن كتابة مثل اللغة الفارسية بها لا يخلو من إشكال لمخالفة طباع اللغات السامية لطباع غيرها من سائر اللغات
ومما يستغرب أن الأمم الغربية مع اتفاقهم في صور الحروف الهجائية قد اختلفوا في لفظ كثير منها فترى كثيرا من الألفاظ إذا كتبت بحروفهم يقرؤها كل فريق منهم على وجه يخالف غيره
وعلى ذلك فلا تستغرب اختلافهم في أسماء كثير من المدن ونحوها
وقد نشأ من ذلك أن صار أغلب الألفاظ المصورة بحررفهم إذا كان من اللغات الغربية عندهم كالصينية والهندية والفارسية مجهولا لا يعرف كيف يلفظ به عند أهله وذلك أن الذين تلقوا أولا تلك الألفاظ من العارفين بها قد كتبوها على مقتضى اصطلاحهم فإذا قرأها غيرهم من الأمم الأخرى قرأها كل فريق منهم على مقتضى اصطلاحه
فنشأ من ذلك اختلاف في اللفظ وكان الواجب عليهم كما اتفقوا في صور الحروف مع اختلاف لغاتهم أن يتفقوا على ما تدل عليه بحيث إنه إذا كتبت كلمة بحروفهم أن تكون قراءتهم لها على وجه واحد واتفاقهم في هذا الأمر أهم من

اتفاقهم في أمور تتعلق بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك مما لا يتعلق ضرر عظيم باختلافه
وقد نشأ من اختلافهم اختلاف كتبة العرب في هذا العصر في بعض الألفاظ الأعجمية المأخوذة من اللاتينية أو اليونانية فإن كل فريق منهم ينطق بها كما ينطق بها القوم الذين تلقى عنهم ذلك وهو مختلفون فيه
وقد تصدى بعضهم لتغيير بعض الألفاظ المذكورة في الكتب العربية القديمة مع أنها أقرب إلى الأصل فليحذر من ذلك وليترك القديم على حاله ولينتبه إلى غيره حتى لا يبعد عن أصله بعدا شاسعا
ولنذكر لك أمرا ربما تستغربه جدا وهو أن اللغة اللاتينية وهي اللغة العلمية المتفق عليها بينهم لا يتفقون في أمر التلفظ بها حتى إنه قد يتكالم بها اثنان منهم فلا يفهم أحدهما ما يقول له الآخر وهذه عثرة لا تقال
وقد وقع في خط السريانيين شيء من الشوائب توجب الإشكال فيه في كثير من المواضع وهو أنهم كثيرا ما يكتبون من الحروف ما لا يقرأ وذلك أن لغتهم كان قد أصابها مع طول العهد بعض تغير فسقط بعض الحروف من بعض الكلمات غير أن الكتبة لم يحبوا أن يسقطوا تلك الحروف من الكتابة لئلا يخالفوا من كان قبلهم من أسلافهم في كتابتها فأبقوها على حالها غير أنهم يسقطونها حال القراءة ولا يلفظون بها وهذا يدل على أنهم كانوا يكتبون قبل سقوط تلك الحروف فيكون أمر الكتابة عندهم قديم العهد
وأما العبرانيون فإنهم كالعرب لا يكتبون إلا ما يلفظون به وما وقع من العرب على خلاف ذلك فإنه قليل لا يذكر وذلك كواو أولئك وألف مائة
وأما الأمم الأخرى فقد أفرطت في ذلك فكأنها جعلت الأصل في الكتابة تصوير اللفظ بصورته التي كان عليها من قبل فصار من يريد أن يتعلم القراءة في لغتهم يحتاج بعد إتقان مبادئ القراءة والكتابة أن يتعلم قراءة ما لا يحصى من الكلمات كلمة كلمة حتى تتيسر له القراءة على وجه لا شائبة فيه فحاكوا بذلك

أهل الصين
وقد سعت فئة من علمائهم في إصلاح هذا الخلل العظيم فلم يجد سعيهم شيئا
وقد اعترض كثير من علماء الآثار على المتأخرين من كتاب اللغة العربية من ثلاثة أوجه
الأول تصرفهم في الخط القديم الذي كان يكتب به على وجه جعله أدنى مما كان عليه في التناسب والوضوح حتى إن حروف خطهم أمست غير متناسبة في المقدار والشكل وصار كثير منها شديد الاشتباه بغيره بحيث إن القارئ يحتاج إلى إمعان النظر في كثير من الحروف حتى يهتدي إلى قراءتها
الثاني تركهم الشكل إلا قليلا جدا ونشأ من ذلك أن يصير القارئ إن لم يكن بارعا في العربية لا سيما إن لم يكن من أهلها في اضطراب شديد حين القراءة لأنه إما أن يقرأ الكلمات المحتملة لوجوه شتى بأي وجه اتفق له فيكون خطؤه أكثر من صوابه وإما أن يقف وهو حائر حتى يجد من يزيل حيرته إن تيسر ذلك
الثالث تركهم علائم الفصل بين الجمل حتى صار القارئ لا سيما إن كان يقرأ بسرعة لا يدري أن يقف وربما وقف في موضع ليس موضع الوقف فيضطر حينئذ إلى البحث عن موضع الوقف فيما مضى أو فيما يأتي وكثيرا ما يحيل ذلك المعنى وكثيرا ما يضطر المطالع إلى قراءة الصحيفة كلها أو الفصل كله حتى يجد ما يطلبه هناك من المطالب
وقد جرى على آثارهم في هذا الأمر المنكر أرباب المطابع عندهم بل زادوا عليهم في ذلك فإن النساخ في كثير من الأحيان يعلمون بحبر أحمر أو بغيره على ما يرونه جديرا بأن ينتبه إليه أو يوقف عليه
وذكر بعضهم وجها آخر وهو أنهم لم يضعوا لإحدى الحركات وهي الفتحة الممالة إلى الكسرة علامة مع قلة الحركات عندهم بالنسبة إلى ما عند غيرهم

وقد نسب بعضهم النقص إلى لغتهم من هذه الجهة وإن كان هذا النقص ليس بشيء يذكر بالنظر إلى ما لها من المحاسن الوافرة فإنه لا يوجد شيء ولو كان جم المزايا فائقا على غيره في ذلك إلا وفيه نقص من جهة
وذلك أن الحركات عند العرب أربعة الضمة والكسرة والفتحة الخالصة والفتحة المشوبة وهي الممالة إلى الكسرة إلا أن أكثر النحاة يجعلها ثلاثة ويسقط الفتحة الممالة لعدم وجودها عند جميع قبائل العرب ولعدم وقوعها في كلام الفصحاء منهم
والحركات عند العبرانيين والسريانيين والفرس خمسة وهي الأربعة السابقة مع الضمة الممالة إلى الفتحة
وقد تبين من البحث والتتبع أن هذه الحركة كانت في اللغة العربية قديما
ومن الغريب أن الضمة الممالة إلى الفتحة والفتحة الممالة إلى الكسرة قد رجعنا إلى لسان جميع أبناء العرب في أكثر الأقطار بحيث يندر من يخلو كلامه عنهما وسبب ذلك سهولتهما مع تأثير اللغات الأخرى وتأثير اللغات بعضها في بعض مما لا ينكر
والحركات عند غير الساميين قد تبلغ إلى ثمانية
انتهى ما أردنا إيراده من تلك المقالات
وقد وقع فيها ما لا يخلو عن شيء مما لا تخلو عنه مقالة وإن عني صاحبها بأمرها كثيرا
فمن ذلك ما ذكر فيها من أن كتابة الفارسية ونحوها بالخط العربي لا يخلو عن إشكال فإن الاختبار دل على خلاف ذلك
وقد علمنا ذلك علم اليقين لوقوفنا عليها وعلى أحوال كثير ممن يقرأ بها على اختلاف درجاتهم ولفرط استسهالهم القراءة بها ترك أكثرهم الشكل حتى إنه يندر أن يوجد ذلك في كتبهم
وقد استعاروا للحروف التي توجد عندهم ولا توجد في العربية صورة أقرب الحروف إليها مخرجا وجعلوا لها علامة تميزها وهي أربعة

الباء المشوبة بالفاء وتكتب على صورة الباء ويوضع تحتها ثلاث نقط
والجيم المشوبة بالشين وتكتب على صورة الجيم ويوضع تحتها ثلاث نقط
والزاي المشوبة بالصاد وتكتب على صورة الزاي ويوضع فوقها ثلاث نقط
والكاف المتولدة بين الغين والقاف وهي المعروفة بالجيم المصرية وتكتب على صورة الكاف ويوضع فوقها نقطة وإنما لم يكتبوها بصورة الغين لكون الغين منقوطة فيحتاجون للتمييز بينهما إلى زيادة النقط وهي كثيرة الوجود عندهم فيكون في ذلك كلفة
ومنها ما ذكر فيها من نسبة النقص إلى اللغة العربية من جهة قلة الحركات فيها بالنظر إلى غيرها من اللغات فإن مجرد قلة الحركات في لغة لا يوجب نقصا فيها لا سيما إن كانت الحركات الواقعة فيها هي أحسن الحركات بل ربما جعلت كثرة الحركات هي الموجبة للنقص لا سيما إن وقعت فيها حركات ثقيلة منصبة على أن اللغة العربية يوجد فيها جل الحركات المعروفة في اللغات المشهورة وإن كان بعضها خاصا ببعض القبائل إلا أن ذلك أمر خفي لم يقف عليه إلا قليل من أئمة اللغة الذين صرفوا عمرهم في التنقيب عنها والبحث في أسرارها
ولنذكر لك مما يتعلق بالحركات ما يمكن إيراده في مثل هذا الوضع فنقول الكلام هو اللفظ المفيد ويتركب من الكلمات
والكلمات تتركب من الحروف وقد تكون الكلمة على حرف واحدث مثل ق وهذه الحروف التي تتركب منها الكلمات تسمى حروف المباني وحروف الهجاء
ثم إن الحرف لا يخلو من حركة أو سكون
فالحركة هي كيفية عارضة للحرف يمكن معها أن يوجد عقبة حرف من حروف المجد وذلك كما في الميم من من فإنه يمكن مدها فيقال في حال فتحها مان وفي حال ضمها مون وفي حال كسرها مين
وبهذا يظهر أن الحركة ثلاثة أنواع فتحة وضمة وكسرة
فالفتحة هي الحركة التي إذا مدت تولد منها الألف
والضمة هي الحركة التي إذا مدت تولد

منها الواو
والكسرة هي الحركة التي إذا مدت تولد منها الياء
ويقال لهذه الحروف الثلاثة في مثل هذا الموضع حروف المد
والسكون هو كيفية عارضة للحرف يمتنع معها أن يوجد عقبه أحد حروف المد وذلك كما في النون من من فإنه وهو على حاله من السكون لا يمكن أن يحدث بعده حرف من حروف المد
قال بعض الحكماء إن الذي تدل عليه الجيم أو الميم مثلا لا يمكن أن ينطق به مفردا وكذلك ما تدل عليه الضمة أو الفتحة أو الكسرة وإنما يحدث الصوت بمجموعهما وذلك أن الصوت المتميز في السمع يحدث من شيئين أحدهما يتنزل منه منزلة المادة وهو الذي يسمى حرفا غير مصوت والثاني يتنزل منه منزلة الصورة وهو الذي يسمى حرفا مصوتا ويسميه أهل لساننا حركة
والحركة قسمان مفردة وغير مفردة فالمفردة هي ما كانت خالصة غير مشوبة بغيرها وهي ثلاثة الضمة والفتحة والكسرة وغير المفردة هي ما كانت مشوبة بغيرها بأن تكون بين حركتين غير خالصة إلى إحداهما وتسمى بالحركة المشوبة كما تسمى الأولى بالحركة المحضة وهي أيضا ثلاثة
وحيث كان المرجع بالحركات إلى أصوات مخصوصة لم ينبغ القطع بانحصارها مطلقا في عدد وإنما نقول إن الذين بحثوا عن اللغات المشهورة قد استقرؤوا الحركات فوجدوها تبلغ ثمانية وقد أوردناها في رسائلنا في الخط على طريق التفصيل إلا أنه لغموض هذا المبحث ربما لم يهتد لفهم ما هنالك كثير من المطالعين لذكر العبارات المختلفة في الظاهر فأحببنا إيراد ذلك هنا على طريق الإجمال وها هو ذلك
الحركات في اللغة العربية تبلغ ستا
قال العلامة ابن جني إن ما في أيدي الناس في ظاهر الأمر ثلاث وهي الضمة والكسرة والفتحة ومحصولها في الحقيقة

ست وذلك أن بين كل حركتين حركة فالتي بين الفتحة والكسرة هي الفتحة قبل الألف الممالة نحو فتحة عين عالم وكاتب وكما أن الألف التي بعدها بين الألف والياء والتي بين الفتحة والضمة هي التي قبل ألف التفخيم نحو الفتحة التي قبل الألف في الصلاة والزكاة والحياة وكذلك قال وعاد التي بين الكسرة والضمة ككسرة قاف قيل وسين سير هذه الكسرة المشمة ضما ومثلها الضمة المشمة كسرا نحو ضمة قاف في المنقر وضمة عين ابن مذعور وباء ابن بور فهذه ضمة أشربت كسرة كما أنها في قيل وسير كسرة أشربت ضما فهما لذلك كالصوت الواحد لكن ليس في كلامهم ضمة مشربة فتحة ولا كسرة مشربة فتحة
ويدل على أن هذه الحركات معتد بها اعتداد سيبويه بألف الإمالة والتفخيم
وقد عد الكسرة المشمة ضما والضمة المشمة كسرا شيئا واحدا لكونها كالصوت الواحد ولم يذكر فتحة الإمالة الصغرى إلحاقا لها بإحدى الحركتين الواقعة هي بينهما فإذا زدنا ما ذكر كانت الحركات ثمانية
وقد أحببنا ذكرها على طريق التفصيل فنقول
الحركة الأولى الضمة المحضة وهي الحركة التي تحدث عند ضم الضفتين ضما شديدا وهي المعروفة باسم الضمة عند العرب بحيث إذا ذكرت لم يخطر في بالهم غيرها

الحركة الثانية الضمة المشوبة بالفتحة وهي حركة خفيفة شائعة في اللغات المشهورة ولخفتها وشيوعها كثر نطلق العرب بها حتى كادوا ينسون الضمة المحضة التي هي الضمة العربية ومن الغريب أن جل من تؤخذ عنهم العربية ينطقون بها كذلك حين تلقي الناس عنهم فيقولون خذ وكل وقل بضمة مشوبة بالفتحة
غير أن القراء لما وجدوا أن الأمر قد تفاقم شددوا الإنكار في ذلك ففازوا بعد عناء وشدة وصار كثير من الناس يتنبه لذلك ويأتي بالضمة المحضة حين القراءة وهذه الضمة موجودة في بعض لغات العرب
قال العلامة ابن جني في سر الصناعة وأما الفتحة الممالة نحو الضمة فالتي تكون قبل ألف التفخيم وذلك نحو الصلاة والزكاة ودعا وعزا وقام وصاغ وكما أن الحركة هنا قبل الألف ليست فتحة محضة بل هي مشوبة بشيء من الضمة فكذلك الألف التي بعدها ليست ألفا محضة لأنها تابعة لحركة هذه صفتها فجرى عليه حكمها
وقال العلامة السكاكي في المفتاح التفخيم هو أن تكسي الفتحة ضمة فتخرج بين بين إذا كان بعدها ألف منقلبة عن الواو لتميل تلك الألف إلى الأصل كقولك الصلاة والزكاة
وقد سمى سيبويه الألف التي هنا بألف التفخيم كما سمى ألف الإمالة بألف الترخيم
والترخيم تليين الصوت
وهذه الحركة واقعة في كلام الفصحاء ذكر ذلك العلامة عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح حيث قال في باب مخارج الحروف اعلم أن هذه الحروف يأخذ بعضها شبه بعض ويكتسي طرفا من مذاقته فيتولد من ذلك فروع وتلك

الفروع أربعة عشر ستة منها مستحسنة يؤخذ بها في التنزيل والشعر والكلام الفصيح
أولها ألف الأمالة نحو عالم وعابد جنحت إلى الياء وتشبهت بها فصارت كأنها حرف آخر
الثاني ألف التفخيم وهي الألف التي يسري فيها شيء من الضمة كقولهم الصلاة والزكاة ولميلها إلى الواو كتبت بالواو كما كتبت ألف الإمالة في نحو فقضيهن بالياء لميلها إليه
وقد وجدت هذه الضمة في لغة الفرس وذلك في نحو بمعنى القوة
وقد أشار إليها سيبويه حيث قال في باب اضطراد الإبدال في الفارسية البدل مضطرد في كل حرف ليس من حروفهم يبدل منه ما قرب منه من حروف الأعجمية ومثل ذلك تغييرهم الحركة في مثل زور وآشوب فيقولون زور وآشوب وهو التخليط لأن هذا ليس من كلامهم
وتسمى هذه الضمة عندهم بالضمة المجهولة والواو التي بعدها بالواو المجهولة وقد يزيدون بعد الواو ألفا إشارة إلى كون الضمة هنا مشوبة بالفتحة وذلك في نحو خواجه وخواب وكأنهم جروا في هذه على منهج من يكتب الربا بواو ويجعل بعدها ألفا
قال بعض الأفاضل وكتابة الألف بعد الواو في الربا جار على مذهب من يكتب زيد يدعو بالألف فإن في كتابتها ثلاثة مذاهب تكتب مطلقا ولا تكتب مطلقا تكتب في الجمع ولا تكتب في الفرد والمذهب الثالث هو المشهور
وكتبت في المصحف بواو بعده ألف على لغتين يقول ربوا وهم أهل الحيرة الذين تعلمت العرب الكتابة منهم وكان أولئك يكتبون هكذا على لغتهم فتبعهم

الصحابة رضي الله عنهم في كتابته كذلك وإن لم يكن ذلك لغتهم ذكره الفراء وحكاه عن النووي في التحرير ويكتب في الرسم الاصطلاحي بالألف
ومن قبيل خواجه لفظ خوارزم في لغة أهلها
قال في معجم البلدان هي محركة الأول بحركة بين الضمة والفتحة والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة هكذا يتلفظون به قال الخطيب الموفق المكي ثم الخوارزمي يتشوق إليها
( أأبكاك لما أن بكى في ربا نجد ... سحاب ضحوك البرق منتحب الرعد )
( له قطات كاللآلئ في الثرى ... ولي عبرات كالعقيق على خدي )
( تلفت منها نحو خوارزم والها ... حزينا ولكن أين خوارزم من نجد )
والأولى في مثل هذا الموضع أن تكتب بدون واو هكذا خارزم وعليه جرى المراعون للقياس وأما من كتبها بواو بعدها ألف فغالبهم ممن يقول خوارزم بواو مفتوحة بعدها ألف فلا يكون فيما فعلوا مخالفة للقياس
الحركة الثالثة الضمة المشوبة بالكسرة وهي الضمة التي قد أشمت شيئا من الكسرة قال في سر الصناعة وأما الضمة المشوبة بالكسرة فنحو قولك في الإمالة مررت بمذعور وهذا ابن بور نحوت بضمة العين والباء نحو كسرة الراء فأشممتها شيئا من الكسرة وكما أن هذه الحركة قبل هذه الواو ليست ضمة محضة ولا كسرة مرسلة فكذلك الواو أيضا بعدها هي مشوبة بروائح الياء
وهذا مذهب سيبويه وهو الصواب لأن هذه الحروف تتبع الحركات قبلها فكما أن الحركة مشوبة غير مخلصة فالحرف اللاحق بها أيضا في حكمها
وأما أبو الحسن فكان يقول مررت بمذعور وهذا ابن بور فيشم الضمة قبل الواو رائحة الكسرة ويخلص الواو واوا محضة البتة وهذا تكلف فيه شدة في

النطق وهو مع ذلك ضعيف في القياس فهذا ونحوه مما لا بد في أدائه وتصحيحه للسمع من مشافهة توضحه وتكشف عن غامض سره
فإن قيل فلم جاز في الفتحة أن ينحى بها نحو الكسرة والضمة وفي الكسرة أن ينحى بها نحو الضمة وفي الضمة أن ينحى بها نحو الكسرة على ما قدمت ومثلت ولم يجز في واحدة من الكسرة والضمة أن ينحى بها نحو الفتحة
فالجواب في ذلك أن الفتحة أول الحركات وأدخلها في الحلق والكسرة بعدها والضمة بعد الكسرة فإذا بدأت بالفتحة وتصعدت تطلب صدر الفم والشفتين اجتازت في مرورها بمخرج الياء والواو فجاز أن تشمها شيئا من الكسرة أو الضمة لتطرقها إياهما ولو تكلفت أن تشم الكسرة أو الضمة رائحة من الفتحة لاحتجت إلى الرجوع إلى أول الحلق فكان في ذلك انتقاض عادة الصوت بتراجعه إلى وراءه وتركه التقدم إلى صدر الفم والنفوذ بين الشفتين فلما كان في إشمام الكسرة أو الضمة رائحة الفتحة هذا الانقلاب والنقض ترك ذلك فلم يتكلف البتة
فإن قلت فقد نراهم نحوا بالضمة نحو الكسرة في مذعور وابن بور ونحوهما والضمة كما تعلم فوق الكسرة فكما جاز لهم التراجع في هذا فهلا جاز أيضا في الكسرة والضمة أن ينحى بهما نحو الفتحة
فالجواب أن بين الضمة الكسرة من القرب والتناسب ما ليس بينهما وبين الفتحة فجاز أن يتكلف نحو ذلك بين الضمة والكسرة لما بينهما من التجانس فيما قد تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب وفيما سنذكره أيضا في أماكنه وهو مع ذلك قليل مستكره ألا ترى إلى كثرة قيل وبيع وغيض وقلة نحو مررت بمذعور وابن بور

ولعل أبا الحسن أيضا إلى هذا نظر في امتناعه من إعلال الواو في نحو مذعور وتركها واوا محضة لأن له أن يقول إن الحركة التي قبل الواو لم تتمكن في الإعلال والإشمام تمكن الفتحة في الإشمام في نحو عالم وقام ولا تمكن الكسرة في قيل وبيع فلما كان الإشمام في مذعور ونحوه عنده خلسا خفيا لم يقوا عل إعلال الواو بعده كما أعلت الألف في نحو عالم وقام والكسرة في نحو قيل وغيض فلذلك لم تعتل عنده الواو في مذعور وابن بور وأخلصها واوا محضة فهذا قول من القوة على ما تراه
ثم قال وقد كان يجب على أصحابنا إذ ذكروا فروع الحروف نحو ألف الإمالة وألف التفخيم وهمزة بين بين أن يذكروا أيضا الياء في نحو قيل وبيع والواو في نحو مذعور وابن وبور على أنه قد يمكن الفصل بين الياء والواو وبين الألف بأنها لا بد أن تكون تابعة وأنهما قد لا يتبعان ما قبلهما وما علمت أن أحدا من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ولا أشبعه هذا الإشباع ومن وجد قولا قاله والله يعين على الصواب بقدرته
الحركة الرابعة الكسرة المشوبة بالضمة وهي الكسرة التي قد أشمت شيئا من الضمة
قال في سر الصناعة وأما الكسرة المشوبة بالضمة فنحو قيل وبيع وغيض وسيق وكما أن الحركة قبل هذه الياء مشوبة بالضمة فالياء بعدها مشوبة بروائح الواو على ما تقدم في الألف
قال بعض المحققين تشم الكسرة ضمة في نحو قيل وجيء وسيء في لغة أسد وقيس وعقيل فإنهم يقربون كسرة الأول من الضمة إشارة إلى الأصل والإشمام في مثل هبت يا زيد إذا أريد أنه صار مهيبا أحسن من الإشمام في هيب لفصله بين

الفعل المبني للفاعل من الفعل المبني للمفعول وقد أشمت الكسرة ضمة في مثل تغزين إشارة إلى الأصل فإنه كان تغزوين
وقال بعض القراء حقيقة الإشمام في نحو سيء وسيئت وقيل وغيض وسيق وحيل أن ينحى بكسرة أوائل هذه الأفعال نحو الضمة يسيرا ليدل بذلك على أن الضم الخالص أصلها كما ينحى بالفتحة الممالة نحو الكسرة قليلا ليدل بذلك أيضا على انقلاب الألف عن الياء أو لتقرب بذلك من كسرة قبلها أو بعدها
وقال بعض علماء العربية للعرب في الفعل المجهول من نحو قال وباع ثلاث لغات الأولى قيل وبيع بالكسرة وهي في اللغات أشهر وورودها في الآثار أكثر
الثانية قيل وبيع بالإشمام وهي وإن كانت قليلة فهي فصيحة الثالثة قول وبوع بالضم وهي لغة غير فصيحة
وحقيقة الإشمام هنا هو أن تنحو بالكسرة نحو الضمة فتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلا إذ هي تابعة لحركة ما قبلها هذا هو مراد القراء والنحاة بالإشمام في هذا الموضع
وقال بعضهم الإشمام هنا كالإشمام في حالة الوقف يعنون ضم الشفتين فقط مع بقاء الكسر على حاله غير مشوب بشيء من الضم
وهذا خلاف المشهور عند الفريقين
وقال بعضهم هو أن تأتي بضمة خالصة بعدها ياء ساكنة
وهذا أيضا غير مشهور عندهم لأن الإشمام عندهم هنا هو حركة بين حركتي الضم والكسر بعدها حرف بين الواو والياء
وقال في الجوهر الزاهر قرأن ابن عمر سيق وحيل وسيء وسيئت بإشمام الضم على اللغة الأسدية وروى عنه هشام الإشمام في قيل وجيء وغيض عليها

لاتباع الأثر وروى عنه ابن ذكوان إخلاص الكسر فيها لاتباع الأثر وفي ذلك الجمع بين اللغة القرشية والأسدية
وكيفية التلفظ بالإشمام أن تلفظ فاء الكلمة بحركة تامة مركبة من حركتين إفرازا لا شيوعا بحيث يكون جزء الضمة وهو الأقل مقدما وجزء الكسرة وهو الأكثر تاليا له وتنظير بعضهم له بالإمالة يوهم الشيوع
وقيل يشار بالضم مع الفاء أو قبلها أو بعدها وكل ذلك باطل أما الأول فلأن الكسر يقتضي التسفل والضم يقتضي الانطباق فكيف يجتمعان معا وأما الثاني وهو الإشارة بالضم قبل الفاء فإنه لم يسمع ولا قارئ به وأما الثالث فإن الياء تمنع من ذلك
وقيل الإشمام هنا صريح الضم
وليس بشيء لأنه إن كان مع الواو فلغة لم يقرأ بها وإن كان مع الياء فخروج عن كلام العرب
فإن قيل هل تسمع الإشارة إلى الضم أو ترى وهل يحكم على الحرف الذي أشمت حركته بالضم أو بالكسر
فإن قيل هل تسمع الإشارة إلى الضم أو ترى وهل يحكم على الحرف الذي أشمت حركته بالضم أو بالكسر
يقال إن الإشارة إلى الضم تسمع وترى في نفس الحرف الأول هنا والحرف الأول محكوم عليه بالكسر مع الإشارة إلى الضم
وما ذكر من كون الإشمام هو الإتيان بحركة تامة مركبة من حركتين على طريق الإفراز هو قول بعض المتأخرين
وظاهر كلام الفراء والنحويين أنه الإتيان بحركة تامة ممتزجة من حركتين وهما الكسرة والضمة على طريق الشيوع
وإذا أمعن النظر وجد هذا من قبيل اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب حجج القراءات حجة من أشم الضم الكسر ومال به نحوه في هذه الأفعال وهي قيل وغيض وسيء وحيل وسيق وجيء أن ذلك أدل على فعل ألا تراهم قالوا كيد زيد يفعل وما زيل زيد يفعل فإذا حركوا الفاء بهذه الحركة أمنوا التباس الفعل المبني للفاعل بالفعل المبني للمفعول وانفصل منه وكان أشد إبانة للمعنى المقصود

ومن الحجة فيه أنهم قد أشموا رد وشد وشبهة من المضعف المبني على فعل مع أن الضمة تلحق فاءه فإذا كانوا قد تركوا الضم الخالص إلى هذه في المواضع الذي يصح فيها الضم فلزومها حيث يلزم الكسر فيه في أكثر اللغات أجدر ودل استعمالهم هذه الحركة في رد ونحوه من المضعف على تمكنها في قيل وشبهه وكونها أمارة للفعل ولولا ذلك لم تترك الضمة الخالصة إليها في رد وشبهه
ومن الحجة في ذلك أنهم قالوا أنت تغزين فأشموا الزاي الضم وزاي تغزين كقاف قيل فكما التزم الإشمام هناك التزم في قيل وكذا في اختير أشمت التاء منه لما كانت كقاف قيل وكما أشم تغزين لينفصل من باب ترمين أشم قيل ونحوه ليمتاز من الفعل المبني للفاعل نحو كيد وزيل وليكون أدل على فعل
ومما يقوي قول من أشم قيل أن هذه الضمة المنحو بها محو الكسرة قد جاءت في قولهم شربت من المنقر وهذا ابن مذعور فأمالوا هذه الضمات نحو الكسرة لتكون أشد مشاكلة لما بعدها وأشبه به وهو كسر الراء فإذا أخذوا بهذا لتشاكل الألفاظ وحيث لا يميز معنى من معنى آخر فأن يلتزموا ذلك حيث يزيل ويخلص معنى من معنى أجدر وأولى الحركة الخامسة الكسرة المحضة وهي الكسرة الخالصة التي لا يشوبها شيء من غيرها وذلك كحركة من وفي وحركة أوائل قيل وبيع وهيب إذا لم تشم
الحركة السادسة الفتحة المحضة وهي الفتحة الخالصة التي لا يشوبها شيء من غيرها كفتحة ما ومن
وقد شاب أكثر الناس الفتحة المحضة إما بالكسرة وذلك في نحو خيل وليل وسيل وميل وإما بالضمة وذلك في نحو يوم وقوم ونوم
كما شابوا الكسرة المحضة بالفتحة وذلك في نحو صل وأحسن وأنعم وأبشر وبشر

من ضمة أو فتحة أو كسرة بغيرها في كثير من المواضع فينبغي الانتباه لذلك
الحركة السابعة الفتحة الممالة وهي حركة بين الفتحة المحضة والكسرة المحضة
والإمالة عندهم هو أن ينحى بالفتحة نحو الكسرة وذلك مثل فتحة النون في الناس والباء في الكبر عند من أمال ذلك
وليست الإمالة لغة جميع العرب فإن أهل الحجاز لا يميلون ولكن يفخمون إلا أنه قد تقع منهم الإمالة قليلا
وأرباب الإمالة هم تميم ومن جاورهم من سائر أهل نجد كأسد وقيس
ولا يقال إمالة إلا إذا بولغ في إمالة الفتحة نحو الكسرة وما لم يبالغ فيه يقال الترقيق والإمالة بين بين وقد يسمي بعضهم الترقيق إمالة صغرى وما بولغ فيه إمالة كبرى
وهذه الحركة موجودة في اللغة الفارسية وتسمى عند أهلها بالكسرة المجهولة
وإذا مدت ظهر بعدها حرف هو إلى الياء أقرب منه إلى الألف ويسمى بالياء المجهولة ويكتب بالياء وذلك نحو سير بإمالة كسرة السين وهو بمعنى الشبعان والنطق به كالنطق بلفظ سار في العربية إذا أميل إمالة كبرى فإن كان بإخلاص كسرة السين كان بمعنى الثوم لأن الإمالة في العربية طارئة والتفخيم هو الأصل
قالوا ويدل على ذلك أن كل ما يمال لو فخمته لم تكن لاحنا فإنه ما من كلمة تمال إلا وفي العرب من يفخمها فدل اطراد الفتح على أصالته وفرعيتها
ولو أملت كل مفخم كنت لاحنا فإن الإمالة لا تكون إلا بسبب فإن فقد امتنعت الإمالة وتعين الفتح
على أنه يمكن أن يقال إنما كتبوها بالألف رعاية للغة قريش التي هي المقصودة بالأصالة
وكثيرا ما يفرق الفرس بين معنى الكلمة بمثل ذلك نحو شير فإنه بالكسر المحض بمعنى اللبن وبالكسر الممال إلى الفتح بمعنى الأسد
ونظير ذلك روي فإنه بالضم المحض بمعنى الوجه وبالضم المشوب بالفتح بمعنى الصفر وهو نوع من

النحاس
وإنما لم تكتب ألفه الإمالة في العربية بالياء مع أنها إلى الياء أقرب منها إلى الألف
ومما جاء بالإمالة في لغة قريش لا في إمالا قال في النهاية جاء في حديث بيع الثمر إمالا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمرة
هذه الكلمة ترد في المحاورات كثيرا وقد جاءت في غير موضع من الحديث وأصلها إن وما ولا فأدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها وقد أمالت العرب لا إمالة خفيفة والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء وهو خطأ ومعناها إن لم تفعلوا هذا فليكن هذا
وأما الفتحة المشوبة بالضمة فهي الفتحة التي تكون قبل ألف التفخيم وذلك نحو فتحة اللام في الصلاة والكافي في الزكاة عند من يشوبها بشيء من الضمة وقد سبق ذكرها فإنها عين الحركة الثانية المسماة بالضمة المشوبة بالفتحة
والمشهور عند الجمهور تسميتها بالفتحة المشوبة بالضمة وذلك أنهم لاحظوا أن الأصل فيها أن تكون فتحة بدليل أنها في أكثر لغات العرب هي كذلك فيكون شوبها بالضمة أمرا طارئا عليها ولم يلتفتوا إلى أن الضم صار فيها أظهر من الفتح ولا إلى أن الشائبين لها بالضم قد كتبوا بعدها الواو دون الألف فينبغي الانتباه لمثل ذلك فقد وقع في مبحث الحركات مع شدة غموضه من اختلاف العبارات إما لاختلاف الاعتبارات أو لغير ذلك ما ربما يوقع النبيه في حيرة شديدة
هذا وقد ذكر سيبويه ألف التفخيم والألف التي تمال إمالة شديدة في الحروف الفرعية التي تستحسن
الحركة الثامنة الفتحة المرققة وهي المتوسطة بين الفتحة المحضة والفتحة الممالة
قال بعض القراء الإمالة قسمان شديدة ومتوسطة والمتوسطة هي التي

تكون بين الفتح المتوسط والإمالة الشديدة
وينبغي أن يجتنب في الشديدة القلب الخالص والإشباع المبالغ فيه وكلا الإمالتين جائز في القراءة غير أني أختار الإمالة الوسطى التي هي بين بين لأن الغرض من الإمالة حاصل بها
وقال بعض علماء الرسم الإمالة هي أن ينحى بالفتحة نحو الكسرة وبالألف إن كانت بعدها نحو الياء فإن كان جزء الكسرة أكثر سميت محضة وربما عبر عنها بالكسر وإن كان جزء الكسرة أقل سميت تقليلا وإن تساويا سميت بين بين
وهذا يدل على أن بين الفتحة والكسرة ثلاثة حركات وما سبق يدل على أن بينهما حركتين وإذا أمعنت النظر تبين لك أن هذا من قبيل اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات
والمراد بالفتحة المحضة الفتحة التي تنشأ عن فتح الفم بلا تكلف
قال بعض القراء الفتح ويقال له التفخيم ينقسم إلى قسمين فتح شديد وفتح متوسط
فالفتح الشديد هو نهاية فتح القارئ فمه بلفظ الحرف المفتوح وهو معدوم في لغة العرب والقراء يعدلون عنه وأكثر ما يوجد في ألفاظ أهل خراسان ومن قرب منهم فيما إذا كان بعد الفتح ألف وهو مكروه عند القراء معيب في القراءة غير أن الكراهة في ذلك أخف من الكراهة فيما ليس بعده ألف وذلك مثل ما يفعله بعض الناس في لام عليهم ودال لديهم
والفتح المتوسط هو ما يكون بين الفتح الشديد والإمالة الصغرى وهو الذي يستعمله أهل الفتح من القراء وإنما نبهنا عل هذه لما ذكره بعض الجهابذة من أن بعض من يستعمل الفتح الشديد يزعم أنه الفتح المتوسط وينسب من استعمل الفتح المتوسط إلى الإمالة
وقد حذر بعض أرباب الفن من تفخيم العجم وترقيق العرب والمراد بتفخيم العجم الفتح الشديد الذي اعتاده أهل التفخيم منهم والمراد بترقيق العرب

الإمالة الصغرى التي هي لغة لبعض قبائل العرب فإن من العرب من لا يميل أصلا ومنهم من يميل في بعض المواضع إمالة كبرى ومنهم من يستعمل في موضعها الإمالة الصغرى
وأما الحركة المختلسة فهي حركة غير متميزة في الحس وتسمى الحركة المجهولة وبها قرأ أبو عمرو ( فتوبوا إلى بارئكم )
قال ابن جني وأما الحركة الضعيفة المختلسة كحركة همزة بين بين وغيرها من الحروف التي يراد اختلاس حركاتها تخفيفا فليست حركة مشمة شيئا من غيرها من الحركتين وإنما أضعف اعتمادها فأخفيت لضرب من التخفيف وهي بزنتها إذا وفت ولم تختلس
وقد تقدمت الدلالة على أن همزة بين بين كغيرها من سائر المتحركات في ميزان العروض الذي هو حاكم وعيار على الساكن والمتحرك وكذلك غير هذه الهمزة من الحروف المخفاة الحركات نحو قوله عز اسمه ( ما لك لا تأمننا ) وغير ذلك كله محرك وإن كان مختلسا
ويدل على حركته قوله تعالى ( شهر رمضان ) فيمن أخفى فلو كانت الراء الأولى ساكنة والهاء قبلها ساكنة لاجتمع ساكنان في الأصل ليس الأول منهما حرف لين والثاني مدغما نحو دابة وشابة
وقال أبو علي حركة البناء والإعراب يستعمل في الضمة والكسرة منهما وجهان الإشباع والاختلاس وليس في الفتحة إلا الإشباع والاختلاس وإن كان صوته أضعف من الإشباع وأخفى فالحرف المختلس حركته بزنة المتحرك فمن روى الإسكان عن أبي عمرو في ( بارئكم ) فلعله سمعه يختلس فطنة لضعف الصوت والحركة أنه سكن وعلى هذا يأمركم ويشعركم ونحوه كله على الاختلاس مستقيم حسن وقد جاء إسكان مثل هذا في الشعر
وقال بعض القراء إذا كانت القراءة بشيء مما شاع وذاع وقد تلقته الأئمة بالإسناد الصحيح الذي هو الركن الأعظم في ذلك لم يضر خلاف مخالف فكم من

قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم كإسكان بارئكم ويأمركم وأئمة القراء لا تجري على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الرواية

الفائدة الخامسة
رأى كثيرون من أهل النبل المولعين بالعربية وما يتعلق بها من خط ونحوه أنه ينبغي أن يوضع في هذا العصر علائم للحركات المشوبة ليكون الخط العربي وافيا بالغرض فيه فإنا كثيرا ما نحتاج إلى كتابة كلمات فيها شيء من تلك الحركات فإن كتبناها بما يقرب منها من الحركات المحضة كان تحريفا لها وربما كان مغيرا لمعناها مع أن الأمر في ذلك سهل إذ ليس فيه تغيير لشيء من الخط وإن الحاجة ماسة إليه جدا فنكون قد أجبنا داعي الزمان
على أنه ينبغي لنا أن نراعي شأن سائر الأمم التي كتبت لغاتها بالخط العربي كالفرس ومن نحا نحوهم فإنهم كثيرا ما يحتاجون إلى العلائم الأخرى فإذا وضعت كان الخط العربي وافيا بحاجتهم وفاء تاما ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول من يقول إن هذا نقص لا يذكر بالنسبة إلى ما وقع في الخطوط الأخرى فإن هذا قول من يرض بالنقص مع إمكان الكمال ولقد أحسن من قال
( ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام )
ولو دعا الداعي إلى ذلك في عصر الخليل لبادر هو أو أحد ممن ينتمي إليه إلى إجابة الداعي وأما عدم وضعهم قديما علامة للحركات المشوبة كالإمامة والإشمام مع وجود ذلك في لغة العرب فيمكن أن يكون سببه كون ذلك ليس في لغة قريش التي هي المقصود الأول وعليها عند اختلاف اللغات المعول ويضم إلى هذا ما كان لهم من شدة العناية بالرواية والتلقي من الأفواه
هذا لباب ما يقال في هذه القضية على كثرته وتشعبه
ولا يخفى أن هذا كلام صادر عن أخلاء لا يشوب صفاءهم كدر فينبغي أن يصفى إليه ويقبل عليه ولا يحسب لغوا كما يفهم من لحن كلام بعض اللغاة

وقيل الخوض في غمار هذا البحث نذكر هنا شيئا وهو أن ما ظن من عدم وضع القوم علامة للإمالة والإشمام ليس كذلك فقد تبين من البحث والتتبع أنهم وضعوا لهما علامة بل زادوا فوضعوا علامة لاختلاس الحركة ولزيادة الحرف وحذفه وغير ذلك مما ربما لا تمس الحاجة إليه كثيرا كالروم والإشمام والنقل في حال الوقف
قال بعض النحاة في الوقف على المتحرك خمسة أوجه الإسكان والروم والإشمام والتضعيف والنقل ولكل منها علامة وقد ذكر سيبويه هذه العلائم في كتابه وهو تلميذ الخليل بن أحمد مخترع هذا الشكل المزيل للإشكال وله في ذلك كتاب
ومن أراد البحث عن العلائم المذكورة فعليه بكتاب المحكم في نقط المصاحف وكيفية ضبطها على مذهب القراء وسنن النحويين لأبي عمرو الداني
وقد كان لأهل المغرب عناية شديدة بذلك وهو أم يتوقف إتقانه والبراعة فيه على علم وعمل وقد أدركنا أناسا لهم في ذلك يد بيضاء منهم العلامة الوالد غير أه قد كاد هذا الأمر أن ينسى وعسى أن يتنبه بعض نبهائهم لدرسه وإحيائه قبل أن يدرس والكمال يدعو بعضه بعضا كما أن النقص كذلك
وقد اعترض بعض من ألف في علم الخط على المؤلفين في أصول الحديث لذكرهم مسائل كثيرة تتعلق بعلم الخط في فنهم وإن كان لها فيه مناسبة وجعل الأول بهم أن يكتفوا بذكرها في الكتب الموضوعة في علم الخط فإنها به أجدر
ويمكن أن يقال إن كتب الخط لما كانت في الغالب لا تقرأ اضطروا إلى ذكرها على أن الخط أمر ذو بال والتساهل فيه ربما أوقع خللا عظيما في الحديث والحديث ذو شجون وأكثر المسائل إذا لم تذكر أطرافها لا يكون فيها كبير طائل
وهذا ليس شيئا بالنظر لما فعله كثير ممن ألف في أصول الفقه فإنهم ذكروا فيه مسائل كثيرة من فنون شتى حتى وصل الحال ببعضهم إلى أن ذكر فيه فن المنطق وفي مقدمتهم الغزالي

قال في مقدمة المستصفى نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها وكل من لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلا فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك أول أصول الفقه
وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة كحاجة أصول الفقه إليها
ولنرجع إلى المقصود فنقول حيث لم يكن بد من وضع علائم للحركات الفرعية ينبغي أن تكون سهلة قريبة من أصلها في الصورة ولذا استحسن بعضهم جعل علامة الفتحة الممالة الفتحة بعينها إلا أنه قلبها فجعل طرفها متجها إلى الجهة اليمنى هكذا - قال بعض شراح الصحيحين في حديث إمالا فاصبروا وحديث وإمالا فلا تبايعوا إنه بإمالة لام لا إلى الكسر ولا يكتب بياء بل يوضع فوق اللام شكلة منحرفة علامة على الإمالة
وإنما جعل هؤلاء هذه العلامة فوق الحرف نظرا إلى أن الأصل في اللغة العربية عدم الإمالة فإذا لم ينتبه القارئ وظنها فتحة لم يعد بذلك لاحنا بخلاف ما لو جعلت تحت الحرف فإن القارئ إذا لم ينتبه وظنها كسرة وأتى بالحرف مكسورا عد لاحنا
وقوى هذا الظن في مثل موسى وعيسى وذكرى وبشرى
وقد جعل بعضهم هذه العلامة مشتركة بين الإمالة الصغرى والكبرى إلا أنه فرق بينهما فجعلها في الإمالة الكبرى تحت الحرف وربما زاد بعضهم على ذلك فوضع فوق الألف نقطتين هكذا وجعلها في الإمالة الصغرى فوق الحرف وقد التزم هؤلاء أن يكتبوا ذلك بالمداد الأحمر

وأما الفرس ونحوهم فإن الأولى لهم أن يضعوا علامة الإمالة تحت الحرف وذلك لأمرين أحدهما أن الإمالة ليست من الأمور الطارئة في لغتهم ولذا كتبوا حرف المد الذي بعدها بصورة الياء الثاني أنهم وإن عدوا أن من كسر نحو سير وشير مما أمالوه لاحنا فإنهم يعدون أن من فتحة أشد لحنا
والظاهر أنه ينبغي لمن أراد أن يكتب نحو قيس وزن وكل بالإمالة كما ينطبق به العامة وهو في الأصل مكسور أن يجعل علامة الإمالة تحت الحرف رعاية لما ذكر
وقد التزم بعض الكتاب أن يجعل الفتحة إذا تلاها مد قائمة وبعضهم لم يلتزم ذلك إلا في بعض المواضع نحو يرقى ويروى ويهوى والمرتقى والمنتقى ونحو راس وياس واستأذن إذا خففت فيه الهمزة بخلاف مثل كاتب وكتابة حتى إن بالمواضع التي حذف فيها حرف المد نحو هذا وهؤلاء وههنا وإلاله والرحمن والسموات ولكن نحو ذلك
وكما التزم بعضهم أن يجعل الفتحة إذا تلاها مد قائمة التزم بعضهم ذلك في الكسرة فجعلها قائمة إذا تلاها مد سواء كان ذلك في مواضع لا يخشى فيه الاشتباه نحو كريم وحليم وكبير وجليل أو كان في مواضع يخشى فيه الاشتباه نحو أدنى وأقصى وأعطى وأولي وأبدي وأخفي فإنها أفعال مضارعة للمتكلم وهي إذا فتحت ياؤها صارت أفعالا ماضية للغائب إلا أن الداعي هنا أضعف من الداعي فيما قبله والأولى للكاتب أن لا يلتزم خشية أن لا يقوم بحقه
هذا وقد يظن أن الفتحة والكسرة قد وضعتا من أول الأمر على صورة واحدة غير أنه فرق بينهما بجعل الفتحة من فوق والكسرة من تحت وليس الأمر كذلك فإن الخليل لما وضع العلائم جعل علامة الضمة واوا صغيرة توضع فوق الحرف وعلامة الفتحة ألفا صغيرة فوق الحرف إلا أنه جعلها مضجعة وعلامة الكسرة ياء توضع تحت الحرق واختار لذلك الياء المردودة وهي التي يرجع بها إلى

الجهة اليمنى هكذا ( ) إلا أنها تغيرت فيما بعد حتى صارت كالفتحة
وقد اختار بعض العجم وضعها فوق الحرف علامة على الإمالة إلا أنه اختصر فيها حتى صارت هكذا ( ) ومناسبة الياء للإمالة لا تخفي ولو وضعت تحت الحرف لم يكن في ذلك بأس لتميزها بصورتها ويمكن التصرف فيها على أوجه شتى مختلفة الوضع هكذا ( ) وينبغي لمن أراد ذلك اختيار أسهلها عليه
أما الضمة المشوبة بالفتحة فالأولى أن تجعل علامتها نفس الضمة المشهورة بدون زيادة شيء عليها إلا أنها تجعل مقلوبة بأن يكون طرفها متجها إلى الأعلى هكذا ( ) وذلك مثل الصلوة والزكوة والحيوة في العربية عند من يكتبها بالواو ويجعل حركة ما قبلها ضمة مشوبة بالفتحة ومثل زور وآشوب في الفارسية وينبغي تسمية هذه الحركة بالضمة المشوبة
وبزيادة هاتين العلامتين يتيسر كتابة الفارسية بدون إخلال بشيء من حركاتها وذلك أن الفرس وكثيرا من الأمم لا يوجد في لغتهم إلا خمس حركات وهي الضمة والفتحة والكسرة والفتحة الممالة إلى الكسرة والضمة المشوبة بالفتحة
وأما الضمة المشوبة بالكسرة فالأولى أن تجعل علامتها نفس الضمة المشهورة بزيادة خط تحتها متصل بها هكذا ( - ) وهذه الصورة مناسبة لما وضعت له لأن وضع شبه الكسرة تحت الضمة يشعر بأن هنا حركة ممتزجة من حركتين هما الضمة والكسرة وأن الضمة متقدمة على الكسرة وعالية عليها وإن كان التقدم هنا والسبق على طريق المجاز ومثال ذلك مررت بمذعور وابن بور
وهذه الحركة وإن كانت قليلة في العربية فهي كثيرة في بعض اللغات المشهورة وينبغي تسميتها بالضمة الممالة لأن في لفظ الإمالة بحسب العرف إشعارا بوجود الميل إلى الكسرة ومما يحرك لهذا الحركة رد نحوه من المضاعف المبني لما لم يسم فاعله وقد أشار إلى ذلك سيبويه حيث قال أما ما كان من بنات الياء فتمال ألفه

لأنها في موضع ياء وبدل منها ففنحوا نحوها كما أن بعضهم يقول قد رد وقال الفرزدق
( وما حل من جهل حبى حلمائنا ... ولا قائل المعروف فينا يعنف )
فيشم كأنه ينحو نحو فعل فكذا نحو الياء
وأما الكسرة المشوبة بالضمة فالأولى أن يجعل علامتها نفس علامة مقابلتها وهي الضمة المشوبة بالكسرة لكونها أشبه الحركات بها إلا أنها توضع مقلوبة هكذا ومثال ذلك قيل وجيء وخيف وهيب وانقيد واختير وخفت وهبت وينبغي أن يكتب مثل قيل وجيء على هذه اللغة الياء دون الواو وذلك لن الحرف الذي ينشأ عن هذه الحركة هو إلى الياء أقرب منه إلى الواو وقد ذهب بعض الناس إلى كتابته في غير العربية بصورة الواو وذلك لكونه مشوبا به وجعل الحركة التي نشأ عنها نوعا من أنواع الضمة لكونها مشوبة بها وهو مخالف للظاهر فإن الظاهر كون هذه الحركة نوعا من أنواع الكسرة لكون الكسر أغلب عليها وكتابة الحرف نشأ بصورة الياء لكونه أشبه بها
وما في اللغة العربية فيتعين كتابته بالياء لثلاثة أمور أحدهما ما ذكر وهو كونه أشبه بها الثاني أن أشهر اللغات فيه هي لغة من يلفظ به بالياء الثالث رعاية الاحتياط فإنه إذا كتب على هذه اللغة بالواو ولم ينتبه القارئ للإشمام وأتى بالضم الخالص يكون قد ترك اللغة الفصيحة وهي لغة من يشم الكسرة ضمة إلى لغة غير فصيحة وهي لغة من يقول فيه قول وجوء بالضم الخالص وأما إذا كتب بالياء فإنه إذا لم ينتبه للإشمام وأتى بالكسرة الخالص يكون قد ترك اللغة الفصيحة وهي لغة من يشم الكسرة ضمة إلى اللغة التي هي أفصح منها وهي لغة من يقول قيل وجيء بالكسرة الخالص
وأكثر الناس في أمر العلائم أما مفرط فمن المفرطين في ذلك من

لا يكاد يضع علامة في موضع من المواضع ومن المفرطين فيه من لا يكاد يترك موضعا بغير علامة
وقد رأيت بعض قراء الفرس جعل لـ ( ما ) ونحوها علائم فجعل لـ ( ما ) الشرطية الطاء واللاستفهامية الميم وللموصولة الخاء إشارة إلى أنها خبرية لا إنشائية وللزائدة الصاد إشارة إلى أنها صلة في الكلام وللكافة الكاف وجعل ذلك فوق الميم ما وكتبه بأحرف صغيرة بمداد أحمر وجرى على مثل ذلك في كثر من الأشياء
والأولى في أمر العلائم أن لا توضع إلا حيث يضطر إليها أو يبعث عليها باعث / وهاك جدولا في الحركات وما يتعلق بها أسماء الحركات العلامات مثالها بالعربية مثالها بالفارسية معناها الضمة ou جد بر ملآن الضمة المشوبة o صلوة خود نفسه الضمة الممالة u رد الكسرة I صل أي شيء الكسرة المشمة eu هبت جه الفتحة صلى الله عليه و سلم هب رأس الفتحة الممالة e درجة سه ثلاثة
وهذا المبحث واسط الأطراف جدا وفيما ذكرنا كفاية للطالب المنتهية والله الموفق

وقد عرفت أنه قد انتقد على أكثر كتاب العربية عدم وضعهم علائم للوقف في أكثر الإحيان حتى صار القارىء لا سيما إن كان يقرأ بسرعة لا يدري أين يقف وإذا وقف فربما وقف في موضع ليس من مواضع الوقف فيضطر حينئذ إلى البحث معرفة مواضع الوقف ومراعاتها في حال القراءة والكتابة
وأعظم الناس اعتناء بأمر الوقف كتاب الكتاب العزيز والتالون له حق تلاوته وذلك لما ورد عن السلف من الأمر بمعرفته ومراعاته روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى ( ورتل القرآن ترتيلا ) فقال الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقف
وقال بعض القراء باب الوقف جليل القدر عظيم الخطر لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل وقال بعضهم لما لم يمكن القارئ أن يقرأ السورة في نفس واحد وجب اختيار موضع يسوغ الوقوف عليه والابتداء بما بعده ويتحتم أن يكون موضعا لا يحيل الوقوف عليه المعنى ولا يخل بالفهم وبذلك يحصل القصد وتظهر دلائل الإعجاز
وقد حث كثير من السلف عليه واشترط كثير من الخلف على المجيز أن لا يجيز أحدا إلا بعد معرفته بالوقف والابتداء فإذا عرف ذلك ساغ له أن يصل في مواضع الوقف عند امتداد النفس فإن التالي كالضارب في الأرض / ومواضع الوقف بين يديه كالمنازل فالعارف لا يتعدى منزلا إلا إذا أيقن أنه يصل إلى المنزل الذي بين يديه والنهار قائم والجاهل بالمنازل يعرس حيث أجنه الليل وقد يكون في موضع يلحقه فيه ضرر من تلف نفس أو مال أو غير ذلك
فالقارئ العارف بالمقاطع يقف حيث لا يلحقه لوم والجاهل يقف عند انتهاء نفسه فقد يقف في موضع يضر الوقوف به لإحالته المعنى أو إخلاله بالفهم وقد

حذر العلماء من الوقف على المواضع التي لم يتم فيها الكلام وحثوا على تجنبها
وقد قسم بعضهم الوقف إلى قسمين تام وقبيح قالوا ولو قال جائز وقبيح أو حسن وقبيح لكان أقرب إلى التقابل بين القسمين وكأن صاحب هذا التقسيم جعل ما يقابل القبيح قسما واحدا وهو قول غريب
وقسمه بعضهم إلى قسمين تام وحسن فالتام عنده هو الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده والحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده
والمشهور تقسيم الوقف إلى ثلاثة أقسام تام وكاف وحسن ووجه الحصر في ذلك أم يقال إن القارئ إذا وقف على كلام تام فإن انقطع عما بعده لفظا ومعنى فهو التام وإن تعلق بما بعده فإن كان من جهة المعنى دون اللفظ فهو الكافي وإن كان التعلق من جهة اللفظ فهو الحسن
فالوقف التام هو الذي لا يتعلق به ما بعده لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى وأكثر ما يكون عند انتهاء القصص وعند رؤوس الآي نحو الوقف على ( مالك يوم الدين ) فإنه يليه ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ونحو الوقف على نستعين فإنه يليه ( أهدنا الصراط المستقيم ) ونحو ( وأولئك هم المفلحون ) فإنه يليه ( إن الذين كفروا )
والكافي هو الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده 'لا أن ما بعده له تعلق به من جهة المعنى ولذلك كان دون التام ويكون الكافي في رؤوس الآي وفي غيرها وقد يكون بعضه أكفى من بعض وذلك في نحو قوله تعالى ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يموت الحكمة فقد أوتي خيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) فالوقف على ( من يشاء ) كاف والوقف على ( كثيرا ) أكفى منه
والحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة اللفظ ويسمى أيضا الصالح لصلوح الوقف عليه وذلك نحو ( الحمد لله )

فإن الوقف عليه الحسن لأن المراد معقول غير أنه لا يحسن الابتداء بما بعده فلا بد من أن يعيد ما قبله ليتسق بذلك الكلام ونحو الوقف على ( رب العالمين ) فإنه يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده إلا عند أناس قالوا إذا كان رأس آية كما هنا جاز ذلك بل قال بعضهم إن الأفضل الوقف على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها اتباعا لهدي النبي صلى الله عليه و سلم
استدلوا على ذلك بما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت إن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قرأ قطع آية آية يقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم يقف ثم يقول ( الحمد لله رب العالمين ) ثم يقف ثم يقول ( الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) رواه أبو داود ساكتا عليه والترمذي وأحمد وغيرهم وهو حديث حسن وسنده صحيح
والذي مال إليه أكثر الباحثين في الوقف أن كل موضع يتعلق به ما بعده من جهة اللفظ لا يسوغ إن وقف عليه أن يبتدأ بما بعده ولو كان رأس آية
قال العماني الناس مختلفون في الوقف فمنهم من قال هو على الأنفاس فإذا انقطع النفس في التلاوة فعنده الوقف فكأنهم جعلوا الوقف تابعا لمقطع الأنفاس / وجعلوها الأصل والوقوف مبنيه عليها
وقال آخرون الفواصل كلها مقاطع فكل رأس هو وقف واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقطع قراءته آية آية وبما روي عن أبي عمرو وعامة الأئمة أن الوقف على رأس الآية تام وكاف وحسن
ثم قال وأعدل الأقوال عندنا أن الوقف قد يكون في أوساط الآي وقد يكون في أواخرها والأغلب في رؤوس الآي أنها وقف عندها وأكثرها في السور ذوات الآي القصار كسورة مريم وطه والشعراء والصافات ونحوها ألا ترى أن

قوله تعالى في سورة والصفات ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ) هو رأس آية ومع ذلك لا يجوز الوقف عليه لأن الابتداء بما بعده يؤدي إلى قبح فاحش
وكذلك قوله في الزخرف ( أبوابا وسرورا عليها يتكؤون ) هو رأس آية وليس بوقف لأن قوله ( وزخرفا ) معطوف على ما قبله ولم تكثر المعطوفات ها هنا فيجوز لطول الكلام فإن وقف على قوله ( وزخرفا ) تم الكلام وحسن الوقف عليه ومن هذا في القرآن كثير ذكرت نبذا منه ليقاس عليه
قال أبو حاتم أكثر أواخر الآي من أول القرآن إلى أخره تام أو كاف أو صالح أو مفهوم إلا الشيء بعد الشيء
وهذا الذي استثناه هو ما ذكرته لك ولذلك قلت كتب الوقف فلم تكثر كثرة كتب القراءة لأنهم اقتصروا علىغير الفواصل التي اعتقدوا فيها أنها مقاطع فكل من عمل من المتقدمين كتابا في الوقف فإنما أورد فيه الوقوف التي في أواسط الآي ولم يتعرضوا لغيرها من الفواصل إلا اليسير أرادوا أن يرخصوا للقارئ الوقف في أواسط الآي كما جاز له الوقف على أواخرها لأن الآية ربما طالت فلم يبلغ النفس آخرها ولئلا يتوهم أن انقطاع الأنفاس إنما يكون عند أواخر الآيات دون أواسطها فيضيق الأمر به عند القارئ 1هـ
وممن جرى على هذا القول العلامة السجاوندي ولذا كتب فوق كثير من الفواصل لا قال العلامة ابن الجزري في النشر قول أئمة الوقف لا يوقف على كذا معناه أنه لا يبتدأ بما بعده إذ كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده وقد أكثر السجاوندي من هذا القسم وبالغ في كتابة لا والمعنى عنده لا تقف وكثير منه يجوز الابتداء بما بعده وأكثر يجوز الوقف عليه
وقد توهم من لا معرفة له من مقلدي السجاوندي أن منهعه من الوقف على ذلك يقتضي أن الوقف عليه قبيح ي لا يحسن الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده وليس كذلك بل هو من الحسن يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده

فصاروا إذا اضطرهم ضيق النفس يتركون الوقف على الحسن الجائز ويتعمدون الوقف على القبيح الممنوع
فتراهم يقولون ( صراط الذين أنعمت عليهم غير ) ثم يقولون ( غير المغضوب عليهم ) ويقولون ( هدى للمتقين الذين ) ثم يبتدئون فيقولون ( الذين يؤمنون بالغيب ) ويتركون الوقف على ( عليهم ) وعلى المتقين الجائزين قطعا ويقفون على غير والذين اللذين تعمد الوقف عليهما قبيح بالإجماع لأن الأول مضاف والثاني موصول وكلاهما ممنوع من تعمد الوقف عليه
وحجتهم في ذلك قول السجاوندي لا قلت ليت شعري إذ منع من الوقف عليه هل أجاز الوقف على غير أو الذين ؟ فيعلم أن مراد السجاوندي بقوله لا أي لا يوقف عليه على أن يبدأ بما بعده كغيره من الأوقاف
ثم ذكر بعض / وقوف انتقدها عليه ثم قال ومثل ذلك كثير في وقوف السجاوندي فلا يتغير بكل ما فيه بل يتبع فيه الأصوب ويختار منه الأقرب
وهذا وقد قسم بعضهم حيث قال والوقوف على خمس درجات فأعلاها رتبة التام ثم الحسن ثم الكافي ثم الصالح ثم المفهوم وهذه العبارات قد استعملها أبو حاتم في كتابه وهي وإن كانت كثيرة فهي متقاربة فالحسن والكافي يتقاربان والتام فوقهما والحسن يقارب التام والصالح والمفهوم يتقاربان أيضا والجائز دونهما في الرتبة
والمستحب للقارئ أن يقف على التام فإن لم يجد إليه سبيلا فالحسن فإن لم يمكن فالكافي وكذلك الصالح
والمفهوم أنه ما دام يقدر على الوقف في المواضع المنصوص عليها لا يعدل عنها إلى الجائز ولا يعدل عن الجائز إلى المواضع التي يكره قطع النفس عندها
والحسن المذكور هنا أعلى درجة من الحسن المذكور سابقا فإنه هنا يقارب

التام وكأنه أحد نوعين ولكنه أدناهما قال بعضهم قد يتفاوت التام في التمام وذلك نحو ( لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ) فإن الوقف عليه تام ولكن الوقف على بعده وهو ( وكان الشيطان للإنسان خزولا ) أتم لتعلقه به تعلقا خفيا ولأنه آخر الآية وقد سمى بعضهم هذا النوع الشبيه بالتمام
وينبغي لمن أراد المراجعة في كتاب من كتب هذا الفن أن يعرف أولا حد كل قسم من الأقسام عند مؤلف ذلك الكتاب ليكون على بصيرة في أمره وقد وضعوا علائم لهذه الأقسام فجعلوا التاء أو الميم للتام والحاء للحسن والكاف للكافي والصاد للصالح والجيم للجائز وقد التزموا كتابة هذه العلائم بالأحمر ووضعها فوق موضع الوقف
وقد توضع في بعض المواضع علامتان إما للإشارة بأنه من المواضع المحتملة لوجهين وإما للإشارة إلى أن ثم قولين لأرباب الفن لم يظهر للواضع رجحان أحدهما على الآخر إلا أن هنا أمرا يجب الانتباه له وهو أنه كثيرا ما يرى الناظر في عباراتهم اختلافا مبينا على الآخر إلا أن هنا أمر يجب الانتباه له وهو أنه كثيرا ما يرى الناظر في الحقيقة فيحكم به مع أنه ربما لم يكن هناك اختلاف وكما يقع هذا بسبب الاختلاف في الاصطلاح قد يقع عكسه وهو أن يظن بسبب اتفاق عباراتهم في الظاهر أن لا خلاف هناك مع أنه قد يكون هناك خلاف
وأما السجاوندي فإنه قسم الوقف إلى خمسة أقسام لكل قسم منها علامة توضع فوق محل الوقف وتكون بالمداد الأحمر والأقسام الخمسة هي اللازم والمطلق والجائز والمحجوز لوجه والمرخص للضرورة وقد تبع أثره في ذلك جل كتاب الكتاب العزيز من بعده ولذلك انتشرت طريقته في البلاد
وقد أحببنا بيان ما اصطلح عليه ليكون التالي في المصاحف التي جرى كتابها على طريقته على بصيرة في الوقف والابتداء فنقول
فالوقف اللازم عنده هو ما قد يوهم غير المراد إذا وصل بما بعده نحو قوله

تعالى في صفة المنافقين ( وما هم بمؤمنين ) فالوقف هنا عنده لازم إذ لو وصل بقوله ( يخادعون الله ) لتوهم قبل التدبر أن الجملة صفة لقوله ( بمؤمنين ) فينتفي بذلك الخداع عنهم ويتقرر الإيمان خالصا عن الخداع خالصا عن الخداع كما يكون ذلك في قولك ما هؤلاء بمؤمنين مخادعين مع أن المقصود هو نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم
ونحو قوله تعالى ( ولا يحزنك قولهم إن العزة لله ) ونحو قوله تعالى ( ولا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ) فالوقف عند قولهم لازم فإنه لو وصل لتوهم أن ما بعده هو المقول وليس كذلك بل هو جملة مستأنفة وردت للنبي صلى الله عليه و سلم وتهديدا لهم
وعلامة الوقف اللازم الميم
والوقف المطلق هو ما يكون ما بعده مما يحسن الابتداء به وذلك كالاسم المبتدأ به نحو ( الله يجتبي ) والفعل المستأنف نحو ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) والشرط نحو ( إن أحسنتم لأنفسكم ) والاستفهام نحو ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) والنفي نحو ( ما كان لهم الخيرة ) ( إن يريدون إلا فرارا ) ونحو ذلك حيث لم يكن ذلك مقولا لقول سابق وعلامة الوقف المطلق الطاء
والوقف الجائز ما يجوز فيه الوصل والفصل لتجاذب الموجبين نحو ( وما أنزل من قبلك ) فإن واو العطف في الجملة التالية لها وهي ( وبالآخرة هم يوقنون ) يرجح الوصل وتقديم المفعول على الفعل ووجود الضمير يرجح الوقف فتساويا وإن كان الوصل هنا أرجح من جهة ومثل ذلك ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) فالوقف على جزاء وإن كان جائزا إلا أن الوصل هنا أحسن رعاية للفواصل وعلامة الوقف الجائز الجيم

والوقف المحجوز لوجه هو ما يكون للوقف فيه وجه إلا أن الوصل فيه يكون أولى نحو ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) فإن مجيء ما بعده وهو ( فلا يخفف عنهم العذاب ) فالفاء المشعرة بالسبب يقتضي الوصل ومجيء هذه الجملة على هذه الهيءة يجعل للفصل وجها وعلامة الوقف المجوز الزاي
والوقف المرخص فيه للضرورة هو الذي لا يرخص فيه في حال الاختيار الاضطرار وذلك ما بعده لا يستغني عما قبله وإن كان مفهوما في الجملة ويرخص فيه في حال الاضطرار وذلك إما لانقطاع النفس أو لطول الكلام غير أنه إذا وقف عليه ابتدأ بما بعده من غير أن يعود وذلك نحو قوله تعالى ( والسماء بناء ) فإن ما بعده وهو ( وأنزل من السماء ماء ) وإن كان غير مستقل لوجود ضمير فيه يعود على ما قبله إلا أنه جملة مفهومة ونحو كل من فواصل ( قد أفلح المؤمنون ) إلى قوله ( هم فيها خالدون ) وعلامة الوقف المرخص فيه الصاد
وأما الوقف القبيح فهو الوقف في موضع لم يتم فيه الكلام وذلك كالوقف على الشرط دون جزائه والمبتدأ دون خبره وعلى ذي الحال دون الحال وعلى المستثنى منه دون المستثنى وعلى أحد مفعولي باب ظننت دون الآخر وعلى الموصوف دون الصفة وعلى المؤكد دون المؤكد وعلى المبدل منه دون البدل وعلى ذلك بسبب عطاس أو انقطاع نفس لزمه أن يعود إلى ما قبله ويبتدىء منه حتى يتسق الكلام
والقبيح تتفاوت درجاته في القبح فبعضه أقبح من بعض ففي قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) يقبح الوقوف على سكارى وأقبح منه الوقوف هنا على الصلاة
وأما الابتداء فلا يكون إلا اختياريا إذ ليس كالوقف قد تدعو إليه ضرورة فلا يجوز إلا بمستقبل بالمعنى واف بالمقصود وهو ما ينقسم إليه الوقف وتتفاوت درجاته في التمام والكفاية والحسن والقبح كما تتفاوت درجات الوقف

وقد يكون الوقف قبيحا والابتداء حسنا نحو ( من بعثنا من مرقدنا هذا ) الوقف علىهذا قبيح للفصل فيه بين المبتدأ وخبره ولأنه يوهم أن الإشارة إلى المرقد والابتداء بها كاف أو تام لاستئنافه وأما الابتداء بما بعده فهو قبيح شديد القبح
وعلامة الوقف القبيح لا فإذا وضعت فوق موضع علم أنه لا وقف هناك وأنه ينبغي للقارىء الوصل إلا أن يكون تحته علامة رؤوس الآيات فله أن يقف هناك من غير إعادة بناء على قول من أجاز الوقوف على رؤوس الآي مطلقا كأبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يتعمد رؤوس الآي وهو أحب إلي
إلا أن كل ذي طبع سليم يحكم بأن إجازتهم لذلك مشروطة بعدم وقوع مانع خاص وذلك كما في قوله تعالى في سورة والصافات ( ألا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وأنهم لكاذبون ) فإنه لا يتصور أن يجيز أحد الوقف على ليقولون على أن يبتدأ بما بعده قال بعض المفسرين كل ما في القرآن من القول لا يجوز الوقف عليه لأن ما بعده حكايته
وها هنا علائم أخرى قد يضعها بعض الكتاب
فمن ذلك القاف وهي علامة الوقف الذي قال به بعض العلماء ولم يقل به أكثرهم ومن ذلك قف وهي علامة على أن الوقف هنالك يؤمر به القارئ على طريق الاستحباب بحيث إنه إذا لم يقف ووصل لم يكن عليه شي ومن ذلك السين وهي علامة على السكتة وهي وقفة من غير تنفس
قال بعض أهل الفن الوقف والقطع والسكت عبارات يطلقها المتقدمون مريدين بها في الغالب الوقف وقد فرق المتأخرون بينها فقالوا
القطع عبارة عن ترك القراءة فيكون القارئ كالمعرض عنها والمتنقل إلى حالة أخرى غيرها وهو مشعر بالانتهاء ولذا يطلب منه الاستعاذة للقراءة المستأنفة وينبغي أن يكون القطع عند رأس آية قال سعيد بن منصور في سننه

حدثنا أبو الأحوص عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أنه كانوا يكرهون أن يقرؤوا بعض الآية ويدعوا بعضها وهذا إسناد صحيح وابن الهذيل تابعي كبير وقوله كانوا يريد به الصحابة
الوقف عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية تنفس وقد سكت حمزة على الساكن قبل الهمزة سكتة يسيرة
وقد اختلفت ألفاظ أهل الفن في التعبير عنها فقيل هي سكتة قصيرة وقيل هي سكتة مختلسة من غير إشباع وقيل هي وقفة يسيرة وقيل هي وقفة خفيفة وقيل هي سكتة لطيفة من غير قطع وقيل هي وقيفة
قال أبو علي الفارسي في حجيج القراءة يسكت حمزة على ياء شيء قبل الهمزة سكتة خفيفة ثم يهمز وكذلك يسكت على لام المعرفة في الأرض وفي الأسماء والآخرة ونحوها وكأنه راد بهذه الوقيفة التي وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها فجعل الهمزة بهذه الوقيفة قبلها في حال لا يجوز معها إلا التحقيق لأن الهمزة قد صارت مضارعة للمبتدأ بها والمبتدأ بها لا تخفف ألا ترى أن أهل التخفيف لا يخففونها مبتدأة فهذه الوقيفة آذنت بتحقيقها إذ صيرتها في حال ما لا يخفف من الهمز
ومما يقوي ذلك مدهم الألف إذا كانت الهمزة بعدها نحو السماء وماء إلا ترى أن مد الألف إذ كانت الهمزة بعدها أطول منه فيها إذا لك يكن بعدها همزة نحو ( وما بكم من نعمة فمن الله ) ليكون ذلك أبين للهمزة فكذلك وقف حمزة هذه الوقيفة لتكون أبين للهمزة اهـ
واختلف في السكت فقيل يجوز في رؤوس الآيات مطلقا في حالة الوصل لقصد البيان وحمل بعضهم الحديث الوارد على ذلك والمشهور أنه مقيد بالسماع

والنقل وأنه لا يسوغ إلا فيما صحت به الرواية لمعنى مقصود بذاته وقد رووا عن حفص أنه كان يسكت في الكهف على عوجا وفي يس على مرقدنا وفي القيامة على النون من من راق وفي المطففين على اللام من بل ران
وقال بعض علماء العربية بعد أن ذكر أنهم نقلوا عن حمزة أنه قرأ ومكر السيء بإسكان الهمزة لعلة اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة ثم المبتدأ
وقد أوضح بعض المفسرين هذه المسألة فقال عند ذكر قوله تعالى ( فلما جاءهم نذير إلا بأهله ) قرأ الجمهور استكبار في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) قرأ الجمهور ومكر السيء بكسر الهمزة والأعمش وحمزة بإسكانها إما إجراء للوصل مجرى الوقف وإما إسكانا لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل كإبل
وزعم المبرد أن هذا لا يجوز في كلام منثور ولا شعر لأن الحركات الإعراب دخلا للفرق بين المعاني وقد اعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا وقال إنما وقف والدليل على هذا أنه تمام الكلام وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين
وقال الزجاج قراءة حمزة موقوفا عند الحذاق بيائين لحن لا يجوز وإنما يجوز في الشعر للاضطرار
وقال أبو علي إن قراءة حمزة بإسكان الهمزة في الوصل مبني على إجرائها في الوصل مجرى الوقف ويحتمل وجها آخر وهو أن يجعل ( ئ ولا ) من قوله ( مكر السيء ولا ) بمنزلة إبل فأسكن الحرف الثاني كما يسكن من إبل فيقال إبل لتوالي الكسرتين لا سيما والكسرة الأولى هنا في ياء فخفف بإسكان لاجتماع الياآت والكسرات كما خففت العرب مثل ذلك بالحذف وبالقلب ونزلت حركة الإعراب في هذا بمنزلة حركة غير الإعراب ولا تختل بذلك دلالة الإعراب لأن الحكم بمواضعها معلوم كما كان معلوما في المعتل والإسكان للوقف فإذا ساغ في

قراءته ما ذكر من التأويل لم يسغ لقائل أن يقول إنه لحن وقال الزمخشري لعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ

تنبيهات
التنبيه الأول يغتفر في طول الفواصل والقصص والجمل المعترضة ونحو ذلك ما لا يغتفر في غيرها فربما أجيز الوقف والابتداء لشيء مما ذكر ولولاه لم يجز وهذا الذي يسميه السجاوندي المرخص فيه للضرورة وذلك نحو الوقف على المغرب في قوله تعالى ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) وعلى ( النبيين ) وعلى ( عاهدوا ) ونحو كل من فواصل ( قد أفلح المؤمنون ) إلى قوله ( هم فيها خالجون )
وقد ذكر النحويون أنه يكره الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التام فإن لم يمكن بأن طال الكلام ولم يوجد في أثنائه وقف تام حسن الأخذ بالوقف الناقص وقد يحسن الوقف هنا يشعر بأن ( قيما ) / نفصل عنه ومنها أن يكون الكلام مبنيا على الوقف نحو ( يا ليتني ام أوت كتابيه ولم ادر ما حسابيه )
وأما ما قصر من الجمل فإنهم لم يسوغوا فيها ما سوغوا في غيرها وإن لم يكن هناك تعلق لفظي ولذا لم يذكروا الوقف على ( وآتينا عيسى بن مريم البينات ) لقرب الوقف على ( القدس ) ولم يجز كثير منهم الوقف على ( وتعز من تشاء ) لقربه من ( وتذل من تشاء ) لوجود الازدواج بين الجملتين وهو وحده كاف في توكيد الوصل فقد ذكروا أنه ينبغي في الوقف مراعاة أمر الازدواج فيوصل ما يوقف على نظيره مما يوجد التمام عليه من أجل الازدواج نحو ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) ونحو ( من عمل صالحا ومن أساء فعليها )
التنبيه الثاني قد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو القراءة
مثال اختلاف الوقف الإعراب نحو قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله )

فإنه تام عند من جعل ما بعده مستأنفا وهو الراجح وغير تام عند من جعله معطوفا فيكون الوقف التام عند ( الراسخون في العلم ) وبين الوقفين ها مراقبة ونحو قوله تعالى ( هدى للمتقين ) فإن الوقف فيه حسن إن جعلته ( الذين ) في ( الذين يؤمنون بالغيب ) مجرورا على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هم وتام إن جعلته مرفوعا على أنه مبتدأ وخبره ( أولئك على هدى من ربهم )
مثال اختلاف الوقف باختلاف القراءة نحو قوله تعالى ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) فإن الوقف فيه تام على قراءة من كسر الخاء من ( واتخذوا ) وغير تام بل كاف على قراءة من فتحها ونحو قوله تعالى ( يحاسبكم به الله ) فإنه كاف على قراءة من رفع ( فيغفر ) ( ويعذب ) وحسن على قراءة من جزم
وقد يختلف الوقف باختلاف المذهب نحو قوله تعالى ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) فإن الوقف هنا لازم عند من ذهب إلى أن شهادة القاذفين لا تقبل وإن تابوا غير لازم عند من ذهب إلى أن شهادتهم تقبل إذا تابوا
وقد سبق ذكر المراقبة ومرادهم بها أن يكون في الآية وقفان لا يسوغ للقارىء أن يجمع بينهما لتنافيهما وإنما يسوغ له أن يأتي بأحدهما دون الآخر
وقد جعل بعض الكتاب علامة المراقبة بين الوقفين واوين مقلوبين متقابلتين وجعل من أمثله ذلك قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموت طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )
التنبيه الثالث لا يقوم بأمر الوقف حق القيام إلا نحوي بارع في علم التفسير واقف على أسرار البلاغة وقد تصدى لهذا الأمر العظيم أناس ممن لا يحسنونه فخبطوا فيه خبط عشواء في ليلة ظلماء فلا ينبغي أن يعتمد على كل قول يذكر فيه كقول من أجاز أن يقف القارئ على قوله تعالى ( فانتقمنا من

الذين أجرموا وكان حقا ) ثم يبتدئ ويقول ( علينا نصر المؤمنين ) وقج حذر المحققون من مثل ذلك
قال ابن الجزري ليس كل ما يتعسفه بعض المعربين أو يتكلفه بعض القراءة أو يتأوله بعض أهل الأهواء مما يقتضي وقفا وقفا أو ابتداء ينبغي أن يتعمد الوقوف عليه بل ينبغي تحري المعنى الأتم والوقف الأوجه ومن ثم لم يسغ أن يقف على ( وارحمنا أنت ) ثم يبتدئ فيقول ( بالله إن الشرك لظلم عظيم ) على معنى القسم ولا على ( وما تشاؤون إلا أن يشاء ) ثم يبتدىء فيقول ( الله رب العالمين ) فإن هذا وما أشبهه تعسف وتمحل وتحريف للكلم عن مواضعه
وقال بعض العلماء ينبغي لمن عرف العربية ونظر في كتب التفسير وكان من أولي الفهم أن ينظر في المواضع التي اختلف العلماء في أمر الوقف فيها فإن ترجح عنده شيء أخذ به وإلا فلا يقف هنالك وليتجاوزه إلى غيره من المواضع التي يحسن الوقوف عليها والابتداء بما بعدها بلا خلاف بين المحققين فهو أسلم
التنبيه الرابع قد عرفت أن المحدثين يجعلون بين الحديثين دارة للفصل بينهما وأن بعضهم كان يخلي بقية السطر من الكتابة ليكون البياض الذي فيه مؤكد ا للفصل فإن البياض في جميع المواضع واحدا والحذاق منهم يجعلونه مختلفا باختلاف المواضع مراعين فيه ما يقتضيه الموضع
وقد أشار إلى ذلك ابن السيد حيث قال والفصل إنما يكون بعد تمام الكلام الذي ابتدىء به واستئناف كلام غيره وسعة الفصول وضيقها على مقدار تناسب الكلام فإن كان القول المستأنف مشاكلا للقول الأول بمعنى منه جعل الفص صغيرا وإن كان مباينا له

بالكلية جعل الفصل أكبر من ذلك فأما الفصل قبل تمام القول فهو أعيب العيوب على الكاتب والوراق جميعا وترك الفصول عند تمام الكلام عيب أيضا إلا أنه دون الأول
وقد أورد صاحب الصناعتين كثيرا مما قيل في الوصل والفصل وقد أحببت أن أورد من ذلك شيئا ليعلم المعرضون عن مراعاتها ما كان لهما قديما من حسن الرعاية
قال قيل للفارسي ما البلاغة فقال معرفة الفصل من الوصل وقال المأمون لبعضهم من أبلغ الناس فقال من قرب الأمر البعيد المتناول الصعب الدرك بالألفاظ اليسيرة فقال ما عدل سهمك عن الغرض ولكن البليغ من كان كلامه في مقدار حاجته ولا يجيل الفكر في اجتلاب الغريب الوحشي ولا الساقط السوقي وإن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام
وقال المأمون ما أعجب بكلام أحد كإعجابي بكتاب القاسم بن عيسى فإنه يوجز في غير عجز ويصيب مفاصل الكلام ولا تدعوه المقدرة إلى الإطناب ولا تميل به الغزارة إلى الإسهاب ويجلي عن مراده في كتبه ويصيب المغزي في ألفاظه
وكان أكثم بن صيفي إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول لكتابه افصلوا بين منقضي كل معنى وصولا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض وكان الحارث بن شمر الغساني يقول لكاتبه المرقش إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه فافصل بينه وبين تبيعته من الألفاظ فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن يمذق نفرت القلوب عو وعيها وملته الأسماع واستثقلته الرواة

وكان صالح بن عبد الرحمن التميمي الكاتب يفصل بين الآيات كلها وبين تبيعتها من الكتاب كيف وقعت وكان يقول ما استؤنف إن إلا وقع الفصل وكان جبل يفصل بين الفاءات كلها وقد كره بعض الكتبة ذلك وأحبه يأمر كتابه بالفصل بين بل وبلى وليس وقال المأمون ما أتفحص من رجل شيئا كتفحصي عن الوصل والفضل في كتابه
وأمر الفصل في الخط أمر ذو بال وقد أشار إليه بعض الجهابذة في مقالة له في البسملة حيث قال والقول الفصل فيها من القرآن حيث كتبت في المصحف بالقلم الذي كتب به سائر القرآن وأنها ليست من السور حيث كتبت وحدها في سطر مفصولة عن السور
ويؤيد ذلك أن الصحابة ق بالغوا في تجريد القرآن فلم يكتبوا في المصحف شيئا مما ليس منه ولذلك لم يكتبوا أسماء السور ونحو ذلك ولا آمين في آخر الفاتحة ولذا كره كثير من العلماء كتابة أسماء السور ونحو ذلك لمخالفته لما جرى عليه الصحابة رضي الله عنهم
روي عن النخعي أنه أتي بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وهي كذا آية فقال آمح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه وروي عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم وروي عنه وعن الحسن أنهما قالا لا بأس بنقط المصاحف وروي عن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا وكان يقول جردوا القرآن

وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رؤوس الآي وقال غيره أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح والخواتم وقال قتادة بدؤوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود أنه قال جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء
قال الإمام الحليمي تكر كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله جردوا القرآن وأما النقط فيجوز لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها
وقال بعض العلماء ينبغي أن لا يخلط بالقرآن ما ليس منه كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعاني الآيات
وقال بعض المقرئين لا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم ولا أستجيز جمع قراءآت شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة
والمراد بالنقط المذكور في كلام بعض التابعين هو النقط الذي أحدث في عصرهم للدلالة على الحركات قال بعض العلماء كان الشكل في الصدر الأول

بطري النقط وأول من فعل ذلك الإمام الأجل أبو الأسود الدؤلي وذلك أنه كان أراد أن يعمل كتابا في النحو يفقوم الناس به ما فسد من لسانهم فقال أرى أن ابتدئ بإعراب القرآن أولا فأحضر من يمسك المصحف وأحضر صبغا يخالف لون المداد وقال للذي يمسك المصحف إذا فتحت شفتي فاجعل نقطة فوق الحرف وإذا كسرتهما فاجعل النقطة تحت الحرف وإذا ضممتهما فاجعل فعل ذلك حتى أتى على ىخر المصحف
ويقال إن أول من فعل ذلك هو نصر بن عاصم الليثي ويقال يحيى بن يعسر وهؤلاء الثلاثة من أجله تابعي البصرة والمعروف عند أكثر العلماء أن أول من فعل ذلك هو أبو الأسود
وأما الشكل المتداول الآن فهو من وضع الخليل بن أحمد وهو أوضح فالفتحة عنده ألف صغيرة توضع فوق الحرف والضمة واو صغيرة توضع فوق الحرف والكسرة ياء صغيرة مردودة توضع تحته والتنوين زيادة مثلها فإن كان مظهرا وذلك قبل حرف الحلق ركبت فوقها وإلا أتبعت بها
وتكتب الألف المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف وهي حمراء أيضا ويوضع على النون قبل الباء ميم حمراء علامة على القلب وقبل الحلق سكون وتعرى عند الإدغام والإخفاء ويسكن كل مسكن ويعرى المدغم ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو فرطت ومدة الممدود لا تجاوزه
وكان أبو الأسود قد اقتصر على وضع علائم للحركات الثلاث والتنوين فوضع الخليل لذلك علائم على طريقته وزاد على ذلك فوضع لكل من الهمز والتشديد والروم والإشمام والسكون علامة رضي الله عنهم وعمن سعى سعيهم قاصدا نفع الناس غير مريد بذلك منهم أجرا إلا المودة في العلم

الفائدة السابعة
ينبغي أن يتخذ لأجل الوقف أربع علائم وهي كافية بالنظر إلى أكثر الكتب
العلامة الأولى علامة السكت وهي خط كالفتحة يوضع بين يدي الحرف المسكون عليه هكذا ( ـ ) وهذه العلامة كان الخليل جعلها علامة الروم والروم عندهم هو الإتيان بحركة آخر الكلمة في حال الوقف خفية حرصا على بيان حركتها التي تحرك بها حال الوصل
قال بعض العلماء للعرب في الوقف على أواخر الكلم أوجه متعددة والمستعمل منها عند أئمة القراءة تسعة وهي السكون والروم والإشمام والإبدال والنقل والإدغام والحذف والإثبات والإلحاق
والروم عندهم هو النطق ببعض الحركة وسمي روما تروم الحركة وتريدها حيث لم تسقطها بالكلية ويدرك ذلك القوي السمع إذا كان منتهبا لأن في آخر الكلمة صوتيا خفيفا
ويشارك الروم الاختلاس في كون كل منهما غير تامة إلا أن بينهما فرقا وهو أن الروم لا يكون في الفتح والنصب ويكون في الوقف دون الوصل والثابت فيه من الحركة أقل من الذاهب والاختلاس يدخل في الحركات الثلاث كما في ( لا يهدي ) و ( نعما ) ( يأمركم ) عند من استعمل الاختلاس فيها ولا يختص بمحل الوقف وهو الآخر والثابت فيه من الحركة أكثر من الذاهب فإن المأتي به من الحركة في الاختلاس نحو الثلثين
ولما ترك الناس البحث عن الروم وما أشبهه لم تبق لهم حاجة في علامتها فنسيت أو كادت تنسى ولما كنا الآن محتاجين للسكت أكثر من احتياجنا للروم رأينا جعلها علامة عليه ولا يخفي أن بين ما وضعت له في الأصل وما نقلت إليه الآن شيئا من المناسبة
وكان بعض كتاب الأندلس يضعها في آخر السطر إذا بقيت لا تتسع

لكتابة الكلمة المروم كتابتها وهذا من الواضع التي حيرت الكتاب حتى اختلفوا فيها فإن بعضهم يرى أن يكتب بعضها في آخر السطر وبقيتها في أول السطر الآخر ولا يرى بتجزئة الكلمة بأسا للضرورة وخص بعضهم ذلك بالكلمات القابلة للفصل في الكتابة مثل الإرسال والمراسلة والتراسل والاسترسال وهذا معيب عند أهل الصناعة لا يختلفون في ذلك
وبعضهم يرى أن يكتب بعضها في آخر السطر ثم يبعد عنه قليلا ويكتب بقيتها وهؤلاء يرون أولى لأنه بذلك يمكن للقارىء أن يقرأ الكلمة بتمامها من غير انتقال إلى سطر آخر وغاية ما فيه أنه يجد بين الكلمة وتتمتها فاصلا ألجأ إليه مراعاة التناسب بين أواخر الأسطر
وبعضهم يرى ما رأى الكاتب الأندلسي وهو أن تكتب الكلمة بتمامها في أول السطر الآخر وبذلك يخلص من تجزئة الكلمة الواحدة غير أن البياض الذي يبقى في آخر السطر لما كان موهما لأنه قد ترك علامة للفصل اقتضى رفعه بوضع هذه العلامة دفعا لهذا الوهم فكأن هذه العلامة تقول لناظرها صل ولا تقف
وقد رأيت بعضهم يضع هذه العلامة في أثناء السطر ذا وقع فيه بياض بطريق السهو لئلا يظن الناظر أن ذلك البياض قد ترك بطريق القصد لكتابة شيء فيه وهو مما يقع كثيرا
وعلامة السكت إنما توضع في المواضع التي يكون ما بعدها متصلا بما قبلها اتصالا شديدا غير أنه لا يبلغ في الشدة درجة الاتصال الذي بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره والموصول وصلته ونحو ذلك فإن الاتصال إذا بلغ مثل هذه الدرجة لم يسغ وضع علامة السكت فإذا رأى القارئ علامة السكت ساغ له أن يقف هناك وقفة خفيفة لا يكاد السامع يشعر بها
فمما فيه يسوغ السكت عليه قول بعض أرباب الحكم المأثورة على العاقل أن لا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث خصال تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة

في غير محرم وقوله ثلاث خصال من أفضل أعمال البر - الصدق في الغضب والجود في العسرة والعفو عند المقدرة وقوله ثلاث خصال ليس معهن غربة - كف الأذى وحسن الأدب ومجانبة الريب وقوله السكوت في موضعه من صفات صفوة الرجال - كما أن النطق في موضعه من أشرف الخلال
وقوله مما يدل على علم العالم معرفته بما يدرك من الأمور - وإمساكه عما لا يدرك - وتزيينه نفسه بالمكارم وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر لا عجب - ومعرفته بزمانه الذي هو فيه - وبصره بالناس وأخذه بالقسط - وإرشاده المسترشد - وحسن مخالقته خلطاءه - وتسويته بين قلبه ولسانه - وتحريه العدل في كل أمر - ورحب ذرعه فيما نابه - واحتجاجه بالحجج فيما عمل - وحسن تبصره
وقوله حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه - ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك وقوله إن استطعت أن لا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق - وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل وقوله لا يصلح العلم بغير حلم - ولا الحفظ بغير فهم - ولا الحسب بغير أدب - ولا الغنى بغير كرم - ولا الجد بغير جد
ولا بأس بوضع هذه العلامة في آخر السطر إذا بقي فيه بياض لا يتسع لكتابة الكلمة المروم كتابتها على ما جرى عليه بعض كتاب الأندلس
ويسوغ وضعها في مثل قول بعض علماء الأصول في الكلام على اللغات وأنها هل هي توقيفية أم اصطلاحية والجواب عن التمسك بقوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها ) أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه ما لأجله قدر على الوضع
مع أن هذا الموضع ليس من مواضع الفصل أصلا لكن توضع العلامة لمجرد التمييز بين الكلامين
ومثل قوله والأثارة في قوله تعالى ( أو اثارة من علم ) هو ما يروى

ويستغنى عن وضع هذه العلامة بوجود علامة أخرى لحصول المقصود وذلك في مثل قول بعض أرباب / التجويد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى - ( ورتل القرآن ترتيلا ) الترتيل هو أن تأتي بالقراءة على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف والحركات
وقد كان الكتاب قديما يكتبون الآيات في مثل هذه المواضع إما بمداد يخالف في اللون ما يكتب به غيرها أو بقلم أدق منه أو بخط مخالف في النوع له فكان المقصود حاصلا بذلك
وهنا أمر ينبغي الانتباه له وهو أن السكت كالوقف له درجات متفاوتة في المقدار حتى إنه في بعض المواضع لا يكاد يشعر به لشدة خفائه وذلك في مثل قولك جاد لنا فلان فإنه إذا كان من الجود تجد نفسك مسوغة إلى السكت على الدال سكتة خفيفة خفية بخلاف ما إذا كان من الجدال
ونحو قولك ما سعى أحد في فساد فساد فإن الفاء الثانية لا بد فيها من سكتة خفية ونحو قولك ما لك لا تجعل مالك دون مالك وأنت تعلم أنه سيكون له دونك مالك وانظر إلى لفظ قد رشاني في قول بعض القضاة مفتخرا بالعدل
( فما خفض الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني )
فإنك لا تشك أنه لابد من سكت فيه في الموضعين أما في الأول فعلى الراء وأما في الثاني فعلى الدال وقد أشار إلى وقوع السكت في الشعر السيد المرتضى فإنه قال عند ذكر قول الكميت
( وما أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب )
يجب الوقوف على الطير ثم يبدأ بهمه ليفهم الغرض ولا يخفى أن المراد بالوقف هنا السكتة الخفيفة لا الوقف بالمعنى المشهور فإنه يوجب إسكان الراء فيختل الوزن على أن هنا أمرا آخر وهو أن الوقف فيه يوجب التقاء الساكنين وقد تقرر أنه لا يقع الساكنين في الشعر إلا في الآخر وأما في غيره فلا يقع نعم

أجاز بعضهم وقوع ذلك في المتقارب واستشهد على ذلك بقول الشاعر
( فذاك القصاص وكان التقاص ... فرضا وحتما على المسلمينا )
أجاز ذلك في عروض هذا الضرب من الشعر ولم يجزه في غيرها
وهذه المسألة وما شاكلها من متعلقات علم قوانين القراءة وهو علم يعرف عنه العلامات المميزة بين الحروف المشتركة في الصور والعلامات الدالة على الإدغام والمد والقصر والفصل والوصل والمقاطع وأحوال هذه العلامات وأحكامها ونحو ذلك وهذا العلم وعلم قوانين الكتابة متلازمان لغاية واحدة وهو معرفة دلالة الخط على اللفظ وذكر بعضهم أن شدة الاحتياج إلى هذين الفنين وفرط عناية النفوس الإنسانية بمعرفتهما وتعلمهما أغنت عن التصنيف فيهما
العلامة الثانية الوقف الحسن اعلم أن القوم قرروا أن معرفة مواضع الوقف متوقفة على معرفة المعنى وهو أمر بين بنفسه والتجربة تعضده فإنك إذا راقبت من يقرأه وهو عارف بمعنى ما يقرأه تجده لا يقف إلا في المواضع التي يسوغ الوقف عليها مع إعطاء كل موضع ما يستحقه من المقدار ويقف
فتارة تراه يقف وقفة قصيرة جدا بحيث تقارب الوقفة المسماة بالسكتة وذلك حيث يكون ما بعد ذلك الكلام متصلا بما قبله اتصالا فيه قوة غير أن ذلك الكلام مفهوم في الجملة وهذا الموضع هو الموضع الذي يسمى الوقف عليه بالوقف الحسن
وتارة تراه يقف وقفة أطول منها وذلك حيث يكون ما بعد ذلك الكلام / متصلا بما قبله اتصالا أدنى في القوة من الاتصال المذكور وهذا الموضع هو الذي يسمى الوقف التام عليه بالوقف الكافي
وتارة تراه يقف وقفة طويلة تكاد توهم السامع أنه يريد قطع القراءة وذلك حيث يكون ذلك الموضع قد تم فيه الكلام وهذا الموضع هو الموضع الذي يسمى الوقف عليه بالوقف التام

ومواضع الوقف التام ظاهرة بينة في الغالب ولذلك يندر الاختلاف فيها وقد تكون متعينة وذلك إذا وقعت في آخر الكلام وذلك كما في الحكم الآتية قال عبدالله المأمون خير الكلام ما شكل الزمان وقال أحمد بن أبي دؤاد الاستصلاح خير من الاجتياح وقال بعض الحكماء لا تكن تلميذا لمن يبادر إلى الأجوبة قبل أن يتدبرها ويتفكر فيما يتفرغ عنها
وأما مواضع الوقف الحسن أو الكافي فقد تكون غير بينة ولذا لم يندر وقوع الاختلاف فيها فكثير ما يحكم بعض الناظرين على وقف بأنه حسن ويحكم غيره بأنه كاف وذلك لاختلاف نظرهم في درجة التعلق بين الكلام الموقوف عليه وبين ما بعده وكثيرا ما يكون المختلف فيه في الدرجة الوسطى بين النوعين فيكون الاختلاف هناك غير مستغرب
والظاهر أن المواضع التي يختلف في كون الوقف فيها حسنا أو كافيا ينبغي أن يجعل الوقف فيها من قبيل الحسن احتياطا ونهاية ما في ذلك أن يجعل الوقف فيها أقصر وهو لو لم يقف أصلا لم يكن عليه شيء بل ربما كان أحسن لم يؤد ذلك إلى الاضطرار إلى الوقوف في موقف غير مستحسن
وقد عرفت أنهم ذكروا أن الناظر في كتب القوم إذا وجدهم قد اختلفوا في الوقف في موضع فقال بعضهم يحسن الوقف فيه وقال بعضهم بخلافه ولم يترجح عنده أحد الوجهين أن الأولى أن لا يقف في غير مواضع الوقف كان ملوما
ومن أحكم ما ذكرناه في هذا البحث اكتفى به في أكثر المواضع ومن أراد الزيادة فعليه بمطالعة كتاب من الكتب المبسوطة فيه المذكور فيها الأسباب والعلل
وقد نظرت في كثير من الكتب فوجدت مناهج الكتاب فيها مختلفة من جهة الوقف وذلك أن
منهم من اقتصر على قسم واحد منه وهو الوقف التام الذي هو أحسن

الأوقاف وجعل له علامة وأغفل ما عداه إلا أن في هذا نوع تقصير لأنه يتعب القارىء لا سيما عند طول الكلام فيضطر إلى الوقوف قبل الوصول إليه فإذا لم يجد موقفا قريبا منه وقف كيف ما كان
وكثير ما يكون الوقوف هناك غير حسن فنشأ من ذلك أن صار في كثير من المواضع لا يصل إلى الأحسن مع انقطاعه عن الحسن
ومنهم من اقتصر من ذلك على قسمين وهما الوقف التام والوقف الكاف ي الشبيه بالتام وجعلوا لكل واحد منها علامة وهؤلاء لا يلحقهم ملام لحصول المقصود بذلك في جل الكتب
ومنهم من أتى بالأقسام الثلاثة إلا أنهم اقتصروا على علامتين إحداهما للوقف التام والأخرى للوقف الكافي والحسن وجعلوا العلامة مشتركة بينهما
ويمكن أن يقال إن هؤلاء كالذين قبلهم قد اعتبروا الوقف قسمين تاما وكافيا غير أنهم قد ألحقوا بالكافي قسما من الحسن وهو ما لا ريب في حسنه ولذلك اقتصروا على علامة واحدة
وهؤلاء منهم من يجعل علامة الكافي والحسن كتابة الكلمة الأولى أو الحرف الأول منها لا سيما إن كان الواو بالحبر الأحمر أو يجعل فوقها خطا / كذلك إشارة إلى أن تلك الكلمة مما يسوغ الابتداء بها وأن ما قبلها يسوغ الوقف عليه ومنهم من يجعل العلامة نقطة صغيرة ومنهم من يجعل العلامة واوا مقلوبة هكذا
وهذا الذي اخترناه لأمرين أحدهما أن هذه العلامة هي أكثر شيوعا عندهم الثاني أنها لما كانت في صورة الواو كانت مذكرة بالوقف غير أنا رأينا ان تبقى هذه الواو المقلوبة على حالها عند قصد الدلالة بها على الوقف الحسن وأن يزاد فيها شيء كنقطة أو خط عند قصد الدلالة بها على الوقف الكافي الذي هو أطول مما قبله في المدة وأهم منه
ومما فيه ما يحسن الوقوف عليه قول بعض أرباب الحكم المأثورة العلم زين

لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة وقوله حق العاقل أن يتخذ مرآتين ينظر من إحداهما في مساوي نفسه فيتصاغر بها وينظر من الأخرى في محاسن الناس فيحليهم بها ويأخذ ما استطاع منها
وقوله لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان ولا إلى البخل أسرع منك إلى الجود وقوله سوسوا أحرار الناس بمحض المودة والعامة بالرغبة والرهبة والأسافل بالمخافة وقوله لا تعد الغنم غنما إذا ساق غرما ولا الغرم غرما إذا ساق غنما
العلامة الثالثة علامة الوقف الكافي وهي الواو المقلوبة غير أنه يزاد فيها شيء كنقطة أو خط تمييزا بينها وبين علامة الوقف الحسن
ومما فيه ما يكون الوقوف عليه كافيا قول بعض أرباب الحكم المأثورة لا تقدم على أمر حتى تنظر في عاقبته ولا ترد حتى ترى وجه المصدر وقوله من ورع الرجل أن لا يقوم ما لا يعلم ومن أربه أن يتثبت فيما يعلم وقوله كن في جميع الأمور في أوسطها ؛ فإن خير الأمور أوساطها
وقوله العاقل لا يعادي ما وجد إلى المحبة سبيلا ولا يعادي من ليس له منه بد وقوله من أحسن ذوي العقول عقلا من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرا لا يفسد عليه واحد منهما الآخر فإن أعياه ذلك رفض الأدنى وآثر عليه الأعظم وقوله تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب وطب نفسا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مداراة لئلا يظن أصحابك أن ما بك التطاول عليهم
العلامة الرابعة علامة الوقف التام اعلم أن الكتاب قد اختلفت مناهجهم في ذلك
فمنهم من كان يضع نقطة إلا أن بعضهم كان يجعلها كبيرة لئلا تشتبه بالنقطة التي كان يضعها للوقف الذي ليس بتام ومنهم من كان يضع ثلاث نقط على

هيئة الأثافي كما في نقط الشين ومنهم من كان يضع واوا مقلوبة ومنهم من كان يجعلها ثلاثا على الهيئة المذكورة ومنهم من كان يضع دارة إما مطبقة أو منفرجة ومنهم من كان يضع هاء لها عينان وهي ذات طرف مردود إلى الجانب الأيمن هكذا ه وكأنها رمز إلى لفظ انتهى
ومن الكتاب من لم يقتصر على واحدة مما ذكر فربما وضع في وضع دارة وفي موضع آخر نقطا ونحو ذلك ولما كان الوقف التام متفاوت الدرجات في التمام ينبغي لمن جعل له علامات أن يخص كل واحدة منها بنوع منه غير أن الدارة لا ينبغي أن توضع إلا لأتم أنواعه كأن يكون الموضع آخر قصة ونحو ذلك
وفي هذا المبحث شيء وهو أن يقال قد ذكرتم أن بعض المواضع قد يتجاذبه أمران أحدهما يقتضي الوصل والآخر يقتضي الفصل وهو ثلاثة أقسام فهل يمكن أن يجعل لكل قسم منها / علامة يعرف بها ؟ فيقال نعم وذلك بالجمع بين الخط الذي هو علامة الوصل والنقطة التي هي علامة الفصل فإذا كان الموضع مما يرجح فيه جانب الوصل على الفصل وضع فيه خط بعده نقطة هكذا - وإذا كان الموضع مما يرجح فيه جانب الفصل على الوصل وضعت فيه نقطة بعدها خط هكذا - وإذا كان الموضع مما لم يرجح فيه أحدهما على الآخر وضع الخط بين نقطتين هكذا -
هذا وما يذكر من العلائم المختلفة التي تدل كل واحدة منها على قسم من أقسامه إنما يحتاج إليه في الكلام المنثور الذي لم يقيد بسجع وأما الكلام المنثور المقيد بالسجع فيكفي فيه علامتان توضع إحداهما في آخر الفقرة الأولى للدلالة على موضع الوقف وعلى أن السجعة لم تتم بعد والأخرى في آخر الفقرة الثانية للدلالة على الوقف وعلى أن السجعة قد تمت إلا أنه ينبغي أن تكون أقوى في الدلالة على الوقف من التي قبلها
وعلى ذلك يسوغ أن تكون الأولى علامة الوصل والثانية نقطة أو الأولى

نقطة صغيرة والثانية نقطة كبيرة أو الأولى واوا مقلوبة والثانية واوا مقلوبة متميزة بزيادة فيها
ومن أمثلة السجع قول بعض أرباب البلاغة إياكم ومقابلة النعمة بالكفران - واذكروا هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وأبرزوها في معرض من حسن الذكر - وقابلوها بما يليق بها من الشكر وقوله بلغني أن فلانا ناظر فلما توجهت عليه الحجة كابر وقد كنت أحسب أنه أعرف بالحق من أن يعقه وأهيب لحجاب العدل والإنصاف من أن يشقه أو لم يعلم أن الكابرة تشعر بضعف الحس ومهانة النفس
وقوله اعتذر الأستاذ من صغر الكتاب واختصاره وقد أغناه الله عما تكلفه من اعتذاره وإنما الصغير ما صغر قدره لا ما صغر حجمه فأما ما أفاد وجاوز المراد ؛ فليس بصغير بل هو أكبر من كل كبير
وقد يعرض في السجع في بعض المواضع أمور توجب الإشكال في وضع العلائم فمن المواضع المشكلة أن تكون السجعة مركبة من ثلاث فقر وينبغي هنا أن توضع العلامة المشعرة بانتهاء السجعة عند الفقرة الثالثة ويوضع عند الثانية علامة مثل العلامة التي توضع عند الأولى
مثل ذلك قوله جزى الله الأستاذ عن الجود خيرا فقد أقام له سوقا كانت كاسدة واهب منه ريحا كانت راكدة وأحيا منه أرضا كانت هامدة وعمر للمعروف دارا طالما تيه في قفارها لا ندراس آثارها وانهدام منارها
وقوله يعز علينا أن يكثر بين تلاقينا عدد الأيام وتعبر عن ضمائرنا ألسن الأقلام ونتناجى في الكتب بصور الكلام
وكثيرا ما يعرض في بعض المواضع هنا ما يجعل وضع علامة الوصل إما في الأولى أو في الثانية أولى من غيرها وإن كانت العلامة المتخذة في الأصل غيرها فعلامة الوصل يحتاج إليها في كثير من المواضع التي جعل غيرها علامة فيه ومثال

ذلك قوله الظنون - أمر لا يعول عليه المتقون ولا يخلطون ما كان بما لعله لا يكون
ومن المواضع المشكلة أن توجد فقرة ليس لها أخت وينبغي هنا أن تعطى حكمها في حد ذاتها نحو قوله إن للعقول مغارس كمغارس الأشجار فإذا طابت بقاع الأرض للشجر زكا ثمرها وإذا كرمت النفوس للعقول حسن نظرها
ومن المواضع المشكلة المواضع التي يكون فيها سجع في سجع وينبغي هنا أن توضع علامة الوصل في السجع الذي يكون في السجع ومثال ذلك قول بعضهم / في علم البيان وهو فن قد نضب ماؤه فلم يظهر له ثمر وذهب رواؤه فلم يؤثر فيه غير الأثر ؛ وقول بعضهم هذا كتاب قد أودع من جواهر الكلم - ما يفوق قلائد العقيان - وعقود الدرر ومن زواهر الحكم - ما يروق الجنان - ويجلو البصر
وقد اختلف العلماء في أنه هل يجوز أن يقال إن في القرآن سجعا أم لا ؟ فقال قوم إنه لا يجوز ووافقهم على ذلك الرماني وقد أشار إلى ذلك في " إعجاز القرآن " حيث قال إن السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحال المعنى عليه والفواصل هي التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في نفسها ولذلك كانت الفواصل بلاغة والسجع عيبا
وقال قوم إنه يجوز ذلك قال بعضهم ليس كل السجع يقصد في نفسه ثم يحال المعنى عليه بل منه ما يتبع المعنى وهو غير مقصود في نفسه وهذا مما لا يعاب بل مما يستحسن
والظاهر أن الذي دعا قوما إلى تسمية جميع ما في القرآن فواصل مع الامتناع عن تسمية ما تماثلت حروفه منه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم لا كون السجع في نفسه معيبا فإن السجع في نفسه يرجع إلى تماثل الحروف أو تقاربها في مقاطع الفواصل
وإنما لم يجىء في القرآن كله ولا أكثره سجع لأنه نزل بلغة العرب وعلى

عرفهم وعادتهم وكان البليغ منهم لا يكون في كلامه كله ولا أكثره سجع لما فيه من أمارات التكلف لا سيما مع طول الكلام ولم يخل من السجع لأنه يحسن في بعض الكلام لا سيما اقتضاه المقام
قال حازم ( 1 ) من الناس من يكره تقطيع الكلام إلى مقادير متناسبة الأطراف متقاربة في الطول والقصر ( 2 ) لما فيه من التكلف ومنهم من يرى أن التناسب الواقع بإفراغ الكلام في قالب التقفية وتحليتها بمناسبات المقاطع أكيد جدا ومنهم - وهو الوسط - من يرى أن السجع وإن كان زينة للكلام فقد يدعو إلى التكلف فرأيي أن لا يستعمل في جملة الكلام ( 3 ) وأن لا يخلى الكلام منه جملة وأنه يقبل منه ما اجتلبه الخاطر عفوا بلا تكلف
قال وكيف يعاب السجع على الإطلاق ! وإنما نزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلامهم وإنما لم يجىء على أسلوب واحد لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف ولما في الطبع من الملل ولأن الارفتنان في ضروب

الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد فلهذا وردت بعض الآي متماثلة المقاطع وبعضها غير متماثلة
تنبيهات مهمة تتعلق بالسجع أوردها صاحب " الإتقان " ( 1 )
الأول قال أهل البديع أحسن السجع ونحوه ما تساوت قرائنه نحو ( في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ) ويليه ما طالت قرينته الثانية نحو ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ) أو الثالثة نحو ( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) وقال ابن الأثير الأحسن في الثانية المساواة وإلا فأطول قليلا وفي الثالثة أن تكون أطول وقال الخفاجي لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى
الثاني قالوا أحسن السجع ما كان قصيرا لدلالته على قوة المنشىء وأقله كلمتان نحو ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) الآيات ( والمرسلات عرفا ) الآيات ( والذاريات ذروا ) الآيات ( والعاديات ضبحا ) والآيات والطويل ما زاد عن العشر وما / بينها متوسط كآيات سورة القمر
الثالث قال الزمخشري في " كشافة القديم " لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مورده فليس من قبيل البلاغة وبنى على ذلك أن التقديم في ( وبالآخرة هم يوقنون ) ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص
الرابع مبنى الفواصل على الوقف ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس
كقوله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) مع قوله ( عذاب واصب وشهاب ثاقب )

وقوله ( بماء منهمر ) مع قوله ( قد قدر ) و ( سحر مستمر )
وقوله ( وما لهم من دونه من وال ) مع قوله ( وينشىء السحاب الثقال )
الخامس كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلك كما قال سيبويه إنهم إذا تمنوا يلحقون الألف والياء والواو والنون لأنهم أرادوا مد الصوت ويتركون ذلك إذا لم يترنموا وجاء القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع
السادس حروف الفواصل إما متماثلة وإما متقاربة فالأولى مثل ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور ) والثاني مثل ( الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) ( ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) قال الإمام فخر الدين وغيره وفواصل القرآن لا تخرج عن هذين القسمين بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة ورعاية التشابه في الفواصل لازمة
السابع كثر في الفواصل التضمين والإيطاء لأنهما ليسا معيبين في النثر إن كانا معيبين في النظم فالتضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقا بها كقوله تعالى ( وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل ) والأيطاء تكرر الفاصلة بلفظها كقوله تعالى في ( الإسراء ) ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) وختم بذلك الآيتين بعدها اهـ
فإن قيل هل يسوغ وضع علامة تشعر بالتضمين ؟ يقال أما في السجع فإن ذلك يسوغ فيه بل يستحب ومثال ذلك ما كتبه بعض البلغاء موقعا به على كتاب ورد بمدح رجل وذم آخر إذا كان للمحسن من الجزاء ما يقنعه وللمسيء من النكال ما يقمعه بذل المحسن ما يجب عليه رغبة وانقاد المسيء لما يكلفه رهبة
وأما في الشعر فلا يسوغ وذلك لأنه يوجب عدم التناسب في أواخر السطور

وهو مهم عندهم مع قلته في نفسه وقلة الاحتياج إليه نعم لو قيل إنه يسوغ وضعها إذا بعد عن آخر السطر قليلا مع حفظ التناسب بينها إذا تكررت لم يستبعد
قال في " العمدة " في باب أحكام القوافي في الخط ( 1 ) إذا صارت الواو الأصلية وصلا للقافية سقطت في الخط كما تسقط واو الوصل وياؤه وذلك مثل واو يغزو للواحد ولم يغزوا للجماعة إذا كانت القافية على الزاي ومثل واو يغزو ياء يقضي للغائب وتقضي للمؤنثة الغائبة والمذكر المخاطب وكذلك ياء القاضي والغازي إذا كانا معرفين بالألف واللام هذا هو الوجه
فإن كتب بإثبات الواو والياء فعلى باب المسامحة والأجود أن تكون الواو والياء خارجا في الغرض وكذلك ياء الضمير نحو غلامي إذا كنت القافية الميم فالوجه سقوط الياء فإن كتبت المسامحة ففي الغرض كما قدمت ق ( 2 ) ومن العرب من يقول هذا الغاز ومررت بالقاض بغير ياء وهذا تقوية لمذهب من حذفها في الخط إذا كانت وصلا للقافية
وإن كان في قوافي القصيدة ما يكتب بالياء وما يكتب بالألف كتبا / جميعا بالألف لتستوي القوافي وتشتبه صورتها في الخط اهـ
ولفرط عناية الكتاب برعاية التناسب بين أوائل السطور بعضها مع بعض وكذلك أواخرها قال بعض الأدباء في وصف المسطرة عن لسانها
( أنا للكاتب اللبيب إمام ... ولما تبتغي يداه قوام )
( فإذاما حددت للكتب حدا ... وقفت عند حدي الأقلام )
فإذا قيل هل يسوغ أن يوضع في أثناء أبيات الشعر علائم لوقف القارىء على مواضع الوقف لا ليقف عندها بل لئلا يقع له في بعض المواضع وهم يحجبه عن

الفهم فقد ذكرتم ( 1 ) أن السيد المرتضى قال في بيت الكميت المذكور آنفا إنه يجب الوقوف على الطير ثم يبدأ بهمه
يقال إنا لم نصادف فيما رأينا من الدواوين وضع علائم لذلك ومن أهمه هذا الأمر يتيسر له أن يشير إلى ذلك في الحاشية ويخشى من فتح هذا الباب أن يدخل في هذا الأمر الدقيق من ليس له أهلا فيضع العلائم في غير مواضعها فيكون الضرر أكبر من النفع لكن لو قام به من يحسن لم يكن في ذلك شيء وعلى ذلك يكتب البيت هكذا
( وما أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب )
فإن قيل هل يسوغ وضع علامة في آخر الشطر الأول إذا وجد فيه ما يقتضي ذلك لا سيما إن وضعت بعيدا عنه قليلا بحيث لا تخل بالتناسب بين أواخر الشطر الأول ولا أوائل الشطر الثاني
يقال إنه لا يظهر ملجىء إلى ذلك إلا إذا وقع في البيت إدماج ونشأ منه التباس والإدماج هو أن يأتي الشاعر بكلمة يكون بعضها جزءا من الشطر الأول وبعضها جزءا من الشطر الثاني وقد قصر بعض شراح " الحماسة " في تعريفه حيث قال عند ذكر قول الشاعر
( وما غمرات الموت إلا نزالك الكمي على لحم الكمي المقطر ... )
في هذا البيت إدماج والإدماج أن تكون علامة التعريف في النصف الأول من البيت والمعرف في النصف الثاني وهو يقل في الأوزان الطوال ويكثر في القصار كقول الأعشى
( استأثر الله بالمكارم والعـ ... دل وولى الملامة الرجلا )
( والشعر قلدته سلامة ذا الـ ... إفضال والشيء حيثما جعلا )

فإذا وقع في البيت إدماج اضطر الكاتب في الغالب إلى تجزئة الكلمة إلى جزئين ووضع كل واحد منهما في موضعه فإذا نشأ من ذلك إشكال تعينت إزالته فإذا كانت العلامة وافية بالغرض لم يكن بد منها
والكلمات من جهة التجزئة أقسام فمنها ما تسهل فيه التجزئة ومنها ما تعسر فيه ومنها ما تكاد تتعذر فيه
ولبعض الكتاب مهارة في أمر التجزئة حتى إن بعضهم لا يكاد يقع اشتباه فيما جزأه وقد أحببنا أن نورد من هذا النوع أمثلة كثيرة لشدة الحاجة إليه وتركنا تمييز كل قسم منه من غيره للمطالعين فمما وقع فيه الإدماج قول بعض الشعراء في وصف القلم
( ناحل الجسم ليس يعرف مذكا ... ن نعيما وليس يعرف ضرا ) / وقول بعضهم
( إن حشو الكلام من لكنة المر00 ... 00ء وإيجازه من التقويم )
وقول بعضهم - وكان بعض الأئمة العظام يكثر إنشاده وقد ينسب إليه -
( فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا )
( وإني رأيت غواة الرجا00 ... 00 ل لا يتركون أديما صحيحا )
ومما وقع فيه الإدماج قول بعضهم الإمام الزكي والفارس المع00 ... 00 تحت العجاج غير الكهام ( 1 ) )
( راعيا كان مسجحا ( 29 ففقدنا ... ه وفقد المسيم فقد المسام ( 3 ) )

وقول بعضهم
( إن شرخ الشباب والشعر الأس00 ... 00 ـود مالم يعاص كان جنونا )
وقول بعضهم
( وأزجر الكاشح العدو إذا اغـ 00 ... 00 ـتابك عندي زجرا على أضم )
ومما وقع فيه الإدماج قول بعضهم
( أحل وامرر وضر وانفع ولم وأخـ 00 ... 00شن ورش وابن وانتدب للمعالي )
وقول بعضهم
( فوحق البيان يعضده البر00 ... 00 هان في مأقط ( 2 ) ألد الخصام )
( ما رأينا سوى السماحة شيئا ... جمع الحسن كله في نظام )
( هي تجري مجرى الإ صابة في الرأ00 ... 00ي ومجرى الأرواح في الأجسام )
ومما وقع فيه الإدماج قول بعضهم
( الألمعي الذي يظن بك الظـ00 ... 00ـن كأن قد رأى وقد سمعا )
وقول بعضهم
( خير إخوانك المشارك في الضر00 ... 00 وأين الشريك في الضر أينا ؟
وقول بعضهم
( قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال )
( لا بجير أغنى فتيلا ولا رهـ00 ... 00ـط كليب تزاجروا عن ضلال )
( لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني بحرها اليوم صالي )
وقول بعضهم
( احذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوة )

/ يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة
وينبغي الانتباه هنا لأمرين
أحدهما أن بعضا من المواضع قد يظن فهيا إدماج فيجزىء الكاتب الكلمة مع أنه لا إدماج هنالك وذلك مثل قول بعضهم
( بنى عليك بتقوى الإله ... فإن العواقب للمتقي )
( وإنك ما تأت من وجهه ... تجد بابه غير مستغلق )
( عدوك ذو العقل أبقى عليك ... من الصاحب الجاهل الأخرق )
وقد يعرض الوهم للكاتب الشاعر في بعض المواضع ولا يزول عنه ذلك إلا إذا وزن البيت بميزانه
الثاني أن بعض الكتبة قد يقع لهم بسبب الذهول أو عدم المعرفة أن يجزئوا الكلمة في الأبيات التي وقع فيها إدماج تجزئة غير صحيحة فينبغي الانتباه إلى ذلك وانظر إلى لفظ ( الناس ) مثلا فإنه قد يكون آخر جزئها الأول هي النون الأولى وهي النون الساكنة المنقلبة عن لام التعريف وأول جزئها الثاني هي النون المتحركة وهي النون الأصلية وقد يكون آخر جزئها الأول هي الألف وأول جزئها الثاني هي السين فمن الأول قول بعضهم
( أيها الفارغ المريد لعيب الـ ... ـناس مهلا عن المغيبة مهلا ) ( إن في نفسك التي بين جنبيـ ... ـك عن الناس لو تفكرت شغلا )
ومن الثاني قول بعضهم
( تركتني صحبة النا ... س ومالي من رفيق )
( لم أجد إشفاق ندما ... ني كإشفاق الصديق )
ومما يعد من علائم الوقف الألف والهاء فقد جرت عادة كثير من المتأخرين أنهم إذا نقلوا عبارة عن أحد أن يكتبوا في آخرها ألفا ورأس هاء إشارة إلى لفظ

انتهى وكان حقهم أن يكتفوا برأس الهاء فقط لأن قاعدة أرباب العلائم أنهم يكتفون بأقل ما يحصل به المقصود ولا يسوغون الزيادة عليه فلو كان رأس الهاء قد جعل علامة على شيء آخر واضطروا إليها ساع لهم أن يزيدوا الألف للتمييز بينهما ولم يقع ذلك ولذا ذهب أناس الآن إلى الرجوع إلى مقتضى القاعدة فاقتصروا على رأس الهاء وربما وضع بعضهم قبلها نقطة
وأما المتقدمون فقد كانوا يصرحون بما يدل على الانتهاء فيقولون انتهى ما ذكره فلان أو هذا آخر كلام فلان أو نحو ذلك ولا يكتفون بقولهم انتهى ما ذكره من غير تصريح بالاسم
والظاهر أن الداعي لهم إلى ذلك أنه قد يكون في العبارة المنقولة عبارة أخرى نقلها المنقول عنه عن غيره فلو اكتفوا بذلك من غير تصريح بالاسم حصل اشتباه في كثير من المواضع ولم يدر المطالع لمن يرجع الضمير فالتزموا التصريح دفعا لذلك ولذلك قد يتركونه في مواضع لا يقع فيها اشتباه بل قد يتركون الإشارة إلى انتهاء العبارة في مثل ذلك
والاختصار ومنه الإضمار إنما يستجيزه البلغاء في المواضع التي لا يقع فيها اشتباه ولا إخلال بالفهم إلا إذا كان المقام يقتضي ذلك لنكتة مهمة
واعلم أنه قد جرت عادة النقلة أنهم إذا نقلوا عبارة من العبارات غير أنه دعاهم الحال إلى حذف شيء منها مما وقع في أثنائها لعدم تعلق الغرض به أن يشيروا إلى ذلك بقولهم ثم قال ثم يأتوا بتتمة العبارة المروم نقلها مما تعلق به غرضهم وبذلك يعلم المطالع أنه قد طوي شيء فيما بين ما قبل ثم قال وبين ما بعده وقد يحذفون ثم ويقتصرون على قال
وهذا أمر يلام من أخل به عندهم إلا أن يصرح بأنه قد تصرف في العبارة

والظاهر أن تصريحه بذلك لا يرفع عنه اللوم في كثير من المواضع مع إمكان الإشارة إلى مواضع الحذف
وأرى أن المختصرين الذين يحبون أن يحافظوا على الألفاظ الواقعة في الأصل ولم يبدلونها بألفاظ من عندهم غير أنهم يرون حذف بعض العبارات التي لا يتعلق بها غرضهم أن يضعوا في مواضع الحذف رأس القاف إشارة إلى ذلك وهي مذكرة بلفظ قال التي جرت عادتهم باستعمالها في مثل هذا الموضع وكنت قديما أضع رأس الفاء إشارة للفظ الحذف على أنه لو لم توضع نقطة أصلا لم يكن بأس لامتياز هذه الصورة بنفسها وهذه العلامة مهمة فإنه قد يعرض في بعض المواضع إشكال للمطالع فلا يدري هل هو ناشيء من حذف شيء هناك لو بقي لم يكن ثم إشكال أو ناشيء من الأصل والغالب أنه ينسبه للمختصر فيترك السعي في حله لتصوره أن ذلك نشأ من إخلال المختصر مع أن ذلك الموضع ربما كان من المواضع التي لم يحذف فيها شيء بل قد يعرض الإشكال للمختصر في وقت لا يتيسر له فيه الرجوع إلى الأصل فيندم على تقصيره حيث لا ينفعه ندمه فإذا وضعت هذه العلامة كان الخطب أسهل وهاك مثال ذلك قال أوحد عصره أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في أول البيان والتبيين
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجببما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر وقديما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما قال النمر بن تولب
( أعذني رب من حصر وعي ... ومن نفس أعالجها علاجا )
وقد ذكر الله جميل بلائه في تعليم البيان وعظيم نعمته في تقويم اللسان فقال ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) وقال ( هذا بيان

للناس ) ومدح القرآن بالبيان والإفصاح وبحسن التفصيل والإيضاح وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ وسماه فرقانا وقال ( عربي مبين ) وقال ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ) وقال ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقال ( وكل شيء فصلناه تفصيلا )
ومدار الأمر على البيان والتبيين وعلى الإفهام والتفهيم وكلما كان اللسان أبين كان أحمد كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة رام أبو حذيفة واصل بن عطاء وكان ألثغ إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه حتى صار لغرابته مثلا ولظرافته معلما
إرشاد لا ينبغي أن توضع علامة من العلائم في موضع من المواضع إلا بعد أن يدعو إليها داع مهم ويتحقق أن ذلك الموضع من مواضعها وقد جرت عادة بعض الكتاب أن يضعوا كثيرا من العلائم مع عدم الداعي إليها فكأنهم يظنون أن فيه وأما الذين يضعونها في غير مواضعها فهم مسيئون جدا لإيقاعهم القاريء في شرك الوهم المبعد له عن الفهم وكأن هؤلاء يظنون أن العلائم من قبيل الزينة في الخط
وقد وقع هذا الظن لكثير ممن عني بالخط من المتأخرين من غير بحث عما يتعلق به فكانوا يرون في كثير من الخطوط علائم وضعت لأمر خاص فظنوها من قبيل الزينة فصاروا يضعونها كيف ما اتفق وإذا سئلوا عن ذلك قالوا إن هذا من

تتمة الصناعة وقد رأينا أساتذتنا يفعلونه ولا يسعنا إلا اتباعهم فكل خير في اتباع من سلف
فإن قلت إنهم كثيرا ما يضعون علامة للاستفهام وعلامة للتعجب فهل يحسن ذلك يقال يحسن ذلك إذا كان في العبارة احتمال لغيرهما أما في الاستفهام ففي نحو ما يكتب زيد وأما في التعجب ففي نحو ما أحسن هذا الفتى
غير أن كثيرا منهم يضعون علامة الاستفهام في مثل أأسيء إليه وقد أحسن إلي مع أنه لا استفهام هنا في الحقيقة ويضعون علامة التعجب في مواضع لا يجد الناظر فيها شيئا يتعجب منه غير وضع تلك العلامة
وأما وضع علامة قبل مقول القول للدلالة عليه فإنما يحسن في بعض المواضع بسبب داع يدعو إليه كأن يفصل بين القول والمقول شيء ربما ينشأ عنه التباس
ومبحث العلامات وما يتعلق بها مبحث واسع الأطراف جدير بأن يفرد بالتأليف وقد دللناك على الطريق فاسلك فيه أن شئت حتى تصل إلى الغاية

الفائدة الثامنة
قلما يخلو كتاب ألف في فن من الفنون من ذكر مسائل ليست من على سبيل الاستطراد وقد اختلفت أحوال المؤلفين فيه فمنهم من كان يؤثر الإقلال منه ومنهم من كان يرى الإكثار منه ومن المقلين منه المؤلفون في أصول الأثر لما أن لهم فيه عما سواه شغلا شاغلا
وأما ترك بعض مباحث من الفن اعتمادا على أنها قد ذكرت في فن آخر فهو قليل وقد وقع ذلك لهم فإن أكثرهم لم يذكر مبحث الترجيح ومن ذكره منهم اكتفى ببيانه على طريق الإيجاز بحيث لا يتجاوز ما كتب فيه ورقتين مع أن مبحث الترجيح مهم جدا لأنه الذي يفزع إليه عند اختلاف الروايات مع عدم إمكان الجمع بينها
ووجوه الترجيح كثيرة يصعب حصرها وقد قسمها بعضهم بعضهم إلى سبعة أقسام القسم الأول الترجيح بحال الراوي كأن يكون أحدهما أكثر ضبطا أو اشد ورعا من الآخر فإنه يرجح عليه
القسم الثاني الترجيح بالتحمل كأن يكون أحدهما تحمل جميع ما يرويه بعد البلوغ فإنه يرجح على الآخر الذي تحمل بعض ما يرويه قبل البلوغ وبعضه بعده
القسم الثالث الترجيح بكيفية الرواية كأن يكون أحدهما ممن لا يروي فيرجح المدني لدلالته على التأخير
القسم الخامس الترجيح بلفظ الخبر كأن يكون أحد الخبرين فصيحا دون الآخر فيقدم عليه لأن الفصيح أقرب إلى أن يكون هو الصحيح وكأن يكون أحد الخبرين قد ورد بلغة قريش دون الآخر فإن ما ورد بلغة قريش أشبه بأن يكون

لفظ النبي صلى الله عليه و سلم وكأن يكون حكم أحد الخبرين معقول المعنى دون الآخر
القسم السادس الترجيح بالحكم كترجيح الناقل عن البراءة الأصلية على المقرر لها وقيل الأمر بالعكس وكترجيح الدال على الخطر على الدال على الإباحة وقيل لا ترجيح في ذلك لأن الحظر والإباحة حكمان شرعيان وصدق الراوي فيهما وتيرة واحدة
القسم السابع الترجيح بأمر خارجي كأن يكون أحد الخبرين يشهد له القرآن أو الحديث المشهور أو الإجماع أو دليل العقل دون الآخر فيرجح عليه لمعاضدة الدليل له
والذي حملهم على ترك هذا المبحث أو عدم التوسع فيه أنهم رأوا أن وجوه الترجيح كثيرة وقد أبلغها بعضهم إلى أكثر من مئة وجه فإذا ذكروا ذلك مستوفى موضحا بالأمثلة لم يكف فيه نحو مئة ورقة فإن ذكروا مسائلة خالية عن المثال كانت شبيهة بالمسائل التي لا تخرج عن دائرة الخيال
على أن كثيرا من وجوه الترجيح قد اختلف فيه حتى صار بعضهم يرجح وجها ويرجح الآخر مقابلة الآخر مقابلة وربما نفى بعضهم رجحان أحد المتقابلين فإذا حاول المؤلف بيان دليل كل فريق ثم بيان الراجح منهما بمقتضى ما تبين له بالدليل طال الأمر جدا فتركوا هذا المبحث المهم لعلماء أصول الفقه لما بين الفنين من التناسب مع ما بين أهلها من التقارب
وما ذكر هنا لا يستغرب أصلا بالنظر إلى ما ذكره العلامة السكاكي في حال علم المعاني والبيان قبل أن يكتب فيه ما كتب فإنه قال بعد أن أبان فضل ذلك وأنه لا علم بعد علم الأصول المشهورة بعلم الكلام أعون على معرفة

المشتبهات من الكتاب العزيز ولا أنفع في در لطائف نكته وأسراره منه وأن كثيرا من الآيات قد تصدى لها من ليسوا من أهل هذا العلم فأخذوا بها من مآخذ مردودة وحملوها على محامل غير مقصودة وهم لا يدرون ! ولا يدرون أنهم لا يدرون -
ثم مع ما لهذا العلم من الشرف الظاهر والفضل الباهر لا ترى علما من الضيم ما لقي ولا مني من سوم الخسف بما مني أين الذي مهد له قواعد ورتب له شواهد وبين له حدودا يرجع إليها وعين له رسوما يعرج عليها ووضع له أصولا وقوانين وجمع له حججا وبراهين وشمر لضبط متفرقاته ذيله واستنهض في استخلاصها من الأيدي رجله وخيله
( علم تراه أيادي سب ... )
( فجزء حوته الدبور ... وجزء حوته الصبا )
انظر باب التحديد فإنه جزء منه في أيدي من هو انظر باب الاستدلال فإنه جزء منه في أيدي من هو بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه من أي علم هي ومن يتولاها ؟ وتأمل في مودعات من مباني الإيمان ما ترى من تمناها سوى الذي تمناها وعد وعد ــ ولكن الله جلت حكمته إذ وفق لتحريك القلم فيه عسى ان يعطى القوس باريها بحول منه عز سلطانه وقوته فما الحول والقوة إلا به
وقد تدارك ما ربما يوهمه هذا الكلام من نسبة التقصير الشديد إلى من تقدمه من أهل هذا العلم الذين عنوا بشأنه فيكون من قبيل الإساءة إلى المحسنين كما يفعله كثير من الأغمار الذين يظنون أن في إنكار فضل غيرهم دلالة قوية على فضلهم فقال من قبل ذلك دفعا لهذا الوهم هذا ما أمكن من تقرير كلام

السلف رحمهم الله في هذين الأصلين ومن ترتيب الأنواع فيهما وتذييلها بما كان يليق بها وتطبق البعض منها بالبعض وتوفيه كل من ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة ن وسيحمد ما أوردت ذوو البصائر
وإني أوصيهم / إن أورثهم كلامي نوع استماله أو فضلا لي عليهم فغير مستبدع في أي ما نوع فرض أن يزل عن أصحابه ما هو أشبه بذلك النوع في بعض الأصول أو الفروع أو التطبيق للبعض بالبعض متى كانوا المخترعين له وإنما يستبدع ذلك ممن زجى عمره راتعا في مائدتهم تلك ثم لم يقوا أن يتنبه !
وعلماء هذا الفن وقليل ما هم كانوا - في اختراعه واستخراج أصوله وتمهيد قواعدها وإحكام أبوابها وفصولها والنظر في تفاريعها واستقراء أمثلتها اللائقة بها وتلقطها من حيث يجب تلقطها وإتعاب الخاطر في التفتيش والتنقير عن ملاقطها وكذا النفس والروح في ركوب المسالك المتوعرة إلى الظفر بها مع تشعب هذا النوع إلى شعب بعضها أدق من البعض وتفننها أفانين بعضها أغمض من بعض - كما عسى أن يقرع سمعك طرف من ذاك فعلوا ما وفت به القوة البشرية إذ ذاك ثم وقع فتورها منهم ما هو لازم الفتور

الفائدة التاسعة
قد أشكل على بعض الباحثين قول بعض أرباب هذا الفن يشترط في راوي الصحيح أن يكون تام الضبط مع قوله بتفاوت درجات الصحيح بسبب تفاوت درجات العدالة والضبط في رواته وقال إن تمام الضبط لا يتصور فيه تفاوت

فكيف يصح أن يقال إن رواة الصحيح تتفاوت درجاتهم في العدالة والضبط بحيث يكون بعضهم أدنى من بعض ف ذلك
وقد توهم أنه إذا قيل هذا الراوي أدنى من ذاك الراوي في الضبط لم يسغ أن يقال عنه إنه تام الضبط بل يقال عنه حينئذ سيء الحفظ أو ضعيفه وسيء الحفظ أو ضعيفه لا يعد من رواة الصحيح
وطلب تصوير هذه المسألة من القائلين بها
وقد رأينا من الحكمة الإجابة إلى ما طلب لإزالة ما نشأ من كلامه من الشبهة التي علقت بأذهان كثير من الناظرين فيه مع أن هذه المسألة من أهم مسائل الفن وهي مما لا رب فيه عند أربابه وعند من أمعن النظر فيها كثيرا من غيرهم
ولما في ذلك من زيادة البيان - وهي مطلوبة في مثل ذلك - فنقول لنفرض ان جماعة من الراغبين في معرفة أشعار من يستشهد بكلامهم من الشعراء قصدوا أحد أئمة أهل الأدب البارعين في ذلك للأخذ عنه فأجابهم إلى ما طلبوا منه واعتنى بأمرهم وصار في كل يوم يروي لهم شيئا مما عنده ليحفظوه ثم يختبرهم في كل مدة ولم يزل الأمر كذلك حتى أخذوا عنه نحو ألف بيت فأحب أن يختبرهم اختبارا تاما يعرف به درجاتهم في الحفظ والإتقان ليجعلهم أقساما يلقى على كل قسم منهم مقدار ما يقتضيه استعداده رعاية للحكمة وكانوا ستين
فنظر أولا في ضعيفي الحفظ فرأى في أربعة وعشرين منهم ضعفا شديدا في الحفظ بحيث إنهم كانوا يخلون في كل مئة بيت بنحو ثلاثين بيتا إلى نحو خمسين بيتا فجعل هؤلاء قسما واحدا ووسمهم في نفسه بسوء الحفظ وقلة الإتقان ولم يهمه أمر تقسيمهم إلى أقسام بل أهمه أمر العناية بهم بسوء الحفظ وقلة الإتقان ولم يهمه أمر تقسيمهم إلى أقسام بل أهمه أمر العناية بهم إشفاقا عليهم فإن قوة العناة كثير ما تجعل مثلهم من أهل الدراية
ثم نظر في بقيتهم وهم ستة وثلاثون فرآهم ثلاثة أقسام كل قسم منهم يبلغ اثني عشر وهم متقاربون في أمرهم فأمعن النظر في أعرهم وهو القسم الأول

فوجده يخل في كل مئة بيت بما دون العشر إلا أن أفراده مختلفة في ذلك فمنهم من يخل منها بنحو / الثلاثة أو الأربعة فقط ومنهم من يخل منها بنحو الخمسة والستة ومنهم من يخل منها بالسبعة إلى التسعة فتبين أن هذا القسم وهو الدرجة العليا في الحفظ والإتقان ينقسم إلى ثلاث درجات عليا وهي التي لا تخل بأكثر من نحو أربعة أبيات في المئة و وسطى وهي التي لا تخل بأكثر من نحو ستة فيها و دنيا وهي التي تخل بنحو السبعة والثمانية والتسعة
وبهذا تعلم أن من لا يخل في المئة بأكثر من نحو أربعة أبيات يعد من أهل الدرجة العليا من الدرجة العليا في الحفظ والإتقان وبينما اللبيب يكبر شأن أناس من العلماء الأعلام يكاد الواحد منهم لا يخطئ في كل ألف مسألة إلا بنحو عشر عشرها وربما كان مدرك الخطأ فيها خفيا ويعجب مما أوتوا من فرط النباهة والذكاء إذا بالغبي يزري بهم ويستعظم ذلك الخطأ إن كان منهم وذلك لعدم معرفته بلزوم ملاحظة النسبة وأن الإنسان لا يخلو من الخطأ والسهو والنسيان
ثم أمعن النظر في أوسطهم وهو القسم الثاني فوجده يخل في كل مئة بيت بما دون العشرين ولا ينقص عن العشر ثم أمعن النظر في أدناهم وهو القسم الثالث فوجده يخل في كل مئة بيت بما دون الثلاثين ولا ينقص عن العشرين ثم فعل في هذين القسمين مثل ما فعل في القسم الأول وقد أوردنا هذا المثال على طريق التقريب ومن فهم هذا المثال انحل عنه الإشكال في هذا الموضع وفي غيره مما يشاكله
قال بعض المحققين اعلم أن مدار الرواية على عدالة الراوي وضبطه فإن كان مبرزا فيهما فحديثه صحيح وإن كان دون المبرز فيهما أو في أحدهما لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن
ثم العدالة والضبط إما أن يوجدا في الراوي أو ينتفيا أو يوجد أحدهما دون الآخر فإن وجدا في الراوي قبل حديثه وإن انتفيا فيه لم يقبل حديثه

وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط لم يرد حديثه لعدالته ولم يقبل لعدم ضبطه بل يتوقف فيه إلا أن يظهر ما يوجب رجحان جانب الرد فيرد أو رجحان جانب القبول فيقبل ومنن ذلك أن يوقف له على شاهد يحصل به جبر الضعف الذي في راوية من جهة الضبط
وإن وجد فيه الضبط دون العدالة لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية ثم كل واحد من العدالة والضبط له مراتب عليا ووسطى ودنيا ويحصل من تركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف
وهنا أمر مهم يعد عند العارفين من أهل هذا الفن من قبيل المضنون به على غير أهله وهو أنه لا ينبغي ترك الرواية عن الموسومين بسوء الحفظ وقلة الإتقان كما يتوهمه غير العارف بل في الرواية عنهم فائدة عظيمة عند الجهابذة النقاد ولذلك كانوا حريصين على ذلك وتتبين لك الفائدة فيما نحن فيه من أوجه أحدها أن نفرض أن اثنين من القسم الأول وهي الدرجة العليا في الحفظ والإتقان اختلفا في بيت فرواه أحدهما على وجه والآخر على وجه آخر فإنه يعترينا حيرة في الأمر فإذا رأينا بعد ذلك أحدا ممن شاركهما في الأخذ عن ذلك الإمام - وإن كان موسوما بسوء الحفظ والإتقان - قد رواه على الوجه الذي رواه احدهما فإنها تترجح روايته على رواية الآخر في الغالب وينسب المنفرد بالرواية الأخرى للوهم في هذا الموضع فقد أفادت رواية هذا الضعيف تقوية أحد القوتين على الآخر
بل لو فرضنا أن أحد الراويين من القسم الأول وهي الدرجة العليا والآخر من القسم الثالث وهي الدرجة الدنيا ورأينا هذا / الراوي الضعيف قد وافقت روايته نرجحها في الغالب على الرواية التي انفرد بها من كان في الدرجة العليا فيكون من قبيل قولهم وضعيفان يغلبان قويا
وإنما قلنا في الغالب لأنه قد تقع موانع من ذلك ولا يدركها إلا الجهابذة

وقليل ما هم فينبغي لغيرهم أن لا يزاحموهم في هذا الموضع فإنه من مزال الأقدام
الوجه الثاني ان نفرض أن واحدا من أحد الأقسام الثلاثة الموصوفة بالضبط - وإن كان مختلفة الدرجات فيه - قد روى قصيدة خالية من بيت يرويه فيها اثنان من الموصوفين بعدم الضبط على وجه واحد وهو مما يشاكل تلك القصيدة وليس في الأبيات التي تعزى لغيرها من القصائد فإن اتفاق اثنين منهما إذا كان من غير تواطؤ يقوى صحة روايتهما على ما فيهما من الضعف ويكون هذا مما حفظه الضعيفان ونسيه القوي ولو كان من الدرجة الأولى في الضبط
ومبنى هذا على أن ليس كل ما يرويه الحافظ المتقن صوابا لاحتمال ان يكون قد زل في بعض المواضع وإن كان ذلك منه قليلا وليس كل ما يرويه غير الحافظ المتقن خطأ لإصابته في كثير من المواضع والعاقل اللبيب هو الذي يسعى لمعرفة صواب كل فريق ليأخذ به
وقد بلغت البراعة ببعض الجهابذة إلى أن كانوا يعرفون صدق الراوي من كذبه ولهذا كان بعضهم يروي عن بعض من يتهم بالكذب وكان ينهى الناس عن الرواية عنه ولما استغرب ذلك منه وقيل له أنت تروي عنه ؟ ! قال أنا اعرف صدقه من كذبه اهـ إلا أن هذا أمر لا يخلو عن غرر وربما كان فيه خطر
الوجه الثالث أن يروي كثير من غير أرباب الضبط بيتا على وجه واحد لا يختلفون فيه ويرويه واحد من الضابطين على غير ذلك الوجه فالظاهر ترجيح رواية الكثير لأن عروض الوهم للواحد أكثر من عروضه للعدد الكثير لا سيما إن كان ما رووه أرجح في الظاهر عند العارفين بذلك

الفائدة العاشرة
قد ذكرنا فيما مضى حكم الرواية عمن وسم بسمة الدبعة إلا أنه ليس كافيا في مثل هذه المسألة المهمة فاقتضى الحال زيادة البيان فنقول قال الحافظ

ابن حجر في " شرح نخبة الفكر " البدعة إما أن تكون بمكفر كأن يعتقد ما يستلزم الكفر أو مفسق
فالأول لا يقبل صاحبها الجمهور وقيل يقبل مطلقا وقيل إن كان لا يعتقد حل الكذب لنصرة مقالته قبل والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله
والثاني هو من لا تقتضي بدعته التكفير أصلا وقد اختلف في قبوله ورده فقيل يرد مطلقا وهو بعيد وأكثر ما علل به أن في الرواية عنه ترويحا لأمره وتنويها بذكره وعلى هذا ينبغي أن لا يروي عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع وقيل يقبل مطلقا إلا ان اعتقد حل الكذب كما تقدم وقيل يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه وهذا في الأصح
وأغرب ابن حبان فادعى الاتفاق على قبول غير الداعية من غير / تفصيل إلا أن روى ما يقوى بدعته فيرد على المذهب المختار وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي في كتابه " معرفة الرجال " فقال في وصف الرواة ومنهم زائغ عن الحق أي عن السنة صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا ن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم يقو به بدعته 1هـ وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية وارده فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية والله اعلم 1هـ

وظاهر هذه العبارة يدل على قبول رواية المبتدع إذا كان عدلا ضابطا سواء كان داعية أو غير داعية إلا فيما يتعلق ببدعته وقال بعض العلماء لا تقبل رواية المبتدع الذي يكفر ببدعته وأما الذي لا يكفر بها فقد اختلف العلماء في روايته فمنهم من ردها مطلقا ومنهم من قبلها مطلقا إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية ومنهم من قال تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولا تقبل إذا كان داعية إليها وهذا مذهب كثيرين من العلماء أو أكثرهم
والقول برد روايتهم مطلقا ضعيف جدا ففي " الصحيحين " وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير الدعاة ولم يزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاحتجاج بها والسماع منهم وإسماعهم من غير إنكار منهم قال الحافظ العراقي وقد احتج الشيخان بالدعاة أيضا وقد وقع لأناس ممن يفرقون بين الداعية وغيره حيرة في ذلك
وقد أشار إلى هذه المسألة الحافظ ابن حزم في مبحث الإجماع في فصل أفرده لحكم أهل الأهواء وقد أحببنا إيراد نبذ منه هنا قال
فصل في أهل الأهواء هل يدخلون في الإجماع أم لا ؟ قال قوم لا يدخلون في جملة من يعتد بقوله وقالت طائفة هم داخلون في جملتهم قال أبو محمد والذين قالوا لا يدخلون في جملتهم قد تناقضوا فأدخلوا في مسائل الخلاف قول قتادة وهو قدري مشهور وأدخلوا الحسن بن علي وهو رأس من رؤوس الزيدية وأدخلوا

عكرمة وهو صفري وأدخلوا جابر بن زيد وهو إباضي قـ
والذي نقول به والله تعالى التوفيق إن إجماع الأمة كلها بلا خلاف منها على الاعتداء بمن ذكرنا في الخلاف والإجماع برهان ضروري كاف في فساد قول من قال لا يدخلون في الإجماع وبيان لتناقضهم
قال أبو محمد وقد فرق جماهير أسلافنا من أصحاب الحديث بين الداعية من أهل الأهواء وغير الداعية فقالوا إن الداعية مطرح وغير الداعية مقبول
وهذا قول في غاية الفساد لأنه تحكم بغير دليل قـ ولأن الداعية أولى بالخير وحسن الظن لأنه ينصر ما يعتقد أنه حق عنده وغير الداعية كاتم للذي يعتقد أنه حق وهذا لا يجوز لأنه مقدم على كتمان الحق أو يكون معتقدا لشيء لم يتيقن أنه حق فذلك أسوأ وأقبح قـ فسقط الفرق المذكور وصح أن الداعية وغير الداعية سواء قـ
وكل من لم يكن مرتكبا لشيء مما أوجع على تحريمه ولم يكن مع ذلك مقدما على ما يعتقده حراما وإن كان مما اختلف فيه وكان معنيا بأحكام القرآن والحديث والإجماع والاختلاف فهو ممن يعتد بقوله في الخلاف ما لم يفارق ما قد صح فيه الإجماع وسواء كان مرجئا أو قدريا أو شيعيا أو إباضيا أو صفريا أو سنيا صاحب / رأي أو قياس أو صاحب حديث
وكل من كان فاسقا سواء كان منا أو من مخالفينا لا يلتفت إليه وإن كان عالما وكان قد نفر ليتفقه لأنه من الفساق الذين أمرنا أن نتثبت في خبرهم

وكل من كان فاضلا مسلما سواء كان منا أو من غيرنا من الفرق إلا أنه لم ينفر ليتفقه في الدين وليس عالما بالكتاب والحديث والإجماع والاختلاف لكنه مشتغل إما بعبادة أو بعلم من العلوم المحمودة كالكلام في أصول الاعتقادات أو القراآت أو النحو أو اللغة أو رواية الحديث فقط دون تفقه في أحكامه أو التواريخ أو الأخيار أو الشعر أو النسب أو الطب أو الحساب أو الهندسة أو الفلسفة أو علم الهيئة أو كان مشغولا بما أبيج له من أمور دنياه ومكاسبه
فليس يعتد به في اختلاف العلماء في الشريعة لأنه ليس ممن أمرنا بقبول نذارته في الأحكام والعبادات لكنه محسن فيما عني به من العلوم المذكورة ويلزم أن يرجع إلى نقله في ذلك العلم الذي عني به أو العلوم التي عني بها إن كان جامعا لعلوم شتى فيحتج بنقله فيما اعترض في خلال أحكام الفقه من لغة أو نحو أو حكم في عيب أو جناية أو حساب دخول شهر أو ما يتعلق بالأحكام من الاعتقادات وفي القسمة للمواريث والغنائم وبين الشركاء وفي تعديل الرواة وتخريجهم وفي أزمان الرواة ولقاء بعضهم بعضا والرق بين أسمائهم وأنسابهم المفرقة بين أشخاصهم
وإذا أقام الدليل من أصول علمه على صحة قوله قبل ولا فرق في كل ذلك بين كل من كان من أهل نحلتنا وبين من كان مخالفا لنا ما لم يخرج من قبة الإسلام وعن حظيرة الإيمان ولم يستحق عند جميع علمائنا الكفر وقد بينا من يكفر ومن لا يكفر في كتابنا الموسوم بكتاب " الفصل " لأنه أملك بهذا المعنى ولله الحمد
ولعلماء الأصول من المتكلمين هنا قول مستغرب عند غيرهم ق ذكره الإمام الغزالي في " المستصفى " حيث قال المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر

فإن قيل لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده قلنا لعله يصدق ولا بد من موافقته كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته والمبتدع ثقة يقبل قوله فإنه ليس يدري أنه فاسق أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر نعم لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الأمة دونه لأن كونهم كل الأمة موقوف على إخراج هذا من الأمة والإخراج من الأمة موقوف على دليل التكفير فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره فيؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه
نعم بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره فلا يلتفت إلى خلافه بعد الإسم لأنه مسبوق بإجماع كل الأمة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الأمة دونه فصار كما لو خالف كافر كافة الأمة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف فإن ذلك لا يلتفت إليه / إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع
فإن قيل لو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجل الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات
قلنا للمسألة صورتان
إحداهما أن يقول الفقهاء نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الأصول ويجب على العلماء تعريفهم فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل حتى إذا ذكر لهم دليله قاطع فإن لم يدركه فلا

يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة
الصورة الثانية أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته فترك الإجماع لمخالفته فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به وكأن الإجماع لم ينتهض في حقه كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لأنه غير منسوب إلى تقصير بخلاف الصورة الأولى فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه
ثم ذكر أن للمرء طريقا لمعرفة ما يكفر به غير أن الخطب في ذلك طويل وأنه قد أشار إلى شيء منه في كتابه " فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة "

الفائدة الحادية عشرة
القرآن هو الإمام المبين الذي لا تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفيه الدليل على سبيل الهدى فيه قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )
قال بعض الأئمة جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه و سلم فهو مما فهمه من القرآن وقال بعض علماء الأصول ما قال النبي صلى الله عليه و سلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد فهمه من فهمه وعمه عنه من عمه وكذا كل ما حكم به أو قضي به وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه وقال سعيد بن جبير ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على وجهه إلا وجدت مصداقة في كتاب الله

وقد اتفقت الفرق المتتمية إلى الإسلام على وجوب الأخذ بالكتاب والسنة ونقل عن الخوارج أنهم لا يأخذون من السنة بما يكون مخالفا ما لظاهر القرآن كأن يكون فيها تخصيص لما فيه من العموم ونحو ذلك وإنما يأخذون منها بما كان فيه بيان لما أجمل في القرآن وذلك كأوقات الصلاة وعدد ركعاتها ونحو ذلك
وقد توقف بعض المحققين في هذا النقل حيث أن الموردين له لم يذكروا أنهم نقلوه من كتبهم على أن الفرق كلها قلما يطمأن لما ينقله بعضهم عن بعض لأن كثيرا منهم قد يغلب عليه التعصب فلا ينقل مذهب المخالفين له على وجهه بل ربما كان جل قصده إظهار الفرق بين الفرق ولو كان بأمر مختلف ولذا قل الاطمئنان لى كثير مما يذكر في كتب الملل والنحل حتى إن بعض من ألفوا فيها مع كونهم في أنفسهم ثقات لما اعتمدوا في بعض المواضع على ما نقله غيرهم ممن كان من أهل التعصب ولم يشعروا بحالهم وقع في كلامهم هناك زلل فينبغي الانتباه لمثل هذا الأمر
وكيف يتوقف عن الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه و سلم مطلقا من يأخذ بالكتاب / المنزل عليه وهو يتلو ما فيه من الآيات الدالة على وجوب اتباعه قال الله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقال تعالى ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقال عز و جل ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي صريحة ظاهرة الدلالة
ومن ثم ترى كل فرقة تدعي أنها آخذة بالكتاب والسنة وأشد الفرق ادعاء

لذلك الظاهرون غير أنهم لم يقتصروا على ذلك بل نسبوا غيرهم من الفرق إلى الإعراض عن السنة ! حتى لم ينج منهم كثير ممن يرجع إليه في علم الحديث وأكثروا من التشنيع ! وأعظم الأسباب قول مخالفيهم بالقياس وهم ينكرونه إنكارا شديدا وأشد القوم إفراطا في ذم المخالفين لهم ابن حزم فإن له فيهم أقوالا تستك منها المسامع !
وقد امتعض من ذلك من ذلك مخالفوهم فوصفوهم بالجمود وجعلوهم في باب الإجماع بمنزلة العوام الذين لا يعتد بخرفهم حتى إن بعضهم لم يستثن من ذلك من ينسب إليه هذا المذهب وهو الإمام المشهور أبو سليمان داود بن علي الأصفهاني المعروف بالظاهري قال بعض علماء الأصول لا يعتد بخلاف من أنكر القياس لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد وإنما هو ممتسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له وهو مذهب الجمهور
وقال بعض الفقهاء إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون وقال صاحب " المفهم " قال جل الفقهاء والأصوليين إنه لا يعتد بخلافهم بل هم جملة العوام وإن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع والحق خلافه
وقد استنكر بعض أهل الأصول القول بعدم الاعتداد بقول داود في الإجماع مع أنه كان في الدرجة العليا في سعة العلم وسداد النظر ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين والقدرة على الاستنباط مع الزهد والورع وقد دونت كتبه وكثرت أتباعه وقد بلغ ما ألفه ثمانية عشر ألف ورقة وكان مولده بالكوفة ومنشأه ببغداد وبها توفي سنة 270
وقد تصدى ابن حزم لبيان من يعذر في الخطأ في هذا الموضع ومن لا يعذر وقد أحببنا أن نورد نبذا مما ذكره ليطلع عليه من يريد الوقف على رأيه في هذه المسألة المهعمة وها هو ذلك

قال في الباب الموفي أربعين من كتاب " الإحكام لأصول الأحكام " وهو آخر الكتاب إن أحكام الشريعة كلها قد بينها الله تعالى بلا خلاف فهي كلها مضمونة الوجود لعامة العلماء وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس فمحال أن يتعذر وجوده على كلهم لأن الله لا يكلفنا ما ليس في وسعنا قال تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقال تعالى ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وتكليف إصابة ما لا سبيل إلى وجود حرج
وقد اتفق العلماء على أن القرآن والسنن مواضع لوجود أحكام النوازل ثم اختلفوا فقالت طائفة لا موضع آلبته لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا لوجوده غير ذلك وقال آخرون بل ها هنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة وهي دليل الخطاب والقياس وقول أكثر / العلماء وعمل أهل المدينة وغير ذلك مما شرحناه وبينا حكمه فيما سلف من كتابنا هذا
وقد كانت في ذلك أقوال لقوم من أهل الكلام قد درست مثل قول بعضهم الواجب أن يقال بأول ما يقع في النفس في أول الفكر وقول بعضهم الواجب أن يقال بالأثقل لأنه خلاف الهوى وقول بعضهم الواجب أن يقال بالأخف لقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )
وهذه أقوال فاسدة يعارض بعضها بعضا وكل ما ألزمنا الله فهو يسر وإن ثقل علينا وكل شريعة نكلف بها فهي خلاف الهوى لأن تركها كان موافقا للهوى وما يقع في أوائل الفكر قد يكون من قبيل الوسواس فلا لازم لنا إلا ما ألزمنا الله تعالى سواء وقع في النفس أو لم يقع وساء كان أخف أو أثقل
وقد أوضحنا فيما سلف البراهين الضرورية على ان الحق لا يكون في قولين مختلفين في حكم واحد في وقت واحد في إنسان واحد في وجه واحد ونتوقف

فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل وما كان بهذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه ولا شك أن عند غيرنا بيان ما جهلناه كما ان عندنا بيان كثير مما جهله غيرنا ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفلة
وإذا قام البرهان عند المرء على صحة قول ما قياما صحيحا فحقه التدين به والفتيا به والعمل به والدعاء إليه والقطع بأنه الحق عند الله عز و جل وليس من هذا الحكم بشهادة العدلين وهما قد يكونان في باطن أمرهما عند الله كاذبين أو مغفلين إذ لم يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما سهدا به لكن كلفنا الحكم بشهادتهما
وقد علمنا أنه لا يمكن أن يخفى الحق في الدين على جميع المسلمين بل لا بد أن يقع طائفة من العلماء على صحة حكمه بيقين لما قدمنا من أن الدين مضمون بيانه ورفع الإشكال عنه بقول الله تعالى ( تبيانا لكل شيء ) وبقوله تعالى ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ولكن قد قال الله تعالى ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا
فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ وهو عند الله تعالى خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى ( تبيانا لكل شيء ) وبقوله تعالى [ لتبين للناس ما نزل إليهم ) ولكن قد قال الله تعالى ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا
فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ وهو عند الله تعالى خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو علموا به مما هم مخطئون فيه وصح أن الجناح إنما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بما يدري أنه ليس حقا أو بما لم يقدره إليه دليل أصلا
ومن جاءه من ربه الهدى وهو البرهان الحق فلا يحل له تركه واتباع ما هويت نفسه وظن أنه الحق وسواء في هذا المقام عليه البرهان في فتياه أو في معتقده في

اعتزاله أو تشيعه أو إرجائه أو شرايته ومن جوز الشك في البرهان وتمادى على مخالفته وقطع بظنه في أنه لعل هنا برهانا آخر يبطل هذا البرهان الذي أقيم عليه فهذا مبطل للحقائق كلها وقوله يقود إلى ان لا يحقق شيئا من الشرائع إلا بالظن فقط
وأما من اعتقد قولا اتباعا لمن نشأ بينهم فهو مذموم صادف الحق أو لم يصادفه لأنه لم يقصده من حيث أمر من اتباع النصوص ومن قال إن هذه الآية أو الخبر قد نسخهما الله عز و جل أو خصهما أو خص منهما أو لم يلزمنا أو أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح فقد قال على الله ما لم يعلم
وليس هو كمن تعلق بنص لم يبلغه ناسخة ولا ما خصه ولا ما زيد / به عليه لأن هذا قد أحسن ولزم ما بلغه وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر فمن لم يتعلق بشيء أصلا بل تحكم في الدين فهو على خطر عظيم جدا ومن قال بهذا ممن نشاهده وهلا ساهيا غير عارف بما اقتحم فيه من الدعوى فهو معذور بجهله ما لم ينبه على خطئه فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامدا فهذا غير معذور لأنه خالف الحق بعد بلوغه إليه
وأما من روي عنه شيء من ذلك ممن سلف ممن كان أن يظن به أنه سمع في ذلك نصا له فيه وهو ممن يظن به أحسن الظن فهو معذور ولا يقين عندنا أنه تحكم في الدين بلا شبهة دخلت عليه
وأما من شاهدناه أو لم نشاهده ممن صح عندنا يقين حاله فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى والقول على الله تعالى بما لا يعلم ومن ادعى في حديث صحيح قد أقر بصحته أو بصحة مثله في إسناده نسخا أو تخصيصا أو تخصيصا منه أو ندبا فكما قلنا في مدعي ذلك في الآيات ولا فرق
ومن تعلق بقول لم يجد فيه مخالفا ولم يقطع بأنه إجماعـ فهذا إن ترك لذلك

عموم نص صحيح أو خصوص نص صحيح فمعذور مأجور مرة وإن خطأ ما لم يوقف على ذلك النص فإن وقف عليه فتمادى على خلافه فهو ممن تمادى على مخالفة أمر الله تعالى
ومن تعلق بدليل الحطاب أو القياس فهو مخطيء يقينا إلا انه معذور مأجور مرة ما لم تقم الحجة عليه في بطلانهما ومن تعلق بالرأي فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور مرة إلا أن تقوم عليه الحجة ببطلانه فإن قامت عليه الحجة ببطلانه فثبت على القول به فهو ممن يحكم في الدين بما لم يأذن به الله تعالى
والحكم بالرأي أضعف من كل ما تقدم وقد تعلق القائلون به بالحديث المنسوب إلى معاذ وهو حديث واه ساقط
وأما الوجوه التي لا نقطع فيها بخطأ مخالفنا بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا ومخالفنا عندنا مخطيء مأجور فثلاثة
الوجه الأول وهو أدق ذلك وأغمضه ان ترد آيتان عامتان أو حديثان صحيحان عامان أو آية عامة وحديث صحيح عام وفي كل واحدة من الآيتين أو في كل واحد من الحديثين أو في كل واحد من الآية والحديث تخصيص لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك كقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن " مع قوله وقد ذكر الإمام " وإذا قرأ فأنصتوا "
الوجه الثاني أن يرد حديثان صحيحان متعارضان أو آيتان متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعارضا متقاوما في أحد النصين منع وفي الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه لا زيادة في أحد النصين منع وفي الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه لا زيادة في أحد النصين على الآخر ولا بيان في أيهما

الناسخ من المنسوخ كالنص الوارد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم " شرب قائما " والنص الوارد أنه عليه الصلاة و السلام " نهى عن الشرب قائما "
فإن من ترك الخبرين معا ورجع إلى الأصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجح أحد الخبرين على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى الآخر وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي أوردناها في باب الكلام في الأخبار / من ديواننا هذا وبيان وجوه الصواب منها من الخطأ فإن هذا أيضا مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدا
وأما نحن فنقول بالأخذ بالزائد شرعا إلا أننا نقول وبالله التوفيق إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان م تركه في مثل ذلك المكان واخذ بالوجه الآخر مقلدا أو مستحسنا فما دام لم يوقف على تناقضه وفساد حكمه فمعذور مأجور حتى إذا وقف على ذلك فتمادى فهو متبع لهواه
الوجه الثالث ان يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه أو بحديث مرسل أو ادعى تجريحا في راوي حديث صحيح إما بتدليس أو نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك فهو معذور مأجور
فإذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث أو رد مرسلا آخر إرساله فقط وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كما في الذي قد رده في مكان آخر ووقف على ذلك - فتمادى - فهو متبع لهواه لإقدامه على الحكم في الدين بما قد سهد لسانه ببطلانه وإن لم نقطع بأنه مخطيء لإمكان أن يكون قد صادف الحق
فإن قال قائل كيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة بخبر ليس من باب الأمر إلا أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني ؟
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن هذا بخلاف الأمر لأن الأوامر قد ترد ناسخا

بعضها بعضا فيلزمه ما بلغه حتى بلغه ما نسخه وليس الخبر كذلك بل يلزمنا تصديق ما بلغنا من ذلك لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك رسوله صلى الله عليه و سلم وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه فهي حق
ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلا وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال " لا تصدقوا أهل الكتاب إذا حدثوكم ولا تكذبوهم فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل " أو كلاما هذا معناه فهذا حكم الأخبار الواردة في الوعظ وغيره وما كان من الأخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو ولزم تكذيب كل ظن خالف نص ذلك الخبر وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
والحديث المذكور أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال " كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الآية " قال الشراح يعني إذا كان ما يخبرونهم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فيكذبوه أو كذبا فيصدقوه فيقعوا في الحرج

الفائدة الثانية عشرة
قد بينا فيما سبق العلوم الشرعية وأقسامها وحد كل واحد منها وذكرنا فيه

أن علم الحديث ينقسم إلى قسمين قسم يتعلق بروايته وقسم يتعلق بدرايته وأن العلماء قسموا كل واحد منهما إلى أقسام سموا كل واحد منها باسم
وقد أحببنا الزيادة هنا على ما ذكر هناك فنقول قال بعض المحدثين تنقسم علوم الحديث الآن إلا ثلاثة أقسام
الأول حفظ متون الحديث ومعرفة غريبها وفقهها وهذا أشرفها
والثاني حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها وهذا كان مهما وقد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه وألف من الكتب فلا فائدة في تحصيل / ما هو حاصل
والثالث جمعه وكتابته وسماعه والبحث عن طرقه وطلب العلو فيه والرحلة إلى البلدان لأجل ذلك والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من العلوم النافعة فضلا عن العمل به الذي هو المطلوب الأصلي إلا أنه لا بأس به لأهل البطالة لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد المتصلة بسيد البشر
وقد اعترض عليه بعض العلماء في قوله وهذا قد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه وألف من الكتب فقال ويقال عليه إن كان التصنيف في ـ هذا ـ الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به فالقول كذلك في الفن الأول فإن فقه الحديث وغربيه لا يحصى كم صنف فيه بل لو ادعى مدع أن التصانيف فيه أكثر من التصانيف في تمييز الرجال والصحيح من السقيم لما كان قوله غير صحيح بل ذلك هو الواقع
فإن كان الاشتغال بالأول مهما فالاشتغال بالثاني أهم لأنه المرقاة إلى الأول فمن أخل به خلط السقيم بالصحيح والمجرح بالمعدل وهو لا يشعر

فالحق أن كلا منهما في علم الحديث مهم ولا شك أن من جمعهما حاز القدح المعلى مع قصوره فيه إن أخل بالثالث ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم الحافظ ومن أحرز الأول وأخل بالثاني كان بعيدا من اسم المحدث عرفا ومن أحرز الثاني وأخل الأول لم يبعد عنه أسم المحدث لكن فيه نقص بالنسبة إلى الأول
ومن جمع الثلاث كان فقيها محدثا كاملا ومن انفرد باثنين منهما كان دونه إلا أن من اقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف لاحظ له في اسم الفقيه كما أن من انفرد بالأول فلاحظ له في اسم المحدث ومن انفرد بالأول والثاني فهل يسمى محدثا ؟ فيه بحث اهـ
فإن قيل هل يمكن الجمع بين قول هذا الناقد ومن نحا نحوه وقول من قال العلوم ثلاثة علم نضج وما احترق وهو علم النحو والأصول وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير وعلم نضج واحترق وهو علم الحديث والفقه ؟
يقال نعم يمكن الجمع بينهما بأن يراد بنضج العلم كونه قد بين بيانا كافيا بحيث لا يحتاج طالبه إلى فرط عناء في تحصيل مطلبه وباحتراقه كونه قد استقصي البحث فيه ثم تجوز به الحد فأفضى ذلك إلى ذكر كثير مما لا تمس إليه الحاجة إما لكونه مما يفرض فرضا أو لنحو ذلك حتى يصير الطالب ـ لكثرة المباحث مع عدم معرفته ما يلزم منها مما لا يلزم ـ حائرا في أمره
وهذا المعنى لا يظهر بتمامة في علم الحديث وإنما يظهر في نحو النحو فإن فيه كثيرا مما لا تمس الحاجة إليه لا سيما الحجج التي لا يدل عليها نقل ولا عقل والأولى إخراج علم الحديث من هذا القسم
وهذا العبارة وإن كانت من قبيل الملح التي تستحسن في المحاضرة ولا يستقصى البحث فيها إلا أن فيها إشارة إلى أمر ينبغي الانتباه إليه وهو أن ما نضج واحترق من العلوم ينبغي السعي في تنقيحه ليسهل على الطالب تناوله

والانتفاع به وما لم ينضج منها السعي في إكمال مباحثه لينضج أو يقرب من النضج
ومن أمعن النظر في هذا الأمر تبين له أن فرط النضج في علم من العلوم لا يفضي إلى احتراقه وإنما يفضي في الغالب إلى إفراد بعض مباحثه بالبحث فإذا اتسع الأمر في مبحث منها صار فنا مستقلا بنفسه وإن كان متفرعا عن غيره وكثيرا ما يكون الفن المتفرع من غيره واسع الأطراف جدا قال بعض المحدثين علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة كل نوع منها علم مستقل لو / أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته
ولما كان الاستقصاء في العلوم غير ممكن حث العلماء طلابها على الاقتصار فيها أو الاقتصاد وقد ذكر في أوائل " الإحياء " ما يتعلق بهذا الأمر فأحببنا إيراد ذلك ـ قال وإن تفرعت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه وصار ذلك ديدنا لك وعادة متيسرة فيك وما أبعد ذلك منك ؟ فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فيها
فابتدئ بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ثم بعلم التفسير وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم والمتشابه وكذلك في السنة ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون الخلاف ثم بأصول الفقه وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه الوقت ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلبا للاستقصاء فإن العلم كثير والعمر قصير
وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه
فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم به كلام العرب وتنطق به ومن

غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع التعمق فيه واقتصر من علم النحو على ما يتعلق بالمتاب والسنة فملا من علم إلا وله اقتصار واقتصاد واستصقاء ونحن نشير إليها في التفسير والحديث والفقه والكلام لتقيس بها غيرها
فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن كما صنفه الواحدي النيسابوري وهو " الوجيز "
والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن كما صنفه من " الوسيط " فيه وما وراء ذلك استصقاء مستغنى عنه فلا مرد له إلى إنتهاء العمر
وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في " الصحيحين " بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث وأما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك ولك أن تعول على كتبهم وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة
وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم مع معرفة الطرق الكثيرة في النقل ومعرفة أحوال الرجال وأسمائهم واوصافهم
وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه " مختصر المزني " وهو الذي رتبناه في " خلاصة المختصر " والاقتصاد يه ما يبلغ ثلاثة أمثاله وهو القدر الذي أوردناه في " الوسيط من المذهب " والاسقصاء ما أوردناه في " البسيط " إلى ما وراء ذلك من المطولات
وأما الكرم فالمقصود فيه حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة عن السلف الصالح لا غير وما وراء ذلك لكشف حقائق الأمور من غير طريقها ومقصود حفظ السنة تحصل رتبة الاقتصار منه بمعتقد وجيز وهو اقدر الذي أوردناه في كتاب " قواعد العقائد " من جملة هذا الكتاب

والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مئة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد " ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم وأما المبتدع بعد ان يعلم من الجدل ولو شاء يسيرا فقلما ينفع معه الكلام 1هـ
ومن فروع علم الحديث علم ناسخ / الحديث ومنسوخه وهو داخل في علم تأويل مختلف الحديث وأفردوه عنه لفرط العناية به فإنهم اتفقوا على أنه من اهم علوم الحديث والمشهور أنه فن وعر المسلك وذهب بعضهم إلى أن الخطب في معرفته سهل وما وقع لكثير ممن ألف فيه إدخال كثير مما ليس منه يه ليس ناشئا من وعورة مسلكه بل لعدم وقوفهم على جميع ما يلزم في معرفته قال بعض المحدثين هذا النوع وإن تعلق بعلم الحديث فهو بأصول الفقه أشبه
ومن فروع علم الحديث معرفة أسباب ورود الحديث وقد صنف فيه بعض العلماء وقد جرت عادة اكثر شراح الحديث التعرض لذلك إذا كان للحديث سبب ووقفوا عليه كما انهم كثيرا ما يتعرضون لغير ذلك مما يهم الطالب معرفته غير أنه ينتقد على كثير منهم أمر وهو أنهم كثيرا ما يدخلون في معنى الحديث مالا يدل عليه الحديث
وقد وقع مثل ذلك لكثير من المفسرين أيضا وقد حذر من ذلك بعض المحققين منهم فقال ينبغي للمفسر أن لا يحمل لفظ الكتاب العزيز ما لا يحتمله لئلا ينسب إلى الله سبحانه أشياء لم يلقها ولا دل لفظ كتابه عليها فالتفسير في الحقيقة إنما هو شرح الفظ المستغلق عند السامع بما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات
هذا وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الاقتصار والاقتصاد في هذا الفن وقد أحببنا أن نختم هذا الكتاب بمقالة متممة لما نحن فيه الآن ومذكرة بما سلف من قبل وهي للعلامة مجد الدين المبارك بن الأثير وقد أوردها في خطبة كتابه " جامع الأصول

لأحاديث الرسول " فقال
وبعد فإن شرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها وقدرها يعظم بعظم محصولها ولا خلاف عند ذوي البصائر أن أجلها ما كانت الفائدة فيه اعم والنفع به أتم والسعادة باقتنائه أدوم والإنسان بتحصيله ألزم كعلم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء ما سلكه أحد إلا اهتدى ولا استمسك به من خاب ولا تجنبه من رشد فما امنع جناب من احتمى بحماه وأرغد مآب من ازدان بحلاه
وعلوم الشريعة على اختلافها تنقسم إلى فرض ونفل والفرض ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ولكل واحد منهما أقسام وأنواع بعصها أصول وبعضها فروع وبعضها مقدمات وبعضها متممات وليس هذا موضع تفصيلها إذ ليس لنا بغرض
إلا أن من أصول فروض الكفايات علم أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وآثار أصحابه رضي الله عنهم التي هي ثاني أدلة الأحكام ومعرفتها أمر شريف وشأن جليل لا يحبط به إلا من هذب نفسه بمتابعة أوامر الشرع ونواهيه وأزاح الزيغ عن قلبه ولسانه
وله أصول وأحكام وقواعد وأوضاع واصطلاحات ذكرها العلماء وشرحها المحدثون والفقهاء يحتاج طالبه إلى معرفتها والوقف عليها بعد تقديم معرفة اللغة والإعراب اللذين هما أصل لمعرفة الحديث وغيره لورود الشريعة المطهرة بلسان العرب
وتبك الأشياء
كالعلم بالرجال وأساميهم وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم
والعلم بصفات الرواة وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم

والعلم بمستند الرواة وكيفية أخذهم الحديث وتقسيم طرقه والعلم بلفظ الرواة وإيرادهم ما سمعوه وإيصاله إلى من يأخذه عنهم وذكر مراتبه والعلم بجواز نقل الحديث بالمعنى / ورواية بعضه والزيادة فيه وإضافة ما ليس منه إليه وانفراد الثقة بزيادة فيه
والعلم بالسند وشرائطه والعالي منه والنازل
والعلم بالحرج والتعديل وجوازهما ووقوعهما وبيان طبقات المجروحين
والعلم بأقسام الصحيح من الحديث والكذب وانقسام الخبر إليهما وإلى الغريب والحسن وغيرهما
والعلم بأخبار المتواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وغير لك مما تواضع عليه أئمة الحديث وهو بينهم متعارف
فمن أتقنها أتى دار هذا العلم من بابها وأحاط بها من جميع جهاتها وبقدر ما يفوته منها تنزل عن الغاية درجته وتنحط عن النهاية رتبته إلا أن معرفة المتواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وإن تعلقت بعلم الحديث فإن المحدث لا يفتقر إليها لأن ذلك من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة المتواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ
وأما المحدث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه فإن

تصدى لما رواه فزيادة في الفضل وكمال في الاختيار جمعنا الله وإياكم معشر الطالبين على قبول الدلائل وألهمنا وإياكم الاقتداء بالسلف الصالح من الأئمة الأوائل وأحلنا وإياكم من العلم النافع أعلى المنازل ووفقنا إياكم للعمل بالعالي من الحديث والنازل إنه سميع الدعاء حقيق بالإجابة

مما لا شك فيه عند الباحثين في أمر الخطوط وتولد بعضها من بعض أن الخط العربي المعروف بالخط الكوفي قد تولد من الخط السرياني المعروف بالخط السرتجيلي ويدل على ذلك أمور
الأول شدة التشابه بين الخطين بحيث يظن الناظر في أول الأمر أنهما من نوع واحد
الثاني أن الحروف المفصولة عما بعدها في الخط السرياني وهي الألف والدال والراء والزاي والواو والتاء والصاد والهاء هي الحروف المفصولة عما بعدها في الخط العربي ويستثنى من ذلك التاء والصاد والهاء فإن العرب التزمت وصلها
الثالث أن العرب كانوا كالسريانيين يعدون حروف الهجاء على نسق أبجد فيقولون أبجد هوز خطي كلمن سعفص قرشت
ولما رأوا أن في لغتهم ستة أحرف لم توجد فيها زادوا لفظتين وهما ثخذ ضظغ
فاجتمع بذلك شمل الحروف العربية
ولما رأى العرب أن هذه الحروف الستة ليس فيها صور في الخط السرياني لعدم الاحتياج فيه إلى ذلك عمدوا إلى كل حرف منها فنظروا إلى الحرف الذي يناسبه فجعلوه على صورته فنشأ من ذلك أن صارت الثاء مع التاء والخاء مع الحاء والذال مع الدال والضاد مع الصاد والظاء مع الطاء والغين مع العين على صورة واحدة
وقد استحسن ذلك منهم بعض المحققين في اللغات السامية ووصفهم بالبراعة حيث قال إن العرب لما رأوا أن صور الحروف في الخط السرياني اثنتان وعشرون والحروف العربية ثمانية وعشرون لم يخترعوا صورا جديدة للحروف المختصة بهم كما فعل بعض الأمم الغربية الشمالية ولا اتخذوا طريقة وضع صورتين أو أكثر لكل حرف من الحروف المختصة بهم كما فعل اللاتين في الفاء والخاء والثاء والراء اليونانيات وكما فعل من اقتفى من الأمم الغربية حين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5