كتاب : توجيه النظر إلى أصول الأثر
المؤلف : طاهر الجزائري الدمشقي

أقول قد عرفت من العبارات الواردة في هذا النوع ما أراد الحاكم بمذاهب المحدثين هنا وقد سئل بعض البارعين في علم الأثر عن مذاهب المحدثين مرادا بذلك المعنى المشهور عند الجمهور فأجاب عما سئل عنه بجواب يوضح حقيقة الحال وغن كان فيه نوع إجمال وقد أحبننا إيراده هنا مع اختصار ما
قال أما البخاري وأبو داود فإمامان في الفقه وكانا من أهل الاجتهاد
وأما مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وأبو يعلى والبزار ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأمثالهم وهم إلى مذاهب أهل الحجاز أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق
وأما أبو داود الطيالسي فأقدم من هؤلاء كلهم من طبقة يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون الواسطي وعبد الرحمن بن مهدي وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الإمام أحمد وهؤلاء كلهم لا يألون جهدا في اتباع السنة غير أن منهم من يميل إلى مذهب العراقيين كوكيع ويحيى بن سعيد ومنهم من يميل إلى مذهب المدنيين كعبد الرحمن بن مهدي
وأما الدارقطني فإنه كان يميل إلى مذهب الشافعي إلا أنه له اجتهاد وكان من أئمة السنة والحديث ولم يكن حاله كحال أحد من كبار المحدثين ممن جاء على أثره فالتزم التقليد في عامة الأقوال إلا في قليل منها مما يعد ويحصر فإن الدارقطني كان أقوى في الاجتهاد منه وكان أفقه وأعلم منه

ذكر النوع الثالث والثلاثين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم مذاكرة الحديث والتمييز بها والمعرفة عند المذاكرة بين الصدوق وغيره فإن المجازف في المذاكرة يجازف في التحديث
ولقد كتبت على جماعة من أصحابنا في المذاكرة أحاديث لم يخرجوا من عهدتها قط وهي مثبتة عندي وكذلك أخبرني أبو علي الحافظ وغيره من مشايخنا أنهم حفظوا على قوم في المذاكرة ما احتجوا بلك على جرحهم ونسأل الله حسن العواقب والسلامة مما نحن فيه بمنة الله وطوله
سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري قال حدثنا أبو يحيى الحماني عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال تذاكروا الحديث فإن الحديث يهيج الحديث
أخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن القاضي قال حدثنا أبي قال حدثنا عبد الله بن هاشم قال حدثنا وكيع قال حدثنا كهمس عن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن علي بن أبي طالب قال تزاوروا وأكثروا ذكر الحديث فإنكم إن لم تفعلوا يندرس الحديث وعن أبي الأحوص عن عبد الله قال تذاكروا الحديث فإن حياته مذاكرته
ذكر النوع الرابع والثلاثين من علوم الحديث
هذا النوع منه معرفة التصحيفات في المتون فقد زلق فيه جماعة من أئمة الحديث سمعت أحمد بن يحيى الذهلي يقول سمعت محمد بن عبد القدوس يقول قصدنا شيخا لنسمع منه وكان في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ادهنوا غبا فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اذهبوا عنا

وأورد الحاكم أمثلة لهذا النوع ونقل أن شيخا أجلس للتحديث فحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يا أبا عمير ما فعل البعير وأنه قال لا تصحب الملائكة رفقة فيها خرس يريد أنه صحف النغير بالبعير وصحف الجرس بالخرس
قال في النهاية وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام قال لأبي عمير أخي أنس يا أبا عمير ما فعل النغير النغير تصغير النغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار وقال وفي الحديث لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس الجرس هو الجلجل الذي يعلق على الدواب قيل إنما كرهه لأنه يدل على أصحابه بصوته وكان عليه الصلاة و السلام يحب أن لا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة وقيل غير ذلك
قال أبو عبد الله الحاكم سمعت أبا منصور بن أبي محمد الفقيه يقول كنت بعدن اليمن يوما وأعرابي يذاكرنا فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى نصب بين يديه شاة فأنكرت ذلك عليه فجاء بجزء فيه كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى نصب بين يديه عنزة فقلت أخطأت إنما هو عنزة أي عصا
قال أبو عبد الله قد ذكرت مثالا يستدل به على تصحيفات كثيرة المتون صحفها قوم لم يكن الحديث بيشقهم نسخة حرفتهم كما قال عبد الله بن المبارك

ذكر النوع الخامس والثلاثين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة تصحيفات الحدثين في الأسانيد سمعت أحمد بن يحيى الذهلي يقول سمعت محمد بن عبدوس يقول

سمعت بعض مشايخنا يقول قرأ علينا شيخ بغداد عن شقبان الثوري عن جلد الجداء عن الجسر
وذكر أمثل كثيرة هذا أغربها فإن الأصل عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن الحسن وكأن خالدا كان مكتوبا بغير ألف على طريقة بعض الكتاب في حذفها في مثله
ثم قال الحاكم وقد جعلت هذه الأحاديث التي ذكرتها مثالا لتصحيفات كثيرة أحث به المتعلم على معرفة أسامي رواة الحديث ا هـ
وقد جعل ابن الصلاح هذا النوع والذي قبله نوعا واحدا غير أنه قسمه إلى قسمين وقد أحببت إيراد كلامه ها هنا على طريق الاختصار
قال النوع الخامس والثلاثين معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها هذا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ والدارقطني منهم وله فيه تصنيف مفيد وروينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه قال ومن يعرى من الخطأ والتصحيف
فمثال التصحيف في الإسناد حديث شعبة عن العوام بن مراجم عن أبي عثمان النهدي عن عثمان بن عفان لتؤدن الحقوق إلى أهلها صحف فيه يحيى بن معين فقال مزاحم بالزاي والحاء فرد عليه وإنما هو ابن مراجم بالراء المهملة والجيم
ومثال التصحيف في المتن ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة إليه بإسناده عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجم في المسجد وإنما هو بالراء احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فيها فصحفه ابن لهيعة لكونه أخذه من كتاب بغير سماع ذكر ذلك مسلم في كتاب التمييز له

وبلغنا عن الدارقطني أن محمد بن المثنى أبا موسى العنزي قال لهم يوما نحن قوم لنا شرف نحن من عنزة قد صلى النبي صلى الله عليه و سلم إلينا يريد ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى إلى عنزة توهم أنه صلى إلى قبلتهم وغنما العنزة ها هنا حربة نصبت بين يديه فصلى إليها
وأظرف من هذا ما رويناه عن الحاكم أبي عبد الله عن أعرابي زعم أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا صلى نصبت بين يديه شاة أي صحفها من عنزة بإسكان النون وعن الدارقطني أيضا أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث أبي أيوب من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فقال فيه شيئا بالشن والياء
فقد انقسم التصحيف إلى قسمين أحدهما في المتن والثاني في الإسناد
وينقسم قسمة أخرى إلى قسمين أحدهما تصحيف البصر كما سبق عن ابن لهيعة وذلك هو الأكثر والثاني تصحيف السمع نحو حديث لعاصم الأحول رواه بعضهم فقال عن واصل الأحدب فذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر كأنه ذهب والله أعلم إلى أن ذلك لا يشتبه من حيث الكتابة وإنما أخطأ فيه سمع من رواه
وينقسم قسمة ثالثة إلى تصحيف اللفظ وهو الأكثر وإلى تصحيف المعنى دون اللفظ كمثل ما سبق عن محمد بن المثنى في الصلاة إلى عنزة
وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفا مجاز وكثير من تصحيف المنقول عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه ونسأل الله التوفيق والعصمة

ذكر النوع السادس والثلاثين من علوم الحديث
هذا النوع من هذا العلم معرفة الإخوة والأخوات من الصحابة والتابعين وأتباعهم وإلى عصرنا هذا وهو علم برأسه عزيز

وقد صنف أبو العباس السراج فيه كتابا لكني أجتهد أن أذكر في هذا الموضع بعد الصدر الأول والثاني ما يستفاد فنبدأ بقوم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع أولادهم منه إلا الذي له ولد واحد
العباس بن عبد المطلب والفضل وعبد الله
وأبو سلمة بن عبد الأسد
وعمر بن أبي سلمة وزينب بنت أبي سلمة
وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وسعيد بن سعد
الجنس الثاني من الصحابة علي وجعفر وعقيل وهذا الجنس يكثر
ومن الأخوة في التابعين محمد بن علي الباقر وعبد الله بن علي وزيد بن علي وعمر بن علي
إخوة تابعيون سالم وعبد الله وحمزة وعبيد الله وزيد وواقد وعبد الرحمن ولد عبد الله بن عمر كلهم تابعيون
أبان وعمرو وسعيد ولد عثمان كلهم تابعيون
عبد الله ومصعب وعروة ولد الزبير تابعيون
كثير وتمام وقثم ولد العباس تابعيون
محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة ولد سيرين تابعيون
وفي التابعين جماعة من المشهورين أخوان محمد وعبد الله ابنا مسلم بن شهاب الزهري
وهب وهما ابنا منبه
علقمة وعبد الجبار ابنا وائل بن حجر

قال أبو عبد الله فهذا الذي ذكرته من الصحابة والتابعين مثال لجماعة لم أذكرهم
ومن أتباع التابعين سمعت أحمد بن العباس المقري غير مرة يقول سمعت أحمد بن موسى بن مجاهد أبو سفيان بن العلاء وأبو حفص بن العلاء ومعاذ بن العلاء وسنبس بن العلاء بن الريان إخوة
وسمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ يقول عبد الملك بن أعين وحمران بن أعين إخوة
قال أبو عبد الله ومما يستفاد في الأخوين عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن قسيط ويزيد بن يزيد بن عبد الله بن قسيط قد روى الواقدي عنهما
قال أبو عبد الله قد ذكرت من الإخوة في بلدان المسلمين بعض ما يستفاد وفيه ما يستغرب ويعز وجوده في كتب المتقدمين فإني أخذت أكثره لفظا عن أئمة الحديث في بلدي وأسفاري وانا أذكر بمشيئة الله ما لا أحسبه ذكره غيري من افخوة في علماء نيسابور

ذكر الإخوة علماء نيسابور على غير ترتيب
حفص بن عبد الرحمن وعبد الله بن عبد الرحمن ومت بن عبد الرحمن وقد حدثوا وأفتوا وأقرؤا
يحيى بن صبيح وعبد الله بن صبيح حدث عنهما أتباع التابعين وخطتهما عندنا مشهورة
بشر بن القاسم ومبشر بن القاسم حدثا عن أتباع التابعين ولبشر رحلة إلى مصر وسماع بن ابن لهيعة وإلى المدينة وسماع من مالك وغيره
أحمد بن حرب العابد وزكريا بن حرب والحسين أفقههم وزكريا أيسرهم وخطتهم التي فيها أعقابهم مشهورة

أحمد ومحمد ابنا النضر بن عبد الوهاب روى عنهما محمد بن إسماعيل البخاري ومحمد أبو العباس السراج محدث بلدنا وقد حدث عن أخويه وحدثا عنه

ذكر النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة جماعة من الصحابة والتابعين ليس لكل واحد منهم إلا راو واحد دكين بن سعيد المزني صحابي لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم
وكذلك الصنابح بن الأعسر ومرداس بن مالك الأسلمي وأبو سهم وأبو حازم والد قيس كلهم صحابيون لا نعلم لهم راويا غير قيس بن أبي حازم
حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله السعدي قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال سمعت الحسن يحدث عن صعصعة عم الفرزدق أنه قدم على النبي صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) فقال يا رسول الله حسبي لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غير هذا
وكذلك عمرو بن تغلب وسعد مولى أبي بكر الصديق وأحمر كلهم صحابيون لم يرو عنهم غير الحسن
فهذا مثال لجماعة من الصحابة ليس لهم إلا راو واحد

وفي الصحابة جماعة لم يرو عنهم إلا أولادهم
منهم المسيب بن حزن القرشي لم يرو عه غير سعيد
ومالك بن نضلة الجشمي لم يرو عنه غير ابنه عوف أبي الأحوص
وسعد بن تميم السكوني لم يرو عنه إلا ابنه بلال بن سعد وفيهم كثرة فجعلت ما ذكرته مثالا لمن لم أذكره
وفي التابعين جماعة ليس لهم إلا الراوي الواحد
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا العباس بن محمد الدوري قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال حدثني محمد بن أبي سفيان بن جارية الثقفي أن يوسف بن الحكم أبا الحجاج أخبره أن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من يرد هوان قريش أهانه الله
قال أبو عبد الله لا نعلم لمحمد بن أبي سفيان وعمر بن أبي سفيان بن جارية الثقفي راويا غير الزهري
وكذلك تفرد الزهري عن نيف وعشرين رجلا من التابعين لم يرو عنهم غيره وذكرهم في هذا الموضع يكثر
وكذلك عمرو بن دينار قد تفرد بالرواية عن جماعة من التابعين

وكذلك يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو إسحاق السبيعي وهشام بن عروة وغيرهم
وقد تفرد مالك بن أنس بالرواية عن مسور بن رفاعة وعن زهاء عشرة من شيوخ المدينة فلم يحدث عن عبد الله بن شداد وعن بضعة عشر شيخا
وقد تفرد شعبة بالرواية عن المفضل بن فضالة عن زهاء ثلاثين شيخا من شيوخه فلم يحدث عنهم غيره
وكذلك كل إمام من أئمة الحديث قد تفرد بالرواية عن شيوخ لم يرو عنهم غيره ا هـ
واعلم أنه قد يوجد في بعض من يذكر تفرد راو بالرواية عنه خلاف في تفرده فلا ينبغي المبادرة إلى الحكم بذلك قبل التتبع الشديد ولذلك قال ابن الصلاح بعد أن نقل عن الحاكم شيئا مما ذكرناه آنفا وأخشى أن يكون الحاكم في تنزيله بعض ما ذكه بالمنزلة التي جعله فيها معتمدا على الحسبان والتوهم وعلى كل حال فهذا من المواضع التي يستكبر فيها الصواب ويستصغر فيها الخطأ
ذكر النوع الثامن والثلاثين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة قبائل الرواة من الصحابة والتابعين وأتباعهم ثم إلى عصرنا هذا
أذكر كل من له نسب في العرب مشهور حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب

قال حدثنا الربيع بن سليمان وسعيد بن عثمان التنوخي قالا حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي قال حدثني أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله اصطفى بني كنانة من ولد إسماعيل واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
قال أبو عبد الله وأنا أذكر في هذا الموضع أحاديث أرويها عن شيوخي فأذكر كل من يرجع من رواتها إلى قبيلة في العرب من الصحابي إلى وقتنا هذا ليستدل بذلك على كيفية معرفة هذا النوع من العلم
أخبرنا عبدان بن يزيد الدقاق بهمذان قال حدثنا محمد بن صالح الأشج قال حدثنا محمد بن إسحاق اللؤلؤي قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن عطية بن قيس عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اخبر تقله
قال أبو عبد الله أبو الدرداء أنصاري وعطية بن قيس كلابي وأبو بكر هو ابن عبد الله بن أبي مريم غساني وبقية بن الوليد يحصبي والباقون من العجم
وحدثنا أبو العباس قال حدثنا أبو عتبة قال حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة وعمرو بن قيس والزبيدي عن الزهر عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سجد سجدتي السهو قبل السلام
قال أبو عبد الله عبد الله بن مالك بن بحينة أنصاري وعبد الرحمن الأعرج من موالي قريش والزهري قرشي والزبيدي قرشي وعمرو بن قيس سكوني

ومحمد بن حمير يحصبي وأبو عتبة وأبو عتبة قرشي وأبو العباس أموي والباقون موالي
وقد مثلت بهذه الأحاديث التي ذكرتها مثالا لمعرفة القبائل وهذا الجنس الأول منه
والجنس الثاني منه معرفة نسخ للعرب وقعت إلى العجم فصاروا رواتها وتفردوا بها حتى لا يقع إلى العرب في بلادهم منها إلا اليسير
ومثال ذلك نسخة لعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن الخباب عن أبي سعيد الخدري تفرد بها عبد الله بن الجراح القهستاني عن القاسم بن عبد الله بن عمر عن عمه عبيد الله
نسخة لمحمد بن زياد القرشي ينفرد بها إبراهيم بن طهمان الخراساني عنه
نسخة لعبد الله بن بريدة الأسلمي ينفرد بها الحسين بن واقد المروزي عنه
نسخ للثوري وغيره من مشايخ العرب ينفرد بها الهياج بن بسطام الهروي عنهم
نسخ كثيرة للعرب ينفرد بها خارجة بن مصعب السرخسي عنهم
نسخ للعرب ينفرد بها أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي عنهم
نسخ للثوري وغيره ينفرد بها أبو مهران بن أبي عمر الرازي عنهم
نسخ للثوري وغيره ينفرد بها نوح بن ميمون المروزي عنهم
نسخة لبهز بن حكيم القشيري ينفرد بها مكي بن إبراهيم البلخي عنه
نسح للعرب ينفرد بها عمرو بن قيس الرازي عنهم
نسخ لمالك بن أنس الأصبحي وسفيان بن سعيد الثوري وشعبة بن الحجاج العتكي وعبد الله بن عمر العمري ينفرد بها الحسين بن الوليد النيسابوري عنهم

قال أبو عبد الله هذا الذي ذكرته مثال للجنس الثاني من معرفة القبائل
الجنس الثالث من هذا النوع معرفة شعوب القبائل قال الله عز و جل ( وجعلناكم شعوبا وقبائل )
قال أبو عبد الله وليعلم طالب هذا العلم أن كل مضري عربي فإن مضر شعبة من العرب وأن كل قرشي مضري فإن قريشا شعبة من مضر وأن كل هاشمي قرشي فإن هاشما شعبة من قريش وان كل علوي هاشمي فمن عرف ما ذكرته في قبيلة المصطفى صلى الله عليه و سلم جعله مثالا لسائر القبائل فيعلم أن المطلبي قرشي وأن العبشمي قرشي وأن التميمي قرشي وأن العدوي قرشي وأن الأموي قرشي الأصل قرييش وهذه شعب
وكذلك النهشليون تميميون والدارميون تميميون والسعديون تميميون والسليطيون تميميون والأهتميون تميميون
وكذلك الخزرجيون أنصاريون والنجاريون أنصاريون والحارثيون أنصاريون والساعديون أنصاريون والسلميون أنصاريون والأوسيون أنصاريون وقال صلى الله عليه و سلم وفي كل دور الأنصار خير
فهذا مثال لمعرفة الشعب من القبائل
الجنس الرابع من هذا النوع معرفة شعب مؤتلفة في اللفظ مختلفة في قبيلتين ومثال ذلك أن أبا يعلى منذرا الثوري التابعي من ثور همدان وأن سعيد بن مسروق الثوري من ثور تميم
محمد بن يحيى بن حبان المازني من مازن بن النجار سلمة بن عمرو المازني من رهط مازن بن الغضوبة

عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي من أسلم خزاعة عطاء بن أبي مروان الأسلمي من أسلم بني جمح
الجنس الخامس من هذا النوع قوم من المحدثين عرفوا بقبائل أخوالهم وأكثرهم من صميم العرب صليبة فغلبت عليهم قبائل الأخوال مثال هذا الجنس
عيسى بن حفص الأنصاري هكذا يقول القعنبي وغيره وهو عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب كانت أمه ميمونة بنت داود الخزرجية فربما يعرف بقبيلة أخواله
يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة المخزومي جده أبو قتادة الحارث بن ربعي من كبار الأنصار غلب عليه قبيلة أخواله فإن أمه حديدة بنت نضيلة المخزومية
وشيخ بلدنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي عرف بقبيلة سليم وهو أزدي صليب وسألت الشيخ الصالح أبا عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي عن السبب فيه فقال كانت امرأته أزدية فعرف بذلك

ذكر النوع التاسع والثلاثين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة أنساب المحدثين من الصحابة وإلى عصرنا هذا وهو نوع كبير من هذه العلوم إلا أن أئمتنا قد كفونا شرحه والكلام فيه
السائب بن العوام أخو الزبير يجمعه ورسول الله قصي وهو السائب بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي
وحكيم بن حزام يلقي رسول الله صلى الله عليه و سلم عند قصي
وممن يجمعهم ورسول الله هذا النسب من التابعين بعد الأشراف من العلوية أولاد العشرة من الصحابة

أخبرنا أحمد بن سليمان الموصلي قال حدثنا علي بن حرب الموصلي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين ومن قتل دون ماله فهو شهيد
هؤلاء كلهم من الزهري قرشيون ذكر النوع الأربعين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة أسامي المحدثين وقد كفانا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري هذا النوع فشفى بتصنيفه فيه وبين ولخص غير أني لم أستجز إخلاء هذا الموضع من هذا الأصل إذ هو نوع كبير من هذا العلم
وقد تهاون بعضهم بمعرفة الأسامي فوقعت له أوهام فمن ذلك أن بعضهم ظن أن عبد الله بن شداد هو غير أبي الوليد فقال في حديث يرويه عن عبد الله بن شداد عن أبي الوليد عن جابر وعبد الله بن شداد هو بنفسه أبو الوليد وعبد الله بن شداد أصله مديني وكنيته أبو الوليد روى عنه أهل الكوفة وكان مع علي يوم النهروان وقد لقي عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر
فهذا جنس من معرفة الأسامي ربما تعذر على جماعة من أهل العلم معرفته
والجنس الثاني منه معرفة أسامي المحدثين منفردة لا يوجد في رواة الحدث بالاسم الواحد منها إلا الواحد مثال ذلك في الصحابة
أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد بن المسيب قال حدثني جدي قال حدثنا ابن أبي مريم قال ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب

قال أخبرني أبو الحصين الأشعري عن أبي ريحانة واسمه شمعون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المشاغبة
قال أبو عبد الله هذا حديث غريب الإسناد والمتن وليس في رواة الحديث شكل غيره
وكذلك النواس بن سمعان ليس في رواة الحديث غيره وهو من أكابر الصحابة
وفي التابعين من هذا الجنس جماعة منهم زر بن حبيش والمعرور بن سويد وحضين بن المنذر بالضاد المعجمة وفي أتباع التابعين والطبقة التي تليهم جماعة من الرواة ليس لأحد منهم سمي

ذكر النوع الحادي والأربعين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة الكنى للصحابة والتابعين وأتباعهم وإلى عصرنا هذا وقد صنف المحدثون فيه كتبا كثيرة وربما يشذ عنهم الشيء بعد الشيء وأنا ذاكر بمشيئة الله هنا ما يستفاد
أبو الحمراء صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم اسمه هلال بن الحارث وكان يكون بحمص قال يحيى بن معين رأيت غلاما من ولده بها
أبو طالب اسمه عبد مناف هكذا ذكره أحمد بن حنبل عن الشافعي وأكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته وأكابر الصحابة كناهم مشهورة مخرجة في الكتب وهذه كنى جماعة من التابعين أخرجتها من سماعاتي
قال علي بن المديني قلت لأبي عبيدة معمر بن المثنى من اول من قضى

بالبصرة قال أبو مريم الحنفي استقضاه أبو موسى الأشعري قال علي واسمه إياس بن صبيح
سمعت محمد بن يعقوب يقول سمعت العباس بن محمد يقول سمعت يحيى بن معين يقول اسم أبي السليل ضريب بن نقير
أخبرنا محمد بن المؤمل قال حدثنا الفضل بن محمد قال حدثنا أحمد بن حنبل قال أبو سالم الجيشاني سيان بن هانئ
وهذه كنى جماعة من أتباع التابعين أخرجتها من سماعاتي إسماعيل بن كثير المكي كنيته أبو هاشم يحيى بن أبي كثير أبو نصر واسم أبي كثير نشيط صفوان بن سليم أبو عبد الله

ذكر النوع الثاني والأربعين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من معرفة هذه العلوم معرفة بلدان رواة الحديث وأوطانهم وهو علم قد زلق فيه جماعة من كبار العلماء بما يشتبه عليهم فيه فأول من يلزمنا من ذلك أن نذكر تفرق الصحابة من المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وانجلاءهم عنها ووقوعهم إلى نواح متفرقة وصبر جماعة من الصحابة بالمدينة لما حثهم المصطفى صلى الله عليه و سلم على المقام بها
ذكر من سكن الكوفة من الصحابة
علي بن أبي طالب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عبد الله بن مسعود خباب بن الأرت سهل بن حنيف سلمان الفارسي حذيفة بن اليمان البراء بن عازب النعمان بن بشير جرير بن عبد الله البجلي عدي بن حاتم الطائي سليمان بن صرد وائل بن حجر سمرة بن جندب خزيمة بن ثابت أبو الطفيل وغيرهم وهؤلاء أكثرهم دفنوا في الكوفة

ذكر من نزل مكة من الصحابة
الحارث بن هشام عكرمة بن أبي جهل عبد الله بن السائب المخزومي قارئ الصحابة بمكة عتاب بن أسيد وشيبة بن عثمان الحجبي وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وغيرهم
ذكر من نزل البصرة من الصحابة
عمران بن حصين أبو بزرة الأسلمي أبو زيد الأنصاري أنس بن مالك وتوفي وهو ابن مئة وسبع سنين وقرة بن إياس المزني وغيرهم
ذكر من نزل مصر من الصحابة
عقبة بن عامر الجهني عمرو بن العاص عبد الله بن عمرو عبد الله بن سعد بن أبي سرح محمية بن جزء عبد الله بن الحارث بن جزء وغيرهم
ذكر من نزل الشام من الصحابة
أبو عبيدة بن الجراح بلال بن رباح عبادة بن الصامت معاذ بن جبل سعد بن عبادة أبو الدرداء شرحبيل بن حسنة خالد بن الوليد عياض بن غنم الفضل بن العباس بن عبد المطلب وهو مدفون بالأردن واثلة بن الأسقع وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس وغيرهم
ذكر من نزل الجزيرة
عدي بن عميرة الكندي ووابصة بن معبد الأسدي وغيرهما
ذكر من نزل خراسان من الصحابة وتوفي بها
بريدة بن حصيب الأسلمي مدفون بمرو أبو برزة الأسلمي عبد الله بن خازم الأسلمي مدفون بنيسابور برستاق جوين

قثم بن العباس مدفون بسمرقند
قال أبو عبد الله وأما مدينة السلامة فإني لا أعلم صحابيا توفي بها إلا أن جماعة من التابعين وأتباع التابعين نزلوها وماتوا بها منهم هشام بن عروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق بن يسار وشيبان بن عبد الرحمن النحوي ولم أستجز إخلاء هذا الموضع من ذكر مدين السلام وشيبان بن عبد الرحمن تعصبا لها إذ هي مدينة العلم وموسم العلماء والأفاضل عمرها الله
فأما ذكر التابعين وأتباعهم فإنه يكثر لكني أذكر الجنس الثاني من معرفة أوطان رواة الأخبار بأحاديث أرويها وأذكر مواطن رواتها لتكون مثالا لسائر الروايات
أخبرنا إبراهيم بن عصمة العدل قال حدثنا أبي قال حدثنا عبدان عبد الله بن عثمان قال حدثنا أبو حمزة عن إبراهيم الصائغ عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
قال أبو عبد الله جابر بن عبد الله من أهل قباء مدني وأبو الزبير مكي وإبراهيم الصائغ وأبو حمزة وعبدان مروزيون وشيخنا وأبوه نيسابوريان فعلى الحافظ إذا أخذ الحديث أن يذكر أوطان رواته
ومن دقيق هذا العلم معرفة قوم من المحدثين تغربوا عن أوطانهم إلى بلاد شاسعة وطال مكثهم به فنسبوا إليها ومنهم الربيع بن أنس بصري من التابعين سكن مرو فنسب إليها وقد ذكره المراوزة في تواريخهم وعيسى بن ماهان أبو جعفر الرازي كوفي نزل الري ومات بها فنسب إليها ويوسف بن عدي كوفي

ورواياته كلها عن الكوفيين سكن مصر فغلب عليه الاشتهار بأهلها وليس له عنهم سماع وهذا مثال يكثر وبالقليل منه يستدل على كثيره من رزق الفهم

ذكر النوع الثالث والأربعين من علوم الحديث
هذا النوع من معرفة هذه العلوم معرفة الموالي وأولاد الموالي من رواة الحديث في الصحابة والتابعين وأتباعهم فقد قدمنا ذكر القبائل وهذا ضد ذلك النوع
ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم
فمنهم شقران كان حبشيا لعبد الرحمن بن عوف فوهبه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتقه وكان ممن شهد دفن النبي صلى الله عليه و سلم وألقى في قبره قطيفة والحديث به مشهور
ومنهم ثوبان وكان من سبي اليمن فأعتقه رسول الله صلى الله عليه و سلم وله حديث كثير
ومنهم رويفع وكان من سبي خيبر
ومنهم زيد بن حارثة من سبي العرب من كلب من عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتقه فقيل زيد ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلت ( ادعوهم لآبائهم ) وكانت امرأته أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فولدت له أسامة بن زيد وأنسة
أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني بإسناده عن ابن شهاب قال في ذكر من شهد بدرا أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل اسمه إبراهيم زوجه

رسول الله صلى الله عليه و سلم مولاته سلمى فولدت له عبيد الله بن أبي رافع كاتتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم مويهبة وله رواية وضمرة وقد أعقب ومهران وله حديث وسفينة وسلمان
حدثنا الحسن بن يعقوب قال حدثنا يحيى بن أبي طالب عن علي بن عاصم بإسناده ذكر أن سلمان كان عبدا فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدين أتاه فأسلم فاتباعه النبي صلى الله عليه و سلم وأعتقه
وقد كان في التابعين وأتباعهم كثير من الأئمة وكانوا يعدون في الموالي
أخبرنا أبو العباس السياري قال حدثنا عيسى بن محمد بن عيسى قال حدثنا العباس بن مصعب قال خرج من مرو أربعة من أولاد العبيد ما منهم أحد إلا وهو إمام عصره عبد الله بن المبارك ومبارك عبد وإبراهيم بن ميمون الصائغ وميمون عبد والحسين بن واقد وواقد عبد وأبو حمزة محمد بن ميمون السكري وميمون عبد
ذكر جماعة منهم رفيع أبو العالية الرياحي كان عبدا لامرأة من بني رياح فأعتقته وهو من كبار التابعين يسار أبو الحسن البصري كان عبدا للربيع بنت النضر عمه أنس بن مالك فأعتقته وأم الحسن خيرة ملاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أيوب بن كيسان السختياني وكيسان مولى لعنزة فعلى المحدث أن يعرف الموالي من رواة حديثه

ذكر النوع الرابع والأربعين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة أعمار المحدثين من ولادتهم إلى وقت وفاتهم
وقد اختلفت الروايات في سن سيدنا المصطفى صلى الله عليه و سلم ولم يختلفوا أنه ولد عام الفيل وأنه بعث وهو ابن أربعين سنة وأنه أقام بالمدينة عشرا

وإنما اختلفوا في مقامه بمكة بعد المبعث فقالوا عشرا وقالوا اثنتي عشرة وقالوا ثلاث عشرة وقالوا خمسة عشرة فهذه نكتة الخلاف في سنه صلى الله عليه و سلم
ثم ذكر وفيات كثير من الرواة طبقة بعد طبقة وقال في آخر هذا النوع قد ذكرت طرفا من هذا النوع يعز وجوده وفيه إن شاء الله كفاية وتركت مشايخ بلدي فإنه مخرج في تاريخ النيسابوريين

ذكر النوع الخامس والأربعين من علوم الحديث
هذا النوع نه معرفة ألقاب المحدثين فإن فيهم جماعة لا يعرفون إلا بها ثم منهم جماعة غلبت عليهم الألقاب وأظهروا الكراهية لها فكان سفيان الثوري إذا روى عن مسلم البطين يجمع يديه ويقول مسلم ولا يقول البطين
قال أبو عبد الله وفي الصحاية جماعة يعرفون بألقاب يطول ذكرهم فمنهم ذو اليدين وذو الشمالين وذو العزة وذو الأصابع وغيرهم وهذه كلها ألقاب ولهؤلاء الصحابة أسام معروفة عند أهل العلم ثم بعد الصحابة في التابعين وأتباعهم من أئمة المسلمين جماعة ذوو ألقاب يعرفون بها
وقال الحاكم في آخر هذا النوع قد ذكرت في ألقاب المتأخرين بعض ما رويته عن شيوخي فأما الألقاب التي تعرف بها الرواة فأكثر من أن يمكن ذكرها في هذا الموضع وأصحاب التواريخ من أئمتنا رضي الله عنهم قد ذكروها فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الموضع
ذكر النوع السادس والأربعين من علوم الحديث
هذا النوع منه معرفة رواية الأقران من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين بعضهم عن بعض

الجنس الول منه الذي سماه بعض مشايخنا المدبج وهو ان يروي قرين عن قريبه ثم يروي ذلك القرين عنه
والجنس الثاني منه غير المدبج ومثاله ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا الحسن بن علي بن عفان قال حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زاتئدة عن زهي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دعا ثلاثا
قال أبو عبد الله زائدة بن قدامة وزهير بن معاوية قرينان إلا أني لا أحفظ لزهير عنه راوية

ذكر النوع السابع والأربعين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع منه معرفة المتشابه في قبائل الرواة وبلدانهم وأساميهم وكناهم وصنائعهم وقوم يروي عنهم إمام واحد فتشبه كناهم وأساميهم لأنها واحدة وقوم تتفق أساميهم وأسامي آبائهم فلا يقع التمييز بينهم إلا بعد المعرفة وهي سبعة أجناس قلما يقف عليها إلا المتبحر في الصنعة فإنها أجناس متفقة في الخط مختلفة في المعاني ومن لم يأخذ هذا العلم من أفواه الحفاظ المبرزين لم يؤمن عليه التصحيف فيها وأنا بمشيئة الله تعالى أستقصي في هذا النوع وأدع ذكر الاستشهاد بالأسانيد تحريا للاختصار
فالجنس الأول من هذه الأجناس معرفة المتشابه في القبائل فمن ذلك القيسيون والعيشيون والعنسيون والعبسيون
فالقيسيون بطن من تميم وهم رهط قيس بن عاصم المنقري وكل قبيلة من

قبائل العرب فيهم زعيم مشهور اسمه قيس ولعقب المسمى قيسا يقال قيسي
والعيشيون بصريون منهم عبد الرحمن بن المبارك وغيره
والعنسيون شاميون منهم عمير بن هانئ وهو تابعي وبلال بن سعد الزاهد وغيره من تابعي أهل الشام
والعبسيون كوفيون منهم عبيد الله بن موسى وغيره
الأزديون والأردنيون
فأما الأزديون فمنهم حماد بن زيد وجرير بن حازم وغيرهما
والأردنيون شاميون وفيهم كثرة
الساميون والشاميون فأما الساميون فولد سامة بن لؤي فيهم صحابيون تابعيون
فأما الشاميون فكثير
الجنس الثاني من هذا النوع معرفة المتشابه في البلدان
البلخي والثلجي البلخيون فيهم كثرة ومنهم جماعة من أتباع التابعين منهم سعدان بن سعيد وغيره ومنهم شقيق بن إبراهيم الزاهد الذي يضرب به المثل في الزهد ومنهم الحسن بن شجاع وكان أحمد بن حنبل يقول ما جاءنا من خراسان أحفظ من الحسن بن شجاع وقد روى عنه البخاري في الصحيح
واما أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي فإنه كثير الحديث كثير التصنيف رأيت عند أبي محمد بن أحمد بن موسى القمي خازن السلطان عن أبيه عن محمد بن شجاع كتاب المناسك في نيف وستين جزءا كبارا دقاقا
الجنس الثالث من هذا النوع المتشابه في الأسامي
شريح وسريج وشريج

شريح بن الحارث القاضي أبو أمية الكندي سمع علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود توفي سنة ثمان وسبعين وهو ابن مئة وسبع وعشرين سنة
سريج بن النعمان الجوهري سمع زهير بن معاوية وفليح بن سليمان روى عنه أحمد بن حنبل
شريح بن حيان روى عنه كعب بن سعيد البخاري الزاهد
عقيل وعقيل
عقيل بن أبي طالب وغيره وعقيل بن خالد الأيلي وغيره
أسيد وأسيد وأسيد أسيد بن صفوان روى عن علي بن أبي طالب قال عبد لاملك بن عمير وقد كان أسيد بن صفوان أدرك النبي صلى الله عليه و سلم
أسيد بن حضير صاحب رسول الله وغيره من المحدثين أسيد بضم الألف وتشديد الياء أسيد بن عمرو بن يثربي الأسيدي
الجنس الرابع من هذا النوع المتشابه في كنى الرواة
أبو إياس وأبو أناس
أبو إياس معاوية بن قرة المزني تابعي في آخرين
وأبو أناس جوية الأسدي من القراء روى عنه نعيم بن يحيى السعيدي أبو نضرة وأبو بصرة

أبو نضرة المنذر بن مالك تابعي راويه أبي سعيد الخدري
وأبو بصرة حميل بن بصرة صحابي
فأما أبو معبد فجماعة منهم صاحب عبد الله بن عباس
وأبو معيد حفص بن غيلان الدمشقي
الجنس الخامس من هذا النوع المتشابه في صناعات الرواة
الجزار والخراز والخزاز والجرار
أما الجزارون فمنهم شيخنا عبد الرحمن بن حمدان الهمذاني سمع المسند من إبراهيم بن نصر الراوي والمسند من هلال بن العلاء الرقي
فأما الخراز فعبد الله بن عون شيخ كبير من أهل العراق وأما أبو عثمان سعيد بن عثمان الخراز فحدثونا عنه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره
وأما الخزازون بالزايين فمنهم أبو عامر صالح بن رستم البصري الخزاز سمع الحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن أبي مليكة
وأما الجرار بالراءين فأبو مسعود الجرار الكوفي عنده عن الشعبي وإبراهيم النخعي
والبقال والنقال
البقال أبو سعد بن المرزبان الكوفي تابعي

والنقال الحارث بن سريج من كبار المحدثين وعدداه في البغداديين وهو الذي حمل كتاب الرسالة من يد الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي
الجنس السادس من هذا النوع قوم من رواة الأخبار يروي عنهم راو واحد فتشتبه الناس كناهم وأساميهم
مثال ذلك أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وأبو إسحاق إسماعيل بن رجاء الزبيدي وأبو إسحاق إبراهيم بن مسلم الهجري قد رووا كلهم عن عبد الله بن أوفى وقد روى عنهم الثوري وشعبة
وينبغي لصاحب الحديث أن يعرف الغالب على روايات كل منهم فيتميز حديث هذا من ذلك والسبيل إلى معرفته أن الثوري وشعبة إذا رويا عن أبي إسحاق السبيعي لا يزيدان على أبي إسحاق فقط والغالب على رواية أبي إسحاق عن الصحابة البراء بن عازب وزيد بن أرقم فإذا روى عن التابعين فإنه يروي عن جماعة تروي عن هؤلاء وإذا رويا عن أبي إسحاق الشيباني فإنهما يذكران الشيباني في أكثر الروايات فإذا لم يذكرا ذلك فالعلامة الصحيحة أن ما يرويان عن أبي إسحاق عن الشعبي هو أبو إسحاق الشيباني دون غيره
وأما الهجري فإن شعبة أكثرهما عنه رواية وأكثر رواة الهجري عن أبي الأحوص الجشمي والسبيعي أيضا كثير الرواية عن أبيب الأحوص فلا يقع التمييز في ذلك إلا بالحفظ والدراية فإن الفرق بين حديث هذا وذاك عن أبي الأحوص يطول شرحه
وأما الزبيدي فإنهما في أكثر الروايات يسميانه ولا يكنيانه إنما يقولان إسماعيل بن رجاء وأكثر روياته عن أبيه وإبراهيم النخعي
وقد روى شعبة عن أبي بشر وأبي بشر وقلما يسمى واحد منهما
وأحدهما أبو بشر بيان بن بشر الأحمسي كوفي تابعي والآخر أبو بشر جعفر بن أبي وحشية وأبو وحشية إياس وهو بصري

والحافظ المميز إذا وجد الحديث عن شعبة عن أبي بشر عن قيس بن أبي حازم أو الشعبي علم انه بيان بن بشر وإذا وجد الحديث عن أبي بشر عن سعيد بن جبير علم أنه جعفر بن أبي وحشية
النوع السابع من هذا النوع قوم تتفق أساميهم وأسامي آبائهم ثم الرواة عنهم من طبقة واحدة من المحدثين فيشتبه التمييز بينهم
ومثال ذلك ربيع بن سليمان وربيع بن سليمان مصريان في عصر واحد أحدهما المرادي صاحب الشافعي والثاني الجيزي أبو أبي عبيد الله محمد بن الربيع الجيزي وإسنادهما متقارب
سمعت الفقيه أبا بكر الأبهري يقول سمعت أبا بكر بن داود يقول لأبي علي النيسابوري الحافظ يا أبا علي إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم من هم فقال أبو علي إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم بن عامر البجلي عن إبراهيم النخعي فقال أحسنت يا أبا علي

ذكر النوع الثامن والأربعين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم وسراياه وعوثه وكتبه إلى ملوك المشركين وما يصح من ذلك وما يشذ وما أبلى كل واحد من الصحابة في تلك الحروب بين يديه ومن ثبت ومن هرب ومن جبن عن القتال ومن كر ومن تدين بنصرته صلى الله عليه و سلم ومن نافق وكيف قسم الغنائم وكيف جعل سلب القتيل بين الاثنين والثلاثة وكيف أقام الحدود في الغلول وهذه أنواع من العلوم لا يستغني عنها عالم
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا الحسن بن علي بن عفان قال حدثنا عمرو بن محمد العنقري قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال كنت إلى جنب زيد بن أرقم في يوم فطر فقلت له كم غزوت مع النبي صلى الله

عليه وسلم قال سبع عشرة فقلت كم غزا النبي صلى الله عليه و سلم قال تسع عشرة
قال أبو عبد الله قد أخبر زيد عن أكثر الأحوال التي شهدها وقال جابر بن عبد الله غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم إحدى وعشرين غزوة
أخبرنا أبو عبد الله محمد بت علي الصنعاني بمكة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهر قال غزا النبي صلى الله عليه و سلم أربع وعشرين غزوة
قال أبو عبد الله وقد ذكر جماعة من الأئمة أن أصح المغازي كتاب موسى بن عقبة عن ابن شهاب فأخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني قال حدثنا جدي قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة قال قال ابن شهاب غزا رسول الله بدرا والكدر ماء لبني سليم ثم غزا غطفان بنخل ثم غزا قريشا وبني سليم بنجران ثم غزا يوم أحد ثم طلب العدو بحمراء الأسد ثم غزا قريشا لموعدهم فأخافوه ثم غزا بني النضير ثم غزا تلقاء نجد يريد محاربا وبني ثعلبة ثم غزوة ذات الرقاع ثم غزوة دومة ثم غزوة الخندق ثم غزوة بني قريظة ثم غزوة بني المصطلق بالمريسيع ثم ذات السلاسل من مشارف الشام ثم غزوة القرد وغزوة الجموح تلقاء أرض بني سليم وغزوة حسمى وغزوة

الطرف وغزوة وادي القرى فهذه غزوات رسول الله بأصح الأسانيد
فأما سرايا رسول الله فكثيرة وقد أخبرنا محمد بن إبراهيم الهاشمي قال حدثنا الحسين بن محمد القباني قال حدثني أحمد بن الحجاج قال حدثنا معاذ بن فضالة أبو زيد قال حدثني هشام عن قتادة أن مغازي رسول الله وسراياه كانت ثلاثا وأربعين
قال أبو عبد الله هكذا كتبناه وأظنه أراد السرايا دون الغزوات فقد ذكرت في كتاب الإكليل على الترتيب بعوث رسول الله وسراياه زيادة على المئة وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله محمد بن نصر السرايا والبعوث دون الحروب بنفسه نيفا وسبعين
قال أبو عبد الله وهذا الموضع لا يسع من ذكر هذا العلم أكثر مما ذكرته
وهذه آداب رسول الله صلى الله عليه و سلم في المغازي التي كان يوصي بها أمراء الأجناد
أخبرنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي ببغداد قال حدثنا محمد بن العباس الكابلي قال حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا ابن أبي زائدة عن عمرو بن قيس عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه
أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث سرية أوصاهم بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين ثم يقول اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا فانيا
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهم أجابوك إليها

فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم فإن هم أجابوك وإلا فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبو فادعهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم وإن أرادوك على أن تعطيهم ذمة الله فلا تعطهم ذمة الله ولكن أعطهم ذممكم وذمم آبائكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم أهون عليكم أن تخفروا ذمم الله ورسوله

ذكر النوع التاسع والأربعين من معرفة علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب
فمنهم من أهل المدينة
محمد بن مسلم الزهري محمد بن المنكدر القرشي ربيعة بن أبي ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي سعد بن إبراهيم الزهري عبد الله بن دينار العدوي مالك بن أنس الأصبحي زيد بن أسلم العدوي زيد بن علي بن الحسين الشهيد جعفر بن محمد الصادق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خارجة بن زيد بن ثابت
ومن أهل مكة

إبراهيم بن ميسرة إسماعيل بن أمية مجاهد بن جبر عمرو بن دينار عبد الملك بن جريج عبد الله بن كثير القارئ قيس بن سعد
ومن أهل مصر
عمرو بن الحارث كثير بن فرقد خالد بن مسافر مخرج في الصحيحين وكان أمير مصر حيوة بن شريح التجيبي
ومن أهل الشام
إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي مكول الفقيه أبو معيد حفص بن غيلان شرحبيل بن مسلم الخولاني أم الدرداء الأنصارية
ومن اهل اليمن
حجر بن قيس المدري الضحاك بن فيروز الديلمي وهب وهمام ومعقل وعمر بنو منبه جماعتهم ثقات ومعقل أعزهم حديثا همام بن نافع الصنعاني عبد الله بن طاوس
ومن أهل اليمامة
ضمضم بن جوس اليمامي هلال بن سراج الحنفي يحيى بن أبي كثير
ومن أهل الكوفة صعصعة بن صوحان العبدي كميل بن زياد النخعي عامر بن شراحيل الشعبي سعيد بن جبير الأسدي إبراهيم النخعي أبو إسحاق السبيعي مسلم بن أبي عمران البطين سليمان بن مهران الكاهلي الأعمش الأسدي مالك بن مغول البجلي سفيان الثوري عمر بن سعيد الثوري أخوه علي بن صالح بن حي الحسن بن صالح بن حي

ومن أهل الجزيرة ميمون بن مهران عمرو بن ميمون بن مهران سابق بن عبد الله البربري رقي زيد بن أبي أنيسة غالب بت عبيد الله الجزري
ومن أهل البصرة
أيوب بن أبي تميمة السختياني معاوية بن قرة المزني إياس بن معاوية بن قرة أبو عمرو زبان بن العلاء بن عمار واخواه شعبة بن الحجاج قتادة بن دعامة السدوسي ميمون بن سياه
ومن اهل واسط
أبو هاشم يحيى بن دينار الرماني خلف بن حوشب طلاب بن حوشب يوسف بن حوشب أصبغ بن يزيد الوراق وكان يكتب المصاحف
ومن أهل خراسان
محمد بن زياد قاضي مرو وعنده عن سعيد بن جبير وغيره أبو حريز عبد الله بن الحسين قاضي سجستان إبراهيم بن أدهم الزاهد من أهل بلخ عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب الدولة قتيبة بن مسلم اتلأمير نصر بن سيار الأمير إسحاق بن وهب البخاري تابعي

ذكر النوع الخمسين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم جمع الأبواب التي يجمعها أصحاب الحديث وطلب الفائت منها والمذاكرة بها فقد حدثني محمد بن يعقوب بن إسماعيل الحافظ قال حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال
وقف المأمون يوما للآذان ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه غريب بيده محبرة فقال يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به فقال المأمون أيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر فيه شيئا فما زال المأمون يقول حدثنا هشيم وحدثنا

حجاج بن محمد وحدثنا فلان حتى ذكر الباب ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث أعطوه ثلاثة دراهم
قال عبد الله قد روينا عن جماعة من أئمة الحديث أنهم استحبوا أن يبدأ الحديثي بجمع بابين الأعمال بالنيات ونضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأنا ذاكر بمشيئة الله تعالى بعد البابين الأبواب التي جمعتها وذاكرت جماعة من أئمة الحديث ببعضها
فمن هذه الأبواب ما مدخلها في كتاب الإيمان مثال ذلك سؤال عبد الله بن مسعود أي الذنب أعظم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده الدين النصيحة المستشار مؤتمن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين من حسن إسلام المرء الأرواح جنود مجندة الحلال بين والحرام بين المعراج ستكون هنات وهنات قصة الخوارج لا تحاسدوا أخبار الرؤية أنزل القرآن على سبعة أحرف لا يجمع الله أمتي على ضلالة
ومن هذه الأبواب ما مدخلها في كتاب الطهارة مثالها لا يقبل الله صلاة بغير طهور المسح على الخفين الغسل يوم الجمعة إذا ولغ الكلب في الإناء
ومن هذه الأبواب أبواب في كتاب الصلاة رفع اليدين لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الصلاة لأول وقتها ولوقتها سبعة يظلهم الله في ظله أخبار الوتر صلاة الليل مثنى مثنى إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة التكبير في العيدين يوم القوم أقرؤهم لكتاب الله صلاة القاعد طرق التشهد
ومن التفاريق في سائر الكتب اطلبوا الخير لا تذهب الأيام والليالي قصة الغار من كنت مولاه صوموا لرؤيته إن مما أدرك الناس ما عاب طعاما قط القضاء باليمين مع الشاهد أفضلكم من تعلم القرآن لأعطين الراية قصة المخدع من كتم علما قبض العلم مسند أبي العشراء الدارمي إذا أحب الله

عبدا حديث البراء أسلمت نفسي إليك قصة الطير قصة المفطر في رمضان أنت مني بمنزلة هارون من موسى السفر من العذاب طرق الحسن عن صعصعة كان إذا بعث سرية
من كذب علي متعمدا اللهم بارك لأمتي في بكورها إذا أتاكم كريم قوم تقتل عمارا الفئة الباغية ذكاة الجنين خطبة عمر بالجابية شر الناس من يخاف لسانه ليس الخبر كالمعاينة ليس بالكذاب من أصلح بين الناس إن أول ما نبدأ به أن نصلي ثم نذبح من صام رمضان وأتبعه بست الأيم أحق بنفسها من حفظ على أمتي أربعين حديثا
الكمأة من المن نعم الإدام الخل الخيل معقود في نواصيها الخير من قتل دون ماله فهو شهيد كل مسكر حرام إن من الشعر لحكمة قصة العرنيين صلاة في مسجدي هذا اختلاف الأخبار في تزويج ميمونة بنت الحارث الناس كإبل مئة دعوة ذي النون إن الله يحب ان تقبل رخصة أشد الناس بلاء الأنبياء إنه ليغان على قلبي المؤمن غر كريم

ذكر النوع الحادي والخمسين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة جماعة من الرواة لم يحتج بحديثهم في الصحيح ولم يسقطوا وهذا علم حسن فإن في رواة الأخبار جماعة بهذه الصفة
ومثال ذلك في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة لم يصح الطريق إليه من جهة الناقلين فلم يخرج له في الصحيحين وكذلك عتبة بن غزوان وأبو كبشة مولى رسول الله والأرقم بن أبي الأرقم وقدامة بن مظعون والسائب بن مظعون وشجاع بن وهب الأسدي وأبو حذيفة بن عتبة بن

ربيعة وعباد بن بشر وسلامة بن وقش في جماعة من الصحابة
إلا أني ذكرت هؤلاء رضي الله عنهم فإنهم من المهاجرين الذين شهدوا بدرا وليس لهم في الصحيح رواية إذ لم يصح إليهم الطريق ولهم ذكر في الصحيح من روايات غيرهم من الصحابة مثل قوله صلى الله عليه و سلم لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما يشبه هذا
ومثال ذلك في التابعين محمدب ن طلحة بن عبيد الله محمد بن أبي بن كعب السائب بن خلاد بن السائب محمد بن أسامة بن زيد عمارة بن خزيمة بن ثابت سعيد بن سعد بن عبادة عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله إسماعيل بن زيد بن ثابت هؤلاء التابعون عن علو محالهم في التابعين وعلو محال آبائهم في الصحابة ليس في الصحيح ذكر لفساد الطريق إليهم لا لجرح فيهم وفي التابعين جماعة من هذه الطبقة
ومثال ذلك في أتباع التابعين إبراهيم بن مسلم الهجري عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي قيس بن الربيع الأسدي
ومثال ذلك في أتباع الأتباع مطلب بن زياد حماد بن شعيب سعيد بن زيد أخو حماد يعقوب بن إسحاق الحضرمي عائذ بن حبيب محمد بن ربيعة الكلابي إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني
ومثال ذلك في الطبقة الخامسة من المحدثين عون بن عمارة الغبري والقاسم بن الحكم العرني
ومثال ذلك في الطبقة السادسة من المحدثين أحمد بن عبد الجبار العطاردي الحارث بن أبي أسامة أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي إسماعيل بن الفضل

ومن أهل الكوفة
علقمة بن قيس النخعي وعامر بن شراحيل الشعبي والحسن بن صالح بن حي
ومن أهل البصرة
قتادة بن دعامة السدوسي وأبو العالية زياد بن فيروز وكهمس بن الحسن الهلالي وسعيد بن أبي هروبة في آخرين بعدهم
ومن أهل مصر
عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم بن أعين وجماعة من المالكيين بعدهم وكذلك جماعة من أهل الشام وخراسان
قال أبو عبد الله وقد رأيت أن جماعة من مشايخي يرون العرض سماعا والحجة عندهم في ذلك ما حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا الليث بن سعد قال حدثني سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله عن أنس بن مالك قال
بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل فذكر الحديث قال يا محمد إني سائلك فمشتد عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك فقال سل ما بدا لك فقال الرجل نشدتك بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم نعم
قال أبو عبد الله احتج شيخ الصنعة أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري في كتاب العلم من الجامع الصحيح بهذا الحديث في باب العرض على المحدث
أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني قال حدثنا جدي

قال سمعت إسماعيل بن أبي أويس سمعت خالي مالك بن أنس يقول قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق التقط لي مئة حديث من حديث ابن شهاب حتى رويها عنك عنه قال مالك فكتبتها ثم بعثت بها إليه فقيل لمالك أسمعها منك قال هو أفقه من ذلك
أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني مطرف بن عبد الله قال صحبت مالكا سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ الموطأ على أحد وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول لا يجزيه إلا السماع ويقول كيف لا يقنعك أن تأخذه عرضا والمحدث أخذه عرضا ولم لا تجوز لنفسك ان تعرض أنت كما عرض هو
حدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا ابن أبي أويس قال سئل مالك عن حديثه أسماع هو فقال منه سماع ومنه عرض وليس العرض بأدنى عندنا من السماع
قال أبو عبد الله قد ذكرنا مذهب جماعة من الأئمة في العرض فإنهم أجازوه على الشرائط التي قدمنا ذكرها ولو عاينوا ما عايناه من محدثي زماننا لما أجازوه فإن المحدث إذ لم يعرف ما في كتابه كيف يعرض عليه
وأما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإن فيهم من لم ير العرض سماعا واختلفوا أيضا في القراءة على المحدث أهو إخبار أم لا وبه قال الشافعي المطلبي بالحجاز والأوزاعي بالشام والبويطي والمزني بمصر وأبو حنيفة وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل بالعراق وعبد الله بن المبارك ويحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه بالمشرق وعليه عهدنا أئمتنا وبه قالوا وإليه ذهبوا وإليه نذهب وبه نقول إن العرض ليس بسماع وغن القراءة على المحدث إخبار والحجة عندهم في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها وقوله صلى الله عليه و سلم تسمعون ويسمع

منكم في أخبار كثيرة
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول صلى الله عليه و سلم قال نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها فوعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه
قال الشافعي فلما ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها إلى من يؤديها والأمر واحد دل على انه صلى الله عليه و سلم لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدي إليه لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا
قال أبو عبد الله والذي أختاره في الرواية وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظا وليس معه أحد حدثني فلان وما يأخذه من المحدث لفظا مع غيره حدثنا فلان وما قرأ على المحدث بنفسه أخبرني فلان وما قرئ على المحدث فأجاز وهو حاضر أخبرنا فلان وما عرض على المحدث فأجاز له روايته شفاها يقول فيه أنبأني فلان وما كتب إليه المحدث من مدينة ولم يشافهه بالإجازة يقول كتب إلي فلان
سمعت أبا بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري يقول سألت أبا شعيب الحراني الإجازة لأصحابي بالري فقال أبو شعيب حدثنا جدي قال حدثنا موسى بن أعين عن شعبة قال كتب إلي المنصور بحديث ثم لقيته بعد ذلك فسألته عن ذلك الحديث فقال لي أليس قد حدثتك به إذا كتبت به إليك فقد حدثتك
حدثنا الزبير بن عبد الواحد قال أخبرنا أبو تراب محمد بن سهل قال حدثنا أحمد بن داود بن قطن بن كثير قال حدثنا محمد بن معاوية قال سمعت

بقية يقول لقيتني شعبة ببغداد فقال لي لو لم ألقك لمت معك كتاب بجير بن سعد قال قلت لا قال إذا رجعت فاكتبه واختمه ووجه به إلي
هذا آخر ما انتقيناه من كتاب المعرفة في أصول الحديث للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري وقد أوردنا هنا جل ما أورده فيه من الفوائد المهمة في كل نوع من النواع واقتصرنا في المواضع التي تعددت فيها الأمثلة على أقل ما يمكن الاقتصار عليه رعاية لحال المبتدئ الذي توخينا أن يحصل له من مطالعة كتابنا هذا خط وافر من المعرفة بهذا الفن وفقنا الله سبحانه لما يحب ويرضى
وقد وقع إلينا حين الانتقاء نسخة كتبت في القاهرة في دار الحديث الكاملية سنة 634 وقرئت في قلعة الجبل على بعض أهل الأثر وهي منقولة من نسخة الحافظ المنذري المثبت عليها صورة سماعه في آخر كل جزء من اجزائها الخمسة من الشيخ الإمام أبي نزار ربيعة بن الحسن اليمني الحضرمي سنة 602
وهذا مثال جميع الجزء الأول من علم الحديث على الشيخ الإمام العالم أبي نزار ربيعة بن الحسن بن علي بن يحيى الحضرمي اليمني بحق سماعه له وقراءته على أبي المطهر الصيدلاني بإجازته من ابن خلف عن مصنفه بقراءة الشريف أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم الإدريسي الفقيه المحدث أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري وملهم بن فتوح بن بشارة الصوفي وعبد الباقي بن أبي محمد بن علي الخشاب وبركات بن ظافر بن عساكر وصح بمسجد المسمع بمصر يوم السبت من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وست مئة

وهذا مثال ما كتب في آخر الجزء الثاني بلغ السماع لجميع هذا الجزء على الشيخ الإمام العلام الزاهد أبي نزار ربيعة بن الحسن بن علي بن عبد الله بن يحيى بن أبي الشجاع الحضرمي بحق قراءته له على أبي المطهر القاسم بن الفضل بن عبد الواحد الصيدلاني بإجازته من الأديب أبي بكر أحمد بن أبي الحسن بن خلف الشيرازي بحق سماعه من الحاكم أبي عبد الله مصنفه صاحبه الفقيه المحدث عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري واختيار الدين أبو المناقب ملهم بن فتوح بن بشارة الصوفي وبركات بن ظافر بن عساكر بن عبد الله الأنصاري في نهار يوم السبت السادس من ربيع الآخر سنة اثنتين وست مئة والحمد لله حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليما ا هـ
واعلم أن طرق نقل الحديث وتحمله من أهم مباحث هذا الفن وقد تعرض لها علماء الأصول في كتبهم وقد كتب فيها ابن الصلاح ما يشفي الغليل ولما كان ما ذكر في هذا النوع وهو النوع الثاني والخمسون الذي ختم به الحاكم كتابه داخلا فيها وكان هذا المبحث سهل المأخذ أحببنا أن لا تعرض له كما لم نتعرض في كثير من المواضع لأمثاله وغنما اكتفينا بدلالة الطالب على منزلته من الفن كي لا يزهد فيه وعلى مظان البحث عنه كي يرجع إليها عند حصول الداعي إلى ذلك
غير أن رأينا نذكر هنا شيئا مما قيل في الإجازة لفرط ولوع كثير من المتأخرين بها فنقول من أقسام الأخذ والتحمل الإجازة وهي دون السماع وهي تسعة أنواع
النوع الأول أن يجيز معينا لمعين كان يقول أجزت لك أو لكم الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي ونحو ذلك هذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة وقد اختلف فيها فقال بعض العلماء بجوازها وقال بعضهم بعدم جوازها

قال ابن الصلاح وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جزوازها ولا خالف فيها أهل الظاهر وإنما خلافهم في غير هذا النوع وزاد القاضي أبو الوليد الباجي فأطلق نفي الخلاف وقال لا خلاف في جواز الرواية بالإجاة من سلف الأمة وخلفها وادعى الإجماع من غير تفصيل وحكى الخلاف في العمل بها
قلت هذا باطل فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعا من أهل الحديث والفقهاء والأصوليين وذلك إحدى الروايتين عن الشافعي روي عن صاحبه الربيع بن سليمان قال كان لاشافعي لا يرى الإجازة في الحديث قال الربيع وأنا أخالف الشافعي في هذا
وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين منهم القاضيان حسين بن محمد المروروذي وأبو الحسن الماوردي في كتابه الحاوي وعزاه إلى مذهب الشافعي وقالا جميعا لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة وروي هذا الكلام عن شعبة وغيره
وممن أبطلها من أهل الحديث الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي وأبو محمد عبد الله بن محمد الأصفهاني الملقب بأبي الشيخ والحافظ أبو نصر الوائلي السجزي وحكى أبو نصر فسادها عمن لقيه قال أبو نصر جماعة من أهل العلم يقولون قول المحدث قد أجزت لك أن تروي عني تقديره قد أجزت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية من لم يسمع
قلت ويشبه هذا ما حكاه أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي أحد من أبطل الإجازة من الشافعية عن أبي طاهر الدباس أحد أئمة الحنفية قال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكانه يقول أجزت لك أن تكذب علي
ثم إن الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرواية بها وفي الاحتجاج لذلك غموض

ويتجه أن نقول إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته وقد أخبره ها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراءة على الشيخ كما سبق وغنما الغرض حصول الإفهام والفهم وذلك يحصل بالإجازة المفهمة والله أعلم
ثم إنه كما تجوز الرواية بالإجازة يجب العمل بالمروي بها خلافا لمن قال من أهل الظاهر ومن تابعهم إنه لا يحب العمل به وإنه جار مجرى المرسل وهذا باطل لأنه ليس في الإجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به والله اعلم
النوع الثاني أن يعين الشخص المجاز له دون الكتاب المجاز كأن يقول أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي أو جميع مروياتي وما أشبه ذلك
والخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر والجمهور من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويز الرواية بها أيضا وعلى إيجاب العمل بما يوي بها بشرطه
النوع الثالث أن يجيز الغير بوصف العموم كأن يقول أجزت لمن أدرك زماني وما أشبه ذلك
وهذا نوع تكلم فيه المتأخرون ممن جوز الإجازة واختلفوا في جوازه كان ذلك مقيدا بوصف خاص أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب كان يقول أجزت لطلبة العلم بمدينة كذا كذا
قال ابن الصلاح ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدي به انه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة المتاخرة الذين سوغوها والإجازة في أصلها ضعف وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله
النوع الرابع الإجازة للمجهول أو بالمجهول كأن يقول أجزت لمحمد بن

خالد الحموي وهناك جماعة مشتركون في هذا الاسم وهذه النسبة أو أجزت لفلان أن يروي عني بعض مسموعاتي أو كتاب السنن وهو يروي جملة من كتب السنن المعروفة
وهذه الإجازة فاسدة لا فائدة لها وليس من هذا القبيل ما إذا أجاز لجماعة مسمين معينين بأنسابهم والمجيز غير عارف بهم فهذا غير قادح في صحة الإجازة كما لا يقدح في صحة السماع عدم معرفته بمن يحضر مجلسه للسماع منه
النوع الخامس الإجازة المعلقة بالشرط كأن يقول أجزت لفلان إن شاء فلان وقد اختلف فيها فقال قوم لا تجوز لأن ما يفسد بالجهالة يفسد بالتعليق وقال قوم هي جائزة وقد وقع ذلك من بعض أئمة الحديث فقد وجد بخط أبي بكر بن أبي خيثمة صاحب يحيى بن معين أجزت لأبي زكريا يحية بن مسلمة أن يروي عني ما أحب من تاريخي الذي سمعه مني أبو محمد القاسم بن الأصبغ ومحمد بن عبد الأعلى كما سمعاه مني وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا وكتبه أحمد بن أبي خيثمة بيده في شوال سنة ست وسبعين ومئتن
وممن وقع منهم ذلك حفيد يعقوب بن شيبة فقد قال في إجازة له يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة قد أجزت لعمر بن أحمد الخلال وابنه عبد الرحمن بن عمر ولختنه علي بن الحسن جميع ما فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره ولكل من أحب عمر فليرووه عني إن شاؤوا وكتبت لهم ذلك بخطي في صفر سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة
ولو قال المجيز أجزت لمن يشاء فلان أو نحو فالأظهر البطلان لأن فيها جهالة وتعليقا ولو قال أجزت لمن يشاء الإجازة فهو مثل أجزت لمن يشاء فلان بل هذا أظهر في البطلان لأنها أشد في الجهالة والانتشار من حيث إنها علقت بمشيئة من لا يحصر عددهم

ولو قال أجزت لك كذا إن شئت روايته عني أو اجزت لك كذا إن شئت أن تروي عني أو أجزت لفلان إن شاء الرواية عني فالأظهر الأقوى أن ذلك إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق ولم يبق سوى صيغته وهو تصريح بمقتضى الحال ومقتضى الحال في كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الإطلاق وحكاية للحال لا تعليقا في الحقيقة
النوع السادس الإجازة للمعدوم وهي على قسمني أحدهما أن يعطف المعدوم على الموجود كأن يقول أجزت لفلان ولمن يولد له والثاني أن يخصص المعدوم بالإجازة من غير عطف كأن يقول أجزت لفلان ولمن يولد له والثاني أن يخصص المعدوم بالإجازة من غير عطف كان يقول أجزت لمن يولد لفلان وهو أضعف من القسم الأول أقرب إلى الجواز
وحكى ابن الصلاح عن أبي نصر بن الصباغ أنه بين بطلانها قال ابن الصلاح وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره لأن الأجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة له ول قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح ذلك أيضا للمعدوم وهذا يوجب أيضا بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه
النوع السابع الإجازة لمن ليس بأهل حين الإجازة للأداء والأخذ عنه وذلك يشمل صورا لم يذكر ابن الصلاح منها إلا الصبي ولم يفرده بنوع بل ذكره في آخر الكلام على الإجازة للمعدوم
والإجازة للصبي إن كان مميزا فهي صحيحة كسماعه وقد نقل خلاف ضعيف في صحة سماعه غير أنه لا يعتد به وغن كان تغير مميز فقد اختلف فيه فقال بعضهم لا تصح الإجازة له كما يصح السماع له وقال بعضهم تصح الإجازة له وقال بذلك الخطيب واحتج له بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز له أن تيروي عنه والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل وقال وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم وحال تمييزهم

ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودا في الحال
وأما الإجازة للكافر فقال الحافظ العراقي لم أجد فيها نقلا وقد تقدم نقلا وقد تقدم ان سماعه صحيح ولم أجد عن أحد من المتقدمين والمتأخرين الإجازة للكافر إلا أن شخصا من الأطباء ممن رأيته بدمشق ولم أسمع عليه يقال له محمد بن عبد السيد بن الديان سمع الحديث في حال يهوديته على أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري وكتب اسمه في طبقة السماع مع السامعين وأجاز ابن عبد المؤمن الصوري وكتب اسمه في طبقة السماع والإجازة بحضور الحافظ أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي وبعض السماع بقراءته وذلك في غير ما حديث منها جزء ابن نمير فلولا أن المزي يرى جواز ذلك ما أقر عليه ثم هدى الله ابن عبد السيد المذكور للإسلام وحدث وسمع منه أصحابنا ا هـ واما الإجازة للفاسق والمبتدع فهي أولى بالجواز من الإجازة للكافر ويؤديان إذا زال المانع
النوع الثامن إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله بعد ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك وقد اختلف فيها فقال بعضهم هي غر صحيحة وقال بعضهم هي صحيحة
قال ابن الصلاح ينبغي أن يبني هذا علة ان الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة أو هي إذن فإن جعلت في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازة إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه وغن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح الإذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الموكل بعد مثل ان يوكل في بيع العبد الذي يريد ان يشتريه وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي والصحيح بطلان هذه الإجازة
وعلى هذا يتعين على من يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا أن

يبحث حتى يعلم ان ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ هذه الإجازة
وأما إذا قال أجزت لك ما صح وما يصح عندك من مسوعاتي فهذا ليس من هذا القبيل وقد فعله الدارقطني وغيره وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة انه سمعه قبل الإجازة ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله ما صح عندك ولم يقل وما يصح لأن المراد أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية
النوع التاسع إجازة الجاز كأن يقول أجزت لك مجازاتي أو أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته
وقد منع من ذلك بعضهم وصنف فيه جزءا وذلك لأن الإجازة ضعيفة فيشتد ضعفها باجتماع إجازتين
والمشهور الذي عليه العمل أن ذلك جائز وقد حكى الخطيب تجويز ذلك عن الدارقطني وأبي العباس بن عقدة وغيرهما وقد فعله الحاكم في تاريخه وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة وربما تابع بين ثلاث منها
وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه لشيخه ومقتضاها حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ لشيخه أجزت له ما صح عنده من سماعاتي فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه حتى يستبين انه مما كان قد صح عند شيخه كونه من مسموعات شيخه والذي أجازه على ذلك الوجه ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن عملا بلفظه وتقييده ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره
هذه أنواع الإجازة المجردة وبقي نوع آخر وهي الإجازة المقرونة بالمناولة وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق ولها صور أعلاها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعه مقابلا به ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يملكه إياه أو يقول له خذه وانسخه وقابل به ثم رده إلي أو نحو ذلك
وقد ذكر البخاري الحجة على صحة المناولة في كتاب العلم في باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان حيث قال واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه و سلم حيث كتب لأمير السرية كتابا وقال لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا فلا بلغ ذلك المكان قرأه على الناس أخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه و سلم
حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث بكتابه رجلا وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه مزقه فحسبت أن ابن المسيب قال فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمزقوا كل ممزق
ووجه الدلالة في الأول أن النبي صلى الله عليه و سلم ناول أمير السرية كتابا بدون أن يقرأه عليه فجاز له الإخبار بما في الكتاب بمجرد المناولة ووجه الدلالة في الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم ناول رسوله الكتاب ولم يقرأ عليه فجاز أن يسند ما فيه إليه ويقول هذا كتاب رسول الله وتقوم الحجة به على المبعوث إليه كما لو شافههم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وينبني على ذلك أن الشيخ إذا ناول الطالب كتابا جاز له أن يروي عنه ما فيه
هذا والمناولة المقرونة بالإجازة حالة محل السماع عند جماعة من أئمة

الحديث وقد غلا بعضهم فجعلها أرفع من السماع لأن الثقة بكتاب الشيخ مع إذنه فوق الثقة بالسماع منه وأثبت لما يدخل من الوهم عل السامع والمسمع والصحيح أنها منحطة عن السماع من الشيخ والقراءة عليه
وأما المناولة المجردة عن الإجازة كأن يناوله الكتاب مقتصرا على قوله هذا من حديثي أو سماعي ولا يقول اروه عني ولا أجزت لك روايته عني ونحو ذلك فهذه رواية مختلة لا تجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم أنهم صححوها وأجازوا الرواية بها
والمشهور في فعل الإجازة أن يعدي باللام فيقال أجزت لفلان وأجاز بعضهم أن يقال أجزت فلانا قال ابن الصلاح روينا عن أبي الحسن أحمد بن فارس الأديب المصنف رحمه الله أنه قال قال معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث يقال منه استجزت فلانا فأجازني إذا أسقاك ماء لأرضك او ماشيتك كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه
قلت فللمجيز على هذا أن يقول أجزت فلانا مسموعاتي أو مروياتي فيعديه بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية أو نحو ذلك ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ والإذن والإباحة وذلك هو المعروف فيقول أجزت لفلان رواية مسموعاتي مثلا ومن يقول منهم أجزت له مسموعاتي فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره ا هـ
وما رواه ابن الصلاح عن ابن فارس هو مما ذكره في جزء له صغير سماه مأخذ العلم وقد أورد ذلك في باب الإجازة وقد رأيت أن أورد نبذا منه مما يتعلق بما نحن فيه إتماما للفائدة

فأما الإجازة فأن يكتب العالم أو يكتب عنه بأمره إني أجزت لفلان أن يروي عني ما صح عنده من حديثي او مؤلفاتي وما أشبه هذا من الكلام فذلك أيضا في الجواز والقوة كالذي ذكرناه في المناولة وغيرها وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والحسن بن عمارة وابن جريح وغيرهم من العلماء
والدليل على صحة الإجازة ما حدثنا علي بن مهرويه حدثنا أحمد بن أبي خيثمة حدثنا أحمد بن أيوب حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا محمد بن إسحاق قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بن جحش بن رياب وأصحابه وبعث معهم كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فمضى لما آمره به فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم فقال عبد الله وأصحابه سمعا وطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فمضوا ولقوا بنخلة لقريش فقتلوا عمرو بن الحضري كافرا وغنموا ما كان معهم من تجارة لقريش
وهذا الحديث وما أشبهه من كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة في الإجازة لأن عبد الله وأصحابه عملوا بما كتب له رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير ان يكلمهم بشيء فكذلك العالم إذا أجاز لطالب العلم فله أن يروي ويعمل بما صح عنده من حديثه وعلمه
وبلغنا أن ناسا يكرهون الإجازة إن اقتصر عليها بطلت الرحل وقعد الناس عن طلب العلم ونحن لسنا نقول إن طالب العلم يقتصر على الإجازة فقط ثم لا يسعى لطلب علم ولا يرحل لكنا نقول الإجازة لمن كان له في القعود عن الطلب عذر من قصور نفقة أو بعد مسافة أو صعوبة مسلك
فأما أصحاب الحديث فما زالوا يتجشمون المصاعب ويركبون الأهوال ويفارقون الأوطان وينأون عن الأحباب آخذين بالذي حث عليه رسول الله

صلى الله عليه و سلم في الذي حدثناه سليمان بن يزيد عن محمد بن ماجه حدثنا هشام بن عمار حدثنا حفص بن سليمان حدثنا كثير بن شنظير عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم طلب العلم فريضة على كل مسلم

صلة مهمة يتعلق معظمها بالصحيح والحسن
اعلم أن بعض العلماء قد سلك في بيان هذا الفن وحصر أقسامه المشهورة وتعريفها مسلكا صار قريبا قريب المدرك وقد أحببت أن نتبع أثره في ذلك موردين لباب ما أورده مع زيادات يقتضيها المقام وربما وقع في أثناء ذلك تكرار لبعض ما سبق لأمر يحمل عليه فنذكره من غير إشارة وقد آن أن نشرع في ذلك فنقول
الخبر إما ان يرويه جماعة يبلغون في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه أولا فالأول المتواتر والثاني الآحاد
والمتواتر ليس من مباحث علم الإسناد لأن علم الإسناد علم يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك
والمتواتر صحيح قطعا فيجب الأخذ به من غير توقف وهو يفيد العلم بطريق اليقين والمتواتر يندر أن يكون له إسناد مخصوص كما يكون لأخبار الآحاد لاستغنائه بالتواتر عن ذلك وإذا وجد له إسناد معين لم يبحث عن أحوال رجاله بخلاف خبر الآحاد فإن فيه الصحيح وغير الصحيح والصحيح منه لا يحكم له بالصحة على طريق اليقين نعم قد تقترن قرائن تفيد العلم بالصحة
ولا بد ف خبر الآحاد ان يكون له إسناد معين يبحث فيه عن أحوال رجاله وصيغ أدائهم ونحو ذلك ليعلم المقبول منه من غيره فانحصر البحث هنا في خبر الآحاد
وخبر الأحاد إن كانت رواته في كل طبقة ثلاثة فأكثر يسمى مشهورا

وإن كانت رواته في بعض الطبقات اثنين ولم تنقص في سائرها عن ذلك يسمى عزيزا
وإن انفرد في بعض الطبقات أو كلها راو واحد يسمى غريبا
والمشهور عندهم أنه لا يشترط في المشهور والعزيز التعدد في الطبقة الأولى فيسمون الحديث مشهورا إذا رواه في كل طبقة ثلاثة فأكثر وإن كان من رواه من الصحابة أقل من ثلاثة ويسمون الحديث عزيزا إذا رواه في بعض الطبقات اثنان ولم تنقص رواته في سائرها عن ذلك وإن كان الراوي له من الصحابة واحدا فقط
والغريب إن كانت الغرابة فيه في أصل السند يسمى الفرد المطلق ويقال له أيضا الغريب المطلق وإن كانت الغرابة فيه في غير أصل السند يسمى الفرد النسبي ويقال له أيضا الغريب النسبي والمراد بأصل السند أوله
وقد عرفت آنفا أن الغريب ما ينفرد بروايته شخص في أي موضع كان من مواضع السند وأن انفراد الصحابي فقط بالحديث لا يوجب الحكم له بالغرابة
فالفرد المطلق هو ما ينفرد بروايته عن الصحابي واحد من التابعين وذلك كحديث النهي عن بيع الولاء فإنه تفرد به عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر
وقد يتفرد به راو عن ذلك المتفرد وذلك كحديث شعب الإيمان فإنه تفرد به أبو صالح عن أبي هريرة وتفرد به عبد الله بن دينار عن أبي صالح وقد يستمر التفرد في جميع رواته أو أكثرهم وفي مسند البزار والمعجم الأوسط للطبراني أمثلة كثيرة لذلك
والفرد النسبي هو ما ينفرد بروايته واحد ممن بعد التابعين وذلك بأن يرويه عن الصحابي أكثر من واحد ثم ينفرد بالرواية عن واحد منهم أو أكثر واحد
ويقل إطلاق اسم الفرد على الفرد لانسبي وغنما يطلق عليه في الغالب اسم الغريب قال الحافظ ابن حجر إن أهل الاصطلاح قد غايروا بين الفرد والغريب

من حيث كثر الاستعمال وقلته فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون فيقولون في المطلق والنسبي تفرد به فلان أو أغرب به فلان ولا يسوغ الحكم بالتفرد إلا بعد الاعتبار والاعتبار هو تتبع الطرق من الجوامع والمسانيد والأجزاء لذلك الحديث الذي يظن أنه فرد ليعلم هل لرواية متابع أو هل له شاهد أم لا ومظنة معرفة الطرق التي يحصل بها المتابعات والشواهد وينتفي بها التفرد كتب الأطراف
قال العراقي الاعتبار أن تأتي إلى حديث لبعض الرواة فتعتبره بروايات غيره من الرواة بسبر طرق الحديث لتعرف هل شاركه في ذلك الحديث راو غيره فرواه عن شيخه أم لا فإن يكن شاركه أحد ممن يعتبر بحديثه أي يصلح أن يخرج حديثه للاعتبار به والاستشهاد به سمي حديث هذا الذي شاركه تابعا وسيأتي بيان من يعتبر بحديثه في مراتب الجرح والتعديل
وإن لم تجد أحدا تابعه عليه عن شيخه فانظر هل تابع أحد شيخ شيخه فرواه متابعا له أم لا فإن وجدت أحدا تابع شيخ شيخه عليه فرواه كما رواه فسمه أيضا تابعا وقد يسمونه شاهدا
وإن لم تجد فافعل ذلك فيمن فوقه إلى آخر الإسناد حتى في الصحابي فكل من وجد له متابع فسم حديث الذي شاركه تابعا وقد يسمونه شاهدا
فإن لم تجد لأحد ممن فوقه متابعا عليه فانظر هل أتى بمعناه حديث آخر فسم ذلك الحديث شاهدا وإن لم تجد حديثا آخر يؤدي معناه فقد عري من المتابعات والشواهد فالحديث إذا فرد
قال ابن حبان وطريق الاعتبار في الأخبار مثاله أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين فإن

وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم فأي ذلك وجد يعلم به أن الحديث يرجع إليه وإلا فلا انتهى
قلت فمثال ما عدمت فيه المتابعات من هذا الوجه من وجه يثبت ما رواه الترمذي من رواية حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة أراه رفعه أحبب حبيبك هونا ما الحديث قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه قلت أي من وجه يثبت وقد رواه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث عن ابن سيرين عن أبي هريرة ا هـ
مثال ما وجد له تابع وشاهد ما روى مسلم والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا فلم يذكر فيه أحد من أصحاب عمرو بن دينار فدبغوه إلا ابن عيينة وقد رواه إبراهيم بن نافعالمكي عن عمرو فلم يذكر الدباغ
فنظرنا هل نجد أحدا تابع شيخه عمرو بن دينار على ذكر الدباغ فيه عن عطاء أم لا فوجدنا أسامة بن زيد الليثي تابع عمرا عليه روى الدارقطني والبيهقي من طريق ابن وهب عن أسامة عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأهل شاة ماتت ألا نزعتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به قال البيهقي وهكذا رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء فكانت هذه متابعات لرواية ابن عيينة
ثم نظرنا فوجدنا له شاهدا وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن وعلة المصري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما إهاب دبغ فقد طهر

والمتابعة إن حصلت للراوي نفسه فهي المتابعة التامة وإن حصلت لشيخه فمن فوقه فهي المتابعة القاصرة
والشاهد إن كان يشبه متن الحديث الفرد في اللفظ والمعنى فهو الشاهد باللفظ وغن كان يشبهه في المعنى فقط فهو لاشاهد بالمعنى والشاهد متن يروى عن صحابي آخر يشبه متن الحديث الفرد
وقد أورد الحافظ ابن حجر مثالا تجتمع فيه المتابعة التامة والمتابعة القاصرة والشاهد باللفظ والشاهد بالمعنى وهو ما رواه الشافعي في الأم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة الثلاثين
وقد ظن قوم أن هذا الحديث بهذا الفظ قد تفرد به الشافعي عن مالك فعدوه في غرائبه لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ فإن غم عليكم فاقدروا له فنظرنا فوجدنا للشافعي متابعا وهو عبد الله القعنبي أخرجه البخاري عنه عن مالك بلفظ الشافعي فهذه متابعة تامة وقد دل على أن مالكا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معا
ووجدنا عبد الله بن دينار قد توبع فيه عن ابن عمر من وجهين أحدهما ما أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر فذكر الحديث وفي آخره فإن غمي عليكم فاقدروا ثلاثين والثاني ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن جده ابن عمر بلفظ فإن غم عليكم فكملوا ثلاثين فهذه متابعة لكنها قاصرة
وله شاهدان احدهما من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم عن

شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وثانيهما من حديث ابن عباس أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابنة عباس بلفظ حديث ابن دينار عن ابن عمر سواء وهو فأكملوا العدة ثلاثين فهذا شاهد باللفظ وما قبله شاهد بالمعنى

تنبيهات
التنبيه الأول يسمى حديث الذي شارك الراوي فيه تابعا وقد يسمى شاهدا وأما الشاهد فلا يسمى تابعا وقال بعضهم إن التابعيختص بما كان باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم غيره والشاهد يختص بما كان بالمعنى كذلك وقال الجمهور ما أتى عن ذلك الصحابي فتابع وما أتى عن صحابي آخر فشاهد فعندهم أن رواية ابن وعلة المذكورة تكون متابعة لعطاء وما رواه يكون متابعا لا شاهدا
ويقال للتابع المتابع المكسر قال بعضهم قد طلق المتابع على الشاهد والشاهد على المتابع والخطب في ذلك سهل إذ المقصود الذي هو التقوية حاصل بكل منهما فإذا قامت قرينة تدل على المقصود لم يكن في ذلك بأس غير أن الغالب استعمال كل منهما في معناه الذي يسبق إلى الذهن
التنبيه الثاني أنه لا انحصار للمتابعات والشواهد في الثقة ولذا قال ابن الصلاح واعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده بل يكون معدودا في الضعفاء وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواخد وليس كل ضعيف يصلح لذلك ولهذا يقول الدارقطني فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به
قال بعض العلماء وإنما يدخلون الضعفاء لكون المتابع لا اعتماد عليه وإنما الاعتماد على من قبله وقال بعضهم إنه لا انحصار له في ذلك بل قد يكون كل من المتابع والمتابع عليه إلا أن باجتماعهما تحصل القوة

التنبيه الثالث قد عرفت أنهم قسموا خبر الآحاد إلى ثلاثة أقسام مشهور وعزيز وغريب وهذا التقسيم إنما هو بالنظر إلى عدد الرواة ولما كان كل قسم من هذه الأقسام لا يخلو من صحيح وغير صحيح عادوا انيا فقسموه بالنظر إلى هذه الجهة إلى مقبول ومردود ثم قسموا كل واحد منهما إلى أقسام
وقد آن أوان الشروع في ذلك مرجئين البحث عن الشاذ الذي يعد قسما من أقسام الفرد الذي كنا في صدده وكذلك المنكر إلى الموضع الذي يليق بهما فيما سيأتي فنقول
خبر الآحاد ينقسم إلى قسمين نقبول ومردود فالمقبول هو ما دل دليل على رجحان ثبوته في نفس الأمر والمردود ما لم يدل على رجحان ثبوته في نفس الأمر
فإن قلت يدخل في تعريف المردود الخبر الذي لا يترجح ثبوته ولا عدم ثبوته بل يتساوى في الأمران قلت نعم واعتذر عن ذلك من أدخله فيه بأن موجبه لما كان التوقف صار كالمردود فألحق به لا لوجود ما يوجب الرد بل لعدم وجود ما يوجب القبول ومن جعله قسما مستقلا عرف المردود بأنه الخبر الذي دل دليل على رجحان عدم ثبوته في نفس الأمر
وعرف الخبر المتوقف فيه بأنه الخبر الذي لم يدل دليل على رجحان ثبوته ولا على رجحان عدم ثبوته وهذا هو الخبر المشكوك فيه وهو كثير جدا تكاد تكون أفراده أكثر من أفراد القسمين الآخرين وحكم هذا القسم التوقف فيه البتة إلى أن يوجد ما يلحقه بأحد القسمين المذكورين
والمقبول ينقسم لى أربعة أقسام صحيح لذاته وصحيح لغيره وحسن لذاته وحسن لغيره وذلك لأن الحديث إن اشتمل من صفات القبول على أعلى

مراتبها فهو الصحيح لذاته وإن لم يشتمل على أعلى مراتبها فإن وجد فيه ما يجبر ذلك القصور الواقع فيه فهو الصحيح لا لذاته بل لغيره وهو العاضد
وقد مثل ذلك ابن لاصلاح بحديث محمد بنعمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم يبالسواك عند كل صلاة فإن محمد بن عمرو من المشهورين بالصدق والصيانة لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته فلما انضم إلى ذلك كونه روي من وجه آخر أمنا بذلك ما كنا نخشاه من جهة سوء حفظه وانجبر به ذلك النقص اليسير فالتحق الإسناد بدرجة الصحيح
وإن لم يوجد فيه ما يجبر ذلك القصور الواقع فيه فهو الحسن لذاته وإن كان الحديث ما يقتضي التوقف فيه لكن وجد ما يرجح جانب قبوله فهو الحسن لا لذاته بل لغيره وهو العاضد وذلك نحو أن يكون في الإسناد مستور الحال إذا كان غير مغفل ولا كثير الخطأ في الرواية ولا متهم بالكذب ونحوه من منافيات العدالة فإذا ورد من طريق آخر زال التوقف فيه وحكم بحسنه لا لذاته بل للعاضد
فالصحيح هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله من أوله إلى منتهاه وسلم من شذوذ وعلة
واحترزوا بالقيد الأول وهو قولهم ما اتصل إسناده عما لم يتصل إسناده وهو المنقطع والمعضل والمرسل عند من لا يحتج به
وبالقيد الثاني وهو قولهم بنقل عدل عن نقل مجهول العين أو الحال أو المعروف بعدم العدالة
وبالقيد الثالث وهو قولهم ضابط غير الضابط وهو المغفل وكثير الخطأ
وبالقيد الرابع وهو قولهم وسلم من شذوذ وعلة ما لم يسلم من ذلك وهو الشاذ والمعلل

قال بعضهم الأخضر أن يقال بنقل ثقة عن مثله لأن الثقة عندهم هو من جمع بين العدالة والضبط
وأجيب بأن الثقة قد ةيطلق على من كان عدلا في دينه وإن كان غير محكم الضبط والتعريف ينبغي أن يجتنب فيه الألفاظ التي ربما أوقعت في اللبس
وهذا التعريف إنما هو للصحيح لذاته وهو الذي ينصرف اسم الصحيح إليه عند الإطلاق
والحسن ما اتصل إسناده بنقل عدل عن مثله من أوله إلة منتهاه وكان في رواته مع كونهم موسومين بالضبط من لا يكون قويا فيه وسلم من شذوذ وعلة
والمراد بالحسن هنا الحسن لذاته وهو كالصحيح لذاته في كل شيء إلا في أمر واحد وهو تمام الضبط فإن الصحيح لذاته لا بد أن يكون كل واحد من رواته تام الضبط والحسن لذاته لا بد أن يكون في رواته من لا يكون تام الضبط وقد ظهر لك أن المراد بالضابط في تعريف الصحيح التام الضبط وقد اختار بعضهم التصريح بذلك دفعا للالتباس
والحسن لذاته إذا ورد من طريق آخر مساو للطريق الذيورد منه أو أرجح ارتفع إلى درجة الصحيح لغيره فإن ورد من طريق أدنى من الطريق الذي ورد منه لم يحكم له بالصحة وذلك كأن يرد من طريق الحسن لغيره إلا أن يتعدد هذا الطريق
والحاصل أن الحسن لذاته يرتفع عن درجته إلى درجة الصحيح إذا ورد من طريق واحد يكون مساويا لطريقة أو راجحا عليه أو من طرق متعددة ولو كان كل واحد منها منحطا عنه
وأما قول الحافظ المنذري هذا حديث حسن صحيح بلاجمع بين الوصفين معا فللعلماء في مراده أقوال نكتفي هنا بإيراد أحدها وهو أن الحديث الموصوف بذلك إن لم يكن له إلا إسناد واحد فوصفه بالوصفين معا يكون

إما بالنظر إلى تردد الناظر في حال الرواة هل هم ممن بلغ درجة رواة الصحيح فيحكم على ما رووه بالصحة أم هم ممن قصر عن تلك الدرجة فيحكم على ما رووه بالحسن
وإما بالنظر إلى اختلاف أئمة الحديث في ذلك فكأنه يقةل هذا حديث حسن عند قوم صحيح عند قوم
وعلى الوجهين يكون ما قيل فيه صحيح فقط أقوى مما قيل فيه حسن صحيح لأنه يشعر بالجزم بخلاف ما قيل فيه حسن صحيح لأنه يشعر إما بتردد الفكر فيه بين الصحة والحسن وإما باختلاف الأئمة فيه
وإن كان الحديث الموصوف بالوصفين معا له إسنادين يكون إطلاقهما معا عليه بالنظر إلى حال الإسناد فكأنه يقول هذا حديث حسن بالنظر إلى أحد الإسنادين وصحيح بالنظر إلى الإسناد الاخر وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح أقوى مما قيل فيه صحيح فقط هذا إذا كان له إسناد واحد فإن كان له أيضا إسنادان لم يتعين ذلك لاحتمالان يكون كل منهما على شرط الصحيح فيكون أقوى مما قيل فيه حسن صحيح فإذا كان له إسنادان وجب البحث لأولا عن حالهما فإذا عرف الحكم برجحان ما يقضي الحال برجحانه
فإن قيل إن الترمي قد صرح بأن شرط الحسن أن يروي من غير وجه فكيف يقول في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
يقال إن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقا وغنما عرف نوعا خاصا منه وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن صحيح وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب

وتعريفه إنما وقع على ما يقول فيه حسن فقط ويدل على ذلك ما قاله في آخر كتابه وهو ما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا فكل حديث يروى لا يكون راويه متهما بكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن
فعرف بهذا إنما عرف ما يقول فيه حسن فقط وأما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرفه كما لم يعرف ما يقول فيه صحيح أو غريب وكأنه ترك ذلك لشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه حسن فقط إما لخفائه وإما لأنه اصطلاح له جديد لم يكن من قبل فوجب تعريفه من قبله ليعرف ما أراد به
ويتفاوت الصحيح الرتبة بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للصحة في القوة فمن الرتبة العليا في ذلك ما روي بإسناد أطلق عليه بعض الأئمة أنه أصح الأسانيد كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو السلماني عن علي وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود
ويليها في الرتبة مثل رواية بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده عن أبيه أبي موسى ومثل رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس
ويليها في الرتبة مثل رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ومثل رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن للمرتبة الأولى من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة وهي مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسنا كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقس على هذا ما يشبهه

وقد اختلف في أصح الأسانيد فقال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر
وقال إسحاق بن راهويه أصح الأسانيد كلها الزهري عن سالم عن أبيه وروي نحوه عن أحمد بن حنبل
وعن خلف بن هشام البزار أنه قال سألت أحمد بن حنبل أي الأسانيد أثبت فقال أيوب عن نافع عن ابن عمر
وقال معمر وروي أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي
وفي هذه المسألة أقوال أخر مذكورة في المبسوطات
والمختار أنه لا يحكم لإسناد بأنه أصح الأسانيد كلها إذ لا يمكن أن يحكم لكل راو ذكر فيه بأنه قد حاز أعلى صفات القبول من العدالة والضبط ونحوهما عل وجه لا يوازيه فيه أحد من الرواة الموجودين في عصره ولذلك اضطربت أقوال من خاض في ذلك إذ ليس لديهم دليل مقنع واكثر الأقوال المذكورة في ذلك متكافئة يعسر ترجيح بعضها على بعض في الأكثر فالحكم حينئذ على إسناد معين بأنه أصح الأسانيد على الإطلاق مع عدم اتفاقهم فيه ترجيح بلا مرجح
قال بعض الحفاظ ومع ذلك يمكن للناظر المتقن ترجيح بعضها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجح وإتقانه وإن لم يتهيأ ذلك على الإطلاق فلا يخلو النظر فيه من فائدة لأن مجموع ما نقل عن الأئمة من ذلك يفيد ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية على ما لم يقع له حكم من أحدهم
وهذا حيث لم يكن مانع ولذلك قال أبو بكر البرديجي أجمع أهل النقل صحة أحاديث الزهري عن سالم عن أبيه وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة منرواية مالك وابن عيينة ومعمر ما لم يختلفوا فإذا اختلفوا توقف فيها

هذا ولما كان لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن كذلك قصر الأئمة الحكم عل الإسناد فقط ولا يحفظ عن أحد منهم أنه قال إن الأحاديث المروية بإسناد كذا من الأسانيد التي حكم لها بأنها أصح من غيرها هي أصح الأحاديث
فإن كان ولا بد من الحكم فينبغي تقييد كل ترجمة بصحابيها أو بالبلدة التي منها أصحاب تلك الترجمة بأن يقال أصح أسانيد فلان كذا وأصح أسانيد أهل بلدة كذا وكذا فإنه أقل انتشارا وأقرب إلى الحصر بخلاف الأول فإنه في أمر واسع شديد الانتشار والحاكم فيه على خطر من الخطأ والخطأ فيه أكثر من الخطأ في مثل قولهم ليس في الرواة من اسمه كذا سوى فلان
وعلى ذلك يقال أصح أسانيد ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر وأصح أسانيد ابن مسعود سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وأصح أسانيد أنس بن مالك مالك عن الزهري ولهما من الرواة جماعة فأثبت أصحاب ثابت حماد بن زيد وقيل حماد بن سلمة وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل هشام الدستوائي
وأصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وأصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة وأثبت أسانيد المصريين الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر وأصح أسانيد الكوفيين يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي
ومن الرتبة العليا ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحهما وذلك لجلالة شأنهما في هذا العلم وتقديمها على غيرهما فيه وفرط عنايتهما بتمييز الصحيح

من غيره وتلقي علماء الحديث لكتابيهما بالقبول حتى حكموا في الجملة على كون ما روياه أصح الصحاح
ولم يختلفوا في هذا الأمر وغنما اختلفوا في أمر آخر وهو ان ما روياه هل يفيد العلم أم لا فذهب ابن الصلاح ومن نحا نحوه إلى أنه يفيد علم اليقين واستثنى من ذلك أحرفا يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد كالدارقطني وغيره قال وهي معروفة عند أهل هذا الشأن
واستثنى بعضهم أيضا ما وقع التعارض بين مدلوليه مما اتفق وقوعه في كتابيهما وذلك لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم وهذا حيث لم يظهر رجحان أحدهما على الآخر فإن ظهر ذلك كان الحكم للراجح وصار مفيدا للعلم
وذهب الجمهور إلى أن ما روياه يفيد الظن ما لم يتواتر وذلك لأن شأن الآحاد إفادة الظن ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما وتلقي الأمة لهما بالقبول إنما يقتضي وجوب الأخذ بما فيهما من غير بحث لالتزامهما إخراج الصحيح فقط وفرط براعتهما في معرفته بخلاف غيرهما فإن منهم من لم يلتزم إخراج الصحيح فقط ومنهم من التزم ذلك غير أنه ليس له من البراعة في ذلك ما لهما
فلم يتعين وجوب العمل بما في غير كتابيهما إلا بعد البحث والنظر فإن تبينت صحته وجب الأخذ به وإلا فلا فظهر أن إجماع العلماء على وجوب الأخذ بما فيهما إن ثبت الإجماع لا يدل على إجماعهم على القطع بأنه من كلام النبي صلى الله عليه و سلم فإن الأمة مأمورة بالعمل بالظن حيث لا يطلب القطع والظن قد يخطئ
هذا وقد قسم الجمهور الحديث الصحيح بالنظر إلى تفاوت الأوصاف المقتضية للصحة فيه إلى سبعة أقسام كل قسم منها أعلى مما بعده
القسم الأول ما أخرجه البخاري ومسلم ويعبر عنه أهل الحديث بقولهم هذا حديث متفق عليه أو على صحته ومرادهم بالاتفاق عليه اتفاق الشيخين لا اتفاق الأمة وقال ابن الصلاح يلزم من اتفاقهما اتفاقهم لتلقيهم له بالقبول
القسم الثاني ما انفرد به البخاري

القسم الثالث ما انفرد به مسلم
القسم الرابع ما هو على شرطهما مما لم يخرجه واحد منهما
القسم الخامس ما هو على شرط البخاري مما لم يخرجه
القسم السادس ما هو على شرط مسلم مما لم يخرجه
القسم السابع ما ليس على شرطهما ولا شرط واحد منهما ولكن صححه أحد الأئمة المعتمدين في ذلك
وترجيح كل قسم من هذه الأقسام السبعة على ما بعده إنما هو من قبيل ترجيح الجملة على الجملة لا ترجيح كل واحد من أفراده على كل واحد من أفراد الآخر ولذلك ساغ أن يرجح بعض ما في قسم من الأقسام على ما قبله إذا وجد ما يقتضي الترجيح وذلك كما لو كان الحديث عند مسلم مشهورا فإنه يقدم على ما في البخاري إذا لم يكن كذلك وكما لو كان الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمة وصفت بكونها من أصح الأسانيد كمالك عن نافع عن ابن عمر فإنه يقدم على ما انفرد به أحدهما مثلا لا سيما إذا كان في إسناده من فيه مقال
وأما تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم فقد صرح به الجمهور يوجد من أحد التصريح بعكسه ولو صرح أحد بذلك لرده عليه شاهد العيان فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأسد وشرطه فيها أقوى وأشد
أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بالمعاصرة وأما ما أراد مسلم إلزام البخاري به من أنه يلزمه أن لا يقبل العنعنة أصلا فليس بلازم لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة كان من المستبعد في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه وإذا فرض ذلك كان مدلسا والمسألة مفروضة في غير المدلس

وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من الرجال الذين تكلم من رجال البخاري فإن الذين انفرد البخاري بهم أربع مئة وبضعة وثمانون رجلا تكلم بالضعف في ثمانين منهم والذين انفرد بهم مسلم ست ومئة وعشرون رحلا تكلم في الضعف في مئة وستين منهم
والذين انفرد البخاري بهم ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه لقيهم وخبرهم وخبر حديثهم بخلاف مسلم فأكثر من انفرد به ممن تكلم فيه من المتقدمين ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم ممن تقدم عنه على أن البخاري لم يكثر من إخراج أحاديث من تكلم فيهم من رجاله بخلاف مسلم
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال ونحو ذلك فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم فإن ما انتقد عليهما بلغ مئتين وعشرين حديثا اشتركا في اثنين وثلاثين منها واختص البخاري منها بثمانية وسبعين ومسلم بمئة وإن كان الانتقاد في أكثر ما انتقد من أحاديثهما مبنيا على علل ليست بقادحة
وأما رجحان نفس البخاري على نفس مسلم في صناعة الحديث فذلك مما لا ريب فيه وقد كان مسلم تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره
وقد أشار تقي الدين بن تيمية إلى هذه المسألة في كتاب منهاج السنة حيث قال إن التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول وكذلك في عصرهما ما صححاه إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ وهذه المواضع المنتقدة غالبها في مسلم

وقد انتصر طائفة لهما فيها وطائفة قررت قول المنتقد والصحيح التفصيل فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث أم حبيبة وحديث خلق الله التربة يوم السبت وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد
وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم فلم يبهرج فيها إلا دراهم يسيرة ومع هذا فهي مفيدة ليست مغشوشة محضة فهذا إمام في صنعته والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر والمقصود أن أحاديثهما نقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم ورواها خلائق لا يحصى عددهم إلا الله فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح والله سبحانه هو الحفيظ يحفظ هذا الدين كما قال الله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )
هذا وكما يتفاوت الصحيح بالنظر إلى الأوصاف المقتضية للصحة فيه يتفاوت الحسن بالنظر إلى الأوصاف المقتضية للحسن فيه
وأعلى مراتب الحسن رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وابن إسحاق عن التيمي وأمثال ذلك
ويتلو ذلك رواية الحارث بن عبد الله وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة ونحوهم ممن اختلف في تحسين حديثه وتضعيفه
قال بعض الباحثين إن الذي له مراتب إنما هو الحسن لذاته وأما الحسن

لغيره فلا مراتب له لكن في عبارات أهل الفن ما يدل على أن له أقساما متعددة فإنهم كروا أن الحسن لغيره
يشمل ما كان في رواته سيئ الحفظ ممن كثر منه الغلط او الخطأ أو مستور لم ينقل فيه جرح ولا تعديل أو نقل فيه الأمران معا ولم يترجح أحدهما على الآخر أو مدلس بالعنعنة لعدم منافاة ذلك اشتراط نفي الاتهام بالكذب
ويشمل أيضا ما فيه إرسال من إمام حافظ لا يشترط الاتصال أو انقطاع بين ثقتين حافظين
ولأجل كون ما ذكر موجبا للتوقف عن الاحتجاح به اشترطوا فيه أن لا يرد من طريق آخر مساو لطريقة أو فوقه لترجيح أحد الاحتمالين المتساويين الموجبين للتوقف وذلك لأن سيئ الحفظ مثلا يحتمل أن يكون ضبط ما روى ويحتمل أن لا يكون ضبطه فإذا ورد مثل ما رواه أو معناه من طريق آخر غلب على الظن أنه ضبط وكلما كثر المتابع قوي الظن
وما ذكر من عدم اشتراط الاتصال في الحسن لغيره هو المطابق لما في جامع الترمذي الذي هو أول من عرف هذا النوع وأكثر من ذكره فقد حكم لأحاديث بالحسن مع وجود الانقطاع فيها
وذكر بعض العلماء أن بعض الأحاديث الضعيفة إذا كثرت طرقها قوي بعضها بعضا وصارت بذلك من قبيل الحسن فيحتج بها وقد نحا نحو ذلك ابن لاقطان حيث قال هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن
واستحسن ذلك الحافظ ابن حجر وصرح في موضع آخر بأن الضعيف الذي ضعفه ناشئ عن سوء الحفظ إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن ولكنه هو متوقف في شمول الحسن المسمى بالصحيح عند من لا يفرق بينهما

وقد أشار العلامة أبو الفتح تقي الدين محمد بن دقيق العيد الاقتراح إلى التوقف في إطلاق الاحتجاج بالحسن حيث قال إن ها هنا أوصافا يجب معها قبول الرواية إذا وجدت في الراوي فإن كان هذا الحديث المسمى بالحسن مما قد وجدت فيه هذه الصفات على أقل الدرجات التي يجب معها القبول فهو صحيح وإن لم توجد فلا يجوز الاحتجاج به وإن سمي حسنا
اللهم إلا أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي وهو أن يقال إن الصفات التي يجب معها قبول الرواية لها مراتب ودرجات فأعلاها وأوسطها يسمى صحيحا وأدناها يسمى حسنا وحينئذ يرجع الأمر إلى الاصطلاح ويكون الكل صحيحا في الحقيقة والمر في الاصطلاح قريب لكن من أراد هذه الطريقة فعليه أن يعتبر ما سماه أهل الحديث حسنا ويتحقق وجود الصفات التي يجب معها قبول الرواية في تلك الأحاديث ا هـ
وممن كان لا يحتج بالحسن أبو حاتم الراوي فإنه سئل عن حديث فحسنه فقيل له أتحتج به فقال إنه حسن فأعيد عليه السؤال مرارا وهو لا يزيد على قوله إنه حسن ونحوه أنه سئل عن عبد ربه بن سعيد فقال إنه لا بأس به فقيل له أتحتج بحديثه فقال هو حسن الحديث الحجة سفيان وشعبة
وقد وجد في كلامهم إطلاق الحسن على الغريب قال إبراهيم النخعي كانوا إذا اجتمعوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان أحاديثه قال ابن السمعاني إنه عنى الغرائب ووجد للشافعي إطلاقه في المتفق على صحته ولابن المديني في الحسن لذاته وللبخاري في الحسن لغيره
وقد وجد إطلاقه مرادا به المعنى اللغوي كما وقع لابن عبد البر حيث روى في كتاب العلم حديث معاذ بن جبل مرفوعا تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية

وطلبه عبادة الحديث بطوله وقال هذا حديث حسن جدا ولكن ليس له إسناد قوي أراد بالحسن حسن اللفظ لأنه من رواية موسى البلقاوي وهو كذاب نسب إلى الوضع عن عبد الرحيم العمي وهو متروك
قال بعض العلماء يلزم على هذا ان يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ أنه حسن ولك لا يقوله أحد من المحدثين إذا جروا عل اصطلاحهم
وقال بعضهم يلزم على هذا أن يوصف كل حديث ثابت بذلك لأن الأحاديث كلها حسنة الألفاظ بليغة
والظاهر ان المراد بالحسن في مثل عبارة ابن عبد البر ما يميل إليه ذو الطبع السليم إذا طرق سمعه وجود شيء ينكر فيه فإن أكثر الأحاديث التي يرويها الضعفاء يجد السامع منها حزازة في نفسه ولذلك قال بعضهم إن الحديث المنكر ينفر منه قلب طالب العلم في الغالب
وفي الجملة حيث اختلف صنيع الأئمة في إطلاق لفظ الحسن فلا يسوغ إطلاق القول بالاحتجاج به إلا بعد النظر في ذلك فما كان منه منطبقا على الحسن لذاته فهو مقبول يسوغ الاحتجاج به وما كان منه منطبقا على الحسن لغيره ففيه تفصيل فإن ورد من طرق يحصل من مجموعها ما يترجح به جانب القبول قبل واحتج به وما لا فلا وهذه أمور جملية لا ينجلي أمرها إلا بالمباشرة
ومن الألفاظ المستعملة عند أهل الحديث في المقبول الجيد والقوي والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمشبه
فأما الجيد فقد سوى بعضهم بينه وبين الصحيح وقد وقع في كلام الترمذي حيث قال في الطب هذا حديث جيد حسن وقال بعضهم إنه وإن كان بمعنى صحيح لكن الجهبذ من المحدثين لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه درجة الصحيح فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح

وكذا القوي
وأما الصالح فإنه شامل للصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج ويستعمل أيضا في ضعيف يصلح للاعتبار
وأما المعروف فهو مقابل المنكر
وأما المجود والثابت فيشملان الصحيح والحسن
وأما المشبه فيطلق على الحسن وما يقاربه فهو بالنسبة إليه كنسبة الجيد إلى الصحيح قال أبو حاتم أخرج عمرو بن حصين الكلابي أول شيء أحاديث مشبهة حسانا ثم أخرج بعد أحاديث موضوعة فأفسد علينا ما كتبنا
تنبيه قول الحفاظ هذا حديث صحيح الإسناد دون قولهم هذا حديث صحيح وقولهم هذا حديث حسن الإسناد دون قولهم هذا حديث حسن لأنه قد يصح الإسناد أو يحسن لثقة رجاله دون المتن لشذوذ او علة فإن اقتصر على ذلك إمام معتمد فالظاهر صحة المتن وحسنه لأن الأصل هو عدم الشذوذ والعلة
وقال بعض العلماء الذي لا يشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله صحيح الإسناد إلا لأمر ما وعلى كل حال فالتقييد بالإسناد ليس صريحا في صحة المتن أو ضعفه
ويشهد لعدم التلازم ما رواه النسائي من حديث أبي بكر بن خلاد عن محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة تسحروا فإن في السحور بركة قال هذا حديث منكر وإسناده حسن
وقد أورد الحاكم في مستدركه غير حدث يحكم على إسناده بالصحة وعلى

المتن بالوهاء لعلته أو شذوذه وقد فعل نحو لك كثير من المتقدمين وممن فعل ذلك من المتأخرين الحافظ المزي فإنه تكرر منه الحكم بصلاحية الإسناد ونكارة المتن
وزيادة راوي الصحيح والحسن تقبل مطلقا إن لم تكن منافية لرواية من لم يذكرها لأنها حينئذ كالحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره فإن كانت منافية لها بحيث يلزم قبولها رد الرواية الأخرى بحث عن الراجح منهما فإن كان الراجح منهما رواية من لم يذكر تلك الزيادة لمزيد ضبطه أو كثرة عدده أو غير ذلك من موجبات الرجحان ردت تلك الزيادة وإن كان الراجح منهما رواية من ذكر تلك الزيادة قبلت وإن لم ترجح إحداهما على الأخرى بوجه ما وهو نادر اختلف في ذلك فقال بعضهم تقبل وقال بعضهم يتوقف فيها
وقد اشتهر عن جمع من العلماء إطلاق القول بقبول زيادة الثقة مع أن قبولها مقيد بما ذكر آنفا ولعلهم إنما سكتوا عن ذلك اكتفاء بما ذكروا في تعريف الصحيح والحسن من اعتبار السلامة من الشذوذ فيهما وفسروا الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه فلو قبلوا زيادة الثقة مع منافاتها لرواية من هو أوثق منه كانوا قد أخلوا بما شرطوه من السلامة من الشذوذ وفي ذلك من التناقض الجلي ما لا يخفى على أمثالهم
وأما الذين لم يطلقوا القول في قبول زيادة الثقة فكثير منهم من أئمة الحديث المتقدمين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني فقد نقل عنهم اعتبار الترجيح في الزيادة وغيرها
ومنهم ابن خزيمة فإنه قيد قبول الزيادة باستواء الطرفين في الحفظ والإتقان فإن كان الساكت عددا أو واحدا أحفظ منه أو لم يكن هو حافظا وإن كان صدوقا فإن الزيادة لا تقبل

وقد نحا نحوه ابن عبد البر فإنه قال في التمهيد إنما تقبل الزيادة إذا كان راويها أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ فإن كانت من غير حافظ ولا متقن فلا التفات إليها
ومنهم ابن السمعاني فإنه قيد القبول بما إذا لم يكن الساكتون ممن لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة أو لم تكن مما تتوفر الدواعي على نقله
وقد وقع في رسالة الإمام الشافعي في الأصول ما يشير إلى أن زيادة الثقة ليست مقبولة عنده مطلقا فإنه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه وسكون إذا شرك أحدا من الحفاظ لم يخالفه فإن خالفه فوجد حديثه أنقص كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه ا هـ
فقد جعل زيادة العدل الذي يختبر ضبطه غير مقبولة إذا خالفت رواية الحافظ بل مضرة بحديثه لدلالتها على قلة ضبطه وتحريه بخلاف نقصه من الحديث لدلالته على تحريه فإذا كانت زيادة العدل الذي لم يعرف ضبطه بعد غير مقبولة إذا خالفت رواية الحافظ تكون زيادة الثقة غير مقبولة إذا خالفت رواية من هو أوثق منه رعاية للراجح في الموضعين
فإن تصورت أن نسبة العدل الذي لم يعرف ضبطه بعد إلى الحافظ ليست كنسبة الثقة إلى من هو أوثق منه بل بينهما فرق ظاهر فافرض المسألة في حديث ورد من طريقين رجال أحدهما من الدرجة العليا في رواة الصحيح ورجال الآخر من الدرجة الدنيا في رواة الحسن غير أنه وقعت في روايتهم زيادة منافية لما وقع في الرواية الأخرى التي إسنادها من أعلى الأسانيد فهل تتصور أن من يرد الزيادة في المسألة السابقة يتوقف في رد الزيادة هنا وبما ذكرنا يظهر لك قوة ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من دلالة كلام الإمام الشافعي على أن زيادة الثقة ليست مقبولة عنده مطلقا

الشاذ والمحفوظ والمنكر والمعروف
اختلفوا في حد الحديث الشاذ فقال جماعة من علماء الحجاز هو ما روى الثقة مخالفا لما رواه الناس وعبارة الشافعي في ذلك ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس وهو مشعر بأن المخالفة الثقة لمن هو أرجح منه وإن كان واحدا كافية في الشذوذ
وقال أبو يعلى الخليلي الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ شيخ ثقة كان أو غير ثقة فما كان من غير ثقة فمتروك لا يقبل وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به فلم يشترط في الشاذ تفرد الثقة بل مطلق التفرد
وقال الحاكم الشاذ هو الحديث الذي يتفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة فلم يشترط فيه مخالفة الناس وذكر أنه يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه من إدخال حديث في حديث أو وهم راو فيه أو وصل مرسل ومحو ذلك والشاذ لم يوقف فيه على علة لذلك
قال بعض العلماء وهذا مشعر بأنه أدق من المعلل فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب والحفظ الواسع
ومن أوضح أمثلته ما أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق عبيد بن غنام النخعي عن علي بن حكيم عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح

كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى وقال صحيح الإسناد قال البيهقي عندهما والشذوذ مناف للصحة كما عرفت في حد الصحيح مع أن في الصحيحين أحاديث كثيرة ليس لها إلا إسناد واحد تفرد به ثقة وذلك كحديث إنما الأعمال بالنيات وحديث النهي عن بيع الولاء وهبته وغير ذلك
وقد ذكر ابن الصلاح في أمر الشاذ تفصيلا أورده بعد ان أنكر على الخليلي والحاكم ما أتيا به من الإطلاق فيه فقال
إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما تفرد به شاذا مردودا وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في ذلك الراوي المنفرد فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه كما فيما سبق من الأمثلة وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارما له مزحزحا عن حيز الصحيح
ثم هو بعد ذلك دائر مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف وغن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان أحدهما الحديث الفرد المخالف والثاني الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ا هـ
وقد حاول بعضهم الجواب عن الحاكم فقال إن مقتضى كلامه أن في الصحيح الشاذ وغير الشاذ فلا يكون الشذوذ عنده منافيا للصحة فقال إن مقتضى كلامه أن في الصحيح الشاذ وغير الشاذ فلا يكون الشذوذ عنده منافيا للصحة مطلقا ويدل على ذلك أنه ذكر في أمثلة الشاذ حديثا أخرجه البخاري في صحيحه من الوجه الذي حكم عليه

بالشذوذ ويؤيد ذلك ما ذكره الحاكم في الشاذ من أنه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل على لك وما في الصحيحين من ذلك ليس مما ينقدح في نفس الناقد أنه غلط
وأما الخليلي فإن الجواب عنه وإن كان ليس سهلا كالجواب عن الحاكم فإنه يمكن أن يقال إنه ليس في كلامه ما يمنع تسمية ما ذكر من الأحاديث السابقة ونحوها صحيحا ولا ينافي ذلك قوله إنه يتوقف فيه ولا يحتج به ألا ترى أنهم يقولون إن الحديثين الصحيحين إذا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر توقف فيهما فالتوقف في الحديث لعارض لا يمنع من تسميته صحيحا
والشذوذ ونحوه يطلق غالبا على ما يتعلق بالمتن لوجود ما يقتضي لك فيه أو في طريقة وقد يطلق على ما يتعلق بالمتن أو السند وعليه يقال الشذوذ هو مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه سواء كانت بالزيادة أو النقص في المتن أو السند
مثال الشذوذ في المتن ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه
قال البيهقي خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه و سلم لا من قوله وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ
ومن أمثلة الشاذ من الأحاديث حديث يوم عرفة وأيام التشريق أيام أكل وشرب فإن المحفوظ في ذلك إنما هو أيام التشريق أيام أكل وشرب وقد جاء الحديث من جميع الطرق على هذا الوجه
وأما زيادة يوم عرفة فيه فإنما بها موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر غير أن هذا الحديث وهو حديث موسى قد حكم بصحته ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال إنه على شرط مسلم والترمذي وقال إنه حسن

صحيح وكأنهم جعلوها من قبيل زيادة الثقة التي ليس فيها شيء من المنافاة لإمكان حملها علا حاضري عرفة فإن الصوم مكروه لهم في ذلك اليوم وغن كان مستحبا لغيرهم
ومثال الشذوذ في السند ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه فقال النبي صلى الله عليه و سلم هل له أحد فقالوا لا إلا غلام أعتقه فجعل صلى الله عليه و سلم ميراثه له فإن حماد بن زيد رواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة ولم يذكر ابن عباس وتابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره فقال أبو حاتم المحفوظ حديث ابن عيينة مع كون حماد من أهل العدالة والضبط ولكن رجح رواية من هم أكثر عددا منه
هذا من قبيل في الشاذ ويقال لمقابله وهو الراجح من متن أو سند المحفوظ وفي تسمية بذلك إشارة إلى أن الشاذ لما كان أقرب إلى وقوع الخطأ والوهم فيه من مقابله الراجح عليه بمنزلة غير المحفوظ
والمعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح أنه ما يرويه الثقة مخالفا لمن هو أرجح منه
وأما المنكر فقد اختلف أيضا في حده والمعتمد فيه بحسب الاصطلاح أنه ما يرويه غير الثقة مخالفا لمن هو أرجح منه
فهما متباينان لا يصدق أحدهما على شيء مما يصدق عليه الآخر وهما يشتركان في اشتراط المخالفة ويمتاز الشاذ عنه بكون راويه ثقة ويمتاز المنكر عن الشاذ بكون راويه غير ثقة
وقال بعض أهل الأثر إذا تفرد الصدوق بما لا متابع له فيه ولا شاهد ولم يكن عنده من الضبط ما يشترط في الصحيح ولا الحسن قيل لما تفرد به شاذ

وهذا هو أحد القسمين منه فإن خولف مع ذلك كان ما تفرد به أشد في الشذوذ وربما سماه بعضهم منكرا وإن كان عنده من الضبط ما يشترط في الصحيح أو الحسن لكنه خالف من هو أرجح منه قيل لما تفرد به شاذ وهذا هو القسم الثاني من الشاذ وهذا هو الذي شاع إطلاق اسم الشاذ عليه
وإذا تفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه خاصة أو نحوهم ممن لا يحكم لحديثهم بالقبول بغير عاضد يعضده بما لا متابع له وشاهد قيل لما تفرد به منكر وهذا هو أحد قسمي المنكر وهو الذي وجد إطلاق المنكر عليه لكثير من المحدثين كأحمد والنسائي
فإن خولف مع ذلك كان ما تفرد به أجدر بإطلاق اسم المنكر عليه مما قبله وهذا هو القسم الثاني من المنكر وهو الذي شاع عند الأكثرين إطلاق اسم المنكر عليه
وذكر مسلم في مقدمة صحيحة ما نصه وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحدث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم ولم تكد توافقها فإن الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة ا هـ
قال الحافظ ابن حجر والرواة الموصوفون بهذا هم المتركون فعل هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة وهذا هو المختار وجعل ابن الصلاح المنكر بمعنى الشاذ وسوى بينهما وقسم الشاذ كما ذكرنا ذلك آنفا إلى قسمين وأشار إلى التسوية بينهما في بحث المنكر حيث قال
بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي أنه قال المنكر هو الحديث الذي ينفرد به الرجل ولا يعرف متنه من غير روايته لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث والصواب فيه

التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ وعند هذا نقول المنكر ينقسم إلى قسمين على ما ذكرناه في الشاذ فإنه بمعناه ا هـ
وقد أنكر عليه بعض العلماء التسوية بينهما وانتصر له بعضهم فقال قد أطلقوا في غير موضع النكارة على رواية الثقة مخالفا لغيره ومن ذلك حديث نزع الخاتم حيث قال أبو داود هذا حديث منكر مع أنه من رواية همام بن يحيى وهو ثقة احتج به أهل الصحيح وفي عبارة النسائي ما يفيد في هذا الحديث بعينه أنه يقابل المحفوظ والمعروف ليسا بنوعين حقيقين تحتهما أفراد مخصوصة عندهم
وأجيب بأن الأولى في مراعاة الأكثر الغالب في الاستعمال عند جمهور أهل الاصطلاح هذا ما قيل في المنكر
ويقال لمقابله وهو الراجح من متن أو سند المعروف
مثال المنكر من جهة المتن ما رواه النسائي وابن ماجة من حديث أبي زكير يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أو رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان إذا رأى ذلك غاظه ويقول غاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق
قال النسائي هذا حديث منكر تفرد به أبو زكير وهو شيخ صالح أخرج له مسلم في المتابعات غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده بل قد أطلق عليه الأئمة القول بالتضعيف فقال ابن معين ضعيف وقال ابن حبان لا يحتج به وقال العقيلي لا يتابع على حديثه وقال ابن عدي أحاديثه مستقيمة سوى أربعة عد منها هذا

ومثال المنكر من جهة الإسناد ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن حبيب وهو أخو حمزة بن حبيب الزيات المقرئ عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن بان عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أقام الصلاة وآتى الكاة وحج وصام وقرى الضيف دخل الجنة
قال أبو حاتم هو منكر لأن غير حبيب من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا وهو المعروف
وينقسم المقبول أيضا إلى مأخوذ به وغير مأخوذ به وذلك لأنه لا يخلو من أن يسلم من معارضة حديث آخر يضاده أولا
فإن سلم من ذلك قيل له المحكم وحكمه الأخذ بلا توقف وأمثلته كثيرة منها لا يقبل الله صلاة بغير طهور وحديث إنما الأعمال بالنيات
وإن لم يسلم من معارضة حديث آخر يضاده فلا يخلو من أن يكون معارضه مقبولا أولا فإن كان غر مقبول فالحكم للمقبول إذ لا حكم للضعيف مع القوي وإن كان مقبولا فلا يخلو من أن يمكن بينهما بغير تعسف أولا فإن أمكن الجمع بينهما بغير تعسف أخذ بهما معا لظهور أن لا تضاد بينهما عند إمعان النظر ونما هو بالنظر لما يبدو في أول وهلة ويقال لهذا النوع مختلف الحديث وللجمع بين الأحاديث المختلفة فيه تأويل مختلف الحديث وهو أمر لا يقوم به حق القيام غير أفراد من العلماء الأعلام الذين لهم براعة في أكثر العلوم لا سيما الحديث والفقه والأصول والكلام وللإمام الشافعي فيه مصنف جليل من جملة كتب الأم وهو أول من صنف في ذلك
قال ابن الصلاح وإنما يكمل للقيام بمعرفة مختلف الحديث الأئمة الجامعون بين صناعتي الحديث والفقه الغواصون على المعاني الدقيقة واعلم أن ما يذكر في

هذا الباب ينقسم إلى قسمين
أحدهما أن يمكن الجمع بين الحديثين ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك القول بهما معا ومثاله حديث لا عدوى ولا طيرة مع حديث لا يورد ممرض على مصح وحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد
ووجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه بمرضه ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب
ففي الحديث الأول نفى صلى الله عليه و سلم ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن ذلك يعدي بطبعه ولهذا قال فمن أعدى الأول وفي الثاني أعلم بأن الله سبحانه جعل ذلك سببا لذلك ولهذا الحديث أمثال كثيرة وكتاب مختلف الحديث لابن قتيبة في هذا المعنى إن لم يكن قد أحسن فيه من وجه فقد أساء في أشياء منه قصر باعه فيها وأتى بما غيره أولى وأقوى
وقد روينا عن محمد بن إسحاق بن خزيمة الإمام أنه قال لا أعرف أنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما
القسم الثاني أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما وذلك على ضربين أحدهما أن يظهر كون أحدهما ناسخا والاخر منسوخا فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ
والثاني أن لا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما فيفزع حينئذ إلى الترجيح ويعمل بالأرجح منهما والأثبت كالترجيح بكثرة الرواة أو بصفاتهم في خمسين وجها من وجوه الترجيحات وأكثر ولتفصيلها موضع غير هذا ا هـ
وإنما شرطوا في مختلف الحديث ان يمكن فيه الجمع بغير تعسف لأن الجمع

مع التعسف لا يكون إلا بحمل الحديثين المتعارضين معا أو أحدهما على وجه لا يوافق منهج الفصحاء فضلا عن منهج البلغاء في كلامهم فكيف يمكن حينئذ نسبة ذلك إلى أفصح الخلق على الإطلاق ولذلك جعلوا هذا في حكم ما لا يمكن فيه الجمع وقد ترك بعضهم ذكر هذا القيد اعتمادا على كونه مما لا يخفى
وقد أنكر كثير من المحققين كل تأويل بعيد وإن لم يتبين فيه التعسف حتى توقفوا في كثير من الأخبار التي رواها الثقات لأمر دعاهم إلى ذلك مع انهم لو أولوها كما فعل غيرهم لزال سبب التوقف ولكن لما رأوا التأويل فيها لا يخلو عن بعد لم يلتفتوا إليه ومنهم العلامة تقي الدين بن تيمية فإنه مع كونه كابن حزم في شدة الميل إلى التمسك بالآثار متى لاحت عليها أمارة من أمارت الصحة
حكم بغلط الراوي في رواية وأنه ينشئ للنار خلقا وذلك في حديث تخاصم الجنة والنار إلى ربهما المذكور في البخاري في باب إن رحمة الله قريب من المحسنين وقال إن الصواب في ذلك ما رواه في موضع آخر وهو وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا غير أن الراوي سبق لسانه إلى النار عوضا عن الجنة
مع أن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى تأويله مع معارضته في الظاهر لقوله سبحانه وتعالى ( ولا يظلم ربك أحدا ) وذلك للتخلص من نسبة الغلط إلى الراوي فقال بعضهم المراد بالخلق ما يكون من غير ذوي الأرواح وذلك كأحجار تلقي في النار وذلك لئلا يلزم أن يعذب أحد بغير ذنب وقال بعضهم لا مانع أن يكون المنشأ للنار من ذوي الأرواح غير أنهم لا يعذبون بها وذلك كما في خزنتها من الملائكة وثم تأويلات أخرى لا يليق ذكرها إلا بمن لا يعرف قدر القول الفصل
وحكم بوهم الراوي في زيادة ولا يرقون وفي الحديث الذي ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب إنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى

ربهم يتوكلون وهذه الزيادة وهي ولا يرقون وقعت في إحدى روايات مسلم
واستدل على كونها وهما بكون الراقي محسنا إلى أخيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن الرقي من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقي ما لم يكن شركا
وجعل الفرق بين الراقي والمسترقي أن الراقي محسن نافع والمسترقي ملتفت إلى غير الله بقلبه مع انه يمكن تخصيص الراقي هنا بمن كان معتمدا على رقيته معتقدا عظم نفعها للمسترقي ملتفتا إلى ذلك كما هو مشاهد في بعض الرقاة عرف أخذ به وكان هو الناسخ والآخر هو المنسوخ
مثال ذلك ما رواه مالك بن أنس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعودا فلما انصرف قال إنما جعل الله الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون
وما رواه مالك أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر ا هـ
فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه و سلم قاعدا والناس خلفه قياما في

مرضه الذي مات فيه عرفنا أن أمره الناس بالجلوس في سقطته عن الفرس كان قبل ذلك فتكون صلاته قاعدا والناس خلفه قياما ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام وموافقة لما أجمع عليه الناس من أن الصلاة قائما إذا أطاقها المصلي وقاعدا إذا لم يطق ذلك وأن ليس للمطيق القيام منفردا أن يصلي قاعدا فيصلي المريض خلف الإمام الصحيح قاعدا والإمام قائما ويصلي الإمام المريض جالسا ومن خلفه من الأصحاء قياما يصلي كل منهما فرضه كما لو كان منفردا ولو استخلف الإمام غيره كان حسنا
وقد وهم بعض الناس وقال لا يؤمن أحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم جالسا واحتج بحديث رواه منقطعا عن رجل مرغوب عن الرواية عنه لا يثبت بمثله حجة على أحد فيه لا يؤمن أحد بعدي جالسا
وإن كان متعلق الحديثين مما لا يمكن وقوع النسخ فيه كالخبر المحض أو كان مما يمكن وقوع النسخ فيه كالأمر والنهي ولكن لم يعرف المتأخر منهما نظر في المرجحات فإن وجد في أحدهما ما يقتضي رجحانه على الآخر أخذ به وترك الآخر فإن لم يوجد ذلك وجب التوقف فيهما
أما القسم الأول وهو ما لا يمكن وقوع النسخ فيه فلأن التعارض فيه بين الحديثين إنما يكون بالتناقض والتناقض بين الخبرين يدل على أن أحدهما كذب قطعا تفلا يكون صادرا من النبي صلى الله عليه و سلم ولما كان غير متعين وجب التوقف في كل منهما في أمر الدين وأمر التوقف هنا مما لا يظن أنه توقف فيه أحد يعرف
وقد بلغ الإفراط في الاحتياط ببعض المعتزلة وهو أبو بكر بن كيسان الأصم البصري إلى أن قال كما ذكره ابن حزم لو أن مئة خبر ثبت أنها كلها صحاح إلا واحد منها لا يعرف بعينه أيها هو فإن الواجب التوقف عن جميعها
وأما القسم الثاني وهو ما يمكن وقوع النسخ فيه فلأن التعارض فيه بين

الحديثين لما لم يوقف على طريق إزالته وهو معرفة الناسخ منهما أو الراجح تعين المصير إلى التوقف لعدم وجود طريق إلى غير ذلك
وأما الجمع بينهما فغير ممكن لإفضائه إلى التكليف بالمحال وقيل بالتخيير وقيل غير ذلك
ومبحث التعارض والترجيح من أهم مباحث أصول الفقه وأصبعها وقد أطلق العلماء في ميدانه الفسيح الأرجاء أعنة أقلامهم فمن أراد الاستيفاء فعليه بالكتب المبسوطة فيه غير أنه ينبغي له أن يختار منها الكتب التي لأربابها براعة في نحو الأصول

فوائد تتعلق بمبحث التعارض والترجيح
الفائدة الأولى
ذهب كثير من العلماء إلى أنه يمتنع أن يرد في الشرع متكافئان في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح مع تعارضهما من كل وجه وبه قال العنبري وابن السمعاني وقال هو مذهب الفقهاء وحكاه عن أحمد بن حنبل القاضي وأبو الخطاب من أصحابه وهو المنقول عن الشافعي
قال الصيرفي في شرح الرسالة صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أبدا حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم نجده
وذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع بل هو جائز وواقع وقد اختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر فقيل إنه يخير وقيل إن الدليلين يتساقطان ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع إلى عموم أولي البراءة الأصلية ونقل ذلك عن أهل

الظاهر وأنكر على ابن حزم نسبته إليهم وقال إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطا بل الواجب الأخذ بالزائد إذا لم يقدر على استعمالهما جميعا
وقيل إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما وإن كان بين قياسين يخير بينهما
وقيل بالتوقف واستبعده بعضهم وقال كيف يتوقف لا إلى غاية وأمد إذ لا يرجى فيه ظهور الرجحان وإلا لم يكن مما فرض فيه التعادل في نفس الأمر بخلاف ما فيه التعادل بالنظر إلى ظاهر الحال فإنه يرجى فيه ظهور المرجح فيعقل التوقف فيه إلى أن يظهر المرجح
وقيل يؤخذ بالأشد وقيل يصار إلى التوزيع إن أمكن تنزيل إحدى الأمارتين على أمر والأمارة الأخرى على أمر آخر
وقيل إن الحكم فيه كالحكم قبل ورود الشرع فتجيئ فيه الأقوال المشهورة في ذلك
وقد نسب القول المذكور وهو القول بتكافؤ الأدلة إلى القائلين بأن كل مجتهد مصيب ولذا قال بعض العلماء إن الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يتعين عند من يقول إن المصيب في الفروع واحد وأما من يقول إن كل مجتهد مصيب فلا يتعين عنده الترجيح لاعتقاده أن الكل صواب
وقد أنكر كثير من العلماء هذا القول
قال العلامة أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي في كتاب الموافقات التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر وإما من جهة نظر المجتهد
أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك في مسألة أن الشريعة على قول واحد ما فيه كفاية

وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسب إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين وهو صواب فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض كالعام مع الخاص والمطلق مع القيد وأشباه ذلك
وقال في كتاب الاجتهاد في المسألة الثالثة الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف كما أنها في أصولها كذلك
والدليل عليه أمور
أحدها أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثيرة كلها قاطع في أنها لا اختلاف فيها
الثاني أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا والفرض خلافة
فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة وكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجني ثمرة إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين لكن هذا باطل بإجماع على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة وهكذا القول في كل دليل مع معارضة كالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد وما أشبه ذلك
الثالث أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق

لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع فإما أن يقال إن المكلف مطلوب بمقتضاهما أو لا أو مطلوب بأحدهما دون الآخر والجميع غير صحيح
فالأول يقتضي افعل لا تفعل لمكلف واحد من وجه واحد وهو عين التكليف بما لا يطاق
والثاني باطل لأنه خلاف الفرض إذ الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فليزم منه ما تقدم لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين لأنه خلاف الفرض وهو أيضا قول واحد لا قولان لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف وهو المطلوب
الرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن لك فاسد فما أدى إليه مثله
الخامس أنه شيء لا يتصور لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يحصل مقصوده لأنه إذا قال في الشيء الواحد افعل لا تفعل فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله لا تفعل لقوله لا تفعل ولا طلب تركه لقوله افعل فلا يحصل للمكلف فهم التكليف فلا يتصور توجهه على حال والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل انتهى باختصار قليل ثم أورد بعد ذلك اعتراضات من طرف المخالفين وأجاب عنها

وقال الفخر في المحصول اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين فمنع الكرخي منه مطلقا وجوزه الباقون
ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه فعند القاضي أبي بكر منا وأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة حكمه التخيير وعند بعض الفقهاء حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل
والمختار أن نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متنافيين والفعل واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا وواجبا وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجيه إلى جهتين قد غلب في ظنه أنهما جهة القبلة
أما القسم الأول فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع
إما أنه جائز في الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات وتستوي عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر
وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا أو مباحا فإما أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو يعمل بأحدهما دون الثانية وهو محال لأنهما لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن العمل بهما البتة كان وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى
وأما الثالث وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين أولا على التعيين والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي وإنه غير جائز والثاني أيضا باطل لأنا إذا خيرناه بين الفعل والترك فقد أبحنا له الفعل فيكون ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر ولك هو القسم الذي تقدم إبطاله فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في

حكمين متنافيين والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة فوجب ان يكون باطلا
ثم قال وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين والحكم واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير والدليل على جوازه وقوعه في صور
إحداها قوله عليه الصلاة و السلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن ملك مئتين فقد ملك أربع خمسينات وخمس أربعينات فإن أخرج الحقات فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في كل خمسين حقه وإن اخرج بنات اللبون فقد عمل بقوله في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين أولى من الآخر
وثانيتها من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب منها شاء لأنه كيف فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة
وثالثتها أن الولي إذا لم يجد من اللبن لا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسمه عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات الآخر فها هنا هو مخير بين أن يسقي هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ولا سبيل التخيير
ورابعتها أن ثبوت الحكم في الفعليين المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك يقتضي إيجاب فعل الضدين كل واحد منهما بدلا من الآخر
واحتج الخصم على فساد التخيير بأن أمارة وجوي كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا
والجواب أن اارة وجوب الفعل تقتضي وجوبه قطعا فأما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين ا هـ

وقد اعترض على الفخر في هذا الموضع بعض من يقول بوقوع التعارض في كلام الشارع على جهة التكافؤ فأتى بما لا يخرج عن دائرة الخيال واكتفى بذلك عن الإتيان بمثال

الفائدة الثانية
قد ذكر ابن حزم في كتاب الإحكام في أصول الأحكام مبحث التعارض وبين فيه مسلكه فأحببت إيراد ما ذكره على طريق التلخيص قال
فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص
قال علي إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك لأنه ليس بعض ذلك بأولى بالاستعمال من بعض ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ولا آية أولى بالطاعة من آية أخرى مثلها كل من عند الله عز و جل وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال
قال علي ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز و جل ( وأقيموا الصلاة ) وبين وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمره أن يصلي المقيم ظهرا والمسافر ركعتين وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط
فإذا ورد النصان كما ذكرنا فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما وليس تعارضا من أحد أربعة أوجه لا خامس لها
الوجه الأول أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والآخر نافيا فالواجب ها هنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني وذلك

3 - ثل امر الله عز و جل بقطع يد السارق والسارقة جملة مع قوله عليه الصلاة و السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه
ومثل قوله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات وبقي سائر المشركات على التحريم
ومثل أمره عليه الصلاة و السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين
فقد رأينا في هذا المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني ولا نبالي في هذا الوجه كنا نعلم أي النصين ورد أولا أو لا نعلم ذلك وسواء كان الأكثر معاني ورد أولا أو ورد آخرا كل ذلك سواء ولا يترك واحد منهما للآخر ولكنهما يستعملان معا كما ذكرنا
الوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر فهذا يظنه قوم تعارضا وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء وليس في شيء من ذلك تعارض وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب وذلك مثل قوله عز و جل ( وبالوالدين إحسانا ) وقوله في موضع آخر ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم بل هو بعضه وداخل في جملته
وقد غلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله عليه الصلاة و السلام في سائمة الغنم كذا معارضا لقوله في مكان آخر في كل أربعين شاة وليس كما ظنوا بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة

وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) معارضا لقوله تعالى ( فكلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ولقوله تعالى ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم )
وظن قوم أن قوله تعالى ( أو دما مسفوحا ) معارض لقوله تعالى لا ( حرمت عليكم الميتة والدم ) وليس كذلك على ما قدمنا قبل لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر
ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة ولا أملا بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة
ولا في إخباره تعالى بأنه خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيه \ عها ولا إباحة لهما فحكمهما مطلوب من مكان آخر
ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخبار بأن ما عدا المسفوح حلال بل هو كله حرم بالآية الأخرى كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم ولا أمر به فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل بغير علم ولا هدى من الله تعالى قال علي فهذا وجه
والوجه الثالث أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان ما أو مكان ما أو شخص ما أو عدد ما ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما بكيفية ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهي عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما

لبعض ما ذكر في النص الآخر ولأشياء أخر معه ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر ولأشياء أخر معه
قال علي وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص ومن أغمضه وأصعبه ونحن بمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف ليعلم طالب العلم الحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز و جل وما وجدنا أحدا قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب فإن الغلط والتناقض يكثر فيه جدا إلا من سدده الله بمنة ولطفه لا إله لا هو
فمن ذلك أمره عليه الصلاة و السلام بالإنصات للخطبة وفي الصلاة مع قوله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها ) فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عاما يشمل كل كلام سلاما كان أو غيره ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة ووجدنا في النص الثاني إيجاب رد السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم
فقال بعض العلماء معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه ورده في الخطبة وقال بعضهم رد السلام وسلم إلا أن تكون منصتا للخطبة أو في الصلاة
قال علي فليس أحد الاستثنائين أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل من غيرهما وقال وغنما صرنا إلى إيجاب رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بين بأنه عليه الصلاة و السلام فيها فلم يرد بعد أن كان يرد وأنه سئل عن ذلك فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه أحدث أن لا تكلموا في الصلاة أو كلاما هذا معناه
وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجبا أن لا يرد أيضا في الخطبة لأن الخطبة ليست صلاة ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة وأما

الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود والأصل إباحة الكلام جملة ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة وجاء الأمر برد السلام واجبا فكان النهي عن الكلام زيادة عل معهود الأصل وشريعة واردة قد تيقنا لزومها وكان رد السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه فصرنا بهذا إلى الترتيب الذي ذكرنا القسم الأول منه آنفا
قال علي ونقول قطعا إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثنائين والحق من الاستعمالين لأن الله قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ها هنا دليل لائح وبرهان واضح لكان ضمان الله خائنا وهذا كفر لمن أجازه فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسره الله تعالى لفهمه وبالله التوفيق
الوجه الرابع أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره قال علي فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر لا يجوز غير هذا أصلا
وبرهان ذلك أنا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل ثم لزمنا يقينا العمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقينا إخراجنا عما كنا عليه ثم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل ولا يجوز أن نترك يقينا بشك ولا أن نخالف الحقيقة للظن وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) وقال تعالى ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )
ولا يحل أن يقال فيما صح وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفا أن يكون منسوخا ولا أن يقول قائل لعله منسوخ كيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك
وبرهان ذلك ما ذكرناه آنفا من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل

فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلا بمنسوخ حتى لا يدري الناسخ من المنسوخ أصلا لكان الدين غير محفوظ وقد صح بيقين لا إشكال فيه نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين بورود النص الناقل عن تلك الحال
فمن ذلك أمره عليه الصلاة و السلام أن لا يشرب أحد قئما وجاء الحديث بأنه عليه الصلاة و السلام شرب قائما فقلنا نحن علي يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع ثم جاء النهي عن الشرب قائما بلا شك فكان مانعا مما كنا عليه من الإباحة السالفة ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه ولم نبال زائدا كان على معهود الأصل أم موافقا له
كما فعلنا في الوضوء مما مست النار فإنه لولا أنه روى جابر أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار ولكن ما صح انه منسوخ تركناه
وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر وأخذ بضده فذو بنيان هار يخاف أن ينهار به في النار
قال علي وغن أمدنا الله بعمر وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتبا كافية من غيرها فهذه الوجوه هي التي فيها الغموض وقد بيناها بتوفيق الله عز و جل
وها هنا وجه خامس ظنه أهل الجهل معارضا ولا تعارض فيه أصلا ولا إشكال وذلك ورود حديث بحكم ما في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه فظنه قوم تعارضا وليس كذلك ولكنهما جميعا مقبولان ومأخوذ بهما
ونحو ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق ابن مسعود

بالتطبيق في الركوع وروي من طريق أبي حميد وضع الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه وكلا الأمرين جائز أي ذلك فعله المرء حسن
قال علي إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعا من الوجه الآخر وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب نصا مانعا من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده ومنعه ما كان مباحا قبل ذلك وقد وجدنا أمرا ثابتا بالأخذ بالركب فخرج عن هذا الباب وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد أننا كنا نفعله ثم نهينا عنه وأمرنا بالأخذ بالركب
وهذا إنما هو في الأفعال الصادرة منه عليه الصلاة و السلام لا في الأوامر المتدافعة ومثل ذلك ما روي من نهيه عليه الصلاة و السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها مع قوله تعالى وقد ذكر ما حرم من النساء ثم قال ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) فكان نهي النبي صلى الله عليه و سلم مضادا إلى ما نهرى الله عنه في هذه الآية
وقد سقط هنا قوم أساؤوا النظر جدا فقالوا إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما وعدم ذكره في نص آخر دليل على سقوطه وهذا ساقط جدا لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل آية وفي كل حديث ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها لأنها غير مذكورة في كل آية ولا في كل حديث
فصح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض أو ضرب الحديث بالقرآن وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جهله إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل والذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث وبالله التوفيق
فكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض ومضاف بعضه إلى بعض ومبني بعضه على بعض إما بعطف وإما باستثناء وهذان

الوجهان أعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبدا وقد بين ذلك النبي عليه الصلاة و السلام في حلة عطارد إذ قال لعمر إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم بعث إليه حلة سيراء فأتاه عمر فقال يا رسول الله أبعثت إلي هذه وقد قلت في حلة عطارد ما قلت إني لم أبعثها إليك لتلبسها وفي بعض الأحاديث إنما بعثت إليك بها لتصيب بها حاجتك أو كلاما هذا معناه
ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها لأنه صلى الله عليه و سلم أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط وأن لا يتعدى ما أمر إلى غيره وأن لا تعارض بين أحكامه
وفي هذا الحديث أن حكمه عليه الصلاة و السلام في عين ما حكم على جميع نوع تلك العين لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد ثم أخبر عليه الصلاة و السلام أن ذلك الحكم جار في كل حلة حرير وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير اللباس وهذا هو قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس
هذا ما قاله ابن حزم ولم يقتصر على ذلك بل وصله بتتمة فقال

فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص
قال علي وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو كان أحدهما موجبا والآخر مسقطا قال فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان
قال علي وهذا خطأ من جهات
أحدها أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب فيه باطل بضرورة الحس والمشاهدة

الثاني أنهم يتركون كلا الخبرين والحق في أحدهما بلا شك فإذا تركوهما جميعا فقد تركوا لاحق يقينا في أحدهما ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلا
الثالث أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو إحداهما موجبة والثانية نافية بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق في وجوب ما جاء في القرآن وبين وجوب ما جاء في كلام النبي عليه الصلاة و السلام
قال علي وكان في حجتهم في ذلك إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك ولسنا نعلمه بعينه فلما لم نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فندخل في قوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) الآية
قال علي وهذه الحجة فاسدة من وجهين أحدهما أنهم يلزمهم مثل ذلك في الآيتين وهم لا يفعلون لك والوجه الثاني أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية إن هذا منسوخ إلا بيقين ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده فهو الناسخ بلا شك ونحن على شك هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أم لا فحرام ترك اليقين للشكوك وبالله التوفيق
قال علي وقد سبق خاطر أبي بكر محمد بن داود إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق
قال علي وقال بعض أهل القياس نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة
قال علي وهذا باطل لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يؤخذ به من الخبرين المردودين إليه بل النصوص كلها سواء في وجوب الأخذ بها والطاعة لها فإذ قد صح ذلك بيقين فماذا الذي جعل بعضها مردودا وبعضها

مردودا إليه وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلا وبعضها فرعا وبعضها حاكما وبعضها محكوما فيه
فإن قال الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حط درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما قال علي وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان لأنه ليس الاختلاف لكونهما معروضا على غيهما لأن الاختلاف باطل فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز و جل ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سببا لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض وهذا برهان ضروري
قال علي وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها فلا يجوز تقوية أحدهما بالآخر وغنما ذلك من باب طيب النفس وهذا هو استحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض
قال علي وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة نذكرها إن شاء الله ونبين غلطهم فيها فمن ذلك أن قالوا إذا كان أحد الخبرين معمولا به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به
قال علي وهذا باطل لما نذكره بعد هذا إلا أننا نقول ها هنا جملة لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقا واجبا أو باطلا فإن كان حقا واجبا لم يزده العمل به قوة لأنه لا يكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق وإن كان باطلا فالباطل لا يحقه أن يعمل به
قال علي وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا فإنا نأخذ بالحاظر وندع المبيح
قال علي وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان ولو عكس عاكس

فقال بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ولقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ولقوله تعالى ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) أما كان يكون قوله أقوى من قولكم ولكنا لا نقول ذلك بل نقول إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر وهو رفع الحرج وهو التخفيف ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم سواء كان حظرا أو إباحة
وقال في فصل آخر وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم ويكون الإجماع على خلافه قال دليل على أنه منسوخ
قال علي وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين أحدهما أو ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ولا سبيل له إلى وجوده أبدا والثاني أن الله تعالى قال ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) فما تكفل الله عز و جل به فهو غير ضائع أبدا والوحي ذكر والذكر محفوظ بالنص فكلامه عليه الصلاة و السلام محفوظ بحفظ الله عز و جل فلو كان الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ
قال علي ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين إما بحديث آخر صحيح وإما بآية متلوة ويكون الاتفاق على النسخ المذكور ثبت إلا أننا نقول لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا منقولا إلينا محفوظا عندنا وإنما الذي منعنا منه أن يكون المنسوخ محفوظا منقولا مبلغا إلينا ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظا فهذا باطل عندنا معدوم البتة

الفائدة الثالثة
قد عرفت فيما سبق أن الحديثين إذا لاح بينهما التعارض ابتدئ أولا بالجمع بينهما فإن لم يمكن ذلك نظر هل هما مما يمكن وقوع النسخ فيه أم لا فإن كانا مما يمكن وقوع النسخ فه بحث عن المتأخر منهما فإن وقف عليه جعل ناسخا وأخذ به

وترك الآخر وغن كانا مما لا يمكن وقوع النسخ فيه أو كانا مما يمكن وقوع النسخ فيه لكن لم يوقف عل المتأخر منهما بحث عن الراجح منهما فإن عرف أخذ به وترك الآخر وإن لم يعرف الراجح منهما تعين التوقف فيهما
قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب اللمع في باب القول في ترجيح أحد الخبرين على الآخر وجملته أنه إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بينهما وترتيب أحدهما على الآخر في الاستعمال فعل وإن لم بمكن وأمكن نسخ أحدهما بالآخر فعل على ما بينته في باب بيان الأدلة التي يجوز التخصيص بها وما لا يجوز فإن لم يمكن ذلك رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح
وقد أورد بعض العلماء هنا إشكالا وهو أن البحث هنا غنما هو في تعارض الحديثين المقبولين وقد سبق قريبا أن الحديث المقبول إذا عارضه حديث غير مقبول أخذ بالمقبول وترك الآخر إذ لا حكم لضعيف مع القوي وما ذكر في هذا الموضع يدل على أن الخبرين المقبولين قد يكون أحدهما راجحا والآخر مرجوحا وقد لا يظهر وجه الترجيح فيتوقف فيهما
وقد تقرر أن الثقة إذا خالفه من هو أرجح منه سمي حديثه شاذا والشاذ من المردود وأن الحديث إذا وقع الخلاف فيه بالإبدال في متنه أو سنده ولا مرجح سمي حديثه مضطربا والمضطرب من المردود
وذهب بعض العلماء إلى تقديم الترجيح ثم الجمع ثم النسخ وذهب آخرون إلى تقديم الترجيح ثن النسخ ثم الجمع وقد ذكر بعض من ذهب إلى تقديم الترجيح على ما سواه أن العقول مطبقة على تقديم الراجح على غيره فتقديم غيره عليه هدم لقواعد الأصول وأما هذه الأصول فهي من تصرفات العقول

فكل من أبدى فيها وجها معقولا قبل منه وإن خالف المشهور الذي عليه الجمهور
نعم يسوغ تأويل المرجوح بعد تقديم الراجح عليه بحمله على الراجح عليه من غير أن ينقص شيئا من معناه وليس هذا من قبيل الجمع فإن الجمع هو أن يحمل كل منهما على بعض معناه
وأما قول من قال الإعمال أولى من الإهمال فإن أراد الإعمال ولو مع رجحان غيره عليه فممنوع وإن أراد الإعمال مع تساوي الحديثين فمسلم
وقال بعض المرجحين لهذا القول الملخص من التعارض من وجهين
أحدهما ما يرجع إلى الركن بأن لم يكن بين الدليلين مماثلة كنص الكتاب والخبر المتواتر مع خبر الواحد والقياس أو خبر الواحد مع القياس لأن شرط قبول خبر الواحد والقياس أن لا يكون ثمة نص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع بخلافه
وكذا إذا كان لأحد الخبرين من الآحاد أو لأحد القياسين رجحان على الآخر بوجه من وجوه الترجيح لأن العمل بالراجح واجب عند عدم التيقن بخلافه ولا عبرة للمرجوح بمقابلة الراجح
ولكن هذا إنما يستقيم بين خبري الواحد وبين القياسين لأن كلا منهما ليس بدليل موجب للعلم وإنما يوجب الظن أو علم غالب الرأي وهذا يحتمل التزايد من حيث القوة بوجوه الترجيح
فأما بين النصين كتابا وسنة متواترة في حق الثبوت فلا يتصور الترجيح لن العلم بثبوتهما قطعي والعلم القطعي لا يحتمل التزايد في نفسه من حيث الثبوت وإن كان يحتمله من حيث الجلاء والظهور إلا إذا وقع التعارض في وجبهما بأن كان أحدهما محكما والآخر فيه احتمال فالمحكم أولى
وثانيهما ما يرجع إلى الشرط بأن لا يثبت التنافي بين الحكمين ويتصور

الجمع بينهما لاختلاف المحل والحال والقيد والإطلاق والحقيقة والمجاز واختلاف الزمان حقيقة أو دلالة
وبيانه أن النصين إذا تعارضا ولم يكن أحدهما خاصا والآخر عاما فإما أن لا يكون بينهما زمان يصلح للنسخ ففي الخاصين يحمل أحدهما على قيد أو حال أو مجاز ما أمكن وفي العامين من وجه يحمل على وجه يتحقق الجمع بينهما وفي العامين لفظا يحمل أحدهما على بعض والآخر على بعض آخر أو على القيد والإطلاق
وأما أن يكون بينهما زمان يصلح للنسخ بأن كان المكلف يتمكن من الفعل والاعتقاد أو من الاعتقاد لا غير على الاختلاف فيه فيمكن العمل بالطريقين بالتناسخ والتخصيص والتقييد والحمل على المجاز في العامين والخاصين فأصحاب الحديث يرون العمل بطريق التخصيص والبيان أولى والمعتزلة يرون العمل بالنسخ أولى
وقال مشايخنا وهو اختيار أبي منصور الماتريدي ينظر في عمل الأمة في ذلك فإن حملوه على النسخ يجب العمل به وإن حملوه لى التخصيص يجب العمل به وإن لم يعرف عمل الأمة في ذلك على أحد الوجهين أو استوى عملهم فيه بأن عمل بعضهم على أحد الوجهين وبعضهم على الوجه الآخر فيرجع في ذلك إلى شهادة الأصول فيعمل بالوجه الذي شهدت به
وإن كان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن عرف تاريخهما وبينهما زمان يصح فيه النسخ فإن كان الخاص سابقا والعام متأخرا نسخ الخاص به وإن كان العام سابقا والخاص متأخرا نسخ من العام بقدر الخاص ويبقى الباقي وإن وردا معا وكان بينهما زمان لا يصح فيه النسخ يبني العام على الخاص فيكون المراد من العام ما وراء المخصوص وهذا قول مشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تابعه من ديارنا
وقال الشافعية يبنى العام على الخاص في الفصلين حتى إن الخاص السابق

يكون مبنيا للعام اللاحق فيكون المراد من العام ما وراء قدر المخصوص بطريق البيان
والجواب فيه على قول مشايخ سمرقند كذلك إذا لم يكن بينهما زمان يصلح للنسخ لأنه لا يندفع التناقض إلا بهذا الطريق فأما إذا كان زمان يصلح للنسخ فقالوا يتوقف في حق الاعتقاد ويعمل بالنص العام بعمومه ولا يبنى على الخاص ا هـ
وقد ذكر كثير من علماء الأصول أن الدليلين المتعارضين قد يكونان متقارنين في الورود عن الشارع وبينوا الحكم في ذلك فقالوا وإن تقارن المتعارضان فإن تعذر الجمع بينهما بحث عن الراجح منهما فإن لم يعلم تعين المصير إلى التخيير
ولم يتعرضوا لذكر النسخ هنا لما أن من شرطه التراخي بينهما فإذا تقارنا الورود لم يمكن جعل أحدهما ناسخا والآخر منسوخا
وقد استشكل بعض العلماء ذلك فقال إن التقارن بين المتنافيين لا يتصور في كلام الشارع لأنه تناقض لا يليق بمنصبه بل لا بد أن يكون أحدهما متأخرا إلا أنه ربما جهل التاريخ
وقد أجاب عن ذلك بعضهم فقال يجوز
أن يراد بالتقارن هنا التقارن في زمن التكلم بالنسة إليه تقدس وتعالى على الوجه المتصور في حقه إذ لا يلزم عليه تناقض لأنه لا يلزم أن يكون ذلك الزمان زمان النسبة
وأن يراد به التقارن في النزول على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إذ لا يلزم عليه تناقض لما ذكر
وأن يراد به التقارن في الورود أي الوصول إلينا أي إلى الطبقة الأولى منا الآخذين عنه عليه أفضل الصلاة والسلام إن تصور تقارن ذلك إذ لا يلزم عليه تناقض أيضا لما ذكر

وأن يراد به التعاقب بالنسبة لزمان المتكلم أو زمان النزول أو زمان الولود خصوصا في الأخير ومن المشهور ان تقارن الأقوال مع اتحاد القائل الحادث ليس إلا بمعنى التعاقب
هذا ولعل الأسبق إلى الفهم من كلامهم أن المدار في التقارن بمعناه الظاهر أو بمعنى التعاقب وغيره بالنسبة للكتاب على زمان النزول وبالنسبة للسنة على زمان الورود أي التكلم منه عليه أفضل الصلاة والسلام
على أن لقائل أن يقول إن التقارن بين المتنافيين لا يلزم على الإطلاق أن يكون تناقضا محذورا لجواز أن يكون للتخيير بينهما أو لحكمة أخرى
فإن قلت حمل التقارن على التعاقب لا يصح هنا لأن مقتضاه النسخ ولم يذكر في أحكام هذا القسم
قلت قد يمنع أن مقتضاه ذلك بناء على اعتبار التراخي في النسخ انتهى ما أجاب به وليته لو أتى بمثال ليعلم أن هذه المسألة ليست محصورة في دائرة الخيال كثير من المسائل المفروضة التي لا ينالها سوى الوهم لا سيما إن كانت بعيدة عن الفهم
وقد وقع في كتب أصول الفقه مسائل كثيرة مبنية على مجرد الفرض وهي ليست داخلة فيه وكثيرا ما أوجب ذلك حيرة المطالع النبيه حيث يطلب لها أمثلة فيرجع بعد الجد والاجتهاد ولم يحظ بمثال واحد
فينبغي الانتباه لهذا الأمر ولما ذكره بعض العلماء وهو أن كل مسألة تذكر في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فهي غير داخلة في أصول الفقه وذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك لم يكن أصلا له
ويخرج على هذا كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيه كمسألة ابتداء وضع اللغات ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا ومسألة أمر

المعدوم ومسألة كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بشرع من قبله أم لا
وكذلك كل مسألة ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه مثل مسألة الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كما في كفارة اليمين فقيل إن الأمر بذلك يوجب واحدا منها لا بعينه وقيل إنه يوجب الكل فعل الكل فقيل الواجب أعلاها وإن تركها فقيل يعاقب على أدناها فهذه المسألة وما أشبهها من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه غير داخلة في أصوله
وقد رأيت في كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الحديث للحافظ الحازمي عبارة ربما كان لها موقع عظيم هنا في المقدمة في بيان شروط النسخ ومنها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا عن المنسوخ فعلى هذا يعتبر الحكم الثاني فإنه لا يعدو أحد القسمين إما أن يكون متصلا أو منفصلا
فإن كان متصلا بالأول لا يسمى نسخا إذ من شرط النسخ التراخي وقد فقد ها هنا لأن قوله عليه الصلاة و السلام لا تلبسوا القمص ولا السرويلات ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين وغن كان صدر الحديث يدل على منع لبس لخفاف وعجزه يدل على جوازه وهما حكمان متنافيان غير أنه لا يسمى نسخا لانعدام التراخي فيه ولكن هذا النوع يسمى بيانا
وإن كان منفصلا نظرت هل يمكن بينهما فإن أمكن الجمع جمع 1

البلخي أبو بكر بن أبي خيثمة إسحاق بن الحسن الحربي سهل بن عمار العتكي
قال أبو عبد الله جميع من ذكرناهم في هذا النوع بعد الصحابة والتابعين فمن بعدهم قوم قد اشهروا بالرواية ولم يعدوا في الطبقة الأثبات المتقنين الحفاظ

ذكر النوع الثاني والخمسين من علوم الحديث
هذا النوع من هذه العلوم معرفة من رخص في العرض على العالم ورآه سماعا ومن رأى بالإجازة من بلد إلى بلد إخبارا ومن أنكر ذلك ورأى شرح الحال فيه عند الرواية
وبيان العرض أن يكون الراوي حافظا متقنا فيقدم المستفيد إليه جزءا من حديثه أو أكثر من ذلك فيناوله فيتأمل الراوي حديثه فإذا خبره وعرف أنه من حديثه قال للمستفيد قد وقفت على ما ناولتنيه وعرفت الأحاديث كلها وهذه رواياتي عن شيوخي فحدث بها عني فقال جماعة من أئمة الحدي إنه سماع منهم من أهل المدينة
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة حكاه مالك عن شيوخه عنه وأبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن زهرة الزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي والعلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري وهشام بن عروة بن الزبير القرشي ومحمد بن عمرو بن علقمة الليثي ومالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وعبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد الأندراوردي في جماعة بعدهم
ومن أهل مكة
مجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم وسفيان بن عيينة الهلالي ومسلم بن خالد الزنجي في جماعة بعدهم

الفائدة الثانية
قد عرفت أن هذا الفن يبحث فيه عن مصطلح أهل الأثر قال الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي في أول شرح ألفيته التي لخص فيها كتاب ابن الصلاح في هذا الفن وبعد فعلم الحديث خطير وقعه كبير نفعه عليه مدار أكثر الأحكام وبه يعرف الحلال والحرام ولأهله اصطلاح لا بد للطالب من فهمه فلهذا ندب إلى تقديم العناية بكتاب في علمه ا هـ
فهذا الفن مدخل لعلم الحديث وقد سماه بعضهم بعلم دراية الحديث وعرفه بقوله علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من صحة وحسن وضعف ورفع ووقف وقطع وعلو ونزول وكيفية التحمل والأداء وصفات الرجال وما أشبه ذلك
وقد اختصره بعضهم فقال علم يعرف به أحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وقد نظمه الجلال السيوطي في ألفيته فقال
( علم الحديث ذو قوانين تحد ... يدرى بها أحوال متن وسند )
( فذانك الموضوع والمقصود ... أن يعرف المقبول والمردود )
وقد فسر بعضهم التعريف المذكور فقال قوله علم يمكن أن يراد به القواعد والضوابط كقولك كل حديث صحيح يسوغ الاحتجاج به والباء في قوله يعرف به للسببية واللام في قوله حال الراوي والمروي للجنس إذ لا يعرف بهذا العلم حال الراوي المعين أو المروي المعين وإنما يعرف به حال غير المعين

وترى ويجوز فيها التنوين وتركه قال تعالى ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) أي واحدا بعد واحد بفترة بينهما وتواتر الخبر مجيء المخبرين به واحدا بعد واحد من غير اتصال

وهاهنا مسائل مهمة تتعلق بهذا المبحث
المسألة الأولى
قد عرفت مما سبق أن الخبر لا يسمى متواترا إلا إذا وجد فيه أمران
أحدهما أن يكون ذلك الخبر مما يدرك بالحس ويكون مستند المخبرين هو الإحساس به على وجه اليقين وذلك مثل أن يقولوا رأينا زيد يفعل كذا وسمعنا عمرا يقول كذا فإن كان الخبر مما لا يدرك بالحس لا يسمى متواترا ولا يفيد العلم وإن كان المخبرون به لا يحصون كثرة فلو استدل مستدل على حدوث العالم بأن أناسا لا يحصرون يقولون بحدوثه وقابله القائل بقدمه بمثل دليله وقال إن أناسا لا يحصرون يقولون بقدمه فمثل هذه المسألة يجب أن يرجع فيها إلى الاستدلال بأمر آخر
الثاني أن يكون عدد المخبرين به بلغ في الكثرة مبلغا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه فإن لم يبلغ المخبرون به هذا المبلغ لم يسم ذلك الخبر متواترا وإن أفاد العلم بسبب أمر آخر يدل على صدقه ومن ثم قال بعضهم المتواتر هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه فاحترز بقوله بنفسه عن الخبر الذي علم صدقه بأمر آخر كقرينة دلت على صدق من أخبر به
تتمة قد يكون الناقلون للخبر طبقة واحدة وهي الجماعة التي استندت في الإخبار إلى الإحساس بالمخبر به وهي المثبتة لأصل الخبر فإذا تلقينا الخبر عنها فالأمر ظاهر وقد يكون الناقلون للخبر طبقتين وذلك فيما إذا تلقينا الخبر عن جماعة تلقت الخبر عن الجماعة التي استندت في الإخبار إلى الإحساس بالمخبر به ويشترط في

2

- سمعت أبا زرعة وذكر حديثا حدثنا به عن الأويسي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر ضرب لليهود والنصارى والمجوس إقامة ثلاث ليال بالمدينة يتسوقون ويقضون حوائجهم
قال أبو زرعة في الموطأ مالك عن نافع عن أسلم أن عمر
والصحيح ما في الموطأ
26 - سألت علي بن الحسين بن الجنيد عن حديث رواه سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله من استطاع إليه سبيلا
قال الزاد والراحلة
قال هذا حديث باطل
علل أخبار رويت في الغزو والسير
27 - سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن حجاج عن إسماعيل عن قيس عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة
قال أبي الكوفيون سوى حجاج لا يسندونه
ومرسل أشبه
28 - سألت أبي عن حديث رواه إبراهيم بن شيبان عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن عبد الله بن حوالة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال يخندون أجنادا
قال هو صحيح حسن غريب
29 - سمعت أبي وذكر حديثا رواه وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال وفد الله ثلاثة الغازي والحاج والمعتمر
قال أبي ورواه سليمان بن بلال عن سهيل عن أبيه عن مرداس الجندعي عن كعب قوله ورواه عاصم عن أبي صالح عن كعب قوله

المبحث الثالث في الحديث الضعيف
قال بعض العلماء الحديث هو ما لم يجمع صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن
وقال بعضهم الأولى في حده أن يقال هو ما لم يبلغ مرتبة الحسن
ولا يخفى أن ما يكون نازلا عن مرتبة الحسن يكون عن مرتبة الصحيح أنزل فلا احتياج إذا إلى ذكر الصحيح في حده
وقد قسموا الضعيف إلى أقسام جعلوا جعلوا لبعضها لقبا خاصا به لوجود الداعي إليه وذلك كالمرسل والمنقطع والمعضل والمعلل والشاذ والمضطرب وتركوا بعضها غفلا لعدم الداعي إلى ذلك
وقد حاول بعضهم حصر أقسامه فنظر في شروط القبول وهي شروط الصحيح والحسن فوجدها ستة وهي اتصال السند حيث لم ينجبر المرسل بما يؤيده وعدالة الرواة والسلامة من كثرة الخطأ والغفلة ومجيء الحديث من وجه آخر حيث كان في الإسناد مستورا لم تعرف أهليته وليس متهما كثير الغلط والسلامة من الشذوذ والسلامة من العلة القادحة
ثم نظر في الضعيف فرأى أن منه ما يفقد شرطا فقط ومنه ما يفقد شرطين ومنه ما يفقد أكثر من ذلك فتبين له بهذا النظر أقسام كثيرة تبلغ فيما ذكره بعض من عني بأمرها اثنين وأربعين قسما

وقال بعد إيرادها قسما قسما هذه أقسام الضعيف باعتبار الانفراد والاجتماع وقد تركت من الأقسام التي يظن انقسامه إليها بحسب اجتماع الأوصاف عدة أقسام وهي اجتماع الشذوذ ووجود ضعيف أو مجهول أو مستور في الإسناد لأنه لا يمكن اجتماع ذلك على الصحيح لأن الشذوذ تفرد الثقة فلا يمكن وصف ما فيه راو ضعيف أو مجهول أو مستور بأنه شاذ
ويمكن الزيادة في هذه الأقسام وذلك بأن ينظر إلى فقد العدالة مثلا فيجعل باعتبار ما يدخل تحته أنواعا فإنه يشمل ما يكون بكذب الراوي أو تهمته بذلك أو فسقه أو بدعته أو جهالة عينه أو جهالة حاله فإذا لوحظ كل واحد منها على حدة ولوحظ مثل ذلك في مثله زادت الأقسام زيادة كثيرة
وقد تصدى بعضهم لذلك غير أنه أبان أن تلك الأقسام تنقسم إلى ثلاثة أنواع نوع منها لم يتحقق وجوده ولا إمكانه ونوع منها تحقق إمكانه دون وجوده ونوع منها قد تحقق إمكانه ووجوده
وقد صرح غير واحد بقلة فائدة هذا التقسيم وذلك لأن المراد به إن كان معرفة مراتب الضعيف فليس فيه ما يفيد ذلك
فإن قيل إنه قد يفيد ذلك لأن هذا التقسيم يعرف به ما فقد كل قسم من الشروط فإذا وجدنا قسمين قد فقد أحدهما من الشروط أكثر حكمنا عليه بأنه أضعف
قيل إن هذا الحكم لا يسوغ على إطلاقه فقد يكون الأمر بالعكس وذلك كفاقد الصدق فإنه أضعف مما سواه وإن كان فاقدا للشروط الخمسة الباقية
وإن كان المراد به تخصيص كل قسم باسم فالقوم لم يفعلوا ذلك فإنهم لم يسموا منها إلا القليل كما ذكرنا آنفا ولم يتصد المقسم نفسه لذلك
وإن كان المراد به معرفة كم قسما يبلغ بالبسط فهذه فائدة لا تستوجب هذه النصب
ويمكن أن يقال فائدة ذلك حصر الأقسام ليبحث عما وقع منها مما لم يقع ومعرفة منشأ الضعيف في كل قسم

وأما قول بعضهم إنه قد خاض في تقسيمه أناس ليسوا من أهل هذا الشأن فتعبوا وأتعبوا ولو قيل لأطولهم يدا في ذلك ايتنا بمثال مما ليس له لقب خاص لبقي حائرا فهو ضعيف لأن التقسيم إذا لم يكن فيه ما يعترض به عليه يقبل من أي مقسم كان وعدم معرفته ببعض أمثلة الأقسام التي لم يتحقق وجودها بعد لا يضره ويكفيه أن يقول قد قمت بطرف من المسألة وهو بيان الأقسام وبقي طرف آخر منها تركته لغيري وهو البحث في أمثلة كل قسم وبيان ما وقف عليه منها
وقد أفرد ابن الجوزي عن الضعيف نوعا آخر سماه المضعف
وهو الذي لم يجمع على ضعفه بل فيه إما في المتن أو في المسند تضعيف لبعض أهل الحديث وتقوية لآخرين منهم وهو أعلى مرتبة من الضعيف المجمع عليه
ومحل هذا فيما إذا لم يترجح أحد الأمرين أو كان التضعيف هو المرجح ولا فقد وقع في كتب ملتزمي الصحة حتى البخاري أشياء من هذا القبيل
وذكر النووي في شرح مسلم عن ابن الصلاح أنه قال شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة
قال وهذا حد الصحيح
فكل حديث اجتمعت فيه هذه الشروط فهو صحيح بلا خلاف بين أهل الحديث
وما اختلفوا في صحته من الأحاديث فقد يكون سبب اختلافهم انتفاء شرط من هذه الشروط أو بينهم خلاف في اشتراطه كما إذا كان بعض الرواة مستورا أو كان الحديث مرسلا
وقد يكون سبب اختلافهم أنه هل اجتمعت فيه هذه الشروط أم انتفى بعضها وهو الأغلب في ذلك كما إذا كان الحديث في رواته من اختلف في كونه من شرط الصحيح فإذا كان الحديث رواته كلهم ثقات غير أن فيهم أبا الزبير المكي مثلا أو سهيل بن أبي صالح أو العلاء بن عبد الرحمن أو حماد بن سلمة قالوا فيه هذا حديث صحيح على شرط مسلم وليس بصحيح على شرط البخاري لكون هؤلاء عند مسلم ممن اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت عند البخاري ذلك فيهم
وكذا حال البخاري فيما خرجه من حديث عكرمة مولى ابن عباس وإسحاق بن محمد الفروي وعمرو بن مرزوق وغيرهم ممن احتج بهم البخاري ولم يحتج بهم مسلم
قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري في كتابه المدخل في معرفة المستدرك عدد من أخرج لهم البخاري في الجامع الصحيح ولم يخرج لهم مسلم أربع مئة وأربعة وثلاثون شيخا وعدد من احتج بهم مسلم في المسند الصحيح ولم يحتج بهم البخاري في الجامع الصحيح ست مئة وخمسة وعشرون شيخا
وأما قول مسلم في صحيحه في باب صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ليس كل شي صحيح عندي وضعنه هاهنا يعني في كتابه هذا الصحيح وإنما وضعت
هاهنا ما أجمعوا عليه
فمشكل
فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلفا في صحتها لكونها من حديث من ذكرناه ومن لم نذكره ممن اختلفوا في صحة حديثه
قال الشيخ وجوابه من وجهين
أحدهما أن مراده أنه لم يضع فيه إلا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم
والثاني أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلف الثقات فيه في نفس الحديث متنا أو إسنادا ولم يرد ما كان اختلافهم فيه إنما هو في توثيق بعض رواته وهذا هو الظاهر من كلامه فإذا ذكر لما سئل عن حديث أبي هريرة فإذا قرأ فأنصتوا
هل هو صحيح فقال هو عندي صحيح
فقيل لم لم تضعه هاهنا فأجاب بالكلام المذكور

ومع هذا فقد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها أو متنها لصحتها عنده وفي ذلك ذهول منه عن هذا الشرط أو سبب آخر وقد استدركت وعللت
وقال بعضهم أراد مسلم بالإجماع في قوله وإنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه
إجماع أربعة من أئمة الحديث أحمد بن حنبل وابن معني وعثمان بن أبي شيبة وسعيد بن منصور الخرساني
وذكر النووي في موضع آخر منه أن مسلما انتقد عليه روايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الدرجة الثانية التي ليست من شرط الصحيح
ثم نقل عن ابن الصلاح أنه أجاب عن ذلك من أوجه
أحدهما أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده
ولا يقال إن الجرح مقدم على التعديل لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر السبب وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك
وقد قال الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت فيهم الطعن المؤثر مفسر السبب
الثاني أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة ينبه على فائدة فيما قدمه
الثالث أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ عليه بعد

أخذه عنه باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب ذكر أبو عبد الله الحاكم أنه اختلط بعد الخمسين ومئتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرا ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك
الرابع أن يعلو بالشيخ الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل هذا الشأن في ذلك
وذكر في موضع آخر منه وهو مما يناسب ما نحن فيه من وجه أن مسلما أشار في مقدمة صحيحه إلى أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام
الأول ما رواه الحفاظ المتقنون
والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان
والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني
وأما الثالث فلا يعرج عليه
ثم قال وقد اختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الإمامان الحافظان الحاكم أبو عبد الله وصاحبه أبو بكر البيهقي إن المنية قد اخترمت مسلما قبل إخراج القسم الثاني وإنه إنما ذكر القسم الأول
قال القاضي عياض وهذا مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم وتابعوه عليه وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابه الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ وأنه إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان

مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته وبقي من اتهمه بعضهم وزكاه بعضهم فلم يذكره هنا
ووجدته ذكر في أبواب كتابه حديث الطبقتين الأوليين وأتى بأسانيد الثانية منها على طريق الإتباع للأولى والاستشهاد أو حيث لم يجد في الباب للقسم الأول شيئا وذكر أقواما تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون ممن ضعف أو اتهم ببدعة
وكذلك فعل البخاري
فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب في مقدمة كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص عليه
فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابا ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة وليس ذلك مراده بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه وبان من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب ويأتي بأحاديث الطبقتين فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى استوفى جميع الأقسام الثلاثة
ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاثة الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي اطرحها
وكذلك علل الأحاديث التي ذكر ووعد أنه يأتي بها قد جاء في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصحيف المصحفين وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كل ما وعد به
قال القاضي وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا لا صوبه وبان له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب
ولا يعترض على هذا بما قاله ابن سفيان صاحب مسلم أن مسلما أخرج ثلاثة كتب من المسندات أحدها هذا الذي قرأه على الناس
والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق صاحب المغازي وأمثالهما
والثالث يدخل فيه من الضعفاء فإنك إذا

تأملت ما ذكر ابن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما ذكر مسلم في صدر كتابه فتأمله تجده كذلك إن شاء الله تعالى
هذا آخر كلام القاضي عياض وهذا الذي اختاره ظاهر جدا

تقسيم الحديث الضعيف إلى أقسامه المشهورة على طريقة المحدثين
وقد أحببنا أن نقسم الحديث الضعيف إلى أقسامه المشهورة المأخوذة بالاستقراء والتتبع متبعين لآثار القوم فإن ذلك أقرب إلى الطبع وأعظم في النفع
وقد بينا فيما سبق أن الحديث ينقسم إلى قسمين مقبول ومردود وأن المقبول هو الصحيح والحسن والمردود هو الضعيف وبينا شروط القبول
ولا يخفى أن معرفة شروط القبول توجب معرفة سبب الرد إذ سبب الرد ليس إلا فقد شرط من شروط القبول فأكثر
وقد أرجع بعضهم سبب الرد إلى أمرين أحدهما عدم الاتصال في السند
والثاني وجود أمر في الراوي يوجب طعنا
وعدم الاتصال هو سقوط راو من الرواة من السند ويقال لهذا السقوط انقطاع وللحديث الذي سقط من سنده راو فأكثر الحديث المنقطع ويقابله الحديث المتصل وهو الذي لم يسقط من سنده راو من الرواة
ويدخل تحت المنقطع بهذا المعنى المنقطع الذي سيأتي ذكره فإذا قسم من أقسامه
والأمور التي يوجب كل واحد منها الطعن في الراوي عشرة الكذب والتهمة به وفحش الغلط والغفلة والوهم والمخالفة والفسق والجهالة والبدعة وسوء الحفظ
وإذا عرف هذا نقول الحديث الضعيف هو ما وجد فيه شيء مما يوجب الرد

وموجب الرد وهو بعينه موجب الضعف أمران أحدهما سقوط راو من الرواة من إسناده والثاني وجود أمر في الراوي يوجب طعنا فيه فعلى ذلك يكون الحديث الضعيف نوعين
أحدهما ما يكون موجب الرد فيه سقوط راو من الرواة من سنده
وثانيهما ما يكون موجب الرد فيه وجود أمر في الراوي يوجب طعنا فيه
أما النوع الأول وهو الحديث الضعيف الذي يكون موجب الرد فيه سقوط راو من الرواة من سنده فهو أربعة أقسام المعلق والمرسل والمعضل والمنقطع وذلك لأن السقوط إما أن يكون من مبادي السند أو من آخره بعد التابعي أو من غير ذلك
فالأول المعلق والثاني المرسل والثالث إن كان الساقط فيه اثنين فصاعدا مع التوالي فهو المعضل وإلا فهو المنقطع
فالمعلق هو الحديث الذي سقط من أول سنده راو فأكثر كقول البخاري قال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -

( الله أحق أن يستحيى منه )
قال الحافظ ابن حجر ومن صور المعلق أن يحذف منه جميع السند ويقال مثلا قال ص -
ومنها أن يحذف منه إلا الصحابي أو إلا الصحابي والتابعي معا ومنها أن
يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه فإن كان من فوقه شيخا لذلك المصنف فقد اختلف فيه هل يسمى تعليقا أم لا والصحيح في هذا التفصيل فإذا عرف بالنص أو الاستقراء أن فاعل ذلك مدلس قضي به وإلا فتعليق
وإنما ذكر التعليق في قسم المردود للجهل بحال المحذوف وقد يحكم بصحته إن عرف بأن يجيء مسمى من وجه آخر فإن قال جمع من أحذفه ثقات جاءت مسألة التعديل على الإبهام والجمهور لا يقبل حتى يسمى لكن قال ابن الصلاح هنا إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته كالبخاري فما أتى فيه بالجزم حمل

على أنه ثبت إسناده عنده وإنما حذف لغرض من الأغراض وما أتى فيه بغير الجزم ففيه مقال
وقد أوضحت أمثلة ذلك في النكت على ابن الصلاح
والمرسل هو الحديث الذي سقط من آخر سنده من بعد التابعي وصورته أن يقول التابعي سواء كان كبيرا أو صغيرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

كذا أو فعل كذا أو فعل بحضرته كذا ونحو ذلك
وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف لاحتمال أن يكون غير صحابي وإذا كان ذلك احتمل أن يكون ضعيفا وإذا كان ثقة احتمل أن يكون روى عن تابعي آخر يكون ضعيفا وهكذا
وقد وجد بالاستقراء رواية ستة أو سبعة من التابعين بعضهم عن بعض وهذا أكثر ما وجد في هذا النوع
فإن عرف من عادة التابعي الذي أرسل الحديث أنه لا يرسل إلا عن ثقة فمذهب الجمهور التوقف فيه لاحتمال أن يكون من أرسله عنه ضعيفا عند غيره وإن كان ثقة عنده فالتوثيق في الرجل المبهم غير كاف عندهم ومع ذلك فثم احتمال آخر وإن كان بعيدا وهو أن يكون الإرسال في ذلك الموضع قد جرى على خلاف عادته بسبب ما
وإن عرف من عادته أنه يرسل عن الثقات وغيرهم لم يقبل مرسله اتفاقا
هذا ولما كان المرسل مما عني بأمره المؤلفون في أصول الفقه أو أصول الحديث أحببنا أن نفيض فيه هنا فنقول ذكر العلماء في حده ثلاثة أقوال
القول الأول وهو المشهور أن المرسل ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
سواء كان من كبار التابعين كعبيد الله بن عدي بن الخيار وقيس بن أبي حازم
وسعيد بن المسيب وأمثالهم أو من صغار التابعين كالزهري وأبي حازم ويحيى بن سعيد الأنصاري وأشباههم
القول الثاني أنه ما رفعه التابعي الكبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
فعلى هذا لا يسمى ما رفعه صغار التابعين مرسلا ولكن منقطعا
قال ابن الصلاح قول

الزهري وابن أبي حازم ويحيى بن سعيد الأنصاري وأشباههم من أصاغر التابعين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

حكى ابن عبد البر أن قوما لا يسمونه مرسلا بل منقطعا لكونهم لم يلقوا من
الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين
قلت وهذا المذهب فرع لمذهب من لا يسمي المنقطع قبل الوصول إلى التابعي مرسلا والمشهور التسوية بين التابعين في اسم الإرسال كما تقدم
قال بعض العلماء لم أر التقييد بالكبير صريحا في كلام أحد من المحدثين وأما تقييد الشافعي المرسل الذي لم يقبل إذا اعتضد بأن يكون من رواية التابعي الكبير فليس فيه دلالة على أن ما يرفعه التابعي الصغير لا يسمى مرسلا
على أن الشافعي قد صرح بتسمية ما يرفعه من دون كبار التابعين مرسلا وذلك في قوله ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة
وقد اعترض على ابن الصلاح هنا من وجهين أحدهما في قوله قبل الوصول إلى التابعي
فإن الصواب في ذلك أن يقال قبل الوصول إلى الصحابي وقد تبع في ذلك الحاكم
الثاني في إشعاره بأن الزهري لم يلق من الصحابة إلا الواحد والاثنين مع أنه قد لقي من الصحابة ثلاثة عشر فأكثر وهم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وسهل بن سعد وربيعة بن عباد وعبد الله بن جعفر والسائب بن يزيد وسنين أبو جميلة وأبو الطفيل ومحمود بن الربيع والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر
ولم يسمع من عبد الله بن جعفر بل رآه رؤية وقيل إنه سمع من جابر وقد سمع من محمود بن لبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل وثعلبة بن أبي مالك القرظي وهم مختلف في صحبتهم
وأنكر أحمد ويحيى سماعه من أبي عمر وأثبته علي بن المديني

القول الثالث أنه ما سقط راو من إسناده فأكثر من أي موضع كان
فعلى هذا يكون المرسل والمنقطع بمعنى واحد
والمعروف في الفقه وأصوله أن ذلك يسمى مرسلا إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال الحاكم في كتاب المعرفة إن الإرسال مخصوص بالتابعين
وخالف ذلك في الدخل فقال هو قول التابعي أو تابعي التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وبينه وبين الرسول قرن أو قرنان ولا يذكر سماعه من الذي سمعه يعني في
رواية أخرى
وقد أطلق المرسل على المنقطع من أئمة الحديث أبو زرعة وأبو حاتم والدارقطني وقد صرح البخاري في حديث لإبراهيم النخعي عن أبي سعيد الخدري بأنه مرسل لكون إبراهيم لم يسمع من أبي سعيد وصرح هو وأبو داود في حديث العون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود بأنه مرسل لكونه لم يدرك ابن مسعود
وأما قول بعض أهل الأصول المرسل قول غير الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فالمراد به ما سقط منه التابعي مع الصحابي أو ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ونحو ذلك
ولو حمل على الإطلاق لزم بطلان اعتبار الأسانيد وترك النظر في أحوال الرواة وهو بين الفساد ولذا خصه بعضهم بأهل الأعصار الأول يعني القرون الفاضلة
وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام إن الإرسال رواية الراوي عمن لم يسمع منه
وعليه فتكون رواية من روى عمن سمع منه ما لم يسمع منه بأن يكون بينهما واسطة فيها ليست من قبيل الإرسال بل من قبيل التدليس فيكون في حد المرسل أربعة أقوال
وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف في الاصطلاح ولا مشاحة فيه

والمرسل اسم مفعول من قولهم أرسل الحديث إرسالا
والإرسال في الأصل الإطلاق وعدم التقييد تقول أرسلت الطائر إذا أطلقته وأرسلت الكلام إرسالا إذا أطلقته من غير تقييد وسمي هذا النوع من الحديث بالمرسل لإطلاق الإسناد فيه وعدم تقييده براو يعرف
وقد فرق أهل الأثر هنا بين الاسم والفعل عند الإطلاق نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في شرح النخبة حيث قال إن أهل الاصطلاح غايروا بين الفرد والغريب من حيث كثرة الاستعمال وقلته فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي
وهذا من حيث إطلاق الاسمية عليهما
وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون فيقولون في المطلق والنسبي تفرد به فلان أو أغرب به فلان
وقريب من هذا اختلافهم في المنقطع والمرسل هل هما متغايران أم لا فأكثر المحدثين على التغاير لكنه عند إطلاق الاسم وأما عند استعمال الفعل المشتق فيستعملون الإرسال فقط فيقولون أرسله فلان سواء كان مرسلا أم منقطعا ومن ثم أطلق غير واحد ممن لم يلاحظ مواضع استعمالهم على كثير من المحدثين أنهم لا يغايرون بين المرسل والمنقطع
وليس كذلك لما حررناه وقل مننبه على النكتة في ذلك
وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالمرسل اختلافا شديدا لا يتسع للبحث فيه مثل هذا الكتاب
قال الحافظ السيوطي وقد تلخص في ذلك عشرة أقوال يحتج به مطلقا لا يحتج به مطلقا يحتج به إن أرسله أهل القرون الثلاثة يحتج به إن لم يرو إلا عن عدل يحتج به إن أرسله سعيد فقط يحتج به إن اعتضد يحتج به إن لم يكن في الباب سواه هو أقوى من المسند يحتج به ندبا لا وجوبا يحتج به إن أرسله صحابي

ونقل عن القاضي أبي بكر أنه قال لا أقبل المرسل ولا في الأماكن التي قبلها الشافعي حسما للباب بل ولا مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي
قال والشافعي لا يوجب الاحتجاج به في هذه الأماكن بل يستحبه كما قال أستحب قبوله ولا أستطيع أن أقول الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل
وقال غيره فائدة ذلك أنه لو عارضه متصل قدم عليه ولو كان حجة مطلقا تعارضا لكن قال البيهقي مراد الشافعي بقوله أستحب أختار هذا
والحديث المرسل ضعيف لا يحتج به عند جمهور المحدثين وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول والنظر وذلك للجهل بحال الساقط من السند فإنه يحتمل أن يكون غير صحابي وإذا كان كذلك فيحتمل أن يكون ضعيفا
وإن اتفق أن يكون المرسل لا يروي إ لا عن ثقة فالتوثيق مع الإبهام غير كاف
وقال بعض الأئمة الحديث المرسل صحيح يحتج به وقيد ابن عبد البر ذلك بما إذا لم يكن مرسله ممن لا يحترز ويرسل عن غير الثقات فإن كان فلا خلاف في رده
وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتلكم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره فإذا لم يكن مسند غير المراسيل ولم يوجد المسند فالمرسل يحتج به وليس هو مثل المتصل في القوة
وقال ابن جرير أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين
قال ابن عبد البر كأنه يعني أن الشافعي أول من رده
وقد انتقد بعضهم قول من قال إن الشافعي أول من ترك الاحتجاج بالمرسل فقد نقل ترك الاحتجاج عن سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين ولم ينفرد هو بذلك بل قال به من بينهم ابن سيرين والزهري
وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم
وقد ترك الاحتجاج بالمرسل ابن مهدي ويحيى القطان وغير واحد ممن قبل الشافعي والذي يمكن نسبته إلى الشافعي في أمر المرسل هو زيادة البحث عنه والتحقيق فيه
وقد روى الشافعي عن عمه قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أنه قال إني لأسمع الحديث أستحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به
وهذا كما قال ابن عبد البر يدل على أن ذلك الزمان كان يحدث فيه الثقة وغيره
وأخرج العقيلي من حديث ابن عون قال ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة فقال أبو قلابة رجل صالح ولكن عمن ذكره أبو قلابة
وأخرج في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعدما تاب إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرنا له حديثا
قال الحافظ ابن حجر هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن فيحمله عنه غيره ويجيء الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت

وأما مراسيل الصحابة فحكمها حكم الموصول على المشهور الذي ذهب إليه الجمهور قال ابن الصلاح ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ولم يسمعوه منه لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة
والجهالة بالصحابي غير قادحة لأن الصحابة كلهم عدول
قال الحافظ العراقي وفي قوله لأن روايتهم عن الصحابة
نظر والصواب أن يقال لأن غالب روايتهم إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعض التابعين
وسيأتي في كلام ابن الصلاح في رواية الأكابر عن الأصاغر أن ابن عباس وبقية العبادلة رووا عن كعب الأحبار وهو من التابعين وروى كعب أيضا عن التابعين
ولم يذكر ابن الصلاح خلافا في مرسل الصحابي
وفي بعض كتب الأصول أنه لا خلاف في الاحتجاج به
وليس بجيد فقد قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني إنه لا يحتج به
والصواب ما تقدم
ونقل القاضي عبد الجبار عن الشافعي أن الصحابي إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كذا قبل إلا إن علم أنه أرسله
وكذا نقله ابن بطال في شرح البخاري
وهذا خلاف المشهور من مذهبه فقد ذكر ابن برهان في الوجيز أن مذهبه في المراسيل أنه لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل الصحابة ومراسيل سعيد وما انعقد الإجماع على العمل به
وأما مراسيل من أحضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
غير مميز كعبيد الله بن عدي بن الخيار فلا يمكن أن يقال إنها مقبولة
كمراسيل الصحابة لأن رواية الصحابة إما أن تكون عن النبي صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي والكل مقبول
واحتمال كون الصحابي الذي أدرك وسمع يروي عن التابعين بعيد بخلاف مراسيل هؤلاء فإنها عن التابعين بكثرة فقوي احتمال أن يكون الساقط غير صحابي وجاء احتمال كونه غير ثقة

وقد تكلم العلماء في عدة الأحاديث التي صرح ابن عباس بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال الغزالي في المستصفى إنها أربعة وهو قول غريب
وقد قلده في ذلك جماعة
وعن يحيى القطان ويحيى بن معين وأبي داود صاحب السنن أنها تسعة
وذكر بعض المتأخرين أنها دون العشرين لكن من طرق صحاح
وقد اعتنى الحافظ ابن حجر بجمع الصحاح والحسان منها فزادت عنده على الأربعين
وهذا سوى ما هو في حكم السماع كحكاية حضور فعل أمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد عقد ابن حزم في كتاب الإحكام فصلا يتعلق بالمرسل فقال فيه قال أبو محمد المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه وسلم -
ناقل واحد فصاعدا
وهو المنقطع أيضا
وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول
وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله
وسواء قال الراوي حدثنا الثقة أو لم يقل لا يجب أن نلتفت إلى ذلك إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل
وقد وثق سفيان الثوري جابرا الجعفي وجابر قد عرف من حاله ما عرف ولكن قد خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه
ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الحسن البصري وغيرهما سواء لا يؤخذ منه شيء
وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول أن الحسن البصري كان إذا حدثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله
قال فهو أقوى من المسند
قال أبو محمد وقائل هذا أترك خلق الله لمرسل الحسن وحسبك بالمرء سقوطا أن يضعف قولا يعتقده ويعمل به ويقوي قولا يتركه ويرفضه

وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهو حي وقد كان في عصر الصحابة منافقون ومرتدون فلا يقبل حديث قال راويه
فيه عن رجل من الصحابة أو حدثني من صحب رسول الله حتى يسميه ويكون معلوما بالصحة الفاضلة قال الله عز و جل ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم )
وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم -
كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس وعبد الله بن أبي سرح
ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم فأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته
ولا يخلو سكوته من أحد وجهين أنه لم يعرف من هو ولا عرف صحة دعواه الصحبة أو لأنه كان من بعض من ذكرنا
حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثنا يحيى بن يحيى أنبأنا خالد بن عبد الله عن عبد الملك عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق وكان خال ولد عطاء قال أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب وميثرة الأرجوان وصوم رجب كله فأنكر ابن عمر أن يكون حرم شيئا من ذلك
فهذه أسماء وهي صاحبة من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك فصح كذب ذلك المخبر
فواجب على كل أحد أن لا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه
قال أبو محمد والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبه ورأيه
ولو تتبعنا ما تركوا من الأحاديث المرسلة لبلغ ذلك

أزيد من ألفين وإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل ثم تركوه في غير تلك المسائل وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق ولا يبالون بأن يهدموا من ذلك ألف مسألة لهم ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى
فما أحد ينصح نفسه يثق بحديث مرسل أصلا
وقال بعض الحفاظ ممن ينحو نحو ابن حزم في عدم التقيد بقول من الأقوال قد تنازع الناس في قبول المراسيل وفي ردها
وأصح الأقوال أن منها المقبول ومنها المردود ومنها الموقوف فمن علم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ومن عرف أنه يرسل عن الثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف
وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا
وإذا كان المرسل قد ورد من وجهين وكان كل من الروايين قد أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر فهذا يدل على صدقه فإن من أخبر بمثل ما أخبر به الآخر مع العلم بأن واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر فإنه يعلم أن الأمر كذلك
ولنختم هذا المبحث بكلام الإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه إمام الكلام روى البيهقي في المدخل عن شيخه الحاكم عن الأصم عن الربيع عنه أنه قال المنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي ص
- اعتبر عليه بأمور منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث
فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة ما قبل عنه وحفظه
وإن انفرد بإسناد حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك

ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم
فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله وهي أضعف من الأولى وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

قولا له فإن وجد يوافق ما روى عن النبي ص
- كانت في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل إن شاء الله تعالى وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه ووجد أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه
ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله
قال وإن وجدت الدلائل لصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله أراد به اخترنا
ولا نستطيع أن نزعم أ الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حديث من لو سمي لم يقبل
وإن قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا قال برأيه لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر
فيها ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله يوافقه ويحتمل مثل هذا فمن وافقه من بعض الفقهاء
قال فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
فلا أعلم أحدا منهم يقبل مرسله لأمور أحدها أنهم أشد

تجوزا فيمن يروون عنه والآخر أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه والآخر كثرة الإحالة في الأخبار وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه
ثم إن السقوط من السند قد يكون واضحا يشترك في معرفته كثيرون من أهل الفن ولا يخفى عليهم وذلك في مثل ما إذا كان الراوي لم يعاصر من روى عنه وقد يكون خفيا لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الأحاديث وعلل الأسانيد والأول يدرك بمعرفة التاريخ لتضمنه التعريف بأوقات مواليد الرواة ووفياتهم وطلبهم وارتحالهم وغير ذلك
وقد ادعى أناس الرواية عن شيوخ أظهر التاريخ كذب دعواهم فيها ولذا عني المحدثون بالتاريخ كثيرا
ويقال للإسناد الذي يكون السقوط فيه واضحا المرسل الجلي وللإسناد الذي يكون السقوط فيه خفيا المدلس بالفتح إن كان الإسقاط صادرا ممن عرف لقاؤه لمن روى عنه والمرسل الخفي إن كان الإسقاط صادرا ممن عرف معاصرته له ولم يعرف إنه لقيه وهذا على قول من فرق بينهما وجعلهما متباينين وأما من جعل المرسل الخفي داخلا في المدلس فإنه يعرف المدلس بأنه هو الإسناد الذي يكون السقوط فيه خفيا
ويقال لهذا النوع من التدليس تدليس الإسناد
وثم نوع آخر يقال له تدليس الشيوخ
أما تدليس الإسناد فهو أن يسقط اسم شيخه الذي روى عنه ويرتقي إلى من فوقه فيسند ذلك إليه بلفظ غير مقتض للاتصال ولكنه متوهم له كقوله عن فلان أو أن فلانا أو قال فلان موهما بذلك أنه سمعه ممن رواه عنه
وإنما يكون تدليسا إذا كان المدلس قد عاصر المروي عنه أو لقيه ولم يسمع

منه أو سمع منه ولم يسمع منه ذلك الحديث الذي دلسه عنه
أما إذا روى عمن لم يدركه بلفظ موهم فإن ذلك ليس بتدليس على الصحيح المشهور
وحكى ابن عبد البر في التمهيد عن قوم أنه تدليس فجعلوا التدليس أن يحدث الرجل عن الرجل بما لم يسمعه منه بلفظ لا يقتضي تصريحا بالسماع
قال وعلى هذا فما سلم من التدليس أحد
وقد أكثر العلماء من ذم التدليس والتنفير منه والزجر عنه قال شعبة التدليس أخو الكذب
وقال وكيع الثوب لا يحل تدليسه فكيف الحديث وقال بعضهم المدلس داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم - من غشنا فليس منا
لأنه يوهم السامعين أنه حديثه متصل وفيه انقطاع
هذا إن دلس عن ثقة فإن كان ضعيفا فقد خان الله ورسوله وهو كما قال بعض الأئمة حرام إجماعا
وقد اختلف في قبول رواية من عرف بالتدليس فقال فريق من أهل الحديث والفقهاء لا تقبل رواية المدلس بحال بين السماع أو لم يبين
والتدليس مما يقتضي الجرح عندهم
والمشهور التفصيل وهو أن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال فحكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ يبين الاتصال نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو مقبول محتج به
وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتبرة من حديث هذا الضرب كثير جدا كقتادة والأعمش والسفيانين وهشيم بن بشير وغيرهم
وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل والحكم أنه لا يقبل من المدلس حتى يبين
وأما تدليس الشيوخ فهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف

ومثاله قول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله يريد به عبد الله بن أبي داود السجستاني
وفيه تضييع للمروي عنه وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله وأهليته
وهو مكروه
وتختلف الحال في كراهة ذلك باختلاف الغرض الحامل عليه فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غير سمته غير ثقة أو كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه من هو دونه أو كونه أصغر سنا من الراوي عنه أو كونه كثير الرواية عنه فيحب إيهاما لكثرة الشيوخ أن يعرفه في موضع بصفة وفي موضع آخر بصفة أخرى ليوهم أنه غيره
وقد كان الخطيب لهجا بذلك في تصانيفه
قال ابن الصباغ في العدة من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره يجب أن لا يقبل خبره
وإن كان هو يعتقد فيه الثقة فقد يغلط في ذلك لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو
وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول فلا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه
وأما تدليس التسوية فإنه داخل في تدليس الإسناد
وجعله بعضهم قسما مستقلا بنفسه فقسم التدليس إلى ثلاثة أقسام تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ وتدليس التسوية
وأما تدليس التسوية هو أن يسقط ضعيفا بين ثقتين وصورته أن يروي حديثا عن شيخ ثقة وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط الضعيف الذي في السند ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل فيصير السند كله ثقات

وهذا شر أقسام التدليس لأن فاعل ذلك قد لا يكون معروفا بالتدليس ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة وفي ذلك من التدليس في الحديث ما لا يخفى
وهو قادح فيمن فعله عمدا
وقد سمى ابن القطان هذا النوع بالتسوية بدون لفظ التدليس فيقول سواه فلان وهذه تسوية
والقدماء يسمونه تجويدا فيقولون جوده فلان أي ذكر من فيه من الجياد وترك غيرهم
وقال بعض العلماء التحقيق أن يقال متى قيل تدليس التسوية فلا يد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع بشيخ شيخه
وإن قيل تسوية بدون تدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه وقد وقع في هذا بعض الأئمة فإنه روى عن ثور عن ابن عباس
وثور لم يلقه وإنما روى عن عكرمة عنه فأسقط عكرمة لأنه غير حجة عنده
وأما المرسل الخفي فهو ما كان الإسقاط فيه صادرا ممن عرف معاصرته لمن روى عنه ولم يعرف لقاؤه له
وقد عرفت أن بعض العلماء يفرق بينه وبين المدلس وبعضهم يجعله داخلا فيه
وممن فرق بينهما الحافظ ابن حجر حيث قال والفرق بين المدلس والمرسل الخفي دقيق حصل تحريره بما ذكر هنا وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي
ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لقي لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه والصواب التفرقة بينهما
ويدل على أن اعتبار اللقي في التدليس دون المعاصرة وحدها إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم -

من قبيل الإرسال لا من قبيل التدليس ولو كان مجرد المعاصرة يكتفى

به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم -

ولكن لم يعرف هل لقوه أم لا
وممن قال باشتراط اللقاء في التدليس الإمام الشافعي وأبو بكر البزار
وكلام الخطيب في الكفاية يقتضيه وهو المعتمد
ويعرف عدم الملاقاة بإخباره عن نفسه بذلك أو بحزم إمام مطلع ولا يكفي أن يقع في بعض الرق زيادة راو بينهما لاحتمال أن يكون من المزيد ولا يحكم في هذه الصورة بحكم كلي لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع
وقد صنف فيه الخطيب كتاب التفصيل لمبهم المراسيل وكتاب المزيد في متصل الأسانيد
وقد نوقش فيما ذكر بأن المخضرمين إنما لم يعدوا إرسالهم من قبيل التدليس لأنه من قبيل الإرسال الجلي وذلك لأن المخضرم هو من عرف عدم لقائه النبي صلى الله عليه وسلم -
لا من لم يعرف أنه لقيه وبينهما فرق
وليس المراد بالمرسل هنا المرسل بالمعنى المشهور وهو ما سقط من سنده الصحابي بل المراد به ما يكون فيه مطلق الانقطاع
وقال الخطيب في الكفاية التدليس هو تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه ويعدل عن البيان لذلك
قال ولو أنه بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه وكشف عن ذلك لصار ببيانه مرسلا للحديث غير مدلس فيه لأن الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعا ممن لم يسمع منه وملاقيا لمن لم يلقه إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن الإرسال لا محالة لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط وهو المؤمن لأمره فوجب كون

التدليس متضمنا للإرسال والإرسال لا يتضمن التدليس لأنه يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس
وقال ابن عبد البر في التمهيد التدليس عند جماعتهم اتفاقا هو أن يروي عمن لقيه وسمع منه وحدث عنه بما لم يسمعه منه وإنما سمعه من غيره عنه ممن يرضى حاله أو لا يرضى على أن الأغلب في ذلك أنه لو كانت حاله مرضية لذكره وقد يكون لأنه استصغره
قال وأما حديث الرجل عمن لم يلقه كمالك عن سعيد بن المسيب والثوري عن إبراهيم النخعي فاختلفوا فيه
فقالت فرقة إنه تدليس لأنهما لو شاء لسميا من حدثهما كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما
وقالت طائفة من أهل الحديث إنما هو إرسال قالوا فكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وعن أبي بكر وعمر وهو لم يسمع منهم ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسا
كذلك مالك عن سعيد
قال ولئن كان هذا تدليسا فما أعلم أحدا من العلماء قديما ولا حديثا سلم منه إلا شعبة والقطان فإنهما ليس يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة
وفي كلامه ما يشير إلى الفرق بين التدليس والإرسال الخفي والجلي لإدراك مالك لسعيد في الجملة وعدم إدراك الثوري للنخفي أصلا ولكنه لم يتعرض لتخصيصه بالثقة فتخصيصه بها في موضع آخر من تمهيده اقتصار على الجائز منه
وقد صرح في موضع آخر منه بذمه في غير الثقة فقال ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة من أهل الحديث وكذلك إن حدث عمن لم يسمع منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه
وقد سبقه إلى ذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه
وهو مع قوله في

موضع آخر إنه إذا وقع فيمن لم يلقه أقبح وأسمج يقتضي أن الإرسال أشد بخلاف قوله الأول فإنه مشعر بكونه أخف فكأنه هنا عنى الإرسال الخفي لما فيه من إيهام اللقي والسماع معا وهناك الجلي لعدم الالتباس فيه لا سيما بعد أن صرح بأن الإرسال قد يبعث عليه أمور لا تضيره كأن يكون سمع الخبر من جماعة عن المرسل عنه بحيث صح عنده ووقر في نفسه أو نسي شيخه فيه مع علمه به عن المرسل عنه أو كان أخذه له مذاكرة أو لمعرفة المتخاطبين بذلك الحديث واشتهاره بينهم أو لغير ذلك مما هو في معناه
وقد تعرض ابن حزم لذكر التدليس في كتاب الإحكام فقال في فصل من يلزم قبول نقله الأخبار وأما المدلس فينقسم قسمين
أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض فهذا لا يضر سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك
وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له
وهذا النوع منه كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن

عيينة
وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى
وقسم آخر قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لمن يأخذ عنه ونصرا لما يريد تأييده من الأقوال مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك على أو مرضا في الحديث
فهذا رجل مجروح وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه ومن هذا النوع كان الحسن بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي وغيرهما
قال علي ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز و جل ولا حفظ ما سمع وقد قال عليه الصلاة و السلام نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى بلغه غيره
فإنما أمر عليه الصلاة و السلام بقبول تبليغ الحافظ
والتلقين هو أن يقول القائل حدثك فلان بكذا ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه فيقول نعم
فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع أو يكون من الغفلة بحيث يكون ذاهل العقل مدخول الذهن
ومثل هذا لا يلتفت إليه لأنه ليس من ذوي الألباب ومن هذا النوع كان سماك بن حرب أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس بن الحجاج
وأما النوع الثاني وهو الحديث الضعيف الذي يكون موجب الرد فيه وجود أمر

في الراوي يوجب طعنا فيه فهو أقسام يعرف اسم كل قسم منها ورسمه مما نذكره الآن
وهو أن الحديث الضعيف إن كان موجب الرد فيه كذب الراوي في الحديث فهو الموضوع
وإن كان تهمته بالكذب فهو المتروك
وإن كان فحش غلطه أو كثرة غفلته أو ظهور فسقه فهو المنكر
وإن كان وهمه فهو المعلل
وإن كان مخالفته للثقات فإن كانت المخالفة بالإدراج فيه فهو المدرج
وإن كانت بالتقديم والتأخير فهو المقلوب
وإن كانت بالإبدال فيه مع التدافع حيث لا مرجح فهو المضطرب
وإن كانت بتغيير الحروف مع بقاء صورة الخط فإن كان التغيير بالنسبة إلى النقط فهو المصحف
وإن كان بالنسبة إلى الشكل فهو المحرف

زيادة بسط
الموضوع هو الحديث المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
سواء كان عمدا أم خطأ
والمتروك هو الحديث الذي ينفرد بروايته من يتهم بالكذب في الحديث
ويدخل فيه من عرف بالكذب في غير الحديث وإن لم يظهر كذبه في الحديث وذلك لأن التساهل في غير الحديث قد يجر إلى التساهل في الحديث
قال بعض علماء الأصول من تشدد في الحديث وتساهل في غيره فالأصح أن روايته ترد لأن الظاهر أنه إنما تشدد في الحديث لغرض وإلا لزم تشدده مطلقا

وقد يتغير ذلك الغرض أو يحصل بدون تشدد فيكذب
وقال بعضهم يرد خبر من عرف بالتساهل في الحديث النبوي دون المتساهل في حديثه عن نفسه وأمثاله وما ليس بحكم في الدين
وينبغي أن يكون محل الخلاف بين من يرد حديثه وبين من لا يرده في الكذب الذي لا يفضي إلى الخروج عن العدالة وأما الكذب الذي يفضي إلى الخروج عن العدالة ولو لم يكن فيه إلا خرم المروءة فلا خلاف في ترك حديث المعروف به عندهم
وأما المطروح فقد جعله بعضهم نوعا مستقلا وعرفه بأنه هو ما نزل عن الضعيف وارتفع عن الموضوع ومثل له بحديث جويبر عن الضحاك عن ابن عباس
وقد أدى نظر بعضهم إلى أنه هو الحديث المتروك المعرف هنا فيكون هذا القسم مما له اسمان
والمنكر هو الحديث الذي ينفرد بروايته من فحش غلطه أو كثرت غفلته أو تبين فسقه بغير الكذب
وهذا على رأي من لا يشترط في المنكر مخالفة راويه للثقات وقد سبق بيان المنكر على قولهم
والمعلل هو ما اطلع فيه بعد البحث والتتبع على وهم وقع لراويه من وصل منقطع أو إدخال حديث في حديث أو نحو ذلك
والمدرج هو ما أدرج في الحديث مما ليس منه على وجه يوهم أنه منه
والإدراج قد يكون في المتن وقد يكون في الإسناد
مثال الإدراج في المتن ما روي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

علمه التشهد فقال قل التحيات لله والصلوات فذكر التشهد إلى آخره وهو أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله
وذكر بعده فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد

فقوله فإذا قلت هذا إلى آخره إنما هو من كلام ابن مسعود أدرج في الحديث ويدل على الإدراج ما جاء في الرواية الأخرى وهو قال عبد الله فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك
ومثال الإدراج في الإسناد ما رواه الترمذي عن بندار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن واصل ومنصور والأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك الحديث
فرواية واصل هذه مدرجة على رواية منصور والأعمش لأن واصلا لا يذكر فيه عمرا بل يجعله عن أبي وائل عن عبد الله هكذا رواه شعبة ومهدي بن ميمون ومالك بن مغول وسعيد بن مسروق عن واصل
وقد بين الإسنادين معا يحيى بن سعيد القطان في روايته عن سفيان وفصل أحدهما من الآخر رواه البخاري في صحيحه عن عمرو بن علي عن يحيى عن سفيان عن منصور والأعمش كلاهما عن أبي وائل عن عمرو عن عبد الله وعن سفيان عن واصل عن أبي وائل عن عبد الله من غير ذكر عمرو بن شرحبيل
قال عمرو بن علي فذكرته لعبد الرحمن وكان حدثنا عن سفيان عن الأعمش ومنصور وواصل عن أبي وائل عن عمرو فقال دعه دعه
لكن رواه النسائي عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان عن واصل وحده عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل
فزاد في السند عمرا من غير ذكر أحد أدرج عليه رواية واصل
فكأن ابن مهدي لما حدث به عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل بإسناد واحد ظن الرواة عن ابن مهدي اتفاق طرقهم فاقتصر بعضهم على بعض شيوخ سفيان ولهذا قالوا لا ينبغي لمن يروي حديثا بسند فيه جماعة في طبقة واحدة مجتمعين في الرواية عن شيخ واحد أن يحذف بعضهم بل يأتي به عن جميعهم

لاحتمال أن يكون اللفظ في السند أو المتن لأحدهم وتكون رواية من عداه محمولة عليه فإذا حذف أحدهم فربما كان هو صاحب ذلك اللفظ
وقد عرف بعضهم المدرج في المتن بقوله هو زيادة تقع فيه
والأولى أن يزاد وليست منه وعرفه بعضهم بقوله هو الملحق بالحديث من قول بعض رواته
وقد ذكرنا كثيرا مما يتعلق بالمدرج فيما سبق
والمقلوب هو ما وقعت المخالفة فيه بالتقديم والتأخير
وذلك كما في حديث أبي هريرة عند مسلم في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه
فإن فيه ورجل تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله
فهذا مما انقلب على أحد الرواة وإنما هو حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه كما ورد في البخاري وفي مسلم في بعض طرقه فعكس الراوي الذي انقلب عليه الأمر فجعل اليمين في موضع الشمال والشمال في موضع اليمين
وقد دل على القلب أمران أحدهما الرواية الأخرى التي اتفق عليها الشيخان
والثاني ما يقتضيه وجه الكلام لأن المعروف صدور الإنفاق في أغلب الأحيان عن اليمين وهذا النوع من قبيل القلب في المتن وهو قليل
والغالب في القلب أن يكون في الإسناد
ومن أمثلة القلب في المتن ما رواه خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة مرفوعا إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا
رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما
وهو مقلوب فإن المشهور المروي في الصحاح أن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم

ويؤيد ذلك ما جاء في يعض الروايات أن ابن أم مكتوم وكان أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت
وقد جمع ابن خزيمة بينهما فجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -

جعل أذان الليل نوبا بينهما فجاء الخبران على حسب الحالين وتابعه ابن
حبان عليه بل بالغ حتى جزم بذلك
وقال البلقيني إنه بعيد ولو فتحنا باب التأويل لاندفع كثير من علل المحدثين
قال ويمكن أن يسمى ذلك بالمعكوس فيفرد بنوع ولم أر من تعرض لذلك
ومن أمثلة ذلك ما رواه الطبراني من حديث أبي هريرة إذا أمرتكم بشيء فأتوه وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ما استطعتم فإن المعروف ما في الصحيحين ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم
ومثال القلب في الإسناد وهو الأكثر قلب كعب بن مرة إلى مرة بن كعب وقلب مسلم بن الوليد إلى الوليد بن مسلم ونحو ذلك
هذا ما قاله بعض أهل الأثر ممن خص القلب بما ذكر
وقال الأكثرون القلب أعم من ذلك وجعلوا القلب في الإسناد قسمين
أحدهما أن يكون الحديث مشهورا براو فيجعل مكانه راو آخر في طبقته ليصير بذلك غريبا مرغوبا فيه وذلك نحو حديث مشهور بسالم جعل مكانه نافع
وكحديث مشهور بمالك جعل مكانه عبيد الله بن عمر
وممن كان يفعل ذلك من الوضاعين حماد بن عمرو النصيبي
ويقال إن فاعل ذلك هو الذي يطلق عليه أنه يسرق الحديث وربما قيل في الحديث نفسه إنه مسروق
وإطلاق السرقة في ذلك لا يظهر إلا فيما إذا كان الراوي المبدل به منفردا به وحينئذ لا يستغرب أن يقال إن المبدل قد سرقه منه

الثاني أن يؤخذ إسناد متن فيجعل لمتن آخر ويجعل ذلك المتن لإسناد آخر وسماه العلامة ابن الجزري بالقلب المركب وقد فعل ذلك بعضهم اختبارا لحفظ المحدث أو لكونه ممن يقبل التلقين أو لا يقبله
وقد جرى ذلك للإمام البخاري فقد حكى عدة من المشايخ أن ذلك الإمام الأوحد لما قدم بغداد وسمع به أصحاب الحديث اجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا ذلك إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس
فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري لا أعرفه
فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه
فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم
ثم انتدب إليه رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه
ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه
فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل

إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل
قال بعضهم إنه لا يتعجب من حفظ البخاري لها وتيقظه لتمييز صوابها من خطأها لأنه في الحفظ بمكان وإنما يتعجب من حفظه لتواليها كما ألقيت عليه من مرة واحدة
وقد وقع القلب من بعض الثقات الأثبات وذلك بغير قصد فقد ذكر أحمد في مسنده عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال حدث سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس
فقلت له تعست يا أبا عبد الله يريد عثرت فقال كيف هو فقلت حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبي الجراح عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال صدقت
وقد اشتمل هذا الخبر على شدة إنصاف الثوري وتواضعه وعدم أنفته من الرجوع إلى الصواب وعلى فرط غيره تلميذه القطان على أمر الحديث حتى خاطب أستاذه بما خاطبه به مع عثوره في موضع يعثر فيه لأن جل رواية نافع إنما هي عن ابن عمر وإنما اتفق هنا أن كان الأمر على خلاف المعتاد
وقد خطأ يحيى القطان شعبة أيضا وذلك حيث حدثوه عنه بحديث لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر
عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي فقال حدثنا به سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن ابن مسعود
وهذا هو الصواب
ولا يتأتى ليحيى أن يحكم على شعبة بالخطأ إلا بعد أن يتيقن أن الصواب في غير روايته
على أن الذين يميلون للجمع بأي حال كان يقولون في مثل هذا الوضع يحتمل أن يكون عند أبي إسحاق على الوجهين فحدث به كل مرة بأحدهما فإن

مثل هذا الاحتمال يستبعده المحققون
نعم يرتفع الاستبعاد لو أتت رواية عن الحارث تشعر بذلك
على أن مدار الأمر عند المحققين إنما هو البناء على ما يغلب على الظن والاحتمال البعيد لا يعول عليه عندهم
هذا وقد عرف بعضهم القلب في المتن بقوله هو أن يعطى أحد الشيئين ما اشتهر للآخر
ويقرب منه قول العلامة شمس الدين محمد بن الجزري هو أن يكون الحديث على وجه فينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه وربما انعكس وجعله نوعا مستقلا سماه بالمنقلب ومثل له بأمثلة منها ما ورد في البخاري في حديث تخاصم الجنة والنار وهو أنه ينشئ الله لها خلقا فذهل الراوي الآخر فقلب الجنة بالنار فصار ذلك من قبيل المنقلب
والمضطرب هو ما وقعت المخالفة فيه بالإبدال على وجه يحصل فيه التدافع مع عدم وجود المرجح
وقال ابن الصلاح المضطرب من الحديث هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه آخر مخالف له
وإنما نسميه مضطربا إذا تساوت الروايتان أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى بأن يكون راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة فالحكم للراجحة ولا يطلق عليه حينئذ وصف المضطرب ولا له حكمه
ثم قد يقع الاضطراب في متن الحديث وقد يقع في الإسناد وقد يقع ذلك من راو واحد وقد يقع من رواة له جماعة
والاضطراب موجب ضعف الحديث لإشعاره بأنه لم يضبط
وقال بعضهم المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة سواء كان ذلك من راو واحد أو أكثر فإن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات لم يسم مضطربا

لأن الواجب حينئذ الأخذ بالراجحة وترك المرجوحة لكونها إما شاذة أو منكرة وكذلك إن أمكن الجمع بين تلك الروايات
والاضطراب قد يكون في المتن وقد يكون في السند وقد يكون فيهما
ومثال الاضطراب في المتن فيما أورده العراقي حديث فاطمة بنت قيس قالت سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن الزكاة فقال إن في المال لحقا سوى الزكاة
وهذا حديث قد اضطرب لفظه ومعناه فرواه الترمذي هكذا من رواية شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة
ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ ليس في المال حق سوى الزكاة
فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل
وقول البيهقي إنه لا يحفظ لهذا اللفظ الثاني إسنادا معارض بما رواه ابن ماجه هكذا
وقال بعضهم إن ما ذكره لا يصلح مثالا فإن شيخ شريك ضعيف فهو مردود من قبل ضعف راويه لا من قبل اضطرابه
نعم إنه يزداد بالاضطراب ضعفا
وأيضا فإنه مما يمكن تأويله بأنه يمكن أن تكون روت كلا من اللفظين عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وأن المراد بالحق المثبت المستحب وبالمنفي الواجب
وقال بعضهم قل أن يوجد للاضطراب في المتن مثال سالم من الخدش فإن الأمثلة التي يوردونها منها ما يمكن الجمع فيه بين الروايات ومنها ما يكون بعض الروايات فيه راجحة وفي الحالين لا يبقى الاضطراب
ومثال الاضطراب في الإسناد حديث أبي بكر الصديق أنه قال يا رسول الله أراك شبت قال شيبتني هود وأخواتها
فهذا مضطرب فإنه لم يرو إلا من طريق أبي إسحاق السبيعي
وقد اختلف عليه فيه فمنهم من رواه عنه مرسلا ومنهم من رواه موصولا ومنهم من جعله من مسند أبي بكر ومنهم من جعله من مسند سعد ومنهم من جعله من مسند عائشة
وقد وقع الاختلاف فيه على نحو عشرة أوجه أوردها الدارقطني ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض والجمع متعذر

وهنا أمور ينبغي الانتباه لها
الأمر الأول أن المحدثين قلما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعا في نفس المتن لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم محدثين وإما هو من شأن المجتهدين
وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعا في نفس الإسناد لأنه من شأنهم
وذلك لأن الاطلاع على ما في الإسناد من علة على ما ينبغي يعسر على غيرهم بخلاف الاطلاع على ما في المتن من علة سواء كان فيه اضطراب أم لا فإنه سهل المدرك فلذلك صرفوا جل عنايتهم إلى بيان ما يتعلق بالإسناد ليكفوا غيرهم مؤونة ذلك ولذلك تتعرض لذكر ما وقع فيه الاضطراب من جهة المتن وإنما تعرضوا للمضطرب لأنه داخل في المعل فانتبه لذلك
الأمر الثاني لأن المضطرب قد يكون صحيحا وذلك في مثل ما إذا وقع الاختلاف في اسم رجل أو أبيه أو نسبته أو نحو ذلك فإنه لا يضر بعد ما ثبت كونه ثقة ويحكم لذلك الحديث بالصحة مع تسميته مضطربا
وفي الصحيحين أحاديث كثيرة من هذا القبيل ولذا قال بعض العلماء وقد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن
الأمر الثالث قد وقع الاختلاف في الصلاة الكائنة في قصة ذي اليدين فإن الراوي شك فيها مرة ولم يدر أهي الظهر أو العصر وقال مرة إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر وجزم مرة بالعصر وقال مرة أكبر ظني أنها العصر
وقد روى النسائي ما يشهد لأن الشك فيها كان من أبي هريرة ولفظه صلى النبي صلى الله عليه وسلم -
إحدى صلاتي العشي قال أبو هريرة ولكني نسيت
قال بعض العلماء والظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك وكان ربما

غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وربما غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها ثم طرأ الشك في تعيينها على ابن سيرين أيضا فقد ثبت عنه أنه قال سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا
وكأن السبب في ذلك عدم الاهتمام بغير ما في القصة من الأحكام
وقد حاول بعضهم الجمع فذهب إلى أن القصة وقعت مرتين
وكثيرا ما يسلك بعضهم مثل ذلك في الجمع توصلا إلى تصحيح كل من الروايات صوتا للرواة من أن ينسب الغلظ أو السهو أو النسيان إليهم
وكأن عناية هؤلاء بالرواة فوق عنايتهم بالمرويات فجمعهم كلا جمع لا سيما إن كان مما ينبو عنه السمع
وقد جرى ذكر ذي اليدين في كثير من كتب الأصول وذلك في مبحث وجوب الأخذ بما يرويه الواحد إذا كان عدلا فإنهم ذكروا أن بعض العلماء ذهب إلى أنه لا يقبل خبر الواحد العدل واستدل على ذلك بأنه عليه الصلاة و السلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر
وأجابوا عن ذلك ومنهم الفخر فإنه قال في الجواب إن ذلك إن دل فإنما يدل على اعتبار ثلاثة أبي بكر وعمر وذي اليدين ولأن التهمة كانت قائمة هناك لأنها كانت واقعة في محفل عظيم والواجب فيها الاشتهار
وقد ذكرنا سابقا جوابا لغيره وهو قوله أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن قبول قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور
أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع بعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير
وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
الثاني أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك

الثالث أنه قال قولا لو علم صدقه لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل
نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة يلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن يكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
والظاهر أن المستدلين بهذه القصة والمجيبين عن استدلالهم لم يأخذوها من أئمة الحديث أو كتبهم كما هو دأبهم ولذلك ذكر صاحب تفضيل السلف على الخلف في الأصول أن من مناقب الأستاذ أبي إسحاق الشيرازي أنه على كبر سنه وانتهاء رياسة العلم ببغداد إليه كان يتردد إلى بعض علماء الحديث لمعرفة ما أشكل عليه من النقل وأحكام الرواية والعلل
ولنذكر ما ورد في الصحيحين في قصة ذي اليدين قال البخاري
باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول حدثنا آدم حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال
صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم -

الظهر أو العصر فسلم فقال له ذو اليدين الصلاة يا رسول الله أنقصت فقال
النبي صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أحق ما يقول قالوا نعم فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين
قال سعد ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقي وسجد سجدتين وقال هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم -
باب من لم يتشهد في سجدتي السهو وسلم أنس والحسن ولم يتشهدا وقال قتادة لا يتشهد حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك بن أنس عن أيوب بن

أبي تيمية السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله ص
- فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن سلمة بن علقمة قال قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة
باب يكبر في سجدتي السهو حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد عن أبي هريرة قال صلى النبي إحدى صلاتي العشي محمد وأكثر ظني أنها العصر ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم -
ذو اليدين فقال أنسيت أم قصرت فقال لم أنس ولم تقصر قال بلى قد نسيت فصلى
ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر
وقال مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة قال عمرو أنبأنا سفيان بن عيينة قال أنبأنا أيوب قال سمعت محمد بن سيرين يقول سمعت أبا هريرة يقول
صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما

العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبا وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة فقال ذو اليدين فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت فنظر النبي صلى الله عليه وسلم -

يمينا وشمالا فقال ما يقول ذو اليدين قالوا صدق لم تصل إلا ركعتين فصلى
ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع
قال وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال وسلم
وحدثنا أبو الربيع الزهراني قال أنبأنا حماد قال أنبأنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي بمعنى حديث سفيان
وحدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن داود الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال سمعت أبا هريرة يقول صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلاة العصر فسلم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول
الله أم نسيت فقال رسول الله كل ذلك لم يكن فقال قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله على الناس فقال أصدق ذو اليدين فقالوا نعم يا رسول الله فأم رسول الله ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم
وحدثني حجاج بن الشاعر قال أنبأنا هارون بن إسماعيل الخزاز قال

أنبأنا علي وهو ابن المبارك قال أنبأنا يحيى قال حدثنا أبو سلمة قال أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

صلى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلم فأتاه رجل من بني سليم فقال يا رسول
الله أقصرت الصلاة أم نسيت وساق الحديث
وحدثني إسحاق بن منصور قال أنبأنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال بينا أنا أصلي مع رسول الله صلاة الظهر سلم رسول الله من الركعتين فقال رجل من بني سليم واقتص الحديث
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا عن ابن علية قال زهير أنبأنا إسماعيل بن إبراهيم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له
الخرباق وكان في يديه طول فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا عبد الوهاب الثقفي قال حدثنا خالد وهو الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال سلم رسول الله في ثلاث ركعات من العصر ثم قال فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم
واعلم أن في حديث ذي اليدين فوائد جمة وقواعد مهمة

منها جواز النسيان في الأفعال والعبادات على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنهم لا يقرون على الخطأ في ذلك
ومنها أن الواحد إذا ادعى شيئا جرى بحضرة جمع كثير لا يخفى عليهم سئلوا عنه ولا يعمل بقوله من غير سؤال
ومنها إثبات سجود السهو وأنه سجدتان وأنهما على هيئة سجود الصلاة وأنه يسلم من سجود السهو وأنه لا تشهد فيه
ومنها أن كلام الناسي للصلاة والذي يظن أنه ليس فيها لا يبطلها وبهذا قال جمهور العلماء
وذهب بعضهم إلى أن الصلاة تبطل بالكلام ناسيا أو جاهلا لحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم وزعموا أن الحديث الوارد في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم
قالوا لأن ذا اليدين قتل يوم بدر ونقلوا ذلك عن الزهري قالوا ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإسلام عن بدر لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم -

أو من أحد أصحابه الحاضرين لذلك
وقد رد ذلك ابن عبد البر في التمهيد فقال أما ادعاؤهم أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود فغير صحيح لأنه لا خلاف بين أهل الحديث والسير أن حديث ابن مسعود كان بمكة حين رجع من أرض الحبشة قبل الهجرة وأن حديث أبي هريرة أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدنية وإنما أسلم أبو هريرة عام خيبر سنة سبع من الهجرة بلا خلاف
وأما حديث زيد بن أرقم فليس فيه بيان أنه قبل حديث أبي هريرة أو بعده والنظر يشهد أنه قبل حديث أبي هريرة

وأما قولهم إن أبا هريرة لم يشهد ذلك فليس بصحيح بل شهوده لها محفوظ من رواية الثقات الحفاظ ففي البخاري ومسلم وغيرهما أن أبا هريرة قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إحدى صلاتي العشي فسلم من اثنتين وذلك الحديث وقصة ذي اليدين وفي رواية
صلى بنا رسول الله وفي رواية في مسلم وغيره بينا أنا أصلي مع رسول الله
وأما قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغلط وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين وقد ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير فيمن قتل يوم بدر قال ابن إسحاق ذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن غبشان من خزاعة حليف لبني زهرة فذو اليدين غير ذي الشمالين ففيه حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين وأن المتكلم رجل من بني سليم وفي رواية عمران بن الحصين أن اسمه الخرباق كما ذكر ذلك مسلم
فذو اليدين الذي شهد السهو في الصلاة سلمي وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي وهو يخالفه في الاسم والنسب
وأما قول الزهري في حديث السهو إن المتكلم ذو الشمالين فلم يتابع عليه
وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة ولا يعلم أحد من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على حديث الزهري في قصة ذي اليدين وكلهم تركوه لاضطرابه وكونه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه بشر والكمال لله تعالى ولك أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ص

فقول الزهري إنه قتل يوم بدر متروك لتحقق غلطة فيه
ومن أراد زيادة البيان فليرجع إلى التمهيد
ومن الغريب ما وقع فيما رواه النسائي مما يدل على أنهما واحد وهو فقال له ذو الشمالين بن عمرو أنقصت الصلاة أن نسيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

ما يقول ذو اليدين فصرح بأن ذو الشمالين هو ذو اليدين لكن نص الشافعي في
اختلاف الحديث على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين
قال بعض المؤلفين قوله صلى لنا رسول الله صلاة العصر فسلم ركعتين وفي رواية صلاة الظهر قال المحققون هما قضيتان
وفي حديث عمران بن الحصين سلم رسول الله في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه
وفي رواية له سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقال رجل بسيط اليدين فقال أقصرت الصلاة وحديث عمران هذا قضية ثالثة في يوم آخر
فقد اختار هذا المؤلف في الجمع بين الروايات التي نقلناها عن مسلم هنا أن يقال سها رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثلاث مرات مرة في صلاة الظهر ومرتين في صلاة العصر وفي كل مرة يقوم ذو
اليدين فيقول ما نقل عنه ويقول رسول الله أصدق ذو اليدين أو هذا فيقول الناس نعم
وسبب اختيار ذلك مع غرابة اتفاق مثل هذه الحال ثلاث مرات الحرص على صون بعض الرواة من نسبة الوهم أو الغلط أو السهو إليهم مع أنه لا ملام في مثل ذلك عليهم فاربأ بنفسك عن الاعتراض على كثير مما يقال فإن في ذلك إضاعة للوقت وهي عثرة لا تقال
والمصحف هو ما وقعت المخالفة فيه بتغيير النقط في الكلمة مع بقاء صورة

ومثاله حديث من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال
إذا غيرت ستا وجعلتها شيئا كما وقع ذلك لبعض الأدباء فيه
والتصحيف كما يقع في المتن يقع في الإسناد ومثاله فيه تصحيف بعض الحدثين ابن مزاجم وهو بالراء والجيم ابن مزاحم بالزاي والحاء
والمحرف هو ما وقعت المخالفة فيه بتغيير الشكل في الكلمة مع بقاء صورة الخط فيها
ومثال ذلك ما وقع لبعض الأعراب فإنه رأى في كتاب من كتب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان إذا صلى نصبت بين يديه عنزة
والعنزة الحربة فظنها بسكون النون ثم روى ذلك بالمعنى على حسب وهمه فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا صلى نصبت بين يديه شاة
وكما يقع التحريف في المتن يقع في الإسناد
ومثاله فيه أن تجعل بشيرا بفتح الباء وكسر الشين بشيرا بضم الباء وفتح الشين
وقس على ذلك ما أشبهه
واعلم أن التصحيف والتحريف قد يطلق كل منهما على ما يشمل هذين النوعين بل قد يطلق كل منهما على كل تغيير يقع في الكلمة ولو مع عدم بقاء صورة الخط فيها
تنبيه كثيرا ما يحاول أناس إزالة التصحيف عن كلمات يتوهمون أنها قد صحفت فيغيرونها بما بدا لهم لا سيما إن كانت قريب المأخذ فيحدث بذلك التصحيف بعد أن لم يكن وهم يظنون أنهم أزالوه بعد أن كان
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي حيث قال حديث عمران بن حصين من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله

نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد
البخاري بلفظ أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن صلاة الرجل قاعدا فقال إن صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف
أجر القائم ومن صلى نائما الحديث مثله
تنبيه المراد بالنائم المضطجع
وصحف بعضهم هذه اللفظة فقال إنما هو صلى بإيماء أي بالإشارة كما روي أنه ص -
على ظهر الدابة يومئ إيماء قال ولو كان من النوم لعارض نهيه عن الصلاة
لمن غلبه النوم
وهذا إنما قاله هذا القائل بناء على أن المراد بالنوم حقيقته وإذا حمل على الاضطجاع اندفع الإشكال
قوله ويروى صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد
قلت رواه بهذا اللفظ ابن عبد البر وغيره وقال السهيلي في الروض ربما نسب بعض الناس النسائي إلى التصحيف وهو مردود لأنه في الرواية الثابتة وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد
قلت وهو يدفع ما تعلل به القائل الأول
وقال ابن عبد البر جمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعا فإن أجاز أحد النافلة مضطجعا مع القدرة على القيام فهو حجة له فإن لم يجزه أحد فالحديث إما غلط أو منسوخ
وقال الخطابي لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعدا فإن صحت هذه اللفظة ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجها في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره لصلاة المريض نائما إذا عجز عن القعود جاز التطوع مضطجعا للقادر على القعود
انتهى
وما ادعياه من الاتفاق على المنع مردود فقد حكاه الترمذي عن الحسن البصري وهو أصح الوجهين عن الشافعية
وقد ذكرنا كثيرا مما يتعلق بالتصحيف فيما سبق
هذا وقد بقي مما يتعلق بمخالفة الراوي لغيره من الثقات مما لم نذكره سابقا قسم يسمى بالمزيد في متصل الأسانيد وهو ما كانت المخالفة فيه بزيادة راو في

الإسناد وقد جمع الحافظ العراقي بينه وبين خفي الإرسال في موضع واحد وابتدأ بخفي الإرسال فقال فيه هو أن يروي الرجل عمن سمع منه ما لم يسمع منه أو عمن لقيه ولم يسمع منه أو عمن عاصره ولم يلقه فهذا قد يخفى على كثير من أهل الحديث لكونهما قد جمعهما عصر واحد
وهذا النوع أشبه بروايات المدلسين وقد أفرده ابن الصلاح بالذكر عن نوع المرسل فتبعته على ذلك
ثم ذكر أن خفي الإرسال يعرف بأربعة أمور
أحدها أن يعرف عدم اللقاء بينهما بنص بعض الأئمة على ذلك أو يعرف ذلك بوجه صحيح
الثاني أن يعرف عدم سماعه منه مطلقا بنص إمام على ذلك أو نحوه
الثالث أن يعرف عدم سماعه منه لذلك الحديث وإن سمع منه غيره وذلك إما بنص إمام أم إخباره عن نفسه في بعض طرق الحديث أو نحو ذلك
الرابع أن يرد في بعض طرق الحديث زيادة اسم راو بينهما
ثم قال وهذا القسم الرابع محل نظر لا يدركه إلا الحفاظ النقاد ويشتبه ذلك على كثير من أهل الحديث لأنه ربما كان الحكم للزائد وربما كان الحكم للناقص والزائد وهم فيكون من نوع المزيد في متصل الأسانيد
وذلك جمعت بينه وبين خفي الإرسال وإن كان ابن الصلاح جعلهما نوعين
وكذلك الخطيب أفردهما بالتصنيف
وصنف في الأول كتابا سماه التفصيل لمبهم المراسيل وصنف في الثاني كتابا سماه تمييز المزيد في متصل الأسانيد وفي كثير مما ذكره فيه نظر والصواب ما ذكره ابن الصلاح من التفصيل واقتصرت عليه
ولنذكر ما ذكره ابن الصلاح في ذلك برمته قال النوع السابع والثلاثون معرفة المزيد في متصل الأسانيد
مثاله ما روي عن عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني بسر بن عبيد الله قال سمعت أبا إدريس يقول سمعت وائلة ابن الأسقع يقول سمعت أبا مرثد الغنوي

يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقول لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
فذكر سفيان في هذا الإسناد زيادة ووهم وهكذا ذكر أبي إدريس
أما الوهم في ذكر سفيان فمن دون ابن المبارك لا من ابن المبارك لأن جماعات ثقات رووه عن ابن المبارك عن ابن جابر نفسه ومنهم من صرح فيه بلفظ الإخبار بينهما
وأما ذكر ابن إدريس فيه فابن المبارك منسوب فيه إلى الوهم وذلك لأن جماعة من الثقات رووه عن ابن جابر فلم يذكروا أبا إدريس بين بسر وواثلة وفيهم من صرح فيه بسماع بسر من واثلة
قال أبو حاتم الرازي يرون أن ابن المبارك وهم في هذا
وكثيرا ما يحدث بسر عن أبي إدريس فغلط ابن المبارك وظن أن هذا مما روي عن أبي إدريس عن واثلة
وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه
قلت قد ألف الخطيب الحافظ في هذا النوع كتابا سماه تمييز المزيد في متصل الأسانيد وفي كثير مما ذكره نظر لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة عن في ذلك فينبغي أن يحكم بإرساله ويجعل معللا بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد لما عرف في نوع المعلل وكما يأتي ذكره إن شاء الله في النوع الذي يليه وإن كان فيه تصريح بالسماع أو بالإخبار كما في المثال الذي أوردناه فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه ثم سمعه منه نفسه فيكون بشر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس عن واثلة ثم لقي واثلة فسمعه منه كما جاء مثله مصرحا به في غير هذا
اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهما كنحو ما ذكره أبو حاتم في المثال المذكور
وأيضا فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين فإذا لم يجيء عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة والله أعلم
وقال بعض العلماء بعد ما أورد ما ذكروه في حكم هذا النوع وبالجملة فلا يطرد الحكم هنا بشيء معين كما لم يطرد ذلك في تعارض الوصل والإرسال

وقد أحببنا أن نورد ذلك لمناسبته لما نحن فيه فنقول إذا اختلف الرواة في حديث فرواه بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فللعلماء في ذلك أربعة أقوال
القول الأول أن الحكم لمن وصل وهو الأظهر وإليه ذهب علماء الأصول
القول الثاني أن الحكم لمن أرسل ويحكى عن أكثر أصحاب الحديث
القول الثالث أن الحكم للأكثر فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله فالحكم للإرسال وإن كان من وصله أكثر ممن أرسله فالحكم للوصل
القول الرابع أن الحكم للأحفظ فإن كان من أرسله أحفظ فالحكم للإرسال وإن كان من وصله أحفظ فالحكم للوصل
والذي يظهر أن محل كل قول من هذه الأقوال إنما هو فيما لم يظهر مرجح لخلافه ومن تتبع آثار متقدمي هذا الفن كابن مهدي والقطان والبخاري وأحمد ظهر له إنهم لم يحكموا في هذه المسألة بحكم كلي بل جعلوا المعول في ذلك على المرجح فمتى وجد كان الحكم له ولذلك تراهم يرجحون تارة الوصل وتارة الإرسال كما يرجحون تارة عدد الذوات على الصفات وتارة العكس
ومما يناسب هذه المسألة مسألة أخرى يجعلونها تالية لها في الذكر وهي ما إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر
وقد اختلف في هذه المسألة
فقال بعضهم إن الحكم للرافع لأنه مثبت وغير ساكت ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه لأنه علم ما خفي عليه
وقال بعضهم إن الحكم للواقف ويحكى عن أكثر أصحاب الحديث
وقال بعضهم إن الحكم للرافع إلا أن يقفه الأكثرون
وقد أشار إلى هذا

القول العلامة ابن الجوزي في موضوعاته حيث قال إن البخاري ومسلما تركا أشياء تركها قريب وأشياء لا وجه لتركها فمما لا وجه لتركه أن يرفع الحديث ثقة ويقفه آخر فترك هذا لا وجه له لأن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة إلا أن يقفه الأكثر ويرفعه واحد فالظاهر غلطه وإن كان من الجائز أن يكون حفظ دونهم
قال الحاكم قلت للدارقطني فخلاد بن يحيى فقال ثقة إنما أخطأ في حديث واحد فرفعه ووقفه الناس
وقلت له فسعيد بن عبيد الله الثقفي فقال ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها وغيره يقفها
هذا وقد ذكرنا في الضعيف وأقسامه ما فيه تبصرة للمبتدي وتذكرة لغيره إلا بحث المعلل فإنا لم نوفه حق من البيان مع أنه من أهم المباحث فأحببنا إفراده بالبحث اعتناء بشأنه
وقبل أن نشرع في ذلك نقول كما أن للحديث المقبول وهو الصحيح ونحوه مراتب كذلك للحديث المردود وهو الضعيف ونحوه مراتب
والضعيف إذا رتب على حسب شدة الضعف قدم الموضوع وهذا أمر لا خلاف فيه ويتلوه المتروك ثم المنكر ثم المعلل ثم المدرج ثم المقلوب ثم المضطرب
وقال الخطابي شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول
وقال بعضهم الضعيف الذي ضعفه لا لعدم الاتصال يقدم فيه الموضوع ثم المتروك ثم المدرج ثم المقلوب ثم المنكر ثم الشاذ ثم المعلل ثم المضطرب
والضعيف الذي ضعفه لعدم الاتصال يقدم فيه المعضل ثم المنقطع ثم المدلس ثم المرسل
وهذا الترتيب الذي ذكروه إنما نظروا فيه إلى الجملة وإلا فقد يكون في المقدم ما هو أخف ضعفا مما بعده
وانظر إلى المعضل مثلا فإنهم قدموه على المنقطع وجعلوه أسوأ منه حالا مع أن المنقطع قد يكون مساويا للمعضل وذلك فيما إذا كان الانقطاع فيه من موضعين وكان المعضل قد سقط منه اثنان فقط على الشرط

وهو التوالي وقد يكون أسوأ حالا منه وذلك فيما إذا كان الانقطاع فيه من ثلاثة مواضع وحينئذ فتقديم المعضل على المنقطع والحكم عليه بأنه أسوأ حالا منه إنما هو بالنظر للغالب فهو حكم مبني على الجملة فينبغي الانتباه لذلك ولما أشبهه

بيان شاف للمعلل من الحديث
هذا النوع من أجل أ واع علوم الحديث وأشرفها وأدقها وأغمضها ولا يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب وحفظ واسع ومعرفة تامة بالأسانيد والمتون وأحوال الرواة ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أئمة الحديث كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن أبي شيبة وأبي حاتم الرازي وأبي زرعة والدارقطني
ويقال للمعلل المعلول والمعلل أما المعلول فقد وقع في كلام البخاري والترمذي وابن عدي والدارقطني وأبي يعلى الخليلي والحاكم وغيرهم
وقد أنكر بعض العلماء ذلك من جهة اللغة وأنهم قالوا إن المعلول في اللغة اسم مفعول من عله إذا سقاه السقية الثانية
وتعقبهم آخرون فقالوا قد ذكر في بعض كتب اللغة عل الشيء إذا أصابته علة فيكون لفظ معلول هنا مأخوذا منه قال ابن القوطية عل الإنسان مرض والشيء أصابته العلة فيكون استعماله بالمعنى الذي أرادوه غير منكر بل قال بعضهم استعمال هذا اللفظ أولى لوقوعه في عبارات أهل الفن مع ثبوته لغة ومن حفظ حجة على من لم يحفظ
قال ابن هشام في شرح بانت سعاد عند قول كعب
( تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول )
قوله معلول اسم مفعول كما أن منهلا كذلك إلا أن فعله ثلاثي مجرد يقال عله يعله بالضم على القياس ويعله بالكسر إذا سقاه ثانيا وأصل ذلك أن

الإبل إذا شربت في أول الورد سمي ذلك نهلا فإذا ردت إلى أعطانها ثم سقيت الثانية سمي ذلك العلل
وزعم الحريري أن المعلول ل يستعمل إلا بهذا المعنى وأن إطلاق الناس له على الذي أصابته العلة وهم وأنه إنما يقال لذلك معل من أعله الله وكذا قال ابن مكي وغيره ولحنوا المحدثين في قولهم حديث معلول وقالوا الصواب معل أو معلل
انتهى
والصواب أنه يجوز أن يقال عله فهو معلول من العلة إلا أنه قليل وممن نقل ذلك الجوهريي في صحاحه وابن القوطية في أفعاله وقطرب في كتاب فعلت وأفعلت وذكر ابن سيده في المحكم أن في كتاب أبي إسحاق في العروض معلول ثم قال ولست على ثقة منه
انتهى
قيل ويشهد بهذه اللغة قولهم عليل كما تقول جريح وقتيل
انتهى
ولا دليل في ذلك لقولهم عقيد وضمير وهما بمعنى مغفل لا بمعنى مفعول
ونظير هذا أن المحدثين يقولون أعضل فلان الحديث فهو معضل بالفتح ورد بأن المعروف أعضل الأمر فهو معضل كأشكل فهو مشكل
وأجاب ابن الصلاح بأنهم قالوا أمر عضيل أي مشكل وفعيل يدل على الثلاثي فعلى هذا يكون لنا عضل قاصرا وأعضل متعديا وقاصرا كما قالوا ظلم الليل وأظلم الليل وأظلم الله الليل
انتهى
وقد بينا أن فعيلا يأتي من غير الثلاثي ثم إنه لا يكون من الثلاثي القاصر
وأما المعلل فقد شاع استعمال القوم له وذاع وهو اسم مفعول من قولك عللته تعليلا إلا أن التعليل في اللغة لا يناسب المعنى المراد لأنه بمعنى الإلهاء تقول عللت الصبي بالطعام تعليلا إلا ألهيته عن اللبن
ولذا قال بعضهم الأحسن أن يسمى هذا النوع بالمعل لأن الأكثر في استعمال الفعل أن يقولوا أعله

فلان بكذا والقياس فيه أن يكون اسم المفعول منه معلا وهو المعروف في اللغة وإن كان نادر الاستعمال فإن الأكثر في الاستعمال لفظ عليل وقد جاء معل في عبارة بعض المحدثين
وهذا أوان الشروع في إيراد عبارات القوم في المعل قال جامع أشتات هذا الفن الحافظ ابن الصلاح النوع الثامن عشر معرفة الحديث المعلل ويسميه أهل الحديث المعلول وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس العلة والمعلول مرذول عند أهل العربية واللغة
اعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها
ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر
ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه
وكثيرا ما يعللون الموصول بالمرسل مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول ويجيء أيضا بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه قال الخطيب أبو بكر السبيل إلى معرفة علة الحديث أن

يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط
وروي عن علي بن المديني قال الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطوه
ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر وقد تقع في متنه ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعا كما في التعليل بالإرسال والوقف وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن
فمن أمثلة ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال البيعان بالخيار الحديث
فهذا الإسناد متصل بنقل العدل عن العدل وهو معلل غير صحيح والمتن على كل حال صحيح والعلة في قوله عن عمرو بن دينار إنما هو عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه فوهم يعلى بن عبيد وعدل عن عبد الله بن دينار إلى عمرو بن دينار وكلاهما ثقة
ومثال العلة في المتن ما نفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس من اللفظ المصرح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم
فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين من غير تعرض لذكر البسملة وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له ففهم من قوله كانوا يستفتحون بالحمد أنهم كانوا

لا يبسملون فرواه على ما فهم وأخطأ لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة وليس فيه تعرض لذكر التسمية
وانضم إلى ذلك أمور منها أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

والله أعلم
ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل ولذلك تجد في كثير من كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح وسمي الترمذي النسخ علة من علل الحديث
ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط حتى قال من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول كما قال بعضهم من الصحيح ما هو صحيح شاذ والله أعلم
قال المحقق الطيبي في الخلاصة في علم الحديث أقول وفي قول ابن الصلاح فعلل قوم هذه الرواية إشارة إلى أنه غير راض عن تخطئتهم مسلما وذلك أن المذكور في المتفق عليه عن أنس قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحد منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وفي
رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها

وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن مغفل قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني محدث إياك والحدث وقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم -

وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع منهم أحدا يقولها فلا تقلها إذا أنت صليت
فقل الحمد لله رب العالمين
فأين العلة ولعل المعل مال إلى مذهبه والإذعان للحق أحق من المراء
وقد تصدى العلامة ابن تيمية لبيان هذه المسألة على الوجه الذي أداه إليه بحثه وذلك حين سأله سائل عن حديث أنس صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم -
وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون
بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها هل هو مضطرب أم لا ما حكم هذا الحديث مختصرا فقال في جوابه
أما حديث أنس فرواه مسلم في صحيحه باللفظ المذكور وروي في الصحيح بألفاظ لا تخلف هذا اللفظ مثل قوله فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
وهذا اللفظ لا ينافي الأول لأن أنسا لم ينف القراءة في السر ولا يمكنه نفي ذلك فإنه قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كانت له سكتة طويلة بين التكبير والقراءة فإذا قرأ في تلك السكتة البسملة
لم يسمعها أنس ولا يمكنه في ذلك فإن أنسا إنما نفى ما يمكنه العلم بانتفائه وهو ذكرها جهرا
وفي الترمذي وغيره أن أنسا سئل هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم فقال إنك لتسألني عن شيء ما سألني عنه أحد
وقال لا أحفظه
وهذا لا ينافي ذلك الأول لأنه سأله عن قراءة ذلك سرا وهو لا يعلم ذلك
فأحاديث أنس الصحيحة كلها مؤتلفة متفقة تبين أنه نفى الجهر بالقراءة وأنه لم يتكلم في قراءتها سرا لا بنفي ولا إثبات وحينئذ فلا اضطراب في أحاديثه

الصحيحة ولكن من العلماء من ظن أن أنسا لم يقل ذلك ولكن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين وأن مقصود أنس كان الإخبار
بالسورة لا بالكلمة وأن الراوي عن أنس ظن أن مقصوده هو الكلمة وأنه رواه بالمعنى فنفى القراءة بالبسملة اجتهادا منه لا سماعا عن انس
لكن من المعلوم أن رواية الثقات الأثبات لا تدفع بمثل هذه الاحتمالات لا سيما وافتتاح الصلاة بالفاتحة من العلم الذي يعلمه كل واحد فكل من صلى أنس خلفه من الخلفاء والأمراء وغيرهم يفتتح الصلاة بالفاتحة وجميع الناس يعلمون ذلك فلم يكن في هذا من العلم ما يحتاج به إلى رواية أنس ولا ينحصر مثل هذا في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم -
وصاحبيه فلو لم يكن إلا تلك الرواية لم يجز تفسيرها بهذا فكيف مع تصريح
الأحاديث الصحيحة عن أنس بمقصوده ومراده
وقد مع محمد بن طاهر المقدسي جزأ في طرق حديث أنس ورواية الثقات الأثبات له بهذا اللفظ عن أنس على وجه يعلم من تدبره أنه محفوظ صحيح كما أخرجه أهل الصحيح وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
حديث صحيح يناقض حديث أنس بل غيره من الأحاديث الصحيحة كحديث عائشة وأبي
هريرة وغيرهما يوافق حديث أنس وما خالفه فإما أن يكون ضعيفا أو يكون محتملا والله أعلم
وقد سئل عن هذه المسألة مرة أخرى فأجاب عنها بجواب مبسوط وهي من المسائل المهمة التي اشتد فيها النزاع بين الفريقين وقد صنف من الجانبين مصنفات كثيرة غير أن منهم من التزم الانتصار للقول الذي ألزم نفسه الأخذ به محاولا جعل الصحيح ذا علة والمعل سالما من العلة
ومنهم من التزم الانتصار لما أداه إليه الدليل وهؤلاء قد أحسنوا وما على المحسنين من سبيل
وقال الحاكم في كتاب علوم الحديث في النوع السابع والعشرين هذا

النوع منه معرفة علل الحديث وهو علم برأسه غيره صحيح والسقيم والجرح والتعديل
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله قال سمعت أبا قدامة السرخسي يقول عبد الرحمن بن مهدي يقول لأن أعرف علة حديث هو عندي أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثا ليست عندي
قال أبو عبد الله وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات بأن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمها فيصير الحديث معلولا والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير
وقال عبد الرحمن بن مهدي معرفة الحديث إلهام فلو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا لم لكن له حجة
وأخبرني أبو علي الحسين بن محمد بن عبدويه بالري قال حدثنا محمد بن صالح الكيليني قال سمعت أبا زرعة وقال له رجل ما الحجة في تعليلكم الحديث
قال الحجة أن تسألني عن حديث له علة فاذكر علته ثم تقصد ابن واره يعني محمد بن مسلم بن واره فتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث فإن وجدت بيننا خلافا في علته فاعلم أن كلا منها تكلم على مراده وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم
قال ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم عليه فقال أشهد أن هذا العلم إلهام
ثم ذكر بعد ذلك من علل الحديث عشرة أجناس وأورد لكل جنس مثالا مع بيان العلة التي فيه وقد أحببت أن أذكر ذلك موردا قبل كل مثال تعريف الجنس الذي أورد ذلك المثال لأجله زيادة في الإيضاح لما في هذا النوع من الغموض وهاك ما أورده

الجنس الأول من أجناس علل الحديث أن يكون السند ظاهره الصحة ولكن فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه
ومثاله ما حدثنا به أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا
إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك
قال أبو عبد الله هذا حديث من تأمله لم يشك أنه شرط الصحيح وله علة فاحشة
حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق قال سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار يقول سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله حدثك محمد بن سلام قال حدثنا مخلد بن يزيد الحراني قال أخبرنها ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في كفارة المجلس فما علته
قال محمد بن إسماعيل هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا

وهيب قال حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله قال محمد بن إسماعيل هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل
والجنس الثاني من علل الحديث أن يسند الحديث من وجه ظاهره الصحة ولكن يكون مرسلا من وجه رواه الثقات الحفاظ
ومثاله ما حدثنا به أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد الدروي قال حدثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان عن خالد الحذاء أو عاصم عن أبي قلابة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أرحم أمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم
أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وإن لك أمة أمينا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة
قال أبو عبد الله وهذا علته من نوع آخر فلو صح بإسناده لأخرج في الصحيح إنما روى خالد عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال أرحم أمتي مرسلا فأسند ووصل إن لكل أمة أمينا وأبو عبيدة أمين هذه
الأمة
هكذا رواه البصريون الحفاظ عن خالد الحذاء وعاصم جميعا فأسقط المرسل من الحديث وخرج المتصل بذكر أبي عبيدة في الصحيحين
والجنس الثالث من علل الحديث أن يكون الحديث محفوظا عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته
ومثاله ما حدثنا به أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير

عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال إني لأستغفر الله وأبو إليه في اليوم مئة مرة
قال أبو عبد الله وهذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شرط الصحيح
والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا
حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى قال حدثنا أبو الربيع قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني قال سمعت أبا بردة يحدث عن الأغر المزني وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مئة مرة
قال أبو عبد الله رواه مسلم بن الحجاج في الصحيح عن أبي الربيع وهو الصحيح المحفوظ ورواه الكوفيون أيضا مسعر وشعبة وغيرهما عن عمرو بن مرة عن أبي بردة هكذا
والجنس الرابع من علل الحديث أن يكون الحديث محفوظا عن صحابي يروى عن تابعي فيقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته عن غيره ممن لا يكون معروفا من جهته
ومثاله ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى القاضي قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا زهير بن محمد عن عثمان بن سليمان عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في المغرب بالطور
قال أبو عبد الله قد خرج العسكري وغيره من المشايخ هذا الحديث في

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5