كتاب : منار السبيل في شرح الدليل
المؤلف : ابن ضويان، إبراهيم بن محمد بن سالم

قال: عندي آخر. قال: "تصدق به عًلى زوجتك" . قال: عندي آخر قال: "تًصدق به عًلى خادمك" ، قال: عندي آخر، قال: "أنت أبصر" رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" فإن وافقه عياله على الإيثار فهو أفضل لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر" رواه أبو داود.
[وكره لمن لا صبر له، أو لا عادة له على الضيق أن ينقص نفسه عن الفكاية التامة] نص عليه، لأنه نوع إضرار به. وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً" وقال صلى الله عليه وسلم، لسعد: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه.
[والمن بالصدقة كبيرة، ويبطل به الثواب] على نص الإمام أحمد: أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة. لقوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الأية2 وحديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" .
ـــــــ
1 الحشر من الآية/9.
2 البقرة من الآية/264.

كتاب الصيام

كتاب الصيامصوم رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه لحديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس" وقد سبق. افترض في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسع رمضانات إجماعاً.
[يجب صوم رمضان بروية هلاله على جميع الناس] لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" متفق عليه وبإكمال شعبان. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً.
[وعلى من حال دونهم، ودون مطلعه غيم، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان، احتياطاً بنية رمضان] لقوله في حديث ابن عمر "فإن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه. يعني ضيقوا له العدة. من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} 2 أي ضيق عليه. وتضيق العدة له: أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً. وكان ابن عمر، إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر، أصبح صائماً وهو راوي الحديث، وعمله به تفسير له. وهو قول عمر وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس ومعاوية، وعائشة وأسماء، ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله
ـــــــ
1 البقرة من الآية/185.
2 الطلاق من الآية/7.

عنهم. وعنه رواية ثانية لا يجب. قال الشيخ تقي الدين: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ولا أصل للوجوب في كلامه، ولا كلام أحد من أصحابه، فعليها يباح صومه، اختاره الشيخ تقي الدين، و ابن القيم في الهدي. وما نقل عن الصحابة إنما يدل على الاستحباب، لا على الوجوب، لعدم أمرهم به. وإنما نقل عنهم الفعل. وقول بعضهم: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان. وعنه رواية ثالثة: الناس تبع الإمام، لقوله صلى الله عليه وسلم "صومكم يوم تصومون، وأضحاكم يوم تضحون" رواه أبو داود.
[ويجزئ إن ظهر منه] أي من رمضان: بأن تثبت رؤيته بموضع آخر، لأن صومه قد وقع بنية رمضان لمستند شرعي أشبه الصوم للرؤية. قال الأ ثرم: قلت لأحمد، فيعتد به ؟ قال: كان ابن عمر يعتد به فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به ويجزئه.
[وتصلى التراويح] احتياطاً للقيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لة ما تقدم من ذنبه" ولا يتحقق قيامه كله إلا بذلك.
[ولا تثبت بقية الأحكام: كوقوع الطلاق، والعتق، وحلول الأجل] المعلق بدخوله، عملاً بالأصل. خولف في الصوم احتياطاً للعبادة.
[وتثبت رؤية هلاله بخبر مسلم مكلف عدل ولو عبداً أو أنثى] نص عليه وفاقاً للشافعي، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء، قاله في الفروع، لحديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت الهلال. قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً

عبده ورسوله" ؟ قال: نعم. قال يا بلال: "أذن في الناس فليصوموا غداً" رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود. وتثبت بقية الأحكام تبعاً للصيام.
[ولا يقبل في بقية الشهور إلا رجلان عدلان] لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فيه: "فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا، وأفطروا" رواه أحمد والنسائي، ولم يقل مسلمان، وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، لم يفطروا، لقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته..." الحديث.

فصل في شروط وجوب الصوم
[وشرط وجوب الصوم أربعة أشياء: الإسلام، والبلوغ، والعقل] فلا يجب على كافر ولا صغير ولا مجنون، لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة" .
[والقدرة عليه. فمن عجز عنه لكبر، أو مرض لايرجى زواله أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً مدبر، أو نصف صاع من غيره] لقول ابن عباس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 1 ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم رواه البخاري، "والحامل، والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا، وأطعمتا" رواه أبو داود.
[وشروط صحته ستة: الإسلام] فلا يصح من كافر.
[وانقطاع دم الحيض، والنفاس] لما تقدم في بابه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184.

[الرابع: التمييز، فيجب على ولي المميز المطيق للصوم أمره به، وضربه، عليه ليعتاده] قياساً على الصلاة.
[الخامس: العقل] لأن الصوم، الإمساك مع النية لحديث: "يدع طعامه وشرابه من أجلي" فأضاف الترك إليه، وهو لا يضاف إلى المجنون، والمغمى عليه.
[لكن لو نوى ليلاً ثم جن، أو أغمي عليه جميع النهار، فأفاق منه قليلاً] صح صومه لوجود الإمساك فيه. قال في الشرح: ولا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمى عليه - أي جميع النهار - لأنه مكلف، بخلاف المجنون. ومن نام جميع النهار صح صومه، لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية.
[السادس: النية من الليل لكل يوم واجب] لحديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" رواه أبو داود.
[فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى] لأن النية محلها القلب.
[وكذا الأكل، والشرب بنية الصوم] قال الشيخ تقي الدين: هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد، وعشاء ليالي رمضان.
[ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم] لأن الله تعالى أباح الأكل إلى آخر الليل، فلو بطلت به فات محلها.
[أو قال إن شاء الله غير متردد] كما لا يفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله.

[وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فمفطر] فبان من رمضان أجزاءه، لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله: وهو بقاء الشهر.
[ويضر إن قاله في أوله] لعدم جزمه بالنية.
[وفرضه الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس] لقوله تعالى: {... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...} 1
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الافق" حديث حسن. وعن عمر مرفوعاً: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النًهار من ها هنا، وغربت الشمس، أفطر الصائم" متفق عليه.
[وسننه ستة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور] لحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر" رواه أحمد.
[والزيادة في أعمال الخير] من القراءة والذكر والصدقة وغيرها.
[وقوله جهراً إذا شتم: إني صائم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شاتمه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم" متفق عليه. وقال المجد: إن كان في غير رمضان أسره مخافة الرياء. واختار الشيخ تقي الدين الجهر مطلقاً، لأن القول المطلق باللسان.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/187.

[وقوله عند فطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك. اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم] لحديث ابن العباس، وأنس كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أفطر قال: "اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك أنت السميع العليم" وعن ابن عمر مرفوعاً: كان إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، ووجب الأجر إن شاء الله" رواهن الدارقطني وفي الخبر: "إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد" .
[وفطره على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء] لحديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب.

فصل: يحرم على من لاعذر له الفطر
فصل يحرم على من لا عذر له الفطر
[ويحرم على من لا عذر له الفطر برمضان] لأنه ترك فريضة من غير عذر، وعليه إمساك بقية يومه الذي أفطر فيه، لأنه أمر به جميع النهار، فمخالفته في بعضه لا يبيح المخالفة في الباقي، وعليه القضاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن استقاء فليقض" .
[ويجب الفطر على الحائض والنفساء] للحديث الصحيح: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟" .
[وعلى من يحتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة] كغرق ونحوه، لأنه يمكنه تدارك الصوم بالقضاء، بخلاف الغريق ونحوه.
[ويسن لمسافر يباح له القصر] لحديث "ليس من البر الصيام في

السفر" متفق عليه. ورواه النسائي، وزاد: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها" . وإن صام أجزأه نص عليه، لحديث: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم والنسائي، وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ قال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" متفق عليه.
[ولمريض يخاف الضرر] لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية1.
[ويباح لحاضر سافر في أثناء النهار] لحديث أبي بصرة الغفاري أنه ركب سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع، ثم قرب غداءه، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، ثم قال: اقترب، قيل: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأكل رواه أبو داود. وحديث أنس حسنه الترمذي. إذا فارق بيوت قريته العامرة لما تقدم، ولأنه قبله لا يسمى مسافراً. والأفضل عدم الفطر تغليباً لحكم الحضر، وخروجاً من الخلاف.
[ولحامل، ومرضع خافتا على أنفسهما] فيفطران ويقضيان لا غير. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً.
[أو على الولد. لكن لو أفطرتا خوفاً على الولد فقط، لزم وليه إطعام مسكين لكل يوم] لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 1 . قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184 وقد سبق ذكرها.

الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكيناً والحبلى والمرضع، إذا خافتا على أولادهما أفطرتا، وأطعمتا رواه أبو داود. ويجب عليهما القضاء، لأنهما يطيقانه. قال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة، ولا أقول بقول ابن عمر، وابن عباس في منع القضاء ذكره في الشرح.
[وإن أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو برئ المريض، أو قدم المسافر، أو بلغ الصغير، أو عقل المجنون في أثناء النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساك والقضاء] لذلك اليوم، لأنهم لم يصوموه، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت، ولزوال المبيح للفطر.
[وليس لمن جاز له الفطر برمضان أن يصوم غيره فيه] أي في رمضان لأنه لا يسع غير ما فرض فيه، ولا يصلح لسواه.

فصل في المفطرات
[ وهي اثنا عشر: 1 - خروج دم الحيض، والنفاس] لما سبق.
[2- الموت] لحديث "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"
[3- الردة] لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...} الآية 1.
[4- العزم على الفطر] نص عليه. قال في الفروع: وفاقاً للشافعي، ومالك، لقطعه النية المشترطة في جميعه في الفرض. قال في الكافي: فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية، فيفسد الكل لفساد الشرط.
[5- التردد فيه] لأنه لم يجزم بالنية. ونقل الأ ثرم: لا يجزئه
ـــــــ
1 الزمر من الآية/65.

من الواجب حتى يكون عازماً على الصوم يومه كله. قاله في الفروع.
[6- القيء عمداً] قال ابن المنذر: أجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامداً، ولحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض" رواه أبو داود، والترمذي.
[7- الإحتقان من الدبر] نص عليه.
[8- بلع النخامة إذا وصلت إلى الفم] لعدم المشقة بالتحرز منها، بخلاف البصاق، ولأنها من غير الفم أشبه بالقيء. وعنه: لا تفطر لأنها معتادة في الفم أشبه بالريق. قاله في الكافي.
[9 - الحجامة خاصة، حاجماً كان أو محجوماً] نص عليه. وهو قول علي وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، رضي الله عنهم، وبه قال إسحاق، و ابن المنذر، وابن خزيمة، قاله في الشرح لحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحد عشر نفساً قال أحمد: حديث ثوبان وشداد صحيحان. وقال نحوه علي بن المديني. وحديث ابن عباس - أن النبي صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو صائم رواه البخاري - منسوخ، لأن ابن عباس راويه كان يعد الحجام والمحاجم قبل مغيب الشمس، فاذا غابت احتجم كذلك رواه الجوزجاني.
[10- إنزال المني بتكرار النظر] لأنه إنزال عن فعل في الصوم يتلذذ به، أمكن التحرز عنه، أشبه الإنزال باللمس. قاله في الكافي.
[ لا بنظرة ولا بالتفكر] لأنه لا يمكن التحرز منه. قاله في الكافي.
[ الاحتلام] لأنه ليس بسبب من جهته ولا باختياره، فلا يفسد الصوم بلا نزاع.

[ ولا بالمذي] أي لايفسد الصوم بالمذي من تكرار النظر لأنه ليس بمباشرة.
[11- خروج المني أوالمذي بتقبيل أو لمس أواستمناء أو مباشرة دون الفرج] لأنه إنزال عن مباشرة، أشبه الجماع وأما المذي، فلتخلل الشهوة له وخروجه بالمباشرة، أشبه المني، وحجة ذلك إيماء حديث عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه.1 رواه الجماعة إلا النسائي.
[12 - كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ، من مائع وغيره فيفطر إن قطر في أذنه ما وصل إلى دماغه، أو داوى الجائفة، فوصل إلى جوفه، أو اكتحل بما علم وصوله إلى حلقه] 2 لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة "وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يدخل إلى خياشيمه أو دماغه، وقيس عليه ما وصل إلى جوفه أو دماغه. وروى أبو داود، والبخاري في تاريخه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم وإن شك في وصوله إلى حلقه لكونه يسيراً، ولم يجد طعمه لم يفطر. نص عليه.
[ أو مضغ علكاً، أو ذاق طعاماً ووجد الطعم بحلقه] فإن لم يجده بحلقه لم يضره، لقول ابن عباس: لا بأس أن يذوق الخل الشئ يريد
ـــــــ
1 قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء، يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان. أحدهما: أنه الحاجة، والثاني: أرادت به العضو، وعنت به الذكر خاصة.
2 الجائفة: الطعنة التي تنفذ إلى الجوف، وهو هنا البطن والدماغ.

شراءه. حكاه عنه أحمد، والبخاري، وكان الحسن يمضغ الجوز لابن ابنه، وهو صائم. ونقل عن أحمد كراهة مضغ العلك. ورخصت فيه عائًشة، رضي الله عنها. قاله في الشرح.
[ أو بلع ريقه بعد أن وصل إلى ما بين شفتيه] أو بلع ريق غيره أفطر، لأنه بلعه من غير فمه، أشبه ما لو بلع ماء. قاله في الكافي.
[ ولا يفطر إن فعل شيئاً من المفطرات ناسياً أو مكرهاً] نص عليه. وبه قال علي، وابن عمر، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه الجماعة إلا النسائي. فنص على الأكل والشرب. وقسنا الباقي، وقيس المكروه على من ذرعه القيء. قال معناه في الكافي.
[ ولا إن دخل الغبار حلقه، أو الذباب بغير قصده ولا إن جمع ريقه فابتلعه] لأنه لم يمكن التحرز منه. ولا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال في الشرح: لا يفسد صومه، لا نعلم فيه خلافاً.

فصل: في من جامع نهار رمضان
فصل في من جامع في نهار رمضان
[ ومن جامع نهار رمضان في قبل أو دبر، ولو لميت أو بهيمة، في حالة يلزمه فيها الإمساك، مكرهاً كان أو ناسياً لزمه القضاء والكفارة] لحديث أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبةً تعتقها؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال: لا، فسكت، فبينا نحن على ذلك، أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بعرق تمر، فقال: "أين السائل؟ خذ

هذا تصدق به" ، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟! فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك" . متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم، للمجامع "صم يوماً مكانه" رواه أبو داود. ويلزمان المكره والناسي، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يستفصل المواقع عن حاله.
[ وكذا من جومع، إن طاوع] في وجوب القضاء والكفارة، لهتك صوم رمضان بالجماع طوعاً، فأشبهت الرجل، ولأن تمكينها منه كفعل الرجل في حد الزنى، وهو يدرأ بالشبهة، ففي الكفارة أولى، وعنه لا تلزمها لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يأمر امرأة المواقع بكفارة.
[ غير جاهل وناس] فلا كفارة عليها، رواية واحدة. قاله في الكافي لحديث "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" رواه النسائي.
[ والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه، بخلاف غيرها من الكفارات] للحديث السابق.
[ ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة] من مجبوب أو امرأة قياساً على الجماع، لفساد الصوم، وهتك حرمة رمضان.

فصل في القضاء
[ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه] لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184.

[ ويسن القضاء على الفور] متتابعاً نص عليه. قال في الشرح: ولا نعلم في استحباب التتابع خلافاً، وحكي وجوبه عن الشعبي والنخعي انتهى. ولا بأس أن يفرق، قاله البخاري عن ابن عباس. وعن ابن عمر مرفوعاً: "قضاء رمضان، إن شاء فرق وإن شاء تابع" رواه الدارقطني.
[ إلا إذا بقي من شعبان بقدر ماعليه، فيجب] التتابع لضيق الوقت لقول عائشة: "لقد كان يكون علي الصيام من رمضان، فما أقضيه حتى يجئ شعبان" متفق عليه. فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضان آخر فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم. يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة، ولم يرو عن غيرهم خلافهم. قاله في الشرح.
[ ولا يصح ابتداء تطوع من عليه قضاء رمضان] نص عليه.
[ فإن نوى صوماً واجباً، أو قضاء ثم قلبه نفلاً صح] كالصلاة.
[ ويسن صوم التطوع، وأفضله يوم ويوم] لحديث عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود. كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً" متفق عليه.
[ ويسن صوم أيام البيض: وهي ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر] لقول أبي هريرة أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، بثلاث: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" متفق عليه. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" حسنه الترمذي.

[ وصوم الخميس والإثنين] لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يصومهما فسئل عن ذلك، فقال: "إن الأعمال تعرض يوم الإثنين والخميس" رواه أبو داود، وفي لفظ: "وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" .
[ وستة من شوال] لحديث أبي أيوب مرفوعاً: " من صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر" رواه مسلم وأبو داود. قال أحمد: هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ وسن صوم المحرم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه مسلم.
[ وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة] لحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في صيام يوم عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده" رواه مسلم.
[ وصوم عشر ذي الحجة] لحديث ابن عباس مرفوعاً: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله، من هذه الأيام العشر" رواه البخاري. وعن حفصة قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاث أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة رواه أحمد والنسائي.
[ وآكدها يوم عرفة، وهو كفارة سنتين] لحديث أبي قتادة مرفوعاً: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلةً، وصوم عاشوراء يكفر سنةً ماضيةً" رواه الجماعة، إلا البخاري والترمذي. ويليه في الآكدية يوم التروية: وهو ثامن ذي الحجة، لحديث: "صوم يوم التروية كفارة سنة" الحديث، رواه أبو الشيخ في الثواب وابن النجار عن ابن عباس مرفوعاً.

[وكره إفراد رجب] بالصوم، لما روى أحمد عن خرشة بن الحر، قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس، وما يعدونه لرجب، كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا.
[والجمعة والسبت بالصوم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده" متفق عليه. وحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" حسنه الترمذي. واختار الشيخ تقي الدين: أنه لايكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أو منسوخ.
[وكره صوم يوم الشك] تطوعاً لقول عمار من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي.
[وهو الثلاثون من شعبان إذا لم يكن غيم أو قتر] عند أصحابنا.
[ويحرم صوم العيدين] إجماعاً لحديث أبي هريرة مرفوعاً: نهي عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى متفق عليه.
[وأيام التشريق] لحديث: "وأيام منىً أيام أكل وشرب" رواه مسلم مختصراً، إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي، لحديث ابن عمر وعائشة لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن، إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري.
[ومن دخل في تطوع لم يجب إتمامه] لحديث عائشة قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية، أوجاءنا رزق، وقد خبأت لك شيئاً، قال: "ما هو؟" قلت: حيس، قال: "هاتيه" ، فجئت به فأكل، ثم قال: "قد

كنت أصبحت صائماً" 1 رواه مسلم. وكره خروجه منه بلا عذر خروجاً من الخلاف، ولقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 2
[وفي فرض يجب] إتمامه. ولا يجوز له الخروج بلا خلاف. قاله في الشرح، لأنه يتعين بدخوله فيه، فصار كالمتعين، والخروج من عهدة الواجد متعين، وإنما دخلت التوسعة في وقته رفقاً، فإن بطل فعليه إعادته.
[مالم يقلبه نفلاً] فيثبت له حكم النفل.
ـــــــ
1 الحيس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن.
2 محمد من الآية/33.

كتاب الإعتكاف

كتاب الاعتكاف
وهو: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى. وهو سنة. قال في الشرح: لا نعلم خلافاً في استحبابه، لحديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه.
[ويجب بالنذر] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإعتكاف لا يجب على الناس فرضاً، إلا أن يوجب المرء على نفسه الإعتكاف نذراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري.
[وشرط صحته ستة أشياء: النية، والإسلام، والعقل والتمييز] كسائر العبادات.
[وعدم ما يوجب الغسل] لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وقد سبق.
[وكونه بمسجد] لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
[ويزاد في حق من تلزمه الجماعة أن يكون المسجد مما تقام فيه الجماعة] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً، لأنها واجبة عليه، فلا يجوز تركها، ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه، لأنه مناف للاعتكاف.
[ومن المسجد ما زيد فيه] حتى في الثواب في المسجد الحرام،
ـــــــ
"1" البقرة من الأية/187.

لعموم الخبر. وعند الشيخ تقي الدين وابن رجب، وطائفة من السلف: ومسجد المدينة أيضاً. فزيادته كهو في المضاعفة. وخالف فيه ابن عقيل وابن الجوزي، وقال ابن مفلح في الآداب الكبرى: هذه المضاعفة تختص بالمسجد غير الزيادة على ظاهر الخبر، يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدى هذا..." .
[ومنه سطحه] لعموم قوله في المساجد.
[ورحبته المحوطة] قال القاضي: إن كان عليها حائط وباب، كرحبة جامع المهدي بالرصافة، فهي كالمسجد لأنها معه وتابعة له، وإن لم تكن محوطة، كرحبة جامع المنصور، لم يثبت لها حكم المسجد1 .
[ومنارتها التي هي أو بابها فيه] لأنها في حكمه وتابعة له.
[ومن عين الاعتكاف بمسجد غير الثلاثة لم يتعين] ولو بلا شد رحل، لأن الله لم يعين لعبادته مكاناً كمن نذر صلاة بغير المساجد الثلاثة. لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" متفق عليه. ولو تعين غيرها بالتعيين لزم المضي إليه، واحتاج إلى شد رحل لقضاء نذره، ولأن الله تعالى لم يعين لعبادته مكاناً في غير الحج. وأفضل المساجد المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا
ـــــــ
"1" الرصافة: هي الجانب الشرقي من بغداد، والمهدي هو محمد بن عبد الله الخليفة العباسي الثالث المتوفى سنة 169، والمنصور: هو عبد الله بن محمد الخليفة العباسي الثاني المتوفى سنة 158.

المسجد الحرام" رواه الجماعة إلا أبا داود. وفي رواية فإنه أفضل فمن نذر اعتكافاً أو صلاة في أحدها لم يجزئه في غيره إلا أن يكون أفضل منه، فمن نذر في المسجد الحرام لم يجزئه غيره، ومن نذر في مسجد المدينة أجزأه فيه وفي المسجد الحرام، ومن نذر في الأقصى أجزأه في الثلاثة، لحديث جابر أن رجلاً قال يوم الفتح: يارسول الله، إني نذرت: إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: "صل ها هنا" ، فسأله، فقال: "صل ها هنا" ، فسأله، فقال: "شأنك إذاً" رواه أحمد وأبو داود.
[ويبطل الإعتكاف بالخروج من المسجد لغير عذر] لقول عائشة: السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد له منه رواه أبو داود. وحديث. "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" متفق عليه.
[وبنية الخروج، ولو لم يخرج] لحديث "إنما الأعمال بالنيات"
[وبالوطء في الفرج] لقوله تعالى: {...وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ...} فإذا حرم الوطء في العبادة أفسدها، كالصوم والحج، بطل اعتكافه واستأنف الاعتكاف.
[وبالإنزال بالمباشرة دون الفرج] لعموم الآية.
[وبالردة] لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
[وبالسكر] لخروج السكران عن كونه من أهل المسجد.
ـــــــ
"1"البقرة من الآية/187.
"2"الزمر من الآية/65.

[وحيث بطل الإعتكاف وجب استئناف النذر المتتابع غير المقيد بزمن ولا كفارة] لأنه أمكنه الإتيان بالمنذور على صفته فلزمه، كحالة الابتداء.
[وإن كان مقيداً بزمن معين استأنفه، وعليه كفارة يمين لفوات المحل. ولا يبطل الإعتكاف إن خرج من المسجد لبول أو غائط أو طهارة واجبة] لما تقدم.
[أو لإزالة نجاسة، أو لجمعة تلزمه] ولا قضاء لزمنه، ولا كفارة لأن ذلك كالمستثنى لكونه معتاداً.
[ولا إن خرج للإتيان بمأكل أو مشرب، لعدم خادم] لأنه لا بد له منه. فيدخل في عموم حديث عائشة: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان متفق عليه. [وله المشي على عادته] من غير عجلة، لأن ذلك يشق عليه. ويجوز أن يسأل عن المريض وغيره في طريقه، ولا يعرج إليه ولا يقف، لقول عائشة: إن كنت لأدخل البيت للحاجة، والمريض فيه، فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة متفق عليه.
[وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الإعتكاف مدة لبثه فيه لا سيما إن كان صائماً] ذكره ابن الجوزي في المنهاج، ولم يره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى.

كتاب الحج


كتاب الحجوهو من أركان الإسلام وفروضه لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1 ولحديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس..." الحديث، وقد سبق.
[وهو واجب مع العمرة في العمر مرة] 2 لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 3 وعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم" . ثم قال: "ذروني ما تركتكم" رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن عائشة أنها قالت يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج و العمرة" . رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح. ولمسلم عن ابن عباس: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وعن
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/97.
2 وفي هامش الأصل:
الحج زمن مخصوص والعمرة ليس لها وقت مخصوص بل إنها تجزئ في سائر السنة. ووجوب الحج بإجماع، وأم العمرة، فالمقدم وجوبها للعموم. وقيل هي سنة، لكن إذا شرع فيها وجب إتمامها. انتهى.
3 البقرة من الآية/196.

الصبي بن معبد قال أتيت عمر، رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، فقال: هديت لسنة نبيك رواه النسائي.
[وشرط الوجوب خمسة أشياء 1 - الإسلام 2 - العقل 3 -البلوغ] لحديث: "رفع القلم عن ثلاثةً" .
[4 - كمال الحرية] لأن العبد غير مستطيع.
[لكن يصحان من الصغير والرقيق، ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته] حكاه الترمذي إجماعاً لحديث ابن عباس أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال "نعم ولك أجر" رواه مسلم. وعنه أيضاً مرفوعاً: "أيما صبي حج، ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى" رواه الشافعي، والطيالسي في مسنديهما.
[فإن بلغ الصغير أو عتق الرقيق قبل الوقوف أو بعده: إن عاد فوقف في وقته أجزأه عن حجة الإسلام] لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال. قال الإمام أحمد: قال ابن عباس: إذا أعتق العبد بعرفة أجزأه حجه فإن عتق بجمع لم يجز عنه.
[ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً وسعى بعد طواف القدوم] لأن السعي لا تشرع مجاوزة عدده ولا تكراره، بخلاف الوقوف، فاستدامته مشروعة، ولا قدر له محدود.
[وكذا تجزئ العمرة إن بلغ أو عتق قبل طوافها] ثم طاف وسعى لها فتجزئه عن عمرة الإسلام.

[5- الإستطاعة: وهي ملك زاد وراحلة تصلح لمثله] قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم وعن أنس، رضي الله عنه، في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1 قال: قيل يا رسول الله، ما السبيل قال: "الزاد والراحلة" رواه الدارقطني. وعن ابن عباس نحوه. رواه ابن ماجه. وقال عكرمة: الإستطاعة: الصحة. وقال الضحاك: إن كان شاباً فليؤاجر نفسه بأكله وعقبته.
[أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك] من النقدين أو العروض.
[بشرط كونه فاضلاً عما يحتاجه من كتب ومسكن وخادم] لأن هذه حوائج أصلية.
[وأن يكون فاضلاً عن مؤنته، ومؤنة عياله على الدوام] لأنها نفقات شرعية تجب عليه، يتعلق بها حق آدمي فقدمت، لحديث "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" وقال في الروضة و الكافي. إلى أن يعود فقط، وقدمه في الرعاية. قاله في الفروع.
[فمن كملت له هذه الشروط لزمه السعي فوراً] نص عليه. فيأثم إن أخره بلا عذر، بناء على أن الأمر للفور، ولحديث ابن عباس مرفوعاً: "تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" رواه أحمد. وأما تأخيره، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه فيحتمل أنه لعذر، كخوفه على المدينة من المنافقين واليهود وغيرهم، أو نحوه.
[إن كان في الطريق أمن] لأن إيجاب الحج مع عدم ذلك ضرر،
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/97.

وهو منفي شرعاً ولو بحراً، لحديث: "لا تركب البحر إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً في سًبيل الله" رواه أبو داود وسعيد.
[فإن عجز عن السعي لعذر ككبر، أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم نائباً حراً ولو امرأة يحج ويعتمر عنه] لحديث ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يارسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فأحج عنه؟ قال: "حجي عنه" متفق عليه. فعلم منه جواز نيابة المرأة عن الرجل. قال في الشرح: لا نعلم فيه مخالفاً، فعكسه أولى.
[من بلده] أي العاجز لأنه وجب عليه كذلك.
[ويجزئه ذلك، ما لم يزل العذر قبل إحرام نائبه] لقدرته على البدل قبل الشروع في المبدل.
[فلو مات] من لزمه حج أو عمرة بأصل الشرع، أو بإيجابه على نفسه.
[قبل أن يستنيب، وجب أن يدفع من تركته لمن يحج ويعتمر عنه] من حيث وجب. نص عليه، لأن القضاء يكون بصفة الأداء ولو لم يوص بذلك، لحديث ابن عباس أن امرأة قالت: يارسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عنها. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" رواه البخاري.
[ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه حج عن غيره] فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم،

سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: "حججت عن نفسك" ؟ قال: لا. قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" رواه أحمد واحتج به، وأبو داود وابن حبان والطبراني، قال البيهقي: إسناده صحيح، وفي لفظ للدارقطني "هذه عنك، وحج عن شبرمة".
[وتزيد المرأة شرطاً سادساً، وهو أن تجد لها زوجاً أو محرماً] قال أحمد: المحرم من السبيل، لحديث ابن عباس: "لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" رواه أحمد بإسناد صحيح.
[مكلفاً] فلا محرمية لصغير ومجنون، لعدم حصول المقصود.
[وتقدر على أجرته وعلى الزاد والراحلة لها وله] لأنه من سبيلها.
[فإن حجت بلا محرم، حرم] سفرها بدونه لما تقدم.
[وأجزأها] حجها كمن حج وترك حقاً يلزمه من نحو دين، وإن مات المحرم في الطريق مضت في حجها.

باب الإحرام

باب الإحرام[وهو واجب من الميقات] لأنه صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه أنه تجاوز ميقاتاً بلا إحرام. فميقات أهل المدينة: ذو الحليفة بينها وبين المدينة سبعة أميال أو ستة، وهي أبعد المواقيت من مكة، بينها وبين مكة عشرة أيام، وميقات أهل الشام ومصر: الجحفة، قرية خربة قرب رابغ بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست. ومن أحرم من رابغ فقد أحرم قبل الميقات بيسير، وميقات أهل اليمن: يلملم - بينه وبين مكة ليلتان - وميقات أهل نجد قرن على يوم وليلة من مكة وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها.
[ومن منزله دون الميقات فميقاته منزله] لحديث ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك، فمهله من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها. متفق عليه. ومن لم يمر بميقات، أحرم إذا حاذى أقربها منه، لقول عمر انظروا حذوها من قديد - وفي لفظ - من طريقكم 1
ـــــــ
1 كذا في الأصل. ولم نجد لفظة "من قديد" في البخاري ورواية البخاري قال عمر: "فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق" وفي النهاية: قديد – مصغراً – موضع بين مكة والمدينة.

رواه البخاري. ومن لم يحاذ ميقاتاً أحرم عن مكة بقدر مرحلتين، لأنه أقل المواقيت. قال في الشرح: أجمعوا على هذه الأربعة، واتفق أهل النقل على صحة الحديث فيها. وذات عرق: ميقات أهل المشرق، في قول الأكثر. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات. وفي صحيح مسلم. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل العراق ذات عرق وعن عائشة مرفوعاً نحوه. رواه أبو داود والنسائي. ووقت عمر أيضاً لأهل العراق ذات عرق رواه البخاري. وذات عرق: قرية خربة قديمة، من علاماتها المقابر القديمة وعرق: هو المشرف على الجبل من العقيق إقناع. وعن أنس أنه كان يحرم من العقيق وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل المشرق العقيق1 حسنه الترمذي. وقال ابن عبد البر: هو أحوط من ذات عرق2.
[ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون والإغماء والسكر] لعدم وجود النية منهم.
[وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة] لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...} الآية3.
[لكن يفسد بالوطء في الفرج في التحلل الأول] قال ابن المنذر:
ـــــــ
1 العقيق: كل موضع شققته من الأرض فهو عقيق، والجمع: أعقة وعقائق. وفي بلاد العرب مواضع كثيرة تسمى العقيق. والمذكور غير الوادي المعروف بالمدينة.
2 لأنه قبلها بمرحلة أو مرحلتين، كما في النهاية.
3 الزمر من الآية/65.

أجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شئ في حال الإحرام إلا الجماع، والأصل فيه ماروي عن ابن عمر وابن عباس، ولم يعرف لهما مخالف.
[ولا يبطل، بل يلزمه إتمامه والقضاء] روي عن ابن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1 ويقضي من قابل. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً.
[ويخير من أراد الإحرام بين أن ينوي التمتع وهو أفضل] روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. قال الإمام أحمد: وهو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم.
[أو ينوي الإفراد أو القران] قال في الشرح: ولا خلاف في جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، وقد دل عليه قول عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، ومنا من أهل بهما.
[والتمتع: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم بعد فراغه منها يحرم بالحج] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة من أهل الآفاق في أشهر الحج من الميقات، وقدم مكة، ففرغ وأقام بها، وحج من عامه أنه متمتع، وعليه الهدي إن وجد وإلا فالصيام.
[والإفراد: هو أن يحرم بالحج، ثم بعد فراغه منه يحرم بالعمرة. والقران: هو أن يحرم بالعمرة، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها] لحديث جابر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: "حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية، فأهلوا بالحج، واجعلوا الذي قدمتم بها متعة" . فقالوا: كيف تجعلها
ـــــــ
1 البقرة الآية/196.

متعة وقد سمينا الحج؟ فقال "افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل ما أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغً الهدي محله" متفق عليه.
[فإن أحرم به، ثم بها لم يصح] ولم يصر قارناً، وهو قول علي، رضي الله عنه. رواه الأثرم، لأنه لم يرد به أثر، ولم يستفد به فائدة، بخلاف ما سبق، ويبقى على إحرامه بالحج.
[ومن أحرم وأطلق صح، وصرفه لما شاء، وما عمل قبل فلغو] لقول طاووس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة لا يسمي حجاً ينتظر القضاء، فنزل عليه بين الصفا والمروة... الخ.
وكذا من أحرم بمثل ما أحرم به فلان، لحديث أنس قال قدم علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اليمن، فقال: "بم أهللت يا على" ؟ قال: أهللت بإهلال كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لولا أن معي الهدي لأحللت متفق عليه.
[لكن السنة لمن أراد نسكاً أن يعينه] لقول عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج متفق عليه.
[وأن يشترط فيقول: اللهم إنى أريد النسك الفلاني فيسره لي، وتقبله مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني] لما روى النسائي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: "بم أهللت؟" قال: قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل على ضباعة بنت الزبير فقال لها: "لعلك أردت الحج؟" قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال لها: "حجي، واشترطي وقولي: اللهم إن محلي حيث حبستني" متفق

عليه. وللنسائي في حديث ابن عباس: "فإن لك على ربك ما استثنيت" وفي حديث عكرمة: "فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك بشرطك على ربك" رواه أحمد.

باب محظورات الإحرام

باب محظورات الإحرام[وهي سبعة أشياء أحدهما: تعمد لبس المخيط على الرجل حتى الخفين] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل ما يلبس المحرم؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" متفق عليه. ونص على هذه الأشياء، وألحق بها أهل العلم ما في معناها مثل: الجبة والدراعة والتبان وأشباه ذلك. قاله في الشرح. وعنه: لا يقطع الخفين، لحديث ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب بعرفات: "من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" متفق عليه. قيل: هذا ناسخ لحديث ابن عمر السابق، لأن هذا بعرفات. قاله الدارقطني. وحديث ابن عمر بالمدينة، لرواية أحمد عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المنبر وذكره وأجيب عن قولهم: حديث ابن عمر فيه زيادة لفظ، بأن حديث ابن عباس وجابر فيهما زيادة حكم: وهو جواز اللبس بلا قطع.
[الثاني: تعمد تغطية الرأس من الرجل ولو بطين، أو استظلال بمحمل] لنهيه صلى الله عليه وسلم، المحرم عن لبس العمائم والبرانس وقوله في المحرم الذي وقصته ناقته1 "ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة
ـــــــ
1 الوقص: كسر العنق.

ملبياً" متفق عليهما. وكره أحمد الاستظلال بالمحمل، وما في معناه، لقول ابن عمر: اضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس. وعنه: له ذلك، أشبه الخيمة، وفي حديث جابر: أمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها رواه مسلم. وإن طرح على شجرة ثوباً يستظل به فلا بأس إجماعاً. قاله في الشرح. وله أن يتظلل بثوب على عود لقول أم الحصين: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم. ويباح له تغطية وجهه. روي عن عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير، ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم. وبه قال الشافعي. وعنه: لا، لأن في بعض ألفاظ حديث صاحب الراحلة: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه" ويغسل رأسه بالماء بلا تسريح. روي عن عمر وابنه وعلي وجابر وغيرهم. لأنه صلى الله عليه وسلم، غسل رأسه وهو محرم، وحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر متفق عليه. واغتسل عمر وقال: لا يزيد الماء الشعر إلا شعثاً رواه مالك والشافعي. وعن ابن عباس قال لي عمر، ونحن محرمون بالجحفة: تعال أباقيك أينا أطول نفساً في الماء رواه سعيد. وإن حمل على رأسه طبقاً، أو وضع يده عليه فلا بأس، لأنه لا يقصد به الستر. قاله في الكافي.
[وتغطية الوجه من الأنثى، لكن تسدل على وجهها لحاجة] لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" رواه أحمد والبخاري. قال في الشرح: فيحرم تغطيته. لا نعلم فيه خلافاً. إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه فيحمل على السدل،

فلا يكون فيه اختلاف، فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريباً منها سدلت الثوب من فوق رأسها. لا نعلم فيه خلافاً. انتهى. لحديث عائشة: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه رواه أبو داود والأثرم. ولا يضر لمس المسدول وجهها، خلافاً للقاضي.
[الثالث: قصد شم الطيب] لقوله في الذي وقصته راحلته "ولا تمسوه بطيب" قال في الشرح: أجمعوا على أنه ممنوع من الطيب، ولا يجوز له لبس ثوب مطيب. لا نعلم فيه خلافاً، لقوله: "ولايلبس ثوباً مسه ورس ولا زعفران" متفق عليه.
[ومس ما يعلق] لأنه تطييب ليده.
[واستعماله في أكل وشرب بحيث يظهر طعمه أو ريحه] وكان مالك لا يرى بما مست النار من الطعام بأساً وإن بقيت رائحته وطعمه. ولو شم الفواكه كلها، وكذا نبات الصحراء، كشيح وقيصوم وخزامى، وكذا ما ينبته الآدمي لغير قصد الطيب، كحناء وعصفر وقرنفل ودار صيني. قاله في الإقناع.
[فمن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه] لقوله صلى الله عليه وسلم "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" .
[ومتى زال عذره أزاله في الحال وإلا فدى] لاستدامته المحظور من غير عذر.

[الرابع: إزالة الشعر من البدن ولو من الأنف] لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...} 1 الآية نص على حلق الرأس، وقسنا عليه سائر شعر البدن.
[وتقليم الأظافر] قال في الشرح: أجمعوا على أنه ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر، وأجمعوا على أنه يزيل ظفره إذا انكسر.
[الخامس: قتل صيد البر الوحشي المأكول] إجماعا لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ...} الآية2وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية3.
[والدلالة عليه، والإعانة على قتله] لأنه إعانة على المحرم، لحديث أبي قتادة أنه كان مع أصحاب له محرمين، وهو لم يحرم فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يوذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. فقالوا: والله لا نعينك عليه وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "هل أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها" ؟ قالوا: لا قال: "فكلوا ما بقي من لحمها" . متفق عليه.
[وإفساد بيضه] لقول ابن عباس: في بيض النعام قيمته وعن أبي هريرة مرفوعاً: "في بيض النعام ثمنه" رواه ابن ماجه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/196.
2 المائدة من الآية/99.
3 المائدة من الآية/98.

[وقتل الجراد] لأنه بري يشاهد طيرانه في البر، ويهلكه الماء إذا وقع فيه. وحديث أبي هريرة مرفوعاً: "إنه من صيد البحر" وهم قاله أبو داود. وعنه هو من صيد البحر لا جزاء فيه قال ابن المنذر: قال ابن عباس: هو من صيد البحر وقال عروة: هو من نثرة الحوت.
[والقمل] لأنه يترفه بإزالته ولو أبيح لم يتركه كعب بن عجرة. وعنه: يباح قتله، لأنه من أكثر الهوام أذى. حكي عن ابن عمر قال: هي أهون مقتول وعن ابن عباس فيمن ألقاها ثم طلبها تلك ضالة لا تبتغى.
[لا البراغيث، بل يسن قتل كل مؤذ مطلقاً] في الحرم والإحرام، ولا جزاء فيه، لحديث "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور" - وفي لفظ – "الحية"، مكان العقرب متفق عليه. قال مالك الكلب العقور: ما عقر الناس، وعدا عليهم. مثل الأسد والذئب، والنمر، فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى من سباع البهائم وجوارح الطير والحشرات المؤذية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث والذباب. وبه قال الشافعي. قاله في الشرح.
[السادس: عقد النكاح ولا يصح] لحديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب" رواه الجماعة إلا البخاري، وليس للترمذي فيه ولا يخطب وعن أبي غطفان عن أبيه أن عمر فرق بينهما يعني رجلاً تزوج وهو محرم. رواه مالك والدارقطني. قال في الشرح: ويياح شراء الإماء للتسري وغيره. لا نعلم فيه خلافاً.

[السابع: الوطء في الفرج] لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 1 قال ابن عباس: الرفث: الجماع قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شئ في حال الإحرام إلا الجماع. والأصل فيه ما روي عن ابن عمر وابن عباس، ولم يعرف لهما مخالف.
[ودواعيه والمباشرة دون الفرج والاستمناء] فإن لم ينزل لم يفسد، لا نعلم فيه خلافاً، وإن أنزل فعليه بدنة، وفي فساد الحج روايتان. إحداهما: لا يفسد. وهو قول الشافعي، لأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسها على الوطء في الفرج، لأنه يجب به الحد دونهما. والثانية: يفسد. وهو قول مالك.
[وفي جميع المحظورات الفديه، إلا قتل القمل] لما تقدم. وعن أحمد: يطعم شيئاً، وقال إسحاق: تمرة فما فوقها.
[وعقد النكاح] لا فدية فيه كشراء الصيد.
[وفي البيض والجراد قيمته مكانه] لما تقدم في البيض. وروي عن عمر: في الجراد الجزاء.
[وفي الشعرة أو الظفر إطعام مسكين، وفي اثنين إطعام اثنين] لأن المد أقل ما يجب. وعنه: قبضة من طعام، لأنه لا تقدير له في الشرع فيجب المصير إلى الأقل لأنه اليقين.
[والضرورات تبيح للمحرمات ويفدي] لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2 ولحديث كعب بن عجرة، رضي الله عنه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/197.
2 البقرة من الآية/196.

باب الفدية

باب الفدية[وهي ما يجب بسبب الإحرام أو الحرم. وهي قسمان: قسم على التخيير، وقسم على الترتيب. فقسم التخيير: كفدية اللبس، والطيب، وتغطية الرأس، وإزالة أكثر من شعرتين، أو ظفرين، والإمناء بنظرة، والمباشرة بغير إنزال مني. يخير بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره] لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "لعلك آذاك هوام رأسك؟" قال: نعم يا رسول الله. قال: "احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أوانسك بشاة" متفق عليه. ولفظة [أو] للتخيير، وألحق الباقي بالحلق، لأنه حرم للترفه فقيس عليه. وقال ابن عباس فيمن وقع على امرأته في العمرة قبل التقصير: عليه فدية من صيام أوصدقة أو نسك رواه الأ ثرم. وروى الأ ثرم أيضاً أن عمر بن عبيد الله، قبل عائشة بنت طلحة وهو محرم، فسأل فأجمع له على أن يهرق دماً. وقيس عليها المباشرة والإمناء بنظرة، ونحوهما، لأنها أفعال محرمة بالإحرام لا تفسد الحج فوجبت به شاة كالحلق.
[من التخيير جزاء الصيد يخير فيه بين المثل من النعم، أو تقويم المثل بمحل التلف، ويشتري بقيمته طعاماً ما يجزئ في الفطرة، فيطعم
ـــــــ
1 البقرة من الآية/196.

كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً] لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} 1
[وقسم الترتيب كدم المتعة والقران، وترك الواجب والإحصار والوطء ونحوه، فيجب على متمتع وقارن وتارك واجب دم، فإن عدمه أو ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل كون آخرها يوم عرفة] نص عليه، فيقدم الإحرام ليصومها في إحرام الحج. روي ذلك عن ابن عمر و عطاء وعلقمة وغيرهم. ووقت جواز صيامها من إحرامه بالعمرة، لانعقاد سبب الوجوب.
[وتصح أيام التشريق] قال ابن عمر وعائشة: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن يجد الهدي رواه البخاري. وبه قال مالك والشافعي في القديم.
[وسبعة إذا رجع إلى أهله] لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2 ويجوز صيامها بعد فراغه من أفعال الحج. قيل لأحمد: يصوم بالطريق أو بمكة؟ قال: حيث شاء. وبه قال مالك، وعن عطاء ومجاهد: في الطريق. وهو قول إسحاق.
[ويجب على محصر دم] لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 2
ـــــــ
1 المائدة من الآية/95.
2 البقرة من الآية/196.

[فان لم يجد صام عشرة أيام] بنية التحلل.
[ثم حل] قياساً على دم المتعة.
[ويجب على من وطء في الحج قبل التحليل الأول، أو أنزل منياً بمباشرة، أو استمناء، أو تقبيل، أو لمس لشهوة، أو تكرار نظر: بدنة، فإن لم يجدها صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع] كدم المتعة لأن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو قالوا للواطئين: اهديا هدياً، وإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم وقيس الباقي عليه. والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد النسك، لكن يمضي إلى الحل فيحرم منه ليطوف للزيارة محرماً لأن الطواف ركن لا يتم الحج إلا به، ولقول ابن عباس في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر: ينحران جزوراً بينهما، وليس عليه الحج من قابل رواه مالك. ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وعليه شاة، لأن الإحرام خف بالتحلل الأول، فينبغي أن يكون موجبه دون موجب الإحرام التام لخفة الجناية، وعدم إفساده الحج. وفاقاً لأبي حنيفة. وعنه: يلزمه بدنة، لأنه قول ابن عباس، وبه قال الشافعي.
[وفي العمرة إذا أفسدها قبل تمام السعي شاة] لقول ابن عباس فيمن وقع على امرأته قبل التقصير: عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك رواه الأ ثرم.
[والتحلل الأول يحصل باثنين من رمي وحلق وطواف ويحل له كل شئ إلا النساء] لحديث عائشة مرفوعاً :"إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شئ إلا النساء" رواه سعيد. وقالت عائشة:

طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه.
[والثاني يحصل بما بقي مع السعي إن لم يكن سعى قبل] ولا نعلم فيه خلافاً، لقول ابن عمر: لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شئ حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وطاف بالبيت، ثم قد حل له كل شئ حرم منه متفق عليه.

فصل في صيد الحرم ونباته
[والصيد الذي له مثل من النعم كالنعامة وفيها بدنة] قضى بها عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية.
[وفي حمار الوحش وبقره بقرة] لقضاء عمر، رضي الله عنه.
[وفي الضبع كبش] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، حكم فيها بذلك رواه أبو داود وغيره، وقضى فيها عمر وابن عباس بكبش.
[وفي الغزال شاة] قضى بها عمر وعلي وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر.
[وفي الوبر والضب جدي له نصف سنة] قضى به عمر وابنه.
[وفي اليربوع جفرة لها أربعة أشهر] روي عن عمر وابن مسعود وجابر.
[وفي الأرنب عناق دون الجفرة] يروى عن عمر أنه قضى بذلك.
[وفي الحمام وهو كل ما عب الماء] أي كرع فيه، ولم يأخذه بمنقاره قطرة قطرة كالدجاج والعصافير.
[وهدر] أي: صوت.

[كالقطا والورش والفواخت، شاة] نص عليه وقضى به عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ونافع بن عبد الحارث في حمام الحرم. وقيس عليه حمام الإحرام. وروي عن ابن عباس أنه قضى به في حمام الإحرام.
[وما لا مثل له، كالأوز والحبارى والحجل والكركي، ففيه قيمة مكانه] وروي عن ابن عباس وجابر أنهما قالا في الحجلة والقطاة والحبارى: شاة شاة قاله في الكافي.
[ويحرم صيد حرم مكة] إجماعاً لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" - الحديث - وفيه: "ولا ينفر صيدها" متفق عليه. ويحرم صيد حرم المدينة لحديث علي، ولا جزاء فيما حرم من صيدها، وعنه فيه الجزاء السلب وتوسيع جلده ضرباً انتهى.
[وحكمه حكم صيد الإحرام] لما تقدم أن الصحابة قضوا في حمام الحرم بشاة، ولم ينقل عن غيرهم خلافهم، وللصوم فيه مدخل عند الأكثرين. قاله في الشرح. وقال أيضاً كل من يضمن في الإحرام يضمن في الحرم، إلا القمل، فإنه يباح قتله في الحرم بغير خلاف. انتهى.
[ويحرم قطع شجره وحشيشه] الذي لم يزرعه الآدمي إجماعاً، لقوله: "ولا يعضد شجرها، ولا يحش حشيشها" - وفي رواية لا "يختلى شوكها" - فقال العباس: إلا الإذخر، فانه لا بد لهم منه، فإنه للقبور والبيوت، فقال: إلا الإذخر" متفق عليه. ويباح انتفاع بما زال أو انكسر بغير فعل آدمي وبفعل آدمي لم يبح الإنتفاع انتهى.

[والمحل والمحرم في ذلك سواء] لعموم النص والإجماع.
[فتضمن الشجرة الصغيرة عرفاً بشاة، وما فوقها ببقرة] لما روى عن ابن عباس أنه قال: في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة والدوحة الكبيرة والجزلة الصغيرة.
[ويضمن الحشيش والورق بقيمته] نص عليه لأنه متقوم.
[وتجزئ عن البدنة بقرة كعكسه] لقول جابر كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل له: والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن رواه مسلم.
[ويجزئ عن سبع شياه بدنة أو بقرة] لما تقدم وكعكسه، لقول ابن عباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم، رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر، ولا أجدها فأشتريها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن. رواه أحمد وابن ماجه.
[والمراد بالدم الواجب: ما يجزئ في الأضحية جذع ضان أو ثنى معز أو سبع بدنة أو بقرة] لقوله تعالى في المتمتع: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1 قال ابن عباس: شاة، أو شرك في دم. وقال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2 فسره النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث كعب بن عجرة بذبح شاة وقيس عليها الباقي.
[فإن ذبح أحدهما فأفضل] لأنهما أكثر لحماً وأنفع للفقراء.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/196.
2 البقرة من الآية/196.

[وتجب كلها] أي: البدنة أو البقرة إذا ذبحها، لأنه اختار الأعلى لأداء فرضه، فكان كله واجباً كالأعلى من خصال الكفارة إذا اختاره.

باب أركان الحج وواجباته

باب اركان الحج وواجباته
[أركان الحج أربعة:]
[الأول: الإحرام. وهو مجرد النية، فمن تركه لم ينعقد حجه] لحديث "إنما الأعمال بالنيات" .
[الثاني: الوقوف بعرفة] لحديث: "الحج عرفة" رواه أبو داود.
[ووقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر] لقول جابر: "لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع". قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك؟ قال: نعم رواه الأ ثرم.
[فمن حصل في هذا الوقت بعرفة لحظة واحدة وهو أهل، ولو ماراً أو نائماً أو حائضاً أو جاهلاً أنها عرفة، صح حجه] لعموم حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيئ1 أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من حبل2 إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله
ـــــــ
1 هما جبل سلمى وجبل أجأ قاله المنذري.
2 قوله: من حبل هي في الأصل: من جبل، وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه، قال الجوهري: الحبل، بفتح الحاء وإسكان الموحدة: أحد حبال الرمل، وهو ما اجتمع أو استطال وارتفع.

صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة، وصححه الترمذي. قال المجد: وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف. وقال صلى الله عليه وسلم: "لحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك" رواه الخمسة.
[لا إن كان سكراناً أو مجنوناً أو مغمًى عليه] لأنه ليس من أهل العبادات بخلاف النائم.
[ولو وقف الناس كلهم، أو كلهم إلا قليلاً في اليوم الثامن، أو العاشر خطأ أجزأهم] نص عليهما، لأنه لا يؤمن وقوع مثل ذلك في القضاء فيشق. وهل هو يوم عرفة باطناً ؟ فيه خلاف في مذهب أحمد. قاله الشيخ تقي الدين، ورجح أنه يوم عرفة باطناً وظاهراً، وإن فعل ذلك نفر قليل منهم فاتهم الحج لتفريطهم. وقد روي أن عمر قال لهبار بن الأسود، لما حج من الشام وقدم يوم النحر: "ما حبسك؟" قال: حسبت أن اليوم عرفة، فلم يعذر بذلك رواه الأ ثرم.
[الثالث: طواف الإفاضة] لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1 وعن عائشة قالت: حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي؟" قلت: يا رسول الله، إنها قد أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت، بعد الإفاضة قال: "فلتنفر إذاً" متفق عليه. فدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به.
ـــــــ
1 الحج من الآية/29.

[ووقته من نصف ليلة النحر لمن وقف، وإلا فبعد الوقوف] لوجوب المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل.
[ولا حد لآخره] وفعله يوم النحر أفضل، لقول ابن عمر: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم النحر متفق عليه.
[الرابع: السعي بين الصفا والمروة] لقول عائشة: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاف المسلمون- تعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة رواه مسلم. ولحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد وابن ماجه.
[واجباته سبعة] وقيل ستة، لأن طواف الوداع واجب على كل من أراد الخروج من مكة.
[1 - الإحرام من الميقات] لما تقدم.
[2 - الوقوف إلى الغروب لمن وقف نهاراً] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وقف إلى الغروب وقد قال: " خذوا عني مناسككم" .
[3 - المبيت ليلة النحر بمزدلفة إلى بعد نصف الليل] لأنه صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" وعن ابن عباس: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم، في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى متفق عليه. وعن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم أفاضت رواه أبو داود.
[4 - المبيت بمنى في ليالي التشريق] لقول عائشة: ثم رجع إلى

منى فمكث بها ليالي أيام التشريق الحديث. رواه أحمد وأبو داود، ولمفهوم حديث ابن عباس قال: استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له متفق عليه. وعن عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون من الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
[5 - رمي الجمار مرتباً] فيرمي يوم النحر جمرة العقبة بسبع حصيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ بها ولأنها تحية منى ويرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق، كل يوم بعد الزوال، كل جمرة بسبع حصيات، يبدأ بالجمرة الأولى: وهي أبعدها من مكة وتلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها رواه أبو داود.
[6 - الحلق أو التقصير] لأنه تعالى وصفهم بذلك، وامتن به عليهم فقال: {...مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ...} 1 ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر به فقال: "فليقصر ثم ليحلل" ، ودعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة متفق عليه. وفي حديث أنس أن النبي صلى الله
ـــــــ
1 الفتح من الآية/27.

عليه وسلم، أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ: وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر وجعل يعطيه الناس رواه أحمد ومسلم. وقال ابن المنذر: أجمعوا على إجزاء التقصير إلا أنه يروى عن الحسن إيجاب الحلق في الحجة الأولى، ولا يصح للآية. ويستحب لمن لا شعر له إمرار الموسى على رأسه. روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[7 - طواف الوداع] لحديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه.
[وأركان العمرة ثلاثة: الإحرام] وهو نية الدخول فيها، لحديث "إنما الأعمال بالنيات" .
[والطواف. والسعي] لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1 {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية2 . ولحديث "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل" متفق عليه. وأمره يقتضي الوجوب.
[وواجباتها شيئان: الإحرام بها من الحل] لأمره صلى الله عليه وسلم عائشة أن تعتمر من التنعيم وقال في الشرح: ومن أراد العمرة من أهل الحرم خرج إلى الحل، فأحرم منه، وكان ميقاتاً له. لا نعلم فيه خلافاً.
ـــــــ
1 الحج من الآية/29.
2 البقرة من الآية/158.

[والحلق أو التقصير] لقوله "وليقصر وليحلل" .
[والمسنون كالمبيت بمنى ليلة عرفة] لأنه صلى الله عليه وسلم، بات بها ليلة عرفة رواه مسلم عن جابر.
[ وطواف القدوم والرمل في الثلاثة أشواط الأول منه، والاضطباع فيه] لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، حين قدم مكة توضأ، ثم طاف بالبيت متفق عليه. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أبو داود. وفي حديث جابر: حتى أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً.
[وتجرد الرجل من المخيط عند الإحرام، وليس إزار ورداء أبيضين نظيفين] لحديث ابن عمر مرفوعاً: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" رواه أحمد.
[والتلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي] في الحج، وأما في العمرة فإلى استلام الحجر، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: "لبيك اللهم لبيك.." الحديث متفق عليه. وعن الفضل ابن عباس قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة رواه الجماعة، وعن ابن عباس مرفوعاً قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر" رواه أبو داود.
[فمن ترك ركناً لم يتم حجه إلا به] لما تقدم.

[ومن ترك واجباً فعليه دم وحجه صحيح] لقول ابن عباس: من ترك نسكاً فعليه دم وهو مقيس على دم الفوات. كما في الشرح.
[ومن ترك مسنوناً فلا شئ عليه] لعدم النص في ذلك.

فصل في شروط الطواف
[وشروط صحة الطواف أحد عشر: النية، والإسلام، والعقل] كسائر العبادات.
[ودخول وقته] وأوله بعد نصف الليل ليلة النحر. وقال أبو حنيفة: أوله طلوع الفجر يوم النحر.
[وستر العورة] لحديث: "لا يطوف بالبيت عريان" متفق عليه.
[واجتناب النجاسة، والطهارة من الحديث] لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه" رواه الترمذي والأ ثرم. وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" متفق عليه.
[وتكميل السبع] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، طاف سبعاً فيكون تفسيراً لمجمل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1 فيكون ذلك هو الطواف المأمور به. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" فإن ترك شيئاً من السبع ولو قليلاً لم يجزئه، وكذا إن سلك الحجر، أو طاف على جداره، أو شاذروان الكعبة، لأن قوله
ـــــــ
1 الحج من الآية/29.

تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1 يقتضي الطواف بجميعه والحجر منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحجر من البيت" متفق عليه.
[وجعل البيت عن يساره] لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم مكة أتى الحج فاستلمه، ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً رواه مسلم والنسائي.
[وكونه ماشياً مع القدرة] فلا يجزئ طواف الراكب لغير عذر، لحديث: الطواف بالبيت صلاة وقد سبق. وعنه: يجزئ وعليه دم. وعنه: يجزئ بغير دم. وهو مذهب الشافعي و ابن المنذر. وقال: لا قول لأحد مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والطواف راجلاً أفضل بغير خلاف، لفعله صلى الله عليه وسلم في غير تلك المرة، ولفعل أصحابه. وحديث أم سلمة يدل على أن الطواف مشي إلا لعذر. ويصح طواف الراكب لعذر بغير خلاف. قاله في الشرح.
[والموالاة] لأنه صلى الله عليه وسلم، طاف كذلك، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" .
[فيستأنفه لحدث فيه] قياساً علىالصلاة، فيتوضأ، ويبتدئه، وعنه: يتوضأ ويبني إذا لم يطل الفصل، فيتخرج في الموالاة روايتان. إحداهما هي شرط كالترتيب. والثانية: ليست شرطاً حال العذر، لأن الحسين غشي عليه فحمل، فلما أفاق أتمه. قاله في الكافي.
[وكذا لقطع طويل] لغير عذر لإخلاله بالموالاة، ويبني مع العذر. قال الإمام أحمد: إذا أعيا في الطواف فلا بأس أن يستريح.
ـــــــ
1 الحج من الآية/29.

[وإن كان يسيراً أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى وبنى من الحجر الأسود] لحديث: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، فإذا صلىً بنى على طوافه" قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه إلا الحسن، فإنه قال: يستأنف. وكذا الجنازة، لأنها تفوت وإن شك في عدد الطواف بنى على اليقين. ذكره ابن المنذر إجماعاً. قاله في الشرح.
[وسننه: استلام الركن اليماني في يده اليمنى، وكذا الحجر الأسود وتقبيله] لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه قال نافع: وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود. وعن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، استقبل الحجر، ووضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي، فقال: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات" . رواه ابن ماجه ونقل الأثرم: ويسجد عليه. فعله ابن عمر وابن عباس فإن شق استلمه وقبل يده، لما روى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، استلمه بيده وقبل يده وعن أبي الطفيل عامر بن وائلة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
[والاضطباع، والرمل، والمشي في مواضعها] لما تقدم.
[والركعتان بعده] والأفضل خلف المقام لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 1 وقيل للزهري: إن عطاء يقول: تجزئه المكتوبة
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 125.

من ركعتي الطواف، فقال: السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، أسبوعاً إلا صلى ركعتين رواه البخاري.

فصل في شروط السعي
[وشروط صحة السعي ثمانية: النية، والإسلام، والعقل] لما تقدم.
[والموالاة] قياساً على الطواف ولأنه صلى الله عليه وسلم، والى بينه وقال في الكافي: لا تجب، لأنه نسك لا يتعلق بالبيت، فلم يشترط له الموالاة كالرمي. وقد روي أن سودة بنة عبد الله بن عمر تمتعت فقضت طوافها في ثلاثة أيام انتهى.
[والمشي مع القدرة] قال في الشرح: ويجزئ السعي راكباً ومحمولاً ولو لغير عذر. وفي الكافي: يسن أن يمشي، فإن ركب جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، سعى راكباً.
[وكونه بعد طواف ولو مسنوناً كطواف القدوم] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما سعى بعد الطواف، وقال: "خذوا عني مناسككم"
[وتكميل السبع] يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، لما في حديث جابر.
[واستيعاب ما بين الصفا والمروة] ليتيقن الوصول إليهما في كل شوط.
[وإن بدا بالمروة لم يعتد بذلك الشوط] لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دنا من الصفا قرأ: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 1 أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه" الحديث رواه مسلم. ولفظ النسائي "ابدؤوا بما بدأ الله به" .
ـــــــ
1 البقرة من الآية/158.

[وسننة: الطهارة وستر العورة] لقوله صلى الله عليه وسلم، لعائشة لما حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" متفق عليه. وقالت عائشة: إذا طافت المرأة بالبيت، ثم صلت ركعتين، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة فإن سعى محدثاً أو عرياناً أجزأه في قول أكثر أهل العلم، لكن ستر العورة واجب مطلقاً.
[والموالاة بينه وبين الطواف] بأن لا يفرق بينهما طويلاً. وقال عطاء: لا بأس أن يطوف أول النهار ويسعى في آخره.
[وسن أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويرش على بدنه وثوبه] لحديث جابر مرفوعاً: "ماء زمزم لما شرب له" رواه أحمد وابن ماجه وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا بسجل من ماء زمزم، فشرب منه وتوضأ وعن ابن عباس مرفوعاً: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم" رواه ابن ماجه.
[ويقول: بسم الله، اللهم اجعله لنا علماً نافعاً ورزقأ واسعاً ورياً وشبعاً وشفاءً من كل داء واغسل به قلبي وأملأه من خشيتك] لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته يشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا إسماعيل" رواه الدارقطني.
[وتسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، رضوان الله وسلامه عليهما] لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "من زارني أو زار قبري كنت لة شافعاً أو شهيداً" رواه أبو داود

الطيالسي. وعن ابن عمر مرفوعاً: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" وفي رواية: "من زار قبري وجبت لة شفاعتي" رواه الدارقطني بإسناد ضعيف.
[وتستحب الصلاة بمسجده صلى الله عليه وسلم، وهي بألف صلاة، وفي المسجد الحرام بمائة ألف. وفي الاًقصى بخمسمائة] لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة" رواه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين. وعن أبي الدرداء مرفوعاً: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس، بخمسمائة صلاة" رواه الطبراني في الكبير، وابن خزيمة في صحيحه1.
ـــــــ
1 هذه الأحاديث مع ضعفها الشديد الذي بينه الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي فإنها لا تدل على أكثر من مشروعية مطلق زيارة القبر الشريف، وهذا مما لا خلاف فيه، وأما شد الرحال من أجلها فشيء آخر لا تتناوله الأحاديث المذكورة البتة، بل هو منهي عنه بالحديث الصحيح: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.." ناصر الدين.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار[من طلع عليه فجر يوم النحر، ولم يقف بعرفة لعذر حصر أو غيره فاته الحج، وانقلب إحرامه عمرة] لقول جابر: "لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال" أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك؟ قال: نعم رواه الأثرم. وعن عمر بن الخطاب أنه أمر أبا أيوب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج، فأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة، ثم يرجعا حلالاً، ثم يحجا عاماً قابلاً، ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله رواه مالك في الموطأ والشافعي والأثرم بنحوه، وللبخاري عن عطاء مرفوعاً نحوه، وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: "من فاته عرفات فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل" .
[ولا تجزئ عن عمرة الإسلام] نص عليه، لحديث عمر: وإنما لكل امرئ ما نوى وهذه لم ينوها في ابتداء إحرامه.
[فيتحلل بها وعليه دم، والقضاء في العام القابل] لما تقدم.
[لكن لو صد عن الوقوف فتحلل قبل فواته فلا قضاء] لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1 لكن إن أمكنه فعل الحج في ذلك العام لزمه. نقله الجماعة.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 196.

[ومن حصر عن البيت، ولو بعد الوقوف ذبح هدياً بنية التحلل] للآية، ولحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج معتمراً، فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية وللبخاري عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم، نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك.
[فإن لم يجد صام عشرة أيام بالنية وقد حل] نص عليه، قياساً على التمتع. ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد الهدي.
[ومن حصر عن طواف الإفاضة فقط، وقد رمى وحلق، لم يتحلل حتى يطوف] لما روي عن ابن عمر أنه قال: من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت رواه مالك لأنه لا وقت له، فمتى طاف في أي وقت كان تحلل، ولأن الشرع ورد بالتحلل من إحرام تام يحرم جميع المحظورات، وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به.
[ومن شرط في ابتداء إحرامه: إن محلي حيث حبستني، أو قال: إن مرضت أو عجزت أو ذهبت نفقتي فلي أن أحل، كان له أن يتحلل متى شاء من غير شئ، ولا قضاء عليه] إذا وجد شئ من ذلك، لحديث ضباعة السابق.

باب الأضحية

باب الأضحية[وهي سنة مؤكدة] هذا عندنا معاشر الحنابلة أنها سنة، - وأما عند الإمام أبي حنيفة فإنها واجبة على ذوي اليسار - لحديث أنس ضحى النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر متفق عليه. ولا تجب لأنه صلى الله عليه وسلم، ضحى عمن لم يضح من أمته رواه أحمد وأبو داود، والترمذي من حديث جابر. وروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لايضحيان عن أهلهما مخافة أن يرى ذلك واجباً لكن يكره تركها مع القدرة. نص عليه.
[وتجب بالنذر] لحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" .
[وبقوله: هذه أضحية أو لله] لأن ذلك يقتضي الإيجاب، كتعيين الهدي، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إذا اشتراها بنية الأضحية وجبت كالهدي بالإشعار.
[والأفضل الإبل فالبقر، فالغنم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنمًا قرب كبشاً أقرن" متفق عليه.
[ولا تجزئ من غير هذه الثلاثة] لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} 1.
ـــــــ
1 الحج من الآية/34.

[وتجزئ الشاة عن الواحد، وعن أهل بيته وعياله] لقول أبي أيوب: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس، فصار كما ترى رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
[وتجزئ البدنة، والبقرة عن سبعة] لحديث جابر السابق.
[وأقل ما يجزئ من الضأن ما له نصف سنة] لقول أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "نعم، أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن" رواه أحمد والترمذي. وفي حديث عقبة بن عامر فقلت يا رسول الله، أصابني جذع. قال: "ضح به" متفق عليه ويعرف بنوم الصوف على ظهره. قاله الخرقي.
[ومن المعز ما له سنة] لحديث: "لا تذبحوا إلا مسنةً، فإن عز عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن" رواه مسلم وغيره. وعن مجاشع مرفوعاً: "إن الجذع توفي ما توفي منه الثنية" رواه أبو داود وابن ماجه. وهو محمول عن جذع الضأن لما تقدم.
[ومن البقر والجاموس ما له سنتان، ومن الإبل ماله خمس سنين] لما سبق.
[وتجزئ الجماء والبتراء والخصي والحامل وما خلق بلا أذن، أو ذهب نصف أليته أو أذنه] للعموم. أما إذا كان القطع دون نصف الأذن أجزأ، ونصفاً فقط يجزئ على المقدم، وفوقه لا يجزئ، وهكذا الخرق إذا ذهب منها كالقطع، وأما الشرم فيجزئ ولو جاوز النصف. وعن أبي رافع قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكبشين أملحين موجوءين خصيين رواه أحمد.

[لا بينة المرض، ولا بينة العور: بأن انخسفت عينها، ولا قائمة العينين مع ذهاب أبصارهما ولا عجفاء: وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، ولا عرجاء لا تطيق مشياً مع صحيحة] لحديث البراء بن عازب مرفوعاً: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البينً عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة. وفي لفظ - والعجفاء التي لا تنقي" رواه الخمسة، وصححه الترمذي. والعوراء البين عورها: هي التي انخسفت عينها وذهبت، فنص على هذه الأربعة الناقصة اللحم، وقسنا عليها ما في معناها. وفي النهي عن العوراء تنبيه على العمياء، ولأن العمى يمنع مشيها مع رفيقتها ومشاركتها في العلف.
[ولا هتماء: وهي التي ذهبت ثناياها من أصلها] لنقصها، ولأنها في معنى العجفاء.
[ولا عصماء: وهي ما أنكسر غلاف قرنها] قياساً على العضباء.
[ولا خصي مجبوب] وهو ما قطع ذكره وأنثياه. نص عليه.
[ولا عضباء: وهي ما ذهب أكثر أذنها أو قرنها] لحديث علي، رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يضحى بأعضب الأذن والقرن قال ابن المسيب: العضب: النصف، فأكثر من ذلك. رواه النسائي. يعني التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها.
ـــــــ
1 الحج من الآية/36.

فصل في نحر الأبل قائمة
[ويسن نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى] لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ...} 1 أي: قياماً. حكاه البخاري عن
ـــــــ
1 الحج من الآية/36.

ابن عباس. وعن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال: ابعثها قياماً سنة محمد صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
[وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة] استحبه مالك والشافعي، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 ضحى النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين ذبحهما بيده متفق عليه.
[ويسمي حين يحرك يده بالفعل، ويكبر ويقول: اللهم هذا منك ولك] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذبح يوم العيد كبشين - وفيه - ثم قال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك" رواه أبو داود.
[وأول وقت الذبح من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد] لحديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" متفق عليه. وللبخاري: "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين" .
[أو قدرها لمن لم يصل، فلا تجزئ قبل ذلك] لما تقدم، ولأن غير أهل المصر تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة، فاعتبر قدرها. قاله في الكافي.
[ويستمر وقت الذبح نهاراً وليلاً] وبه قال الشافعي، لأن الليل داخل في مدة الذبح، وقال الخرقي: لا يجوز ليلاً، لقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
ـــــــ
1 البقرة من الآية/67.

رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} 1 هو قول مالك.
[إلى آخر ثاني أيام التشريق] قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة، عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأنس. ولا مخالف لهم، إلا رواية عن علي، رضي الله عنه، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث متفق عليه. فلا يجوز الذبح في وقت لا يجوز الإدخار فيه.
[فإن فات الوقت قضى الواجب] لأنه وجب ذبحه فلم يسقط بفوات وقته، كما لو ذبحها في وقتها ولم يفرقها حتى خرج.
[وسقط التطوع] لأنه سنة فات محلها.
[وسن له الأكل من هدية التطوع] لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} 1 وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وقال جابر: كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "كلوا وتزودوا" . فأكلنا وتزودنا رواه البخاري. والمستحب أكل اليسير، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشرك علياً في هديه قال: ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكلا منها وشربا حسياً من مرقها رواه أحمد ومسلم.
[وأضحيته ولو واجبة] لقول ثوبان ذبح رسول الله صلى الله
ـــــــ
1 الحج من الآية/28.

عليه وسلم، أضحيته، ثم قال: يا ثوبان، أصلح لي لحم هذه، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة رواه أحمد ومسلم.
[ويجوز من دم المتعة والقران] نص عليه لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة، ثم ذبح النبي صلى الله عليه وسلم، عنهن البقر فأكلن من لحومها متفق عليه.
[ويجب أن يتصدق بأقل ما يقع عليه اسم اللحم] لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} 1 وظاهر الأمر الوجوب، قاله في الشرح.
[ويعتبر تمليك الفقير فلا يكفي إطعامه] كالواجد في كفارة.
[والسنة أن يأكل من أضحيته ثلثها، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها] لحديث ابن عباس مرفوعاً في الأضحية قال: "ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث" قال الحافظ، وأبو موسى: هذا حديث حسن، ولقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} والقانع: والسائل، والمعتر: الذي يعترض لك لتعطيه، فذكر ثلاثة، فينبغي أن تقسم بينهم أثلاثاً. وهو قول ابن عمر وابن مسعود، ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة.
[ويحرم بيع شئ منها حتى من شعرها وجلدها، ولايعطي الجازر بأجرته منها شيئاً] لقول علي: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أقوم على بدنة، وأن أقسم جلالها، ولا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا. متفق عليه.
ـــــــ
1 الحج من الآية/36.

[وله إعطاؤه صدقة أو هدية] لدخوله فى العموم، ولأنه باشرها وتاقت إليها نفسه، ولمفهوم حديث: "لا تعط في جزارتها شيئاً منها" قال أحمد: إسناده جيد.
[وإذا دخل العشر حرم على من يضحي أو يضحى عنه أخذ شئ من شعره أو ضفره إلى الذبح] لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي" رواه مسلم. وفي رواية له: "ولا من بشرته" فإن فعل فلا فدية عليه إجماعاً، بل يستغفر الله تعالى.
[ويسن الحلق بعده] قال أحمد: هو على ما فعل ابن عمر تعظيماً لذلك اليوم.

فصل في العقيقة
[وهي سنة في حق الأب ولو معسراً] لأنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وفعله أصحابه وقال صلى الله عليه وسلم "كل غلام رهينة بعقيقته" رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال أحمد: إذا لم يكن عنده ما يعق فاستقرض رجوت أن يخلف الله عليه، لأنه أحيا سنة، فإن كبر ولم يعق عنه، فقال أحمد: ذلك على الوالد. وقال عطاء: يعق عن نفسه.
[فعن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة] لحديث عائشة مرفوعاً: "عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" رواه أحمد والترمذي وصححه. وهذا قول الأكثر. وكان ابن عمر يقول: شاة شاة لحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً رواه أبو داود.
[ولا تجزئ بدنة وبقرة إلا كاملة] نص عليه، لحديث أنس مرفوعاً: "يعق عنه من الإبل والبقر والغنم" رواه الطبراني.
[والسنة ذبحها في سابع يوم ولادته] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً، لحديث سمرة مرفوعاً: "كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه ويحلق رأسه" رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[فإن فات ففي أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين] لحديث

بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في العقيقة: "تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين" أخرجه الحسين بن يحيى بن عباس القطان، ويروى عن عائشة نحوه.
[ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك] فيعق أي يوم أراد، لأنه قد تحقق سببها.
[وكره لطخه من دمها] أنكره سائر أهل العلم، وكرهوه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أهرقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى" رواه أبو داود. وروى أبو داود أيضاً عن بريدة كنا نلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، فلما جاء الإسلام كنا نلطخه بزعفران فأما من روى ويدمي فقال أبو داود: وهم همام، إنما الرواية ويسمى مكان يدمي، وكذا قال الإمام أحمد: ما أراه إلا خطأ.
[ويسن الأذان في أذن المولود اليمنى حين يولد، والاقامة في اليسرى] لقول أبي رافع رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة بالصلاة رواه أحمد وغيره. وروى ابن السني عن الحسن بن علي مرفوعاً: "من ولد له ولد فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان" يعني القرينة.
[وسن أن يحلق رأس الغلام في اليوم السابع، ويتصدق بوزنه فضة ويسمى فيه] لحديث سمرة السابق. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة لما ولدت الحسن: "احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضةً على المساكين" رواه أحمد.
[وأحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن] للحديث رواه مسلم.

[وتحرم التسمية بعبد غير الله كعبد النبي، وعبد المسيح] قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمر عبد الكعبة، حاشا عبد المطلب. قاله في الفروع.
[وتكره بحرب ويسار ومبارك ومفلح وخير وسرور] ونحوها قال القاضي: وكل اسم فيه تفخيم أو تعظيم، لحديث سمرة مرفوعاً: "لا تسم غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو فلا يكون، فيقول لا" رواه مسلم. ولأنه ربما كان طريقاً إلى التشاؤم.
[ولا بأس بأسماء الملائكة والأنبياء] لحديث وهب الجشمي مرفوعاً "تسموا بأسماء الأنبياء" الحديث رواه أحمد. وقال ابن القاسم عن مالك: سمعت أهل مكة يقولون: ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا ورزق خيراً.
[إن اتفق وقت عقيقة وأضحية أجزأت إحداهما عن الأخرى] كما لو اتفق يوم عيد، ويوم جمعة، فاغتسل لأحدهما، وكذا ذبح متمتع، أو قارن يوم النحر شاة فتجزئ عن الهدي الواجب، والأضحية. ويستحب أن يفصلها عظاماً ولا يكسر عظامها تفاؤلاً بسلامة أعضائه. وفى حديث عائشة: "تطبخ جدولاً1 ولا يكسر لها عظم" ويأكل ويطعم ويتصدق، ولا تسن الفرعة: ذبح أول ولد الناقة، ولا العتيرة: ذبيحة رجب. قال في الشرح: هذا قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين، فإنه كان يذبح العتيرة، ويروي فيها شيئاً، ولنا حديث أبي هريرة
ـــــــ
1 الحدل والجدل: كل عظم موفر لا يكسر ولا يخلط به غيره، والجدل: العضو، وجمعه: جدول.

مرفوعاً: "لا فرع ولا عتيرة" متفق عليه. ولا يحرمان، ولا يكرهان، والمراد بالخير: نفي، كونهما سنة لا النهي، لحديث عمرو بن الحارث أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، قال: فقال رجل: يا رسول الله، الفرائًع والعتائر؟ قال: "من شاء فرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر في الغنم الأضحية" رواه أحمد والنسائي.

كتاب الجهاد


كتاب الجهاد[وهو فرض كفاية] لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ...} 1 وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} 2 مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً...} 3 قال ابن عباس: إنها ناسخة لقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 4 رواه أبو داود. فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإلا أثموا كلهم.
[ويسن مع قيام من يكفي به] للآيات والأحاديث، منها حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه. وعن أبي عبس الحارثي مرفوعاً: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" رواه أحمد والبخاري. وعن ابن أبي أوفى مرفوعا: "إن الجنة تحت ظلال السيوف" رواه أحمد والبخاري.
[ولا يجب إلا على ذكر] لحديث عائشة قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" وفي لفظ "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" رواه أحمد والبخاري.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/216.
2 البقرة من الآية/190.
3 التوبة من الآية/123.
4 التوبة من الآية/42.

[مسلم مكلف] كسائر العبادات، وعن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني أي: في المقاتلة. متفق عليه. وفي لفظ وعرضت عليه يوم الخندق فأجازني.
[الصحيح] أي: سليم من العمى والعرج والمرض، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ...} 1 وقوله: {...غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ...} 2 وقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} 3 الآية.
[واجد من المال ما يكفيه ويكفي أهله في غيبته] للآية.
[ويجد مع مسافة قصر ما يحمله] لقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} 4 ولا يجب على العبد، لأنه لا يجد ما ينفق، فيدخل فى عموم الآية. ويتعين إذا تقابل الصفان، وإذا نزل العدو ببلدة، لقوله تعالي: {...إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} الآية5 وقوله: {... فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ...} الآية 6 وقوله:
ـــــــ
1 النور من الآية/61. والفتح من الآية/ 17.
2 النساء من الآية/ 94.
3 التوبة من الآية/ 91.
4 التوبة من الآية/ 92.
5 الأنفال من الآية/ 45.
6 الأنفال من الآية/15.

{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} 1 وإذا استنفرهم الإمام، لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا" متفق عليه.
[وسن تشيع الغازي لا تلقيه] نص عليه لأن علياً، رضي الله عنه، شيع النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك ولم يتلقه احتج به أحمد. وعن سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لأن أشيع غازياً، فأكفيه3 في رحلة غدوة أو روحة أحب إلي من الدنيا وما فيها" رواه أحمد وابن ماجه. وعن أبي بكر الصديق أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام... الخبر. وفيه: "إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله" وشيع الإمام أحمد أبا الحارث ونعلاه في يده. ذهب إلى فعل أبي بكر أراد أن تغبر قدماه في سبيل الله وشيع النبي صلى الله عليه وسلم النفر الذين وجههم إلى كعب ابن الأشرف إلى بقيع الغرقد4 رواه أحمد. وفي التلقي وجه كالحاج، لحديث السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غزوة تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع. قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وللبخاري نحوه.
[وأفضل متطوع به الجهاد] لما تقدم. وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد في سبيل
ـــــــ
1 التوبة من الآية/ 124.
2 التوبة من الآية/ 38.
3 في الأصل [فأكنفه على] وما أثبتناه هو الصحيح.
4 الغرقد: شجر عظام، هو من العضاه، واحدته غرقدة، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقد، لأنه كان فيه غرقد وقطع.

الله بنفسه وماله" متفق عليه. وذكر للإمام أحمد أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، ولأن نفعه عظيم وخطره كبير، فكان أفضل مما دونه.
[وغزو البحر أفضل] لأنه أعظم خطراً، ولحديث أم حرام مرفوعاً: "المائد في البحر - أي الذي يصيبه القئ - له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين" رواه أبو داود. وعن أبي أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كًقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله وكل ملك الموت بقًبض الأرواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين" رواه ابن ماجه.
[وتكفر الشهادة جميع الذنوب سوى الدين] لحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين" رواه مسلم. قال الشيخ تقى الدين: وغير مظالم العباد: كقتل، وظلم، و زكاة، وحج أخرهما.
[ولا يتطوع به مدين لا وفاء له إلا بإذن غريمه] لحديث أبي قتادة وفيه "أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك" رواه أحمد ومسلم.
[ولا من أحد أبويه حر مسلم إلا بإذنه] لقول ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة

على وقتها" . قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" . قلت: ثم أي؟ قال "الجهاد في سبيل الله" متفق عليه. وعن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه.
[ويسن الرباط: وهو لزوم الثغر للجهاد] سمي بذلك لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء كذلك، لحديث سلمان مرفوعاً: "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر، وقيامه، فإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري علًيه رزقه، وأمن الفًتان" 1 رواه مسلم.
[وأقله ساعة] قال الإمام أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط.
[وتمامه أربعون يوماً] يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمام الرباط أربعون يوماً" أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب. ويروى ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة.
[وهو أفضل من المقام بمكة] ذكره الشيخ تقي الدين إجماعاً. والصلاة بالمساجد الثلاثة أفضل من الصلاة بالثغر. قال الإمام أحمد: فأما فضل الصلاة فهذا شئ خاصة لهذه المساجد.
[وأفضله ما كان أشد خوفاً] قال الإمام أحمد: أفضل الرباط أشدهم كلباً، ولأن المقام به أنفع، وأهله أحوج.
[ولا يجوز للمسلمين الفرار من مثليهم ولو واحداً من اثنين] لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى
ـــــــ
1 الفتان: بالفتح هو الشيطان، لأنه يفتن الناس عن دينهم. كذا في النهاية. ويطلق على غيره.

فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ...} الآية 1 وعد النبي صلى الله عليه وسلم، الفرار من الزحف من الكبائر والتحرف للقتال: هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما، ونحو ذلك. والتحيز إلى فئة: ينضم إليها ليقاتل معها سواء قربت أو بعدت، لحديث ابن عمر، وفيه: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل صلاة الفجر قمنا فقلنا له: نحن الفرارون؟ فقال: "لا بل أنتم العكارون2. أنا فئة كل مسلم" رواه الترمذي. وعن عمر قال: أنا فئة كل مسلم وقال لو أن أبا عبيدة تحيز إلي لكنت له فئة، وكان أبو عبيدة بالعراق رواه سعيد.
[فإن زادوا على مثليهم جاز] لمفهوم قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} 3 وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر يعني: فراراً محرماً.
[والهجرة واجبة على كل من عجز عن إظهار دينه بمحل يغلب فيه حكم الكفر، والبدع المضلة] بحيث يمنع من فعل الواجبات، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، وكذا إن خاف الإكراه على الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
ـــــــ
1 الأنفال من الآية/ 16.
2 قيل: هو الذين يعطفون إلى الحرب، وقيس: إذا حاد الإنسان عن الحرب ثم عاد إليها، قال في القاموس: الكرار العطاف.
3 الأنفال من الآية/ 66.

تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1 وعنه صلى الله عليه وسلم: "أنا برئ من مسلم بين ظهري مشركين لا تراءى نارهما" رواه أبو داود والترمذي. وعن معاوية وغيره مرفوعاً: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه أبو داود. وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح" أي: من مكة. ومثلها كل بلد فتح لأنه لم يبق بلد كفر.
[فإن قدرعلى إظهار دينه فمسنون] أي استحب له الهجرة ليتمكن من الجهاد وتكثير عدد المسلمين. قاله في الشرح.
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 96.

فصل في حكم الأسارى
[والأسارى من الكفارعلى قسمين: قسم يكون رقيقاً بمجرد السبي: وهم النساء والصبيان] لأنهم مال لا ضرر في اقتنائه فأشبهوا البهائم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان رواه الجماعة إلا النسائي. ولحديث سبي هوازن رواه أحمد والبخاري. وحديث عائشة في سبايا بني المصطلق رواه أحمد.
[وقسم لا: وهم الرجال البالغون المقاتلون. والإمام فيهم مخير بين قتل، ورق، ومن، وفداء بمال، أو بأسير مسلم] لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2 قتل النبي صلى الله عليه وسلم، رجال بني قريظة وهم بين الست مائة والسبع مائة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط صبراً وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي
ـــــــ
2 التوبة من الآية/ 6.

وأما الرق فلأنه يجوز إقرارهم بالجزية فبالرق أولى، لأنه أبلغ في صغارهم. وأما المن فلقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} الآية1 ولأنه صلى الله عليه وسلم، من على ثمامة بن أثال، وعلى أبي عزة الشاعر، وعلى أبي العاص بن الربيع وأما الفداء فلأنه صلى الله عليه وسلم، فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل رواه أحمد والترمذي وصححه. وفدى أهل بدر بمال رواه أبو داود.
[ويجب عليه فعل الأصلح] فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال تعينت عليه، لأنه ناظر للمسلمين، وتخييره تخيير اجتهاد لا شهوة.
[ولا يصح بيع مسترق منهم لكافر] نص عيله، لما روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتب إلى أمراء الأمصار ينهاهم عنه ولأن في بقائهم رقيقاً للمسلمين تعريضاً لهم بالإسلام.
[ويحكم بإسلام من لم يبلغ من أولاد الكفار عند وجود أحد ثلاثة أسباب: أحدها: أن يسلم أحد أبويه خاصة] لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 2
[الثاني: أن يعدم أحدهما بدارنا] لمفهوم حديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" رواه مسلم. وقد انقطعت تبعيته لأبويه بانقطاعه عن أحدهما وإخراجه من دارهما إلى دار الإسلام.
ـــــــ
1 محمد من الآية/ 4.
2 الطور من الآية/ 21.

[الثالث: أن يسبيه مسلم منفرداً عن أحد أبويه] قال في الشرح: والسبي من الأطفال منفرداً يصير مسلماً إجماعاً.
[فإن سباه ذمي فعلى دينه] قياساً على المسلم.
[أوسبي مع أبويه فعلى دينهما] للحديث السابق.

[وأما نفقته ورحله وخيمته وجنيبه فغنيمة] لأن السلب ما عليه حال قتله، أو ما يستعان به في القتال.
[وتقسم الغنيمة بين الغانمين، فيعطى لهم أربعة أخماسها] إجماعاً. قاله في الشرح لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...} 1 ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، قسم الغنائم كذلك.
[للراجل سهم، وللغازي على فرس هجين سهمان، وعلى فرس عربي ثلاثة] قال ابن المنذر: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة. هذا قول عوام أهل العلم في القديم، والحديث. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه وسهم له متفق عليه. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً رواه الأ ثرم. والهجين: الذي أبوه عربي وأمه برذونة، يكون له سهم. وبه قال الحسن، لحديث أبي الأقمر قال: أغارت الخيل على الشام، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكودان ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حميضة، فقال: لا أجعل التى أدركت من يومها مثل التي لم تدرك، ففصل الخيل، فقال عمر: هبلت2 الوادعي أمه، أمضوها على ما قال رواه سعيد. وعن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى الفرس العربي سهمين، وأعطى الهجين سهماً أخرجه سعيد. ولا يسهم لأكثر من فرسين، لما روى الأوزاعي أن
ـــــــ
1 الأنفال من الآية/ 41.
2 هبلت كفرحت: ثكلت.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس وعن أزهر بن عبيد الله أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهماً، فذلك خمسة أسهم رواه سعيد. وروى الدارقطني عن بشير بن عمرو بن محصن قال أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفرسي أربعة أسهم، ولي سهماً، فأخذت خمسة أسهم.
[ولا يسهم لغير الخيل] لأنه لم يقل عنه صلى الله عليه وسلم، أنه أسهم لغير الخيل وكان معه يوم بدر سبعون بعيراً، ولم تخل غزوة من غزواته من الإبل، بل هما غالب دوابهم، ولو أسهم لها لنقل، وكذا أصحابه من بعده. وعنه فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره: قسم له ولبعيره سهمان، لقوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} 1.
[ولا يسهم إلا لمن فيه أربعة شروط: البلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، فإن اختل شرط رضخ لهم، ولم يسهم] أما المجنون فلا سهم له وإن قاتل، لأنه من غيرأهل القتال وضرره أكثر من نفعه. وأما الصبي، فلقول سعيد بن المسيب. كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة. وقال تميم بن فرع المهري كنت في الجيش الذين فتحوا الإسكندرية في المرة الآخرة، فلم يقسم لي عمرو شيئاً، وقال: غلام لم يحتلم. فسألوا أبا بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر، فقالا: انظروا فإن كان قد أشعر فأقسموا له، فنظر إلي بعض
ـــــــ
1 الحشر من الآية/ 6.

القوم فإذا أنا قد أنبت، فقسم لي قال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مصر وجيده. وأما العبد فلما تقدم، وعن عمير مولى آبي اللحم قال: شهدت [خيبراً]1 مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنى مملوك، فأمر لي من خرثي المتاع رواه أبو داود. وعنه: يسهم له إذا قاتل. روي عن الحسن والنخعي، لحديث الأسود بن يزيد أسهم لهم يوم القادسية يعني العبيد. وأما النساء، فلحديث ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، فأما بسهم فلم يضرب لهن رواه أحمد ومسلم. وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش رواه أحمد. وحمل حديث حشرج بن زياد عن جدته أن النبي صلى الله عليه وسلم، أسهم لهن يوم خيبر رواه أحمد وأبو داود. وخبر أسهم أبو موسى يوم غزوة تستر لنسوة معه2 على الرضخ3 .
[ويقسم الخمس الباقي خمسة أسهم] لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية4.
ـــــــ
1 الأصل "حنيناً" والتصويب من سنن أبي داود 3/100 ومسند أحمد، وسنن الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي. وقال أبو داود: معناه أنه لم يسهم له.. وفي القاموس: الخرثي بالضم أثاث ا لبيت، أو أرادا المتاع.
2 تستر: مدينة من بلاد عربستان في إيران.
3 الرضخ: العطاء القليل.
4 الأنفال من الآية/ 41.

[سهم لله ولرسوله يصرف مصرف الفئ] في مصالح المسلمين، لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم، تناول بيده وبرة من بعير، ثم قال: "والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" وعن عمرو بن عبسة، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: نحوه. رواهما أحمد وأبو داود. فجعله لجميع المسلمين، ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم الأهم فالأهم، وقيل: للخليفة بعده، لحديث: "إذا أطعم الله نبياً طعمةً، ثم قبضه فهو للذي يقوم بها من بعده" رواه أبو بكر عنه، وقال: "قد رأيت أن أرده على المسلمين" فاتفق هو وعمر وعلي والصحابة على وضعه في الخيل والعدة في سبيل الله. قاله في الشرح.
[وسهم لذي القربى وهم: بنو هاشم وبنو المطلب حيث كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين] لحديث جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سهم ذوي القربى بين بني هاشم، وبني المطلب، فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم، وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد، وشبك بين أصابعه رواه أحمد والبخاري. ولأنهم يستحقونه بالقرابة أشبه الميراث. ويعطى الغني والفقير، والذكر والأنثى، لعموم الآية. وكان صلى الله عليه وسلم، يعطي منه العباس، وهو غني ويعطي صفية.
[وسهم لفقراء اليتامى] للآية.

[وهم من لا أب له ولم يبلغ] لحديث: "لا يتم بعد احتلام" واعتبر فقرهم، لأن الصرف إليهم لحاجتهم.
[وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل] فيعطون كما يعطون من الزكاة، للآية.

فصل في احكام الفيء
[والفيء: هو ما أخذ مال الكفار بحق] فأما ما أخذ من كافر ظلماً كمال المستأمن، فليس بفيء.
[من غير قتال] وما أخذ بقتال غنيمة.
[كالجزية والخراج وعشر التجارة من الحربي، ونصف العشر من الذمي، وما تركوه فزعاً، أوعن ميت ولا وراث له] منهم، وأطلقه بعضهم.
[ومصرفه في مصالح المسلمين] لعموم نفعها، ودعاء الحاجة إلى تحصيلها. قال عمر رضي الله عنه: ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب، إلا العبيد فليس لهم فيه شئ وقرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (الحشر: من الآية7) [الآية حتى بلغ] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1.
فقال: هذه استوعبت المسلمين ولئن عشت ليأتين الراعي بسرو2
ـــــــ
1 الحشر من الآية/ 6 إلى الآية/10.
2 قال في النهاية: السرو ما انحدر من الجبل، وارتفع عن الوادي في الأصل. والسرو أيضاً محلة حمير وهي صنعاء.

حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه وقال أحمد: الفيء فيه حق لكل المسلمين، وهو بين الغني والفقير.
[ويبدأ بالأهم فالأهم من سد ثغر وكفاية أهله] لأن أهم الأمور حفظ بلاد المسلمين وأمنهم من عدوهم.
[وحاجة من يدفع عن المسلمين، وعمارة القناطر، ورزق القضاة، والفقهاء وغير ذلك] كعمارة المساجد، وأرزاق الأئمة، والمؤذنين، وغيرها مما يعود نفعه على المسلمين.
[فإن فضل شئ قسم بين أحرار المسلمين غنيهم وفقيرهم] لما تقدم.
[وبيت المال ملك للمسلمين] لأنه لمصالحهم.
[ويضمنه متلفه] كغيره من التلفات.
[ويحرم الأخذ منه بلا إذن الإمام] لأنه افتئات عليه فيما هو مفوض إليه.

باب عقد الذمة

باب عقد الذمةعقد الذمة جائز لأهل الكتاب ومن تدين بدينهم على أن تجرى بيسر عليهم أحكام المسلمين.
[لا تعقد إلا لأهل الكتاب] وهم: اليهود والنصارى، ومن تدين بدينهم كالسامرة يتدينون بشريعة موسى، ويخالفون اليهود في فروع دينهم.
وكالفرنج: وهم الروم، ويقال لهم بنو الأصفر والأشبه أنها لفظة مولدة نسبة إلى فرنجة: بفتح أوله وسكون ثالثه: هي جزيرة من جزائر البحر، النسبة إليها: فرنجي، فروع.1 والصابئين، والروم، والأرمن وغيرهم ممن انتسب إلى شريعة موسى. والأصل في ذلك قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2 وقوله المغيرة يوم نهاوند: أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية رواه البخاري. وفي حديث بريدة: "ادعهم إلى أحد خصال ثلاث: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم
ـــــــ
1 الصواب: أن الفرنج هم قبيلة [frangs] من الجرمان أقامت في فرنسا، وأطلق المسلمون هذا الاسم على جميع النصارى الذين غزوا بلادنا في الحروب الصليبة من سنة 489 إلى سنة 669 هجرية حيث أخزاهم الله ورد كيدهم في نحرهم.
2 التوبة من الآية/ 29.

إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" رواه مسلم.
[أو لمن لهم شبهة كتاب كالمجوس] لأنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع، فذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم بأخذ الجزية منهم. وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي ولأنه صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر رواه البخاري وغيره. ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً، ولأنه عقد مؤبد، فعقده من غير الإمام افتئات عليه.
[ويجب على الإمام عقدها] لعموم ما سبق.
[حيث أمن مكرهم] فإن خاف غائلتهم إذا تمكنوا بدار الإسلام فلا، لحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
[والتزموا لنا بأربعة أحكام. أحدها: أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] في كل حول، للآية.
[الثاني: أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بالخير] لما روي أنه قيل لابن عمر: إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا.
[الثالث: أًن لا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين] لحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
[الرابع: أن تجري عليهم أحكام الإسلام] في حقوق الآدميين في العقود، والمعاملات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، لقوله تعالى:

{وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1 قيل، الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم.
[في نفس، ومال، وعرض، وإقامة حد فيما يحرمونه كالزنى، لا فيما يحلونه كالخمر] لحديث أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما وقيس الباقي. ولأنهم التزموا أحكام الإسلام، وهذه أحكامه. ويقرون على ما يعتقدون حله كخمر، ونكاح ذات محرم، لكن يمنعون من إظهاره لتأذي المسلمين، لأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم جرماً.
[ولا تؤخذ الجزية من امراة، وخنثى، وصبي، ومجنون] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً، لقوله صلى الله عليه وسلم، لمعاذ: "خذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافري" رواه الشافعي في مسنده. وروى أسلم أن عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أمراء الأجناد لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربرها إلا على من جرت عليه المواسي أي من نبتت عانته، لأن المواسي إنما تجري على من أنبت: أراد من بلغ الحلم من الكفار، رواه سعيد. والخنثى: لا يعلم كونه رجلاً فلا تجب عليه مع الشك، والمجنون فما معنى الصبي فقيس عليه.
[وقن] لما روي عن عمر أنه قال: لا جزية على مملوك.
[وزمن، وأعمى، وشيخ فان، وراهب بصومعته] لأن دماءهم محقونة أشبهوا النساء والصبيان.
ـــــــ
1 التوبة من الآية/30.

[ومن أسلم منهم بعد الحول سقطت عنه الجزية] نص عليه، لحديث ابن عباس مرفوعاً: "ليس على المسلم جزية" رواه أحمد وأبو داود. وقال أحمد: قد روي عن عمر أنه قال: إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها وروى أبوعبيد: أن يهودياً أسلم، فطولب بالجزية وقيل: إنما أسلمت تعوذاً. قال إن في الإسلام معاذاً فرفع إلى عمر، فقال عمر: إن في الإسلام معاذاً، وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية وفي قدر الجزية ثلاث روايات:
إحداهن يرجع إلى ما فرضه عمر على الموسر: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر. فرضها عمر كذلك بمحضر من الصحابة، وتابعه سائر الخلفاء بعده، فصار إجماعاً وقال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار رواه البخاري. والثانية يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان. والثالثة: تجوز الزيادة لا النقصان لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقص ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين، لما روى الأحنف بن قيس أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته رواه أحمد. وروى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر، رضى الله عنه، فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم. فقال: أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك.

فصل في احكام اهل الذمة
[ويحرم قتال أهل الذمة، وأخذ مالهم، ويجب على الإمام حفظهم، ومنع من يؤذيهم] لأنهم إنما بذلوا الجزية لحفظهم، وحفظ أموالهم. روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا.
[ويمنعون من ركوب الخيل، وحمل السلاح، ومن إحداث الكنائس، ومن بناء ما انهدم منها، ومن إظهار المنكر، والعيد، والصليب، وضرب الناقوس، ومن الجهر بكتابهم، ومن الاكل والشرب نهار رمضان، ومن شرب الخمر، وأكل الخنزير] لما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمل، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، وأن لا نضرب ناقوساً إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في الصلاة فيما يحضره المسلمون،

وأن لا نخرج صليباً، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثاً1، ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالجنائز، ولا نظهر شركاً، ولا نرغب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، وأن لا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاية، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وفي آخره: فإن نحن غيرنا، أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة، والشقاق رواه الخلال بإسناده، وذكر في آخره فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا وعن ابن عباس: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا أن يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً رواه أحمد، واحتج به. وأمر عمر، رضي الله عنه، بجز نواصي أهل الذمة، وأن يشدوا المناطق، وأن يركبوا الأكف بالعرض رواه الخلال. وقيس عليه إظهار المنكر، وإظهار الأكل في نهار رمضان، لأنه يؤذينا.
[ويمنعون من قراءة القرآن، وشراء المصحف، وكتب الفقه والحديث] لأنه يتضمن ابتذال ذلك بأيديهم، فإن فعلوا لم يصح.
[ومن تعلية البناء على المسلمين] لقولهم في شروطهم: ولا نطلع
ـــــــ
1 الباعوث للنصارى كالاستسقاء للمسلمين وهو اسم سرياني والشعانين عيد عندهم.

عليهم في منازلهم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" .
[ويلزمهم التميز عنا بلبسهم] لما تقدم.
[ويكره لنا التشبه بهم] لحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" وحديث: "ليس منا من تشبه بغيرنا" .
[ويحرم القيام لهم، وتصديرهم في المجالس] لأنه تعظيم لهم كبداءتهم السلام.
[وبداءتهم بالسلام، بكيف أصبحت أو أمسيت ؟ أو كيف أنت، أوحالك ؟ وتحرم تهنئتهم، وتعزيتهم، وعيادتهم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقها" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وما عدا السلام مما ذكر في معناه فقبس عليه. وعنه: تجوز عيادتهم لمصلحة راجحة كرجاء الإسلام. اختاره الشيخ تقي الدين، والآجري، وصوبه في الإنصاف، لأنه صلى الله عليه وسلم عاد صبياً كان يخدمه، وعرض عليه الإسلام فأسلم وعاد أبا طالب، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم.
[ومن سلم على ذمي، ثم علمه سن قوله: رد علي سلامي] لأن ابن عمر مر على رجل فسلم عليه، فقيل له إنه كافر فقال: رد على ما سلمت عليك، فرد عليه، فقال: أكثر الله مالك وولدك، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أكثر للجزية.
[وإن سلم الذمي لزم رده، فيقال: وعليكم] لحديث أبي بصرة قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا غادون فلا تبدؤوهم بالسلام، فإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم" وعن أنس قال: "نهينا، أو أمرنا أن لا نزيد أهل الذمة على: وعليكم" رواه أحمد.
[وإن شمت كافر مسلماً أجابه] يهديك الله. وكذا إن عطس الذمي، لحديث أبي موسى أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله. فكان يقول لهم: "يهديكم الله ويصلح بالكم" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
[وتكره مصافحته] نص عليه، لأنها شعار المسلمين.
ـــــــ
1 التوبة من الآية/30.

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لو سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا.
[أو تعدى على مسلم بقتل، أو فتنة عن دينه انتقض عهده] لأنه ضرر يعم المسلمين، أشبه ما لو قاتلهم، ومثل ذلك إن تجسس، أو آوى جاسوساً.
[ويخير الإمام فيه كالأسير] الحربي بين رق وقتل ومن وفداء، لأنه كافر لا أمان له، قدرنا عليه فى دارنا بغير عقد ولا عهد.
[وماله فيء] في الأصح. قاله في الإنصاف.
[ولا ينقض عهد نسائه وأولاده] نص عليه، لوجود النقض منه دونهم، فاختص حكمه به.
[فإن أسلم حرم قتله، ولو كان سب النبي صلى الله عليه وسلم] لعموم حديث "الإسلام يجب ما قبله" وقياساً على الحربي إذا سبه صلى الله عليه وسلم، ثم تاب بإسلام قبلت توبته إجماعاً. قال في الفروع: وذكر ابن أبي موسى: أن ساب الرسول يقتل ولو أسلم. اقتصر عليه في المستوعب، وذكره ابن البنا في الخصال. قال الشيخ تقي الدين: وهو الصحيح من المذهب.

كتاب البيع


كتاب البيعوهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1 وحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه.
[وينعقد لا هزلاً] أما الهزل بلا قصد لحقيقته فلا ينعقد به لعدم الرضى، وكذا التلجئة، لحديث "وإنما لكل امرئ ما نوى" .
[بالقول الدال على البيع والشراء] وهو الإيجاب، والقبول، فيقول البائع: بعتك، أو ملكتك ونحو ذلك، ثم يقول المشتري: ابتعت، أو قبلت أو اشتريت ونحوها.
[وبالمعاطاة كأعطني بهذا خبزاً، فيعطيه ما يرضيه] لأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكاماً، ولم يبين كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال الإيجاب والقبول، ولو اشترط ذلك لبينه بياناً عاماً، وكذلك في الهبة والهدية والصدقة، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال ذلك فيها. قاله في الشرح.
[وشروطه سبعة: أحدها: الرضى] لقوله تعالى: {...إِلَّا أَنْ تَكُونَ
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 275.

تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ...} 1 وحديث "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان.
[فلا يصح بيع المكره بغير حق] فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه صح، لأنه حمل عليه بحق.
[الثاني الرشد] يعني: أن يكون العاقد جائز التصرف، لأنه يعتبر له الرضى فاعتبر فيه الرشد كالإقرار.
[فلا يصح بيع المميز والسفيه مالم يأذن وليهما] فيصح لقوله تعالى: {...وَابْتَلُوا الْيَتَامَى...} 2 معناه: اختبروهم لتعلموا رشدهم. وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليهما، وينفذ تصرفهما في اليسير بلا إذن لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله ذكره ابن أبى موسى وغيره.
[الثالث: كون المبيع مالاً] وهو: ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة كالمأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، والعقار، والعبيد والإماء، لقوله تعالى: {...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ...} 3 وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم، من جابر بعيراً، ومن أعرابي فرساً، ووكل عروة في شراء شاة، وباع مدبراً وحلساً وقدحاً، وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان و شرائها.
[فلا يصح بيع الخمر، والكلب والميتة] لحديث جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 النساء من الآية/5.
3 البقرة من الآية/275.

والأصنام.." لحديث رواه الجماعة. وعن أبي مسعود قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن رواه الجماعة.
ولا يصح بيع الكلب عندنا مطلقاً، وكذا الميته حتى الجلد، ولو قلنا بطهارته بالدباغ. أفاده والدي أمتع الله به آمين.
[الرابع: أن يكون المبيع ملكاً للبائع، أومأذوناً له فيه وقت العقد] من مالكه أوالشارع كالوكيل وولي الصغير، وناظر الوقف ونحوه، لقوله صلى الله عليه وسلم، لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه الخمسة. قال في الشرح: ولا نعلم فيه خلافاً.
[فلا يصح بيع الفضولي ولو أجيز بعد] لأنه غير مالك، ولا مأذون له حال العقد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر، وعنه: يصح مع الإجازة. وهو قول مالك و إسحاق، وأبي حنيفة، وإن باع سلعة، وصاحبها ساكت، فحكمه حكم ما لو باعها بغير إذنه في قول الأكثرين. قاله في الشرح.
[الخامس: القدرة على تسليمه. فلا يصح بيع الآبق، والشارد، ولو لقادر على تحصيلهما] لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق رواه أحمد. ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الغرر وفسره القاضي وجماعته: بما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر.
[السادس: معرفة الثمن والمثمن] لأن جهالتهما غرر، فيشمله النهي عن بيع الغرر ومعرفته.

[إما بالوصف] بما يكفي في السلم فيما يجوز السلم فيه خاصة فيصح البيع به، ثم إن وجده متغيراً فله الفسخ. قاله في الشرح.
[أو المشاهدة حال العقد، أو قبله بيسير] لا يتغير فيه المبيع عادة لحصول العلم بالمبيع بتلك المشاهدة.
[السابع: أن يكون منجزاً لا معلقاً، كبعتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضى زيد] لأنه غرر، ولأنه عقد معاوضة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالنكاح. قاله في الكافي.
[ويصح بعت وقبلت إن شاء الله] لعدم الغرر، ولأنه يقصد للتبرك لا للتردد.
[ومن باع معلوماً ومجهولاً لم يتعذر علمه] كهذا العبد وثوب ونحوه.
[صح في المعلوم بقسطه] من الثمن، لصدور البيع فيه من أهله، وعدم الجهالة، لإمكان معرفته بتقسيط الثمن على كل منهما، وبطل في المجهول للجهالة.
[وإن تعذر معرفة المجهول] كبعتك هذه الفرس، وحمل الأخرى بكذا.
[ولم يبين ثمن المعلوم فباطل] بكل حال. قال في الشرح: لا أعلم فيه خلافاً.

فصل: ما يحرم وما لايحرم بيعه
فصل مايحرم ومالايحرم بيعه
[ويحرم، ولا يصح بيع، ولا شراء في المسجد] وقال في الشرح: يكره، والبيع صحيح، وكراهته لا توجب الفساد كالغش والتصرية، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" دليل على صحته. انتهى.
[ولا ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الذي عند المنبر] لأنه الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم، فاختص به الحكم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1 والنهي يقتضي الفساد، وأما النداء الأول فزاده عثمان رضي الله عنه، لما كثر الناس.
[وكذا لو تضايق وقت المكتوبة] أي: فلا يصح البيع، ولا الشراء قياساً على الجمعة.
[ولا بيع العنب، والعصير لمتخذه خمراً، ولا بيع البيض، والجوز ونحوهما للقمار، ولا بيع السلاح في الفتنة، ولأهل الحرب، أو قطاع الطريق] لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2 ولأنه عقد على عين معصية الله تعالى بها فلم يصح، كإجارة الأمة للزنى والزمر، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلاح في الفتنة قاله أحمد.
ـــــــ
1 الجمعة من الآية/9.
2 المائدة من الآية/3.

[ولا بيع قن مسلم لكافر لا يعتق عليه] لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 كان يعتق عليه كأبيه وابنه وأخيه صح، لأنه وسيلة إلى حريته، ولأن ملكه لا يستقر عليه بل يعتق في الحال.
[ولا بيع على بيع المسلم لقوله لمن اشترى شيئاً بعشرة أعطيك مثله بتسعة] لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" .
[ولا شراؤه على شرائه، كقوله لمن باع شيئاً بتسعة: عندي فيه عشرة] لأن الشراء يسمى بيعاً، فيدخل في الحديث السابق، لأنه في معناه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم، وهو محرم.
[وأما السوم على سوم المسلم مع الرضى الصريح] فحرام، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" رواه مسلم. ويصح العقد، لأن المنهى عنه السوم لا البيع، فإن وجد منه ما يدل على عدم الرضى لم يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم، باع فيمن يزيد حسنه الترمذي. قال في الشرح: وهذا إجماع، لأن المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.
[وبيع المصحف] حرام قال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة. وقال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها، قال في الشرح: وممن كره بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم. ويصح العقد، لأن أحمد رخص في شرائه وقال: هو
ـــــــ
1 النساء من الآية/140.

أهون، فإن أبيع على كافر لم يصح. رواية واحدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم رواه مسلم. فلم يجز تمليكهم إياه، وتمكينهم منه.
[والأمة التي يطؤها قبل استبرائها فحرام] لأن عمر، رضي الله عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها، وقال: ما كنت لذلك بخليق.. وفيه قصة رواه عبد الله بن عبيد بن عمير. ولأن فيه حفظ مائه، وصيانة نسبه فوجب الاستبراء قبل البيع.
[ويصح العقد] لأنه يجب الاستبراء على المشتري، لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عام أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود.
[ولا يصح التصرف في المقبوض بعقد فاسد، يضمن هو وزيادته كمغصوب] لأنه قبضه على وجه الضمان ولا بد. قاله فى القواعد. وكذلك المقبوض على وجه السوم. قال ابن أبى موسى: إن أخذه مع تقدير الثمن ليريه، فإن رضوه ابتاعه، فهو مضمون بغير خلاف. قاله في القواعد. ويضمن بالقيمة. نص عليه في رواية ابن منصور، وأبي طالب، وقال أبو بكر عبد العزيز: يضمن بالمسمى، واختاره الشيخ تقي الدين.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع[وهي قسمان: صحيح لازم، وفاسد مبطل للعقد. فالصحيح: كشرط تأجيل الثمن أو بعضه] لقوله تعالى: {...إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} الآية1.
[أو رهن أو ضمين معينين] لأن ذلك من مصلحة العقد.
[أو شرط صفة في المبيع، كالعبد كاتباً أو صانعاً أو مسلماً، والأمة بكراً أو تحيض، والدابة هملاجة أو لبوناً أو حاملاً، والفهد أو البازي صيوداً، فإن وجد المشروط لزم البيع] لصحة الشرط قال في الشرح: لا نعلم في صحته خلافاً.
[وإلا فللمشتري الفسخ] لفقد الشرط، ولحديث: "المسلمون على شروطهم" وقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه. ذكره البخاري.
[أو أوش فقد الصفة] المشروطة إن لم يفسخ. كأرش عيب ظهر عليه، وإن تعذر رد تعين أرش كمعيب تعذر رده.
[ويصح أن يشترط البائع على المشتري منفعة ما باعه مدة معلومة كسكنى الدار شهراً، وحملان الدابة إلى محل معين] نص عليه، لحديث جابر أنه باع النبى صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.

[ويصح أن يشترط المشتري على البائع حمل ما باعه] إلى موضع معلوم، فإن لم يكن معلوماً لم يصح الشرط، فلو شرط الحمل إلى منزله والبائع لا يعرفه لم يصح الشرط.
[أو تكسيره، أو خياطته، أو تفصيله] احتج أحمد في جواز الشرط بأن محمد ابن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها واشتهر ذلك فلم ينكر. قاله في الكافي، ولأن ذلك بيع وإجارة، ولا يجمع بين شرطين مع ذلك وإن جمع بين شرطين من غير النوعين الأولين: كحمل حطب وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله، بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث ابن عمرو، رواه الترمذي. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط، فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن شرطين في البيع: أي في حديث عبد الله بن عمرو. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وروي عن أحمد في تفسير الشرطين المنهي عنهما: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد أي: ولا مقتضاه.

فصل في الفاسد المبطل
[والفاسد المبطل، كشرط بيع آخر، أو سلف، أو قرض، أو إجارة، أو شركة، أو صرف للثمن، وهو بيعتان في بيعة، المنهي عنه] في الحديث، وهذا منه. قاله أحمد، ولحديث: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع" صححه الترمذي.
[وكذا كل ما كان في معنى ذلك مثل] بعتك هذا على.
[أن تزوجني ابنتك، أوأزوجك ابنتي، أو تنفق على عبدي، أو دابتي] لأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كنكاح الشغار. وقال ابن مسعود: صفقتان في صفقة ربا وهذا قول الجمهور. قاله في الشرح. وإن شرط أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو أن لا يبيعه، أو لا يهبه، ولا يعتقه، أو إن عتق فالولاء له بطل الشرط وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" متفق عليه. والبيع صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم، في حديث بريرة أبطل الشرط، ولم يبطل العقد وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط. قاله في الشرح.
[ومن باع ما يذرع على أنه عشرة، فبان أكثر أو أقل صح البيع] والزيادة للبائع والنقص عليه.
[ولكل الفسخ] لضرر الشركة، ما لم يعط البائع الزيادة للمشتري

مجاناً في المسألة الأولى، أو يرضى المشتري بأخذه بكل الثمن في الثانية فلا فسخ، لعدم فوات الغرض، وإن كان المبيع نحو صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أقل، أو أكثر صح البيع ولا خيار، والزيادة للبائع، والنقص عليه، لعدم الضرر. قال معناه في الشرح.

باب الخيار

باب الخيار[وأقسامه سبعة أحدها: خيار المجلس، ويثبت للمتعاقدين من حين العقد إلى أن يتفرقا من غير إكراه] لأن فعل المكره كعدمه، ويثبت في البيع عند أكثر أهل العلم، ويروى عن عمر وابنه وابن عباس وأبي برزة الأسلمي، لحديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه.
[ما لم يتبايعا على أن لا خيار] فيلزم البيع بمجرد العقد.
[أو يسقطاه بعد العقد] فيسقط لأن الخيار حق للعاقد، فسقط بإسقاطه.
[وان أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر] لحديث: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلكً فقد وجب البيع" وفي لفظ "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أًن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجبً البيع" . متفق عليهما.
[وينقطع الخيار بموت أحدهما] لأن الموت أعظم الفرقتين
[لا بجنونه] في المجلس.
[وهو على خياره إذا أفاق] حتى يجتمعا، ثم يفترقا.

[وتحرم الفرقة من المجلس خشية الاستقالة] لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً، وفيه: "ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" رواه النسائي والأثرم والترمذي وحسنه. وما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاً يعجبه مشى خطوات ليلزم البيع محمول على أنه لم يبلغه الخبر.
[الثاني: خيار الشرط: وهو أن يشرطا، أو أحدهما الخيار إلى مدة معلومة فيصح وإن طالت المدة] بالإجماع قاله في الكافي، لحديث "المسلمون على شروطهم" ولم يثبت ما روى عن ابن عمر من تقديره بثلاث، وروي عن أنس خلافه، قاله في الشرح.
[لكن يحرم تصرفهما في الثمن والمثمن مدة الخيار] إلا بما يحصل به تجربة المبيع، إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه، ويبطل خياره كالمعيب.
[وينتقل الملك من حين العقد] للمشترى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" رواه مسلم. فجعل المال للمبتاع باشتراطه، وهو عام في كل بيع، فيشمل بيع الخيار.
[فما حصل في تلك المدة من النماء المنفصل فللمنتقل له ولو أن الشرط للآخر فقط] ولو فسخ البيع، لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى أن الخراج بالضمان رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[ولا يفتقر فسخ من يملكه إلى حضور صاحبه ولإرضائه] لأنه عقد جعل إلى اختياره، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه كالطلاق.

ونقل أبو طالب له الفسخ برد الثمن، وجزم به الشيخ تقي الدين كالشفيع، وصوبه في الإنصاف، ويحمل كلام من أطلق عليه.
[فإن مضى زمن الخيار ولم يفسخ صار لازماً] لئلا يفضي إلى بقاء الخيار أكثر من مدته المشروطة.
[ويسقط الخيار بالقول] لما تقدم.
[وبالفعل، كتصرف المشتري في المبيع بوقف، أوهبة، أو سوم، أو لمس لشهوة] لأن ذلك دليل على الرضى.
[وينفذ تصرفه إن كان الخيار له فقط] وإلا لم ينفذ، لأن علق البائع لم تنقطع عنه إلا عتق المشتري، لقوة العتق وسرايته.
[الثالث: خيار الغبن: وهو أن يبيع ما يساوي عشرة بثمانية، أو يشتري ما يساوي ثمانية بعشرة] وقيل يقدر بالثلث، اختاره أبو بكر، وجزم به في الإرشاد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير" وظاهر كلام الخرقي أن الخيار يثبت بمجرد الغبن، وإن قل، والأولى أن يقيد بما يخرج عن العادة. قاله في الشرح.
[فيثبت الخيار ولا أرش مع الإمساك] لأن الشرع لم يجعله له، ولم يفت عليه جزء من المبيع يأخذ الأرش في مقابلته، وله ثلاث صور. إحداها: تلقي الركبان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار" رواه مسلم. الثانية: النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري لنهيه صلى الله عليه وسلم، عن النجش متفق عليه.

والشراء صحيح في قول أكثر العلماء لأن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد، لكن له الخيار إذا غبن، قال معناه في الشرح. الثالثة: المسترسل وهو من جهل القيمة من بائع ومشتر ولا يحسن يماكس فله الخيار إذا غبن لجهله بالمبيع أشبه القادم من سفر.
[الرابع: خيار التدليس: وهو أن يدلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن، كتصرية اللبن في الضرع، وتحمير الوجه، وتسويد الشعر فيحرم] لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" .
[ويثبت للمشتري الخيار] في قول عامة أهل العلم. قاله في الشرح. لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر" متفق عليه. وكل تدليس يختلف به الثمن، يثبت خيار الرد قياساً على التصرية، قاله في الكافي.
[حتى ولو حصل التدليس من البائع بلا قصد] قاله القاضي لدفع ضرر المشتري أشبه العيب.
[الخامس: خيار العيب] والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادة التجار، ويحرم على البائًع كتمه، لحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له" رواه أحمد وأبو داود والحاكم
[فإذا وجد المشتري بما اشتراه عيباً يجهله، خير بين رد المبيع بنمائه المتصل وعليه أجرة الرد] لأن الملك ينتقل عنه باختياره الرد، فتعلق به حق التوفية.
[ويرجع بالثمن كاملاً] لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم

يسلم له فثبت له الرجوع بالثمن كما في المصراة. وأما النماء المنفصل كالكسب والأجرة وما يوهب له، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[وبين إمساكه. ويأخذ الأرش] لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن، فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله، وهو الأرش. والأرش: قسط ما بين قيمته صحيحاً ومعيباً من ثمنه. نص عليه. ومن اشترى ما يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم فلا خيار له. لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[ويتعين الأرش مع تلف المبيع عند المشتري] لتعذر الرد، وعدم وجود الرضى به ناقصاً. وقال في الشرح: وإذا زال ملك المشتري بعتق أو موت أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش، وبه قال مالك والشافعى. وكذا إن باعه غير عالم بعيبه. انتهى.
[ما لم يكن البائع علم بالعيب وكتمه تدليساً على المشتري، فيحرم ويذهب على البائع، ويرجع المشتري بجميع ما دفعه له] نص عليه لأنه غر المشتري.
[وخيار العيب على التراخي] لأنه لدفع ضرر متحقق، فلم يبطل بالتأخير. وقال الشيخ تقي الدين: يجبر المشتري على رده أو أخذ أرشه، لأن البائع يتضرر بالتأخير.
[لا يسقط إلا إن وجد من المشتري ما يدل على رضاه، كمتصرفه واستعماله لغير تجربة] قال في المنتهى وشرحه: فيسقط رد كأرش، لقيام دليل الرضى مقام التصريح. انتهى. وقال في الشرح: قال ابن المنذر: لأن الحسن وشريحاً وعبيد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري

وأصحاب الرأي يقولون: إذا اشترى سلعة فعرضها للبيع بعد علمه بالعيب بطل خياره. وهذا قول الشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً. انتهى. وقال في الفروع: وإن فعله عالماً بعيبه، أو تصرف فيه بما يدل على الرضى أو عرضه للبيع، أو استغله، فلا. أي: فلا أرش. ذكره ابن أبي موسى والقاضي، واختلف كلام ابن عقيل. وعنه: له الأرش. وهو أظهر، لأنه وإن دل على الرضى فمع الأرش كإمساكه. اختاره الشيخ، قال وهو قياس المذهب، وقدمه في المستوعب. انتهى.
[ولا يفتقر الفسخ إلى حضور البائع] كالطلاق.
[ولا لحكم الحاكم] لأنه مجمع عليه فلم يحتج إلى حاكم، كفسخ المعتقة للنكاح: قاله في الكافي.
[والمبيع بعد الفسخ أمانة بيد المشتري] لحصوله بيده بلا تعد، لكن إن قصر في رده فتلف ضمنه لتفريطه.
[وإن اختلفا عند من حدث العيب مع الاحتمال ولا بينة، فقول المشتري بيمينه] لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فيحلف على البت أنه اشتراه وبه العيب، أو أنه ما حدث عنده ويرده، وعنه القول قول البائع مع يمينه على البت، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي استحقاق الفسخ والبائع ينكره. قضى به عثمان رضي الله عنه، وهو مذهب الشافعي، واستظهره ابن القيم في الطرق الحكمية.
[وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما] كالإصبع الزائدة والجرح الطري.
[قبل بلا يمين] لعدم الحاجة إليها.

[السادس: خيار الخلف في الصفة، فإذا وجد المشتري ما وصف له، أو تقدمت رؤيته العقد بزمن يسير متغيراً فله الفسخ] وتقدم في السادس من شروط البيع.
[ويحلف إن اختلفا] لأنه غارم، قاله في الشرح.
[السابع: خيار الخلف في قدر الثمن، فإذا اختلفا في قدره حلف البائع: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم المشتري: ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ويتفاسخان] وبه قال شريح والشافعي، ورواية عن مالك، لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادان" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وزاد فيه: "والبيع قائم بعينه" ولأحمد في رواية: "والسلعة كما هي" وفي لفظ "تحالفا" . وروي عن ابن مسعود أنه باع الأشعث رقيقاً من رقيق الإمارة فقال: بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث: اشتريت منك بعشرة، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول قول البائع، أو يترادان البيع" . قال: فإني أرد البيع وعن عبد الملك بن عبدة مرفوعاً "إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع، ثم كان للمشتري الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك" رواهما سعيد. وظاهر هذه النصوص أنه يفسخ من غير حاكم. قاله في الشرح.

فصل في تملك المشتري للمبيع
[ويملك المشتري المبيع مطلقاً بمجرد العقد] لقول ابن عمر: مضت السنة أن ما ادركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المشتري رواه البخاري.
[ويصح تصرفه فيه قبل قبضه] لقول ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالنقيع1 بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا باس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شئ" رواه الخمسة. وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، في البكر: "هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت" إلا المبيع بصفة، أو رؤية متقدمة فلا يصح التصرف فيه قبل قبضه، وإن تلف فمن ضمان البائع، قاله في الشرح.
[وإن تلف فمن ضمانه] أي للمشتري، لقوله صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان" وهذا نماؤه للمشتري فضمانه عليه.
[إلا المبيع بكيل، أو وزن، أوعد، أو ذرع، فمن ضمان بائعه حتى يقبضه مشتريه] لتلفه قبل تمام ملك المشتري عليه، فأشبه ما تلف قبل تمام البيع. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 النقيع: هو موضع قرب المدينة كان يستنقع فيه الماء، حماه سيدنا عمر رضي الله عنه لخيل المجاهدين. كذا في النهاية، وقال الحافظ: بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي: في بقيع الغرقد.

[ولا يصح تصرفه فيه ببيع، أو هبة، أو رهن قبل قبضه] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن البتي، قال ابن عبد البر: وأظنه لم يبلغه الحديث1 أي قوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه. وقال ابن عمر رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهون أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم متفق عليه. دل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه، وبمفهومه على حل بيع ما عداه.
[وإن تلف بآفة سماوية قبل قبضه انفسخ العقد] لأنه من ضمان بائعه.
[وبفعل بائع، أو أجنبي، خيرالمشتري بين الفسخ، ويرجع بالثمن] على البائع لأنه مضمون عليه إلى قبضه.
[أو الإمضاء. ويطالب من أتلفه ببدله] بمثل مثلي، وقيمة متقوم.
[والثمن كالمثمن في جميع ما تقدم] إذا كان معيناً وإن كان في الذمة فله أخذ بدله إن تلف قبل قبضه، لاستقراره في ذمته.
ـــــــ
1 كذا في الأصل والجملة مقتضبة من الشرح ونص عبارة الشرح كما يلي: ولم نعلم بين أهل العلم في ذلك خلافاً إلا ما حكي عن البتي: أنه لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه.

فصل في قبض المبيع
[ويحصل قبض المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، والمعدود بالعد، والمذروع بالذرع] لحديث عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم قال: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل" رواه أحمد، ورواه البخاري تعليقاً. وحديث "إذا سميت الكيل فكل" رواه الأثرم وقيس العد والذرع على الكيل والوزن. وروي عن أحمد: أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التميز، وما بيع جزافاً فقبضه نقله، لحديث ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه مسلم. وقبض الذهب، والفضة، والجواهر باليد، وقبض الحيوان أخذه بزمامه، أو تمشيته من مكانه، وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه، لأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف. قاله في الكافي.
[بشرط حضور المستحق أو نائبه] لأنه يقوم مقامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا ابتعت فاكتل" .
[وأجرة الكيال، والوزان، والعداد، والذراع، والنقاد على الباذل] لأنه تعلق به حق توفية، ولا تحصل إلا بذلك، أشبه السقي على بائع الثمرة.
[وأجرة النقل على القابض] نص عليه، لأنه لا يتعلق به حق توفية.
[ولا يضمن ناقد حاذق أمين خطأ] سواء كان متبرعاً، أو بأجرة لأنه أمين.
[وتسن الإقالة للنادم من بائع ومشتر] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من أقال مسلماً أقال الله عثرته يوم القيامة" رواه ابن ماجه وأبو داود. وليس فيه ذكر يوم القيامة. وهي فسخ لا بيع لإجماعهم على جوازها في السلم قبل قبضه، مع النهي عن بيع الطعام قبل قبضه.

باب الربا

باب الرباوهو محرم لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} الآيات 1 وعن أبي هريرة مرفوعاً: "اجتنبوا السبع الموبقات" ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحًق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغًافلات المؤمنات" وحديث "لًعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" متفق عليهما. وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة.
وأجمعت الأمة على تحريمهما، وقد روي في ربا الفضل عن ابن عباس ثم رجع، قاله الترمذي وغيره، وقوله لا ربا إلا في النسيئة محمول على الجنسين، قاله في الشرح. والأعيان الستة المنصوص عليها في حديث أبي سعيد مرفوعاً: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء" رواه أحمد والبخاري. ثبت الربا فيها بالنص والاجماع واختلف فيما سواه، قاله في الشرح.
[يجري الربا في كل مكيل وموزون ولو لم يؤكل] على أشهر الروايات عن أحمد. أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس،
ـــــــ
1 البقرة من الآية/275/276/278.

وعلة الأعيان الأربعة كونهن مكيلات جنس: وبه قال النخعي و الزهري والثوري. قاله في الشرح. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل بع الجمع1 بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً2" وقال في الميزان مثل ذلك رواه البخاري. قال المجد في المنتقى: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها، لأن قوله في الميزان، أي في الموزون، وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا. انتهى.
[فالمكيل: كسائر الحبوب والأبازير والمائعات، لكن الماء ليس بربوي] لعدم تموله عادة ولأن الأصل إباحته.
[ومن الثمار: كالتمر والزبيب والفستق والبندق واللوز والبطم والزعرور والعناب والمشمش والزيتون والملح] لأنها مكيلة مطعومة. وقد روى معمر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلاً بمثل رواه مسلم. والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل والوزن، فدل على أنه لا يجري إلا في مطعوم يكال أو يوزن. قاله في الكافي. وقال في الشرح: فالحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن، والطعم من جنس واحد، ففيه الربا - رواية واحدة - كالأرز والدخن والذرة ونحوها. وهذا قول الأكثر. قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث. انتهى.
[والموزون: كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وغزل
ـــــــ
1 الجمع كما في النهاية: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع. وقيل: الجمع: تمر مختلط من أنواع متفرقة، وليس مرغوباً فيه، ولا يختلط إلا لرداءته.
2 الجنيب كما في النهاية أيضاً: نوع جيد معروف من أنواع التمر.

الكتان والقطن والحرير والشعر والقنب والشمع والزعفران والخبز والجبن] لجريان العادة بوزنها عند أهل الحجاز، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة" رواه أبو داود والنسائي.
[وما عدا ذلك فمعدود لا يجري فيه الربا ولو مطعوماً، كالبطيخ والقثاء والخيار والجوز والبيض والرمان] لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب" أخرجه الدارقطني. وقال: الصحيح أنه من قوله، ومن رفعه فقد وهم.
[ولا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن] لزيادة ثمنه بصناعته.
[كالثياب] قال أحمد: لا بأس بالثوب بالثوبين، وهذا قول أكثر أهل العلم. قاله في الشرح، لقول عمار: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين، فما كان يداً بيد فلا بأس به، إنما الربا في النسء إلا ما كيل أو وزن.
[والسلاح والفلوس] ولو نافقة.
[والأوانى] لخروجها عن الكيل والوزن، ولعدم النص، والإجماع. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، وهذا هو الصحيح. قاله في الشرح.
[غير الذهب والفضة] فيجرى فيهما، للنص عليهما.

فصل: في بيع المكيل بجنسه
[فإذا بيع المكيل بجنسه: كتمر بتمر، أوالموزون بجنسه: كذهب بذهب، صح بشرطين: المماثلة في القدر، والقبض قبل التفرق] لقوله فيما تقدم "مثلاً بمثل يداً بيد" رواه أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "لا تبيعوا الذهب بالذًهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا1 بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" متفق عليه.
[وإذا بيع بغير جنسه، كذهب بفضة، وبر بشعير، صح بشرط القبض قبل التفرق، وجاز التفاضل] لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث عبادة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد" رواه أحمد ومسلم. وعن عمر مرفوعاً "الذهب بالورق ربا إلا هاءً وهاءً، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، وًالتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد" رواه أبو داود.
[وإن بيع الًمكيل بالموزون كبر بذهب مثلاً جاز التفاضل والتفرق قبل
ـــــــ
1 قال في النهاية: ولا تشفوا: أي لا تفضلوا. والشف: النقصان أيضاً فهو من الأضداد، يقال: شف الدرهم يشف إذا زاد وإذا نقص.

القبض] رواية واحدة، لأن العلة مختلفة، فجاز التفرق كالثمن بالمثمن. قاله في الشرح.
[ولا يصح بيع المكيل بجنسه وزناً ولا الموزون بجنسه كيلاً] لقوله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل" رواه الأثرم. ولأنه لا يحصل العمل بالتساوي مع مخالفة المعيار الشرعي للتفاوت في الثقل والخفة، فإن كيل المكيل، أو وزن الموزون فكانا سواء، صح البيع للعلم بالتماثل.
[ويصح بيع اللحم بمثله إذا نزع عظمه] رطباً ويابساً. فإن لم ينزع عظمه لم يصح للجهل بالتساوي، أو بيع يابس منه برطب لم يصح لعدم التماثل.
[وبحيوان من غير جنسه] كقطعة من لحم إبل بشاة، لأنه ليس أصله ولا جنسه، فجاز كما لو بيع بغير مأكول. وفيه وجه لا يصح، لحديث: نهي عن بيع الحيً بالميت ذكره أحمد واحتج به. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم به نسيئة عند جمهور الفقهاء. قاله في الفروع. وعلم منه أنه لا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه، لما روى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ. ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز، كالزيت بالزيتون. قاله في الكافي.
[ويصح بيع دقيق ربوي بدقيقه، إذا استويا نعومة أو خشونة] لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال.

[ورطبه برطبه] كرطب برطب، وعنب بعنب، مثلاً بمثل، يداً بيد.
[ويابسه بيابسه] كتمر بتمر، وزبيب بزبيب، مثلاً بمثل، يداً بيد.
[وعصيره بعصيره] كمد ماء عنب بمثله يداً بيد.
[ومطبوخه بمطبوخه] كسمن بقري بسمن بقري، مثلاً بمثل، يداً بيد. ويصح بيع خبز بر بخبز بر وزناً، مثلاً بمثل.
[إذا استويا نشافاً أو رطوبة] لا إن اختلفا.
[ولا يصح بيع فرع بأصله: كزيت بزيتون، وشيرج بسمسم، وجبن بلبن. وخبز بعجين، وزلابية بقمح] لعدم التساوي أو الجهل به. ولا يصح بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب. وبه قال ابن المسيب، لحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا يبس" ؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك رواه مالك وأبو داود.
[ولا بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه] لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة رواه البخاري. قال جابر: المحاقلة: بيع الزرع بمائة فرق من الحنطة ولأن بيع الحب بجنسه جزافاً من أحد الجانبين فلم يصح للجهل بالتساوي.
[ويصح بغير جنسه] من حب وغيره، كبيع بر مشتد في سنبله بشعير أو فضة، لعدم اشتراط التساوي، ولمفهوم حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه مسلم.

[ولا يصح بيع ربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمثلهما] أو بمدين أو بدرهمين.
[أو دينار ودرهم بدينار] حسماً لمادة الربا. نص عليه أحمد في مواضع، لما روى فضالة، قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بقلادة فيها ذهب وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة. فقال: صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينهما" ، قال: فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود. ولمسلم أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: "الذهب بالذهب وزناً بوزن" فإن كان ما مع الربوي يسيراً لا يقصد، كخبز فيه ملح بمثله أو بملح، فوجوده كعدمه، لأن الملح لا يؤثر في الوزن، وكحبات شعير في حنطة.
[ويصح: أعطني بنصف هذا الدرهم فضة وبالآخر فلوساً] لوجود التساوي في الفضة، والتقابض فى الفلوس. ويحرم ربا النسيئة بين مبيعين اتفقا في علة ربا الفضل، فلا يباع أحدهما بالآخر نسيئة. قال في الشرح: بغير خلاف نعلمه عند من يعلل به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" إلا إن كان أحد العوضين نقداً أي: ذهباً أو فضة كسكر بدراهم، وخبز بدنانير، وحديد أو رصاص أو نحاس بذهب أو فضة فيصح، وإلا لا نسد باب السلم في الموزونات غالباً، وقد أرخص فيه الشرع، وأصل رأس ماله النقدان، قال في الشرح: ومتى كان أحد العوضين ثمناً، والآخر مثمناً جاز النساء فيهما، بغير خلاف. وقال في الكافي: ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزوناً كان

أو غيره، لأنها رؤوس الأموال، فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزاً. انتهى. إلا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والقبض. نص عليه إلحاقاً لها بالنقد، خلافاً لجمع، منهم ابن عقيل والشيخ تقي الدين، وتبعهم في الإقناع. وما لا يدخله ربا الفضل، كالثياب والحيوان، لا يحرم النسء فيه، لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يجهز جيشاً، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه.
[ويصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ومتماثلاً وزناً لا عداً، بشرط القبض قبل التفرق] لحديث أبي سعيد السابق متفق عليه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد. قاله في الشرح.
[ويصح أن يعوض أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه] ويكون صرفاً بعين وذمة في قول الأكثرين، ومنع منه ابن عباس وغيره. قال في الشرح: ولنا حديث ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شئ" رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم "أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير".

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار[من باع أو وهب أو رهن، أو وقف داراً، أو أقر أو أوصى بها] أو جعلها صداقاً ونحوه.
[تناول أرضها] إن لم تكن موقوفة، كمصر والشام والعراق. ذكره في المبدع.
[وبناءها وفناءها إن كان] لأن غالب الدور ليس لها فناء: وهو ما اتسع أمامها.
[ومتصلاً بها لمصلحتها، كالسلاليم، والرفوف المسمرة، والأبواب المنصوبة، والخوابي المدفونة] لأنها لمصلحتها كحيطانها.
[وما فيها من شجر وعرش] لاتصالها بها.
[لا كنزاً وحجراً مدفونين] لأن ليس من أجزائها، إنما هو مودع فيها للنقل عنها، فهو كالقماش. قاله في الكافي.
[ولا منفصل كحبل ودلو وبكرة وفرش ومفتاح] لعدم اتصالها، واللفظ لا يتناولها. وقيل إن البيع يشمل ما جرت العادة بتبعيته، ولا يدخل ما فيها من معدن جار وماء نبع، لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه. ويدخل ما فيها من معدن جامد، كمعدن الذهب والفضة والكحل، لأنه من أجزائها أو متروك للبقاء فيها، فهو كالبناء. وإن ظهر ذلك بالأرض، ولم يعلم به بائع فله الخيار، لما روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا

عمر بن عبد العزيز أرضاً، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض، ولم نبع المعدن، وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم فأخذه وقبله ورد عليهم المعدن. وعنه إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه، وظاهره أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خياراً، قاله في الشرح.
[وإن كان المباع ونحوه أرضاً، دخل ما فيها من غراس وبناء] ولو لم يقل بحقوقها، لأنهما من حقوقها. وكذا إن باع بستاناً، لأنه إسم للأرض والشجر والحائط.
[لا ما فيها من زرع لا يحصد إلا مرة، كبر وشعير وبصل ونحوه] لأنه مودع في الأرض يراد للنقل، أشبه الثمرة المؤبرة. قال في الشرح: وإن أطلق البيع فهو للبائع. لا أعلم فيه خلافاً.
[ويبقى للبائع إلى أول وقت أخذه بلا أجرة] لأن المنفعة مستثناة له.
[ما لم يشترطه المشتري لنفسه] فيكون له، ولا تضر جهالته لأنه دخل في البيع تبعاً للأرض فأشبه الثمرة بعد تأبيرها.
[وإن كان يجز مرة بعد أخرى: كرطبة1 وبقول، أو تكرر ثمرته: كقثاء، وباذنجان، فالأصول للمشتري] لأنه يراد للبقاء، أشبه الشجر.
[والجزة الظاهرة واللقطة الأولى للبائع] لأنه يؤخذ مع بقاء أصله أشبه الشجر المؤبر.
[وعليه قطعهما في الحال] لأنه ليس له حد ينتهي إليه، وربما ظهر غير ما كان ظاهراً فيعسر التمييز ما لم يشترط المشترى دخوله في المبيع، فإن شرطه كان له، لحديث "المسلمون عند شروطهم" .
ـــــــ
1 الرطبة: بفتح الراء الفصة، فإذا يبست فهي وقت وجت.

فصل اذا بيع النخل
[وإذا بيع شجر النخل بعد تشقق طلعه، فالثمر للبائع متروكاً إلى أول وقت أخذه] إلا أن يشترطه المبتاع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترطها المبتاع" متفق عليه. والتأبير: التلقيح. إلا أنه لا يكون حتى يتشقق، فعبر به عن ظهور الثمرة. وهذا قول الأكثر. وحكى ابن أبي موسى رواية عن أحمد أنه إذا تشقق ولم يؤبر، أنه للمشتري، لظاهر الحديث. قاله في الشرح، واختارها الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق.
[وكذا إن بيع شجر ما ظهر من عنب وتين وتوت وكرمان وجوز، أو ظهر من نوره] مما له نور يتناثر.
[كمشمش وتفاح وسفرجل ولوز] وخوخ.
[أو خرج من أكمامه] جمع كم وهو: الغلاف.
[كورد] وياسمين ونرجس وبنفسج وقطن يحمل في كل سنة، فما بدا من عنب ونحوه، أو ظهر من نوره، أو خرج من أكمامه فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، لأن ذلك كتشقق الطلع في النخل، فقيس عليه.
[وما بيع قبل ذلك فللمشتري] لمفهوم الحديث السابق في النخل، وما عداه فبالقياس عليه، فإن أبر بعضه، فما أبر فللبائع، وما لم يؤبر

فللمشتري. نص عليه للخبر، وقال ابن حامد: الكل للبائع لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر واختلاف الأيدي، فجعل ما لم يظهر تبعاً للظاهر. قاله في الكافي.
[ولا تدخل الأرض تبعاً للشجر] إذا باع شجراً.
[فإذا باد، لم يملك] 1 المشتري.
[غرس مكانه] لأنه لم يملكه، وللمشتري الدخول. لمصلحة الشجر، لثبوت حق الاجتياز له، ولا يدخل لتفرج ونحوه.
ـــــــ
1 في بعض نسخ المتن باد الشجر.

فصل: لايباع التمر فبل صلاحه
[ولا يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. نهى البائع والمبتاع متفق عليه. والنهي يقتضي الفساد. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث.
[لغير مالك الأصل] فإن كان له صح لحصول التسليم للمشتري على الكمال، كبيعها مع أصلها. قال في الشرح: وبيع الثمرة قبل الصلاح مع الأصل جائز بالإجماع.
[ولا بيع الزرع قبل اشتداد حبه] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشترى رواه مسلم. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به.
[لغير مالك الأرض] فإن باعه لمالك الأرض صح، لحصول التسليم

للمشتري على الكمال، فإن بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح، أو الزرع قبل اشتداده بشرط القطع في الحال، صح إن انتفع بهما، وليسا مشاعين، لأن المنع لخوف التلف وحدوث العاهة قبل الأخذ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أنس "أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" رواه البخاري. وهذا مأمون فيما يقطع فيصح بيعه. فإن باعها بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية1 ليأكلها رطباً فأتمرت، بطل البيع، وعنه: لا يبطل، ويشتركان في الزيادة، وعنه: يتصدقان بها، قاله في الشرح. وإن اشترى خشباً فأخر قطعه فزاد، صح البيع، ويشتركان في زيادته. نص عليه في رواية ابن منصور. وقدم في الفائق: أن الزيادة للبائع، واختار ابن بطة أن الزيادة للمشتري وعليه الأجرة. حكى ذلك في الإنصاف.
[وصلاح بعض ثمرة شجر صلاح] لجميعها. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً. وصلاح،
[لجميع نوعها الذي بالبستان] لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق. ولأنه يتتابع غالباً، هذا إذا اشترى جميعه، فإن اشترى بعضه فلكل شجرة حكم بنفسها على الصحيح من المذهب. قاله في الإنصاف، وقدمه في المغني وغيره.
[فصلاح البلح، أن يحمر أو يصفر] لأنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل لأنس: وما زهوها؟ قال: "تحمار وتصفار" أخرجاه.
ـــــــ
1 قال في القاموس: العرية: النخلة المعراة، والتي أكل ما عليها، وما عزل من المساومة عند بيع النخل.

[والعنب أن يتموه بالماء الحلو] لحديث أنس مرفوعاً "نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد" رواه الخمسة إلا النسائي.
[وبقية الفواكه طيب أكلها وظهور نضجها] لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب. وفي رواية: حتى تطعم متفق عليه.
[وما يظهر فماً بعد فم كالقثاء والخيار أن يؤكل عادة] كالثمر. قال في الشرح: ويجوز لمشترى الثمرة بيعها في شجرها. روي ذلك عن الزبير بن العوام، والحسن البصري، وأبي حنيفة، والشافعي، و ابن المنذر. وكرهه ابن عباس وعكرمة وأبو سلمة، لأنه بيع له قبل قبضه، ولنا أنه يجوز له التصرف فيه، فجاز بيعه كما لو قطعه، وقولهم لم يقبضه ممنوع، فإن قبض كل شئ بحسبه، وهذا قبضه التخلية، وقد وجدت. انتهى.
[وما تلف من الثمرة قبل أخذها، فمن ضمان البائع] وهو قول أكثر أهل المدينة قاله في الشرح، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بوضع الجوائح. وفي لفظ قال: "إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟" رواهما مسلم. ولأن مؤنته على البائع إلى تتمة صلاحه.
[ما لم تبع مع أصلها] فمن ضمان المشتري، وكذا لو بيعت لمالك أصلها، لحصول القبض التام، وانقطاع علق البائع عنه.
[أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته] فإن أخره عن عادته فمن

ضمانه لتلفه بتقصيره. قال فى الإنصاف: على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب،. والجائحة: ما لا صنع لآدمي فيها، فإن أتلفها آدمي فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن على البائع، وبين الإمساك، ومطالبة المتلف بالقيمة. قاله في الكافي وغيره.

باب السلم

باب السلمالسلم: لغة أهل الحجاز، والسلف: لغة أهل العراق. سمي سلماً لتسليم رأس ماله في المجلس، وسلفاً لتقديمه، ويقال السلف للقرض. وهو جائز بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن السلم جائز. وقال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} الآية 1. رواه سعيد.
[ينعقد بكل ما بدل عليه] من سلم وسلف ونحوه.
[وبلفظ البيع] لأنه بيع إلى أجل بثمن حال.
[وشروطه سبعة] زائدة على شروط البيع.
[أحدها: انضباط صفات المسلم فيه: كالمكيل، والموزون، والمذروع] لقول عبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن أبزى: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب. فقيل: أكان لهم زرع، أم لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك أخرجاه2. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه، قاله في الكافي.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 أي البخاري ومسلم.

[والمعدود من الحيوان ولو آدمياً] لحديث أبي رافع استسلف النبي صلى الله عليه وسلم، من رجل بكراً رواه مسلم. وعن علي أنه باع جملاً له يدعى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل معلوم رواه مالك والشافعي. قال ابن المنذر: وممن روينا عنه ذلك: ابن مسعود وابن عباس وابن عمر. ولأنه يثبت في الذمة صداقاً، فصح السلم فيه كالنبات. وعنه: لا يصح لأن الحيوان لا يمكن ضبطه، لأنه يختلف اختلافاً متبايناً مع ذكر أوصافه الظاهرة، فربما تساوى العبدان وأحدهما يساوي أمثال صاحبه، وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه. قاله في الكافي. وقال ابن عمر: إن من الربا أبواباً لا تخفى، وإن منها السلم في السن رواه الجوزجاني. ومن قال بالرواية الأولى، حمل حديث ابن عمرعلى أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان. قال الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان، لأنهم اشترطوا إنتاج فحل بني فلان. فحل معلوم رواه سعيد.
[فلا يصح في المعدود من الفواكه] كرمان وخوخ ونحوهما، لاختلافها بالصغر والكبر. قال أحمد: لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه، فأما الرمان والبيض، فلا أرى السلم فيه. ونقل ابن منصور جواز السلم في الفواكه والخضراوات، لأن كثيراً من ذلك يتقارب. قاله في الشرح.
[ولا فيما لا ينضبط كالبقول] لأنها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم.
[والجلود] لاختلافها، ولا يمكن ذرعها، لاختلاف أطرافها.

[والرؤوس والأكارع] لأنه أكثرها العظام والمشافر1 ولحمها قليل، وليست موزونة.
[والبيض] لما تقدم.
[والأواني المختلفة رؤوساً وأوساطاً كالقماقم ونحوها] فإن لم تختلف رؤوسها وأوساطها صح السلم فها. ولا يصح في الجواهر واللؤلؤ والعقيق ونحوها، لأنها تختلف اختلافاً متبايناً صغراً وكبراً وحسن تدوير وزيادة ضوء وصفاء.
[الثاني: ذكر جنسه ونوعه بالصفات التي يختلف بها الثمن] كحداثته وجودته، وضدهما.
[ويجوز أن يأخذ دون ما وصف له، ومن غير نوعه من جنسه] لأن الحق له وقد رضي بدونه، ولأنهما كالشئ الواحد لتحريم التفاضل بينهما، ولا يلزمه ذلك، لأن العقد تناول ما وصفاه على شرطهما وإن كان من غير جنسه: كلحم بقرعن ضأن، وشعيرعن بر، لم يجز ولو رضيا، لحديث: "من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره" رواه أبو داود وابن ماجة. ولأنه بيع بخلاف غير نوعه من جنسه. وذكر ابن أبي موسى رواية: أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيراً مثله.
[الثالث: معرفة قدره بمعياره الشرعي، فلا يصح في مكيل وزناً، ولا فى موزون كيلاً] نص عليه، لحديث "من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" متفق عليه. ونقل المروزي عن أحمد: أن السلم في اللبن يجوز إذا كان كيلاً، أو وزناً.
ـــــــ
1 المشفر من البعير كالشفة للإنسان، جمعه مشافر.

وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً. اختاره الموفق و الشارح وابن عبدوس في تذكرته، وجزم به في الوجيز و المنور و منتخب الآدمي. قال في الشرح: وهو قول الشافعي و ابن المنذر، وقال مالك: ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر وزناً. وهذا الصحيح، ولأن الغرض معرفة قدره، ولا بد أن يكون المكيال معلوماً، فإن شرط مكيالاً بعينه، أو صنجة1 بعينها غير معلومة، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعلم معياره، ولا بثوب بذرع فلان، لأن المعيار لو تلف، أو مات فلان بطل السلم. انتهى.
[الرابع: أن يكون في الذمة] فإن أسلم في عين لم يصح لأنه ربما تلف قبل تسليمه، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه. قاله في الشرح.
[إلى أجل معلوم] للحديث السابق.
[له وقع في العادة، كشهر ونحوه] لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق الرفق الذي شرع من أجله السلم، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن، ولا يصح إلى الحصاد والجذاذ وقدوم الحاج ونحوه، لأنه يختلف فلم يكن معلوماً. وعن ابن عباس قال: لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى أجل معلوم أي: إلى شهر معلوم. وعنه أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال مالك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يبايع إلى العطاء ولا يصح أن
ـــــــ
1 الصنجة: الميزان، وهي من الكلمات المعربة.

يسلم في شئ يأخذ كل يوم جزءاً معلوماً، سواء بين ثمن كل قسط أو لا، لدعاء الحاجة إليه. ومتى قبض البعض، وتعذر الباقي رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للمقبوض فضلاً على الباقي، لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية، كما لو اتفق أجله. وإذا جاء بالسلم قبل محله، ولا ضرر فيه قبضه، وإلا فلا. فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ليأخذه، لما روى الأثرم أن أنساً كاتب عبداً له على مال إلى أجل، فجاءه به قبل الأجل، فأبى أن يأخذه، فأتى عمر بن الخطاب فأخذه منه، وقال: اذهب فقد عتقت وروى سعيد في سننه نحوه عن عمر، وعثمان جميعاً، ولأنه زاده خيراً. قاله في الكافي.
[الخامس: أن يكون مما يوجد غالباً عند حلول الأجل] لوجوب تسليمه إذاً، لأن القدرة على التسليم شرط، فلو أسلم في العنب إلى شباط لم يصح، لأنه لا يوجد فيه إلا نادراً، وكبيع الآبق بل أولى، ولا يشترط وجوده حال العقد لأنه صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: "من أسلم في شئ فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" أخرجاه. ولو كان الوجود شرطاً لذكره، ولنهاهم عن سلف سنين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة، قاله في الشرح. ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه. قال ابن المنذر: هو كالإجماع من أهل العلم، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان. فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: "أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمًى إلى أجل مسمًى" رواه ابن ماجه وغيره، ورواه الجوزجاني في المترجم، و ابن المنذر، ولأنه لا يؤمن تلفه فلم يصح.
[السادس: معرفة قدر رأس مال السلم وانضباطه] لأنه لا يؤمن فسخ السلم لتأخر المعقود عليه - كما يأتي - فوجب معرفة رأس ماله، ليرد بدله كالقرض، والشركة فعلى هذا: لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلماً فيه، لأنه يعتبر ضبط صفاته، فأشبه المسلم فيه. قاله في الكافي.
[فلا تكفي مشاهدته] كما لو عقداه بصبرة لا يعلمان قدرها ووصفها.
[ولا يصح بما لا ينضبط] كجوهر ونحوه، لما تقدم.
[السابع: أن يقبضه قبل التفرق من مجلس العقد] تفرقاً يبطل خيار المجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، لحديث ابن عمر مرفوعاً: "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" رواه الدارقطني. واستنبطه الشافعي من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شئ فليسلف" أي: فليعط. قال: لأنه لا يقع إسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارقه. وإن كان له في ذمة رجل ديناً فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وروي عن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك قاله في الشرح.
[ولا يشترط ذكر مكان الوفاء] لأنه لم يذكر في الحديث، وكباقي البيوع.
[لأنه يجب مكان العقد] لأن مقتضى العقد التسليم في مكانه.

[مالم يعقد1 ببرية ونحوها] كسفينة ودار حرب.
[فيشترط] ذكره، لأنه لا يمكن التسليم في ذلك المكان، ولا قرينة، فوجب تعيينه بالقول والزمان. وإن أحضره قبل محله أو في غير مكان الوفاء، فاتفقا على أخذه جاز، وإن أعطاه عوضاً عن ذلك، أو نقصه من السلم لم يجز، لأنه بيع الأجل والمحل. قاله في الكافي.
[ولا يصح أخذ رهن أو كفيل بمسلم فيه] رويت كراهته عن علي وابن عباس وابن عمر، لأنه لا يمكن الاستيفاء من عين الرهن، ولا من ذمة الضامن، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره" ونقل حنبل جوازه، وهو قول عطاء ومجاهد ومالك والشافعي، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ...} 2 وروي عن ابن عباس وابن عمر: أن المراد به السلم، واختاره جمع من الأصحاب، وحملوا قوله: لا يصرفه إلى غيره أي: لا يجعله رأس مال سلم آخر.
[وإن تعذر حصوله خير رب السلم بين صبر أو فسخ، ويرجع برأس ماله أو بدله إن تعذر] لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه، أو رأس ماله" رواه الدارقطني. ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه. بغير خلاف علمناه، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح مالم يضمن صححه الترمذي. قاله في الشرح. وقال ابن
ـــــــ
1 كانت في الأصل "يكن" وصححت من أصول المتن المخطوطة.
2 البقرة من الآية/282/283.

المنذر: ثبت عن ابن عباس، قال: "إذا أسلمت في شئ إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضاً أنقص منه، ولا تربح مرتين" رواه سعيد.
[ومن أراد قضاء دين عن غيره، فأبى ربه، لم يلزم بقبوله] لما فيه من المنة، ولأنه إن كان المديون يقدر على الوفاء وجب عليه، وإلا لم يلزمه شئ، فإن ملكه لمدين، فقبضه ودفعه لرب الدين، أجبر على قبوله.

باب القرض

باب القرضقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن اقتراض ماله مثل من المكيل والموزون والأطعمة جائز. وقال الامام أحمد: ليس القرض من المسألة، يريد أنه لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستقرض وهو مستحب للمقرض لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرةً" رواه ابن ماجه، ولأن فيه تفريجاً وقضاء لحاجة المسلم، أشبه الصدقة.
[يصح بكل عين يصح بيعها] من مكيل وموزون وغيره لأنه صلى الله عليه وسلم، استسلف بكراً متفق عليه.
[إلا بني أدم] فلا يصح قرضه لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق، ويفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردها.
[ويشترط علم قدره ووصفه] ليتمكن من رد بدله.
[وكون مقرض يصح تبرعه] كسائر عقود المعاملات، لأنه عقد على مال فلم يصح إلا من جائز التصرف.

[ويتم العقد بالقبول] كالبيع.
[ويملك ويلزم بالقبض1] لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه.
[فلا يملك المقرض استرجاعه] للزومه من جهته بالقبض.
[ويثبت له البدل حالاً] كالإتلاف، أو لأنه عقد منع فيه التفاضل، فمنع فيه الأجل كالصرف ولو مع تأجيله، لأنه وعد لا يلزم الوفاء به، كتأجيل العارية، قال الإمام أحمد: القرض حال، وينبغي أن يفي بوعده، وكذا كل دين حال. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل، لحديث "المسلمون على شروطهم" واختاره الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف، وذكره البخاري في صحيحه عن بعض السلف.
[فإن كان متقوماً فقيمته وقت القرض] نص عليه، لأنها حينئذ تجب.
[وإن كان مثلياً فمثله] لأنه صلى الله عليه وسلم، استسلف بكراً فرد مثله رواه مسلم.
[ما لم يكن معيباً] أي: المثلي، إذا رد بعينه، كحنطة ابتلت، فلا يلزمه قبوله لما فيه من الضرر، لأنه دون حقه.
[أو فلوساً ونحوها، فيحرمها السلطان، فله القيمة] وقت القرض، نص عليه في الدراهم المكسرة، قال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، فإن لم تترك المعاملة بها لكن رخصت، فليس له إلا مثلها، لأنها لم تتلف، إنما تغير سعرها فأشبهت الحنطة إذا رخصت. قاله في الكافي و الشرح.
ـــــــ
1 إن لفظة "ويملك" ساقطة من الأصل، وهي في جميع المخطوطات.

[ويجوز شرط رهن وضمين فيه] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، استقرض من يهودي شعيراً ورهنه درعه متفق عليه.
[ويجوز قرض الماء كيلاً] كسائر المائعات، ويجوز قرضه مقداراً بزمن من نوبة غيره، ليرد مثله في الزمن من نوبته، نص عليه، لأنه من المرافق.
[والخبز والخمير عدداً، ورده عدداً بلا قصد زيادة] لحديث عائشة قلت: يا رسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً، فقال: "لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل" وعن معاذ أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير، فقال: "سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء" . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك رواهما أبو بكر في الشافي.
[وكل قرض جر نفعاً فحرام، كان يسكنه داره، أو يعيره دابته، أو يقضيه خيراً منه] أو يهدي له أو يعمل له عملاً ونحوه لأنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وسلف صححه الترمذي. وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهم أنهم كرهوه، ونهوا عن قرض جر منفعة ويروى كل قرض جر منفعة فهو ربا.
[فإن فعل ذلك بلا شرط، أو قضى خيراً منه بلا مواطأة جاز] 1 لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورد خيراً منه وقال "خيركم أحسنكم قضاء" متفق عليه. وإن أهدى إليه قبل الوفاء من غير عادة
ـــــــ
1 لم تكن الجملة واضحة في الأصل وما ذكرناه من مخطوطات المتن.

لم يجز إلا أن يحسبه من دينه، لما روى ابن ماجة عن أنس مرفوعاً: "إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" وروى الأثرم أن رجلاً كان له على سماك عشرون درهماً، فجعل يهدي إليه السمك ويقومه، حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم وإن كتب له به سفتجة1 أو قضاه في بلد آخر، أو أهدى إليه بعد الوفاء فلا بأس بذلك. قاله في الكافي. وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة، فروى عن أحمد: أنه لا يجوز. وكرهه الحسن ومالك والشافعي، وصححه في الإنصاف، وجزم به في الوجيز. وعنه: يجوز. اختاره الشيخ تقي الدين، وصححه في النظم و الفائق. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد، ليوفيه في آخر، ليربح خطر الطريق. حكاه في المغني. قال: والصحيح جوازه، لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، ولما روي أن ابن الزبير كان يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأساً وروي عن علي أنه سئل عن مثل ذلك فلم ير به بأساً انتهى.
[ومتى بذل المقترض ما عليه بغير بلد المقرض - ولا مؤنة لحمله -
ـــــــ
1 السفتجة: بضم فسكون ففتحتين. وهو أن يعطي مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي فيوفيه إياه هناك فيستفيد أمن الطريق. انتهى، من القاموس بمعناه.

لزم ربه قبوله مع أمن البلد والطريق] 1 لعدم الضرر عليه حينئذ، وكذا ثمن وأجرة ونحوهما. فإن كان لحمله مؤنة، أوالبلد أوالطريق غير آمن، لم يلزمه قبوله، لأنه ضرر، وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
ـــــــ
1 في أصول المتن، بلد القرض.

باب الرهن

باب الرهنوهو المال يجعل وثيقة بالدين، ليستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين، ويجوز في السفر لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ...} 2 أوفي الحضر. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه، إلا مجاهداً. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه متفق عليه. فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب.
[يصح بشروط خمسة: كونه منجزاً] فلا يصح معلقاً كالبيع.
[وكونه مع الحق أو بعده] للآية. فإنه جعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، وهو بعد وجوب الحق. ويصح مع ثبوته لأن الحاجة داعية إليه، ولا يصح قبله في ظاهر المذهب، اختاره أبو بكر والقاضي، لأنه تابع للدين فلا يجوز قبله، كالشهادة. قاله في الكافي، وقال في الشرح: واختار أبو الخطاب صحته، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. انتهى.
[وكونه ممن يصح بيعه] لأنه نوع تصرف في المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع.
ـــــــ
2 البقرة من الآية/283.

[وكونه ملكه أومأذوناً له في رهنه] قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، أن الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه على دنانير معلومة عند رجل قد سماه إلى وقت معلوم، ففعل: أن ذلك جائز، ومتى شرط شيئاً من ذلك، فخالف ورهن بغيره، لم يصح، وهذا إجماع أيضاً. حكاه ابن المنذر. وإن رهنه بأكثر احتمل أن يبطل في الكل، واحتمل أن يصح في المأذون، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. فإن أطلق الإذن في الرهن، فقال القاضي: يصح، وله رهنه بما شاء، وهو أحد قولي الشافعي والآخر لا يجوز حتى يبين قدره وصفته وحلوله وتأجيله. فإن تلف ضمنه الراهن. نص عليه، لأن العارية مضمونة، فإن فك المعير الرهن بغير إذن الراهن محتسباً بالرجوع، فهل يرجع ؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه. قاله في الشرح.
[وكونه معلوماً، جنسه وقدره وصفته] لأنه عقد على مال، فاشترط العلم به كالمبيع، وكونه بدين واجب، كفرض وثمن وقيمة متلف. أو مآله إلى الوجوب، فيصح بعين مضمونة، كغصب وعارية ومقبوض على وجه السوم، أوبعقد فاسد، لا على دين كتابة ودية على عاقلة قبل الحول، ولا بعهدة مبيع، لأنه ليس له حد ينتهي إليه فيعم ضرره.
[وكل ما صح بيعه صح رهنه] لأن المقصود الاستيثاق للدين باستيفائه من ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن، وهذا يحصل مما يجوز بيعه، ولا يصح رهن المشاع لذلك.
[إلا المصحف] فلا يصح رهنه ولو لمسلم، لأنه وسيلة إلى بيعه المحرم.

[وما لا يصح بيعه] كحر وأم ولد ووقف وكلب وآبق ومجهول.
[لا يصح رهنه] لأنه لا يمكن بيعها وإيفاء الدين منها، وهو المقصود بالرهن.
[إلا الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه] فيصح رهنهما، لأن النهي عن بيعهما لعدم أمن العاهة، وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدين، لتعلقه بذمة الراهن.
[والقن دون رحمه المحرم] لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يحصل به التفريق. فإن احتيج إلى بيعه بيع رحمه معه، لأن التفريق بينهما محرم، والجمع بينهما في البيع جائز، فتعين، وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة المرهون. قال معناه في الكافي.
[ولا يصح رهن مال اليتيم للفاسق] لأنه تعريض به للهلاك، لأنه قد يجحده الفاسق، أو يفرط فيه فيضيع.

فصل للراهن الرجوع
[وللراهن الرجوع في الراهن ما لم يقبضه المرتهن] وبه قال الشافعي.
[فإن قبض لزم] لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 وعنه، في غير المكيل والموزون: أنه يلزم بمجرد العقد، قياساً على البيع. ونص عليه في رواية الميموني. وقال القاضي في التعليق: هذا قول أصحابنا. قال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، وعليه العمل. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد كالبيع. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطاً. قاله في الشرح.

[فلا يصح تصرفه فيه بلا إذن المرتهن] لأنه محبوس على استيفاء حقه، فتصرف الراهن فيه يفوت عليه حقه. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أمته المرهونة.
[إلا بالعتق] فإنه يصح مع الاثم، لأنه مبني على السراية والتغليب. نص عليه، لأنه إعتاق من مالك تام الملك.
[وعليه قيمته مكانه تكون رهناً] كبدل أضحية ونحوها، لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة بغير إذنه، فلزمته قيمته، كما لو أبطلها أجنبي، وعنه: لا ينفذ عتق المعسر، لأنه عتق في ملكه يبطل به حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر، وهو مذهب مالك.
[وكسب الرهن ونماؤه رهن] لأنه تابع له، ولأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فيدخل فيه النماء والمنافع. قال في الشرح: وأما الحديث، فنقول به وإن غنمه وكسبه ونماءه للراهن، ولكن يتعلق به حق المرتهن، ومؤنته على الراهن. انتهى.
[وهو أمانة بيد المرتهن لا يضمنه إلا لتفريط] نص عليه. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنة، له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي، والدارقطني، وقال: إسناده حسن متصل، ورواه الأثرم بنحوه. وروي عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهرى والشافعي. ولأنه لو ضمن لامتنع الناس منه خوفاً من ضمانه، فتتعطل المداينات، وفيه ضرر عظيم.
[ويقبل قوله بيمينه في تلفه. وأنه لم يفرط] لأنه أمين فأشبه المودع.

[وإن تلف بعض الرهن فباقيه رهن بجميع الحق] لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن.
[ولا ينفك منه شئ حتى يقضي الدين كله] لأن الرهن وثيقة بالدين كله فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه.
[وإذا حل أجل الدين، وكان الراهن قد شرط للمرتهن أنه إن لم يأته بحقه عند الحلول، وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط] لحديث لا يغلق الرهن رواه الأثرم. قال أحمد: معناه لا يدفع رهناً إلى رجل يقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك. قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: لا يغلق الرهن عند مالك والثوري وأحمد. وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل، فقال الذي ارتهن: منزلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" . ولأنه علق البيع على شرط مستقبل فلم يصح، كما لو علقه على قدوم زيد، ويصح الرهن. نصره أبو الخطاب، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن" فسماه رهناً، ولم يحكم بفساده. قاله في الشرح.
[بل يلزمه الوفاء] كالدين الذي لا رهن به.
[أو يأذن للمرتهن في بيع الرهن] أو يأذن لغيره فيبيعه، لأنه مأذون له.
[أو يبيعه هو بنفسه ليوفيه حقه] من ثمنه، لأنه المقصود ببيعه.
[فإن أبى حبس أوعزر، فإن أصر باعه الحاكم] - نص عليه -

بنفسه أو أمينه، لقيامه مقام الممتنع. ووفى دينه، لأنه حق تعين عليه، فقام الحاكم مقامه فيه، وكذا إن غاب راهن، ولا يبيعه مرتهن إلا بإذن ربه أو إذن الحاكم.

فصل: في الأنتفاع بالرهن
فصل في الأتتفاع بالرهن
[وللمرتهن ركوب الرهن، وحلبه بقدر نفقته بلا إذن الراهن، ولو حاضراً] نص عليه، لما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب، ويشرب النفقة" ولا يعارضه حديث "لا يغلق الرًهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه" لأنا نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن ولاية صرفه إلى نفقته، لثبوت يده عليه، ولوجوب نفقة الحيوان، فهو كالنائب عن المالك في ذلك ومحله إن أنفق بنية الرجوع. وأما غير المحلوب، والمركوب كالعبد والأمة فليس للمرتهن أن ينفق عليه، ويستخدمه بقدر نفقته. نص عليه، لاقتضاء القياس أنه لا ينتفع المرتهن من الرهن بشئ، تركناه في المركوب والمحلوب للخبر. ولا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بغير إذن الراهن. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً.
[وله الإنتفاع به مجاناً بإذن الراهن] لطيب نفس ربه به، ما لم يكن الدين قرضاً، فيحرم الإنتفاع لجر النفع، قال أحمد: أكره قرض الدور، وهو الربا المحض. يعني: إذا كانت الدار رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن.

[لكن يصير مضموناً عليه بالإنتفاع] به مجاناً لصيرورته عارية.
[ومؤنة الرهن، وأجرة مخزنه، وأجرة رده، من إباقه على مالكه] لحديث: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي، والدارقطني.
[وإن أنفق المرتهن على الرهن بلا إذن الراهن مع قدرته على استئذانه فمتبرع] حكماً، لتصدقه به، فلم يرجع بعوضه ولو نوى الرجوع، كالصدقة على مسكين، ولتفريطه بعدم الاستئذان. وإن أنفق بإذنه بنية الرجوع، رجع لأنه نائب، أشبه الوكيل، وإن تعذر استئذانه وأنفق بنية الرجوع، رجع، ولو لم يستأذن الحاكم، لاحتياجه لحراسة حقه. وكذا وديعة وعارية، ودواب مستأجرة هرب ربها، فله الرجوع، إذا أنفق على ذلك بنية الرجوع عند تعذر إذن مالكها.

فصل من قبض العين لحظ نفسه
[من قبض العين لحظ نفسه، كمرتهن وأجير ومستأجر ومشتر وبائع وغاصب، وملتقط، ومقترض، ومضارب، وادعى الرد للمالك فأنكره لم يقبل قوله إلا ببينة] وهو المشهور عن أحمد، وخرج أبو الخطاب، وأبو الحسين وجهاً بقبول قول المرتهن، ونحوه في الرد، لأنه أمين في الجملة، وكذا الخلاف في المستأجر. قاله في القواعد، وقدمه في الكافي.
[وكذا مودع، ووكيل، ووصى، ودلال بجعل إذا ادعى الرد] قال في القواعد: القسم الثالث: من قبض المال لمنفعة مشتركة بينه

وبين مالكه، كالمضارب، والشريك، والوكيل بجعل، والوصي كذلك. ففي قبول قولهم في الرد وجهان، لوجود المشائبتين في حقهم، أحدهما: عدم القبول. نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور. وهو اختيار ابن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، وابن عقيل، وغيرهم.
والثاني: قبول قولهم في ذلك. اختاره القاضي في خلافه، وابنه أبو الحسين، والشريف أبو جعفر، و أبو الخطاب في خلافه، ووجدت ذلك منصوصاً عن أحمد في المضارب أيضاً أن القول قوله بيمينه. انتهى.
[وبلا جعل يقبل قوله بيمينه] لأنه أمين قبض المال لمنفعة مالكه وحده. قال معناه في القواعد.

باب الضمان والكفالة

باب الضمان والكفالةالضمان جائز إجماعاً في الجملة، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 1 قال ابن عباس الزعيم: الكفيل ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
[يصحان تنجيزاً] كأنا ضامن، أو كفيل الآن.
[وتعليقاً] كإن أعطيته كذا فأنا ضامن لك، أو كفيل به للآية السابقة.
[وتوقيتاً] كإذا جاء رأس الشهر فأنا ضامن لك، أو كفيل عند أبي الخطاب، والشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال القاضي: لا يصح، لأنه إثبات حق لآدمي، فلم يجز ذلك فيه كالبيع، وهو مذهب الشافعي.
[ممن يصح تبرعه] لأنه إيجاب مال، فلم يصح إلا من جائز التصرف.
[ولرب الحق مطالبة الضمان والمضمون معاً أو أيهما شاء] لثبوت الحق في ذمتهما، وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، ولنا قوله صلى الله عليه وسلم "الزعيم غارم" قاله في الشرح.
[لكن لو ضمن ديناً حالاً إلى أجل معلوم صح، ولم يطالب الضان قبل مضيه] نص عليه: في رجل ضمن ما على فلان أن يؤديه حقه في
ـــــــ
1 يوسف/72.

ثلاث سنين فهو عليه، ويؤديه كما ضمن، ولحديث رواه ابن ماجة، عن ابن عباس معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم، تحمل عشرة دنانير عن رجل قد لزمه غريمه إلى شهر، وقضاها عنه ولأنه مال لزم مؤجلاً بعقد فكان كما التزمه، كالثمن المؤجل، ولم يكن على الضامن حالاً، وتأجل، ويجوز تخالف ما في الذمتين.
[ويصح ضمان عهدة الثمن والمثمن] لدعاء الحاجة إليه: بأن يضمن الثمن إن استحق المبيع، أو رد بعيب، أو الأرش إن خرج معيباً، أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه، أو إن ظهر به عيب. وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قاله في الشرح.
[والمقبوض على وجه السوم] إن ساومه، وقطع ثمنه، أوساومه ولم يقطع ثمنه ليريه أهله إن رضوه، وإلا رده، لأنه مضمون على قابضه إذا تلف بيده، فيصح ضمانه، كعهدة المبيع.
[والعين المضمونة كالغصب والعارية] لأنها مضمونة على من هي بيده لو تلفت، فصح ضمانها، ومعنى ضمان غصب ونحوه: ضمان استنقاذه، والتزام تحصيله، أو قيمته عند تلفه، فهو كعهدة المبيع.
[ولا يصح ضمان غير المضمونة كالوديعة ونحوها] كالعين المؤجرة، ومال الشركة، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا على ضامنه إلا أن يضمن التعدي فيها، فيصح في ظاهر كلام أحمد، لأنها مع التعدي مضمونة كالغصب.
[ولا دين الكتابة] لأنه ليس بلازم، ولا مآله إلى اللزوم، لأنه يملك تعجيز نفسه.

[ولا بعض دين لم يقدر] لجهالته حالاً ومالاً. قال في الفروع: وصححه أبو الخطاب، ويفسره. انتهى. ويصح ضمان المعلوم، والمجهول قبل وجوبه وبعده، للآية. وحمل البعير يختلف، فهو غير معلوم، وقد ضمنه قبل وجوبه.
[وإن قضى الضامن ما على المدين، ونوى الرجوع عليه رجع، ولو لم يأذن له المدين في الضمان والقضاء] لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه. وأما قضاء علي وأبي قتادة عن الميت، فكان تبرعاً لقصد براءة ذمته، ليصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مع علمهما أنه لم يترك وفاء، والكلام فيمن نوى الرجوع لا من تبرع.
[وكذا كل من أدى عن غيره دينأ واجباً] 1 فيرجع إن نوى الرجوع، وإلا فلا. إلا الزكاة، والكفارة ونحوهما مما يفتقر إلى نية، لأنها لا تجزئ بغير نية ممن هي عليه.
[وإن برئ المديون] بوفاء أو إبراء أو حوالة.
[برئ ضامنه] لأنه تبع له، والضمان وثيقة، فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن.
[ولا عكس] أي: لا يبرأ مدين ببراءة ضامن، لعدم تبعيته له.
[ولو ضمن اثنان واحداً، وقال كل: ضمنت لك الدين. كان لربه طلب كل واحد بالدين كله] لثبوته في ذمة المدين أصالة، وفي ذمة الضامنين تبعاً، كل واحد منهما ضامن الدين منفرداً، ويبرؤون بأداء
ـــــــ
1 إن لفظة [ديناً] سقطت من الأصل.

أحدهم وبإبراء المضمون عنه. قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم، فأقام بها كفيلين: كل واحد منهما كفيل ضام، فأيهما شاء أخذه بحقه، فأحال رب المال رجلاً عليه بحقه، قال: يبرأ الكفيلان.
[وإن قالا: ضمنا لك الدين فبينهما بالحصص] أي نصفين، لأن مقتضى الشركة التسوية.

فصل الكفالة: التزام باحضار بدن
[والكفالة: هي أن يلتزم بإحضار بدن من عليه حق مالي إلى ربه] من دين، أوعارية، ونحوهما. قال في الشرح: وجملة ذلك: أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم، لقوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} 1 ولحديث "الزعيم غارم" تصح ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم، بلفظ: أنا كفيل بفلان، أو بنفسه، أو بدنه، أو وجهه، أو ضامن، أو زعيم، ونحوها. ولا تصح ببدن من عليه حد لله تعالى، أو لآدمي. قال في الشرح: وهو قول أكثر العلماء لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "لا كفالة في حد" ولأن مبناه على الإسقاط، والدرء بالشبهة، فلا يدخله الإستيثاق، ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني.
[ويعتبر رضى الكفيل] لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه.
ـــــــ
1 يوسف من الآية/66.

[لا المكفول، ولا المكفول له] كالضمان، لحديث جابر: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ليصلي عليه فقال: "أعليه دين" ؟ قلنا: ديناران. فانصرف فتحملهما أبو قتادة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري بمعناه. فلم يعتبر الرضى المضمون له، ولا المضمون عنه، فكذا الكفالة.
[ومتى سلم الكفيل المكفول لرب الحق بمحل العقد] وقد حل الأجل، إن كانت الكفالة مؤجلة برئ الكفيل مطلقاً. نص عليه. أو سلمه قبل الأجل، ولا ضرر في قبضه برئ الكفيل، لأنه زاده خيراً بتعجيل حقه، فإن كان فيه ضرر لغيبة حجته، أو لم يكن يوم مجلس الحكم، أو الدين مؤجل لا يمكن استيفاؤه، أو كان ثم يد حائلة ظالمة ونحوه، لم يبرأ الكفيل، لأنه كلا تسليم.
[أو سلم المكفول نفسه] برئ الكفيل، لأن الأصيل أدى ما على الكفيل، كما لو قضى مضمون عنه الدين.
[أو مات] المكفول.
[برئ الكفيل] لسقوط الحضور عنه بموته، وكذا إن تلفت العين المكفولة بفعل الله، وبه قال الشافعي.
[وإن تعذر على الكفيل إحضار المكفول] مع حياته، أو امتنع الكفيل من إحضاره.
[ضمن جميع ما عليه] نص عليه، لحديث "الزعيم غارم" . ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب الغرم بها كالضمان، قاله في الكافي.
[ومن كفله اثنان فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر] لانحلال إحدى

الوثيقتين بلا استيفاء، فلا تنحل الأخرى، كما لو برئ أحدهما، أو انفك أحد الرهنين بلا قضاء.
[وإن سلم] المكفول.
[نفسه برئا] أي: الكفيلان، لأداء الأصيل ما عليهما.

باب الحوالة

باب الحوالةمشتقة من التحول، لأنها تحول الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وهي ثابتة بالسنة، والإجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" متفق عليه. وفي لفظ "ومن أحيل بحقه على مليء فليحتل" وأجمعوا على جوازها في الجملة، وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعاً، بدليل جوازها في الدين بالدين. وجوازالتفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد، واسم خاص فلا يدخلها خيار، لأنها ليست بيعاً، ولا في معناه، لكونها لم تبن على المغابنة، قاله في الكافي.
[وشروطها خمسة: أحدها: اتفاق الدينين] لأنها تحويل الحق، فيعتبر تحويله على صفته.
[في الجنس] فلو أحال عليه أحد النقدين بالآخر لم يصح.
[والصفة] فلو أحال عن المصرية بأميرية، أو عن المكسرة بصحاح لم يصح.
[والحلول والأجل] فإن كان أحدهما حالاً، والآخر مؤجلاً، أو أجل أحدهما مخالفاً لأجل الآخر لم يصح.

[الثاني: علم قدر كل من الدينين] لأنه يعتبر فيها التسليم، والتماثل. والجهالة تمنعهما.
[الثالث: استقرار المال المحال عليه] نص عليه، لأن مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين مطلقاً، وما ليس بمستقر عرضة للسقوط، فلا تصح على مال كتابة، أو صداق قبل دخول، أو ثمن مدة خيار، أو جعل قبل العمل.
[لا المحال به] فإن أحال المكاتب سيده بدين الكتابة، أو الزوج امرأته بصداقها قبل الدخول، أو المشتري البائع بثمن المبيع في مدة الخيارين صح، لأن له تسليمه، وحوالته تقوم مقام تسليمه.
[الرابع: كونه يصح السلم فيه] لأن غيره لا يثبت في الذمة، وإنما تجب قيمتة بالإتلاف، ولا يتحرر المثل فيه.
[الخامس: رضى المحيل] لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه منه جهة بعينها. قال في الشرح: ولا خلاف في هذا، ولا يعتبر رضى المحال عليه، لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه، وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه.
[لا المحتال إن كان المحال عليه مليئاً] ويجبر على اتباعه. نص عليه، للخبر.
[وهو] أي: المليء.
[من له القدرة على الوفاء وليس مماطلاً، ويمكن حضوره لمجلس الحكم] نص أحمد في تفسير المليء: أن يكون مليئاً بماله وقوله، وبدنه، فلا

يلزم رب دين أن يحتال على والده، لأنه لا يمكنه إحضاره إلى مجلس الحكم.
[فمتى توفرت الشروط برئ المحيل من الدين بمجرد الحوالة] لأنه قد تحول من ذمته.
[أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات] فلا يرجع على المحيل، كما لو أبرأه، لأن الحوالة بمنزلة الإيفاء.
[ومتى لم تتوفر الشروط لم تصح الحوالة، وإنما تكون وكالة] قال في الشرح: وإذا لم يرض المحتال، ثم بان المحال عليه مفلساً، أو ميتاً رجع، بغير خلاف. انتهى. وإن رضي مع الجهل بحاله رجع، لأن الفلس عيب في المحال عليه، وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع، لحديث "المؤمنون على شروطهم" رواه أبو داود.

باب الصلح

باب الصلحوأحكام الصلح ثابتة بالإجماع لقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 1 وعن أبي هريرة مرفوعاً: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً" رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه.
[يصح ممن يصح تبرعه] لأ نه تبرع، فلم يصح إلا من جائز التصرف، ولا يصح من ولي يتيم، ومجنون وناظر وقف، لأنه تبرع ولا يملكونه إلا في حال الإ نكار وعدم البينة، لأن استيفاء البعض عند العجز أولى من تركه، قاله في الشرح.
[مع الإقرار والإنكار] على ما يأتي.
[فإذا أقر للمدعي بدين، أو عين، ثم صالح على بعض الدين، أو بعض العين المدعاة، فهو هبة يصح بلفظها] لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه، أو بعضه. قال أحمد: ولو شفع فيه شافع لم يأثم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر، وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر.
[لا بلفظ الصلح] لأن معناه: صالحني عن المئة بخمسين - أي: بعني - وذلك غير جائز، لأنه رباً وهضم للحق، وأكل مال بالباطل، وإن منعه حقه بدونه، لم يصح لذلك.
ـــــــ
1 النساء من الآية/127.

[وإن صالحه على عين غير المدعاة، فهو بيع يصح بلفط الصلح] كسائر المعاوضات.
[وتثبت فيه أحكام البيع] على ما سبق.
[فلو صالحه عن الدين بعين، واتفقا في علة الربا، اشترط قبض العوض في المجلس، وبشئ في الذمة يبطل بالتفرق قبل القبض] لأ نه إذاً بيع دين بدين، وقد نهي عنه. قال في الكافي: وذلك ثلاثة أضرب. أحدها: أن يعترف له بنقد فيصالحه على نقد، فهذا صرف يعتبر له شروطه. الثاني: أن يعترف له بنقد فيصالحه على عرض أو بالعكس، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها. الثالث: أن يعترف له بنقد أو عرض، فيصالحه على منفعة كسكنى دار وخدمة، فهذه إجارة تثبت فيها أحكامها. انتهى.
[وإن صالح عن عيب في المبيع صح] الصلح لأنه يجوز أخذ العوض عنه.
[فلو زال العيب سريعاً] بلا كلفة، ولا تعطيل نفع على مشتر، كزوجة بانت ومريض عوفي، رجع بما دفعه، لحصول الجزء الفائت من المبيع بلا ضرر، فكأنه لم يكن.
[أو لم يكن] أي: العيب. كنفاخ بطن أمة ظنه حملاً، ثم ظهرالحال.
[رجع بما دفعه] لأنه تبين عدم استحقاقه.
[ويصح الصلح عما تعذر علمه من دين أو عين] كرجلين بينهما معاملة، وحساب مضى عليه زمن، ولا علم لواحد منهما بما عليه لصاحبه، لما

روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لرجلين، اختصما في مواريث درست بينهما: استهما، وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه ولأنه إسقاط حق فصح فىالمجهول، للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال، أو بقاء شغل الذمة، إذ لا طريق إلى التخلص إلا به، فأما ما تمكن معرفته فلا يجوز. قال الإمام أحمد: إذا صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثمنها، لم يتبين لها ما ترك زوجها، فهي الريبة كلها. وقال: وإن ورث قوم مالاً، ودوراً، وغير ذلك، فقال بعضهم نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك. ولا يشترى منها شئ وهي لا تعلم، لعلها تظن أنه قليل، وهو يعلم أنه كثير، إنما يصالح الرجل الرجل على الشئ لا يعرفه، أو يكون رجلاً يعلم ما له عند رجل، والآخر لا يعلمه فيصالحه، فأما إذا علم فلم يصالحه ؟! إنما يريد أن يهضم حقه، ويذهب به. قال معناه في الشرح و الكافي، وصححه في الإنصاف، وقطع به في الاقناع. قال في الفروع: وهو ظاهر نصوصه. انتهى. والمشهور أنه يصح لقطع النزاع، كبراءة من مجهول. قدمه في الفروع، وجزم به في التنقيح، وحكاه في التلخيص عن الأصحاب.
[وأقر لي بديني، وأعطيك منه كذا فأقر، لزمه الدين] لأنه لا عذر لمن أقر، ولأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره.
[ولم يلزمه أن يعطيه] لوجوب الاقرار عليه بلا عوض. قال في الشرح: وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، كرهه ابن عمر، وقال: نهى عمر أن تباع العين بالدين وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس وابن سيرين

والنخعي: أنه لا بأس به. وعن الحسن وابن سيرين: أنهما كانا لا يريان بأساً بالعروض أن يأخذها عن حقه قيل محله. وإذا صالحه عن ألف حالة بنصفها مؤجلاً اختياراً منه صح الإسقاط ولم يلزم التأجيل، لأن الحال لا يتأجل. انتهى.

فصل اذا انكر دعوى المدعي
[وإذا أنكر دعوى المدعى، أو سكت وهو يجهله ثم صالحه صح الصلح] إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى، فيدفع المال افتداءً ليمينه، ودفعاً للخصومة عن نفسه، والمدعي يعتقد صحتها، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له. قاله في الكافي. وبه قال مالك، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الصلح جائز بين المسلمين" .
[وكان إبراء في حقه] أي: المدعى عليه، لأنه ليس في مقابلة حق ثبت عليه.
[وبيعاً في حق المدعي] لأنه يعتقده عوضاً عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده.
[ومن علم بكذب نفسه فالصلح باطل في حقه] أما المدعي: فلأن الصلح مبني على دعواه الباطلة، وأما المدعى عليه: فلأن الصلح مبني على جحده حق المدعي، ليأكل ما ينتقصه بالباطل.
[وما أخذ فحرام] لأنه أكل مال الغير بالباطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً" قال في الكافي: وهو في الظاهر صحيح، لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق.
[ومن قال: صالحني عن الملك الذي تدعيه، لم يكن مقراً] له بالملك، لاحتمال إرادة صيانة نفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحكم بذلك.

[وإن صالح أجنبي عن منكر للدعوى، صح الصلح، أذن له أو لا] لجواز قضائه عن غيره بإذنه وبغير إذنه، لفعل علي وأبي قتادة. وتقدم في الضمان.
[لكن لا يرجع عليه بدون إذنه] لأنه أدى عنه ما لا يلزمه فكان متبرعاً، فإن كان بإذنه رجع عليه لأنه وكيله، وقائم مقامه.
[ومن صالح عن دار ونحوها فبان العرض مستحقاً] لغير المصالح، أو بان القن حراً.
[رجع بالدار] المصالح عنها ونحوها إن بقيت، وببدلها إن تلفت إن كان الصلح.
[مع الإقرار] أي: إقرار المدعى عليه، لأنه بيع حقيقة، وقد تبين فساده، لفساد عوضه، فرجع فيما كان له.
[وبالدعوى مع الإنكار] أي: يرجع إلى دعواه قبل الصلح لفساده، فيعود الأمر إلى ما كان عليه قبله.
[ولا يصح الصلح عن خيار، أو شفعة، أو حد قذف] لأنها لم تشرع لاستفادة مال، بل الخيار للنظر في الأحظ، والشفعة لإزالة ضرر الشركة وحد القذف للزجر عن الوقوع في أعراض الناس.
[وتسقط جميعها] بالصلح لأنه رضي بتركها.
[ولا يصح] أن يصالح.
[شارباً أو سارقاً ليطلقه] لأنه لا يصح أخذ العوض في مقابلته.
[أو شاهداً ليكتم شهادته] لتحريم كتمانها إن صالحه، على أن لا يشهد عليه بحق لله تعالى، أو لآدمي، وكذا أن لا يشهد عليه بالزور، لأنه لا يقابل بعوض.

فصل: في تصرف الشخص في ملك غيره
[ويحرم على الشخص أن يجري ماء في أرض غيره] بلا إذنه، لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه، فلم يجز، كالزرع فيها، وإن كانت له أرض لها ماء لا طريق له إلا في أرض جاره، وفي إجرائه ضرر بجاره، لم يجز إلا بإذنه، وإن لم يكن فيه ضرر ففيه روايتان. إحداهما: لا يجوز، لما تقدم. والثانية يجوز، لما روى أن الضحاك بن خليفة، ساق خليجاً1 من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى، فكلم فيه عمر، فدعا محمداً وأمره أن يخلي سبيله، فقال: لا والله. فقال له عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك ؟! فقال له محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل رواه مالك في الموطأ، وسعيد في سننه. ولأنه نفع لا ضرر فيه، أشبه الاستظلال بحائطه قاله في الكافي و الشرح وغيرهما، واختاره الشيخ تقي الدين.
[أوسطحه] أي: ويحرم أن يجري ماء في سطح غيره.
[بلا إذنه] لما تقدم.
[ويصح الصلح على ذلك بعوض] لأنه إما بيع، وإما إجارة فيصح، لدعاء الحاجة إليه.
ـــــــ
1 الخليج: هو النهر يؤخذ من النهر الكبير، والعريض: واد بالمدينة.

[ومن له حق ماء يجري على سطح جاره، لم يجز لجاره تعلية سطحه، ليمنع جري الماء] لأنه إبطال لحقه، أو تكثير لضرره.
[وحرم على الجار أن يحدث بملكه ما يضر بجاره: كحمام أو كنيف أو رحى أو تنور، وله منعه من ذلك] لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه. وأما دخان الطبخ والخبز، فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه، فتدخله المسامحة. قاله في الشرح.
وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره، فليس له الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره، لأنه إضرار بجاره فمنع منه، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً اطلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" قاله في الشرح.
[ويحرم التصرف في جدار جار أو مشترك، بفتح روزنة1، أو طاق، أو ضرب وتد ونحوه، إلا بإذنه] لأنه تصرف في ملك غيره بما يضر به.
[وكذا وضع خشب] عليه إن كان يضر بالحائط أو يضعف عن حمله فلا يجوز، من غير خلاف. قاله في الشرح، لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وإن كان لا يضر به، وبه غنى عنه، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز. وهو قول الشافعي، لأنه تصرف في ملك غيره بما يستغنى عنه، واختار ابن عقيل جوازه، للحديث. قاله في الكافي، و الشرح.
[إلا أن لا يمكن تسقيف إلا به] ولا ضرر فيجوز.
[ويجبر الجار إن أبى] لحديث أبي هريرة يرفعه: "لا يمنعن جار
ـــــــ
1 الروزنة: الكوة، وهي معربة كما في مختار الصحاح.

جاره أن يضع خشبةً على جداره" ، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين ؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم" متفق عليه.
[وله أن يسند قماشة، ويجلس في ظل حائط غيره] من غير إذنه، لأنه لا مضرة فيه، والتحرز منه يشق.
[وينظر في ضوء سراجه من غير إذنه] لما تقدم، ونص عليه في رواية جعفر، ونقل المروزي: يستأذنه أعجب إلي.
[وحرم أن يتصرف في طريق نافذ بما يضر المار، كإخراج دكان، ودكة] قال في القاموس: الدكة بالفتح والدكان بالضم: بناء يسطح أعلاه للمقعد، وفي موضع آخر الدكان: كرمان: الحانوت. قال في الشرح: وأما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق. بغير خلاف علمناه، سواء أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه. انتهى. ولأنه إن لم يضر حالاً فقد يضر مآلاً. وليس للإمام أن يأذن إلا ما فيه مصلحة، لا سيما مع احتمال أن يضر، ويضمن مخرجه ما تلف به لتعديه.
[وجناح] وهو: الروشن على أطراف خشب، أو حجر مدفونة في الحائط.
[وساباط] وهو: المستوفي للطريق على جدارين.
[وميزاب] فيحرم إخراجها إلا بإذن الإمام أو نائبه، لأنه نائب المسلمين فإذنه كإذنهم.
[ويضمن ما تلف به] إن لم يكن أذن، لعدوانه، فإن كان فيه ضرر: بأن لم يمكن عبور محمل ونحوه من تحته، لم يجز وضعه ولا إذنه

فيه، فإن كان الطريق منخفضاً وقت وضعه، ثم ارتفع لطول الزمن، فحصل به ضرر وجبت إزالته. ذكره الشيخ تقي الدين. وقال مالك والشافعي: يجوز إخراج الميزاب إلى الطريق الأعظم، لحديث عمر لما اجتاز على دار العباس، وقد نصب ميزاباً إلى الطريق، فقلعه عمر، فقال العباس: تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يده ؟! فقال عمر: والله لا تنصبه إلا على ظهري، فانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير، قاله في المغني، و الشرح. وقال في القواعد: اختاره طائفة من المتأخرين. قال الشيخ تقي الدين: إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة، واختاره.
[ويحرم التصرف بذلك في ملك غيره، أوهوائه، أودرب غير نافذ إلا بإذن أهله] أن المنع لحق المستحق فإذا رضي بإسقاطه جاز. قال في الشرح: فإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين.
[ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في الملك والوقف] إذا انهدم جدارهما المشترك، أو سقفهما، أو خيف ضرره بسقوطه فطلب أحدهما الآخر أن يعمره معه. نص عليه. نقله الجماعة. قال في الفروع: واختاره أصحابنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" ولأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما، فأجبر عليه. وعنه: لا يجبر. اختاره الشارح، وأبو محمد الجوزي، وغيرهما، لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفرد به، فلم يجب مع الإشتراك كزرع الأرض. وإن لم يكن بين ملكيهما حائط فطلب أحدهما البناء بين ملكيهما لم يجبر الآخر، رواية واحدة. وليس له البناء إلا في ملكه. قاله في

الشرح. وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب، فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع روايتان.
[وإن هدم الشريك البناء، وكان لخوف سقوطه فلا شئ عليه] لأنه محسن، ولوجوب هدمه إذاً.
[وإلا لزمه إعادته] لتعديه على حصة شريكه، ولا يخرج من عهدة ذلك إلا بإعادته.
[وإن أهمل شريك بناء حائط بستان اتفقا عليه، فما تلف من ثمرته بسبب إهماله ضمن حصة شريكه] قاله الشيخ تقي الدين. وغيره.

كتاب الحجر


كتاب الحجر[وهو: منع المالك من التصرف في ماله. وهو نوعان:]
[الأول: لحق الغير، كالحجر على مفلس] لحق الغرماء على.
[راهن] لحق المرتهن.
[ومريض] مرض الموت المخوف، فيما زاد على الثلث من ماله، لحق الورثة.
[وقن، ومكاتب] لحق السيد.
[ومرتد] لحق المسلمين، لأن تركته فيء، وربما تصرف فيها تصرفاً يقصد به إتلافها، ليفوتها عليهم.
[ومشتر] شقصاً مشفوعاً.
[بعد طلب الشفيع] له، لحق الشفيع.
[الثاني:] المحجور عليه.
[لحظ نفسه كعلى صغير، ومجنون، وسفيه] لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} 1 الآية قال سعيد وعكرمة: هو مال اليتيم لا تؤته إياه، وأنفق عليه. فلا يصح تصرفهم قبل الإذن. وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
ـــــــ
1 النساء من الآية/4.

أَمْوَالَهُمْ} 1 فدل على أنه لا يسلم إليهم قبل الرشد، ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم.
[ولا يطالب المدين، ولا يحجر عليه بدين لم يحل] لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله، ولا يستحق المطالبة به، فلم يملك منعه مما له بسببه.
[لكن لو أراد سفراً طويلاً] يحل دينه قبل قدومه منه.
[فلغريمه منعه حتى يوثقه برهن يحرز، أو كفيل مليء] لأنه ليس له تأخير الحق عن محله، وفي السفر تأخيره. فإن كان لا يحل قبله، ففي منعه روايتان.
[ولا يحل دين مؤجل بجنون] لأن الأجل حق له فلا يسقط بجنونه.
[ولا بموت إن وثق ورثته بما تقدم] أي: رهن بحرز، أو كفيل مليء اختاره الخرقي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقاً فلورثته" والأجل حق للميت، فينتقل إلى ورثته، ولأنه لا يحل به ماله، فلا يحل به ما عليه كالجنون. وعنه: يحل، لأن بقاءه ضرر على الميت، لبقاء ذمته مرتهنة به، وعلى الوارث، لمنعه التصرف في التركة، وعلى الغريم بتأخير حقه، وربما تلفت التركة والحق يتعلق بها، وقد لا يكون الورثة أملياء فيؤدي تصرفهم إلى هلاك الحق.
[ويجب على مدين قادر وفاء دين حال فوراً بطلب ربه] لحديث "مطل الغني ظلم" متفق عليه.
[وإن مطله حتى شكاه وجب على الحاكم أمره بوفائه، فإن أبى حبسه] لقوله صلى الله عليه وسلم "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"
ـــــــ
1 النساء من الآية/5.

رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. قال الإمام أحمد: قال وكيع: عرضه: شكواه، وعقوبته: حبسه. وإن لم يقضه باع الحاكم ماله وقضى دينه لأنه صلى الله عليه وسلم، حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال وسعيد بن منصور. وعن عمر أنه خطب فقال ألا إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج فادان معرضاً1 فأصبح وقد دين به، فمن كان له عليه دين فليحضر غداً فإنا بائعون ماله، وقاسموه بين غرمائه رواه مالك في الموطأ. قال في الشرح: وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس، وبه قال الليث. انتهى.
[ولا يخرجه حتى يتبين أمره] أي: أنه معسر، أو يبرالمدين بوفاء أو إبراء أو يرضى غريمه بإخراجه.
[فإن كان ذو عسرة وجبت تخليته وحرمت مطالبته والحجر عليه ما دام معسراً] قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم، في الذي أصيب في ثماره: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم. وفي إنظار المعسر فضل عظيم، وأبلغها عن بريدة مرفوعاً: "من أنظر معسراً فله بكل يوم، مثليه صدقةً" رواه أحمد بإسناد جيد.
ـــــــ
1 في هامش الأصل ما يلي: أراد بالمعرض: المعترض لكل من يقرضه. وقيل: أراد أنه إذا قيل له: لا تستدن، فلا يقبل. وقيل: أراد معرضاً عن الأداء.
2 البقرة من الآية/280.

[وإن سأل غرماء من له مال لا يفي بدينه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم] لحديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، حجر على معاذ وباع ماله رواه الخلال وسعيد في سننه. ولأن فيه دفعاً للضرر عن الغرماء، فلزم ذلك لقضائهم.
[وسن إظهار حجر لفلس] وسفه ليعلم الناس بحالهما فلا يعاملوهما إلا على بصيرة، وإذا لم يف ماله بدينه: فهل يجبر على إجازة نفسه ؟ فيه روايتان. إحداهما: يجبر. وهو قول عمر بن عبد العزيز و إسحاق، لما روي أن رجلاً قدم المدينة، وذكر أن وراءه مالاً، فداينه الناس، ولم يكن وراءه مال. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً وباعه بخمسة أبعرة رواه الدارقطني بنحوه. وفيه أربعة أبعرة، والحر لا يباع فعلم أنه باع منافعه. والثانية: لا يجبر، لما روى أبو سعيد أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" . فتصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم، وليس لًكم إلا ذلك" رواه مسلم.

فصل في فائدة الحجر
[وفائدة الحجر أحكام أربعة.] 1.
[الأول: تعليق حق الغرماء بالمال] لأنه يباع في ديونهم فكانت حقوقهم متعلقة به كالرهن.
[فلا يصح تصرفه فيه بشئ] كبيعه وهبته ووقفه ونحوها، لأنه حجر ثبت بالحكم فمنع تصرفه، كالحجر للسفه.
ـــــــ
1 إن لفظة، أربعة. لم تكن في متن الأصل، ولوجودها في بعض مخطوطات المتن ذكرناها هنا.

[ولو بالعتق] فلا ينفذ لأن حق الغرماء تعلق بماله فمنع صحة عتقه. قال في الشرح: وبه قال مالك والشافعي، وهذا أصح إن شاء الله. انتهى. وعنه: يصح عتقه لأنه عتق من مالك رشيد صحيح، أشبه عتق الراهن.
[وإن تصرف في ذمته بشراء أو إقرار صح] لأنه أهل للتصرف، والحجر إنما تعلق بماله دون ذمته.
[وطولب به بعد فك الحجر عنه] لأنه حق عليه وإنما منعنا تعلقه بماله لحق الغرماء السابق على ذلك، فإذا استوفوه فقد زال المعارض.
[الثاني: أن من وجد عين ما باعه أو أقرضه فهو أحق بها] روي ذلك عن عثمان وعلي، وبه قال مالك والشافعي و ابن المنذر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره" رواه الجماعة.
[بشرط كونه لا يعلم بالحجر] هذا شرط لمن فعل ما ذكر بعد الحجر.
[وأن يكون المفلس حياً، وأن يكون عوض العين كله باقياً في ذمته]
لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مًات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرًمًاء" رواه مالك وأبو داود. وهو مرسل، وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف. وفي حديث أبي هريرة: "أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله، ولم يكن اقتضى من ماله شيئاً، فهو له" رواه أحمد. وفي لفظ أبى داود: "فإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء".

[وأن تكون كلها في ملكه] لم يتعلق بها حق الغير، فإن رهنها لم يملك الرجوع، لقوله عند رجل قد أفلس، وهذا لم يجده عنده، وهذا لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[وأن تكون بحالها] لم يتلف منها شئ. وبه قال إسحاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متاعه بعينه" وهذا لم يجده بعينه.
[ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها] فإن طحن الحنطة، ونسج الغزل، وقطع الثوب قميصاً، لم يرجع لأنه لم يجده بعينه، لتغير اسمه وصفته. قال في الشرح: وللشافعي فيه قولان. أحدهما - به أقول -: يأخذ عين ماله، ويعطى قيمة عمل المفلس. انتهى.
[وليم تزد زيادة متصلة] كالسمن والكبر، فإن وجد ذلك منع الرجوع. ذكره الخرقي. وعنه: له الرجوع للخبر. وهو مذهب مالك. إلا أنه يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به، فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال، فلا تمنع الرجوع. قال في المغني: بغير خلاف بين أصحابنا، لأنه يمكن الرجوع في العين دون زيادتها، والزيادة للمفلس فى ظاهر المذهب. نص عليه في رواية حنبل، لحديث: "الخراج بالضمان" وهذا يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان عليه.
[ولم تختلط بغير متميز] فإن اشترى زيتاً وخلطه بزيت آخر سقط الرجوع، لأنه لم يجد عين ماله، وإنما يأخذ عوضه كالثمن.
[ولم يتعلق بها حق للغير] فإن خرجت عن ملكه ببيع أوغيره لم يرجع لأنه لم يجدها عنده.

[فمتى وجد شئ من ذلك امتنع الرجوع] لما تقدم.
[الثالث: يلزم الحاكم قسم ماله الذى من جنس الدين، وبيع ما ليس من جنسه، ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم] لأن فيه تسوية بينهم، لما ذكرنا من حديث معاذ وفعل عمر، ولأن ذلك هو جل المقصود بالحجر الذي طلبه الغرماء أو بعضهم. ويستحب إحضار المفلس والغرماء لأنه أطيب لقلوبهم وأبعد من التهمة.
[ولا يلزمهم بيان أن لا غريم سواهم، ثم إن ظهر رب دين حال رجع على كل غريم بقسطه] لأنه لو كان حاضراً قاسمهم، فكذا إذا ظهر. وأما الدين المؤجل فلا يحل بالفلس. قال القاضي: رواية واحدة، لأن التأجيل حق له، فلم يبطل بفلسه كسائر حقوقه، فعليها يختص أصحاب الديون الحالة بماله دونه، لأنه لا يستحق استًيفاء حقه قبل أجله، وإن حل دينه قبل القسمة شاركهم لمساواته إياهم في استيفائه. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى: أنه يحل بفلسه، لأن الفلس معنى يوجب تعلق الدين بماله، فأسقط الأجل كالموت.
[ويجب أن يترك له ما يحتاجه من مسكن] فلا تباع داره التي لا غنى له عنها. وبه قال إسحاق، وقال مالك: تباع ويكترى له بدلها. اختاره ابن المنذر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم" .
[خادم] صالح لمثله، لأن ذلك مما لا غنى له عنه، فلم يبع في دينه ككتابه.
[وما يتجر به] إن كان تاجراً.

[وآلة حرفة] إن كان محترفاً. قال أحمد: يترك له قدر ما يقوم به معاشه.
[ويجب له ولعياله أدنى نفقة مثلهم من مأكل ومشرب وكسوة] قال في الشرح: وينفق عليه بالمعروف من ماله إلى أن يقسم، إلا إن كان ذا كسب، لقوله: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وممن أوجب الإنفاق عليه وزوجته وأولاده، مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. وتجب كسوتهم. قال أحمد: يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي، وهذا في حق الشيخ الكبير، وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم. انتهى.
[الرابع: انقطاع الطلب عنه] لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" .
[فمن أقرضه أو باعه شيئاً عالماً بحجره، لم يملك طلبه حتى ينفك حجره] لتعلق حق الغرماء بعين مال المفلس، وهل له الرجوع بعين ماله إذا وجده؟ على وجهين. أحدهما: له ذلك، للخبر. والثاني: لا فسخ له لأنه دخل على بصيرة، أشبه من اشترى معيباً يعلم عيبه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/280.

فصل فيمن دفع ماله الى صغير او مجنون
[ومن دفع ماله إلى صغير أو مجنون أو سفيه فأتلفه، لم يضمنه] لأنه سلطه عليه برضاه علم بالحجر أو لا لتفريطه، وأما ما أخذه بغير اختيار المالك، كالغصب والجناية، فعليه ضمانة لأنه لا تفريط من المالك والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره.

[ومن أخذ من أحدهم مالاً ضمنه] لتعديه بقبضه.
[حتى يأخذه وليه] أي ولي المحجور عليه، لأنه هو الذي يملك قبض ماله شرعاً وحفظه.
[لا إن أخذه] من المحجور عليه.
[ليحفظه وتلف ولم يفرط] لأ نه محسن.
[كمن أخذ مغصوباً ليحفظه لربه] فإنه لايضمنه لأن في ذلك إعانة على رد الحق إلى مستحقه.
[ومن بلغ رشداً، أو بلغ مجنوناً ثم عقل ورشد، انفك الحجر عنه] بلا حكم حاكم، بغير خلاف. قاله في الشرح.
[ودفع إليه ماله] لقوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 1 وقسنا عليه المجنون لأنه في معناه.
[لا قبل ذلك بحال] أي: قبل البلوغ والعقل والرشد، ولو صارا شيخين. قال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغيراً كان أو كبيراً للآية. فالدفع بشرطين: بلوغ النكاح، وإيناس الرشد. وإن فك عنه الحجر، فعاود السفه أعيد عليه الحجر لما روى عروة بن الزبير، أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً، فقال علي: لآتين عثمان، فلأحجرن عليك، فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير، فقال: أنا شريكك في بيعتك. فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير؟! رواه الشافعي بنحوه. قال في الكافي: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعاً. انتهى.
ـــــــ
1 النساء من الآية/5.

[وبلوغ الذكر بثلاثة أشياء: إما بالإمناء] يقظة أو مناماً. لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} 1 وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم..." الحديث، وحديث: "لا يتم بعد احتلام" رواهما أبو داود.
[أو بتمام خمس عشرة سنة] لقول ابن عمر: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني متفق عليه. فلما سمعه عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: أن لا يتعرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة.
[أو نبات شعر خشن حول قبله] لأن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة بقتلهم وسبي ذراريهم أمر أن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" متفق عليه.
[وبلوغ الأنثى بذلك وبالحيض] قال في الشرح: والحيض بلوغ في حق الجارية. لا نعلم فيه خلافاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" حسنه الترمذي. وكذلك الحمل يحصل به البلوغ في حق الجارية لأن الولد من مائهما. انتهى.
[والرشد: إصلاح المال وصونه عما لا فائدة فيه] في قول أكثر أهل
ـــــــ
1 النور من الآية/39.

العلم لقول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} 1 قال: صلاحاً في أموالهم ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى...} 1 وعنه: لا يدفع إلى الجارية مالها حتى تتزوج وتلد، أو تقيم في بيت الزوج سنة، لقول شريح: عهد إلي عمر أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولاً أو تلد.
ـــــــ
1 النساء من الآية/6.

فصل ولاية المملوك
[وولاية المملوك لمالكه ولو فاسقاً] لأنه ماله، ولأن العدالة ليست شرطاً لصحة تصرف الإنسان في ماله.
[وولاية الصغير والبالغ بسفه أو جنون لأبيه] الرشيد العدل ولو ظاهراً لكمال شفقته ولأنها ولاية، فقدم فيها الأب كولاية النكاح.
[فإن لم يكن] له أب.
[فوصيه] لأنه نائبه وقائم مقامه، أشبه وكيله في الحياة.
[ثم الحاكم] لأن الولاية انقطعت من جهة الأب فتعينت للحاكم كولاية النكاح، لأنه ولي من لا ولي له.
[فإن عدم الحاكم فأمين يقوم مقامه] اختاره الشيخ تقي الدين، وقال: في حاكم عاجز كالعدم. نقل ابن الحكم فيمن عنده مال فطالبه به الورثة، فيخاف من أمره ترى أن يخبر الحاكم ويدفعه إليه قال: أما حكامنا اليوم هؤلاء فلا أرى أن يتقدم إلى أحد منهم.
[وشرط في الولي الرشد] لأن غير الرشيد محجور عليه.

[والعدالة ولو ظاهراً] فلا يحتاج الحاكم إلى تعديل الأب أو وصيه في ثبوت ولايتهما.
[والجد والأم وسائر العصبات، لا ولاية لهم إلا بالوصية] لقصور شفقتهم عمن تقدم. والمال محل الخيانة، فلا يؤمنون عليه كالأجانب.
[ويحرم على ولي الصغير والمجنون والسفيه أن يتصرف فى مالهم إلا بما فيه حظ ومصلحة] لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1 والسفيه والمجنون في معناه.
[وتصرف الثلاثة] أي: الصغير، والمجنون، والسفيه.
[ببيع أوشراء أو عتق أو وقف أو إقرار غير صحيح] لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...} الآية2 ولأنهم محجور عليهم لحظ أنفسهم.
[لكن السفيه إن أقر بحد] أي: بما يوجب الحد كالقذف والزنى.
[أو بنسب أو طلاق أو قصاص صح وأخذ به في الحال] لأنه غير متهم في نفسه، والحجر إنما تعلق في ماله. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان بزنى أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل، وأن الحدود تقام عليه، وإن طلق نفذ في قول الأكثر. قاله في الشرح.
[وإن أقر بمال أخذ به بعد فك الحجر عنه] لأنه حجر عليه لحظه، ولأن قبول إقراره يبطل معنى الحجر، لأنه يداين الناس ويقر لهم.
ـــــــ
1 الأنعام من الآية/152.
2 النساء من الآية/4.

فصل للولي الاكل مع الحاجة
[وللولي مع الحاجة أن يأكل من مال موليه] لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 1 قالت عائشة: نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله، إن كان فقيراً أكل منه بالمعروف أخرجاه. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فقير وليس لي شئ ولي يتيم، فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف" رواه الخمسة، إلا الترمذي.
[الأقل من أجرة مثله أو كفايته] لأنه يستحق بالعمل والحاجة جميعاً، فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه.
[ومع عدم الحاجة يأكل ما فرضه له الحاكم] قال في القواعد، و الإنصاف: بغير خلاف.
[ولزوجة، ولكل متصرف في بيت، أن يتصدق منه بلا إذن صاحبه بما لا يضر، كرغيف ونحوه] لحديث عائشة مرفوعاً: "إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجر ما كسًب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً" متفق عليه. ولم تذكر إذناً لأن العادة السماح وطيب النفس به.
[إلا أن يمنعه] من ذلك.
ـــــــ
1 النساء من الآية/5.

[أو يكون بخيلاً، فيحرم] لحديث: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم..." الحديث. وقوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس" .

باب الوكالة

باب الوكالةوهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله تعالى: {..وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 1 وقوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ...} 2 الآية ولحديث عروة بن الجعد وغيره: ووكل النبي، صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية في قبول نكاح أم حبيبة، وأبا رافع في قبول نكاح ميمونة.
[وهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابه كعقد] بيع وهبة وإجارة ونكاح لأنه صلى الله عليه وسلم، وكل في الشراء والنكاح، وألحق بهما سائر العقود.
[وفسخ] كالخلع والإقامة.
[وطلاق] لأنه يجوز التوكيل في الإنشاء، فجاز في الإزالة بطريق الأولى.
[ورجعة] لأنه يملك بالتوكيل الأقوى: وهو إنشاء النكاح، فالأضعف: وهو تلافيه بالرجعة أولى.
ـــــــ
1 التوبة من الآية/61.
2 الكهف من الآية/19.

[وكتابة وتدبير وصلح] لأنه عقد على مال أشبه البيع.
[وتفرقة صدقة، ونذر وكفارة] لأنه، صلى الله عليه وسلم، كان يبعث عماله لقبض الصدقات، وتفريقها ويشهد به حديث معاذ، وفيه فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم.
[وفعل حج وعمرة] لما تقدم.
[لا فيما لا تدخله النيابة كصلاة، وصوم، وحلف وطهارة من حدث] لتعلقها ببدن من هي عليه، لأن المقصود فعلها ببدنه، ولا يحصل ذلك من فعل غيره، لكن تدخل ركعتا الطواف تبعاً.
[وتصح الوكالة منجزة] كأنت وكيلي الآن.
[ومعلقة] نص عليه، كقوله: إذا قدم الحاج فبع هذا، وإذا دخل رمضان فافعل كذا، وإذا طلب أهلي منك شيئاً فادفعه لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم ".. فإن قتل زيد فجعفر.." الحديث.
[ومؤقتة] كأنت وكيلي شهراً، أو سنة. وتصح في إثبات الحدود واستبقائها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت، فأمر بها فرجمت" متفق عليه. وتجوز في إثبات الأموال والحكومة فيها، حاضراً كان الموكل، أو غائباً، لما روي أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر، وقال، ما قضي عليه فهو علي، وما قضي له فلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان، وقال: إن للخصومة قحماً - أي: مهالك - وإن الشيطان يحضرها، وإني أكره أن أحضرها نقله حرب. وهذه قضايا في مظنة الشهرة، ولم ينكر

فكان إجماعاً. قاله في الكافي، وقال في الشرح: هو إجماع الصحابة.
[وتنعقد بكل ما دل عليها من قول] يدل على الإذن. نص عليه. كبع عبدي فلاناً، أوأعتقه، أوفوضت إليك أمره، أو جعلتك نائباً عني في كذا.
[أو فعل] قال في الفروع: ودل كلام القاضي على انعقادها بفعل دال كبيع، وهو ظاهر كلام الشيخ يعني: الموفق، فيمن دفع ثوبه إلى قصار، أو خياط، وهو أظهر كالقبول. انتهى.1 ويصح قبولها بكل قول، أو فعل دل عليه فوراً، ومتراخياً، لأن قبول وكلائه، عليه الصلاة والسلام، كان بفعلهم، وكان متراخياً عن توكيله إياهم.
[وشرط تعيين الوكيل] فلا يصح وكلت أحد هذين.
[لا علمه بها] فلو باع عبد زيد على أنه فضولي، وبان أن زيداً كان وكله في بيعه قبل البيع، صح اعتباراً بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف.
[وتصح في بيع ماله كله، أو ما شاء منه، وبالمطالبة بحقوقه، وبالإبراء منها كلها، أوما شاء منها] لأنه يعرف ماله ودينه، فيعرف ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر. قاله في الكافي.
[ولا يصح إن قال: وكلتك في كل قليل وكثير، وتسمى: المفوضة] ذكر الأزجي أنه اتفاق الأصحاب، لأنه يدخل فيه كل شئ من هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، فيعظم الغرر والضرر.
ـــــــ
1 كانت الأسطر الثلاثة غير واضحة في الأصل وما ذكرناه نقل من الفروع وتصحيحه.

[وللوكيل أن يوكل فيما يعجز عنه] لدلالة الحال على الإذن فيه1.
[لا أن يعقد مع فقير، أو قاطع طريق] إلا بإذن موكله، فإن فعل لم يصح، لأنه تغرير بالمال، لأنه لا يؤمن انفساخ العقد، وقد تلف ما بيد الفقير، أو تعذر حضور قاطع الطريق.
[أو يبيع مؤجلاً] إلا بإذن موكله، فإن فعل لم يصح، لأن الإطلاق ينصرف إلى الحلول.
[أو بمنفعة أو عرض] إلا بإذن موكله، فإن فعل لم يصح، لأن الإطلاق محمول على العرف، والعرف كون الثمن من النقدين.
[أو بغير نقد البلد إلا بإذن موكله] فإن فعل لم يصح، لأن عقد الوكالة لم يقتضه.
ـــــــ
1 في هامش الأصل ما يلي: وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا إن أذن له في التوكيل، أو عجز بنفسه، كالذي في غير بلده ونحوه. انتهى. وهو منقول من زاد المستقنع.

فصل الوكالة والشركة عقود جائزة
[والوكالة، والشركة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والوديعة، و الجعالة: عقود جائزة من الطرفين] لأن غايتها من جهة الموكل ونحوه إذن، ومن جهة الوكيل ونحوه: بذل نفع، وكلاهما جائز.
[لكل من المتعاقدين فسخها] أي: هذه العقود، كفسخ الإذن في أكل طعامه.
[وتبطل كلها بموت أحدهما، وجنونه] المطبق لأنها تعتمد الحياة، والعقل، فإذا انتفى ذلك انتفت صحتها، لزوال أهلية التصرف.

[وبالحجر لسفه حيث اعتبر الرشد] كالتصرف المالي، فإن وكل في نحو طلاق، ورجعة لم تبطل بالسفه.
[وتبطل الوكالة بطروء فسق لموكل، ووكيل فيما ينافيه] الفسق.
[كإيجاب النكاح] وإثبات الحد، واستيفائه، لخروجه بالفسق عن أهلية ذلك التصرف.
[وبفلس موكل فيما حجر عليه فيه] كأعيان ماله، لانقطاع تصرفه فيها، بخلاف ما لو وكل في شراء في ذمته، أو في ضمان أو اقتراض.
[وبردته] أي: الموكل، لأنه ممنوع من التصرف في ماله مادام مرتداً.
[وبتدبيره] أي: السيد.
[أو كتابته قناً وكل في عتقه] لدلالته على رجوع الموكل عن الوكالة في العتق.
[وبوطئه زوجة وكل في طلاقها] لأنه دليل على رغبته فيها، واختيار إمساكها، ولذلك كان الوطء رجعة في المطلقة رجعياً، بخلاف القبلة، والمباشرة دون الفرج.
[وبما يدل على الرجوع من أحدهما] أي: الموكل والوكيل، كما تقدم في الموكل. ومن صور دلالة رجوع الوكيل ما إذا قبل الوكالة في عتق عبد من سيده بعد أن كان وكله آخر في شرائه منه.
[وينعزل الوكيل بموت موكله] لما تقدم، ولأنه فرع، فيزول بزوال أصله.

[وبعزله له ولو لم يعلم] لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه، فصح بغير علمه كالطلاق.
[ويكون ما بيده بعد العزل أمانة] فلا يضمن إلا إن تعدى، أو فرط كسائر الأمانات، ويضمن ما تصرف فيه على رواية: أنه ينعزل قبل علمه. واختار الشيخ تقي الدين: لا يضمن مطلقاً. ذكره في الإنصاف.

فصل في تصرف الوكيل
[وإن باع الوكيل بأنقص عن ثمن المثل أو عن ما قدره له موكله، أو اشترى بأزيد] من ثمن المثل.
[أو بأكثر مما قدره له صح] البيع والشراء. نص عليه، لأن من صح منه ذلك بثمن مثله صح بغيره، ولأن الضرر يزول بالتضمين.
[وضمن في البيع كل النقص، وفي الشراء كل الزائد] لتفريطه بترك الاحتياط، وطلب الأحظ لموكله. قال في الكافي: ولا عبرة بما لا يتغابن الناس به، كدرهم في عشرة، لأنه لا يمكن التحرز منه. انتهى.
[وبعه لزيد، فباعه لغيره لم يصح] البيع. قال في المغني: بغير خلاف علمناه. سواء قدر له الثمن أم لم يقدره، لأنه قد يقصد نفعه دون غيره، أو نفع المبيع بإيصاله إليه.
[ومن أمر بدفع شئ إلى معين ليصنعه، فدفع ونسيه، لم يضمن] لأنه إنما فعل ما أمر به، ولم يتعد ولم يفرط.
[وإن أطلق المالك] بأن قال: ادفعه إلى من يصنعه.

[فدفعه إلى من لا يعرفه ضمن] لأنه مفرط.
[والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط] بجعل، وبغير جعل، لأنه نائب المالك فى اليد، والتصرف، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، كالوديعة.
[ويصدق بيمينه في التلف، وأنه لم يفرط] لأن الأصل براءة ذمته ولا يكلف بينةً، لأنه مما تتعذر إقامة البينة عليه، ولئلا يمتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها، لكن إن ادعى التلف بأمر ظاهر، كحريق عام ونهب جيش كلف إقامة البينة عليه، ثم يقبل قوله فيه، ويقبل قول وكيل:1 إنه - أي: موكله-.
[أذن له في البيع مؤجلاً، أو بغير نقد البلد] نص عليه في المضارب والوكيل في معناه، لأنه أمين في التصرف، فكان القول قوله في صفته.
[وإن ادعى الرد لورثة الموكل مطلقاً] أي: بجعل وبغير جعل لم يقبل قوله، لأنهم لم يأتمنوه.
[أوله] أي: ادعى الرد للموكل.
[وكان بجعل لم يقبل] قوله في الرد، لأن في قبضه نفعاً لنفسه أشبه المستعير. ويقبل قوله في الرد إلى الموكل إن كان متطوعاً، لأنه قبض المال لنفع مالكه كالمودع، وتقدم في الرهن قاعدة ذلك، ويجوز التوكيل بجعل، لأنه تصرف لغيره لا يلزمه، فجاز أخذ العوض عنه، كرد الآبق، وإن قال: بع هذا بعشرة، فما زاد فهو لك، صح البيع، وله الزيادة. نص عليه، فقال: هل هذا إلا كالمضاربة ؟. وهو قول
ـــــــ
1 قوله "إنه" هو من المتن.

إسحاق، وغيره لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً قال في الشرح: ولا يعرف له مخالف.
[ومن عليه حق، فادعى إنسان أنه وكيل ربه في قبضه، فصدقه لم يلزمه دفعه إليه] لأنه لايبرأ به لجواز إنكار رب الحق، وإن كذبه لم يستحلف، لعدم الفائدة، إذ لا يقضى عليه بالنكول.
[وإن ادعى موته] أي: موت رب الحق.
[وأنه وارثه لزمه دفعه] أي: الحق لمدعي إرثه مع تصديقه له، لإقراره له بالحق، وأنه يبرأ بالدفع له، أشبه المورث.
[وإن كذبه حلف أنه لا يعلم أنه وارثه] أو لا يعلم موت رب الحق، لأن من لزمه الدفع مع الإقرار، لزمه اليمين مع الإنكار.
[ولم يدفعه] إليه.

كتاب الشركة


كتاب الشركةثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 1 وقوله: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما" رواه أبو داود. وقال زيد: كنت أنا والبراء شريكين، فاشترينا فضة بنقد، ونسيئة.. الحديث، رواه البخاري.
[وهي خمسة أنواع كلها جائزة ممن يجوز تصرفه] لأن مبناها على الوكالة، والأمانة.
[أحدها: شركة العنان، وهي: أن يشترك اثنان فأكثر في مال يتجران فيه، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه] وهي جائزة بالإجماع. ذكره ابن المنذر.
[وشروطها أربعة: 1- أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين: الذهب، والفضة] لأنها قيم المتلفات، وأثمان البياعات.
ـــــــ
1 ص من الآية/24.
تنبيه في كثير من المواطن لم يتم المؤلف الآيات لذلك وضعنا ما يحتاجه الاستشهاد من الآية.
2 النساء من الآية/11.

[ولو لم يتفق الجنس] كذهب وفضة، أو كان متفاوتاً، بأن أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين. ولا تصح بالعروض - وعنه: تصح - ويجعل قيمتها وقت العقد رأس المال، والنقرة قبل ضربها، والمغشوشة كثيراً، والفلوس النافقة كالعروض.
[2 - أن يكون كل من المالين معلوماً] قدراً وصفة، لأنه لا بد من الرجوع برأس المال، ولا يمكن مع جهله.
[3 - حضور المالين] فلا تعقد على ما في الذمة، واشتراط إحضارهما لتقرير العمل، وتحقيق الشركة كالمضاربة.
[ولا يشترط خلطهما] لأنها عقد على التصرف كالوكالة، ولهذا صحت على جنسين، ولأن المقصود الربح، وهو لا يتوقف على الخلط.
[ولا الإذن في التصرف] لدلالة لفظ الشركة عليه.
[4 - أن يشرطا لكل واحد منهما جزءاً معلوماً من الربح سواء شرطا لكل واحد منهما على قدر ماله أو أقل أو أكثر] وبه قال أبو حنيفة، لأن العمل يستحق به الربح، وقد يتفاضلان فيه لقوة أحدهما وحذقه، فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب.
[فمتى فقد شرط فهي فاسدة، وحيث فسدت. فالربح على قدر المالين] في شركة عنان ووجوه، لأن الربح استحق بالمالين، فكان على قدرهما.
[لا على ما شرطا] لفساد الشركة.
[لكن يرجع كل منهما على صاحبه بأجرة نصف عمله] لعمله في نصيب شريكه بعقد يبتغى به الفضل في ثاني الحال، فوجب أن يقابل العمل فيه عوض كالمضاربة، فإذا كان عمل أحدهما مثلاً يساوي عشرة

دراهم، والآخر خمسة، تقاصا بدرهمين ونصف، ورجع ذو العشرة بدرهمين ونصف.
[وكل عقد لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده، إلا بالتعدي والتفريط، كالشركة والمضاربة والوكالة والوديعة والرهن والهبة] والصدقة والهدية، وكل عقد لازم، يجب الضمان في صحيحه، يجب في فاسده، كبيع وإجارة ونكاح وقرض. ومعنى ذلك: أن العقد الصحيح إذا لم يكن موجباً للضمان، فالفاسد من جنسه كذلك، وإن كان موجباً له مع الصحة، فكذلك مع الفساد.
[ولكل من الشريكين أن يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي، ويطالب ويخاصم، ويفعل كل ما فيه حظ للشركة] لأن هذا عادة التجار وقد أذن له في التجارة، فينفذ تصرف كل منهما بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه.

فصل في المضاربة
[الثاني: المضاربة، وهي: أن يدفع ماله إلى إنسان ليتجر فيه، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان] عليه وهي جائزة بالإجماع. حكاه في الكافي، و الشرح، وذكره ابن المنذر. ويروى إباحتها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام، رضي الله عنهم، في قصص مشتهرة، ولا مخالف لهم، فيكون إجماعاً.
[1 وشروطها ثلاثة: 1 - أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين] كما تقدم في شركة العنان.

[2 - أن يكون معيناً] فلا تصح إن قال: ضارب بما في أحد هذين الكيسين للجهالة، كالبيع.
[معلوماً] فلا تصح بصبرة دراهم أو دنانير، إذ لابد من الرجوع إلى رأس المال عند الفسخ، ليعلم الربح، ولا يمكن ذلك مع الجهل.
[ولا يعتبر قبضه بالمجلس] فتصح، وإن كان بيد ربه، لأن مورد العقد العمل.
[ولا القبول] فتكفي مباشرته للعمل، ويكون قبولاً لها كالوكالة. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أنه لا يجوز أن يجعل الرجل ديناً له على رجل مضاربة. انتهى. وإن أخرج مالاً ليعمل فيه وآخر، والربح بينهما صح. نص عليه.
[3 - أن يشترط للعامل جزء معلوم من الربح] مشاعاً، كنصفه أو ربعه أو ثمنه أو ثلثه أو سدسه لأن النبي صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها والمضاربة في معناها. فإن شرطا لأحدهما في الشركة والمضاربة دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما، أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
[فإن فقد شرط فهي فاسدة، ويكون للعامل أجرة مثله] نص عليه. كالإجارة الفاسدة، لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له، والتصرف صحيح، لأنه بإذن رب المال.
[وما حصل من خسارة] فعلى المالك، لأن كل عقد لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده

[أو ربح فللمالك] لأنه نماء ماله. وإن شرط عليه ما فيه غرض صحيح فخالف ضمن لأن حكيم بن حزام كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة، يضرب له به: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني.
[وليس للعامل شراء من يعتق على رب المال] لقرابة أو تعليق أو إقرار بحريته إلا بإذنه، لأن عليه فيه ضرراً، والمقصود من المضاربة الربح، وهو منتف هنا.
[فإن فعل] صح الشراء، لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كغيره، و:
[عتق] على رب المال، لتعلق حقوق العقد به، وولاؤه له.
[وضمن] العامل
[ثمنه] الذي اشتراه به لتفريط.
[ولو لم يعلم] لأن الإتلاف الموجب للضمان يستوي فيه العلم والجهل، وقال أبو بكر: إن لم يعلم لم يضمن، لأنه معذور، كما لو اشترى معيباً لم يعلم عيبه.
[ولا نفقة للعامل] لأنه دخل على العمل بجزء مسمى فلا يستحق غيره كالمساقي.
[إلا بشرط] نص عليه. كالوكيل، وقال الشيخ تقي الدين و ابن القيم: أو عادة، فإذا شرط نفقته فله ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم" ويستحب تقديرها لأنه أبعد من الغرر.

[فإن شرطت مطلقة] جاز لأن لها عرفاً تنصرف إليه.
[واختلفا فله نفقة مثله عرفاً من طعام وكسوة] لأن إطلاقها يقتضي جميع ما هو من ضروراته المعتادة. قال الإمام أحمد: ينفق على ما كان ينفق غير متعد للنفقة ولا مضر بالمال.
[ويملك العامل حصته من الربح بظهوره قبل القسمة كالمالك] قال أبو الخطاب: رواية واحدة. كما في المساقاة والمزارعة، لأن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه، وهو أن يكون له جزء من الربح، فإذا وجد وجب أن يملكه بحكم الشرط، ولأنه يملك المطالبة بقسمته فملكه كالمشترك، ولو لم يعمل المضارب، إلا أنه صرف الذهب بورق فارتفع الصرف استحقه. نص عليه.
[لا الأخذ منه] أي: الربح.
[إلا بإذن] رب المال. لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح، لأن نصيبه مشاع فلا يقاسم نفسه، ولأن ملكه له غير مستقر لأنه وقاية لرأس المال.
[وحيث فسخت والمال عرض فرضي ربه بأخذه] أي: مال المضاربة على صفته التي هو عليها.
[قومه، ودفع للعامل حصته] من الربح الذي ظهر بتقويمه، وملك ما قابل حصة العامل من الربح، لأنه أسقط عن العامل البيع فلا يجبر على بيع ماله بلا حظ للعامل فيه.
[وإن لم يرض] رب المال بعد فسخها بأخذ العرض.

[فعلى العامل بيعه وقبض ثمنه] لأن عليه رد المال ناضاً1 كما أخذه على صفته.
[والعامل أمين] لأنه يتصرف في المال بإذن ربه، ولا يختص بنفعه أشبه الوكيل.
[يصدق بيمينه في قدر رأس المال] لأنه منكر للزائد، والأصل عدمه.
[وفي الربح وعدمه، وفي الهلاك والخسران] إن لم تكن بينة لأن ذلك مقتضى تأمينه.
[حتى ولو أقر بالربح] ثم ادعى تلفاً أوخسارة بعد الربح قبل قوله لأنه أمين، ولا يقبل قوله إن ادعى غلطاً أو كذباً أو نسياناً، لأنه مقر بحق لآدمي، فلم يقبل رجوعه كالمقر بدين.
[ويقبل قول المالك في قدر ما شرط للعامل] بعد ربح مال المضاربة. نص عليه، لأنه ينكر الزائد. فإن أقاما بينتين، قدمت بينة العامل.
ـــــــ
1 الناضر من المتاع: ما تحول ورقاً أو عيناً. قال الأصمعي: اسم الدراهم والدنانير عند أهل الحجاز الناض والنض، وإنما يسمونه ناضاً إذا تحول عيناً بعد ما كان متاعاً، وفي حديث عمر رضي الله عنه: كان يأخذ الزكاة من ناض المال. هو ما كان ذهباً أو فضة عيناً أو ورقاً.

فصل في شركة الوجوه
[الثالث: شركة الوجوه وهي: أن يشترك اثنان لا مال لهما في ربح ما يشتريان من الناس في ذممهما] بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال. قال أحمد: في رجلين اشتريا بغير رؤوس أموال

فهو جائز. وبه قال الثوري و ابن المنذر، وسواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه، أو قال: ما اشتريت من شئ فهو بيننا. نص عليه.
[ويكون الملك والربح كما شرطا] من تساو وتفاضل، لحديث "المؤمنون عند شروطهم" ولأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار وأبصر بالتجارة من الآخر، فكان على ما شرطا كشركة العنان.
[والخسارة على قدر الملك] فمن له فيه الثلثان فعليه ثلثا الوضيعة ومن له الثلث عليه ثلثها، سواء كان الربح بينهما كذلك أو لا، لأن الوضيعة نقص رأس المال، وهو مختص بملاكه، فيوزع بينهم على قدر الحصص. ومبناها على الوكالة والكفالة، وحكمها فيما يجوز لكل منهما، أو يمنع منه كشركة العنان.
[الرابع: شركة الأبدان. وهي: أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من المباح: كالاحتشاش، والاحتطاب، والاصطياد] والمعدن، والتلصص على دار الحرب، وسلب من يقتلانه بها، فهذا جائز. نص عليه، لقول ابن مسعود اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجئ أنا وعمار بشئ، وجاء سعد بأسيرين رواه أبو داود والأ ثرم، واحتج به أحمد، وقال: أشرك بينهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في غزوة بدر، وكانت غنائمها لمن أخذها قبل أن يشرك الله بينهم، ولهذا نقل أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "من أخذ شيئاً فهو له" وإنما جعلها الله لنبيه بعد أن غنموا واختلفوا فيها، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 1.
[أو يشتركا فيما يتقبلان في ذممهما من العمل] فإن عمل أحدهما
ـــــــ
1 الأنفال من الآية/1.

دون صاحبه فالكسب بينهما على ما شرطا. قال أحمد: هذا بمنزلة حديث عمار وسعد وابن مسعود. والحاصل من مباح تملكاه، أو أحدهما، أو من أجرة عمل تقبلاه، أو أحدهما كما شرطا من تساو أو تفاضل، لأن الربح مستحق بالعمل ويجوز تفاضلهما فيه.
[الخامس: شركة المفاوضة. وهي: أن يفوض كل إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمة ومضاربة وتوكيلاً ومسافرة بالمال وارتهاناً] وهي جائزة لأنها لا تخرج عن أضرب الشركة التي تقدمت، فإن أدخلا فيها كسباً نادراً، كوجدان لقطة، أو ركاز، أو ما يحصل لهما من ميراث، أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب، أو أرش جناية، أو ضمان عارية، أو لزوم مهر بوطء، فهي فاسدة، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، ولما فيه من كثرة الغرر، لأنه قد يلزم فيه ما لا يقدر الشريك عليه، ولأنه يدخل فيه اكتساب غير معتاد، وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم.
[ويصح دفع دابة أوعبد لمن يعمل به بجزء من أجرته] معلوماً. نص عليه، لأنها عين تنمى1 بالعمل عليها، فجاز العقد عليها ببعض نمائها، كالشجر في المساقاة. ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على نصف الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال الأوزاعي.
[ومثله خياطة ثوب ونسج غزل وحصاد زرع ورضاع قن واستيفاء مال بجزء مشاع منه] قال في الشرح: قال أحمد لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، قيل: يعطيه بالثلث أو الربع ودرهم أو درهمين، قال: أكرهه لأنه لا يعرفه. وإذا لم يكن معه شئ نراه جائزاً، لأن النبي،
ـــــــ
1 نمى ينمي: زاد وكثر. قال في اللسان: وربما قالوا: ينمو نمواً.

صلى الله عليه وسلم، أعطى خيبر على الشطر. انتهى. ولا يعارضه حديث الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن عسب الفحل، وعن قفيز الطحان لحمله على قفيز من المطحون، فلا يدرى الباقي بعده، فتكون المنفعة مجهولة.
[وبيع متاع بجزء من ربحه] كمن أعطى فرسه على النصف من الغنيمة، بخلاف ما لو قال: بع عبدي والثمن بيننا، أو: آجره والأجرة بيننا، فإنه لا يصح. والثمن أو الأجرة لربه، ولآخر أجرة مثله.
[ويصح دفع دابة أو نحل أو نحوهما لمن يقوم بهما مدة معلومة بجزء منهما] معلوماً. قال البخاري في صحيحه، وقال معمر: لا بأس أن تكون الماشية على الثلث أو الربع إلى أجل مسمى.
[والنماء ملك لهما] أي: للدافع والمدفوع إليه على حسب ملكيهما، لأنه نماؤه.
[لا إن كان بجزء من النماء كالدر والنسل والصوف والعسل] فلا يصح لحصول نمائه بغير عمل.
[وللعامل أجرة مثله] لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له. وعنه: يصح. اختاره الشيخ تقي الدين.

باب المساقاة

باب المساقاة[وهي: دفع شجر لمن يقوم بمصالحه بجزء من ثمره، بشرط كون الشجر معلوماً] 1 للمالك والعامل برؤية أو وصف، فلو ساقاه على بستان غير معين ولا موصوف، أوعلى أحد هذين الحائطين لم يصح، لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان، فلم تجز على غير معلوم كالبيع.
[وأن يكون له ثمر يؤكل] من نخل وغيره، لحديث ابن عمر: عامل النبى صلى الله عليه وسلم، أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه. وهذا عام في كل ثمر.
[وأن يشرط للعامل جزء مشاع معلوم من ثمره] كالمضاربة، فلو شرطا في المساقاة الكل لأحدهما، أوآصعاً معلومة، أو ثمرة شجرة معينة لم تصح. قال في الشرح: تجوز المساقاة في كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته. هذا قول الخلفاء الراشدين. وقال أيضاً: وتصح على البعل كالسقي. لا نعلم فيه مخالفاً، لأن الحاجة تدعو إلى المعاملة فيه، كدعائها إلى المعاملة في غيره. انتهى. وأما حديث ابن عمر: كنا نخابر أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج: أن رسول الله صلى الله
ـــــــ
1 في هامش الأصل ما يلي:
هي عقد جائز من الطرفين، قياساً على المضاربة، قيل: عقد لازم، ونعليه العمل دفعاً للضرر. انتهى.

عليه وسلم، نهى عن المخابرة فمحمول على رجوعه عن معاملات فاسدة، فسرها رافع. قال في الشرح قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع، ولا حديث ابن عمر على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يزل يعامل أهل خيبر، والخلفاء على ذلك بعده، ثم من بعدهم، ولو صح خبر رافع لحمل على ما يوافق السنة. فروى البخاري فيه: كنا نكري الأرض بالناحية منها. وفسر بغير هذا من أنواع الفساد، وهو مضطرب جداً. قال أحمد: يروى عن رافع في هذا ضروب. كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه توهن حديثه، وأنكره زيد بن ثابت وغيره عليه، ولم يقبلوا حديثه، وحملوه على أنه غلط في روايته. انتهى. باختصار.
[والمزارعة: دفع الأرض والحب لمن يزرعه ويقوم بمصالحه] قال في الشرح: وتجوز المزارعة بجزء معلوم للعامل في قول أكثر أهل العلم.
[بشرط كون البذر معلوماً جنسه وقدره ولو لم يوكل] وعلمه برؤية أو صفة لا يختلف معها كشجر في مساقاة، وإن قال: مازرعتها من شئ فلي نصفه صح، لحديث خيبر.
[وكونه من رب الأرض] نص عليه، واختاره عامة الأصحاب، قياساً على المساقاة والمضاربة. وعنه: لا يشترط فيجوز أن يخرجه العامل في قول عمر، وابن مسعود، وغيرهما، ونص عليه في رواية مهنا، وصححه في المغني، و الشرح، واختاره أبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، و ابن القيم، وصاحب الفائق. قال في الإنصاف وعليه عمل الناس، لأن الأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أن البذر على المسلمين، وفي بعض

ألفاظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم. قال ابن عمر: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم رواه مسلم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان يعامل الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا علقه البخاري.
[وأن يشرط للعامل جزء مشاع معلوم منه] لما تقدم، قال في الشرح: ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائداً على ماله من الثمرة، بغير خلاف، وقال: وكذا لو شرط لأحدهما زرع ناحية معينة، أو ما على الجداول منفرداً، أو مع نصيبه، فهو فاسد إجماعاً، لصحة الخبر بالنهي عنه. انتهى.
[ويصح كون الاًرض والبذر والبقر من واحد، والعمل من آخر] قياساً على المضاربة، لأنه عقد على العمل في مال ببعض نمائه فأشبه المضاربة، وكالمزارعة على المزرع الموجود الذي ينمى بالعمل فيصح، لأنه إذا جاز في المعدوم مع كثرة الغرر، فعلى الموجود مع قلته أولى. قال في الشرح: وتجوز إجارة الأرض بالذهب، والفضة، والعروض غير المطعوم، في قول عامة أهل العلم، لقول رافع: أما بالذهب والفضة فلا بأس ولمسلم: أما بشئ معلوم مضمون فلا بأس انتهى. وقال ابن عباس: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة رواه البخاري تعليقاً.
[وأما إجارتها بطعام فثلاثة أقسام:]
أحدها: إجارتها بطعام معلوم غير الخارج منها. فأجازه الأكثر،

ومنع منه مالك، وعن أحمد: ربما تهيبته، لما في حديث رافع: لا يكريها بطعام مسمى رواه أبو داود.
الثاني: بطعام معلوم من جنس ما يخرج منها. ففيه روايتان.
الثالث: إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها. فالمنصوص جوازه. قاله في الشرح. والمساقاة والمزارعة عقد جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: "نقركم على ذلك ما شئنا" رواه مسلم. فلو كانت لازمة لقدر مدتها، وقيل عقد لازم. قال في الشرح: وهو قول أكثر الفقهاء. انتهى. لأ نه عقد معاوضة، فكان لازماً. اختاره الشيخ تقي الدين، لحديث: "المؤمنون على شروطهم" فعلى هذا يفتقر إلى تقدير مدتها كالإجارة.
[فإن فقد شرط فالمساقاة والمزارعة فاسدة والثمر والزرع لربه] لأنه نماء ملكه.
[وللعامل أجرة مثله] لأن بذل منافعه بعوض لم يسلم له.
[ولا شئ له إن فسخ أو هرب قبل ظهور الثمرة] لإسقاط حقه برضاه، كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح.
[وإن فسخ بعد ظهورها فالثمرة بينهما على ما شرطا، وعلى العامل تمام العمل] كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهورالربح.
[مما فيه نمو أو صلاح للثمرة] والزرع من السقي بالماء وإصلاح طرقه، والحرث وآلته وبقره، وقطع الشوك والحشيش المضر واليابس من الشجرة، والحفظ والتشميس، وإصلاح موضعه، ونحو ذلك.

وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل، كسد الحيطان، وإنشاء الأنهار، وحفر بئر الماء ونحوه.
[والجذاذ1 عليهما بقدر حصتهما] نص عليه، لأنه إنما يكون بعد تكامل الثمر وانقضاء المعاملة، أشبه نقله إلى المنزل. وعنه: الحصاد واللقاط والجذاذ على العامل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة، أشبه التشميس. قاله في الكافي.
[ويتبعان العرف في الكلف السلطانية:] فما عرف أخذه من رب المال فعليه، ومن العامل فعليه.
[ما لم يكن شرط فيتبع] أي: يعمل به. قال الشيخ تقي الدين: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية ونحوها، فعلى قدرالأموال. وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، أو على العقار فعلى ربه، ما لم يشترطه على مستأجر، وإن وضع مطلقاً رجع إلى العادة. انتهى.
ـــــــ
1 الجذاذ: جيمه مثلثة، وهو: القطع.

باب الإجارة

باب الإجارةوهي: بيع المنافع. جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 1 وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} الآية2 وقال تعالى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} 3 ولابن ماجه مرفوعاً: "أن موسى عليه السلام، آجر نفسه ثماني حجج أو عشراً على عفة فرجه، وطعام بطنه" وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً4 وفيه: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجرته" وقال ابن المنذر: اتفق على إجارتها كل من نحفظ قوله من علماء الأمة، والحاجة داعية إليها، لأن أكثر المنافع بالصنائع. وتنعقد بلفظ الإجارة والكرى وما في معناهما.
[شروطها ثلاثة: معرفة المنفعة] لأنها المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالبيع، مثل بناء حائط يذكر طوله وعرضه، وسكنى دار
ـــــــ
1 الطلاق من الآية/6.
2 القصص من الآية/27.
3 الكهف من الآية/77.
4 الخريت: الماهر الذي يهتدي لأخرات المفاوز، وهي: طرقها الخفية ومضايقها.

شهراً، وخدمة آدمي سنة، لأنها معلومة بالعرف فلا تحتاج لضبط. قال الإمام أحمد: أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة، وإن لم يشترط، قيل له: يتطوع بالركعتين ؟. قال ما لم يضر بصاحبه. وقال ابن المبارك: يصلي الأجير ركعتين من السنة، وقال ابن المنذر: ليس له منعه منهما. قاله في الشرح. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن إجارة المنازل والدواب جائزة.
[معرفة الأجرة] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً. ولأنه عوض في عقد معاوضة، فاعتبر علمه كالثمن. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره" رواه أحمد.
[كون النفع مباحاً] فلا تجوز على المنافع المحرمة، كالغناء، والزمر والنياحة، ولا إجارة داره لتجعل كنيسة، أو بيت نار، أو يبيع فيها الخمر ونحوه، لأنه محرم. فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة الأمة للزنى، وكون النفع.
[يستوفى دون الأجزاء] فلا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به، كالمطعوم والمشروب والشمع ليشعله والصابون ليغسل به، لأن الإجارة عقد على المنافع فلا تجوز لاستيفاء العين. ولا يصح إجارة ديك ليوقظه للصلاة. نص عليه، لأنه غير مقدور عليه.
[فتصح إجارة كل ما أمكن الإنتفاع به مع بقاء عينه] كالدور والحوانيت والدواب.
[إذا قدرت منفعته بالعمل كركوب الدابة لمحل معين] لأنها منفعة مقصودة.

[أو قدرت بالأمد وإن طال حيث كان يغلب على الظن بقاء العين] إلى انقضاء مدة الإجارة. هذا قول عامة أهل العلم. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {...عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ...} الآية1.
ـــــــ
1 القصص من الآية/26.

فصل: في اجارة العين والمنفعة
[والإجارة ضربان:]
[الأول: على عين. فإن كانت موصوفة اشترط فيها استقصاء صفات السلم] لاختلاف الأغراض باختلاف الصفات، ولأن ذلك أقطع للنزاع وأبعد من الغرر. فإن لم توصف أدى إلى التنازع.
[وكيفية السير من هملاج2 وغيره] لأن سيرهما يختلف.
[لا الذكورة والأنوثة والنوع] كالفرس عربياً أو برذوناً، والجمل بختياً3 أو من العراب، لأن التفاوت بينهما يسير. وقال القاضي: يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما.
[وإن كانت معينة اشترط معرفتها] أي: العين المؤجرة كالمبيع، لاختلاف الغرض باختلاف العين وصفاتها.
[والقدرة على تسليمها] فلا تصح إجارة الآبق ولا المغصوب من غير غاصبه، أو قادر على أخذه، ولا يجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته.
ـــــــ
2 الهملجة، فارسي معرب. والهملجة والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة.
3 البرذون: هو التركي من الخيل: والبختي: واحد البخاتي، وهي: الإبل الخراسانية.

نص عليه، لتضمنها حبس المسلم عند الكافر وإذلاله، أشبه بيع المسلم للكافر، وإن كان في عمل شئ جاز بغير خلاف. قاله في الشرح، لحديث علي: أنه آجر نفسه من يهودي، يستقي له كل دلو بتمرة، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل منه رواه أحمد وابن ماجة بمعناه.
[وكون المؤجر يملك نفعها] فلو آجر ما لا يملكه بغير إذن مالكه لم يصح كبيعه.
[وصحة بيعها] بخلاف كلب وخنزير ونحوهما.
[سوى حر] فتصح إجارته لما تقدم، ولأن منافعه مملوكة تضمن بالغصب، أشبهت منافع القن.
[ووقف] أي: موقوف، لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه.
[وأم ولد] لأن منافعها مملوكة لسيدها، فيصح أن يؤجرها، وإنما يحرم بيعها.
[واشتمالها على النفع المقصود منها، فلا تصح في زمنة لحمل، وسبخة لزرع] لأن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن تسليمها من هذه العين.
[الثاني: على منفعة في الذمة. فيشترط ضبطها بما لا يختلف، كخياطة ثوب بصفة كذا، أو بناء حائط يذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته] وحمل شئ يذكر جنسه وقدره، وأن الحمل لمحل معين لما تقدم.
[وأن لا يجمع بين تقدير المدة والعمل: كيخيطه في يوم] لأنه قد يفرغ منه قبل انقضاء اليوم، فإن استعمل في بقيته فقد زاد على المعقود عليه،

وإن لم يعمل فقد تركه في بعض زمنه، فيكون غرراً يمكن التحرز منه.
[وكون العمل لا يشترط أن يكون فاعله مسلماً فلا تصح الإجارة لأذان، وإقامة، وتعليم قرآن، وفقه، وحديث، ونيابة في حج، وقضاء ولا يقع إلا قربة لفاعله، ويحرم أخذ الأجرة عليه] لقوله صلى الله عليه وسلم، لعثمان بن أبي العاص: "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" . رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه. وعن أبي بن كعب قال: علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخذتها أخذت قوساً من نار" . فرددتها رواه ابن ماجه، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجرة. قال عبد الله بن شقيق: هذه الرغفان الذي يأخذها المعلمون من السحت. وعنه: يصح، وأجازه مالك، والشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" . رواه البخاري. فأباح أخذ الجعل عليه، فكذا الأجرة، فإن أعطي من غير شرط جاز. قال الإمام أحمد: لا يطلب، ولا يشارط، فان أعطي شيئاً أخذه. وقال: أكره أجرة العلم إذا شرطه. وأما ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط، والحساب، وبناء المساجد، فيجوز أخذ الأجرة عليه. فأما ما لا يتعدى نفعه من العبادات المحضة، كالصيام، والصلاة فلا يجوز أخذ الأجرة عليه بغير خلاف. قاله في الشرح.
[وتجوز الجعالة] على ذلك، لأنها أوسع من الإجارة، ولهذا جازت مع جهالة العمل، والمدة، وعلى رقية. نص عليه، لحديث أبي سعيد: في رقية اللديغ على قطيع من الغنم - وفيه: -.. فقدموا على رسول

الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك فقال: "وما يدريكم أنها رقية؟ ثم قال: أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً" ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الجماعة إلا النسائي. ويجوز أخذ رزق من بيت المال، أو من وقف على عمل يتعدى نفعه، كقضاء وتعليم قرآن وحديث، وفقه، ونيابة في حج، وتحمل شهادة، وأدائها، وأذان ونحوها، لأنها من المصالح، وليس بعوض بل رزق للإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يقدح في الإخلاص، وإلا لما استحقت الغنائم وسلب القاتل.

فصل: للمستأجر استيفاء التفع
فصل للمستأجر استيفاء النفع
[وللمستأجر استيفاء النفع بنفسه: ولمن يقوم مقامه] لأن المنفعة ملكه، فجاز أن يستوفيها بنفسه، وبنائبه.
[لكن بشرط كونه] أي: النائب.
[مثله في الضرر أو دونه] لا أكثر ضرراً منه. ولا يخالف ضرره ضرره، لأنه لا يملك أن يستوفيه بنفسه فبنائبه أولى، لأنه يأخذ فوق حقه، أو غير حقه.
[وعلى المؤجر كل ما جرت به العادة من آلة المركوب، والقود، والسوق، والشيل، والحط] لأن عليه التمكين من الإنتفاع، ولا يحصل إلا بذلك.،. فإن كانت الإجارة على تسليم الظهر لم يكن عليه شئ من ذلك.
[وترميم الدار بإصلاح المنكسر، وإقامة المائل، وتطيين السطح، وتنظيفه من الثلج ونحوه] لأنه لا يتمكن المستأجر من النفع المعقود عليه إلا بذلك.

[وعلى المستأجر المحمل والمظلة وهي: الكبير من الأخبية] أي: لا يلزم المؤجر، بل إن أراده المستأجر فمن ماله، لأن ذلك من مصلحته أشبه الزاد وبسط الدار.
[وتفريغ البالوعة، والكنيف، وكنس الدار من الزبل، ونحوه إن حصل بفعله] أي: المكتري بأن تسلمها فارغة، كما لو ألقى فيها جيفة أو تراباً. ويصح كراء العقبة بأن يركب في بعض الطريق، ويمشي في بعض مع العلم به إما بالفراسخ، أو بالزمان، لأنه يجوز العقد على جميعه، فجاز على بعضه. ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً يعتقبان عليه، فإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما لتساويهما في الملك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5