كتاب : المحصول في علم الأصول
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي

وقال عليه الصلاة و السلام لولا أنا نعصي الله لما عصانا أي لم يمتنع عن إجابتنا
فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشيء وإذا كان لفظ إفعل مقتضيا للفعل كان عدم الإتيان به

والامتناع منه عصيانا لا محالة
وإنما قلنا إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي تدل على أن الأمر للوجوب لوجهين

أحدهما
إن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر إذا أقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه
ألا ترى أن الله تعالى لو أوجب علينا فعلا فلم نفعله لكنا عصاة ولو ندبنا إليه فقال ألأولى أن تفعلوه ولكم أن لا تفعلوه فلم نفعله لم نكن عصاة
ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى ولا يوصف تارك النوافل بذلك

الثاني
أن العاصي للقول مقدم على مخالفته وترك موافقته فليس تخلو مخالفته إما أن تكون بالإقدام على ما يمنع منه الأمر فقط أو قد تثبت بالإقدام على ما لا يتعرض له الأمر بمنع ولا إيحاب
وهذا الثاني باطل لأنا لو كنا عصاة للأمر بفعل ما نمنع منه لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر بتصدقنا اليوم فبان أن مخالفة الأمر إنما تثبت بالإقدام على ما يمنع منه

فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه وهذا هو معنى الوجوب

الدليل السادس
أنه عليه الصلاة و السلام دعا أبا سعيد الخدري فلم يجبه لأنه كان في الصلاة فقال ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول

فذمه على ترك الاستجابة عند مجرد ورود الأمر فلو لا أن مجرد الأمر للوجوب وإلا لما جاز ذلك
فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية
وأيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم ما ذمه ولكنه

أراد أن يبين له أن دعاءه صلى الله عليه و سلم مخالف لدعاء غيره

والجواب عن الأول
أنا بينا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها اليقين وهذه المسألة وإن لم تكن في نفسها عملية لكنها وسيلة إلى العمل فيجوز التمسك فيها بالظن لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات
وعن الثاني
أن بتقدير أن لا يدل الأمر على الوجوب يكون المانع من

الأجابة قائما وهو الصلاة فإنها تحرم الكلام وإذا كان المانع الظاهر قائما لم يجز من الرسول عليه الصلاة و السلام أن يسأل عن المانع بلى إذا كان قوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم يفيد الوجوب فحينئذ يصح السؤال
وأيضا فظاهر الكلام يقتضي اللوم وهو في معنى الأخبار عن نفي العذر وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب

الدليل السابع
هو قوله عليه الصلاة و السلام

لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فها هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة
فهذا الخبر يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أن ذلك مندوب فلو كان المندوب

مأمورا به لكان الأمر قائما عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال هذا الوجه أمارة تدل على أنه أراد لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة أخرى
قلت كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا وإلا لزم التناقض

الدليل الثامن
خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أتأمرني بذلك

فقال لا إنما أنا شفيع نفى الأمر مع ثبوت

الشفاعة الدالة على الندب ونفي الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب

الدليل التاسع
إن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب ولم يظهر من أحد منهم الإنكار عليه وذلك يدل على أنهم أجمعوا على أن ظاهر الأمر للوجوب
وإنما قلنا إنهم تمسكوا بالأمر على الوجوب لأنهم أوجبوا أخذ الجزية من المجوس لما روى عبدالرحمن

أنه عليه الصلاة و السلام قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب
وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب بقوله عليه الصلاة و السلام فليغسله سبعا

وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها بقوله عليه الصلاة و السلام فليصلها إذا ذكرها
وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه وأنه متى كان كذلك فقد حصل الإجماع فتمام

تقريرهما مذكور في كتاب القياس
فإن قيل كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر فإنهم لم يعتقدوا عند غيرها نحو قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله فأنكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله وإذا حللتم فاصطادوا
وإذا ثبت هذا فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر لدليل منفصل بأولى من القول بأنهم إنما اعتقدوا

الوجوب في تلك الأوامر لدليل متصل

والجواب
أن نقول لو لم يكن الأمر للوجوب لامتنع أن يفيد الوجوب في صورة أصلا ولو لم يفد الوجوب في شيء من الصور أصلا لكان دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير خبر عبدالرحمن ولو كان كذلك لوجب اشتهار ذلك الدليل وحيث لم يشتهر علمنا أنه لو يوجد ولما لم يوجد كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر
أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب لم يلزم من عدم الوجوب في بعض الأوامر أن لا يفيد الوجوب أصلا لاحتمال أن يقال

الحكم تخلف ها هنا لمانع فثبت أن الاحتمال الذي ذكرناه أولى

الدليل العاشر
لفظ إفعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا أولا في واحد منهما
والأقسام الثلاثة ألأخيرة باطلة فتعين الأول وهو أن يكون للوجوب فقط
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط لأنه لو كان للندب فقد لما كان الواجب مأمورا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط

بيان الملازمة أن المندوب هو الراجح فعله مع جواز الترك والواجب هو الراجح فعله مع المنع من الترك فالجمع بينهما محال فلو كان الأمر للندب فقط لم يكن الواجب مأمورا به
فإن قلت لو كان للوجوب فقط لما كان المندوب مأمورا به
قلت ألتزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به لأن أحدا من الأمة لم يقل به
فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون حقيقة في الوجوب والندب معا لأنه لو كان حقيقة فيهما لكان إما أن يكون كونه

حقيقة فيهما بحسب معنى مشترك بينهما كما يقال إنه حقيقة في ترجيح جانب الفعل على الترك فقط من غير إشعار بجواز الترك أو بالمنع منه أو يكون حقيقة فيهما لا بحسب معنى مشترك

وألأول باطل
لأنا لو جعلناه حقيقة في اصل الترجيح لم يمكن جعله مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الواجب والمندوب ولو جعلناه حقيقة في الوجوب كان الترجيح جزءا من مسماه ولازما له فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح وإذا كان كذلك كان جعله حقيقة في الوجوب ليكون مجازا في أصل الترجيح أولى من جعله حقيقة في أصل الترجيح مع أنه لا يكون حقيقة في الوجوب ولا مجازا فيه

والثاني
وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب لا بحسب معنى مشترك بينهما فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا وقد عرفت أن ذلك خلاف الأصل
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنه لا يتناول الواجب ولا المندوب أصلا لأن ذلك على خلاف الإجماع
ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة تعين القول بالوجوب والله أعلم
الدليل الحادي عشر
أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا أمره سيده بكذا فلم يفعله فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك للواجب

فإن قيل لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر

أحدها أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل
وثانيها أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده
وثالثها أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته والعبد أيضا يلزمه
إيصال المنافع إلى السيد ودفع المضار عنه
سلمنا أنهم ذموه لمجرد الترك لكن لا نسلم أن فعلهم صواب ويدل عليه أمران

أحدهما
أنه لو كان المأمور به معصية لما استحق العبد الذم بتركه فدل على أن مجرد الترك ليس بعلة للذم
وثانيهما
أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم بمعنى الندب فلو كان ترك المأمور به علة للذم لكان المندوب واجبا وهو محال
فثبت بهذين الوجهين أن مجرد ترك المأمور به لا يمكن جعله علة للذم وإذا ثبت ذلك علمنا فساد ما ذكرتموه من أن العقلاء يعللون حسن ذمه بمجرد ترك المأمور به

والجواب
أن السيد إذا عاتب عبده عند عدم الامتثال فالعقلاء يقولون إنما عاتبه لأنه لم يمتثل الأمر ولولا أن علة حسن العتاب نفس مخالفة الأمر وإلا لما صح هذا الكلام
وبهذا يظهر أن كراهية الترك لا مدخل لها في هذا الباب
أما قوله الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده
قلنا الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد على العبد
ألا ترى أن سيده لو قال له الأولى أن تفعل كذا ولك أن لا تفعله لما ألزمته الشريعة فعله
والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول فينبغي أن لا يجب به على العبد شيء

وأما قوله السيد لا يأمر عبده إلا بما فيه جر نفع أو دفع مضرة وذلك واجب
قلنا مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب إلا إذا أوجبه السيد ولم يرخص في تركه
ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل كذا ويجوز أن لا تفعله جاز له أن لا يفعل
وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة
قوله يشترط في جواز هذا التعليل أن لا يكون المأمور به معصية
قلنا هب أن هذا الشرط معتبر ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ على ظاهره

قوله لو كان ترك المأمور به علة للذم لما جاز ترك المندوب
قلنا هذا إنما يصح لوكان المندوب مأمورا به وهذا أول المسألة والله أعلم

الدليل الثاني عشر
لفظ إفعل دال على اقتضاء الفعل ووجوده فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى كان مانعا من نقيضه
والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لإفادة معنى فلا بد أن يكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله

فإن قيل لا نزاع في أن ما دل على شيء فإنه يمنع من نقيضه لكن لم لا يجوز أن يقال مدلول قوله إفعل هو أن الأولى إدخاله في الوجود فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية

والجواب
أن الفعل مشتق من المصدر فإشعاره لا يكون إلا بالمصدر والمصدر في قولنا ضرب يضرب إضرب هو الضرب لا أولوية الضرب فإشعار لفظ الخبر والأمر بالضرب لا بأولوية الضرب
وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب بل بنفس الضرب وثبت أن المشعر بالشيء مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ إضرب مانعا من عدم الضرب لا من

عدم أولوية الضرب ولأجل هذا كان الخبر مانعا من النقيض والله أعلم

الدليل الثالث عشر
الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك
وإنما قلنا إنه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن مصلحته راجحة إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة
فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة فلا يجوز ورود الأمر به
وإن كانت مصلحته مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير

معارضا بمثله من المفسدة فيقى القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض فيكون ورود الأمر به أمرا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول
وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته كان ذلك عبثا وهو غير لائق بالحكيم
وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية عن المفسدة وإن كان فيه شيء من المفاسد ولكن تكون مصلحته زائدة
وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة

وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يرد الإذن بالترك لأن الإذن في تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إن وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى القدر الزائد من المصلحة مصلحة خالصة
وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير جائز عرفا فوجب أن لا يجوز شرعا لقوله عليه الصلاة و السلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عندالله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح

فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شيء من المندوبات ألبتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفا من الله تعالى على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل

فإن قيل ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما أن الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفا فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب قبيح أيضا لأنه يصير حاصل الأمر أن يقول الشرع استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا قبيح

والجواب
ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف فلو كان ذلك معتبرا لما ثبت شيء من التكاليف
الدليل الرابع عشر
لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على طرف العدم فنقول هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين
أحدهما المنع من الترك
والآخر الإذن في الترك

ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلى العدم
ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى الوجود
ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشيء الراجح راجح في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح فإذن شرعية لامنع من الترك راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك
والراجح في الظن واجب العمل به النص و المعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة و السلام
أنا أقضي بالظاهر

وأما المعقول فمن وجهين

الأول
إن أحد النقيضين إذا كان راجحا على الآخر في الظن فلم يعمل بالراجح لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح وإنه غير جائز بالضرورة

الثاني
أنه وجب العمل بالفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش الجنايات وتعيين القبلة عند حصول الظن
وإنما وجب العمل به ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك المعنى حاصل ها هنا قوجب العمل به
الدليل الخامس عشر
الوجوب ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في اللغة وتلك الصيغة هي إفعل فوجب أن تكون إفعل للوجوب
إنما قلنا إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة لأن

الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه والناس قادرون على الوضع والمانع زائل ظاهرا والقادر إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم المانع وجب حصول الفعل منه فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة
وإنما قلنا إن تلك الصغية هي صيغة إفعل لأن تلك الصيغة إما أن تكون صيغة إفعل أو غيرها والثاني باطل بالإجماع
أما عند الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق
وأما عندنا فلأنا لا نقول به في غير صيغة إفعل

وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وإلا لكانت اللغة خالية عن لفظة مفردة دالة على الوجوب مع ان الدليل قد دل على وجودها
فإن قيل لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة
قوله الداعي قائم
قلنا لا نسلم أن الداعي قائم
قوله الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه
قلنا لا نسلم
سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من تعريفه باللفظ ولم لا تكفي فيه قرينة الحال
سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه لكنه قد وجد وهو قوله أوجبت وألزمت وحتمت

فإن ادعيت أنه لا بد من اللفظ المفرد طالبناك بالدلالة عليه
سلمنا قيام الدلالة وحصول الداعي فلم قلت إنه لا مانع
ثم نقول المانع هو أن اللغات توقيفيةلا اصطلاحية وإذا كان كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني
سلمنا قيام الداعي وزوال المانع فلم قلت بأنه يجب الفعل
ثم نقول ما ذكرتموه من الدليل منقوض ومعارض
أما النقض فلأن الحاجة إلى وضع لفظ يدل على

الحال ولفظ آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في اللغة
وأيضا فأصناف الروائح مختلفة والحاجة إلى تعريفها شديدة مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة
وكذا أصناف الاعتمادات متميزة مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة
وأما المعارضة فمن وجهين

أحدهما
أن الوجوب كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه

فكذا أصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب
والندب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يضعوا له لفظا ولا لفظ له سوى إفعل فوجب كونه موضوعا له
ومن قال إنه للندب وحده قال الندبية معنى تشتد الحاجة إلى تعريفها فلا بد من لفظ ولا لفظ سوى هذا فوجب كونه للندب
ومن قال بالاشتراك قال قد يحتاج إلى التعبير عن أحد هذين الأمرين على سبيل الإبهام فلا بد من لفظ ولا لفظ له إلا هذا فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك

وثانيهما
أن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فلو كانت صيغة إفعل موضوعة له وجب أن يعرف ذلك كل أحد ولو عرفه كل أحد لزال الخلاف فلما لم يزل علمنا أنه غير موضوع له
سلمنا أنه لا بد من لفظ وأن ذلك اللفظ هو إفعل فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك
ثم نقول الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس وهو غير جائز
والجواب قوله لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن معنى الوجوب

قلنا الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج إليه بل لا بد من الجمع العظيم حتى يعين كل واحد منهم صاحبه في مهمة لتنتظم مصلحة الكل وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله الغير لا محالة وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه فحينئذ يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وان ياتي بذلك الفعل وأنه لا يجوز له الإخلال به فثبت أن هذا المعنى مما تشتد الحاجة إلى تعريفه
قوله هب أنه لا بد من تعريفه فلم قلت إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ

قلنا لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها لأجل أن الإتيان بالعبارات أسهل من الإتيان بغيرها وهذا المعنى قائم في مسألتنا فوجب القول به
قوله لم لا يكفي فيه قوله أوجبت وألزمت
قلنا لأن اللفظ المفرد أخف على اللسان من المركب فيغلب على الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ المفردة
قوله لم قلت إنه لا مانع
قلنا لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع والدليل الذي ذكرناه ظني فيكون ذلك كافيا في تقريره
قوله اللغات توفيقية فلعلهم منعوا عن الوضع
قلنا الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان والأصل

عدم التوقيف وعدم المنع من الوضع فيحصل ظن بقاء ذلك
قوله لم قلت إنه إذا وجد الداعي في حق القادر وانتفى الصارف وقع الفعل
قلنا الدليل عليه أن القادر على الفعل إن لم يكن متمكنا من الترك فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك فعند الداعي إما أن يترجح أو لا يترجح
فإن لم يترجح البتة لم يكن الداعي داعيا وذلك محال
وإن ترجح وجب الوقوع
وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية

وأما النقوض فهي مندفعة لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى تعيين الحال والاستقبال والروائح المخصوصة والاعتمادات المخصوصة مساوية لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام فإن الإنسان قد تمر عليه مدة طويلة ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الاشياء مع أنه في كل لحظه يحتاج الى التعبير عن معنى الوجوب
وأما المعارضة الآولى فجوابها أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في الوجوب كان الترجيح لازما للمسمى فأمكن جعله مجازا عن الترجيح
أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح لم يكن الوجوب لازما للمسمى فلا يمكن جعله مجازا عنه فكان ذلك أولى

قوله الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة
قلنا لكن الوجوب أولى لأن الواجب لا يجوز الإخلال به والمندوب يجوز الإخلال به والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به
وأما المعارضة الثانية فهي أن اللفظ لو كان للوجوب لاشتهر
قلنا هذا إنما يلزم لو سلم عن المعارض أما إذا كان له معارض ولم يظهر الفرق بينه وبين معارضه إلا على وجه مخصوص غامض لم يلزم ذلك

قوله هب أن لفظ أفعل موضوع للوجوب فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك
قلنا لما تقدم أن الاشتراك على خلاف الأصل
قوله هذا إثبات اللغة بالقياس
قلنا سنبين في كتاب القياس إن شاء الله تعالى أنه جائز

الدليل السادس عشر
حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة

الأمر وحمله على الندب يقتضي الشك فيه فوجب حمله على الوجوب وإنما قلنا إن حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر لأن المأمور به إما أن يكون واجبا أو مندوبا
فإن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر
وإن كان مندوبا فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر
فإذن على كلا التقديرين هو غير مقدم على مخالفة الأمر
أما لو حملناه على الندب فبتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر
أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان ذلك

الترك مخالفة للأمر فثبت أن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر
وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمله على الوجوب للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة و السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

وأما المعقول فهو أنه إذا تعارض طريقان أحدهما آمن قطعا والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول
فإن قيل لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام على المحظور
قوله لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب سعيا في الترك وإنه محظور

قلنا لا نسلم أنه يمكن أن يكون المأمور به واجبا فإنا لو علمنا بدلالة لغوية أن الأمر ما وضع للوجوب وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينه إلا والمأمور به غير واجب فإذا حملته على الندب أمنت الضرر
سلمنا قيام هذا الاحتمال ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا احتمال للضرر لأن بتقدير أن لا يكون الحق هو الوجوب كان اعتقاد كونه واجبا جهلا وتكون نية الوجوب قبيحة وكراهة أضداده قبيحة

والجواب
إذا علمنا أن لفظ إفعل لا يجوز استعماله إلا في أحد

المعنيين إما الوجوب أو الندب فقبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا فإنا إذا حملناه على الوجوب قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر وإذا حملناه على الندب لم نقطع بذلك
فإذن قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب فقط يقتضي العقل حمله على الوجوب ليحصل القطع بعدم المخالفة
ثم بعد ذلك قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض من ادعاه فعليه الدليل

قوله حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل
قلنا ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد وهو قائم في الطرفين وما ذكرناه فهو احتمال الخطأ في العمل وهو حاصل على تقدير الندب دون تقدير الوجوب وإذا اشترك الطرفان في أحد نوعي الخطأ واختص أحدهما بمزيد خطأ كان الجانب الخالي عن هذا الخطأ الزائد أولى بالاعتبار والله أعلم

واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب بأمور
أحدها
أن العلم بكون الأمر للوجوب إما أن يكون عقليا أو نقليا فالأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات
وأما النقل فإما أن يكون تواترا أو آحادا

والتواتر باطل وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب والآحاد باطل لأن المسألة علمية ورواية الآحاد لا تقيد العلم
وهذه الحجة يحتج بها من يقول لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا لأنه لو ادعى الاشتراك أو الندبيه لزمه أو يقال العلم بالاشتراك أو بالندبية إنما يستفاد من العقل أو النقل إلى آخر التقسيم

وثانيها
أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة فكما أن السؤال لا يدل على الإيجاب بل يفيد الندبية فكذلك الأمر
وثالثها
أن لفظ إفعل وارد في كتاب الله وسنة رسوله في

الوجوب والندب والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك وهو أصل الترجيح والدال على ما به الاشتراك غير الدال على ما به الامتياز لا بالوضع ولا بالاستلزام فلا يكون لهذه الصيغة إشعار البتة بالوجوب بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب الفعل وأما جواز الترك فقد كان معلوما بالعقل ولم يوجد ما يزيل ذلك الجواز
فإذن وجب الحكم بأن ذلك العقل راجح الوجود على العدم مع كونه جائز الترك ولا معنى للندب إلا ذلك

والجواب عن الأول أن نقول
لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب من النقل والعقل مثل قولنا تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق

العقاب فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين أن الأمر للوجوب
سلمناه فلم لا يجوز أن يثبت بالآحاد
ولا نسلم أن المسألة قطعية وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية

وعن الثاني
أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب وإن كان لا يلزم منه الوجوب فإن السائل قد يقول للمسئول منه لا تخل بمقصودي ولا تتركه ولا تخيب رجائي فهده الألفاظ صريحة في الإيجاب وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب
وعن الثالث
أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل لكنه قد يوجد إذا دل الدليل عليه وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب فوجب المصير إليه والله أعلم

المسألة الثالثة
الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان للوجوب خلافا لبعض أصحابنا
لنا
أن المقتضي للوجوب قائم والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب تحقق الوجوب
بيان المقتضي ما تقدم من دلالة الأمر على الوجوب
بيان أن المعارض لا يصلح معارضا وجهان

الأول
أنه كما لا يمتنع الانتقال من الحظر إلى الإباحة فكذلك لا يمتنع الانتقال منه إلى الوجوب والعلم بجوازه ضروري
الثاني
أنه لو قال الوالد لولده أخرج من الحبس إلى المكتب فهذا لا يفيد الإباحة مع انه امر بعد الحظر الحاصل بسبب الحبس وكذا أمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم ورد بعد الحظر وأنه للوجوب
واحتج المخالف بالآية والعرف
أما الآية فقوله تعالى فإذا طعمتم فانتشروا وإذا حللتم فاصطادوا فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله

وهذا النوع من الأمر في كتاب الله ما جاء إلا للإباحة فوجب كونه حقيقة فيها
وأما العرف فهو أن السيد إذا منع عبده من فعل شيء ثم قال له إفعله فهم منه الإباحة

والجواب عن الأول
أنه يشكل بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذا يدل على الوجوب إذ الجهاد فرض على الكفاية وقوله تعالى لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض

وعن الثاني
أن العرف متعارض لأن من قال لابنه وهو في الحبس اخرج إلى المكتب فهو أمر بعد الحظر وقد يفيد الوجوب والله أعلم
تنبيه
القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب
فمنهم من طرد القياس فقال إنه للإباحة
ومنهم من قال لا تأثير ها هنا للوجوب المقدم بل النهي يفيد التحريم
المسألة الرابعة
الأمر المطلق لا يفيد التكرار بل يفيد طلب الماهية

من غير إشعار بالوحدة والكثرة إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة لا جرم يكتفى بها
والأكثرون خالفوا فيه وهم ثلاث فرق

إحداها الذين قالوا إنه يقتضي المرة الواحدة لفظا
والثانية أنه يقتضي التكرار
وثالثها التوقف إما لادعاء كون اللفظ مشتركا بين المرة الواحدة والتكرار
أو لأنه لا يدرى أنه حقيقة في المرة الواحدة أو في التكرار
لنا وجوه
أحدها
أن صيغة إفعل موضوعة لطلب إدخال ماهية المصدر في

الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار ولا على المرة
بيان الأول أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى أقيموا الصلاة
ومنها ما جاء لا على التكرار كما في الحج
وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للامه العقلاء
ولو كرر العبد الدخول لحسن من السيد أن يلومه ويقول إني قد أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول

وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ساعة ثم أطلقها يذم
إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذاك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجود
وإذاثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام
فالأمر لا دلالة فيه البتة لا على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة

الواحدة من ضرورات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه

وثانيها
أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا في كون الأول خبرا والثاني طلبا
ثم أجمعنا على أن قولنا يفعل يتحقق مقتضاه بتمامه في حق من يأتي به مرة واحدة فكذا في الأمر وإلا لحصلت بينهما تفرقة في شيء غير الخبرية والطلبية وذلك يقدح في قولهم

وثالثها
أن القول بالتكرار يقتضي أن تستغرق الأوقات بحيث لا يخلو وقت عن وجوب المأمور به إذ ليس في اللفظ إشعار بوقت معين فليس حمله على البعض أولى من الباقي
لكن حمله على كل الأوقات غير جائز
أما
أولا
-
فبالإجماع
وأما
ثانيا فلأنه إذا أمر بعبادة ثم أمر بغيرها لزم أن تكون الثانية ناسخة
للأولى لأن الأول قد استوعب جميع الأوقات والثاني يقتضي إزالته عن بعضها والنسخ هو إزالة الحكم بعد ثبوته إلى بدل وقد حصل ذلك ها هنا وفي علمنا بأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها وأن الأمر بالحج ليس نسخا للصلاة ما يدل على فساد ما قالوا

وأما

ثالثا فلأنه يلزم أن يكون الأمر بغسل بعض أعضاء الوضوء نسخا لما تقدمه
والأمر بالصلاة يكون نسخال للأمر بالوضوء وذلك لا يقوله عاقل
ورابعها
أنا نعلم حسن قول القائل لغيره إفعل كذا أبدا أو افعله مرة واحدة بلا زيادة فلو دل الأمر على التكرار لكان الأول تكرارا والثاني نقضا ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوا
احتج القائلون بالتكرار بوجوه
أحدها
أن الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة في وجوب

تكرار الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر للتكرار

وثانيها
أن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار فكذا الآخر
وثالثها
أن الأمر لو لم يفد التكرار لما جاز ورود النسخ عليه ولا الاستثناء لأن ورود النسخ على المرة الواحدة يدل على البداء وورود الاستثناء عليها يكون نقضا
ورابعها
أنه ليس في لفظ الأمر تعيين زمان فلا يكون اقتضاؤه لأيقاع الفعل في زمان أولى من اقتضائه لإيقاعه في زمان

آخر فإما أن لا يقتضي إيقاعه في شيء من الأزمنة وهو باطل أو في كل الأزمنة وهو المطلوب

وخامسها
أن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به لأنه بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وبترك التكرار لا يأمن منه لاحتمال أن يكون ذلك الأمر للتكرار فوجب حمله على التكرار دفعا لضرر الخوف على النفس
وأما القائلون بالاشتراك بين المرة الواحدة وبين التكرار فقد احتجوا بوجهين

أحدهما
أنه يحسن الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة أم أكثر ولذلك قال سراقة للنبي صلى الله عليه و سلم أحجتنا لعامنا هذا أم للأبد وحسن الاستفهام دليل الاشتراك

وثانيهما
ورود الأمر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم على الوجهين والأصل في الكلام الحقيقة فكان الاشتراك لازما
والجواب عن الأول
لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم بين للصحابة أن قوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة يفيد التكرار فلما كان ذلك معلوما للصحابة لا جرم تمسك الصديق بهذه الآية في وجوب التكرار
وعن الثاني
أن الفرق من وجهين

الأول
أن الانتهاء عن الفعل أبدا ممكن أما الاشتغال به أبدا فغير ممكن فظهر الفرق
والثاني
أن النهي كالنقيض للأمر لأن قول القائل لغيره كن فاعلا موجود في قوله لا تكن فاعلا وإنما زاد عليه لفظ النفي فجرى مجرى قوله زيد في الدار زيد ليس في الدار وإذا كان النهي مناقضا للأمر وجب أن تكون فائدة النهي مناقضة لفائدة الأمر
فإذا كان قولنا إفعل يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما أي زمان كان فقولنا لا تفعل وجب

أن يقتضي المنع من إيقاعه في زمان ما أي زمان كان بل في الأزمنة كلها لأنه إن لم يفعل اليوم وفعل غدا كان ممتثلا للأمر ولا يجوز أن يكون ممتثلا للأمر والنهي معا مع كونهما نقيضين فصح أن كون الأمر مفيدا للمرة الواحدة يقتضي أن يكون النهي مانعا للفعل في جميع الأزمان
ثم نقول كون النهي مفيدا للتكرار يدل على أن الأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة لأن فائدة الأر رفع فائدة النهي وفائد النهي المنع من الفعل في كل الأزمان ففائدة الأمر رفع هذا المنع الكلي ورفع المنع الكلي يحصل بالثبوت

ولو في زمان واحد فوجب أن تكون فائدة الأمر اقتضاء الفعل ولو في زمان واحد وإذا كان كذلك لزم من كون الأمر نقيضا للنهي مع كون النهي مفيدا للتكرار أن يكون الأمر غير مفيد للتكرار

وعن الثالث
أن النسخ لا يجوز وروده عليه فإذا ورد صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار
وعندنا لا يمتنع حمل الأمر على التكرار بسبب بعض القرائن
وأما الاستثناء فإنه لا يجوز على قول من يقول بالفور
أما من لم يقل به فإنه يجوز الاستثناء وفائدته المنع من إيقاع الفعل في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل فيه وفي غيره
وعن الرابع
أن الآمر عند القائلين بالفور مختص بأقرب الأزمنة

إليه وعند منكريه دال على طلب إيقاع المصدر من غير بيان الوحدة والعدد والزمان الحاضر والآتي بل على القدر المشترك بين المقيد والمؤقت ومقابليهما

وعن الخامس
أن المكلف إذا علم أن اللفظ لا يدل على التكرار أمن من الخوف على أنه معارض بالخوف الحاصل من التكرار فإنه ربما كان ذلك مفسدة كما في شراء اللحم ودخول الدار
وأما الاستفهام والاستعمال فسيظهر إن شاء الله تعالى في باب العموم أنه لا يدل واحد منهما على الاشتراك وعلى أن

الأوامر الواردة بمعنى التكرار بعضها يفيد التكرار في اليوم وبعضها في الأسبوع وبعضها في الشهر وبعضها في السنة وظاهر أن ذلك لا يستفاد الا من دليل منفصل والله أعلم

المسألة الخامسة
اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما أم لا
مثال الصفة قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
ومثال الشرط إن كان أو إذا كان زانيا فارجمه

فنقول كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار قال به ها هنا أيضا
وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار فمنهم من قال بأنه ها هنا يفيد التكرار ومنهم من قال لا يفيده

والمختار أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويفيده من جهة ورود الأمر بالقياس
فها هنا مقامان
المقام الآول في أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويدل عليه وجوه
أحدها
إن السيد إذا قال لعبده إشتر اللحم إن دخلت السوق لا يعقل منه التكرار حتى لو اشتراه دفعة واحدة لا يلزمه الشراء ثانية

وثانيها
لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرر دخولها في الدار
وكذلك لو قال إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي فله علي كذا لم يتكرر الجزاء بتكررر الشرط
وكذا لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لم يثبت على التكرار
وثالثها
أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط كقوله زيد سيدخل الدار لو دخلها عمرو فدخلها عمرو ودخلها زيد فإنه يعد صادقا وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو فوجب أن يكون في هذه الصورة كذلك

والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار

ورابعها
أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شيء على شيء والمفهوم من تعليق شيء أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة لأنه يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فإذن تعليق الشيء على الشيء لا يدل على تكرار ذلك التعليق
المقام الثاني في أنه يفيده من جهة ورود الأمر بالقياس والدليل عليه
إن الله تعالى لو قال إن كان زانيا فارجمه فهذا يدل على انه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم ومتى كان كذلك لزم تكرر الحكم عند تكرر الصفة

بيان الأول أن القائل إذا قال إن كان الرجل عالما زاهدا فاقتله وإن كان جاهلا فاسقا فأكرمه فهذا الكلام مستقبح في العرف والعلم بذلك ضروري
فالاستقباح إما أن يكون لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق موجبين للتعظيم أو لأنه لا يفيد ذلك والثاني باطل لأنه لو لم يفد العلية ولا منافاة أيضا بين الجهل وبين استحقاق التعظيم بسبب آخر من كونه نسبيا شجاعا جوادا فصيحا فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق التعظيم مع كونه جاهلا فاسقا على خلاف الحكمة فكان يجب أن لا يثبت

وحيث ثبت علمنا فساد هذا القسم وأن ذلك الاستقباح إنما حصل لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق الإكرام
فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة
فإذا صدر ذلك من الله تعالى أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك الوصف علة وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف باتفاق القائسين
فثبت أن قول الله تعالى إن كان زانيا فارجمه يفيد تكرار الرجم عند تكرار الزنا

فإن قيل أولا هذا يشكل بقوله إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول و إن دخلت السوق فاشتر اللحم فإنه لا يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق
ثم نقول لا نسلم أنه يفيد ظن العلية
أما قوله إن كان الرجل عالما فاقتله فهذا الاستقباح إنما جاز لأن كونه عالما ينافي جواز القتل فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة فلم قلت إن في سائر الصور يجب أن يكون كذلك
سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية فلم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم فإن السرقة وإن كانت موجبة للقطع لكن يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة

والجواب
أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا يفيد ظن أن هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق وإذا جعل الإنسان شيئا علة لحكم لم يلزم من تكرر ما جعله تكرر ذلك الحكم
ألا ترى أنه لو قال أعتقت عبدي غانما لسواده وبعلة كونه أسود وكان له عبد آخر أسود فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد
ومعلوم أن التنبيه على العلية لايزيد على التصريح بها
أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل شيئا علة لحكم

فإنه يلزم من تكرر ذلك الشيء تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين
فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه عند ما يكون التعليق صادرا من العبد أن لا يتكرر عند ما يكون التعليق صادرا من الله تعالى
فإن قلت هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ بل يكون مستفادا من الامر بالقياس
قلت هذا هو الحق وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا

المذهب وبين ظاهر المذهب المنقول عن الأصوليين من أنه لا يفيد التكرار وهو حق
ونحن نعني به إنه يفيد ظن العلية فإذا انضم الأمر بالقياس حصل من مجموعهما إفادة التكرار ولا منافاة بين هذا المذهب وبين ما قالوه
قوله الاستقباح إنما جاز لأن كونه فاسقا ينافي جواز التعظيم
قلنا لا نسلم حصول المنافاة لأن الفاسق قد يستحق الإكرام بجهات أخر
والأصل تخريج الحكم على وفق الأصل
قوله لم قلت إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي ذكرتموها حصل ظن العلية في سائر الصور

قلنا لوجهين

أحدهما
أنا نقيس عليه سائر الصور والجامع هو أن الحكم إذا كان مذكورا مع علته كان أقرب إلى القبول وذلك مصلحة المكلف فيناسب الشرعية
الثاني
أنا نعد صورا كثيرة ونبين حصول ذلك الظن فيها ثم نقول لا بد بينها من قدر مشترك وذلك المشترك إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم على الوصف أو غيره
والثاني مرجوح لأن الأصل عدد سائر الصفات فتعين الأول فعلمنا أن ترتيب الحكم على الوصف أينما كان فإنه يفيد ظن العلية

قوله لم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم
قلنا هذا متفق عليه بين القائسين فلا يكون المنع فيه مقبولا والله أعلم

المسألة السادسة
في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور
قالت الحنفية إنه يفيد الفور
وقال قائلون إنه يفيد التراخي
وقالت الواقفية إنه مشترك بين الفور والتراخي
والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين

طلب الفعل على الفور وبين طلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا

لنا وجوه
أحدها
أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة والتراخي اخرى فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار بخصوصية كل واحد من القسمين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة له فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا

وثانيها
أنه يحسن من السيد أن يقول إفعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ إفعل لكان الآول تكرارا والثاني نقضا وأنه غير جائز
وثالثها
أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا أن الآول خبر والثاني أمر لكن قولنا يفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدق قولنا يفعل إتيانه به في أي وقت كان من أوقات المستقبل فكذا قوله إفعل وجب أن يكفي في الإتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من اوقات المستقبل وإلا فحينئذ

يحصل بينهما فرق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرا

ورابعها
أن أهل اللغة قالوا في لفظ إفعل إنه أمر والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشيء على الفور وبين الأمر به على التراخي لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور
وكذلك الأمر به على التراخي أمر مع قيد كونه على التراخي ومتى حصل المركب فقد حصل المفرد فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا وبين الأمر مع كونه متراخيا
وإذا ثبت أن لفظ إفعل للأمر وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين ثبت أن لفظ إفعل لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين

واحتج المخالف بأمور
أحدها
قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك عابه على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت علي في الحال فكيف أستحق الذم بتركه في الحال
وثانيها
قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله فاستبقوا الخيرات

وثالثها
لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أولا إلى بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل
أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق ليس كذلك
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال البدل قائم مقام المبدل منه في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا جرم

لم يلزم من الإتيان بابدل سقوط الأمر بالمبدل
قلت إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد تأدى ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية
بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل
وأما فساد القسم الثاني وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا إنه ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه من غير بدل

ورابعها
لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها أو يجوز له التأخير أبدا والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل
إنما قلنا إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية لأن تلك الغاية إما أن تكون معلومة للمكلف أو لا تكون
فإن كانت معلومة له فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه فاته ذلك الفعل بدليل أن كل من قال بجواز التأخير إلى غاية معلومة قال إن تلك الغاية هي هذا الوقت

فالقول بإثبات غاية أخرى خرق للإجماع وإنه غير جائز
لكن القول بجواز التأخير إلى هذه الغاية باطل لأن الظن إن لم يكم لأمارة جرى مجرى ظن السوداوي فلا عبرة به
وإن كان لأمارة فكل من قال بهذا القسم قال إن تلك الأمارة إما المرض الشديد أو علو السن
وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقتضي أنه ما كان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك الأمر للوجوب

وإنما قلنا إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه على هذا التقدير يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع أنه لا يعرف ذلك الوقت وهو تكليف ما لا يطاق
وإنما قلنا إنه لا يجوز التأخير أبدا لأن التأخير أبدا تجويز للترك أبدا وإنه ينافي القول بوجوبه

وخامسها
أن السيد إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء فهم منه التعجيل واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير والإسنادإلى القرينة خلاف الأصل فالأمر يفيد الفور
وسادسها
أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور فنقول الفعل أحد موجبي الأمر فيجب على الفور قياسا على الاعتقاد والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة بسبب المسارعة إلى الامتثال

وسابعها
أن الأمر يقتضي أيقاع الفعل فأشبه العقود في البياعات فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول فالأمر وجب أن يكون مثله
وتحريره أنه استدعاء فعل بقول مطلق فيقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع
وثامنها
أن الأمر ضد النهي فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على الفور

وربما أوردوا هذا على طريق آخر فقالوا ثبت أن الأمر بالشيء نهي عن تركه لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال والانتهاء عن تركه في الحال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال

وتاسعها
أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه يقع الموقع ويخرج عن العهدة وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور لتحصيل الخروج عن العهدة بيقين

والجواب عن الأول
أنه حكاية حال فلعل ذلك الأمر كان مقرونا بما يدل على الفور
وعن الثاني
أن قوله وسارعو إلى مغفرة من ربكم مجاز من حيث ذكر المغفرة وأراد ما يقتضيها وليس في الآية أن المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور
على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور

وعن الثالث والرابع
أنه يشكل بما إذا صرح وقال أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو عذرنا عما ذكروه
وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة
وعن الخامس
أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشيء ولم يعلم الغلام حاجة السيد إليه في الحال فإنه لايفهم التعجيل
فإن حملتم ذلك على القرينةألزمناكم مثله
فإن قلت إن السيد يعلل ذمه لعبده بأنني أمرته بشيء فأخره ولولا أن الأمر للفور وإلا لما صح هذا التعليل

قلت وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني بالتعجيل وما علمت بأن في التأخير مضرة

وعن السادس
أنه يبطل بما لو قال إفعل في أي وقت شئت وبالنذور والكفارات
ويبطل أيضا بالخبر فإنه لو قال الشارع يقتل زيد عمرا فها هنا يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور
ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب

وعن السابع
أنه يبطل بقوله إفعل في أي وقت شئت ولأن الجامع الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر
وعن الثامن
أن النهي يفيد التكرار فلا جرم يوجب الفور والأمر لا يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور
وعن التاسع وهو طريقة الاحتياط
انه ينتقض بقوله إفعل في اي وقت شئت
واعلم أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه

المسألة السابعة
في أن الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشيء
والخلاف فيه مع القاضي بكر وأكثر المعتزلة لنا وجهان
الأول
هو أن النحويين سموا كلمة إن حرف شرط والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فيلزم أن يكون المعلق بهذا الحرف منتفيا عند انتفاء المعلق عليه

أما ان النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط فذلك ظاهر في كتبهم
وأما أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فلأنهم يقولون الوضوء شرط صحة الصلاة والحول شرط وجوب الزكاة وعنوا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما والاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا
فإن قيل لانزاع في أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط ولكن لعل ذلك من اصطلاحاتهم الحادثة كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع والنصب والجر

وإن لم تكن تسمية هذه الحركات بهذه الأسماء موجودة في أصل اللغة
سلمنا أن هذا الاسم أصلي لكن لا نسلم أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه بل شرط الشيء ما يكون علامة على ثبوته الحكم من قولهم أشراط الساعة أي علاماتها
وإذا كان الشرط عبارة عن العلامة لزم من ثبوتها ثبوت الحكم لكن لا يلزم من عدمها عدم الحكم
سلمنا أن شرط الشيء مايقف عليه الحكم لكن مطلقا أو بشرط أن لا يوجد ما يقوم مقامه
الأول ممنوع والثاني مسلم
وعلى هذا التقدير لا يلزم من عدم هذا الشرط عدم الحكم

إلا إذا عرف أنه لم يوجد شيء ما يقوم مقام هذا الشرط

والجواب
لما دلت الكتب النحوية على تسمية هذا الحرف بحرف الشرط وجب اعتقاد أن هذا الاسم كان حاصلا في أصل اللغة وإلا كان حصول هذا الاسم له النقل وقد بينا النقل خلاف الأصل
قوله شرط الشيء ما يدل على ثبوته
قلنا لو كان كذلك لامتنعت تسمية الوضوء بأنه

شرط صحة الصلاة فإن الوضوء لا يدل على صحة الصلاة وكذا القول في قولنا الحول شرط وجوب الزكاة والإحصان شرط وجوب الرجم
وأما أشراط الساعة فهي وإن كانت علامات دالة على وجوب الساعة لكن يمتنع وجود الساعة إلا عند وجودها فهي مسماة بالأشراط لا بحسب الاعتبار الأول بل بحسب الاعتبارالثاني
قوله شرط الشيء ما ينتفي الحكم عند انتفائه مطلقا أو إذا لم يوجد ما يقوم مقامه

قلنا مطلقا لأنه إذا ثبت كون شيء شرطا وثبت أن لفظ الشرط معناه في اللغة ما ينتفي الحكم عند انتفائه وثبت أن ذلك الشيء يجب انتفاء الحكم عند انتفائه فلو أثبتنا شيئا آخر يقوم مقامه لم يكن ذلك الشيء بعينه شرطا بل يكون الشرط إما هو أو ذلك الآخر لا على التعيين وذلك ينافي قيام الدلالة على كونه بعينه شرطا

الحجة الثانية
ما روي أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا

فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
ولو لم يفهم أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشيء لم يكن لذلك التعجب معنى
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنما تعجبا من ذلك لأنهما عقلا من الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام وأن

حال الخوف مستثناة من ذلك وما عداها ثابت على الآصل في وجوب الإتمام فلذلك تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن
ثم نقول هذا الحديث حجة عليكم لأنه لو امتنع المشروط عند عدم الشرط لما جاز القصر عند عدم الخوف وقد جاز فعلمنا أنه لا يجب عدم المشروط عند عدم الشرط

والجواب عن السؤال الأول
أن الآيات الدالة على وجوب الصلاة لا تنطق بالإتمام ولا بأن الأصل في الصلاة الإتمام بل المروي عن عائشة رضي

الله عنها أنها قالت كانت صلاة السفر والحضر ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر

وعن الثاني
أن طاهر الشرع يمنع من ذلك ولذلك ظهر التعجب لكن لا يمتنع أن يدل دليل على خلاف الظاهر والله أعلم

احتج المخالف بالآية والحكم
أما الآية فهو أن المعلق إن على شيء لو كان عدما عند عدم ذلك الشيء لكان قوله عز و جل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا دليلا على أنه ما حرم الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصن وقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون وقوله أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
ففي جبمع هذه الآيات الحكم غير منتف عند انتفاء الشرط

وأما الحكم فهو ماإذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا لا ينفي الطلاق قبل ذلك الشرط حتى لو نجز أو علق بشرط آخر لم يكن مناقضا للأول
ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض ها هنا

والجواب عن الأول
أن الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن ولكن لا يلزم من عدم الحرمة القول بالجواز لأن زوال الحرمة قد يكون لطريان المحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا وها هنا كذلك لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن على البغاء
وعن الثانية
أنه إذا علق الطلاق على الدخول ثم نجز فإن كان

المنجز واحدة أو اثنتين بقي التعليق فالمنجز غير المعلق حتى لو تزوجت بزوج آخر وعادت إليه وتزوجها وقع الطلاق المعلق
وإن كان المنجز ثلاثا فعندنا المنجز غير المعلق حتى بقي المعلق موقوفا على دخول الدار فإذا تزوجت بزوج آخر وعادت إليه ودخلت الدار وقع الطلاق المعلق والله أعلم

المسألة الثامنة
في الأمر المقيد بعدد
فلنبحث أن الحكم المعلق بعدد هل يدل على حكم ما زاد عليه وما نقص عنه أم لا

فجعل القلتين علة لاندفاع حكم النجاسة فالزائد عليهما أولى أن يكون كذلك
أما إذا كان العدد الناقص موصوفا بحكم لم يجب أن يكون الزائد عليه موصوفا بذلك الحكم لأنه لا يلزم من كون عدد واجبا أو مباحا أن يكون الزائد عليه واجبا أو مباحا
وأما في جانب النقصان فالحكم إما ان يكون إباحة أو إيجابا أو خطرا
فإن كان إباحة لم يخل ما دون ذلك العدد إما أن

أما في جانب الزيادة فمتى كان العدد الناقص علة لعدم أو أمتنع ثبوت ذلك الأمر في العدد الزائد فعله عدم ذلك الأمر حاصلة عند عدم حصول العدد الزائد
مثاله لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة كان الزائد على المائة محظورا لأن المائة موجودة في الزائد على المائة
ولو قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا

يكون داخلا تحت ذلك العدد على كل حال أو لا يدخل تحته على كل حال أو يدخل تحته تارة ولا يدخل أخرى

مثال الأول أن يبيح الله تعالى لنا جلد الزاني مائة فإنه يدل على إباحة
جلد خمسين لأن الخمسين داخلة في المائة
ومثال الثاني أن يبيح الله عز و جل لنا أن نحكم بشهادة شاهدين فإنه لا يدل على إباحة الحكم بشهادة الواحد لإن الحكم بشهادة الشاهد الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة شاهدين

ومثال الثالث أن يبيح لنا استعمال القلتين من الماء إذا وقعت فيهما نجاسة
فإنه قد أباح لنا استعمال القلة من هاتين القلتين ولا يدل على إباحة استعمال قلةواحدة إذا وقعت فيها نجاسة لأن القلة الواحدة إذا وقعت فيه نجاسة غير داخلة تحت قلتين وقعت فيهما نجاسة
أما إذا حظر الله تعالى علينا عددا مخصوصا فإنه يختلف أيضا فربما دل على حظر ما دونه من طريق الأولى لأنه إذا حظر استعمال القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة فحظر القلة الواحدة أولى
أما لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة لم يدل أن ما دونه محظور
وأما إذا أوجب الله تعالى جلد الزاني مائة فإنه يدل على

وجوب جلد خمسين لأنه لا يمكن فعل الكل إلا بفعل الجزء ولكنه ينفي قصر الوجوب على الجزء
فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص إلا لدليل منفصل
واحتج المخالف بالسنة والإجماع
أما السنة فهي أن الله تعالى لما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال عليه الصلاة و السلام والله لأزيدن على السبعين

فعقل أن الحكم منفي عن الزيادة
وأما الإجماع فهو أن الأمة عقلت من تحديد جلد القاذف بالثمانين نفي الزيادة

والجواب عن الأول
إن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد فكذا لا يوجبه فلعله صلى الله عليه و سلم جوز حصول المغفرة لو زاد على السبعين فلذلك قال ما قال

وعن الثاني
أن ذلك النفي إنما عقل بالبقاء على حكم الأصل والله أعلم
المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم
الجمهور منا ومن المعتزلة قالوا إن الأمر والخبر المقيد بالاسم لا يدل على نفي حكم ما عداه كقول القائل زيد في الدار لا يدل على ان عمرا ليس فيها وإذا أمر بشيء لا يدل على أن غيره ليس بواجب

وقال أبو بكر الدقاق منا إنه يدل على ذلك

لنا وجوه
الأول
اتفاق الكل على أنه يجوز أن يقال زيد أكل أو شرب مع العلم بأن غيره فعل ذلك أيضا
الثاني
أن تخصيص البعض بالذكر لو دل على نفي الحكم عن غير المذكور لبطل القياس لأن التنصيص على حكم الأصل ان

وجد معه التنصيص على حكم الفرع كان حكم الفرع ثابتا بالنص لا بالقياس
وإن لم يوجد معه كان النص دالا على عدم الحكم في الفرع وحينئذ لا يجوز إثباته بالقياس لأن النص مقدم على القياس

الثالث
لو دل قولنا زيد أكل على أن غيره لم يأكل لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه والأول باطل لأنه ليس في اللفظ ذكر غير زيد فكيف يدل على حكم غير زيد
والثاني باطل لإن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا يشتركان في فعل ويكون له غرض في الإخبار عن أحدهما دون الآخر
فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه

وأصبح المخالف بأنه لا بد في التخصيص من فائدة ولا فائدة إلا نفي الحكم عما عداه

والجواب
المقدمة الثانية ممنوعة فلعل غرضه كان متعلقا بالأخبار عنه دون غيره فلهذا خصه بالذكر والله أعلم
المسألة العاشرة
في الأمر المقيد بالصفة
وهو كقوله زكوا عن الغنم السائمة

واختلفوا في أنه هل يدل ذلك على أنه لا زكاة في غير السائمة
الحق أنه لا يدل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واختيار ابن سريج والقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وقول جمهور المعتزلة

وذهب الشافعي والأشعري رضي الله عنهما ومعظم الفقهاء منا إلى أنه يدل

لنا وجوه
الأول
إن الخطاب المقيد بالصفة لو دل على أن ما عداه يخالفه لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه لكنه لم يدل عليه من الوجهين فوجب أن لا يدل عليه أصلا
إنما قلنا إنه لا يدل عليه بلفظه لأن اللفظ الدال على ثبوت الحكم في أحد القسمين إن لم يكن مع ذلك موضوعا لنفي الحكم في القسم الثاني لم يكن له عليه دلالة لفظية

وإن كان موضوعا له فحينئذ يكون ذلك اللفظ موضوعا لمجموع إثبات الحكم في أحد القسمين ونفيه عن القسم الآخر
ولا نزاع في دلالة مثل هذا اللفظ على هذا النفي
بيان أنه لا يدل عليه بمعناه أن الدلالة المعنوية هي أن يستلزم المسمى شيئا فينتقل الذهب من المسمى إلى لازمه
وها هنا ثبوت الحكم في أحد القسمين لا يستلزم عدمه عن القسم الثاني لأن الصورتين المشتركتين في الحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة في معلوفة الغنم زكاة يجوز تخصيص إحداهما بالبيان دون الثانية إما لأن بيان الصورة

الأخرى غير واجب أو إن كان واجبا لكنه يبينه بطريق آخر
أما إذا لم يكن واجبا فذلك إما لأنه خطر ببال المتكلم أحد القسمين دون الثاني وهذا إنما يعقل في حق غير الله تعالى
أو أن خطر القسمان بالبال لكن السامع يحتاج إلى بيان أحد القسمين دون الثاني كمن يملك السائمة ولا يملك المعلوفة فإنه بعد حولان الحول يحتاج إلى معرفة حكم السائمة دون حكم المعلوفة فلا جرم يحسن من الشارع أن يخص السائمة بالذكر دون المعلوفة
وأما إذا وجب حكم القسمين معا فها هنا قد

يكون ذكر حكم أحد القسمين دليلا على ثبوت ذلك الحكم في القسم الآخر فإنه تعالى لما منع من قتل الأولاد خشية الإملاق كان ذلك دليلا على المنع من قتلهم عند الغنى بطريق الأولى
وقد لايكون كذلك لكنه تبين حكم القسم الآخر بطريق آخر إما بنص خاص والفائدة فيه أن إثبات الحكم باللفظ العام أضعف من إثباته بالدليل الخاص لاحتمال تطرق التخصيص إلى العام دون الخاص
أو بقياس كما نص على حكم الأجناس الستة في الربا وعرفنا حكم غيرها بالقياس والمقصود أن ينال المكلف رتبة المجتهدين

أو بالبقاء على حكم الأصل مثل أن يقول الشارع لا زكاة في الغنم السائمة ثم نحن ننفي الزكاة عن المعلوفة لأجل أن الأصل عدم الزكاة
وإنما خص القسم الأول بالذكر لأن الاشتباه فيه أكثر فإن السائمة لما كانت أخف مئونة من المعلوفة كان احتمال وجوب الزكاة في السائمة أظهر من احتمال وجوبها في المعلوفة
فثبت أن تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفي ذلك الحكم عن غيرها لا بلفظه ولا بمعناه فوجب أن لا يدل أصلا
فإن قيل المعتبر في الدلالة المعنوية القاطعة حصول الاستلزام قطعا وفي الدلالة المعنوية الظنية

الظاهرة حصول الاستلزام ظاهرا ودعوى الاستلزام ظاهرا لا يقدح فيها عدم اللزوم في بعض الصور
ألا ترى أن الغيم الرطب يدل علىالمطر ظاهرا ثم ذلك الظهور لا يبطل بعدم المطر في بعض الأوقات
إذا عرفت هذا فنحن لا ندعي أن تعليق الحكم على الصفة يدل على نفي الحكم عما عداه قطعا إنما ادعينا أنه يدل عليه ظاهرا
وما ذكرتموه من تخلف هذه الدلالة في بعض الصور إنما يقدح في ذلك الظهور لو بينتم أن الاحتمالات التي ذكرتموها ها هنا مساوية في الظهور للاحتمال الذي ذكرناه وأنتم ما بينتم ذلك فيكون دليلكم خارجا عن محل النزاع

والجواب
تعليق الحكم على الوصف لا يدل على انتفائه عن غيره البتة

أما قطعا فلما سلمتم وأما ظاهرا فلأنه لو دل عليه ظاهرا لكان صرفه إلى سائر الوجوه مخالفة للظاهر والأصل عدم ذلك وهذا القدر كاف في حصول ظن تساوي هذه الاحتمالات

الدليل الثاني
أن الأمر المقيد بالصفة تارة يرد مع انتفاء الحكم عن غير المذكور وهو متفق عليه
وتارة مع ثبوته فيه كقوله تعالى ولا تقلوا أولادكم خشية إملاق ثم لا يجوز قتلهم لغير الإملاق
وقال تعالى في قتل الصيد ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ثم إن قتله خطأ يلزمه الجزاء أيضا

وإذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو ثبوت الحكم في المذكور مع قطع النظر عن ثبوته في غير المذكور ونفيه عنه

الدليل الثالث
هو أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الآخرى والإخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عنه في الصورة الأخرى
فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في أحدى الصورتين لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما
إنما قلنا إن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه

الحكم في الصورة الأخرى ثبوتا وعدما لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الصورتين المختلفتين في بعض الأحكام فإنهما لما كانتا مختلفتين فقد اشتركتا في الاختلاف فلا يمتنع أيضا اختلافهما في بعض الأحكام
وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة لم يلزم من مجرد ثبوته فيها ثبوته في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها
فدل على أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت ذلك الحكم في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها

وإنما قلنا إن الإخبار عن حكم أحدى الصورتين لا يلزمها الإخبار عن حكم الصورة الأخرى لأن إحدى الصورتين مخالفة للأخرى من بعض الوجوه والمختلفان لا يجب اشتراكهما في الحكم والعلم بذلك ضروري فلا يلزم من كون إحداهما متعلق غرض هذا الإنسان بأن يخبر عنها كون الصورة الأخرى كذلك
فثبت أن الإخبار عن إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عن الصورة الأخرى
وإذا ثبتت هاتان المقدمتان ثبت أن الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدل على حالة الصورة الأخرى وجودا ولا عدما وذلك هو المطلوب

الدليل الرابع
لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه لكن التخصيص بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما عداه
بيان الملازمة أن التخصيص بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عداه لكان إنما يدل عليه لأن التخصيص لابد فيه من غرض ونفي الحكم عما عداه يصلح أن يكون غرضا والعلم بأنه لا بد من غرض مع العلم بأن هذا المعنى يصلح أن يكون غرضا يفيد ظن أن هذا هو الغرض

والعمل بالظن واجب وكل هذا المعنى موجود في التخصيص بالاسم فوجب أن يكون التخصيص بالاسم يفيد نفي الحكم عما عداه لأن الصورتين لما اشتركتا في العلة وجب اشتراكهما في الحكم
ولما ثبت أن التخصيص بالاسم لا يفيد نفي الحكم عما عداه وجب في التخصيص بالصفة أن لا يدل على ذلك أيضا والله أعلم

احتج المخالف بأمور
الأول
أن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفيه عما عداه فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك
إنما قلنا إنه يفيد ذلك في العرف لأن القائل إذا قال الإنسان الطويل لا يطير واليهودي الميت لا يبصر

يضحك منه ويقال إذا كان القصير لا يطير والميت الملم لا يبصر فأي فائدة للتقييد بالطويل واليهودي
وأذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في أصل اللغة كذلك وإلا لزم النقل وهو خلاف الأصل

الثاني
أن تخصيص الشيءبالذكر لا بد فيه من مخصص وإلا فقد ترجح أحد الجائزين على الآخر لا لمرجح ونفي الحكم عن غيره يصلح أن يكون مقصودا فوجب حمله عليه تكثيرا لفوائد كلام الشرع أو لأنه مناسب والمناسبة مع الاقتران دليل العلية فيغلب على الظن إن علة التخصيص هذا القدر

الثالث
إنا قد دللنا على أن الحكم المعلق على الصفة يشعر بكون ذلك الحكم معللا بتلك الصفة وتعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب القياس فيلزم من انتفاء هذاالوصف انتفاء الحكم
والجواب عن الأول
أن أهل العرف يضحكون من قول القائل زيد الطويل لا يطير وبالاتفاق إن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه
وللمستدل أن يقول لا نسلم أن التخصيص ها هنا لايفيد نفي الحكم عما عداه لأن قوله زيد الطويل لا يطير تعليق للحكم بالصفة وأنه نفس محل الخلاف
بل لو قال زيد لا يطير فهذا تعليق للحكم بالاسم

بالاسم وها هنا لا يقولون إن تعليقه على الاسم عبث بل يقولون إنه بيان للواضحات وفرق بين أن يقولوا إن هذا الكلام بيان للواضحات وبين أن يقولوا لا فائدة في ذكر هذه الصفة البتة وعلى هذا التقدير اندفع النقض

وعن الثاني
أنا لا نسلم أن التخصيص الصادر من القادر لا بد فيه من مخصص لأن الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنه يختار سلوك أحدهما دون الثاني لا لمرجح
وأيضا فقد بينا أنه لا حسن ولا قبح عقلا فتخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين تخصيص لأحد طرفي الجائز بذلك الحكم من غير مرجح

وأيضا فتخصيص الله تعالى إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله أو ما بعده تخصيص من غير مخصص
وفي هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العقلية
سلمنا أنه لا بد من فائدة ولكن سائر الوجوه التي عددناها في دليلنا الأول فوائد
وأيضا فجملة الدليل منقوضة بالتخصيص بالاسم

وعن الثالث
لا نسلم أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل وسيأتي تقريره في كتاب القياس إن شاء الله تعالى

فرعان
الأول
القائلون بأن التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عما عداه أقروا بأنه لا دلالة له في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ولا في قوله عليه الصلاة والصلام أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها لأن الباعث على التخصيص هو العادة

فإن الخلع لا يجري غالبا إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا عند إباء الولي

فإذن لاحتمال ان يكون سبب التخصيص هو هذه العادة يغلب على الظن أن سببه نفي الحكم عما عداه
الثاني تعليق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه الصلاة و السلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي نفيه عما عداه

في ذلك الجنس ولا يقتضي نفيه في سائر الأجناس
وقال بعض الفقهاء من أصحابنا إنه يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس

لنا
إن دليل الخطاب نقيض النطق فلما تناول النطق سائمة الغنم فدليله يقتضي معلوفة الغنم دون غيرها
احتجوا
بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب الزكاة ويلزم من عدم العلة عدم الحكم لأن الأصل اتحاد العلة

والجواب
أن المذكور سوم الغنم لا مطلق السوم فاندفع ما قالوه والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر
ذكر أبو الحسين البصري فيه تفصيلا لطيفا فقال
هذا الباب يتضمن مسائل
أولها
أنه هل يمكن أن يقول الإنسان لنفسه إفعل مع انه يريد ذلك الفعل ومعلوم أنه لا شبهة في إمكانه
وثانيها
أن ذلك هل يسمى أمرا

والحق أنه لا يسمى به لأن الاستعلاء معتبر في الأمر وذلك لا يتحقق إلا بين شخصين
ومن لا يعتبر الاستعلاء فله أن يقول إن الأمر طلب الفعل بالقول من الغير فإذا لم توجد المغايرة لا يثبت اسم الأمر

وثالثها
أن ذلك هل يحسن أم لا
والحق أنه لا يحسن لأن الفائدة من الأمر

إعلام الغير كونه طالبا لذلك الفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه ما في قلبه

ورابعها
إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر هل يكون داخلا فيه والحق أنه إما أن ينقل أمر غيره بكلام نفسه أو بكلام ذلك الغير
أما الأول فإن كان يتناوله دخل فيه وإلا لم يدخل فيه
مثال الأول أن نقول إن فلانا يأمرنا بكذا
ومثال الثاني أن نقول إن فلانا يأمركم بكذا
وأما الثاني فكقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فهذا يدخل الكل فيه لأن ذلك خطاب مع جملة المكلفين فيتناولهم

بأسرهم إلا من خصه الدليل والله أعلم

المسألة الثانية عشرة
في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير حرف العطف
القائل إذا قال لغيره إفعل ثم قال له إفعل لم يخل الأمر الثاني إما أن يتناول مخالف ما يتناوله الأمر الأول أو مماثله
فإن تناول ما يخالفه اقتضى شيئا آخر لا محالة وهو ضربان

أحدهما يصح اجتماعه مع الأول
والآخر لا يصح
فالذي يصح اجتماعه مع الآول يجب على المأمور فعلهما إما مجتمعين أو مفرقين إلا أن تدل دلالة منفصلة على وجوب الجمع أو وجوب التفريق مثاله قول القائل لغيره صل صم
وأما ما لا يصح أن يجتمع مع الأول فتارة لا يصح عقلا كالصلاة الواحدة في مكانين
وتارة لا يصح سمعا كالصلاة والصدقة وكلا القسمين لا يصح الأمر بفعلهما إلا مفترقين
أما إذا تناول الأمر الثاني مثل ما تناوله الأمر الأول فلا يخلو إما أن يكون ذلك المأمور به يصح التزايد فيه أو لا يصح

فإن صح فإما أن يكون الأمر الثاني غير معطوف على الأول أو يكون معطوفا عليه
فإن لم يكن معطوفا عليه فعند القاضي عبد الجبار ابن احمد أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر الثاني معرفا وهذا هو المختار
وقال أبو الحسين البصري الأشبه الوقف
مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره إسقني ماء اسقني ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر

ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الصلاة انصرف إلى تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور
ومثال ما يعرى عن كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين
والدليل على أنه يفيد غير ما يفيد

الأول
وجهان
الأول
أن الأمر يقتضي الوجوب والفعل الأول وجب بالأمر الأول فيستحيل وجوبه بالأمر الثاني لأن تحصيل الحاصل محال فلو انصرف الأمر الثاني إلى الفعل الأول لزم حصول

ما يقتضي الوجوب من غير حصول الأثر وذلك غير جائز فوجب صرفه إلى فعل آخر

الثاني
أنا لو صرفنا الأمر الثاني إلى عين ما هو متعلق الأمر الأول لكان الأمر الثاني تأكيدا ولو صرفناه إلىغيره لأفاد فائدة زائدة
وإذا وقع التعارض بين أن يفيد الكلام فائدة أصلية وبين أن يفيد تأكيدا فلا شك حمله على ألأول أولى
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فإن لم يكن معرفا فإنه يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشيء لا يعطف على نفسه

مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين و صل ركعتين
فأما إن كان الثاني معطوفا على الأول ومعرفا كقول القائل لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فعند أبي الحسين أن الأشبه هو الوقف فإنه يمكن أن يقال يجب حمله على تلك الصلاة لأجل لام التعريف ويمكن أن يقال بل يجب حمله على صلاة أخرى لأجل العطف وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التوقف

وعندي أن هذا الأخير أولى لأن لام الجنس قد تكون لتعريف الماهية كما قد تكون لتعريف المعهود السابق وبتقدير أن تكون للمعهود السابق فيمكن أن يكون المعهود السابق هو الصلاة التي تناولها الأمر الأول ويمكن أن تكون صلاة أخرى تقدم ذكرها وإذا كان كذلك بقي العطف سليما عن المعارض
أما إذا كان الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد في المأمور به فلا

يخلو إما أن يمتنع ذلك عقلا كقتل زيد وصوم يوم
أو يمتنع ذلك شرعا كعتق زيد فإنه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق
وأذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمران إما أن يكونا عامين أو خاصين أو يكون أحدهما عاما والآخر خاصا
فإن كانا عامين أو خاصين وجب ان يكون مأمورهما واحدا وأن يكون الأمر التالي تأكيدا للأول سواء ورد مع حرف العطف أو بدونه
مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره أقتل كل إنسان واقتل كل إنسان

ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف
ومثاله الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل زيدا واقتل زيدا اقتل زيدا اقتل زيدا
وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو الخاص فالأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه فإن كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم الجمعة
فقال بعضهم إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح حكم العطف
والأشبه الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف وحمله على التأكيد

وأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل صم كل يوم صم يوم الجمعة فها هنا عموم أحد الأمرين دليل على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شيء لم يدخل تحت العام والله أعلم

القسم الثاني في المسائل المعنوية والنظر فيها في أمور أربعة

النظر الأول في الوجوب
والبحث إما عن أقسامه أو أحكامه
أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين وإلى مخير
وبحسب وقت المأمور به إلى مضيق وموسع
وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين و واجب على الكفاية

المسألة الأولى
قالت المعتزلة الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير
وقالت الفقهاء الواجب واحد لا بعينه
واعلم أنه لا خلاف في المعنى بين القولين لأن المعتزلة قالوا المراد من قولنا الكل واجب على البدل هو أنه لايجوز للمكلف الإخلال بجميعها ولا يلزمه الجمع بينها ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلى اختياره

والفقهاء عنوا بقولهم الواجب واحد لا بعينه هذا المعنى بعينه فلا يتحقق الخلاف أصلا
بل ها هنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة ويرويه المعتزلة عن أصحابنا واتفق الفريقان على فساده وهو أن الواجب واحد معين عند الله تعالى غير معين عندنا إلا أن الله تعالى علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه
والدليل على فساد هذا القول أن التخيير معناه أن الشرع

جوز له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز الترك وعدم جوازه متناقض فسح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل واحد منها واجبا على التعيين
فإن قلت لانسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى بيانه أن الله تعالى وإن خير بين الكفارات لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب فلا يحصل الإخلال بالواحب

أو نقول لم لا يجوز أن يقال إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك الفعل المختار واجبا
أو نقول لا يمتنع أن يكون ما عدا ذلك الفعل المعين مباحا ويسقط به الفرض كما يقولون إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به الفرض كالصلاة في الدار المغصوبة
قلت

الجواب عن الأول
أن الله تعالى لما خيرنا بين الأمرين فقد أباح لنا ترك كل واحد منهما بشرط الإتيان بالثاني ووجوبه على التعيين معناه أنه تعالى لم يجوز لنا تركه البتة فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره مع أنه جعله واجبا على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه
أما قوله إن لاختيار المكلف تأثيرا

قلت لا نزاع في تحقق الوجوب قبل الاختيار فمحل الوجوب إن كان واحدا معينا فهو باطل لأن التخيير ينافي التعيين
وإن كان واحدا غير معين فهو محال لأن الواحد الذي يفيد كونه غير معين ممتنع الوجود وما يكون ممتنع الوجود يمتنع أن يقع التكليف بفعله
وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير فذاك هو المطلوب
قوله لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل مال ليس بواجب
قلنا لأن الأمة أجمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال الثلاث المشروعة في الكفارة لو كفر بغيرها من

الثلاث لأجزأته ولكان فاعلا لما وقع التكليف به وذلك يبطل ما ذكروه
واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا ولتركه أثرا وكلا الأثرين يدلان على أن الواجب واحد
أما طرف الفعل فقالوا هذا الفعل له صفات كونه بحيث يسقط الفرض به وكونه واجبا وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب وكونه الواجب وكونه بحيث ينوى بفعله أداء الواجب وكل هذه الصفات تقتضي أن يكون الواجب واحدا معينا

فأولها
سقوط الفرض فقالوا لو لم يكن الواجب واحد معينا لكان

المكلف إذا أتى بكلها دفعة واحدة فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل واحد منها فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني ومع المؤئر الثاني يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الأول فإذا وجد المؤثران معا يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما معا وغينا عنهما معا وذلك محال
وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع فذلك محال

لأنه يلزم أن يكون المجموع واجبا وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب
وإما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها فذلك الواحد إما أن يكون معينا غير معين
والأول باطل لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا وكل موجود فهو في نفسه معين ولا إبهام البتة في الوجود الخارجي إنما الإبهام في الذهن فقط
وإذا امتنع وجود واحد غير معين امتنع الإتيان به وإذا امتنع الإتيان به امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض

ولما بطل هذا ثبت أن علة سقوط الفرض هو الإتيان بواحد منها عند الله تعالى وهو المطلوب

وثانيها
كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يكون المحكوم عليه بالوجوب مجموعها أو كل واحد منها
وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين لا على التخيير وهو باطل
أو واحدا غير معين وهو باطل لأن غير المعين يمتنع وجوده فيمتنع إيجابه
أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا وهو المطلوب

وثالثها
أن يستحق عليه ثواب الواجب فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها أو على مجموعها
وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين
وإما أن لا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد فذلك الواحد إما أن يكون معينا أو غير معين
والثاني محال لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت له معين والحكم الثابث المعين يستدعي محلا معينا ولأن فعل شيء غير معين محال فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف
وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر وهو أنه إذا

أتى بالكل فإما أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد أو في فعل واحد دون الباقي وتمام التقرير كما تقدم
وأما طرف الترك فأثره استحقاق العقاب فالمكلف إذا أخل بها بأسرها فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها فيكون فعل كل واحد منها واجبا على التعيين هذا خلف
أو على ترك واحد منها وهو إما أن يكون معينا أو غير معين والثاني محال
أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الآخر بصفة الوجوب كان إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها

دون الآخر ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لمرجح وهو محال
وأما ثانيا فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين فيستدعي محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين
وأما ثالثا فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان الفعل ولا إمكان لفعل شيء غير معين
ولما بطل هذا القسم ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى وهو المطلوب
وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين فقد احتجوا عليه بأن الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة

فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها فقد صار الواحد الذي ليس بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف
وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه
وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة والخاطبين لامرأة واحدة فإن الجمع فيه حرام

والجواب عن الأول
أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها

قوله يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة
قلنا هذه الأسباب عندنا معرفات لا موجبات ولا يمتنع أن يجتمع على المدلول الواحد معرفات كثيرة

وعن الثاني
إن أردت بقولك هي واجبة كلها أنه يلزم فعلها بعد أن صارت مفعولة فذلك محال وغير لازم
ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إنها قبل دخولها في الوجود هل كانت بحيث يجب تحصيلها إما على الجمع أو على البدل
وجوابنا أن نقول
أما الجمع فلا وأما البدل فنعم بمعنى أنها بعد وجودها يصدق عليها أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل

أي واحد منها اختار المكلف بدلا عن صاحبه وذلك لا يقدح في قولنا

وأيضا
فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف إذا قال الواجب هو ما يختاره المكلف لأنه إذا أتى بالكل فقد اختار كلها فوجب أن يسقط الفرض بكل واحد منها وأن يكون كل واحد منها واجبا وحينئذ يلزمه ما أورده علينا
وعن الثالث
قال بعضهم إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا
ويمكن أن يقال إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب المخير لا ثواب الواجب المعين ومعناه

أنه يستحق على فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين
وعلى هذا التقدير يسقط السؤال
وهو الجواب عن قوله كيف ينوي

وعن الرابع
قال بعضهم يستحق عقاب أدونها عقابا
ويمكن أن يقال لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر
وعن الخامس أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن يتناول
القفيز الآخر لفقدان الاختصاص

فوجب أن يكون كل قفيز منها قد تناوله العقد لكن على سبيل البدل عل معنى أن كل واحد منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين وللمشتري أن يختار أي قفيز شاء وإذا اختاره تعين ملكه فيه فتعين الملك في القفيز المعين كسقوط الفرض في الكفارة
وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه أن كل واحدة منهن طالق على البدل وكل واحد منهم يعتق على البدل على معنى

أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق بواحد معين وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها وحلت له الأخرى وأي عبد اختار عتقه تعينت فيه الحرية وكان له استخدام الباقين والله أعلم

فرع
الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب وقد يكون على البدل
وعلى التقديرين قد يكوة الجمع محرما ومباحا ومندوبا
مثال المحرم في الترتيب أكل الميتة وأكل المباح وفي البدل تزويج المرأة من كفئين
ومثال المباح في الترتيب الوضوء والتيمم وفي البدل ستر العورة بثوب بعد ثوب
ومثال المندوب في الترتيب الجمع بين خصال كفارة الفطر

وفي البدل الجمع بين خصال كفارة الحنث والله أعلم

المسألة الثانية
الفعل بالنسبة إلى الوقت يكون على أحد وجوه ثلاثة
الأول أن يكون الفعل فاضلا عن الوقت والتكليف بذلك لا يجوز إلاإذا جوزنا تكليف ما لا يطاق أو يكون المقصود

إيجاب القضاء كما إذا طهرت الحائض أو بلغ الغلام وبقي من وقت الصلاة مقدار ركعة أو أقل
والثاني أن لا يكون أزيد ولا أنقص نحو الأمر بإمساك كل اليوم وهذا لا إشكال فيه
والثالث أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وهذا هو الواجب الموسع واختلف الناس فيه
فمنهم من أنكره وزعم أن الوقت لا يمكن أن يزيد على الفعل
ومنهم من سلم جوازه
أما الأولون فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه

أحدها
قول من قال من أصحابنا إن الوجوب مختص بأول الوقت وأنه لو أتى به في آخر الوقت كان قضاء

وثانيها
قول من قال من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن الوجوب مختص بآخر الوقت وأنه لو أتى به في أول الوقت كان جاريا مجرى ما لو أتى بالزكاة قبل وقتها
وثالثها
ما يحكى عن الكرخي أن الصلاة المأتي بها في أول الوقت موقوفة فإن أدرك المصلي آخر الوقت وليس هو على صفة المكلفين كان ما فعله نفلا
وإن أدركه على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا
وأما المعترفون بالواجب الموسع وهم جمهور أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأبو الحسين البصري فقد اختلفوا فيه على وجهين

منهم من قال الوجوب متعلق بكل الوقت إلا أنه إنما يجوز ترك الصلاة في أول الوقت إلى بدل هو العزم عليها وهو قول أكثر المتكلمين
وقال قوم لا حاجة إلى هذا البدل وهو قول أبي الحسين البصري وهو المختار لنا
والدليل على تعلق الوجوب بكل الوقت أن الوجوب مستفاد من الأمر والأمر تناول الوقت ولم يتعرض البتة لجزء من أجزاء الوقت لأنه لو دل الأمر على تخصيصه ببعض أجزاء ذلك الوقت لكان ذلك غير هذه المسألة التي نحن نتكلم فيها

وإذا لم يكن في الأمر دلالة على تخصيص ذلك الفعل بجزء من أجزاء ذلك الوقت وكان كل جزء من أجزاء الوقت قابلا له وجب أن يكون حكم ذلك الأمر هو إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت أراده المكلف وذلك هو المطلوب
فإن قيل لا نسلم إمكان تحقق الوجوب في أول الوقت والتمسك بلفظ الأمر إنما يكون إذا لم يثبت بالدليل العقلي امتناعه
وها هنا قد ثبت ذلك لأن كونه واجبا في ذلك الوقت معناه أن المكلف ممنوع من أن لا يوقعه فيه والمكلف غير ممنوع من أن لا يوقع الصلاة في أول الوقت وإذا كان كذلك استحال كون الصلاة واجبة في أول الوقت وإذا تعذر حمل الأمر على الوجوب وجب حمله على الندب

فإن قلت الفرق بينه وبين المندوب من وجهين

الأول أن هذه الصلاة لا يجوز تركها مطلقا والمندوب يجوز تركه مطلقا
والثاني أن هذه الصلاة إنما يجوز تركها في أول الوقت إلى بدل وهو العزم على فعلها بعد ذلك وأما المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا
قلت
الجواب عن الأول
إني لا أدعي أن الصلاة ليست واجبة مطلقا بل أدعي أنها ليست واجبة في أول الوقت بدليل أنه يجوز تركها في أول الوقت
فأما المنع من تركها في آخر الوقت فذلك يدل

على وجوبها في آخر الوقت ولا يلزم من كون الشيء واجبا في وقت كونه واجبا في وقت آخر

وعن الثاني
إن العزم على الصلاة لا يجوز أن يكون بدلا عن الصلاة ويدل عليه أمور
أحدها
أن العزم على الصلاة إما أن يكون مساويا للصلاة في جميع الأمور المطلوبة أو لا يكون
فإن كان الأول وجب أن يكون الإتيان بالعزم سببا لسقوط التكليف بالصلاة لأن الأمر ما وقع في ذلك الوقت إلا بالصلاة مرة واحدة وهذا العزم مساو للصلاة مرة واحدة في جميع الجهات المطلوبة فيلزم سقوط الأمر بالصلاة

وإن كان الثاني امتنع جعله بدلا عن الصلاة لأن بدل الشيء يجب أن يكون قائما مقامه في الأمورالمطلوبة

وثانيها
أن الموجود ليس إلا الأمر بالصلاة في هذا لاوقت والأمر بالصلاة في هذا الوقت لا دلالة فيه على إيجاب العزم فإذن لا دليل البتة على وجوب العزم وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به وإلا لصار ذلك تكليف ما لا يطاق
وثالثها
لو كان العزم بدلا عن الصلاة فإذا أتى المكلف بالعزم في هذا الوقت ثم جاء الوقت الثاني فإما أن يجب فعل العزم مرة أخرى أو لا يجب لاجائز أن يجب لأن بدل العبادة إنما يجب على حد وجوبها ليكون فعله جاريا مجرى فعلها

ومعلوم أن الأمر إنما اقتضى وجوب فعل العبادة في أحد اجزاء هذا الوقت مرة واحدة ولم يقتضي وجوب فعلها مرة أخرى في الوقت الثاني فوجب أن يكون وجوب بدلها على هذا الوجه
فثبت أنه لا يجب فعل العزم في الوقت الثاني فإذن الوقت الثاني لا يجب فيه فعل الصلاة ولا فعل بدلها وهو هذا العزم
فثبت أن جواز ترك الصلاة في هذا الوقت لا يتوقف على فعل البدل وعند هذا يجب القطع بأنها ليست واجبة بل مندوبة

والجواب
قوله الفعل يجوز تركه في أول الوقت فلا يكون واجبا في أول الوقت
قلنا للناس ها هنا طريقان
الطريق الأول وهو الأصح أن حقيقة الواجب الموسع ترجع عند البحث إلى الواجب المخير فإن الآمر كأنه قال إفعل هذه العبادة إما في أول الوقت أو في وسطه أوفي آخره وإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما لا يفضل عنه فافعله لا محالة ولا تتركه البتة
فقولنا
يجب عليه أيقاع هذا الفعل إما في هذا الوقت أو في ذاك يجري مجرى قولنا الواجب المخير إن الواجب

علينا إما هذا أو ذاك فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان بجميعها والأمر في اختيار أي واحد منها مفوض إلى رأي المكلف فكذا ها هنا لا يجوز للمكلف أن لا يوقع الصلاة في شيء من أجزاء هذا الوقت ولا يجب عليه أن يوقعها في كل أجزاء هذا الوقت وتعيين ذلك الجزء مفوض إلى رأي المكلف
هذا إذا كان في الوقت فسحة
فأما إذا ضاق الوقت فإنه يتضيق التكليف ويتعين

فهذا هو الذي نقول به
وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات بدل هو العزم
الطريق الثاني وهو اختيار أكثر الأصحاب وأكثر المعتزلة هو أن الفرق بين هذا الواجب وبين المندوب أن هذا الواجب لا يجوز تركه إلا لبدل والمندوب يجوز تركه من غير بدل
قوله أولا العزم إما أن يكون قائما مقام الأصل في جميع الجهات المطلوبة أو لا يكون
قلنا لم لا يجوزأن يكون قائما مقام الأصل لا في جميع الأوقات بل في هذا الوقت المعين فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت المعين سقط عنه الآمر بالأصل في هذا الوقت ولكن لم يسقط عنه الأمر بالأصل في كل الأوقات

واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأن الأمر لا يفيد التكرار بل لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت فقد صار قائما مقامه في المرة الواحدة فإذا لم يكن مقتضى الأمر إلا مرة واحدة وقد قام هذا البدل مقام المرة الواحدة فقد تأدى تمام مقصود هذا الأمر بهدا البدل فوجب سقوط التكليف به بالكلية
أما قوله ثانيا لا دليل على إثبات العزم
قلنا لا نسلم لأن النص لما دل على الواجب الموسع ودل العقل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا

أثبتنا له بدلا ودل الإجماع على أن ذلك البدل هو العزم لأن القائل قائلان قائل أثبت البدل وقائل ما أثبته وكل من أثبته قال إنه العزم فلو أثبتنا البدل شيئا آخر لكان ذلك خرقا للإجماع وهو باطل
فثبت أن الدليل دل على وجوب العزم لكن بهذا التدريح
ثم هذا لا يكون مخالفا للنص لأن النص كما لا يثبته لا ينفيه وإثبات مالا يتعرض له النص بالنفي ولا بالإثبات لا يكون مخالفة للظاهر

واعلم أن هذا الجواب ضعيف فإنا نسلم أن العقل دل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا وذلك لأنه لا معنى للواجب الموسع إلا أن يقول السيد لعبده لا يجوز لك إخلاء أجزاء هذا الوقت عن هذا الفعل ولا يجب عليك إيقاعه في جميع هذه الأجزاء ولك أن تختار أيها شئت بدلا عن الآخر
ومعلوم أنه لو قال ذلك لما احتيج معه إلى إثبات بدل آخر
وأما قوله ثالثا إما أن يجب فعل العزم في الوقت الثاني أو لا يجب
قلنا لم لا يجوز أن يجب وذلك لأن العزم بدل

عن الفعل في الوقت الأول فيفتقر إلى عزم ثان بدلا عن الفعل في الوقت الثاني 3 واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الإتيان بالعزم الواحد كافيا
فظهر بما ذكرناه أن القول بالواجب الموسع حق وأنه لا حاجة في إثباته إلى إثبات بدل هو العزم والله أعلم

فرع
في حكم الواجب الموسع في جميع العمر وذلك كالمنذورات وقضاء العبادات الفائتة وتأخير الحج من سنة إلى سنة فنقول

إن جوزنا له التأخير أبدا وحكمنا بأنه لا يعصي إذا مات لم يتحقق معنى الوجوب أصلا
وإن قلنا إنه يتضيق التكليف عليه عند الانتهاء إلى زمان معين من غير أن يوجد على تعيين ذلك الزمان دليل فهو تكليف ما لا يطاق فإنه إذا قيل له إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الفعل فأنت في الحال عاص بالتأخير
وإن كان في علمه أنك لا تموت قبل الفعل فلك التأخير فهو يقول وما يدريني ماذا في علم الله تعالى وما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فلم يبق إلا أن نقول يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى بعد ذلك سواء بقي أو لم يبق
فأما إذا غلب على ظنه أنه لا يبقى بعد ذلك عصى بالتأخير سواء مات أو لم يمت لأنه مأخوذ بموجب ظنه

ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن
وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى هذه المدة
والشافعي رضي الله عنه يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض

والمعزر إذا غلب على ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه أثم لكن لأنه في اخطأ ظنه والمخطىء ضامن غير آثم والله أعلم

المسألة الثالثة
في الواجب على سبيل الكفاية
الأمر إذا تناول جماعة فإما أن يتناولهم على سبيل الجمع أولا على سبيل الجمع فإن تناولهم على سبيل الجمع فقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض كصلاة الجمعة وقد لايكون كذلك كما في قوله تعالى وأقيموا الصلاة

أما إذا تناول الجميع فذلك من فروض الكفايات وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشيء حاصلا بفعل البعض كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين وإذلال العدو فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين
واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب
فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها
وإن غلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به وجب عليهم
وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به وجب على كل طائفة القيام به

وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كل واحدة من تلك الطوائف وإن كان يلزم منه أن لا يقوم به أحد لأن تحصيل العلم بأن غيري هل فعل هذا الفعل أم لا غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن والله أعلم

النظر الثاني في أحكام الوجوب وفيه مسائل
المسألة الأولى
الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به بشرطين
أحدهما أن يكون الأمر مطلقا
والآخر أن يكون الشرط مقدورا للمكلف
وقالت الواقفية إن كانت مقدمة المأمور به سببا له كان إيجاب المسبب إيجابا للسبب لأن عند حصول السبب يجب المسبب فيمتنع أن يوجب المسبب عند اتفاق وجود السبب

أما إذا كانت المقدمة شرطا فحينئذ لا يكون المشروط واجب الحصول عند حصول الشرط فها هنا لا يكون الأمر بالمشروط أمرا بالشرط كالصلاة مع الوضوء

لنا
أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال ولا يستقر وجوبه على هذا الوجه إلا ومقدمته واجبة
إنما قلنا إن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال لأنه لا فرق بين قوله أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت وبين قوله لا ينبغي أن يخرج هذا الوقت إلا وقد أتيت بذلك الفعل في كون كل واحد من هذين اللفظين دليلا على الإيجاب على كل حال
وإنما قلنا إن إيجاب الفعل على كل حال يقتضي إيجاب مقدمته لأنه لو لم يقتض ذلك لكان مكلفا حال عدم المقدمة وذلك تكليف مالا يطاق

فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة للظاهر لأن اللفظ يقتضي إيجاب الفعل على كل حال فتخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر لكنا نقول كما أن تخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر فكذا إيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا يقتضي وجوبها خلاف الظاهر وليس تحمل إحدى المخالفتين بأولى من تحمل الآخرى فعليكم بالترجيح

والجواب
قوله لم لا يجوز أن يقال إن هذا الأمر أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة
قلنا هذا يبطل بأمر الولى غلامه بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على مسافة منه لأنه إن كان كلفه سقي الماء بشرط أن يكون قد قطع المسافة وجب إذا قعد في مكانه ولم يقطع المسافة أن لا يتوجه عليه الأمر بالسقي

وإن كان مكلفا بالسقي مع عدم قطع المسافة فهذا تكليف مالا يطاق فكل ما هو جواب الخصم فهو جوابنا ها هنا
قوله ليس تحمل إحدى المخالفتين أولى من تحمل الثانية
قلنا مخالفة الظاهر هي إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته اللفظ
فأما إثبات ما لا يتعرض اللفظ له لا بنفي ولا إثبات فليس مخالفة للظاهر والمقدمة لا يتعرض اللفظ لها لا بنفي

ولا إثبات فلم يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر
وليس كذلك إذا خصصنا وجوب الفعل بحال وجود المقدمة دون حال عدمها لأن ذلك يخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل حال

فروع
الأول
اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا معه ضربان
أحدهما كالوصلة والطريق المتقدم على العبادة
والآخر ليس كذلك

والأول ضربان أحدهما ما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه
والآخر لا يجب ذلك فيه
أما الأول فكما إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد فإنه لا طريق إليه إلا الضرب فهو يستلزم الألم في البدن الصحيح
وأما الثاني فضربان
أحدهما يحتاج الواجب إليه شرعا
والآخر يحتاج إليه عقلا

أما الأول فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة
وأما الثاني فكالقدرة والآلة وقطع المسافة إلى أقرب الأماكن
وهذا على قسمين
منه ما يصح من المكلف تحصيله كقطع المسافة وإحضار بعض الآلات
ومنه مالا يصح منه كالقدرة
وأما الذي لايكون كالوصلة فضربان

أحدهما أن يصير فعله لازما لأن المأمور به اشتبه به وهو كما إذا ترك
الإنسان صلاة من الصلوات

الخمس لا يعرفها بعينها فيلزمه فعل الخمس لأنه لا يمكن مع الالتباس أن يحصل له يقين الإتيان بالصلاة المنسية إلا بفعل الكل

وثانيهما أن لا يتمكن من استيفاء العبادة إلا بفعل شيء آخر لأجل ما
بينهما من التقارب نحو ستر جميع الفخذ فإنه لا يمكن إلا مع ستر بعض الركبة وغسل كل الوجه لا يمكن إلا مع غسل جزء من الرأس
وأما الترك فهو أن يتعذر عليه ترك الشيء إلا عند ترك غيره وذلك إذا كان الشيء ملتبسا بغيره وهو ضربان
أحدهما أن يكون قد تغير في نفسه

والآخر أن لا يكون قد تغير في نفسه
فالأول نحو اختلاط النجاسة بالماء الظاهر وللفقهاء فيه اختلافات غير لائقة بأصول الفقه
وأما الذي لا يتغير مع الالتباس فإنه يشتمل على مسائل
منها أن يشتبه الإناء النجس بالإناء الطاهر والفقهاء اختلفوا في جواز
التحري فيه

ومنها أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها ثم يذهب عليه
عينها
والأقوى تحريم الكل تغليبا للحرمة على الحل
الفرع الثاني
قال قوم إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال
وهذا باطل لأن المراد من الحل رفع الحرج والجمع بينه وبين التحريم متناقض

فالحق أنهما حرامان لكن الحرمة في إحداهما بعلة كونها أجنبية وفي الأخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية
أما إذا قا لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال بحل وطئهما لأن الطلاق شيء متعين فلا يحصل إلا في محل متعين فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة منهما فيكون الموجود قبل التعيين ليس الطلاق بل أمرا له صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به
وإذا ثبت أن قبل التعيين لم يوجد الطلاق وكان الحل موجودا وجب القول ببقائه فيحل وطؤهما معا

ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة
فإن قلت لما وجب عليه التعيين والله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة والمطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشتبه علينا
قلت الله تعالى يعلم الأشياء على ماهي عليه فلا يعلم غير المتعين متعينا لأن ذلك جهل وهو في حق الله تعالى محال بل يعلمه غير متعين في الحال ويعلم أنه في المستقبل سيتعين

الفرع الثالث
اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع إذا زاد على قدر الزيادة هل توصف الزيادة بالوجوب والحق لا لأن الواجب هو الذي لا يجوز تركه وهذه الزيادة يجوز تركها فلا تكون واجبة

المسألة الثانية
في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده
اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي بل المراد أن الأمر بالشيء دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام
وقال جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا إنه ليس كذلك
لنا
إن ما دل على وجوب الشيء دل على وجوب ما هو من ضروراته إذا كان مقدورا للمكلف على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به

فاللفظ الدال على الطلب الجازم وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق الالتزام
ويمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى فيقال إما أن يمكن أن يوجد مع الطلب الجازم الإذن بالإخلال أو لا يمكن
فإن كان الأول كان جازما بطلب الفعل ويكون قد أذن في الترك وذلك متناقض
وإن كان الثاني فحال وجود هذا الطلب كان الإذن في الترك ممتنعا ولا معنى لقولنا الأمر بالشيء نهي عن ضده إلا هذا
فإن قيل لا نسلم أن الطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال وبيانه من وجهين

الأول إن الأمر بالمحال جائز فلا استبعاد في أن يأمر جزما بالوجود
وبالعدم معا

الثاني أن الآمر بالشيء قد يكون غافلا عن ضده والنهي عن الشيء مشروط
بالشعور به فالآمر بالشيء حال غفلته عن ضد ذلك الشيء يمتنع أن يكون ناهيا عن ذلك الضد فضلا عن أن يقال هذا الأمر نفس ذلك النهي
والجواب
قوله الأمر بالمحال جائز
قلنا هب أنه جائز ولكن لا تتقرر ماهية الإيجاب في الفعل إلا عند تصور المنع من تركه فكان اللفظ الدال على الإيجاب دالا على المنع من الإخلال به ضمنا

قوله قد يأمر بالشيء حال غفلته عن ضده
قلنا لا نسلم أنه يصح منه إيجاب الشيء عند الغفلة عن الإخلال به وذلك لأن الوجوب ماهية مركبة من قيدين أحدهما المنع من الترك فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك فيكون متصورا للترك لا محالة
وأما الضد الذي هو المعنى الوجودي المنافي فقد يكون مفغولا عنه ولكنه لا ينافي الشيء لماهيته بل لكونه مستلزما عدم ذلك الشيء فالمنافاة بالذات ليست إلا بين وجود الشيء وعدمه
وأما المنافاة بين الضدين فهي بالعرض فلا جرم عندنا الأمر بالشيء نهي عن الإخلال به بالذات ونهي عن أضداده الوجودية بالعرض والتبع

سلمنا أن الترك قد يكون مغفولا عنه لكن كما أن الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها وإن كانت تلك المقدمة قد تكون مغفولا عنها فلم لا يجوز أن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وإن كان ذلك الضد مغفولا عنه
سلمنا كل ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يقال الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بشرط أن لا يكون الآخر آمرا بما لا يطاق وبشرط أن لا يكون غافلا عن الضد ولا استبعاد

في أن يستلزم شيء شيئا عند حصول شرط خاص وأن لا يستلزمه عند عدم ذلك الشرط

المسألة الثالثة
في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك هذا هو المختار وهو قول القاضي أبي بكر خلافا للغزالي
لنا وجهان
الأول أنه لو كان كذلك لكان حيث تحقق العفو لم يتحقق الوجوب وذلك باطل على قولنا بجواز العفو عن أصحاب الكبائر

والثاني أن ماهية الوجوب تتحقق عند المنع من الإخلال بالفعل وذلك يكفي في تحققه ترتب الذم على الترك ولا حاجة إلى ترتب العقاب على الترك
والعجب أن الغزالي إنما أورد هذه المسألة بعد أن زيف ما قيل في حد الواجب أنه الذي يعاقب على تركه وذكر أن الأولى أن يقال الواجب هو الذي يذم تاركه
وهذا منه اعتراف بأن الواجب لا يتوقف تقرر ماهيته على

العقاب وأنه يكفي في تحققه استحقاق الذم ثم ذكر عقيبه فلا فصل هذه المسألة وذكر أن ماهية الوجوب لا تتحقق إلا بترجيح الفعل على الترك والترجيح لا يحصل إلا بالعقاب

ولا شك أنه مناقضة ظاهرة

المسألة الرابعة
الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي
لنا
أن المقتضى للجواز قائم والمعارض الموجود لا يصلح مزيلا فوجب بقاء الجواز
إنما قلنا إن المقتضي للجواز قائم لأن الجواز جزء من الوجوب والمقتضى للمركب مقتض لمفرداته
وإنما قلنا إن الجواز جزء من الوجوب لأن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل والوجوب عبارة عن رفع

الحرج عن الفعل مع إثبات الحرج في الترك ومعلوم أن المفهوم الأول من المفهوم الثاني
وإنما قلنا إن المقتضى للمركب مقتض لمفرداته لأنه ليس المركب إلا عين تلك المفردات فالمقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات
فإن قلت المقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها فلم قلت إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها
قلت تلك المفردات من حيث هي غير ومن حيث إنها مفردة غير وأنا لاأدعي أنها من حيث هي مفردة

داخلة في المركب وكيف يقال ذلك فيه وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب وأحد المعاندين لا يكون داخلا في الآخر ولكنني أدعي أنها من حيث هي داخلة في المركب فيكون المقتضى للمركب مقتضيا تلك المفردات من حيث إنها هي لا من حيث إنها مفردة
وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح

مزيلا لأن المعارض يقتضي زوال الوجوب والوجوب ماهية مركبة والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد قيودها فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج عن الترك ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل
فثبت أن المقتضى للجواز قائم والمعارض لا يصلح مزيلا
فإن قيل الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب هو الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل فقط أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معا الأول مسلم والثاني ممنوع
ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب لأن مسمى رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود

إلا مقيدا إما بقيد إلحاق الحرج بالترك كما في الوجوب
أو بقيد رفع الحرج عن الترك كما في المندوب ويستحيل أن يبقى بدون هذين القيدين
وأما الثاني فممنوع لأن الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك ينافي الوجوب الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على الترك والمنافي لا يكون جزءا
فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضيا للجواز بهذا المعنى

والجواب
أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو الجواز بالمعنى الأول
قوله إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين
قلنا نسلم لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب رفع منه الحرج عن الترك فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك
وقد بقي أيضا القدر المشترك بين الوجوب والندب

وهو زوال الحرج عن الفعل فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن الفعل وعن الترك معا وذلك هو المندوب والمباح
فظهر بما ذكرنا أن الآمر إذا لم يبق معمولا به في الوجوب بقي معمولا به في الجواز والله أعلم

المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا
والدليل عليه أن الواجب ما لا يجوز تركه والجمع بينه وبين جواز الترك متناقض
واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين

إحداهما
الكعبي وأتباعه فإنه روى في كتب أصحابنا عنهم أنهم قالوا المباح واجب
واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام وترك الحرام واجب فيلزم أن يكون المباح واجبا
وجوابه
أن المباح ليس نفس ترك الحرام بل هو شيء به يترك الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون الشيء

المعين الذي يحصل به الترك واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشيء آخر غير ذلك الأول

وثانيهما
ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على المريض والمسافر والحائض وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما وجب
وقال آخرون إنه لا يجب على المريض والحائض ويجب على المسافر
وعندنا أنه لا يجب على الحائض والمريض البتة
وأما المسافر فيجب عليه صوم أحد الشهرين

إما الشهر الحاضر أو شهر آخر وأيهما أتى به كان هو الواجب كما قلنا في الكفارات الثلاث
ودليلنا ما تقدم من أن الواجب هو الذي منع من تركه وهؤلاء ما منعوا من ترك الصوم فلا يكون واجبا عليهم بل الحائض ممنوعة من الفعل والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من الترك

واحتج المخالف بأشياء
أحدها
قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أوجب الصوم على كل من شهد الشهر وهؤلاء قد شهدوا الشهر فيجب عليهم الصوم

وثانيهما
أنه ينوي قضاء رمضان ويسمى قضاء وذلك يدل على أنه يحكي وجوبا سابقا
وثالثها
أنه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه فوجب أن يكون بدلا عنه كغرامات المتلفات
والجواب عن الكل
إن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على مخالفة ضرورة العقل وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك فعند عدم المنع من الترك لو حاولنا إثبات المنع من الترك لكنا قد تمسكنا بالظواهر والأقيسة في إثبات الجمع بين النقيضين وذلك لا يقوله عاقل

بلى إن فسرتم الوجوب بشيء آخر فذلك كلام آخر

فروع
الفرع الأول
اختلفوا في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا
والحق أن المراد من الأمر إن كان هو الترجيح المطلق من غير إشعار بجواز الترك ولا بالمنع من الترك فنعم

وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض فلا لكنا لما بينا أن الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني

الفرع الثاني
اختلفوا في أن المندوب هل يصير واجبا بعد الشروع فيه فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أن التطوع يلزم بالشروع وعند الشافعي رضي الله عنه لايجب
لنا
قوله عليه الصلاة و السلام الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما يجوز له تركه بعد الشروع

فنقول يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة لقوله عليه الصلاة و السلام ولكل امرىء ما نوى
وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات

الفرع الثالث
المباح هل هو من التكليف أم لا
والحق أنه إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف بفعله فمعلوم أنه ليس كذلك
وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته

فاعتقاد كون ذلك الفعل مباحا مغاير لذلك الفعل في نفسه فالتكليف بذلك الاعتقاد لا يكون تكليفا بذلك المباح
والأستاذ أبو إسحق سماه تكليفا بهذا التأويل وهو بعيد مع أنه نزاع في محض اللفظ

الفرع الرابع المباح هل هو حسن
والحق أنه إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن فالمباح حسن

وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح والثواب فالمباح ليس بحسن

الفرع الخامس المباح هل هو من الشرع
قال بعضهم ليس من الشرع لأن معنى المباح أنه لا حرج في فعله وفي تركه وذلك معلوم قبل الشرع فتكون الإباحة تقرير للنفي الأصلي لا تغييرا فلا يكون من الشرع

أحدها
أن يقول الشرع إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فاتركوا
والثاني
أن تدل أخبار الشرع على انه لا حرج في الفعل والترك
والثالث
أن لا يتكلم الشرع فيه البتة ولكن انعقد الإجماع مع ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير
وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها
إذا عرفت هذا فنقول إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع فليس كذلك بل الإباحة تقرير لا تغيير

وإن عنى بكونه حكما شرعيا أن كلام الشرع دل على تحققه فظاهر أنه كذلك لأن الإباحة لا تتحقق إلا علىأحد الوجوه الثلاثة المذكورة
وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها فكانت الإباحة من الشرع بهذا التأويل والله أعلم

النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي في المأمور به
وفيه مسائل
المسألة الأولى
يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا خلافا للمعتزلة والغزالي منا

لنا وجوه
ألأول أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان والإيمان منه محال لأنه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا والجهل محال والمفضي إلى المحال محال
فإن قيل لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال ولا نسلم أن حصوله يفضي إلى انقلاب العلم جهلا
بيانه أن العلم يتعلق بالشيء المعلوم على ما هو به فإن كان الشيء واقعا تعلق العلم بوقوعه
وإن كان غير واقع تعلق العلم بلا وقوعه

فإذا فرضت الإيمان واقعا لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه
وإن فرضته غير واقع لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بلا وقوعه ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم بل يقتضي أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر فلم قلت إن ذلك محال
سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر لكنه معارض بوجوده دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود

الأول أن الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود فلو انقلب واجبا بسبب العلم
لكان العلم مؤثرا في المعلوم وهو محال لأن العلم يتبع المعلوم ولا يؤثر فيه
الثاني
لو كان ما علم الله تعالى وجوده واجب الوجود وكل ما علم الله تعالى عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون الله تعالى قادرا على ايجاد شيء لأن الشيء لا ينفك من أن يقال إن الله تعالى علم وجوده أو علم عدمه

وعلى التقديرين يكون واجبا والواجب لا قدرة عليه البتة فلزم أن لا يقدر الله تعالى على شيء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

الثالث
لو كان ما علم الله وجوده واجب الوجود وما علم عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون لنا اختيار في فعل شيء أصلا وأن تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار من حيث إنه لا يكون باختيارنا لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل لأنا ندرك تفرقة ضرورية بين الحركات الحيوانية الاختيارية والجماديةالاضطرارية
الرابع
أنه لو كان كذلك لكان العالم واجب الوجود في

الوقت الذي علم الله تعالى وقوعه فيه والواجب يسغني عن المؤثر فيلزم استغناء حدوثه عن المؤثر فيلزم ان لا يفتقر حدوث العالم ولا شيء من الأشياء إلى القادر المختار وذلك كفر

الخامس
إن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه أو لا يكون فإن كان سببا لوجوبه لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة لأنه لا معنى للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم فإذا كان العلم كذلك صار العلم عين القدرة والإرادة وذلك محال لأنه يقتضي قلب الحقائق وهو غير معقول
وإن لم يكن لعلم سببا لوجوب المعلوم فقد سقط ما ذكرتموه من الدلالة لأنه مبني على أن المعلوم صار واجب

الوقوع عند تعلق العلم به فإذا بطل ذلك بطل دليلكم
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر لكن امتناعه ليس لذاته بل بالنظر إلى علم الله تعالى فلم قلتم إن ما لا يكون محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الأمر بالمحال واقع لكنه يدل على أنه لا تكليف إلا وهو تكليف بما لا يطاق وذلك لأن الشيء إن كان معلوم العدم كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع

وإن كان معلوم الوجود كان واجب الوجود وما كان واجب الوجود لا يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر فيكون التكليف به أيضا تكليفا بما لا يطاق
فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق
وأن أحدا من العقلاء لم يقل بذلك فإن بعض الناس أحاله عقلا وبعضهم جوزه ولم يقل أحد بأنه يمتنع ورود التكليف إلا بما لا يطاق
فما هو نتيجة هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا ينتجه هذا الدليل فيكون ساقطا

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم ولكنه معارض بالنص والمعقول
أما النص فقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما جعل عليكم في الدين من حرج وأي حرج فوق تكليف بما لا يطاق
وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه

الأول أن في المشاهد أن من كلف الأعمى

نقط المصاحف والزمن الطيران في الهواء عد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

الثاني
المحال غير متصور وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به
إنما قلنا إنه غير متصور لأن كل متصور متميز وكل متميز ثابت فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا
بيان الثاني أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة والجمع بينهما متناقض
الثالث
إذا جوزتم الأمر بالمحال فلم لا تجوزون أمر الجمادات وبعثة الرسل إليها وإنزال الكتب عليها

والجواب
قوله إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر كان الموجود في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر
قلنا نحن وإن لم نعلم أن علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان زيد أو بكفره لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين وذلك العلم كان حاصلا في الأزل فنقول لو لم يحصل متعلق ذلك العلم لزم انقلاب ذلك العلم جهلا في الماضي وهو محال من وجهين
أحدهما امتناع الجهل على الله تعالى
والثاني أن تغير الشيء في الماضي محال
قوله العلم غير مؤثر

قلنا اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم فأما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم
قوله لزم أن لا يقدر الله تعالى على شيء
قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع الإيقاع بالإرادة والقدرة فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل بل تعلق علمه به

على الوجه المخصوص يكشف عن أن قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه
قوله يلزم الجبر
قلنا إن عنيت بالجبر أن العبد لا يتمكن من شيء على خلاف علم الله تعالى فلم قلت إنه محال
قوله يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث حين حدوثه فيستغنى عن القدرة والإرادة
قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرةوالإرادة والفرع لا يغني عن الأصل
قوله إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب ولا يكون

قلنا نختار أنه ليس سببا للوجوب ولكن نقول إنه يكشف عن الوجوب وإذا كان كاشفا عن الوجوب ظهر الفرق
قوله هذا لا يدل على جواز الأمر بالجمع بين الضدين
قلنا بل يدل لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان زيد فإذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم الإينما فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين

قوله هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا يطاق وذلك لم يقل به أحد
قلنا الدلائل القطعية العقلية لا تدفع بأمثال هذه الدوافع
أما الآية فهي معارضة بقوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية بل تعلم أن تلك الظواهر مأولة ولا حاجة إلى تعيين تأويلها
قوله أنه عبث
قلنا إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد فلم قلت إن هذا محال

قوله المحال غير متصور
قلنا لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليه بالامتناع لما أن التصديق موقوف على التصور ولأنا نميز بين المفهوم من قولنا الواحد نصف الإثنين والمفهوم من قولنا الوجود والعدم يجتمعان ولولا تصور هذين المفهومين لامتنع التمييز
قوله لم لا يجوز أمر الجماد
قلنا حاصل الأمر بالمحال عندنا هو الإعلام بنزول العقاب وذلك لا يتصور إلا في حق الفاهم

الدليل الثاني
إن الله تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون وذلك في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون

إذا ثبت هذا فنقول أولئك الأشخاص لو آمنوا لا نقلب خبر الله تعالى الصدق كذبا والكذب على الله محال إما لأدائه إلى الجهل أو إلى الحاجة على قول المعتزلة أو لنفسه كما هو مذهبنا والمؤدي إلى المحال محال فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال
وتمام هذا التقرير ما تقدم

الدليل الثالث
أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه

أنه لا يؤمن فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين

الدليل الرابع
أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع وإذا كان كذلك كان الجبر لازما ومتى كان الجبر لازما كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق
وإنما قلنا إن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى لأن العبد لا يخلو إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك أولا يكون كذلك

فإن كان الأول فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على مرجح أو لا يكون
فإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم فيه ولا يتسلسل بل لابد وأن ينتهي إلى داعية ليست من العبد بل من الله تعالى وهو المقصود
وإن لم يتوقف على مرجح فقد ترجحت الفاعلية على التاركية لا لمرجح وهو محال لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لو جاز أن يكون لمرجح لجاز في كل العالم أن يكون كذلك وحينئذ لا يمكن الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع وهو محال

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر وحده يكفي في ترجيح أحد الطرفين على الآخر
قلت قول القائل إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر لأن القادر رجحه مغالطة لأنا نقول هل لقولك القادر رجحه مفهوم زائد على كونه قادرا و على وجود الأثر أو ليس له مفهوم زائد
فإن كان له مفهوم زائد فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر عنه دون الآخر موقوفا على أمر زائد وذلك

هو القسم الأول الذي بينا أنه يفضي إما إلى التسلسل أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى
وإن لم يكن له مفهوم زائد صار معنى قولنا القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلى أن القادر يستمر كونه قادرا مدة من غير هذا الأثر ثم أنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك القادر قصد إليه وميل إلى تكوينه وذلك معلوم الفساد بالضرورة
ومنشأ المغالطة في تلك اللفظة هو أن قول القائل القادر يرجح لكونه قادرا يوهم أن هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر لأن القادر خصه بالترجيح

وقولنا خصه بالترجيح لا يوهم أمرا زائدا على محض القادرية لأنا إذا أثبتنا أمرا زائدا فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر إلى مجرد القادرية وحينئذ يرجع إلى القسم الأول فثبت أن هذا الكلام مغالطة محضة
وإنما قلنا إن عند حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب صدور الفعل فلأنه لو لم يجب لكان إما أن يمتنع أو يجوز
فإن امتنع كانت الداعية مانعة لا مرجحة
وإن جاز فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة ووجوده أخرى فترجح الوجود على العدم إما أن يتوقف على أمر زائد أو لا يتوقف

فإن توقف لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح وكنا قد فرضناها كذلك هذا خلف
وأيضا فلأن الكلام في هذه الضميمة كما فيما قبلها ويلزم إما التسلسل أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح وهما محالان أو الوجوب وهو المطلوب
وإنما قلنا إنه لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر لأن قبل خلقها كان الفعل ممتنعا من العبد وبعد خلقها يكون واجبا
وعلى كلا التقديرين لا تثبت المكنة من الفعل والترك

وإنما قلنا إنه لما كان كذلك كانت التكاليف بأسرها تكليف مالا يطاق لأنه لما لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك البتة كان تكليفه تكليفا لمن لم يكن متمكنا من الفعل والترك وذلك هو المقصود

الدليل الخامس
التكليف إما أن يتوجه على المكلف حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر
فإن توجه عليه حال الاستواء كان ذلك تكليفا بمالا يطاق لأن حال حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان لأن الاستواء ينافي الرجحان فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين
وإذا متنع الرجحان كان التكليف بالرجحان تكليفا بمالا يطاق وإن توجه عليه حال عدم الائتواء فنقول الراجح

يصير واجبا والمرجوح ممتنعا على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع
والتكليف بالواجب محال لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه إلى شيء آخر وإذا استحال أن يسند وقوعه إلى غيره استحال أن يفعله فاعل فإذا أمر بفعله فقد أمر بما لا قدرة له عليه
وإما التكليف بالممتنع فلا شبهة في أنه تكليف بمالا يطاق

الدليل السادس
أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وإذا كان كذلك كان التكليف تكليف ما لا يطاق
أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فلأنه لو كان

مخلوقا للعبد لكان معلوما للعبد وليس معلوما للعبد فهو غير مخلوق له
وتقريره في كتبنا الكلامية
وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى كان التكليف تكليفا بمالا يطاق فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه تحصيل الفعل وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه الامتناع والدفع
ففي كلتا الحالتين لا قدرة له لا على الفعل ولا على الترك
فإن قلت هب أنه لا قدرة له على الإيجاد ولكن الله تعالى أجرى عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل فالله تعالى يخلقه

وإن اختار عدم الفعل فالله تعالى لا يخلقه
وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارا
قلت ذلك الاختيار إن كان منه لا من الله تعالى فالعبد موجد لذلك الاختيار
وإن لم يكن منه بل من الله تعالى كان مضطرا في ذلك الاختيار فيعود الكلام

الدليل السابع
الأمر قد وجد قبل الفعل والقدرة غير موجودة قبل الفعل فالأمر قد وجد لا عند القدرة وذلك تكليف ما لا يطاق
أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل فلأن الكافر مكلف بالإيمان

وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل فلأن القدرة صفة متعلقة فلا بد لها من متعلق والمتعلق إما الموجود وإما المعدوم ومحال أن يكون المعدوم متعلق القدرة لأن العدم نفي محض مستمر والنفي المحض يستحيل أن يكون مقدورا والمستمر يمتنع أيضا أن يكون مقدورا فالنفي المستمر اولى أن لايكون مقدورا
وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدما محضا ثبت أنه لا بد ان يكون موجودا
فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من معلق وثبت أن المتعلق

لا بد وأن يكون موجودا ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل

الدليل الثامن
العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه إما حال وجوده أو قبل وجوده
والأول محال وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال
والثاني محال لأن القدرة في الزمان المتقدم إما أن يكون لها أثر في الفعل أو لا يكون
فإن كان لها أثر في الفعل فنقول
تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول ووجود المقدور غير حاصل في الزمان الأول فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور

والمؤثر إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده أو قبله
فإن كان الأول لزم أن يكون موجدا للموجود وهو محال
وإن كان الثاني كان الكلام فيه كما تقدم ولزم التسلسل
وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم وثبت أيضا أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر استحال أن يكون لها أثر في الفعل البتة وإذا لم يكن لها أثر البتة استحال أن تكون للعبد قدرة على الفعل البتة

واعلم أن هذين الوجهين لا نرتضيهما لأنهما يشكلان بقدرة الباري جل جلاله على الفعل

الدليل التاسع
أن الله تعالى أمر بمعرفته في قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله فنقول
إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى أو على غير العارف به
والأول محال لأنه يقتضي تحصيل الحاصل والجمع بين المثلين وهما محالان
والثاني محال لأن غير العارف بالله تعالى ما دام يكون غير

عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشيء لإن العلم بأن الله تعالى أمره بشيء مشروط بالعلم بالله تعالى
ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشيءكان توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيها للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر وذلك عين تكليف مالا يطاق

الدليل العاشر
أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى قل انظروا وفي قوله تعالى أولم يتفكروا وذلك أمر بمالا يطاق

بيانه أن تحصيل التصورات غير مقدور وإذا لم تكن التصورات مقدورة لم تكن القضايا الضرورية مقدورة وإذا لم تكن القضايا الضرورية مقدورة لم تكن القضايا النظرية مقدورة وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة لم يكن الفكر والنظر مقدورا
وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن القادر إذا أراد تحصيلها فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله أو حال مالا تكون تلك التصورات خاطرة بباله
فإن كانت خاطرة بباله فتلك التصورات حاصلة فتحصيلها يكون تحصيلا للحاصل وهم محال
وإن كانت غير خاطرة بباله كان الذهن غافلا عنه ومتى كان الذهن غافلا عنه استحال من القادر أن يحاول تحصيله والعلم بذلك ضروري

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إنها متصورة من وجه دون وجه فلا جرم يمكنه أن يحصل كمالها
قلت لما كانت متصورة من وجه دون وجه فالوجه المتصور مغاير لما ليس بمتصور فهما أمران

أحدهما متصور بتمامه
والآخر غير متصور بتمامه وحينئذ يعود الكلام المقدم
وإنما قلنا إن التصورات إذا لم تكن مقدورة كانت القضايا البديهية غير مقدورة لأن تلك التصورات إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات أو لا يلزم
فإن لم يلزم لم تكن تلك القضايا علوما يقينية بل تكون اعتقادات تقليدية

وإن لزم فنقول حصول تلك التصورات ليس باختياره وعند حصولها فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره فإذن حصول تلك القضايا البديهية ليس باختياره وذلك هو المطلوب
وإنما قلنا إن القضايا البديهية إذا لم تكن باختياره لم تكن القضايا النظرية باختياره وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك الضروريات إما أن يكون واجبا أو لايكون
فإن لم يكن واجبا لم يكن ذلك استدلالا يقينيا لأنا

إذا استدللنا بدليل مركب من مقدمات ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادا تقليديا لا يقينيا
وإذا كان ذلك واجبا فنقول
قبل حصول تلك المقدمات البديهية امتنع حصول هذه القضايا الاستدلالية وعند حصول تلك البديهيات يجب حصول هذه الاستدلاليات فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار المكلف
وأذا ثبت هذا ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق

المسألة الثانية
قال أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف على حصول الإيمان
وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه يتوقف عليه وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني من فقهائنا

ومن الناس من قال تتناولهم النواهي دون الأوامر فإنه يصح انتهاؤهم عن المنهيات ولايصح إقدامهم على المأمورات
واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدينا لأنه ما دام الكافر كافرا يمتنع منه الإقدام على الصلاة وإذا أسلم لم يجب عليه القضاء
وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة فإن الكافر إذا مات على كفره فلا شك أنه يعاقب على كفره وهل يعاقب مع ذلك على تركه الصلاة والزكاة وغيرهما أم لا
ولا معنىلقولنا إنهم مأمورون بهذه العبادات إلا

أنهم كما يعاقبون على ترك الإيمان يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه العبادات
ومن أنكر ذلك قال إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإينمان وهذه دقيقة لا بد من معرفتها

لنا وجوه
الأول أن المقتضى لوجوب هذه العبادات قائم والوصف الموجود وهو الكفر لا يصلح مانعا فوجب القول بالوجوب
إنما قلنا إن المقتضى موجود لقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا

ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل
وإنما قلنا إن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا لأن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أولا حتى يصير متكمنا من الإتيان بالصلاة والزكاة بناء عليه وبهذا الطريق قلنا الدهري مكلف بتصديق الرسول والمحدث مأمور بالصلاة
فثبت أن المقتضي قائم والمعارض غير مانع فوجب القول بالوجوب

الدليل الثاني
قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة
فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا يكون حجة فإن قلت لو كان ذلك باطلا لبينه الله تعالى
قلت لا نسلم وجوب ذلك فإنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ما كنا نعمل من سوء يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه المواضع فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب
سلمنا أنه جحة لكن لم لا يجوز أن يقال العذاب على مجرد التكذيب لقوله تعالى وكنا نكذب بيوم الدين

والدليل عليه أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار وإذا وجد السبب المستقل باقتضاء الحكم لم يجز إحالته على غيره
سلمنا أن العذيب واقع على جميع الأمور المذكورة لكن قوله لم نك من المصلين معناه لم نك من المؤمنين لأن اللفظ محتمل والدليل دل عليه
أما اللفظ محتمل فلما روي في الحديث نهيت عن قتل المصلين ويقال قال أهل الصلاة

والمراد منه المسلمون
وأما أن الدليل دل عليه فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة مع أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويؤمنون بالغيب ولو كان المراد من لم يأت بالصلاة والزكاة لكانوا كاذبين فيه فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من أهل الصلاة والزكاة
سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة لكن قوله لم نك من المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم مع أنهم ما صلوا حال إسلامهم لأنه واقعة حال فيكفي في صدقه صورة واحدة
سلمنا عمومه في حق الكفار و لكن الوعيد ترتب على فعل الكل فلم قلت إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور

والجواب أن الله تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة
وجب أن يكون ذلك صدقا لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما بين كذبهم فيها لم يكن في روايتها فائدة وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك
وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى ما بين كذبهم فيها فذاك لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة
وأما ها هنا فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم والله تعالى لم يبين لنا ذلك فلو كانوا كاذبين فيه لم يحصل منه غرض أصلا فتكون الآية عرية عن الفائدة

قوله العلة هي التكذيب بيوم الدين
قلنا لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا الحكم وذلك باطل لأن الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين
قوله لما وجد السبب المستقل لم يجز إحالة الحكم على غيره
قلنا لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد التكذيب بل لمجموع هذه الأمور وإن كان مجرد التكذيب سببا لدخول مطلق الجحيم
قوله المراد من قوله لم نك من المصلين أي لم نك من المؤمنين

قلنا هذا التأويل لا يتأتي في قوله ولم نك نطعم المسكين
قوله أهل الكتاب صلوا وأطعموا
قلنا الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في شرعنا لا التي في شرع غيرنا
قوله جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم
قلنا إن قوله سبحانه وتعالى قالوا لم نك من المصلين هو جواب المجرمين المذكورين في قوله يتساءلون عن المجرمين وذلك عام في حق الكل

الدليل الثالث
قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله يضاعف له

العذاب يوم القيامة وكذلك قوله فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ذمهم على ترك الكل
وكذلك قوله تعالى ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة

الدليل الرابع
الكافر يتناوله النهي فوجب أن يتناوله الأمر
وإنما قلنا إنه يتناوله النهي لأنه يحد على الزنا

وإنما قلنا إنه إذا تناوله النهي وجب أن يتناوله الأمر لأنه إنما يتناوله النهي ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة بسبب الإقدام على المنهي عنه فوجب أن يتناوله الأمر ليكون متمكنا من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الإقدام على المأمور به
فإن قيل لا نسلم أنه يتناوله النهي وأما الحد فذاك لأنه التزم إحكامنا
سلمنا لكن لافرق بين الأمر والنهي هو أنه

مع كفره يمكنه الانتهاء عن المنهيات ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات

والجواب عن الأول
أن من أحكام شرعنا أن لا يحد أحد بالفعل المباح
وعن الثاني أن قولكم الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن المنهيات إن عنيتم
به أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فهو أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية
وإن عنيتم به أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال قول الشارع فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان متعذر

فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث الصورة لا يتوقف على الإينما والإتيان بهما لغرض امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإينما فبطل الفرق الذي ذكروه
واحتج المخالف بأمرين

أحدهما
أنه لو وجبت الصلاة على الكافر لوجبت عليه إما حال الكفر أو بعده
والأول باطل لأن الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع والممتنع لا يكون مأمورا به

والثاني باطل لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يؤمر بقضاء ما فاته من الصلاة في زمان الكفر

وثانيهما
لو وجبت هذه العبادات على الكافر لوجب عليه قضاؤها كما في حق المسلم والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات
ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها غير واجبة عليه
والجواب عن الأول
أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في الأحكام الدنيوية إنما تظهر فائدته في الأحكام الأخروية وهي أنه هل يزداد عقاب الكافر بسبب تركه لهذه العبادات وما ذكرتموه من الدلالة لا يتناول هذا المعنى

وعن الثاني
إنه ينتقض بالجمعة
ثم الفرق أن إيجاب القضاء على من أسلم بعد كفره ينفره عن الإسلام لامتداد ايام الكفر بخلاف المسلم والله أعلم
المسألة الثالثة
في ان الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء
قبل الخوض في المسألة لا بد من تفسير الإجزاء وقد ذكروا فيه تفسيرين
أحدهما وهو الأصح أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به كاف في سقوط
الأمر

وإنما يكون كافيا إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع الآمر به

وثانيهما أن المراد من الإجزاء سقوط القضاء
وهذا باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن مجزئا مع سقوط الفضاء
ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي
ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا والعلة مغايرة للمعلول
إذا عرفت هذا فنقول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم وأتباعه
لنا وجوه
الأول
أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة

إنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر كذلك
وإنما قلنا إنه يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولا لذلك المأتي به أو لغيره
والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله
والثاني باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف

الثاني
أنه لا يخلو إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم

والأول باطل لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار
والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر

الثالث
أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل وإذا فعلت لا يجزىء عنك ولو قال ذلك لعد متناقضا
احتج المخالف بوجوه
أحدها
أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر وجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده

وثانيها
إن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزيه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه
وثالثها
أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورا به فأما أن الإتيان يكون سببا لسقوط التكليف فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر
والجواب عن الأول
أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على أنه منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعله الله سببا لحكم آخر

أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشيء آخر

وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير
مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على هذا الوجه الذي وقع بل على وجه آخر وذلك الوجه بعد لم يوجد
وعن الثالث
أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء والله أعلم

المسألة الرابعة
الإخلال بالمأمور به هل يوجب فعل القضاء أم لا
هذه المسألة لها صورتان
الصورة الأولى
الأمر المقيد كما إذا قال إفعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى ذلك الوقت فالأمر
الأول
هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت
الحق لا لوجهين
الأول
أن قول القائل لغيره إفعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول ما عدا يوم الجمعة وما لا يتناولة الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا بنفي بل لو كان قوله إفعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة لطلب الفعل في

يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام
ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك

الثاني
أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارى استعقبته ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف

الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشيء لا إشعار له بوجوب القضاء وعدم وجوبه
فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب القضاء لزمك خلاف الظاهر
قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به
أما على التقدير الأول فغايته أنه دل دليل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر

الصورة الثانية
الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده

بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو يحتاج إلى دليل
أما نفاة الفور فإنهم يقولون الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله
وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي
ومنهم من قال لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد
ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل كذا هل معناه إفعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت

ففي الرابع على هذا أبدا أو معناه افعل في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع
فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان
وإن قلنا بالثاني لم يقتضه فصارت هذه المسألة لغوية
واحتج من قال إنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله إفعل قائم مقام قوله إفعل في الزمان الثاني
وقد بينا أنه إذا قيل له ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين

واحتج أبو بكر الرازي على قوله بأن لفظ إفعل يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاءالأمر ما لم يصر المأمور فاعلا
وأيضا الأمر اقتضى وجوب المأمور به ووجوبه يقتضي كونه على الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا إبطال أحدهما وقد أمكن الجمع بينهما بأن نوجب فعل المأمور به في أول أوقات الإمكان لئا ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني لأن مقتضى الأمر وهو كون المأمور فاعلا لم يحصل بعد والله أعلم

المسألة الخامسة
في أن الأمر بالأمر بالشيءلا يكون أمرا به
الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجب على عمرو كذا فلو قال لعمرو وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيءفي هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك
أما لو لم يقل ذلك لم يجب كما في قوله عليه الصلاة و السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي والله أعلم

المسألة السادسة
الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشيء من جزئياتها
كقوله بع هذا الثوب لا يكون هذا أمرا ببيعه بالغبن الفاحش ولا بالثمن المساوي لأن هذين النوعين يشتركان في مسمى البيع ويتمير كل واحد منهما عن صاحبه بخصوص كونه واقعا بثمن المثل وبالغبن الفاحش وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له

فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد من النوعين عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام
وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون البته أمرا بشيءمن أنواعه
بل إذا دلت القرينة على الرضا ببعض الأنواع حمل اللفظ عليه
ولذلك قلنا الوكيل بالبيع المطلق لا يملك البيع بغبن فاحش وإن كان يملك البيع بثمن المثل لقيام القرينة الدالة على الرضا به بسبب العرف
وهذه قاعدة شرعية برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله والله أعلم

النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل
المسألة الأولى
قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يكون مأمورا لا بمعنى أنه حال عدمه يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر
وأما سائر الفرق فقد أنكروه

لنا
أن الواحد منا حال وجوده يصير مأمورا بأمر الرسول صلى الله عليه و سلم مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا
وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات ألاب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد معنى قديم وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين بذلك الطلب
فإن قيل أمر النبي صلى الله عليه و سلم غير لازم على أحد بل هو عليه الصلاة و السلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده فيصير ذلك إخبارا

عن أن الله تعالى سيأمرهم عند وجودهم لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور
سلمنا أن قول الرسول صلى الله عليه و سلم واجب الطاعة ولكن وجد هناك في الحال من سمع ذلك الأمر وبلغه إلينا
أما في الأزل فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر وينقله إلينا فكان ذلك الأمر عبثا
ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر وهو أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث فإن من جلس في الدار يأمر وينهي من غير حضور مأمور ومنهي عد سفيها مجنونا وذلك على الله محال

والجواب
قوله أمر النبي صلى الله عليه و سلم عبارة عن الإخبار قلنا من أصحابنا من قال ذلك وكذلك أمر الله تعالى عبارة عن أخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني
إلا أن هذا مشكل من وجهين
أحدهما
أنا بينا فيما تقدم أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا الإخبار لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر ولامتنع العفو عن العقاب على ترك الواجبات لأن الخلف في خبر الله تعالى محال

الثاني
أنه لو أخبر في الأزل لكان إما أن يخبر نفسه وهو سفه أو غيره وهو محال لأنه ليس هناك غيره
ولصعوبة هذا المأخذ ذهب عبدالله بن سعيد بن كلاب التميمي من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم صار فيما لا يزال كذلك
ولقائل أن يقول إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر والنهي والخبر فإذا سلمت حدوثها فقد قلت بحدوث الكلام

فإن ادعيت قدم شيء آخر فعليك البيان بإفادة تصوره ثم إقامة الدلالة على أن الله تعالى موصوف به ثم إقامة الدلالة على قدمه
وله أن يقول أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام
ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن قاعدة والحكمة مبنية على قاعدة الحسن والقبح وقد تقدم إفسادها

المسألة الثانية
تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة و السلام رفع القلم عن ثلاث

وأما المعقول فهو أن فعل الشيء مشروط بالعلم به إذ لو لم يكن كذلك لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالما
وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان ذلك تكليف مالا يطاق
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفي تكليف ما لا يطاق
فإن قيل لا نسلم أن فعل الشيء مشروط بالعلم به فإن الجاهل قد يفعله على سبيل الاتفاق
فإن قلت الاتفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا
قلت لا نسلم فإن حكم الشيء حكم مثله فلما جاز

وجود الفعل مع عدم العلم به مرة واحدة جاز أيضا ثانية وثالثة فيلزم إمكان ذلك في الأكثر ودائما
وإذا جاز ذلك فلا استحالة في أن يعلم الله تعالى وقوع هذا الجائز في بعض الأشخاص
وإذا علم الله تعالى ذلك منه لم يكن تكليفه بالفعل حال مالا يكون المكلف عالما به نكليف ما لا يطاق
سلمنا ذلك لكنه معارض بأمور

أحدها
أن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد
فإما أن يكون ذلك الأمر واردا بعد حصول المعرفة وذلك محال لأنه يلزم الأمر إما بتحصيل الحاصل أو بالجمع

بين المثلين وهو محال أو قبل حصول المعرفة لكن المأمور قبل أن يعرف الأمر استحال منه أن يعرف الأمر فإذن قد توجه التكليف عليه حالة مالا يمكنه العلم بذلك وهو المطلوب

الثاني
أن العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى ليس علما ضروريا لازما لعقول العقلاء وطباعهم بل مالم يتأمل الأنسان ضربا من التأمل لا يحصل له العلم بالوجوب فنقول
علمه بوجوب الطلب إما أن يحصل قبل إتيانه بالنظر أو بعد إتيانه به

فإن حصل قبل إتيانه بالنظر وهو قبل إتيانه بالنظر لا يمكنه أن يعلم ذلك الوجوب لأن العلم بالوجوب مشروط بالإتيان بذلك النظر وقبل الإيان بذلك النظر لو وجب عليه ذلك لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه وذلك هو تكليف الغافل
وإن حصل بعد إتيانه النظر فبعد الإتيان بالنظر حصل العلم بالوجوب فلو وجب عليه في هذا الوقت تحصيل العلم بالوجوب لزم إما تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين

الثالث
أن الصبي والمجنون والنائم غافلون عن الفعل ثم إن أفعالهم توجب الغرامات والأروش

الرابع
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون خاطب السكران والسكران غافل
فثبت أنه يجوز خطاب الغافل
والجواب
نحن لا ندعي أن وقوع الفعل من العبد مشروط بعلمه به بل ندعي أن اختيار المكلف فعلا معينا لغرض الخروج عن عهدة التكليف مشروط بالعلم به وهذا معلوم بالضروة ولا يقدح فيه ما ذكرتموه

وأما المعارضة الأولى فقد تقدم ذكرها في مسألة تكليف مالا يطاق
وأما الثانية فمن الناس من زعم أن العلم بوجوب النظر ضروري
وهذا ضعيف لأن العلم بكون النظر في الإلهيات مفيدا للعلم وبكونه معينا في ذلك من أغمض المسائل وأدقها لأن جمهور العقلاء وإن ساعدوا على كون النظر مفيدا للعلم في الجملة كما في الحسابيات والهندسيات لكنهم نازعوا في كون النظر مفيدا للعلم في الإلهيات وزعموا أن النظر فيها لا يفيد إلا الظن

ومن سلم ذلك فقد قالوا كما أن النظر يفيد العلم فغيره ايضا قد يفيده وهو تصفية الباطن
وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على هذين المقامين النظريين والموقوف على النظري أولى أن يكون نظريا
فثبت أنه لا يمكن ادعاء الضرورة في ذلك

واعلم أن هذه الحجة تؤيد القول بتكليف مالا يطاق
وأما وجوب الغرامات فمعناه إما خطاب الولي بأدائها في الحال أو خطاب الصبي بعد صيرورته بالغا بأدائها
وأما الآية فلها تأويلان

أحدهما أنها خطاب مع من ظهرت منه مبادىء النشاط والطرب وما زال عقله
وقوله حتى تعلموا ما تقولون معناه حتى يتكامل فيكم الفهم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك
وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران وقد يعسر عليه إتمام الخشوع
الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم

الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع فيثقل عليك التهجد والله أعلم

المسألة الثالثة
في أن المامور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة
المعتمد فيه قوله صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات قالوا ويستثنى منه شيئان
أحدهما
الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به

الثاني
إرادة الطاعة فإنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم التسلسل

المسألة الرابعة
في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه
المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه
فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز

وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به
ولقائل أن يقول الإكراه لا ينافي التكليف لأن الفعل إما أن يتوقف غلى الداعي أو لا يتوقف
فإن توقف فقد بينا فيما تقدم أنه لا بد من انتهاء الدواعي إلى داعية تحصل فيه من قبل غيره وان حصول الفعل عند حصول تلك الداعية واجب
فحينئذ يكون التكليف تكليفا بما وجب وقوعه أو بما امتنع وقوعه
وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز مثله في الإكراه
وأما إن لم يتوقف على الداعي كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتفاقيا والاتفاقي لا يكون باختيار المكلف وإذا جاز التكليف هناك مع أنه ليس باختيار المكلف فلم لا يجوز مثله في الإكراه

فإن قلت ما الذي أردت بكون الفعل اتفاقيا
إن عنيت به أنه حصل لا بقدرة القادر فهو ممنوع وذلك لأن المؤثر فيه عندنا هو القادر لكن القادر عندنا يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه به على الآخر من غير مرجح
وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه
قلت الرجل كان موصوفا بكونه قادرا على هذا الفعل مع أن هذا الفعل ما كان موجودا فلما وجد هذا الفعل فإما أن يكون لأنه حدث أمر آخر وراء كونه قادرا الذي كان حاصلا قبل ذلك أو ليس كذلك
فإن حدث كان حدوث الفعل عن القادر متوقفا على أمر آخر سوى كونه قادرا وقد فرضناه ليس متوقفا عليه هذا خلف

وإن لم يحدث البتة أمر كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ليس لأمر حصل في جانب القادر حتى يؤمر به أو ينهى عنه بل كان ذلك محض الاتفاق فيكون في هذه الحالة تكليفا له بما ليس في وسعه
وإذا ثبت ذلك بطل قولهم المكره غير مكلف
واعلم أن هذه القاعدة قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وسنذكرها بعد ذلك وما ذاك إلا لأن أكثر القواعد

مبني عليها ولا جواب عنها إلا بتسليم أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد

المسألة الخامسة
ذهب أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل وقبل ذلك فلا أمر بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا به
وقالت المعتزلة إنه إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوع الفعل
لنا
أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل لامتنع كونه مأمورا مطلقا لأن في الزمان الأول لو امر بالفعل لكان الفعل إما أن يكون ممكنا في ذلك الزمان أو لايكون
فإن كان ممكنا فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه

وإن لم يكن ممكنا كان مأمورا بما لا قدرة له عليه وذلك عند الخصم محال
فإن قلت إنه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك الزمان بل بأن يوقعه في الزمان الثاني منه
قلت قولك إنه في الزمان الآول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان الثاني إن عنيت به أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان الثاني ففي الزمان الأول لم يكن موقعا البتة لشيء وليس هناك إلا نفس القدرة فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشيء
وإن عنيت به أن كونه موقعا يحصل في والزمان الأول والفعل يوجد في الزمان الثاني فنقول

كونه موقعا إما أن يكون نفس القدرة أو أمرا زائدا عليها فإن كان نفس القدرة لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض كونه قادرا فيعود القسم الأول
وإن كان أمرا زائدا عليها فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع ذلك الزائد في الزمان الأول والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول بإيقاع ذلك الزائد وذلك الزائد واقع في الزمان الأول فالآمر لا يكون آمرا بالشيء إلا حال وقوعه لا قبله

احتج الخصم بأن المأمور بالشيء يجب أن يكون قادرا عليه ولا قدرة على الفعل حال وجود الفعل وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال
فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل والأمر لا يتناول إلا القادر والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه
والجواب القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ومستلزمة له ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر كما في سائر المؤثرات الموجبة والله اعلم

المسألة السادسة
المأمور به إذا كان مشروطا بشرط فالآمر إما أن يكون غير عالم بعدم الشرط أو لا يكون

أما الأول فكما إذا قال السيد لعبده صم غدا فإن هذا مشروط ببقاء العبد غدا وهو مجهول للآمر فها هنا الأمر تحقق في الحال يشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل
وأما الثاني فكما إذا علم الله تعالى أن زيدا سيموت غدا فهل يصح أن يقال إن الله تعالى أمره بالصوم غدا يشرط أن يعيش غدا مع أنه يعلم أنه لا يعيش غدا
قطع القاضي أبو بكر والغزالي رحمهما الله تعالى به وأباه جمهور المعتزلة
حجة المنكرين أن شرط الأمر بقاء المأمور فالعالم بأن المأمور لا يبقى عالم بفوات شرط الأمر فاستحال مع ذلك حصول الأمر

قال المجوزون لا نزاع في أنه لا يجوز أن يقول للميت حال كونه ميتا إفعل لكن لم لا يجوز أن يقال في الحال لمن يعلم أن سيموت غدا إفعل غدا إن عشت بل هو جائز لما فيه من المصالح الكثيرة فإن المكلف قد يوطن النفس على الامتثال ويكون ذلك التوطين نافعا له يوم المعاد ونافعا له في الدنيا لأنه ينحرف به في الحال عن الفساد
وهذا كما أن السيد قد يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر امتحانا للعبد وقد يقول الرجل لغيره وكلتك بيع العبد غدا مع علمه بأنه

سيعزله عن ذلك غدا لما أن غرضه منه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر ذلك العبد
ومأخذ النزاع في هذه المسألة أن المجوزين قالوا الأمر تارة يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به وتارة لمصالح تنشأ من المأمور به
وأما المانعون فقد اعتقدوا أن الأمر لا يحسن إلا لمصلحة تنشأ من المأمور به
وتمام تقريره سيظهر في مسألة أنه يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال والله أعلم

القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل

المسألة الأولى
ظاهر النهي التحريم وفيه المذاهب التي ذكرناها في أن الأمر للوجوب
لنا
قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا أمر

بالانتهاء عن المنهي عنه والأمر للوجوب فكان الانتهاء عن المنهي واجبا
وذلك هو المراد من قولنا النهي للتحريم والله أعلم

المسألة الثانية
المشهور أن النهي يفيد التكرار
ومنهم من أباه وهو المختار
لنا
أن النهي قد يراد منه التكرار وهو متفق عليه
وقد يراد منه المرة الواحدة كما يقول الطبيب للمريض

الذي شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويقول المنجم لا تفصد ولا تخرج إلى الصحراء أي في هذا اليوم ويقول الوالد لولده لاتلعب أي في هذا اليوم والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك

الثاني
أنه يصح أن يقال لا تأكل السمك أبدا وأن يقال لا تأكل اللحم في هذه الساعة وأما في الساعة الأخرى فكل والأول ليس بتكرار والثاني ليس بنقض
فثبت أن النهي لا يفيد التكرار
احتج المخالف بأمور
أحدها
أن قوله لا تضرب يقتضي امتناع المكلف من إدخال

ماهية الضرب في الوجود والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود إنما يتحقق إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود إذ لو أدخل فردا من أفرادها في الوجود وذلك الفرد مشتمل على الماهية فحينئذ يكون قد أدخل تلك الماهية في الوجود وذلك ينافي قولنا إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في الوجود

وثانيها
أن قوله لا تضرب يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله إضرب لأن تمام قولنا إضرب حاصل في قولنا لا تضرب مع زيادة حرف النهي لكن قولنا إضرب يفيد طلب الضرب مرة واحدة فلو كان قولنا لا تضرب يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة لما تناقضا لأن النفي والإثبات في وقتين لا يتناقضان

فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم الأمر وجب أن يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة

وثالثها
أن قوله لا تضرب لا يمتنع حمله على التكرار وقد دل الدليل على حمله على التكرار فوجب المصير إليه
إنما قلنا إنه لا يمتنع حمله على التكرار لأن كون الإنسان ممتنعا عن فعل المنهي عنه أبدا ممكن ولا عسر فيه
وأما أن الدليل دل عليه فلأنه ليس في الصيغة دلالة على وقت دون وقت فوجب الحمل على الكل دفعا للإجمال
بخلاف الأر فإنه يمتنع حمله على التكرار لإفضائه إلى المشقة

والجواب عن الأول
إنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود ولكن الامتناع عن إدخال تلك الماهية في الوجود قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما وبين الامتناع عنه لا دائما كما تقدم بيانه
واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد من القسمين عن الثاني
فإذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام البتة
وعن الثاني
إنك إن أردت بقولك إن الأمر والنهي دلا على مفهومين متناقضين أن هذا يدل على الإثبات وذلك يدل

على النفي فهذا مسلم ولكن مجرد النفي والإثبات لا يتنافيان إلا بشرط اتحاد الوقت فإن قولك زيد قائم زيد ليس بقائم لا يتناقضان لأنه متى صدق الإثبات في وقت واحد فقد صدق الإثبات ومتى صدق النفي في وقت آخر فقد صدق النفي
ومعلوم أن الإثبات في وقت لا ينافي النفي في وقت آخر فمطلق الإثبات والنفي وجب أن لا يتناقضا البتة

وعن الثالث
أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع فحيث تحقق هذا المسمى فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف
تنبيه
إن قلنا إن النهي يفيد التكرار فهو يفيد الفور لا محالة وإلا فلا

المسألة الثالثة
الشيء الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا والفقهاء قالوا يجوز ذلك إذا كان للشيء وجهان
لنا
أن المأمور به هو الذي طلب تحصيله من المكلف وأقل مراتبه رفع الحرج عن الفعل
والمنهي عنه هو الذي لم يرفع الحرج عن فعله فالجمع بينهما ممتنع إلا على القول بتكليف ما لا يطاق

فإن قيل هذا الامتناع إنما يتحقق في الشيء الواحد من الوجه الواحد
إما الشيء ذو الوجهين فلم لا يجوز أن يكون مأمورا به نظرا إلى أحد وجهيه منهيا عنه نظرا إلى الوجه الآخر وهذا كالصلاة في الدار المغصوبة فإن لها جهتين كونها صلاة وكونها غصبا والغصب معقول دون الصلاة وبالعكس فلا جرم صح تعلق الأمر بها من حيث إنها صلاة وتعلق النهي بها من حيث إنها غصب لأن السيد لو قال لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإذا خاط الثوب ودخل الدار حسن من السيد أن يضربه ويكرمه ويقول أطاع في أحدهما وعصى في الآخر فكذا

ما نحن فيه فإن هذه الصلاة وإن كانت فعلا واحدا ولكنها تضمنت تحصيل أمرين أحدهما مطلوب والآخر منهي عنه
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بوجه آخر وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة والصلاة مأمور بها فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها
وإنما قلنا إن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة لأن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة مكفئة والصلاة المكفئة صلاة مع كيفية فيكون مسمى الصلاة حاصلا
وإنما قلنا إن الصلاة مأمور بها لقوله تعالى

وأقيموا الصلاة

والجواب
أن الذي ندعيه في هذا المقام أن الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه من جهة واحدة يوجب التكليف بالمحال
ثم إن جوزنا التكليف بالمحال جوزنا الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه من جهة واحدة
وإن لم نجوز ذلك لم نجوز هذا أيضا
فلنبين ما ادعيناه فنقول
متعلق الأمر إما أن يكون عين متعلق النهي أو غيره

فإن كان الأول كان الشيء الواحد مأمورا به منهيا عنه معا وذلك عين التكليف بما لا يطاق والخصم لا يجعل هذا النوع من التكليف من باب تكليف مالا يطاق
وإن كان الثاني فالوجهان إما أن يتلازما وإما أن لا يتلازما
فإن تلازما كان كل واحد منهما من ضرورات الآخر والأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته وإلا وقع التكليف بما لا يطاق
وإذا كان المنهي من ضرورات المأمور كان مأمورا فيعود إلى ما ذكرنا من أنه يلزم كون الشيء الواحد مأمورا ومنهيا معا

وإن لم يتلازما كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين لا يلازم أحدهما صاحبه وذلك جائز إلا أنه يكون غير هذه المسألة التي نحن فيها
فإن قلت هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في الجملة إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين
قلت ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به فيلزم أن يصير المنهي عنه في هذه الصورة مأمورا به وذلك محال
فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال

أما على سبيل التفصيل فهو أن الصلاة ماهية مركبة من أمور أحد تلك الأمور الحركات والسكنات وهما ماهيتان مشتركتان في قدر واحد من المفهوم وهو شغل الحيز لأن الحركة عبارة عن شغل الحيز بعد أن كان شاغلا لحيز آخر والسكون عبارة عن شغل حيز واحد أزمنة كثيرة وهذان المفهومان يشتركان في كون كل واحد منهما شغلا للحيز فإذن شغل الحيز جزء جزء ماهية الصلاة فيكون جزءا لها لا محالة
وشغل الحيز في هذه الصلاة منهي عنه فإذن أحد أجزاء ماهية هذه الصلاة منهي عنه فيستحيل أن تكون هذه الصلاة مأمورا بها لأن الأمر بالمركب أمر بجميع أجزائه

فيكون ذلك الجزء مأمورا به مع أنه كان منهيا عنه فيلزم في الشيء الواحد أن يكون مأمورا به منهيا عنه وهو محال
أما قوله كونه صلاة وغصبا جهتان متباينتان يوجد كل واحد منهما عند عدم الآخر
قلنا نعم ولكنا بينا أن شغل الحيز جزء ماهية الصلاة فكما أن مطلق الشغل جزء ماهية مطلق الصلاة فكذلك الشغل المعين يكون جزءا من ماهية الصلاة المعينة فإذا كان هذا الشغل منهيا عنه وهذا الشغل جزء ماهية هذه الصلاة كان جزء هذه الصلاة منهيا عنه وإذا كان جزؤها منهيا عنه استحال كون هذه الصلاة مأمورا بها

بل الصلاة مأمور بها لكن النزاع ليس في الصلاة من حيث إنها صلاة بل في هذه الصلاة وأما المثال الذي ذكروه وهو أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فهو بعيد لأن ها هنا الفعل الذي هو متعلق الأمر غير الفعل الذي هو متعلق النهي وليس بينهما ملازمة فلا جرم صح الأمر بأحدهما والنهي عن الآخر
إنما النزاع في صحة تعلق الأمر والنهي بالشيء الواحد فأين أحدهما من الآخر
وأما المعارضة التي ذكروها فمدار أمرها على أن قوله تعالى أقيموا الصلاة يفيد الأمر بكل صلاة فهذا مع ما فيه من المقدمات الكثيرة لو سلمناه لكن تخصيص

العموم بدليل العقل غير مستبعد وما ذكرناه من الدليل عقلي قاطع فوجب تخصيصه به والله أعلم

تنبيه
الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم تكن مأمورا بها إلا أن الفرض يسقط عندها لا بها لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها
والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة ولا طريق إلى التوفيق بيهما إلا ما ذكرناه وهو مذهب القاضي أبي بكر رحمه الله والله أعلم

المسألة الرابعة
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي لا يفيد الفساد وقال بعض أصحابنا أنه يفيده
وقال أبو الحسين البصري إنه يفيد الفساد في العبادات لا في المعاملات وهو المختار
والمراد من كون العبادة فاسدة أنه لا يحصل الإجزاء بها أما العبادات فالدليل على أن النهي فيها يدل على الفساد أن نقول إنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه لم يأت بما أمر به فبقي في العهدة

إنما قلنا إنه لم يأت بما أمر به لأن المأمور به غير المنهي عنه كما تقدم بيانه فلم يكن الإتيان بالمنهي عنه إتيانا بالمامور به
وإنما قلنا إنه وجب أن يبقى في العهدة لأنه تارك للمأمور به وتارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب على ما مر تقريره في مسألة أن الأمر للوجوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالفعل المنهي عنه سببا للخروج عن عهدة الأمر فإنه لا تناقض في أن يقول الشارع نهيتك عن الصلاة في الثوب المغصوب ولكن إن فعلته أسقطت عنك الفرض بسببه
سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن النهي يقتضي الفساد لكنه معارض بدليلين

الأول
أن النهي لو دل على الفساد لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه ولم يدل عليه في الوجهين فوجب أن لا يدل على الفساد أصلا
أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر عن الفعل والفساد معناه عدم الإجزاء وأحدهما مغاير للآخر
وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأن الدلالة المعنوية إنما تتحقق إذا كان لمسمى الشيء لازم فاللفظ الدال على

الشيء دال على لازم المسمى بواسطة دلالته على المسمى
وها هنا الفساد غير لازم للمنع لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع لا تصل في الثوب المغصوب ولو صليت صحت صلاتك ولا تذبح الشاة بالسكين المغصوب ولو ذبحتها بها حلت ذبيحتك وإذا لم تحصل الملازمة انتفت الدلالة المعنوية

الثاني
لو اقتضى النهي الفساد لكان أينما تحقق النهي تحقق

الفساد لكن الأمر ليس كذلك بدليل النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة والوضوء بالماء المغصوب مع صحتهما

والجواب
قوله لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالمنهي عنه سببا للخروج عن العهدة
قلنا لأنه إذا لم يأت بالمأمور به بقي الطلب كما كان فوجب الإتيان به وإلا لزم العقاب بالدليل لامذكور
قوله الصلاة في الثوب المغصوب منهي عنها ثم إن الإتيان بها يقتضي الخروج عن العهدة
قلنا الدليل الذي ذكرناه يقتضي أن لا يخرج الإنسان

عن عهدة الأمر إلا بفعل المأمور به إلا أنه قد يترك العمل بهذا الدليل في بعض الصور لمعارض
والفرق أن مماسة بدن الإنسا للثوب ليست جزءا من ماهية الصلاة ولا مقدمة لشيء من أجزائها وإذا كان كذلك كان آتيا بعين الصلاة المأمور بها من غير خلل في ماهيتها أصلا
أقصى ما في الباب أنه أتى مع ذلك بفعل آخر محرم ولكن لا يقدح في الخروج عن العهدة
أما المعارضة الأولى فجوابها
أن النهي دل على أن المنهي عنه مغاير للمأمور به والنص دل

على أن الخروج عن عهدة الأمر لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن الإتيان بالمنهي عنه لا يقتضي الخروج عن العهدة
وأما المعارضة الثانية فنقول
لا نسلم أن النهي في الصور التي ذكرتموها تعلق بنفس ما تعلق به الأمر بل بالمجاور وحيث صح الدليل أن الفعل المأتي به غير الفعل المنهي عنه فلا نسلم أنه لا يفيد الفساد والله أعلم
وأما المعاملات فالمراد من قولنا هذا البيع فاسد أنه لا يفيد الملك فنقول لو دل النهي على عدم الملك لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه
ولا يدل عليه بلفظه لأن لفظ النهي لا يدل إلا على الزجر

ولا يدل عليه بمعناه أيضا لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع نهيتك عن هذا البيع ولكن إن أتيت به حصل الملك كالطلاق في زمان الحيض والبيع وقت النداء
وإذا ثبت أن النهي لا يدل على الفساد لا بلفظه ولا بمعناه وجب أن لا يدل عليه أصلا
فإن قيل هذا يشكل بالنهي في باب العبادات فإنه يدل على الفساد
ثم نقول لا نسلم أنه يدل عليه بمعناه وبيانه من وجهين

الأول أن فعل المنهي عنه معصية والملك نعمة

والمعصية تناسب المنع من النعمة وإلا لاحت المناسبة فمحل الاعتبار جميع المناهي الفاسدة

الثاني أن المنهي عنه لايجوز أن يكون منشأ المصلحةالخالصة أو الراجحة
وإلا لكان النهي منعا عن المصلحة الخالصة أو الراجحة وإنه لا يجوز
بقي أحد امور ثلاثة
وهو أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة أو المساوية

وعلى التقديرين الأولين وجب الحكم بالفساد لأنه إذا لم يفد الحكم أصلا كان عبثا والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا فلا يقدم عليه فكان القول بالفساد سعيا في إعدام تلك المفسدة
وعلى التقدير الثالث وهو التساوي كان الفعل عبثا والاشتغال بالعبث محذور عند العقلاء والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور فوجب القول به
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بالنص والإجماع والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة و السلام من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد

والمنهي عنه ليس من الدين فيكون مردودا ولو كان سببا للحكم لما كان مردودا
وأما الإجماع فهو أنهم رجعوا في القول بفساد الربا وفساد نكاح المتعة إلى النهي
وأما المعقول فمن وجهين

الأول
أن النهي نقيض الأمر لكن الأمر يدل على الإجزاء فالنهي يدل على الفساد
الثاني
أن النهي يدل على مفسدة خالصة أو راجحة والقول

بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة فوجب أن يكون مشروعا قياسا على جميع المناهي الفاسدة

والجواب
قوله يشكل بالنهي في العبادات
قلنا المراد من الفساد في باب العبادات أنها غير مجزئة والمراد منه في باب المعاملات أنه لا يفيد سائر الاحكام واذا اختلف المعنى لم يتجه أحدهما نقضا على الآخر
قوله الملك نعمة فلا تحصل من المعصية
قلنا الكلام عليه وعلى الوجه الثاني مذكور في الخلافيات

وأما الحديث فنقول الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين

أحدهما أنه غير مطابق لأمرالله تعالى
والثاني أنه سبب للبينونة
أما الأول فالقول به إدخال في الدين ما ليس منه فلا جرم كان ردا
وأما الثاني فلم قلت إنه ليس من الدين حتى يلزم منه أن يكون ردا فإن هذا عين المتنازع فيه

وأما الإجماع فلا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا في فساد الربا والمتعة إلى مجرد النهي بدليل أنهم حكموا في كثير من المنهيات بالصحة وعند ذلك لا بد وأن يكون أحد الحكمين لأجل القرينة وعليكم الترجيح
ثم هو معنا لأنا لو قلنا إن النهي يدل على الفساد لكان الحكم بعدم الفساد في بعض الصور تركا للظاهر
أما لو قلنا بأنه لا يقتضي الفساد لم يكن إثبات الفساد في بعض الصور لدليل منفصل تركا للظاهر فكان ما قلناه أولى
قوله الأمر دل على الإجزاء فوجب أن يدل النهي على الفساد

قلنا هذا غير لازم لإمكان اشتراك المتضادات في بعض الصور اللوازم ولو سلمنا ذلك لكان الأمر لما دل على الإجزاء وجب أن لايدل النهي عليه لا أن يدل على الفساد والله أعلم

المسألة الخامسة
في أن النهي عن الشيء هل يدل على صحة المنهي عنه
الذين قالوا إن النهي عن التصرفات لا يدل على الفساد اختلفوا في أنه هل يدل على الصحة
فنقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله

أنه يدل على الصحة ولأجل ذلك احتجوا بالنهي عن الربا على انعقاده فاسدا وكذا في نذر صوم يوم العيد وأصحابنا أنكروا ذلك

لنا
قوله صلى الله عليه و سلم دعي الصلاة أيام

أقرائك
وروى أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين فالنهي في هذه الصورة منفك عن الصحة

احتجوا بأن النهي عن غير المقدور عبث والعبث لا يليق بالحكيم فلا يجوزأن
يقال للأعمى لا تبصر ولاأن يقال للزمن لا تطر
والجواب عنه
النقض بالمناهي المذكورة
ثم نقول لم لا يجوز حمل النهي على النسخ كما إذا قال للوكيل لا تبع هذا فإنه وان كان نهيا في الصيغة لكنه نسخ في الحقيقة
سلمنا أنه نهي لكن متعلقه هو البيع اللغوي وذلك ممكن الوجود فلم قلت إن المسمى الشرعي ممكن الوجود والله أعلم

المسألة السادسة
المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه
وعند أبي هاشم نفس أن لا يفعل المنهي عنه
لنا
إن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه المكلف والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف لأن القدرة لا بد لها من تأثير والعدم نفي محض فيمتنع إسناده إلى القدرة
وبتقدير أن يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا

وإذا ثبت أن متعلق التكليف ليس هو العدم ثبت أنه أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو الضدد

احتج المخالف
بأن من دعاه الداعي إلى الزنا فلم يفعله فالعقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف
والجواب
أنهم لا يمدحونه على شيء لا يكون في وسعه والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه على ما تقدم بل

إنما يمدحونه على امتناعه من ذلك الفعل وذلك الامتناع أمر وجودي لا محالة وهو فعل ضد الزنا
فإن قلت إنه كما يمكنه فعل الزنا فكذلك يمكنه أن يترك ذلك الفعل على عدمه الأصلي وأن لا يغيره فعدم التغيير أمر مقدور له فيتناوله التكليف
قلت المفهوم من قولنا تركه على ذلك العدم الأصلي وما غيره عنه إما أن يكون محض العدم أو لا يكون
فإن كان محض العدم لم يكن متعلق قدرته فاستحال أن يتناوله التكليف
وإن لم يكن محض العدم كان أمرا وجوديا وهو المطلوب

المسألة السابعة
النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع

أو عن الجمع أو نهيا عنها على البدل أو عن البدل
أما النهي عنها على الجمع فهو أن يقول الناهي للمخاطب لاتفعل هذا ولا هذا فيكون ذلك موجبا للخلو عنهما أجمع
ثم تلك الأشياء التي أوجب الخلو عنها إن كان الخلو عنها ممكنا فلا شك في جواز النهي
وإن لم يكن كان ذلك النهي جائزا عند من يجوز التكليف بمالا يطاق
وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو مثل أن تقول لا تجمع بين كذا وكذا

ثم تلك الأشياء إن أمكن الجمع بينها فلا كلام في جواز ذلك النهي وإلا لم يجز عند من لا يجوز تكليف مالا يطاق لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق جبل عن الصعود
وأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا تفعل هذا إن فعلت ذلك ولا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفسده عند وجود الآخر
وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما
وأما النهي عن البدل فيفهم منه شيئان

أحدهما
أن ينهى الإنسان عن أن يفعل شيئا ويجعله بدلا عن غيره وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع
والآخر
أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما وهذا النهي جائز إن أمكن الجمع وغير جائز إن تعذر على قول من لا يجوز تكليف مالا يطاق والله أعلم

الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على أقسام
القسم الأول في العموم وهو مرتب على شطرين

الشطر الأول في ألفاظ العموم وفيه مسائل د
المسألة الأولى
في العام
هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع

واحد كقولنا الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له
ولا يدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم
ولا التثنية و ( لا ) الجمع لأن لفظ رجلان و رجال يصلحان لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق
ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقه
وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك أو الذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا

وقيل في حده أيضا إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من غير حصر
واحترزنا باللفظة عن المعاني العامة وعن الألفاظ المركبة
وبقولنا الدالة عن الجمع المنكر فإنه يتناول جميع الأعداد لكن على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة

وبقولنا على شيئين عن النكرة في الإثبات
وبقولنا من غير حصر عن أسماء الأعداد والله أعلم

المسألة الثانية
المفيد للعموم إما أن يفيد لغة أو عرفا أو عقلا
أما الذي يفيده لغة فإما أن يفيده على الجمع أو على البدل
والذي يفيده على الجمع فإما أن يفيده كونه اسما موضوعا للعموم أو لأنه اقترن به ما أوجب عمومه
وأما الموضوع للعموم فعلى ثلاثة أقسام
الأول
ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ أي في الاستفهام

والمجازاة تقول أي رجل و أي ثوب و أي جسم في الاستفهام والمجازاه
وكذا لفظ كل و جميع

الثاني
ما يتناول العالمين فقط وهو من في المجازاة والاستفهام
الثالث
ما يتناول غير العالمين وهو قسمان
أحدهما ما يتناول كل ما ليس من العالمين وهو صيغة ما
وقيل إنه يتناول العالمين أيضا كقوله تعالى ولا أنتم عابدون ما أعبد

وثانيهما
ما يتناول بعض ما ليس من العالمين وهو صيغة متى فإنها مختصة بالزمان و أنى و حيث فإنهما مختصان بالمكان
وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه ما جعله كذلك فهو إما في الثبوت أو في العدم
أما الثبوت فضربان لام الجنس الداخلة على الجمع كقولك الرجال والإضافة كقولك ضربت عبيدي
وأما العدم فكالنكرة في النفي
وأما الاسم الذي يفيد العموم على البدل فأسماء النكرات على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص

وأما القسم الثاني وهو الذي يفيد العموم عرفا كقوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع
وأما القسم الثالث
وهو الذي يفيد العموم عقلا فأمور ثلاثة
أحدها
أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة
والثاني
أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل كما إذا

سئل النبي عليه الصلاة و السلام عمن أفطر فيقول عليه الكفارة فنعلم أنه يعم كل مفطر

والثالث
دليل الخطاب عند من يقول به كقوله عليه الصلاة و السلام في سائمة الغنم زكاة فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة والله أعلم
المسألة الثالثة
في الفرق بين المطلق والعام
اعلم أن كل شيء فله حقيقة وكل أمر يكون المفهوم منه مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا

آخر سوى تلك الحقيقة سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا وسواء كان سلبا أو إيجابا
فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان فأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا أو لا واحدا
إذا عرفت ذلك فنقول اللفظة الدالة على الحقيقة من حيث إنها هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على

شيء من قيود تلك الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق
أما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما يزيد عليها فهو اسم العدد
وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام
وبهذا التحقيق ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية والله أعلم

المسألة الرابعة
اختلف الناس في صيغة كل وجميع وأي و ما و من في المجازاة والاستفهام
فذهبت المعتزلة وجماعة من الفقهاء إلى أنها للعموم فقط وهو المختار
وأنكرت الواقفية ذلك ولهم قولان
فالأكثرون ذهبوا إلى أنها مشتركة بين العموم والخصوص
والأقلون قالوا لا ندري أنها حقيقة في العموم فقط

أو في الخصوص فقط أو في الاشتراك
والكلام في هذه المسألة مرتب على فصول خمسة

الفصل الأول
في أن من و ما و أين و متى في الاستفهام للعموم
فنقول هذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص فقط أولهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول
أما أنه لا يجوز أن يقال إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حس من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك

وأما أنه لا يجوز القول بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قيل من عندك فلا بد أن تقول تسألني عن الرجال أو عن النساء فإذا قال عن الرجال فلا بد أن تقول تسألني عن العرب أو عن العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول تسألني عن ربيعة أو عن مضر وهلم جرا إلى أن تأتي على جميع التقسيمات الممكنة وذلك لأن اللفظ إما أن يقال إنه مشترك بين الاستغراق

وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة والأول باطل لأن أحدا لم يقل به
والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد و أن يكون مطابقا للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير جائز
فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال

و أما ثانيا فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات
و أما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم و لا للخصوص فمتفق عليه
فبطلت هذه الأقسام الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول وهو الحق
فإن قيل لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص
قوله لو كان كذلك لما حسن الجواب بذكر الكل
قلنا متى إذا وجدت مع اللفظ قرينة تجعله

للخصوص أو إذا لم توجد
الأول ممنوع و الثاني مسلم
بيانه أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة للخصوص إلا أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع للعموم لجواز أن يكون حكم المركب مخالفا لحكم المفرد
سلمنا ذلك فلم لا يكون مشتركا
قوله لو كان كذلك لوجبت الاستفهامات
قلنا لم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة لا تنفك عن قرينة دالة على المراد بعينه فلا جرم لا يحتاج إلى تلك الاستفهامات
سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة لكن متى يقبح الجواب

بذكر الكل إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو المطلوب بالسؤال على كل التقديرات أو إذا لم يكن
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه أن السؤال إما أن يكون قد وقع عن الكل أو عن البعض
فإن وقع عن الكل كان ذكر الكل هو الواجب
وإن وقع عن البعض فذكر الكل يأتي على ذلك البعض فيكون ذكر الكل مفيدا لحصول المقصود على كل التقديرات وذكر البعض ليس كذلك فكان ذكر الكل أولى
سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات لكن لا نسلم أنها لا تحسن ألا ترى أنه إذا قيل من عندك حسن منه

أن يقول أعن الرجال تسألني أم عن النساء أعن الأحرار أم عن العبيد غاية ما في الباب أن يقال الاستفهام عن كل الأقسام الممكنة غير جائز لكنا نقول ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك وعليكم الترجيح
سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم لكنه معارض بأن هذه الصيغ لو كانت للعموم فقط لما حسن الجواب إلا بقوله لا أو نعم لأن قوله من عندك تقديره أكل الناس عندك ومعلوم أن ذلك لا يجاب إلا بلا أو بنعم فكذلك ها هنا

والجواب
قوله الصيغة وإن كانت حقيقة في الخصوص لكن لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير المجموع للعموم
قلنا لثلاثة أوجه
الأول
أن هذا يقتضي أنه لو لم توجد تلك القرينة أن لا يحسن الجواب بذكر الكل
ونحن نعلم بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك سواء وجدت قرينة أخرى أم لم توجد
الثاني
أن هذه القرينة لا بد و أن تكون معلومة للسامع والمجيب معا

لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه الصيغة للعموم مع أنا لا نعرف تلك القرينة
ثم تلك القرينة إما أن تكون لفظا أو غيره والأول باطل لأنه إذا قيل لنا من عندك حسن منا أن نجيب بذكر كل من عندنا وإن لم نسمع من السائل لفظة أخرى
والثاني باطل أيضا لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على مقصود المتكلم إلا الإشارة وما يجري مجراها من تحريك العين والرأس وغيرهما
وكل ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه مع أنه يحسن منه أن يجيب بذكر الكل

الثالث
أن من كتب إلى غيره فقال من عندك حسن منه الجواب بذكر الكل مع أنه لم يوجد في الكتبة شيء من القرائن
وبهذه الوجوه خرج الجواب أيضا عن قوله إنما لم يحسن الاستفهام عن جميع الأقسام لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة
وأيضا فقد إنعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن جميع القرائن المعينة
قوله إنما حسن الجواب بذكر الكل لأن المقصود حاصل على كل التقديرات
قلنا يلزم منه لو قال من عندك من الرجال أن يحسن

منه ذكر النساء مع الرجال لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم لا يدل على أنه لا حاجة به إلى السؤال عن النساء فلما لم يحسن في هذا فكذا فيما ذكرتموه
و أيضا فكما أنه يحتمل أن يكون غرضه من السؤال ذكر الكل أمكن أن يكون غرضه السؤال عن البعض مع السكوت عن الباقين
قوله قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام فليس الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على ثبوت الاشتراك
قلنا قد ذكرنا أنه ليس في الأمة أحد يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة ببعض مراتب الخصوص دون البعض فلو كانت حقيقة في الخصوص لكانت حقيقة في كل مراتب

الخصوص ولو كان كذلك لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب فلما لم يكن كذلك علمنا فساد القول بالاشتراك
فأما حسن بعض الاستفهامات فلا يدل على وقوع الاشتراك لما سنذكر إن شاء الله تعالى أن للاستفهام فوائد أخر سوى الاشتراك
قوله لو كانت هذه الصيغة للعموم لما حسن الجواب إلا بلا أو نعم
قلنا لا نسلم وذلك لأن السؤال ها هنا ما وقع عن التصديق حتى يكون جوابه بلا أو بنعم بل إنما وقع عن التصور فقوله من عندك معناه اذكر لي جميع من عندك من الأشخاص ولا تبق أحدا إلا وتذكره لي ومعلوم أنه لا يحسن الجواب عن هذا السؤال بلا أو بنعم والله أعلم

الفصل الثاني في أن صيغة من و ما في المجازاة للعموم
ويدل عليه ثلاثة أوجه
ألأول
أن قوله من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين الخصصوص والاستغراق لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة لكنه حسن فدل على عدم الاشتراك
وتقريره ما تقدم في الفصل الأول

الوجه الثاني
إنه إذا قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه
فأما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر
والأول باطل وإلا لكان يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول

زيد في الخطابين لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب
فإن قيل ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة

أحدها
جموع القلة كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة
وجمع السلامة فإنه للقلة بنص سيبوية مع أنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها

وثانيها
أنه يصح أن يقال اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر
وثاليها
أنه يصح أن يقال صل إلا اليوم الفلاني ولو كان الاستثناء يقتضي أخراج ما لولاه لدخل لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة فكان الأمر يفيد الفور والتكرار وأنتم لا تقولون بهما
سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن قوله من دخل داري أكرمه يحسن استثناء وكل واحد من العقلاء منه

فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة والجن واللصوص ولا يحسن أن يقول إلا ملك الهند وملك الصين
سلمنا حسن ذلك ولكن لم يدل على العموم
قوله المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة أو لا يكون
قلنا لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإن استثناء الشيء من غير جنسه جائز
سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من الوجوب
قوله لو لم يكن الوجوب معتبرا لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر وبين الاستثنا من الجمع المعرف

قلنا نسلم أنه لا بد من فرق لكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما ذكرتموه
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب لكن معنا ما يدل على أن الصحة كافية وبيانه من وجهين

الأول أن الصحة أعم من الوجوب فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على
ماهو أعم فائدة
الثاني أن القائل إذا قال لغيره أكرم جمعا من العلماء واقتل فرفة من الكفار حسن أن يستثنى كل واحد من العلماء والكفار فيقول إلا فلانا وفلانا ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق

سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة من للعموم لكن لا يجب أن يكون الأمر كذلك
بيانه أن الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة إذا لو جازت المناقضة عليه جاز ان يقال إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة من للعموم ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة
بلى لو ثبت أن اللغات توفيقية اندفع هذا السؤال
سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر وذلك لأنها لو كانت للعموم لكان الاستثناء نقضا على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى

والجواب
أما النقض بجموع القلة فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه مثلا لا يجوز أن يقول أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة من في المجازاة مثل أن يقول من دخل داري أكرمته إلا أهل البلدة الفلانية
قوله ينتقض بقوله اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا
قلنا هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله فيه فلم قلت إن في سائر الصور كذلك
قوله يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار
قلنا لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار

قوله لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص وملك الهند وملك الصين
قلنا لأن المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب ولهذا لو لم يعلم خروجها منه لحسن الاستثناء
ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى لحسن منه تعالى هذا الاستثناء مثل أن يقول إني أطعم من خلقت إلا الملائكة وأنظر بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين
قوله لم قلت إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه

قلنا لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشيء من جنسه فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس
ولأن الاستثناء مشتق من الثني وهو الصرف وإنما يحتاج إلى الصرف لو كان بحيث لولا الصارف لدخل
قوله لم قلت إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ومن الجمع المعرف إلا ما ذكرت

قلنا لأن الجمع المنكر هو لاذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص فلو كان الجمع المعرف كذلك لم يبق بين الأمرين فرق وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق
قوله حمل الاستثناء على الصحة أولى لكونها أعم فائدة
قلنا يعارضه أن حمله على الوجوب أولى لأن الصحة جزء من الوجوب فلو حملناه على الوجوب لكنا قد أفدنا به الصحة والوجب معا
ولو حملناه على الصحة وحدها لم نفد به الوجوب أصلا والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب
قوله الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة
قلنا هب أنه كذلك فلم قلت إن الاستثناء من صيغة من و ما في المجازاة كذلك

قوله لم قلت إن التناقض على الواضعين لا يجوز
قلنا لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء لا سيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع
قوله لو كانت الصيغة للعموم لكان الاستثناء نقضا
قلنا سيجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى
فهذا أقصى ما يمكن تمحله في هذه الطريقة

الوجه الثالث
لما أنزر الله تعالى قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى فتمسك بعموم اللفظ

ولم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك حتى نزل قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى

فإن قلت السؤال كان خطأ لأن ما لا تتناول العقلاء
قلت لا نسلم لقوله تعالى والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها والله أعلم

الفصل الثالث في أن صيغة الكل و الجميع تفيدان الاستغراق ويدل عليه وجوه
الأول
أن قوله جاءني كل فقيه في البلد يناقضه قوله ما جاءني كل فقيه في البلد ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق لأن النفي عن البعض لا يناقض الثبوت في البعض
الثاني
أن صيغة الكل مقابلة في اللفظ لصيغة البعض ولولا أن صيغة الكل غير محتملة للبعض وإلا لما كانت مقابلة لها

الثالث
أن الرجل إذا قال ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار عشرة ولم يعرف سوى هذه اللفظة أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت لفظة الكل مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر
الرابع
أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي

أما الأول فهو أن السيد إذا قال لعبده كل من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا فلو أعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه حتى أنه لو أعطى رجلا قصيرا فقال له لم أعطيته مع أني أردت الطوال فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال وإنما أمرتني بإعطاء من دخل وهذا قد دخل
وكل عاقل سمع هذا الكلام رأي اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها
وأما الثاني فهو أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا فقال له السيد لم لم تعطه فقال لأنه طويل وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار استوجب التأديب بهذا الكلام

الخامس
إذا قال أعتقت كل عبيدي وإمائي ومات في الحال ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه
ولو قال غانم حر وله عبدان اسمهما غانم وجبت المراجعة والاستفهام فعلمنا عدم الاشتراك
السادس
إنا ندرك تفرقة بين قولنا جاءني فقهاء وبين قولنا جاءني كل الفقهاء ولولا دلالة الثاني على الاستغراق وإلا لما بقي الفرق
السابع
معلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق

فزعوا إلى استعمال لفظة الكل والجميع ولا يستعملون الجموع المنكرة ولولا أن لفظة الكل والجميع موضوعة للاستغراق وإلا لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق كاستعمالهم للجموع المنكرة
فإن قلت في جميع هذه المواضع إنما حكمنا بالعموم للقرينة
قلت كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة
وأيضا
لو قيل كل من قال لك جيم فقل له دال فها هنا لا قرينة تدل على هذه الأحكام مع أن العموم مفهوم منه

وأيضا
فلو كتب في كتاب وقال اعملوا بما فيه حكم بالعموم مع عدم القرينة
وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة وأما المسموعة فهي منفية لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ ولم يسمع شيئا آخر
الثامن
لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد ... وكل نعيم لا محالة زائل ...
قال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فلولا أن قوله أفاد العموم وإلا لما توجه عليه التكذيب والله أعلم

الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي تعم
وذلك لوجهين
الأول
أن الإنسان إذا قال اليوم أكلت شيئا فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ولو كان قوله ما اكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما ناقضه لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي

مثاله من كتاب الله أن اليهود لما قالت ما أنزل الله على بشر من شيء قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا لقولهم

الثاني
لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى
تنبيه
النكرة في الآيات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم كقولك جاءني رجل
وإذا كان أمرا فالأكثرون على أنه للعموم كقوله أعتق رقبة
والدليل عليه أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان ولولا أنها للعموم وإلا لما كان كذلك

الفصل الخامس في شبه منكري العموم
احتجوا بأمور
أولها
العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم إما أن يكون ضروريا وهو باطل وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه
أو نظريا وحينئذ لا بد فيه من دليل وذلك الدليل إما أن يكون عقليا وهو محال لأنه لا مجال للعقل في اللغات
أو نقليا وهو إما أن يكون متواترا أو آحادا
والمتواتر باطل وإلا لعرفه الكل
والآحاد باطل لأنه لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية

وثانيها
أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغرا تارة وفي الخصوص أخرى وذلك يدل على الاشتراك
بيان المقدمة الأولى أن القائل إذا قال من دخل داري أهنته أو أكرمته فإنه
قلما يريد به العموم وإذا قال لقيت العلماء وقصدت الشرفاء فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى
بيان المقدمة الثانية من وجهين
الأول
أن الظاهر من استعمال اللفظ في شيء كونه حقيقة فيه إلا أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعماله فيه متجوزون

لأنا لو لم نجعل ذلك طريقا إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما إذ لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة سوى ذلك

الثاني
هو أن هذه الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما واللفظ لا يستعمل في المجاز إلا مع قرينة وذلك خلاف الأصل
وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا
والأول باطل وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه

والثاني أيضا باطل لأنا لما نطرنا في أدلة المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه

وثالثها
أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث لكن من المعلوم أن من قال ضربت كل من في الدار أنه يحسن أن يقال اضربتهم بالكلية وأن يقال أضربت أباك فيهم
ورابعها
أنها لو كانت للاستغراق لكان تأكيدها عبثا لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد

وخامسها
أنها لو كانت للاستغراق لكان الاستثناء نقضا وبيانه من وجهين
ألأول
أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض فكان نقضا وجاريا مجرى ما يقال ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار
الثاني
أن لفظة العموم لو كانت موضوعة للاستغراق لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص واستثناء الواحد منهم بعد ذلك في القبح كما إذا قال ضربت زيدا ضربت عمرا وضربت خالدا ثم يقول إلا زيدا فلما لم يكن

كذلك دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق

وسادسها
أن صيغة من وما وأي في المجازاة يصح إدخال لفظ الكل عليها تارة والبعض أخرى تقول كل من دخل داري فأكرمه بعض من دخل داري فأكرمه ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا
وسابعها
لو كانت لفظة من للاستغراق لامتنع جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع لكن يصح جمعها لقول الشاعر

أتو ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما ...

والجواب عن الأول
لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة فإنا بعد استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ كل وجميع ومن وما وأي في الاستفهام والجزاء للعموم

سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل
قوله لا مجال للعقل في اللغات
قلنا ابتداء أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية
الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلت إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة
سلمناه فلم لايجوز أن يعرف ذلك بالآحاد
قوله المسألة قطعية
قلنا لا نسلم كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا

والجواب عن الثاني
لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص ولكنك إن ادعيت أنه لا يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة بطل قولك بالمجاز
وإن سلمت أنه قد يوجد الاستعمال حيث لا حقيقة فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة
فإن قلت أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة فيه
قلت قولك المجاز خلاف الأصل لا يفيد إلا الظن وعندك المسألة قطعية يقينية
وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل فكذلك الاشتراك

وقد تقدم في كتاب اللغات أنه إذا وقع التعارض بينهما كان دفع الاشتراك أولى
وأما قوله أولا لو لم يجعل هذا طريقا إلى كون اللفظ حقيقة لم يبق لنا إليه طريق أصلا
قلنا قد بينا فساد هذا الطريق فإن لم يكن ها هنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال إنه لا طريق إلى ذلك الفرق لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره
قوله ثانيا ذلك الطريق إما أن يعرف بالضرورة أو بالدليل والضرورة باطلة لوقوع الخلاف والدليل باطل لأنا لم نجد في أدلة الخالفين ما يدل عليه
قلنا الضروري لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء وقد ينكره النفر اليسير ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ الكل وأي للعموم

سلمنا ذلك لكن لا نسلم إنه لو يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص
قوله نظرنا في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك
قلنا عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص

والجواب عن الثالث
لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند الاشتراك فما الدليل عليه ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان
الأول
أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك لوجب أن لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة على ما قررناه في الفصل الأول
الثاني
أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام كما لو قال القائل ضربت القاضي فيقال له أضربت القاضي فيقول نعم ضربت القاضي ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف
فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك

ثم نقول الاستفهام إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو أو ممن لا يجوز عليه ذلك
والأول قد يحسن لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه

أحدها
أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستبينه حتى إن كان ساهيا زال سهوه وأخبره عن تيقظ
ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام

وثانيها
أن يظن السامع لأجل أمارة أن المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة على سبيل المجازفة ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشيء لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به فلا يجازف في الكلام
ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فإذا قيل له أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت التهمة لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا وربما لم يتحقق رؤيته فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول لا أتحقق رؤيته

وثالثها
أن يستفهم طلبا لقوة الظن

ورابعها
أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك العموم مثل أن يقول ضربت كل من في الدار وكان فيهاالوزير فغلب على الظن أنه ما ضربه فإذا حصل التعارض استفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص
وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو فذاك لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام فيطلب الخاص بعد العام تحصيلا لتلك القوة

والجواب عن الرابع من حيث المعارضة ومن حيث التحقيق
أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه
أحدها تأكيد الخصوص كقولهم جاء زيد نفسه
وثانيها تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى تلك عشرة كاملة
وثالثها إن التأكيد تقوية ما كان حاصلا فلو كان الحاصل هو الاشتراك لتأكد
ذلك الاشتراك بهذا التأكيد

فإن قلت التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه
قلت هذا لا يكون تأكيدا بل بيانا
وأما من حيث التحقيق فهو أن المتكلم إما أن يجوز عليه السهو أو لا يجوز فإ جاز ذلك كان حسن التأكيد لوجوه

أحدها
أن السامع إذا سمع اللفظ بدون تأكيد جوز مجازفة المتكلم فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد
وثانيها
أنه ربما حصل هناك ما يقتضي تخصيص العام فإذا اقترن به التأكيد كان احتمال الخصوص أبعد
وثالثها
تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض
وأما إن لم يجز السهو على المتكلم لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن

والجواب عن الخامس
أنه منقوض بألفاظ العدد فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص ثم يتطرق الاستثناء إليها
ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا ان الاستثناء إذا اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة فيجب تعليقه بما يقدم عليه فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيداوفائدته إرادة ما عدا المستثنى بخلاف قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن ها هنا كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه وإذا لم يتعلق به أفاد الأول ضرب جميع من في الدار وأفاد الآخر نفي ذلك فكان نقضا

وأما الثاني فنطالبهم بالجامع
ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل فإذا قال ضربت زيدا وضربت عمرا إلا زيدا انصرف قوله إلا زيدا إلى زيد لا إلى عمرو لأن زيدا ليس بجزء منهم فكان نقضا بخلاف قوله رأيت الكل إلا زيدا لأن زيدا جزء من الكل فظهر الفرق

والجواب عن السادس
أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم المركب فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة من للعموم انفرادها عن لفظ البعض معها بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا فلا جرم لم يلزم النقض

والجواب عن السابع
أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا وإنما هو إشباع الحركة لسبب آخر مذكور في كتب النحو
المسألة الخامسة
لا خلاف في أن الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود لو كان هناك معهود
أما إذا لم يكن فهو للاستغراق خلافا للواقفية وأبي هاشم

لنا وجوه
الأول
أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام

الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين
أما كون كل الآئمة من قريش فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله احتج عليهم بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم إن اللفظ لا يفيده

بل عدل إلى الاستثناء فقال أليس أنه عليه السلام قال إلا بحقها وإن الزكاة من حقها

الثاني
إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق
أما انه يؤكد فلقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون

وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع
وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون المؤكد في أصله للاستغراق فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداءا لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذ الحكم الأصلي بل في إعطاء حكم جديد فكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة
وحيث اجمعوا على انها مؤكدة اعلمنا اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الاصل
فإن قيل هذا الاستدلال على خلاف النص لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة للقلةوما يكون للقلة لا يكون للاستغراق

ثم ينتقض بجمع القلة فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات
وأيضا فعند الكوفيين يجوز تأكيد النكرات كقوله ... قد صرت البكرة يوما أجمعا ...
والنكرة لا تفيد الاستغراق

والجواب
أنه لا بد من التوفيق بين نص سيبويه وبين ما ذكرناه من الدليل فنصرف قول سيبويه إلى جمع السلامة إذا كان منكرا وما ذكرناه من الدليل إلى المعرف ونمنع جواز تأكيد جمع القلة وكذا تأكيد النكرات على قول البصريين
الثالث
الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى ما دونه فإنه لايفيد المعرفة لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا
فإن قلت إذا أفاد جمعا من هذا الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس

قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالا أفاد تعريف ذلك الجنس وتمييزه عن غيره فدل أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق

الرابع
أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم
الخامس
الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رجال من الرجال ولا يجوز أن يقال الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع

وإذا ثبت هذا فنقول المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر ولم بطل ذلك ثبت أنه للكل والله أعلم

احتجوا بأمور
أولها
لو كانت هذه الصيغة للاستغراق لكانت إذا استعملت في العهد لزم إما الاشتراك وإما المجاز وهما على خلاف الأصل فوجب أن لا يفيد الاستغراق البتة
وثانيها
ولكان قولنا رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ لأن الأول تكرير والثاني نقض

وثالثها
يقال جمع الأمير الصاغة مع أنه ما جمع الكل والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق دفعا للاشتراك
والجواب عن الأول
أن الألف واللام للتعريف فينصرف إلى ما السامع به أعرف
فإن كان هناك عهد فالسامع به أعرف فانصرف إليه وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض لأن الكل واحد والبعض كثير مختلف فانصرف إلى الكل
وأيضا
لا يبعد أن يقال إذا أريد به العهد كان مجازا إلا أنه لا يحمل عليه إلا بقرينة وهي العهد بين المتخاطبين وهذا أمارة المجاز

وعن الثاني
أن دخول لفظتي الكل والبعض لا يكون تكريرا ولا نقضا بل يكون تأكيدا أو تخصيصا
وعن الثالث
أن ذلك تخصيص بالعرف كما في قوله من دخل داري أكرمته فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص والله أعلم
المسألة السادسة
الجمع المضاف كقولنا عبيد زيد للاستغراق
والدليل عليه ما تقدم
وأما الكناية كقوله فعلوا فإنه يقتضي مكنيا

عنه والمكني عنه قد يكون للاستغراق وقد لا يكون كذلك فالكناية عنه أيضا تكون كذلك

المسألة السابعة
إذا أمر جمعا بصيغة الجمع أفاد الاستغراق فيهم
والدليل عليه ان السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله قوموا فليس يتخلف عن القيام أحد إلا استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول ولا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة لأن تلك القرينة إن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام والله أعلم

الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق بالعموم وليس منه

المسألة الأولى
الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبائي والفقهاء والمبرد
لنا وجوه
الأول
أن الرجل إذا قال لبست الثوب وشربت الماء لا يتبادر إلى الفهم الاستغراق
الثاني
لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل كلهم أجمعون
الثالث
لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل القصار وتكلم الفقيه الفضلاء

فأما ما يروى من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد
وأيضا فالدينار الصفر إن كان حقيقة فالدينار الأصفر مجاز كما أن الدينار الصفر لما كان حقيقة كان الدينار الأصفر إما خطأ أو مجازا

الرابع
البيع جزء من مفهوم هذا البيع وإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع ومعلوم أن ذلك باطل
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين
أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي خصوصه

قلت أما الأول فباطل لأن العدم لا مدخل له في التأثير
وأما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل

الخامس
هو أنا قد بينا أن الماهية غير ووحدتها غير وكثرتها غير والاسم المعرف لايفيد إلا الماهية وتلك الماهية تتحقق عند وجود فرد من أفرادها لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه هذا فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان
فالإتيان بالفرد الواحد من تلك الماهية يكفي في العمل بذلك النص

فظهر أن هذا اللفظ لا دلالة له على العموم البته

احتجوا بوجوه
أحدها
أنه يجوز أن يستثنى منه الآحاد التي تصلح أن تدخل تحته لقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على كون هذا اللفط عاما
وثانيها
أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم
ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه اللهم إلا عند المعهود السابق وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك
ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض تلك المراتب أولى من بعض فلا بد من الصرف إلى الكل
وثالثها
أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعملية فقوله تعالى وأحل الله البيع

مشعر بأنه إنما صار حلالا لكونه بيعا وذلك يقتضي أن يعم الحكم لعموم العلة

ورابعها
أنه يؤكد بما يؤكد به العموم كقوله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل وذلك يدل على أنه للعموم
وخامسها
أنه ينعت بما ينعت به العموم كقوله تعالى والنخل باسقات وكقوله أو الطفل الذين وكل ذلك يدل على أنه للعموم
والجواب عن

الأول
أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه يقبح أن يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان حقيقة لاطرد
ويمكن أن يقال إن الخسران لما لزم كل الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء

وعن الثاني
أن لام الجنس تفيد تعيين الماهية لا تعيين الكلية وقد عرفت أن نفس الماهية لا تقتضي الكلية
وعن الثالث
أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس اللفظ ونحن لا ننكر ذلك والله أعلم
المسألة الثانية
الكلام في الجمع المنكر ينفرع على الكلام في أقل الجمع

وقد اختلفوا فيه فذهب القاضي والأستاذ أبو اسحاق وجمع من الصحابة والتابعين إلى أن أقل الجمع اثنان
وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ثلاثة وهو المختار

لنا وجوه
الأول
أن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع كما فصلوا بين الواحد والجمع فكما فرقنا بين الواحد والجمع وجب أن نفرق بين التثنية والجمع
الثاني
أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها وبالعكس يقال جاءني رجال ثلاثة وثلاثة رجال ولا تنعت بالاثنين فلا يقال رجال اثنان ولا اثنان رجال

الثالث
أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا في الاثنين فعلا وفي الثلاثة فعلوا وفي الأمر الاثنين افعلا وفي الجمع افعلوا
اجتجوا بالقرآن والخبر والمعقول
أما القرآن فبقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين والمراد داود وسليمان
وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب وكانا اثنين لقوله تعالى خصمان
وبقوله إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان

وبقوله عز و جل في قصة موسى وهارون إنا معكم مستمعون
وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم جميعا والمراد يوسف وأخوه
وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
وبقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقهما جماعة

وأما المعقول فهو أن معنى الاجتماع حاصل في الاثنين

والجواب عن الأول
أنه تعالى كنى عن المتحاكمين مضافا إلى كنايته عن الحاكم عليهما فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول وإذا اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم كانوا ثلاثة
وأما قوله تعالى إذ تسوروا المحراب مع قوله خصمان فجوابه أن الخصم في اللغة للواحد والجمع كالضيف يقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي و هذا ضيفي وهؤلاء ضيفي قال الله تعالى إن هؤلاء ضيفي
وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى هذان خصمان اختصموا وقوله

ففزع منهم
وأما قوله تعالى إنا معكم مستمعون فالمراد موسى وهارون وفرعون
وأما قوله تعالى عسى الله أن يأتيني بهم جميعا فالمراد به يوسف وأخوه والأخ الثالث الذي قال فلن أبرح الآرض حتى يأذن لي أبي وقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فكل طائفة جمع
وأما قوله تعالى فقد صغت قلوبكما فجوابه أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في القلب فيقال

للمنافق إنه ذو لسانين وذو وجهين وذو قلبين ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشيء الواحد له قلب واحد ولسان واحد
ولما خالفتا أمر الرسول صلى الله عليه و سلم ونمتا بأمر مارية وقع في قلبيهما دواع مختلفة وأفكار متباينة فصح أن يكون المراد من القلوب هده الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأن القلب لا يوصف بالصغو وإنما يوصف الميل به

وأما الحديث فهو محمول على إدراك فضيلة الجماعة
وقيل إنه صلى الله عليه و سلم نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين أن الاثنين فما قوقهما جماعة في جواز السفر
وأما المعقول فجوابه أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع بل عما يتناوله لفظ الرجال والسملمين فأين أحدهما من الآخر والله أعلم

المسألة الثاثة
الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع وهو الثلاثة خلافا للجبائي فإنه قال يحمل على الاستغراق
لنا
أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا ف

فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن جعله مورد التقسيم لهذه الأقسام
والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام وغير مستلزم لها فاللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام فلا يكون دالا عليها
وأما الثلاثة فهي مما لابد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة فقظ

احتج الجبائي
بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه وذلك أولى من حمله على بعض حقائقه

والجواب
أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده
ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط وبين الآربعة وما فوقها وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع لا دلالة فيه البتة على شيء من تلك الأنواع فضلا عن أن يكون حقيقة فيها فبطل قوله إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي حمله على جميع حقاقه والله أعلم

المسألة الرابعة
قوله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة
لا يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور حتى في القصاص لوجهين
الأول
أن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما
الثاني
أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه
والأول باطل وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لأن كل شيئين فلا بد وأن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين ومذكورين وموجودين

وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال إنه لا يساويه
والمتناقضان لا يصدقان معا فوجب أن لا يصدق على شيئين البته أنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي
فإذن قولنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه والله أعلم

وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة لأن الحكم عنده إنما وجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي فقط بل بالدليل الآخر
وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة لا يتناول الرسول صلى الله عليه و سلم

المسألة السادسة
اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث إما أن يكون مختصا بهما وهو كلفظ الرجال للذكور والنساء للإناث أو لا يكون وهو على قسمين

أحدهما
ما لا يتبين فيه تذكير ولا تأنيث كصيغة من وهذا يتناول الرجال والنساء ومنهم من أنكره
لنا
انعقاد الإجماع على أنه إذا قال من دخل الدار من أرقائي فهو حر فهذا لا يتخصص بالعبيد وكذا لو أوصى بهذه الصيغة أو ربط بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا
احتجوا بقول العرب من منان منون منة منتان منات

والجواب
أن ذلك وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح استعمال لفظ من في الذكور والإناث
القسم الثاني
ما تتبين فيه علامات التذكير والتأنيث كقولنا قام قاما قاموا قامت قامتا قمن
واتفقوا على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور واختلفوا في أن خطاب الذكور هل يتناول الإناث والحق لا
لنا
أن الجمع تضعيف الواحد وقولنا قام لا يتناول المؤنث فقولنا قاموا الذي هو تضعيف قولنا قام وجب أن لا يتناول المؤنث

احتجوا بأن أهل اللغة قالوا إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب التذكير

والجواب
ليس المراد ما ذكرتموه بل المراد أنه متى أراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الواجب هو التذكير والله أعلم
المسألة السابعة
إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهر إلا بإضمار شيء فيه ثم هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها وهذا هو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له مثاله قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان

فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره بل لابد وأن نقول المراد رفع عن أمتي حكم الخطأ
ثم ذلك الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم
فنقول إنه لا يجوز إضمارهما معا

لنا
أن الدليل ينفي جواز الإضمار خالفناه في الحكم الواحد لأجل الضرورة ولا ضرورة في غيره فيقى على الأصل
وللمخالف أن يقول ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر

فإما أن لا تضمر حكما أصلا وهو غير جائز أو تضمر الكل وهو المطلوب

المسألة الثامنة
المشهور من قول فقهائنا أنه لو قال والله لا آكل

فإنه يعم جميع المأكولات والعام يقبل التخصيص فلو نوى مأكولا دون مأكول صحت نيته وهو قول أبي يوسف
وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقبل التخصيص ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق
وتقريره أن نية التخصيص لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو في غيره والقسمان باطلان فبطلت تلك النية
وإنما قلنا إنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ لأن الملفوظ هو الأكل والأكل ماهية واحدة لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام وأكل ذلك الطعام وما به الاشتراك غير مابه الامتياز وغير مستلزم له فالأكل من

حيث أنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذاك وغير مستلزم له والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة والماهية من حيث إنها هي لا تقبل العدد فلا تقبل التخصيص بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك تعددت فهناك صارت محتملة للتخصيص و لكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة فلا تكون محتملة للتخصيص
فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية وهي غير قابلة للتخصيص
فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها تعددت وحينئذ تصير محتملة للتخصيص لكن تلك

الزوائد غير ملفوظة فالمجموع الحاصل منها ومن الماهية غير ملفوظ فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ وهذا هو القسم الثاني
فنقول هذا القسم وإن كان جائزا عقلا إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به
وإضافتها إلى هذا اليوم وذلك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه
ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين

حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه
أجمعنا على أنه لو قال إن أكلت أكلا أو غسلت غسلا صحت نية التخصيص فكذا إذا قال إن أكلت لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه
والجواب
أن المصدر هو الماهية وقد بينا أنها لا تحتمل التخصيص وأما قوله أكلت أكلا فهذا في الحقيقة ليس مصدرا لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا والمصدر ماهية الأكل وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به بل معناه

أن القائل ما عينه والذي يكون متعينا في نفسه لكن القائل ما عينه فلا شك أنه قابل للتعيين فإذا نوى التعيين فقد نوى ما يحتمله اللفظ فهذا ما عندي في هذا الفصل

المسألة التاسعة
قال الشافعني رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال

عليه الصلاة و السلام أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع أو الترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب

وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه و سلم عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل والله أعلم

المسألة العاشرة
العطف على العام لا يقتضي العموم لأن مقتضى العطف مطلق الجمع وذلك جائز بين العام والخاص قال الله تعالى

والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام وقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن خاص

المسألة الحادية عشرة
كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة كقوله تعالى يأيها الذين آمنوا يأيها الناس فهو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم
وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين لأن الذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في ذلك

الوقت ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت ومن لا يكون كذلك لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن
فإن قيل وما الذي يدل على العموم
قلنا الحق أنه معلوم بالضرورو في دين محمد صلى الله عليه و سلم
وذكروا فيه طريقين آخرين

الأول
التمسك بقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس وقوله عليه السلام بعثت إلى الناس كافة وقوله

بعثت إلى الأسود والأحمر وقوله ص

حكمي على الواحد حكمي على الجماعة

الثاني أنه صلى الله عليه و سلم متى أراد اتخصيص بين كما قال لأبي بردة بن نيار يجزىء عنك ولا يجزىء أحدا بعدك

وخص عبدالرحمن بن عوف بحل لبس الحرير

فحيث لا يتبين التخصيص نعلم العموم
ولقائل أن يعترض على الأول بأن لفظ الناس والجماعة والأسود والأحمر لا يتناول إلا الموجودين فيختص بالحاضرين

وعلى الثاني بأن ذكر التخصيص إنما يحتاج إليه لو جرى لفظ يوهم العموم
لكنا قلنا إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل فيه الذين سيوجدون بعد ذلك فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص

المسألة الثانية عشرة
قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الغرر لا يفيد العموم لأن الحجة في المحكي لا في

الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة وأن يكون عاما ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم
وأيضا قول الصحاب قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشاهد واليمين لا يفيد العموم وكذا القول

فيما إذا قال الصحابي سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول قضيت بالشفعة للجار لاحتمال كونه حكاية

عن قضاء لجار معروف وتكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض
فأما قوله صلى الله عليه و سلم قضيت بالشفعة للجار وقول الراوي أنه صلى الله عليه و سلم قضى بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم أرجح

المسألة الثالثة عشرة
قول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع بين الصلاتين في السفر لا يقتضي العموم لأن لفظ

كان لا يفيد إلا تقدم الفعل فأما التكرار فلا

ومنهم من قال إنه يفيد التكرار في العرف لأنه لا يقال كان فلان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره

المسألة الرابعة عشرة
إذا قال الراوي صلى الله عليه و سلم ص -
بعد الشفق

فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوعه بعدهما جميعا فهذا خطأ لأن اللفظ المشترك

لا يمكن حمله على مفهوميه معا كما تقدم
أما المتواطىء فمثاله قول الراوي صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكعبة فلا يمكن أن يستدل به على جواز أداء الفرض في البيت لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها فذاك

الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا وبالعكس فلا يدل على العموم

المسألة الخامسة عشرة
قال الغزالي رحمه الله المفهوم لا عموم له لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمياته ودلالة المفهوم ليست لفظية فلا يكون لها عموم
والجواب
إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ فالنزاع لفظي
وإن كنت تعني أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع

ما عداه فباطل لأن البحث عن أن المفهوم هل له عموم أم لا فرع على أن المفهوم حجة ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة والله أعلم

القسم الثاني في الخصوص
وفيه مسائل

المسألة الأولى
حد التخصيص على مذهبنا إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه
وعند الواقفية إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب سواء كان الذي صح واقعا أم لم يكن واقعا
وأما قولنا العام المخصوص فمعناه أنه استعمل في بعض ما وضع له
وعند الواقفية أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض

وأما الذي به يصير العام خاصا فهو قصد المتكلم لأنه إذا قصد بإطلاقه تعريف بعض ما تناوله اللفظ أو بعض ما يصلح أن يتناوله على اختلاف المذهبين فقد خصه
وأما المخصص للعموم فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد وهو إرادة صاحب الكلام لأنها هي المؤثرة في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما لم يترجح

أحدهما
على الآخر إلا بالإرادة
ويقال بالمجاز على شيئين
أحدهما
من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته

وثانيهما
من اعتقد ذلك أو وصفه به كان ذلك الاعتقاد حقا أو باطلا
المسألة الثانية
في الفرق بين التخصيص والنسخ
النسخ لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق

ما بين العام والخاص لكن الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظية أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ وتلك الأمور خمسة

أحدها
أن التخصيص لا يصح إلآ فيما يتناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ
وثانيهما
أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح
وثالثها
أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك

ورابعها
أن الناسخ أن يكون متراخيا والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين
وخامسها
أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس والنسخ لا يقع بهما
وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام والخاص عندي
ومنهم من تكلف بينهما فروقا
أحدها
أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد فالسبعة مثلا لها اسمان سبعة وعشرة إلا ثلاثة والتخصيص ليس كذلك

وثانيها
أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال فإنه إذا قال رأيت الناس دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم والاستثناء لا يحصل بالقرينة
وثالثها
أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا والاستثناء لايجوز فيه ذلك وهذه الوجوه متكلفة والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع كالنسخ والاستثناء وغيرهما
المسألة الثالثة
فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز
الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص عبارة عن أخراج البعض عن الكل والواحد لا يعقل ذلك فيه

وأما الذي يتناول أكثر من واحد فعمومه إما من جهة اللفظ ويصح تطرق التخصيص إليه وإما من جهة المعنى وهو أمور ثلاثة

أحدها
أن العلة الشرعية هل يجوز تخصيصها وسيأتي الكلام فيه في باب القياس إن شاء الله تعالى
وثانيها
مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب والتخصيص فيه جائز إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ مثل تقييد الأم إذا فجرت وضرب الوالد إذا ارتد
ولا يجوز إذا عاد بالنقض عليه

وثالثها
مفهوم المخالفة فإنه يفيد في المسكوت عنه انتفاء مثل حكم المذكور ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه
المسألة الرابعة
يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة الخاص أمرا كان أو خبرا خلافا لقوم
لنا
الدليل على جوازه
وقوعه في القرآن كقوله تعالى اقتلوا المشركين الله خالق كل شيء

ويقال في العرف جاءني كل الناس والمراد أكثرهم
احتجوا بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أو هم الكذب ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا لما وجد في الدنيا كذب وجواز التخصيص في الأمر يوهم البداء

والجواب
إذا علمنا أن اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء والله أعلم
المسألة الخامسة
في لغاية التي لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها

اتفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد
واختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام فزعم القفال أنه لا يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة
ومنهم من جوز انتهائه إلى الواحد
ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم وأوجب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرهاإلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم والإبانة فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير وهو الأصح
أما انه لا بد من بقاء الكثرة فلأن الرجل لو قال أكلت كل ما في الدار من الرمان وكان فيها ألف

وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة عابه أهل اللغة ولو قال كل من دخل داري أكرمته ثم قال أردت به زيدا وحده عابه أهل اللغة

احتج من جوز ذلك
بأن استعمال العام في غير الاستغراق استعمال له في غير ما وضع له فليس جواز استعماله في البعض أولى منه في البعض الآخر فوجب جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد
والجواب
لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض وتقريره ما ذكرناه

وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد على سبيل التعظيم فلقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وقوله فقدرنا فنعم القادرون

المسألة السادسة
اختلفوا في أن العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا فقال قوم من الفقهاء إنه لا يصير مجازا كيف كان التخصيص
وقال أبو علي وأبو هاشم يصير مجازا كيف كان التخصيص ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها

والمختار قول أبي الحسين رحمه الله وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صارت مجازا وإلا فلا تقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية
أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات
وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا
والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملا في جزء مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص
قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه
والكلام في ان العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا فرع على ثبوت أصل المجاز
وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو أسد الطوال فها هنا لا يصير مجازا

والدليل عليه أن لفظ العموم حال انضمام الشرط أو الصفة أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض لأنه لو أفاده لما بقي شيء يفيده الشرط أو الصفة أو الاستثناء وإذا لم يغد البعض استحال أن يقال إنه مجاز في إفادة البعض بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ولفظ الشرط أو الصفة او الاستثناء دليل على ذلك البعض وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة

تنبيه
إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين

فقال النبي صلى الله عليه و سلم في الحال إلا زيدا فهذا تخصيص بدليل متصل أو منفصل فيه احتمال

المسألة السابعة
يجوز التمسك بالعام المخصوص وهو قول الفقهاء
وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز مطلقا

ومنهم من فصل فذكر الكرخي أن المخصوص بدليل متصل يجوز التمسك به والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به
والمختار أنه لو خص تخصيصا مجملا لا يجوز التمسك به وإلا جاز مثال التخصص المجمل كما إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين ثم قال لم أرد بعضهم

لنا وجوه
الأول
أن اللفظ العام كان متناولا للكل فكونه حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفا على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد من هذين القسمين

والأول باطل لإنه إن كان كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر لزم الدور
وإن افتقر كونه حجة في هذا القسم إلى كونه حجة في ذلك القسم ولا ينعكس فحينئذ يكون كونه حجة في ذلك القسم يصح أن يبقى بدون كونه حجة في هذا القسم فيكون العام المخصوص حجة في ذلك القسم
هذا مع أنا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فلم يكن جعل البعض مشروطا بالآخر أولى من العكس
والقسم الثاني أيضا باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد فلو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل لزم الدور وهو محال
ولما بطل القسمان ثبت أن كونه حجة في ذلك البعض لا يتوقف

على كونه حجة في البعض الآخر ولا على كونه حجة في الكل فإذن هو حجة في ذلك البعض سواء ثبت كونه في البعض الآخر أو في الكل أو لم يثبت ذلك فثبت أن العام المخصوص حجة

الثاني
هو أن المقتضى لثبوت الحكم في غير محل التخصيص قائم والمعارض الموجود لايصلح معارضا فوجب ثبوت الحكم في غير محل التخصيص
إنما قلنا إن المقتضي قائم وذلك لأن المقتضى هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم وصيغة العموم دالة على ثبوت الحكم في كل الصور والدال على ثبوت الحكم في كل الصور دال على ثبوته في محل التخصيص وفي غير محل التخصيص فثبت أن المقتضى لثبوت الحكم في غير صورة التخصيص قائم

وأما أن المعارض الموجود لا يصلح أن يكون معارضا فلأن المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت في هذه الصورة المعينة ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة المعينة عدمه في الصورة الآخرى فبيان عدم الحكم في هذه الصورة لا يكون منافيا لثبوت الحكم في الصورة الأخرى
فثبت أن المقتضى قائم والمانع مفقود فوجب ثبوت الحكم

الثالث
أن عليا كرم الله وجهه تعلق في الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم

مع أنه مخصوص بالبنت والأخت ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا

احتجوا
بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهره فيجب صرفه عن الظاهر وحينئذ لا يكون حمله على بعض المحامل اولى من بعض فيصير مجملا
قلنا لا نسلم أنه ليس البعض بأولى من البعض بل عندنا يجب حمله على الباقي والله أعلم
المسألة الثامنة
قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام مالم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم
وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة

واحتج الصيرفي بأمرين
أحدهما
لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصص أم لا لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله
بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم
بيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا
وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضا في الشرع

لقوله صلى الله عليه و سلم ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

وثانيهما
أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم المخصص فيكفي في إثبات ظن الحكم
واحتج ابن سريج
أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون

والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل

والجواب
أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص
ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن
فرع
إذا قلنا يجب نفي المخصص فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد في الطلب ثم لا يجد لكن الاستدلال بعدم

الوجدان على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف والله أعلم

القسم الثالث
فيما يقتضي تخصيص العموم
والكلام في هذا القسم يقع في أطراف أربعة
أحدها الأدلة المتصلة المخصصة
وثانيها الأدلة المنفصلة المخصصة
وثالثها بناء العام على الخاص
ورابعها ما يظن أنه من مخصصات العموم وليس كذلك

القول في الأدلة المتصلة وفيه أربعة أبواب

الباب الأول في الاستثناء وفيه مسائل

المسألة الأولى
الاستثناء إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم مقامه
أو يقال ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه
والدليل على صحة هذا التعريف
أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف
وإما أن يكون لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا بالدلالة وإلا كان لغوا وهذا أيضا خارج عن هذا الحد
أو متصلا وهو إما التقييد بالصفة أو الشرط أو الاستثناء أو الغاية

أما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال لم يتناول القصار بخلاف قلولنا أكرمني بنو تميم إلازيدا فإن الخارج وهو زيد تناولته صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط
وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه

المسألة الثانية
يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه عادة واحترزنا بقولنا عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك

لا يمنع من اتصال الاستثناء
وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل
وهذه الرواية إن صحت فلعل المراد منها ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه

لنا وجهان
الأول
لو جاز تأخير الاستثناء لما استقر شيء من العقود من الطلاق والعتاق ولم يتحقق الحنث أصلا لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغير حكمه
الثاني
نعلم بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم بع داري من أي شخص كان ثم قال بعد غد إلا من زيد فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء عائدا إلى ما تقدم

احتجوا
بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص فكذا الاستثناء
والجواب
أنه يبطل بالشرط وخبر المبتدأ ثم نطالبهم بالجامع والله أعلم

المسألة الثالثة
استثناء الشيء من غير جنسه باطل على سبيل الحقيقة وجائز على سبيل المجاز
والدليل على الأول
أن الاستثناء من غير الجنس الأول لو صح لصح إما من اللفظ أو من المعنى
والأول باطل لأن اللفظ الدال على الشيء فقط غير دال على ما يخالف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شيء لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه

والثاني أيضا باطل لأنه لو جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين مسماه وبين المستثنى ليصح الاستثناء لجاز استثناء كل شيء من كل شيءلأن كل شيئين لا بد وأن يشتركا في بعض الوجوه فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك صح الاستثناء
ولما علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شيء من كل شيء علمنا بطلان هذا القسم

احتجوا بالقرآن والشعر والمعقول
أما القرآن فخمس آيات
إحداها
قوله عز و جل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ
وثانيها
قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وهو ما كان منهم بل كان من الجن
وثالثها
قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن

تراض منكم

ورابعها
قوله تعالى مالهم به من علم إلا اتباع الظن والظن ليس من جنس العلم
وخامسها
قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما والسلام ليس من جنس اللغو

وأما الشعر فقوله ... وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير والاالعيس

وقول النابغة ... وما بالدار من أحد إلا أواري ...
والأواري ليس من جنس الأحد

وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد ... ألا أوارى لأيا ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمطلومة الجلد

وأما المعقول فهو أن الاستثناء تارة يقع عما يدل اللفظ عليه دلالة المطابقة أو التضمن
وتارة عما يدل عليه دلالة الالتزام فإذا قال لفلان علي الف دينار إلا ثوبا فمعناه إلا قيمة ثوب

والجواب
أما قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ فجوابه أن إلا ها هنا بمعنى لكن أو يقال وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا إذا أخطأ فغلب على ظنه أنه ليس من المؤمنين إما بأن يختلط بالكفار فيطن الرجل أنه منهم أو بأن يراه من بعيد فيظنه صيدا أو حجرا
وأما قوله تعالى إلا إبليس فقيل إنه كان من الملائكة ولا بد من

الدلالة على أن كونه من الجن ينفي كونه من الملائكة
سلمنا أنه ليس من الملائكة لكن إنما حسن الاستثناء لأنه كان مأمورا بالسجود كما أن الملائكة كانوا مأمورين بذلك فكأنه قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس
وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة إلا اتباع الظن فقد اتفقت النحاة على

أنه ليس باستثناء ثم فسره البصريون بقولهم ولكن اتباع الظن والكوفيون بقولهم سوى اتباع الظن

والجواب عن الشعر
أن الأنيس سواء فسرناه بالمؤنس أو بالمبصر أمكن إدخال اليعافير والعيس فيه

وعن الثالث
أنه لو صح الاستثناء من المعنى لزم صحة استثناء كل شيء من كل شيء على مابيناه والله أعلم
المسألة الرابعة
أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق
ثم من الناس من قال شرط المستثنى أن لا يكون أكثر أكثر مما بقي بل يجب أن يكون مساويا أو أقل

وقال القاضي بل شرطه أن لا يكون أكثرولامساويا بل أقل
ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال لفلان علي عشرة إلا تسعة يلزمه واحد ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعا وإلا لما كن كذلك
ويدل على فساد اقول الثاني خاصة قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في أتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون كل واحد منهما أقل من الآخر وذلك محال

حجة القاضي رحمه الله أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم وما لأجله ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر فوجب أن يفسد الاستثناء في المساوي والأكثر
بيان مقتضى الفساد أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار وإنه غير مقبول
بيان الفارق أن الشيء القليل يكون في معرض النسيان لقلة التفات النفس إليه والكثير يكون متذكرا محفوظا لكثرة التفات القلب إليه فإذا أقر بالعشرة فربما كانت تلك العشرة بنقصان شيء قليل وإن كانت تامة لكنه أدى منها شيئا قليلا ثم إنه نسي ذلك القدر لقلته فلا جرم أقر بالعشرة الكاملة ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر فوجب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6