كتاب : الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي
المؤلف : علي بن عبد الكافي السبكي

وان أراد إطلاقه حقيقة فبعيد ولقائل ان يقول أنت قد قلت لا يدع فيه ثم قلت وهو ابعد من الرد الى اثنين وما نرى الحقائق مختلفة المراتب في آحادها بل لو كان حقيقة لتساوى هو والاثنين والثلاثة
والخامس حكاه ابن عمر وابن الحاجب انه لا يطلق على اثنين لا حقيقة ولا مجازا وعندي في ثبوت هذا القول نظر فانه لا نزاع عند القائلين بالمجاز في صحة اطلاق الكل وارادة الجزء وقد يجاب بان الثلاثة ليست كلا فالكل ماهية يتجزأ منها أجزاء والثالثة لا يتجزأ منها اجزاء بدليل أنه لا يصح اطلاق لفظ واحد عليها ولو كانت كلا لصح لان اطلاق البعض وارادة الكل جائز كالعكس إذا عرفت هذا فقد استدل أصحابنا بوجوه منها ان الضمائر مختلفة فالضمير في الجمع الراجع الى التثنية فدل على تغايرهما فلا يكون حقيقة في اثنين إذ لو كان لصح اطلاقه عليه ومنها ان اهل اللغة يفصلون بينهما ويجعلون كل منهما قسما للآخر فقالوا الاسم قد يكون مفردا وقد يكون مثنى وقد يكون مجموعا فدل على التغاير
واحتج القاضي أبو بكر في إصحاحه بأوجه
أحدها قوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين وأراد داود وسليمان عليهما السلام فثبت صحة إطلاق الجمع وارادة الاثنين والاصل في الاطلاق الحقيقة واجيب كما ذكر في الكتاب بأن الحكم مصدر فيصح إضافته الى معمولية اعني الفاعل والمفعول وهما هنا الحكم والمحكوم عليه وهذا الجواب ضعيف لان المصدر إنما يضاف إليهما على البدل ولا يجوز ان يضاف إليهما جميعا واضعف منه قول الشيرازي شارح الكتاب في تصحيحه الرد عليه بأن العرب لا تضيف المصدر إليهما جميعا ضعيف لأنه شهادة نفي وقد علمت في فصل الحروف ان مثل هذا ساقط الكلام غير معدود من صنيع العلماء وإنما هو استرواح بما لا يعصم

وثانيها قوله تعالى ان تتوبا الى الله فقد صفت قلوبكما والمراد عائشة وحفصة رضي الله عنهما فاطلق القلوب وأراد قلبين والاصل في الاطلاق الحقيقة قال امام الحرمين في التلخيص وهذه الآية أقوى الآيات في الدلالة على الخصوم وقد أجيب عن الاحتجاج بها كما ذكره في الكتاب بأن حقيقة القلب الجرم الحال في الجانب الأيسر ومجازه ميوله ومنه قولهم لا قلب له الى فلان أي لا ميل والمجاز هو المراد هنا والتقدير فقد صفت ميولكما يدل على هذا ان الجرم لا يوصف بالصفو وهذا الجواب ايضا ساقط لأن القاعدة عند النحاة انه إذا أضيف شيئان الى ما تضمنها جاز فيه ثلاثة اوجه نحو قطعت رأسي الكبشين وراس الكبشين ورؤوس الكبشين
وثالثها قوله صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقهما جماعة رواه الدارقطني من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مشهور وحاصل ما فيه بعد ان يعرف انه عمر بن شعيب محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ان قوله جده يحتمل ان يكون جده الأدنى الحقيقي وهو محمد فيكون حديثه مرسلا فان محمدا تابعي ويحتمل ان يكون جده الأعلى المجازي وهو عبد الله فيكون متصلا وقد اختلف العلماء في الاحتجاج به إذا كان هذا فاحتج به اكثر من لا يحتج المرسل حملا له على جده الأعلى ورواه ابن ماجة من حديث الربيع بن بدر المعروف بعليلة وهو ايضا ضعيف وأجاب الإمام بأنه إذا أمكن حمل كلام النبي صلى الله عليه و سلم على حكم شرعي ولغوي فالشرعي أولى لكونه مبعوثا لبيان الشرعيات فيحمل هنا على إدراك فضيلة الجماعة وبأنه نهى عن السفر الا في جماعة فبين بهذا الحديث ان الاثنين فما فوقهما جماعة في جواز السفر وهذا ما اقتصر في الكتاب على ذكره ولقائل ان يقول سفر الواحد منفردا ليس بحرام إنما هو مكروه بل الجواب ان الخلاف ليس في لفظ الجمع ولا لفظ الجماعة كما تقدم

فائدة الخلاف في هذه المسالة فائدة أصولية وفوائد فروعية أما الأصولية فهي النظر في الغاية التي ينتهي التخصيص إليها وهي المسألة المتقدمة
وقال الأستاذ أبو اسحاق في أصوله بعد ان عزا ما ذكره الى بعض الأصحاب هذه فائدة مريعة فان ائمتنا يجمعون على جواز تخصيص الجمع والعموم بما هو دليل الى ان يبقى تحته واحد انتهى وهو فائدة وقد عرفت الخلاف المتقدم واما الفوائد الفروعية فمنها لو قال له على دراهم لزمه ثلاثة وحكى وجه انه يلزمه درهمان ومنها قليل يكتفي في الصلاة على الميت باثنين حكاه الرافعي عن التهذيب وقال انه بناء على أن اقل الجمع اثنان ومنها
لو أوصى لأقاربه وليس له الا قريب واحد فوجهان في انه هل يصرف إليه الكل أو الثلث وحكى الأستاذ أبو منصور وجها انه يكون له النصف حكاه الرافعي عنه ولم يعلله قال ابن الرفعة في المطلب ولم افهم له معنى وان تخيل انه بناء على ان اقل الجمع اثنان لزمه ان يقول فيما إذا أوصى للفقراء بجواز الاقتصار عليهما ايضا ولم نر من قال به ومنها في الرافعي في فروع الطلاق انه لو قال ان تزوجت النساء أو اشتريت العبيد فهي طالق لم يحنث الا إذا تزوج ثلاث نسوة واشترى ثلاثة عبيد وقياس الخلاف الأصولي جريان وجه تحنيثة باثنين
فإن قلت ولم لا يقال في هذه الصورة انه لا يحنث بشيء لأنه علق على جميع نساء العالمين وعبيدهم بدليل إدخاله الألف واللام المقتضية للعموم وهو تعليق على مستحيل والصحيح في التعليق على المستحيل انه لا يقع
قلت لما كان أعمال الكلام أولى من اهماله حمل على جنس الجمع في ذلك وقال الرافعي في كتاب الإيمان فيما إذا حلف لا يكلم الناس ذكر ابن الصباغ وغيره انه يحنث إذا كلم واحد كما إذا قال لا آكل الخبز ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة انتهى
فإن قلت هذا عجيب ناس للمنكر يحمل على الجمع فإذا دخلت الألف واللام المعممة تخرجه عن ذلك
قلت كان الألف واللام والحالة هذه المراد بها الجنس من حيث هو

بخلاف ما إذا كان منكرا واما قياس لا يكلم الناس على لا آكل الخبز ففيه نظر لصدق الخبز على القليل والكثير صدقا واحدا كالماء والعسل
قال الرابعة العام المخصوص مجاز وإلا لاشتراك وقال بعض الفقهاء انه حقيقة وفرق الإمام بين المخصص بالمتصل والمنفصل لان المقيد بالصفة لم يتناول غيرا قلنا المركب لم يوضع والمفرد متناول
واختلفوا في العام انه إذا خص هل يكون في الباقي حقيقة على مذاهب
أحدها انه مجاز وذهب إليه أصحابنا والمعتزلة كأبي على وابنه واختاره المصنف وصفي الدين وابن الحاجب لأنه حقيقة في الاستغراق فلو كان حقيقة في البعض لزم الاشتراك والمجاز خير من الاشتراك
والثاني أنه حقيقة وهو مذهب كثير من أصحابنا وجمهور الحنفية والحنابلة
والثالث أن المخصص ان كان مستقلا سواء كان عقليا كالدليل الدال على ان غير القادر غير مراد من الخطاب في العبادات أو لفظيا كما إذا قال المتكلم بالعام أردت به الفلاني فهو مجاز وان لم يكن مستقلا فهو حقيقة وذلك كالاستثناء مثل قول القائل من دخل داري يكرم الا زيدا والشرط من دخل أكرمته ان كان عالما والتقيد بالصفة من دخل داري من الطوال قال صفي الدين الهندي والتقيد بالعام لعلة الغاية وان لم يذكروه في هذا المقام حكمه حكم إخوانه من المتصلات ظاهرا إذ لا يظهر فرق بينهما على هذا الرأي وهذا ما اختاره الكرخي وأبو الحسين البصري والامام وعلى حكاية هذه الثلاثة اقتصر المصنف
والرابع ان خص بمتصل من شرط او استثناء فهو حقيقة وإلا فهو مجاز وهو المنقول عن القاضي وقد رايته في مختصر التقريب الا انه لم يصرح بذكر الشرط وهذه عبارته ولو قررنا القول بالعموم فالصحيح عندنا من هذه المذاهب ان نقول إذا تقدر التخصيص باستثناء متصل فاللفظ حقيقة في بقية المسميات وان تقدر التخصيص بدلالة منفصلة فاللفظ مجاز لكن يستدل به في بقية المسميات انتهى

والخامس ان خص بالشرط والتقييد بالصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء
والسادس ان خص بدليل لفظي سواء كان متصلا أم منفصلا فهو حقيقة وإلا فهو مجاز
والسابع ان بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز
وصرح الغزالي بأنه لا خلاف في انه مجاز إذا لم يبق بعد التخصيص جمع وهذا فيه نظر فقد صرح امام الحرمين في التلخيص بحكاية الخلاف في ذلك فقال ذكر القاضي عن بعض أصحابنا ان اللفظ حقيقة فيما يبقى وان كان اقل من الجمع هذا بعيد جدا انتهى
والثامن انه حقيقة في تناول ما بقي مجاز في الاقتصار عليه وهو اختيار امام الحرمين قوله لان المقيد هذا دليل الإمام وتقريره ان العام المقيد بالصفة لم يتناول غير الموصوف لأنه لو تناوله لضاعت فائدة الصفة وإذا انحصر تناوله فيه وقد استعمل فيه فيكون حقيقة وهذا بخلاف المخصوص بمنفصل فان لفظه متناول للخارج بحسب اللغة مع كونه لم يستعمل فيه فيكون مجازا او مشتركا والمجاز أولى فيكون مجازا
وأجاب المصنف بأن المركب من الموصوف والصفة مثلا غير موضوع فلا يكون حقيقة فيه فلم يبق الا المفرد والمفرد الذي هو العام متناول لكل فرد لغة وقد استعمل في البعض فيكون مجازا وهذا الجواب مبني على ان المركبات غير موضوعة وفيه نزاع فالأولى الجواب بأنه لو لم يكن الموصوف ونحوه متناولا لم يكن المتصل من المخصصات لان التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ هذا شرح ما في الكتاب ونختم المسالة بشيئين
احدهما قال الإمام إذا قال الله اقتلوا المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحال الا زيدا فهل هو تخصيص بمنفصل أو متصل فيه احتمال قال صفي الدين الهندي والأظهر انه منفصل

قلت وقد ذكر القاضي المسالة في مختصر التقريب وقال ان من الاصوليين من نزله منزلة الاستثناء المصرح به كلام الله تعالى قال القاضي والذي نرتضيه انه صلى الله عليه و سلم ان ابتدأ من تلقاء نفسه كلام ولم يصفه الى كلام الله تعالى فيلتحق ذلك في المنفصل ولا يجعل كلامه صلى الله عليه و سلم استثناء حقيقيا بل هو تخصيص سواء قدر متصلا أو منفصلا
والثاني اعلم ان الاصوليين لم يذكروا التفرقة بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص وهو تحرير منهم والشافعي رضي الله عنه له أقوال في قوله تعالى واحل الله البيع منها انه عام مخصوص ومنها انه عام مراد به الخصوص وقد كثر الكلام في ذلك وتشعب النظر ولوالدي أيده الله تعالى في ذلك كلام نفيس ونحن نذكر جميع ما ذكره فانه مما ينبغي ان يغتبط به الفطن قال احسن الله إليه كثر الكلام في العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص في الفرق بينهما وفي ان العام المخصوص مجاز أولا وظن جماعة ان هذا الخلاف في ان العام المخصوص مجاز أو لا يجري في العام المراد به الخصوص والذي أراه في ذلك وبالله العون والتوفيق أما العام الذي أريد به الخصوص فهو العام إذا أطلق وأريد به بعض ما يتناوله فهو لفظ مستعمل في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره فالذي يظهر أنه مجاز قطعا إلا أن قيل ان العام دلالته على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة
فقد يقال حينئذ على هذا بأنه حقيقة في كل فرد فان جاء خلاف فيه فإنما يجيء من هذه الجهة وشرط الإرادة في هذا النوع على ما ظهر لنا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكتفي بطريانها في أثنائه لأن المقصود فيها نقل اللفظ عن معناه الى غيره واستعماله في غير موضوعه وليس إرادة إخراج لبعض المدلول إرادة استعماله اللفظ في شيء آخر غير موضوعه كما يراد باللفظ مجازه الخارج عنه لا فرق بينهما الا ان ذاك خارج هذا داخل لأن البعض داخل في الكل ومن يجعل الدلالة على كل فرد دلالة مطابقة لا يناسبه ان يقول انه استعمال اللفظ في غير موضوعه بل يصير كاستعمال المشترك في أحد معنييه وهو استعمال حقيقي وارادة أحد معنيي المشترك عند مانع استعمال المشترك

في معنييه لا شك أنها لا تخرجه عن موضوعه ولا تجعله مجازا بل هي مصححه لاستعماله
وأما عند من يجوز استعماله في معنييه فهم مختلفون إذا استعمل في معنييه هل هو مجاز أم لا فمن جعله مجازا فكذلك لأن الاستعمال الحقيقي عنده هو استعماله في أحد المعنيين ومن جعله حقيقة كالعام كما هي طريقة الشيخ الآمدي في النقل عن الشافعي رضي الله عنه فيصير البحث فيه كالبحث في العام المراد به الخصوصي وفيه نظر لأنا نعلم ان المشترك وضعه الواضع لكل من المعنيين وحده بخلاف العام ولكن أدى مساق البحث على طريقة الآمدي الى ما قلناه ويؤنسك الى اشتراط مقارنة الإرادة في هذا النوع لأول اللفظ ما ذكره الفقهاء في تكبيرة الاحرام وفي كنايات الطلاق وإذا حققت هذا المعنى اضبطه وأما العام المخصوص فهو العام إذا أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده فالإرادة فيه إرادة الإخراج لإرادة الاستعمال في تشبه الاستثناء فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ولا يجوز تأخرها عن آخرها عن آخره بل يشترط ان لم توحد في أوله ان تكون في أثنائه ويؤنسك في هذا ما قاله الفقهاء في مشيئة الطلاق فإنه يشترط اقتران النية ببعض اللفظ قبل فراغه فالتخصيص إخراج كما ان الاستثناء إخراج ولهذا نقول المخصصات المتصلة أربعة الاستثناء والغاية والشرط والصفة والمخصص في الحقيقة هو الإرادة المخرجة وهذه الأربعة والمخصص المنفصل خمستها داله على تلك الإرادة وتلك الإرادة ليست إرادة استعمال اللفظ في غير موضوعه فلذلك لم يقطع بكونه مجازا بل حصل التردد ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مرادا به الباقي به أو لا والحق لا وهو يشبه الخلاف في الاستثناء وهذا يقوي العام المخصوص حقيقة لكن الأكثرين على انه مجاز ووجهه انه يجعل موضوعا استعمل في معناه بتمامه غير مخرج منه شيء فمتى استعمله مخرجا منه شيء كان مجازا لاستعماله على غير الوجه الذي وضعه الواضع عند الاطلاق
وهذا فيما يحتمل المجاز وهو ما كان ظاهرا كالعام
أما ما كان نصا كالعدم فالمجاز فيه وليس الا الإخراج المحض ويظهر اثر هذا في

أن المخصص المنفصل يأتي في العام ولا يأتي في العدد والاستثناء في العام كاشف عن الإرادة المخصصة والاستثناء في العدد هو المخرج بنفسه لا بدلالته على إرادة متقدمة ولهذا لو أراد فقط ولم يوجد لفظ الاستثناء لم يصح في العدد
ويصح في العام ولو قال أنت طالق ثلاثا ونوي بقلبه إلا واحدة وماتت قبل نطقه بقوله الا واحدة يقع الثلاث نعم يشترط نية الاستثناء قبل فراغ اللفظ لأجل الربط فالنية فيه شرط لاعتبار الاستثناء بعده وليست مؤثرة والنية في التخصيص مؤثرة في الإخراج وحدها ويدل عليها تارة بمخصص منفصل وتارة بمتصل والنية في العام المراد به الخصوص مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه الى غيره ومن هنا يعرف ان عد ابن الحاجب البدل في المخصصات ليست بجيد لان الأول في قولنا أكلت الرغيف ثلثه يشبه العام المراد به المخصوص لا العام المخصوص فانظر هذه المعاني وتفهمها ثم تذكر ما قدمته في العام المراد به الخصوص تعرف الفرق بينهما وحكمها هذا ما ذكره والدي رحمه الله وهو في غاية النفاسة والذي تحصلت عليه ان العام أنواع
أحدها العام الذي أريد به العام حقيقة
والثاني العام الذي أريد به غالب الأفراد ونزل الأكثر فيه منزلة الكل فهو مراد به العموم ايضا
والثالث ما لم ينزل الأكثر فيه منزلة الكل ولكن الكثرة فيه موجودة
والرابع ما المراد به القليل كقوله الذين قال لهم الناس وهذا أخذته من كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة فإنه قال باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام أي الكثرة الغالبة فلا يناقضه قوله ويدخله الخصوص ومثاله القرية الظالم أهلها وقد ذكره الشافعي في أثناء الباب فكأنه جعلهم كل أهل القرية وقال الشافعي رضي الله عنه في أول الباب قال الله تعالى جل ثناؤه خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل وقال

خلق السموات والأرض وقال وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها فهذا عام لا خاص فيه انتهى
وهو كما صرح به الشافعي وإنما ذكره توطئة لما بعده وليس مما بوب له الا في كونه أريد به العموم فالمراد به العموم قسمان
احدهما حقيقة لا خصوص فيه وهو خالق كل شيء
والثاني مجاز فيه خصوص وهو ما ذكره الشافعي بعد مثل القرية الظالم أهلها ولم يلتفت الشافعي الى ما يقوله الأصوليون من ان خالق كل شيء مخصوص بالعقل وكأنه لأن العقل لما دل على المراد به جعله هو المقصود به في كلام العرب لأنها إنما تضع لما يعقل ثم قال الشافعي وقال الله والمستضعفين من الرجال والنساء الآية قال الشافعي وهكذا قول الله عز و جل حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا ان يضيفوهما ففي هذه الآية دلالة على انه لم يستطعما كل أهل قرية فهي في معناها وفيها وفي القرية الظالم أهلها خصوص لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما قد كان فيهم المسلم ولكنهم كانوا فيها مكثورين فكانوا فيها اقل انتهى
فهذا عام أريد به العام ودخله الخصوص وليس المعنى هنا من إرادة العام جميع الأفراد بل الكثرة المنزلة منزلة الكل ويظهر انه مجاز وليس من مجاز استعمال لفظ الكل في البعض لأن ذلك لا يفترق الحال فيه بين بعض وبعض وهذا في بعض كثير غالب على الباقي فهو أقوى لأنه اجتمع فيه مجاز البعض ومجاز المشابهة إذا الأكثر يشبه الكل في الكثرة وهو مع ذلك قد دخله التخصيص فمن جعل العام المخصوص مجازا يكون قد اجتمع فيه نوع آخر من المجاز ايضا وهذا غريب ينبغي ان يتفطن له ومن لم يجعل العام المخصوص مجازا يقتصر على المجاز من الجهة الأولى وهذا من نفائس البحث وبه يظهر ان العام المراد به العموم قسمان

احدهما الحقيقي كقوله وهو بكل شيء عليم خالق كل شيء على ما قاله الشافعي
والثاني المجازي كقوله استطعما أهلها والظالم أهلها وهذا القسم لا يكون في الأمر والنهي وإنما يكون في الخبر لأن الأمر والنهي لا يتجوز فيهما بل يقصد بيان حكم التكليف والعام المخصوص قسمان
أحدهما ما يراد به العموم كما تقدم وفيه مجاز كما بيناه
والثاني ما ليس كذلك كقوله ولأبويه لكل واحد منهما السدس وتخصيصه بالقاتل والكافر
فهذا عام مخصوص وقد أطلق الشافعي عليه بعد ذلك انه عام يراد به الخصوص كما سنذكره وقد عرفت ان الجمهور على انه مجاز وقد قرر والدي انه حقيقة كما سبق والشافعي لم يتعرض للفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص وبما ذكرناه يكون العام المخصوص أنواعا
أحدها ما نزل الأكثر فيه منزلة الجميع فهو مراد به العموم
والثاني ما ليس كذلك ولكن الكثرة فيه موجودة وهو مراد به الخصوص ومخصوص كقوله ولأبويه لكل واحد منهما السدس
والثالث لا المراد يه القليل كقوله الذين قال لهم الناس وهذا مراد به الخصوص ومخصوص والفرق بينه وبين الثاني ان هذا تقول فيه إنه مجاز والثاني محتمل لأن يكون مجازا وهو محل خلاف الأصوليين السابق في ان العام المخصوص هل هو حقيقة أو مجاز
واعلم ان في كلام الشافعي في الرسالة ايضا ما يمكن ان يتمسك به منه على ان كل عام مخصوص مراد به الخصوص وذلك لأنه قال باب ما نزل عاما دلت السنة على انه يراد به الخاص قال الشافعي قال الله جل ثناؤه ولأبويه لكل واحد منهما السدس الى قوله فإن كان له إخوة فلأمه السدس وقال ولكم نصف ما ترك أزواجكم الى قوله ولهن الثمن مما تركتم فأبان ان الوالدين والأزواج ما سمي في الحالات وكل عام

المخرج فدل بنسبة رسول الله صلى الله عليه و سلم انه إنما أريد بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك ان يكون دين الوالدين والمولودين والزوجين واحدا ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا انتهى فيمكن التمسك بهذا على ما ذكرناه لأن السنة إنما دلت على عدم وريث القاتل والكافر وهو تخصيص مقتض لأن يكون هذا العام مخصصا وقد قال الشافعي ان السنة دلت انه إنما أريد به الخصوص فدل على ان كل عام مخصوص مراد به الخصوص إذا كان المراد غير منزل منزلة الكل الذي تقدم إطلاق الشافعي عليه انه اريد به العموم وبهذا يتبين ان البحث الذي قرره والدي رحمة الله عليه في ان العام المخصوص حقيقة لأنه الذي قصد عمومه مخرجا منه بعض الأفراد كاستثناء ليس ذلك وإن كان البحث فيه محال فإنه نوع يصح إرادته
وقد وقف الله والدي أيده الله تعالى على ما أوردته من كلام الشافعي وقال ان لم يصح ذلك البحث الذي قررناه فالأمر كما قال الشافعي وان صح احتمل في التخصيص بالقاتل والكافر ان يكون عاما مخصوصا وان يكون مراد به الخصوص ولا يمكن الوصول الى العلم بحقيقته أو يعلمه الا الله تعالى والمتكلم به وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة وأنا من عادتي في هذا الشرح الاطناب فيما لا يوجد في غيره ولا يتلقي إلا منه بحث مخترع او نقل غريب أو غير ذلك والاختصار في المشهور في الكتب إذ لا فائدة في التطويل فيما سبقنا من هم سادتنا وكبراؤنا الى جمعه وهل ذلك الا مجرد جمع من كتب متفرقة لا يصدق اسم المصنف على فاعله
قال الخامسة المخصص بمعين حجة ومنعها عيسى بن أبان وأبو ثور وفصل الكرخي
يشبه ان تكون هذه المسألة مفرعة على قول من يقول العام المخصوص مجاز فإن من قال غير ذلك احتج به هنا لا محالة وحاصل هذه المسالة ان العام إن خص بمبهم كما لو قيل واقتلوا المشركين الا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد إذ ما من فرد الا ويجوز ان يكون هو المخرج وهذا قد ادعى جماعة فيه الانفاق وهي دعوى غير مسموعة فقد صرح ابن برهان في الوجيز بان محل

الخلاف فيم إذا خص بمبهم فان عبارته العام إذا دخله التخصيص لم يصر مجملا
وقال عيسى بن أبان إذا كان التخصيص بدليل مجهول صار مجملا انتهى وهو مصرح بخلاف الدعوى مع زيادة ان المختار عنده خلافها وهو قضية ايراد المحصول والقاضي في مختصر التقريب ذكر الخلاف في العموم إذا خص هل يصير مجملا ولم يقيد بمبهم ولا معين ونقل مذهب ابن أبان عن كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وطائفة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه انتهى ووجه هذه الطريقة التي ذكرها ابن برهان كما ذكرنا إذا نظرنا الى فرد من الأفراد شككنا فيه هل هو المخرج والاصل عدمه فيبقى على الأصل ويعمل به الى ان لا يبقى فرد لكن الهندي رد هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج بالعام المخصوص فيما عدا المخصوص وهذا البحث يقتضي صحة الاحتجاج في الجميع المخصص وغيره ولا قائل به انتهى ويتجه عندي ان يقال يحتج به الى ان يبقى فرد واحد فلا يحتج هذا إذا خص بمبهم أما إذا خص بمعين وهي مسألة الكتاب كما لو قيل اقتلوا المشركين الا المستأمن أو أهل الذمة ففيه مذاهب
أصحها عند الإمام واتباعه منهم بمصنف انه حجة في الباطن مطلقا وهو قول معظم الفقهاء واختاره الآمدي وابن الحاجب
الثاني أنه ليس بحجة وهو قول عيسى ابن أبان وأبي ثور وهو مراد كالمصنف بقوله منعها أي منع حجته

الثالث وبه قال الكرخي والبلخي ان خص بمتصل كالشرط والإسناد والصفة فهو حجة وان خص بمنفصل فلا وهذا التفصيل يفهم من مسألة السابقة فلذلك أهمل المصنف بتبيينه واقتصر على حكاية هذه الثلاثة
والرابع ان التخصيص ان كان قد منع تعلق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبىء عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق وموجب لتعلقه بشرط لا ينبىء عن ظاهر اللفظ وان كان التخصيص لا يمنع من تعلق الحكم به جاز التعلق به كما في قوله تعالى اقتلوا المشركين لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وهو قول أبي عبد الله البصري
والخامس أن العام المخصوص إن كان بحيث لو تركناه وظاهره من غيرة بيان التخصيص لكنا نتمثل ما أريد هنا ونضم إليه شيئا آخر لم يرد هنا كقوله تعالى اقتلوا المشركين فإنا لو خلينا وظاهره لكنا نقتل كل من صدق عليه الاسم من الحربي والذمي والمستأمن فكنا قد امتثلنا في ذلك ما أريد منا وما لم يرد جاز التمسك به وإن كان العام بحيث لو تركناه وظاهره من غير بيان التخصيص لم يمكنا ان نمتثل ما أريد منا لم يجز التمسك به وهو كقوله تعالى أقيموا الصلاة لأنه لو لم يبين مراده لم يمكنا فعل ما أراده من الصلاة الشرعية

أصلا بخلاف آية السرقة فإنا لو خلينا وظاهرها لكنا فطعنا كل سارق وفي ذلك امتثال ما أريد منا ولم يرد وهذا قول القاضي عبد الجبار
والسادس انه يجوز التمسك به في اقل الجمع ولا يجوز فيما زاد عليه قال الهندي وهذا يشبه أو يكون قول من لا يجوز التخصيص الى اقل من اقل الجمع
قلت وإذا تقرر ان الخلاف جار في العام المخصوص مطلقا سواء كان مبهما أو معينا جاء مذهب سابع وهو التفصيل بين المعين والمبهم كما أورده الإمام
قال لنا ان دلالته على فرد لا تتوقف دلالته على الآخر لاستحالة الدور فلا يلزم من زوالها زوالها
استدل على ما اختاره بأن دلالة العام على فرد من أفراده لا تتوقف على دلالته على الآخر لأن دلالته مثلا على الباقي لو توقفت دلالته على البعض المخرج فإن لم تتوقف دلالته على المخرج على الباقي كان ذلك تحكما إذ دلالته العام على كل أفراده متساوية وإن توقف عليه لزم الدور لتوقف كل منهما على الآخر والدور مستحيل فدلالته على كل فرد لا تتوقف على دلالة على غيره من الأفراد وإذن لا يلزم من زوال الدلالة عن بعض الأفراد زوالها عن البعض الآخر فلا يكون حجة وهذا الدليل ضعيف من وجهين
احدهما ان هذا دور معية لا سبق فلا استحالة فيه ويظهر هذا بمعرفة دور السبق والمعية فنقول كل واحد من الشيئين على الآخر ان كان توقف قبله وبعده فهو الدور السبقي الذي يستحيل وقوعه ومثاله إذا قال زيد لا اخرج من الدار حتى يخرج عمرو قبلي وقال عمرو لا اخرج منها حتى يخرج زيد قبلي وإن لم يكن سبقا كان إذا قال كل منهما لا ادخل حتى يدخل الآخر فلا استحالة فيه لجواز دخولهما معا وهذا هو المعنى وهو الموجود في دلالة العام
والثاني ان دلالة العام على كل فرد مشروطة باستعماله في الموضوع وهو الاستغراق فإذا لم يستعمل فيه جاز في كل واحد ان يكون حجة في شيء منه

والأولى التمسك بما درج عليه السالفون من الصحابة والتابعين فانهم استدلوا بأكثر العمومات المخصوصة من غير نكير بل لو صح ما ذكروه باب التمسك باللفظ العام إذ ما من عام في حكم شرعي الا وهو مخصوص وعلى ما قالوه يمتنع الاستدلال به
قال السادسة يستدل بالعام ما لم يظهر مخصص وابن سريج أوجب طلبه أولا هل يجوز ان يستدل بالعام قبل البحث عن المخصص فيه مذهبان
احدهما الجواز وهو قول الصيرفي واليه مال الإمام
والثاني المنع وهو قول أبي العباس بن سريج
واعلم ان إثبات الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه هو ايراد الإمام وجمهور اتباعه وادعى جمع من المتأخرين ان ذلك غير معروف بل باطل محتجين بأن الذي قاله الغزالي فمن بعده كالآمدي وغيره أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص اجماعا ثم اختلفوا فمن قائل يبحث ومن قائل لا يكفي الظن ولا يشترط القطع بل لا بد من اعتقاد جازم تسكن النفس إليه ومن قائل لا بد من القطع وعليه القاضي قال ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث واشتهار كلام الأئمة قالوا وليس خلاف الصيرفي إلا في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به وإذا ظهر مخصص تغير الاعتقاد هكذا نقله إمام الحرمين ثم الآمدي وغيره واشتهرت هذه المقالة حتى تولعت الألسن بأن هذا كان من غلطات الإمام وأنا أقول قد سبق الإمام بهذا النقل الثقة أثبت الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فقال في شرح اللمع ما نصه إذ أوردت هذه الألفاظ الموضوعة للعموم هل يجب اعتقاد عمومها في الحال عند سماعها العمل بموجبها انتهى وكذلك الأستاذ أبو إسحاق في أصوله الذي انتخبه والده أيده الله ولفظه قيل يلزم وقيل لا يلزم ويعرض على الأصول الممهدة لجواز ان يكون فيها ما يخصصه وأفاد الأستاذ في هذه المسألة فائدة جليلة وهي ان الخلاف ليس إلا فيما إذا ورد الخطاب العام بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم أما إذا ورد في عهده وجبت المبادرة الى الفعل على عمومه لأن أصول الشريعة لم تكن متقرره قد بان لك بهذين النقلين ان ما نقله الإمام

غير مستنكر وهو أولى واوجه من القول بإيجاب اعتقاد العموم على جزم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد فإن مذهبه في غاية السقوط لا وجه له ولا حاصل تحته وقال امام الحرمين انه عنده غير معدود من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء قال وإنما هو قول صدر عن عبادة واستمرار في عناد انتهى وهذا بخلاف القول بالعمل بالعام ابتداء فإنه ذو وجه ظاهر وجيه
قال لنا لو وجب لوجب طلب المجاز للتحرز عن الخطأ واللازم منتف قال عارض دلالته احتمال المخصص قلنا الأصل يدفعه
هذا دليل على ما اختاره من وجوب العمل بالعام ابتداء وتقريره لو وجب طلب المخصص والبحث عنه قبل التمسك بالعام لوجب طلب المجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته واللازم منتف فالملزوم مثله أما وجه الملازمة فلأن الطلب في الصورة الأولى إنما هو الاحتراز على المفسدة واحتمال ضرر الخطأ وهذا المعنى موجود في الحقيقة وأما انتفاء اللازم فظاهر إذ لم يزل العلماء خلفا عن سلف على ممر الدهور وتعاقب الأزمنة يحملون اللفظ على حقيقته من غير بحث عن المجاز ومنهم من ادعى الاجماع على انه لا يجب طلب المجاز ولكن فيه نظر فقد نقل الثقات ابن سريج الى وجوبه وصرح القرافي بأن المسألتين على السواء على تقدير صحة الإجماع فالفرق واضح وذلك لأن احتمال وجود المخصص أقوى إذ ما من عام إلا وقد تطرق إليه التخصيص كما قال امام الحرمين قال والدي رحمه الله ويوضح هذا التفريق ان في العام دلالتين
إحداها على اصل المعنى هي نص والأخرى على استغراق الأفراد وهي ظاهرة واحتمال المجاز حاصل في الأولى وفي كل حقيقة يدل اللفظ فيها على معنى والدلالة الإفرادية عليه قطعية فلذلك لم يطلب المجاز واحتمال التخصيص إنما هو في الثانية قال ومن تأمل هذا الكلام على ان إيراد الحقيقة على العام ساقط لأن في العام حقيقة ومجازا شارك فيهما وفيه تخصيص ينفرد به لا يوجد مثله في الحقيقة قال وهذا نفيس جدا
قلت ونظيره على العكس قلنا لا رجل بالفتح نص في الاستغراق وان كان محتمل المجاز لإراده لا غلام رجل لا رجل بالرفع ظاهر في الاستغراق لا

نص فهذا نظير العام والأول نظير الحقيقة وانما قلنا على العكس لأن قضية الاستغراق في الأول لا في الثاني فلا رجل بالفتح عمومه نص مقطوع به وحقيقة ظاهرة عكس العام ولا رجل بالرفع عمومه ظاهر وحقيقته محتملة للمجاز كغيرها من الحقائق قوله قال عارض أي احتج ابن سريج على مذهبه بأن العام وان دل على ثبوت الحكم في جميع الأفراد فاحتمال المخصص يعارضه لأن العام قبل طلب المخصص يحتمل التخصيص ويحتمل عدمه احتمالا على السواء وأجاب بأن الأصل عدم المخصص والإحتمال بمجرده لا يصلح معارضا لهذا الأصل فيكون مرجوحا
فائدة إذا اقتضى اللفظ العام عملا مؤقتا وضاق الوقت عن طلب الخصوص فهل يعمل بالعموم أو يتوقف فيه اختلف أصحابنا في ذلك كما حكاه ابن الصباغ في كتابه عده العالم في آخر مسألة إسماع الله المكلف اللفظ العام دون مخصصه وللخلاف نظائر كثيرة في المذهب منها هل للمجتهد التقليد عند ضيق الوقت ليعمل به أم لا فيه وجهان
الأول منهما وهو الجواز قول ابن سريج قال ولا يجوز له ان يفتى قال الرافعي وقياسه ان لا يجوز القضاء وأولى ومنهم من طرد قول ابن سريج في القضاء قال الرافعي ومن قال به فقياسه طرده في الفتوى ومنها لا يجوز للقادر عل الاجتهاد في القبلة ان يقلد غيره فإن ضاق عليه الوقت وظن ان وقت الصلاة ينتهي قبل اجتهاده فهل يقلد ويصلى في الوقت أو يتمادى في نظره الى تمام الاجتهاد فيه وجهان ومنها واستيقظ قبيل الوقت وكان بحيث لو اشتغل بالوضوء لخرج الوقت فهل يباح له التيمم أو يتوضأ أو يصلي خارج الوقت فيه وجهان

الفصل الثالث
في المخصص
قال الفصل الثالث في المخصص وهو متصل ومنفصل فالمتصل أربعة الأول الإستثناء وهو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها والمنقطع مجاز
المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم كما سبق ويطلق على الدال على الإرادة مجازا وهو المراد هنا ثم هو إما متصل أو منفصل لأنه إما أن يستقل بنفسه فالمنفصل أولا بل يتعلق معناه باللفظ الذي قبله فالمتصل وقسمه تبعا للأكثر الى أربعة والإستثناء والشرط والصفة والغاية وزاد ابن الحاجب خامسا وهو بدل البعض من الكل مثل قولك اكرم الناس عالمهم ومنه قوله تعالى ثم عموا وصموا كثير منهم
الأول الاستثناء وعرفه بما ذكر فقوله إخراج جنس يندرج تحته كل المخصصات وقوله بالإخراج به ما عدا الاستثناء قوله ونحوها يعنى مثل خلا وعدا وحاشا وسوى ثم أنه شرط في إلا ان تكون غير صفة يعنى بمعنى غيركما في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا أي غير الله فإنها ليست للإستثناء ومثله جاءني رجال الا زيد فإنه ليس باستثناء ايضا إذا لا يمكن ان يكون متصلا لأن شرط المتصل ان يكون لولا الاستثناء لوجب دخوله وليس كذلك ها هنا لأن بتقدير عدم الاستثناء لا يجب دخول زيد في رجال لأنه لا يعم كما سبق ولا أن يكون منفصلا لأن شرط المنفصل ان لا يكون المستثنى داخلا وهنا يجوز ان يكون داخلا وقد أورد على هذا التعريف انه

غير جامع لخروج الاستثناء المنقطع عنه وذلك لأن المستثنى في الاستثناء المنقطع مثل قال القوم إلا حمارا غير داخل في المستثنى منه ومنه قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس قال القاضي في مختصر التقريب والأصح أنه ليس من الملائكة وكذلك قوله تعالى وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا الا خطأ ومالهم به والحد للإستثناء الحقيقي والى الاعتراض وجوابه أشار بقوله والمنقطع مجاز على ان منهم من يقول المنقطع حقيقة ووارد على التعريف ايضا ان لفظه الا أخذت في لفظه وهي من أدوات الاستثناء فيكون تعريفا للشيء بنفسه وبأن أتى في التعريف بالواو في قوله ونحوها وهو غير سديد والصواب الآتيان بأو
قال وفيه مسائل الأولى شرطه الاتصال عادة بإجماع الأدباء وعن ابن عباس خلافه قياسا على التخصيص بغيره والجواب النقض بالصفة والغاية يشترط في الاستثناء شيئان
احدهما ان يكون متصلا بالمستثنى منه عادة واحترز بقوله عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنح صحة الإستثناء كما قاله الإمام وكذلك قطع الكلام بالتنفس والسعال لا يمنع الاتصال والدليل على ما قلناه من اشتراط الاتصال إجماع أهل اللغة وهم الأدباء عل ذلك وهذا الدليل ليس بجيد فإن ابن عباس من أخبر الناس بلغة العرب فلا يتجه هذا ان صح المنقول عنه ويمكن على بعد ان يجعل قوله بإجماع الأدباء متعلقا بقوله عاده أي لا يضر ما يمنع الاتصال في العادة كالسعال والتنفس باجماعهم ونقل عن ابن عباس رضي الله عنه جوز الاستثناء المنفصل ولم يصح عنه ثم اختلف النقلة عنه فنقل عنه انه يجوز الاستثناء الى شهر ونقل الشيخ أبو اسحاق عنه الجواز إلى سنة ونقل الجواز ابدا فهذه ثلاث روايات فلما لم يصح النقل عنه عبر المصنف بقوله ونقل ولما لم يعرف أقيده أم أطلقه وعلى تقدير التقييد بماذا هو عبر المصنف بقوله

خلافه وقال القاضي في مختصر التقريب فمن بعده لعل مراده ان صح النقل ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم اظهر نيته بعده فإنه يدين واحتج للمنقول عن ابن عباس بالقياس على التخصيص بغير الاستثناء بجامع ان كلا منهما مخصص واجيب بالنقض بالصفة والغاية وكذا الشرط فإن هذا يقتضي انفصالها وهو باطل اتفاقا وقد نقل الشيخ ابو اسحاق عن الحسن وعطاء أنهما جوازا الاستثناء ما دام في المجلس وقال قوم بصحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله دون غيره
فوائد إحداها ذكر ابن النجار في تاريخ بغداد في أثناء حرف الثين المعجمة ان أبا إسحاق المروزي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق وإذا برجل على رأسه سلة فيها بقل وهو بمصل على ثيابه وهو يقول لآخر معه مذهب ابن عباس في الإستثناء غير صحيح إذ لو كان صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث بل كان يقول له استثن ولا حاجة الى هذا التحيل في البر قال فقال الشيخ ابو اسحاق بلدة فيها رجل يحمل البقل وهو يرد على ابن عباس لا تستحق ان يخرج منها
الثانية قال القرافي في المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خالصة كمن حلف وقال ان شاء الله وليس هو في الإخراج

بألا وأخواتها قال ونقل العلماء ان مدركه في ذلك قوله تعالى ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا إلا ان يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت قالوا المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص وقتا
الثالثة قوله ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله التقدير ولا تقولن لشيء قولا جازما إلا أن تعلم مشيئة الله تعالى وهي لا تعلم فلا تقل هذا القول الجازم فالنهي حالة عدم العلم إنما هو جزم القول باني فاعل ذلك غدا ولا يلزم منه ان لا يقول ذلك غير جازم به بل يعلقه على مشيئة الله فافهم فمن قال افعل غدا ان شاء الله غير آت بالمنهي عنه فافهم هذا فهو حسن
فإن قلت من قال إني فاعل مع قوله إن شاء الله هو قائل إني فاعل فيكون آتيا بالمنهي عنه وإن أتى بلفظ إن شاء الله قلت لا نسلم أن من قال ذلك مع قول إن شاء الله يكون بالمنهي عنه وذلك لأن الكلام المركب من أجزاء لا يصدق أنه ذلك الكلام إلا من جميع أجزائه وكذلك من اقر لرجل بخمسة وعشرين لا يصدق أنه أقر بخمسة لأن الضمير العائد على الخمسة غير العائد على الخمسة والعشرين
قال وعدم الاستغراق الشرط الثاني عدم الاستغراق فان المستغرق مثل عشرة إلا عشرة باطل اتفاقا كما نقله الأئمة لكن قال القرافي نقل ابن طلحة في مختصره المعروف بالمدخل فما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثلثا قولين
احدهما انه استثناء وينفعه وهذا غريب قال وشرط الحنابلة ان لا يزيد على النصف والقاضي ان ينقص منه لنا لو قيل له على عشرة الا تسعة لزم واحد اجماعا وعلى القاضي استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس قال الأقل ينسى فيستدرك ونوقص بما ذكرناه
ذهب الأكثرون الى صحة استثناء الأكثر حتى لو قال له على عشرة الا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد وقالت الحنابلة يشترط ان لا يزيد على

النصف وقال القاضي يشترط ان ينقص عنه هذا المنقول في الكتاب ونقل الشيخ أبو اس الشيرازي والآمدي عن الحنابلة امتناع المساوي ايضا كالمنقول عن القاضي ولم تختلف النقلة فيما اسندوه الى القاضي من امتناع المساوي والذي في مختصر التقريب كنا على تجويز الاستثناء الأكثر دهرا والذي صح عندنا آنفا منع ذلك ولم بتعرض لاشتراط الأقلية وقال قوم ان كان العدد صريحا لم يجز الاستثناء الأكثر مثل عشرة الا تسعة والإجاز مثل خذ هذه الدراهم الا ما في الكيس الفلاني اكثر من الباقي وقال آخرون بمنع استثناء اكثر الجملة منها إذا كان المستثنى جملة نحو جاء أخوتك العشره الا سبعة وتجويزا استثنائهم تفصيلا وتعديدا نحو الا زيدا منهم وبكرا وخالدا الى ان يأتي السبعة حكاه الأستاذ أبو محمد الحسن بن عيسى العارص المعتزلي في كتابه النكت في أصول الفقه عن بعض شيوخ النحو من أهل عصره
واعلم ان الكلام في الاستثناء من العدد مبنى على صحته وللنحاة فيه مذاهب
أحدها أنه لا يجوز وصححه ابن عصفور
الثاني وهو المشهور الجواز
الثالث ان كان المستثنى عقدا من العقود لم يجز نحو عشرين الا عشرة وان لم يكن عقدا جاز نحو مائة الا ثلاث واستدل المصنف على المختار بوجهين
أحدهما وهو احتجاج على الفريقين أعني من اشترط ان لا يزيد عن النصف ومن اشترط ان ينقص عنه ان الفقهاء اجمعوا على ان من قال لفلان على عشرة إلا تسعة يلزمه واحد فقط ولولا صحة هذا الاستثناء لما كان كذلك ونقل الإجماع مردود فقد حكاه احمد بن حنبل وبعض المالكية
الثاني وهو مختص بمن اشترط الأقل على ان القاضي أورده في مختصر التقريب ولم يذكر اشتراط الأقلية وإنما أورده من جهة الرادين على من اشترط ان لا يكون اكثر وقال هذا امثل ما يستدلون به مع ان للقول فيه مجالا ولم يذكر عنه جوابا والشيخ أبو اسحاق قال انه دليل قاطع لا جواب

للخصم عنه وتقريره ان الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وبالعكس أي استثنى جل وعز المخلصين من الغاوين في قوله حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فلو كان المستثنى منه لزم أن يكون كل واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر وهو محال واحتج القائل باشتراط الأقل وهو القاضي على ما ذكر في الكتاب بأن الاستثناء خلاف الأصل لكونه بمنزلة الإنكار بعد الإقرار وخالفنا هذا اصل في الأقل لكونه قليل الخطور بالبال فربما نسيه المقر فيستدركه في الاستثناء وهذا بخلاف الأكثر فلذلك جوزنا في الأقل دون الأكثر وأجاب بأنه منقوص بما ذكرناه وهذا يحتمل وجهين
أحدهما أنه منقوص بما ذكرنا من الإجماع فيما إذا قال له على عشرة إلا تسعة وقد ذكرنا أنه غير ثابت
والثاني أنه منقوص بما ذكرناه من استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس فإن النسيان محال في جانب الباري وهذا الدليل أجيب عنه بأنا لا نسلم إلا أن في قوله إلا من اتبعك من الغاوين للاستثناء لكنا إنما نمتنع من استثناء إلا كثر إذا كان عدد المستثنى والمستثني منه مصرحا به مثل عشرة إلا تسعة أما إذا لم يكن مصرحا به مثل خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف فإنه يصح وإن كانت الزيوف أكثر سلمنا ولكنا نقول المستثنى إلا في الإثنين أقل أما قوله إلا عبادك منهم المخلصين فيشمل كل العباد المخلصين من بني آدم لقوله منهم إشارة لبني آدم اقل واما قوله الا من اتبعك من الغاوين فالمستثنى اقل ايضا لأن قوله عبادي يشمل الملائكة لكونه إسم جنس أضيف ومعلوم ان كل الغاوين أقل من الملائكة وحدهم فكيف إذن أضيف إليهم صالحة بني آدم فيجوز ان استثناء الغاوين من كل عباده وهم اقل من مخلصين بدخول الملائكة في المخلصين ومعلوم انهم اكثر من غيرهم

قال عليه السلام أطت السماء وحق لها ان تئط ما فيها موضع شبه إلا وفيه ملك يسبح الله ولقائل أن يقول الجواب عن الأول ان جعل إلا بمعنى لكن فيه خروج من حقيقته بلا دليل وعن الثاني إن الدعوى فيما إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحا به وفيما إذا لم يكن وعن الثالث بأنه تعالى قال في سورة الحجر حكاية عن إبليس قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فاستثناء الأول لأنه استثنى المخلصين من بني آدم وهم أقل ثم قال قال هذا صراط على مستقيم أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والمراد بعباده هنا المعهودون الذين تقدم ذكرهم وفيهم وقع الكلام وهم المخلصون من بني آدم وليس المراد العموم حتى تدخل الملائكة لأن العهد على العموم والآية وقعت في الحجر مبينة والقصة واحدة والله أعلم
ومنهم من استدل مع التمسك بقوله إلا من اتبعك من الغاوين بقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ولم يتعرض للآية الأخرى وفيه نظر فإن قوله وما أكثر الناس إنما يدل على الأكثرين من الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه و سلم والألف واللام في الناس للعهد ولا يلزم من كون الغاوين أكثر في هذه الطائفة أن يكونوا أكثر بالنسبة إلي كل الطوائف من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة والله اعلم
قال الثانية الإستثناء من الإثبات نفي وبالعكس خلافا لأبي حنيفة لنا لو لم يكن كذلك لم يكف لا إله إلا الله احتج بقوله عليه الصلاة و السلام لا صلاة إلا بطهور قلنا للمبالغة
الاستثناء من الإثبات نحو قام القوم إلا زيدا نفي للقيام عن زيد بالاتفاق وزعم بعضهم ان الخلاف جار فيه أيضا

قال الهندي وهو الحق وبه صرح بعضهم وأما الإستثناء من النفي هل هو إثبات فقال أصحابنا نعم وخالفت الحنفية فقالت لا يدل إلا على الحكم المستثنى مسكوت عنه واحتج أصحابنا بأنه لم يكن إثباتا لم يكف قول القائل لا إله إلا الله في توحيده لأن اللفظ حينئذ ليس إلا نفي الإلهية عما عدا الله وهو ساكت عن إثباتها لله فيفوت أحد شرطي التوحيد فلا يكفي ذلك ولا قائل بهذا كيف والنبي صلى الله عليه و سلم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور فان تقديره لا صحة للصلاة إلا بطهور فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان حيث وجد الطهور وجدت صحة الصلاة وليس كذلك لجواز فواتها لفقدان شرط آخر وأجاب المصنف بأن الحصر قد يؤتي به للمبالغة لا للنفي عن الغير مثل الحج عرفه والطهارة لما كانت أعظم الشروط صيرت كأن لا شرط إلا هي وأحسن من هذا الجواب ما ذكره صاحب التحصيل من ان قولنا الاستثناء من النفي إثبات يصدق بإثبات صورة في كل استثناء لأن دعوى الإثبات لا عموم ما فيها بل هي مطلقة فيقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهارة بصفة الإطلاق لا بصفة العموم وان شئت قلت لا صلاة نفي كلي وقوله إلا بطهور إثبات جزئي لأن نقيض الكلي جزئي ونحن نقول به إذ قد يوجد الطهور ومعه بقية الشروط والصلاة
واعلم ان هذا الحديث لا يعرف بهذا اللفظ والأولى أن يغير بحديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
قلت وقد وقع في بعض المجالس الاستدلال على صحة مذهب أبي حنيفة

بقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وجه الحجة انه لو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان المرء مكلفا بكل ما تسعه نفسه لأن الوسع مستثنى في قوله لا يكلف الله نفسا وقد أضيف بقوله وسعها فيقتضي العموم بناء على ان المفرد المضاف يعم والتقدير لا يكلف الله نفسا بشيء إلا بكل ما تسعه فتكون كل ما تسعه مكلفة به وليس كذلك وكان البحث بين يدي والدي أيده الله فاستحسن ذلك
فرع لو قال لا أجامعك سنة إلا مرة فمضت سنة ولم يطأ فهل يلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطىء أم لا لأن المقصود منع الزيادة وجهان يتجه تخريجهما على هذا الأصل قال النواوي أصحهما إلا كفارة
قال الثالثة المتعددة إن تعارضت أو استغرق الأخير الأول عادت إلى المتقدم عليها وألا يعود الثاني إلى الأول لأنه أقرب
الاستثناء من الاستثناء جائز وحكي عن بعضهم خلافه وهو ضعيف قال الله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته وإذا ثبت جواز الاستثناء من الاستثناء فنقول إلا الاستثناءات المتعددة إما أن يكون بعضها معطوفا على بعض أولا إن كان الأول المستثنى منه نحوله على عشره إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين فإن الكل يرجع إلى الأولي فلا يلزم المقر إلا واحدا وإن كان الثاني مستغرقا للأول أو لا فإن كان مستغرقا قال الإمام أو مساويا له

عاد الكل إلى المتقدم أيضا مثل على عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة فلا يلزم غير واحد وإلي هذين القسمين أشار بقوله عادت إلى المتقدم عليها وإن لم يكن مستغرقا عاد الاستثناء الثاني إلى الأول مثل عشرة إلا ثمانية إلا سبعة حتى يلزم تسعة وإلى هذا أشار بقوله وألا يعود الثاني إلى الأول أي دون المستثنى منه وعلله بان الأول لقربه إليه من المستثنى منه والقرب يدل على الرجحان عند البصريين فإنهم في تنازع العاملين في العمل اختاروا الأقرب ولذلك أن نقول الأقربية لا تدل على اللزوم وانما تدل على الرجحان كما في تنازع العاملين فإنه لا نزاع بين البصريين والكوفيين في جواز أعمال كل منهما وإنما الخلاف في الأولوية فينبغي أن يقرر بوجه آخر فيقال إما أن يعود إلى الثاني أو إلى الأول منتف للزوم الترجيح من غير مرجح في اللزوم لأنهما فيه سواء فيعود إلى الأولوية ونقول لا يعود إلى الأول لأنه مرجوع فرع لو كان الاستثناء الأول مستغرقا للمستثنى منه دون الثاني
الثاني كقوله عشرة إلا عشرة إلا أربعة ففيه أوجه للأصحاب
أحدهما يلزمه عشرة ويبطل الأول لاستغراقه
والثاني لأنه باطل
والثاني يلزمه أربعة ويصح الإستثناءان لأن الكلام إنما يتم بآخره قال ابن الصباغ وهو أقيس
والثالث يلزم ستة لأن الأول باطل والثاني يرجع إلي أول الكلام
قال الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه المتعقب للجمل كقوله تعالى إلا الذين تابوا يعود إليها وخص أبو حنيفة بالأخيرة وتوقف القاضي والمرتضي وقيل ان كان بينهما تعلق فللجميع مثل اكرم الفقهاء والزهاد وأنفق عليهم إلا المبتدعة فالأخيرة
هذه المسألة في حكم الاستثناء الواقع عقيب جمل عطف بعضها على بعض مثل قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين

جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فإن هذا استثناء وقع بعد ثلاث جمل الأولى أمرهم بجلدهم والثانية ناهية عن قبول شهادتهم والثالثة مخبرة بفسقهم وقد اختلف العلماء فيها على مذاهب
الأول وهو مذهبنا أنه يعود إلى الجميع لكن بشروط
أحدها أن تكون الجمل معطوفة
والثاني أن يكون العطف بالواو الجامعة فأما إن كان بثم اختص بالأخيرة ذكره الآمدي قال الأصفهاني ولم أر من تقدمه به
قلت وقد نقدمه إمام الحرمين كما نص عليه في النهاية وفي مختصر له في أصول الفقه ونقل الرافعي في كتاب الوقف عنه
والثالث نقله الرافعي عن رأى إمام الحرمين أيضا ان لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالآخرة قال الرافعي كما لو قال وقفت على أولادي على ان من مات منهم وأعقبت فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الاثنين وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى اخوتي إلا أن يفسق واحد منهم فيختص الاستثناء بالأخوة
المذهب الثاني وإليه ذهب أبو حنيفة أنه يعود إلى الأخيرة خاصة حتى لا يقبل شهادة القاذف وإن تاب وصار من الأبرار والثلث التوقف وإليه ذهب القاضي والغزالي منا والمرتضى من الشيعة إلا أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله لغة وقال الإمام أنه الذي نختاره في المناظرة والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخيرة فقط
واعلم ان القول بالإشتراك إنما يكون من باب الاشتراك في المركبات لا في

المفردات ويكون مبنيا على وضع المركبات ولا يمكن ان يقال العود من المفردات ذكره القرافي ولما تغاير توقف القاضي والمرتضى حصلنا من الموقف على مذهبين فنقول والمذهب الخامس واليه ذهب الحسين وقال الإمام انه داخل في التحقيق وانه حق انه ان كان بين تعلق الجمل تعلق عاد الاستثناء إليها والتعلق ان يكون حكم الأولى أو اسمها مضمرا في الثانية في الحكم نحو اكرم الفقهاء والزهاد إلا المبتدعة تقديره وأكرم الزهاد وفي الإسم نحو أكرم الفقهاء وانفق عليهم إلا المبتدعة أي على الفقهاء وقد أشار المصنف إلى المثالين فقط لذلك ان لم يكن بين الجمل تعلق اختص بالأخيرة لأن الظاهر أنه ما انتقل عن جملة مستقلة بنفسها إلى جملة أخرى إلا وقد تم غرضه من الأولى فلو رجع الإستثناء إلى الجميع لم يكن مقصود من الأولى قد تم
قال لنا ما تقدم الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما فلذلك الاستثناء قيل خلاف الدليل خولف في الأخيرة للضرورة فبقيت الأولى على عمومها قلنا منقوض بالصفة والشرط
احتج الشافعي رضوان الله عليه بأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط وكالصفة وكالجار والمجرور والظرف فيجب أن يكون الاستثناء كذلك والجامع أن كلا غير مستقل بنفسه ومثال اشتراط المعطوف والمعطوف عليه في الحال أكرم ربيعة وأعط مضر نازلين بك وفي الصفة الطوال وفي الشرط أن نزلوا بك في الجار والمجرور اضرب زيدا واهن عمرا في الدار وفي الظرف صم وصل يوم الخميس وقد نقل الإمام عن الحنفية موافقتنا على عود الشرط إلى الكل وأما الحال والظرف والمجرور فقال ان نخصهما بالأخيرة وعلى قول أبى حنيفة وحينئذ لا يحسن استدلال المصنف بها على الحنفية في الدليل نظر آخر وهو أنه لا يلزم من اشتراك لشيئين من بعض الوجوه اشتراكهما في جميع الأحكام واللغة لا تثبت قياسا مع أن الفرق ثابت فإن الشرط متقدم على المشروط من جهة المعنى وإن تأخر من جهة اللفظ بخلاف الإستثناء فإنه مؤخر من الجهتين واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء خلاف الأصل لتنزله منزلة الإنكار بعد الإقرار كما سبق وإذا كان على

خلاف الدليل كان مرجوحا لكن خالفنا مقتضى الدليل في الجملة الأخيرة للضرورة لأن الاستثناء غير مستقل ولا يمكن إلغاؤه وإنما جعلناه للجملة الأخيرة لأنها اقرب فبقى ما عداها على الأصل أجاب بأن هذا الدليل منقوض بالصفة والشرط فإنهما عائدان إلى الكل مع وجود المعنى الذي قلتموه بعينه فيهما وفي النقض بالصفة نظر فان أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بالشرط
فإن قلت لأبى حنيفة أن يعتذر على الشرط بأن له صدر الكلام كما تقدم
قلت سلمنا أن رتبته التقدم ولكن على الجملة الأخيرة التي هي مشروطة لا على جميع الجمل
فإن قلت لما حصل في ان الشرط هل هو شرط للجميع أو للأخيرة فقط بمقتضى اختلاف الأئمة والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط لم يرتب الحكم في المشروط إلا بعد وجوده فالمشروط مشكوك فيه
قلت قد يمنع هذا ويقال في الأصل عدم كونه شرطا فترتب الحكم ما لم يثبت شرطيته للجميع
فائدة الخلاف المتقدم في ان الاستثناء هل يختص بالأخيرة أو يعود إلى الجميع أو غير ذلك إنما هو فيما إذا لم يقم دليل على واحد بعينه وقد وقع استثناء بعد جملتين وهو عائد إلى الجملة الأولى وحدها في قوله تعالى إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فإن هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أعني قوله فمن شرب منه فليس مني ولا يجوز أن يكون عائدا إلى الأخيرة أعني إلى قوله ومن لم يطعمه فانه مني إذ التقدير حينئذ إلا من اغترف غرفة بيده فليس مني والمعنى على خلاف ذلك لأن المقصود ان لم يطعمه مطلقا من اغترف منه وغرفة بيده على حد سواء ولا يمكن ان يكون التقدير إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني على هذا التقدير لأنه لا يعقل استثناء حينئذ إذ المستثنى لا بد ان يغاير حكمه حكم المستثنى منه وكذلك في قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ولا

ان تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك فان هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أي والله إعلم لا يحل لك النساء والنساء اعم من الزوجات والإماء واستثنى ما يملكه اليمين وجزم أيضا أن يتبدل بالأزواج ولا يمكن عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إذ تصير الإماء قد استثنين من الأزواج وهن لا يمكن كونهن أزواجا له صلى الله عليه و سلم ووقع استثناء وهو عائد إلى الجميع بلا اختلاف في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا او تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا وهذا يصلح نقضا على أبى حنيفة ومعتصما لأصحابنا ووقع استثناء وهو راجع إلى الجملة الأخيرة بلا خلاف غير راجع إلى الأولى الصحيح وفي المتوسطة اختلاف وذلك في آية القاذف المتقدمة فان الجلد ثابت اتاب القاذف أم لم يتب وإنما الخلاف في قبول الشهادة فإن قلت فهذه الآية والآية الأولى ينقضان مذهبكم كما نقضت آية قطاع الطريق رأي أبى حنيفة قلت قد قلنا ان الأصل عندنا ان الاستثناء يعود على الجميع وقد يختلف ذلك لدليل في الآية الأولى تخلف لعدم الإمكان وفي آية القاذف لأنه حق آدمي لا يسقط بالتوبة وأما الحنفية فلا عذر لهم في مخالفة أصلهم
قال الثاني الشرط هو ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود له كالإحصان
القسم الثاني من أقسام المخصصات المتصلة بالشرط وهو اللغة العلامة ومنه إشراط الساعة أي علاماتها وفي الاصطلاح هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود المؤثر كالإحصان لوجوب الرجم فإن تأثير المؤثر وجوب الرجم هو الزنا متوقف عليه دون وجوده لأنه قد يوجد الزنا ولا يوجد الإحصان وإنما قال لا وجوده ولم يقل لا ذاته كما فعل الإمام لئلا يرد على طرده العلة التامة وهي المركبة من المقتضى والشرط وانتفاء المانع فان تأثيرها متوقف على ذاتها

بالضرورة فالشرط جزاؤها وذاتها لا يتوقف عليها لأن الشيء لا يتوقف على نفسه وهذا بخلاف الوجود فإنه على رأي المصنف وصف عارض للماهية كما تقدم في الاشتراك فلا يدخل تحت الحد فافهم ذلك فهو في محاسن المصنف وهنا فائدتان
إحداهما ان الشرط قد يكون شرعيا كما مثلنا في الإحصان وقد يكون عقليا الحياة شرط للعلم وقد يكون لغويا نحو ان كلمت زيدا فأنت طالق وقد يكون عاديا كالسلم مع صعود السطح والكلام ليس إلا في الشرعي ويدل على ذلك تمثيل المصنف بالإحصان
الثانية أن الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط وقاعدتها مباينة لقاعدة الشروط الأخرى ونظير الفرق بين القاعدتين يتبين حقيقة السبب والشرط المانع والسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته والشرط هو الذي يلزم العدم ولا يلزم من وجوده لا علم لذاته والمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدم وجوده والعدم لذاته وقد أوضحنا ذلك في أوائل تقسيم الألفاظ فعاوده فإذا راجعته وتقرر ذلك فلنعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه ولك ان تمثل ذلك بالزكاة فالسبب النصاب والحول شرط والدين مانع عند من يراه مانعا فإذا ظهرت حقيقة كل واحد من السبب والشرط والمانع وضح ان الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط الفعلية كالحياة مع العلم والشرعية كالإحصان مع الرجم والعادية كالسلم مع الصعود فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في المشروط ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم فقد يوجد المشروط عند وجودها كوجوب الزكاة عند الحول الذي هو شرط وقد يقارن الدين فيمتنع الوجوب وأما الشروط اللغوية التي هي التعليق كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق يلزم من الدخول الطلاق ومن عدمه عدمه إلا أن يخلفه سبب آخر كالإنشاء أو تعليق آخر بعد التعليق وهذا هو شأن السبب أن يلزم من عدمه العدم إلا أن يخلفه سبب آخر فإذا ظهر ان الشروط اللغوية أسباب دون غيرها فإطلاق لفظ الشرط عليها وعلى ما عداها أما بالاشتراك أو بالحقيقة في واحد والمجاز في البواقي

أو بالتواطؤ إذ بينهما قدر مشترك وهو مجرد توقف الوجود على الوجود فان الشرط العقلي وغيره يتوقف دخول شروطه في الوجود على وجوده وإن وجوده لا يقتضيه والمشروط اللغوي يتوقف وجوده على وجود شرطه ووجود شرطه يقتضيه ثم الشرط اللغوي يمكن التعويض عنه ولا خلاف والبدل كما قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم يقول لها أنت طالق ثلاثا فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا من المعلقة وكقولك ان رددت عبدي فلك هذا الدرهم ولك ان تعطيه إياه قبل ان يأتيك بالعبد هبة فتختلف الهبة إستحقاقه إياه بالإتيان بالعبد ويمكن إبطال شرطيته كما إذا أنجز الطلاق او اتفقتما على فسخ العجالة والشروط الشرعية لا يقتضي وجودها وجود او لا تقبل البدل ولا الإخلاف ولا تقبل الإبطال إلا الشرعية خاصة فإن المشرع قد يبطل شرطية الطهارة الستارة عند معارضة التعذر أو غيره فهذه ثلاث فروق إقتضاء الوجود والبدل والإبطال والله اعلم
قال وفيه مسألتان الأولى الشرط إن وجد دفعه فذاك وإلا فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه وارتفاع جزء منه ان شرط عدمه الثانية ان كان زانيا ومحصنا فارجم يحتاج إليهما وإن كان سارقا او نباشا فاقطع يكفي احدهما وإن شفيت فسالم وغانم حر فشفي عتقا وإن قال او فيعتق احدهما او بعين
ذكر في هذا القسم مسألتين
إحداهما في وقت وجود المشروط اعلم ان الشرط إما ان يوجد او على التدريج ان وجد دفعة كالتعليق على وقوع طلاق وغير ذلك مما يستحيل ان يدخل في الوجود الا دفعة واحدة فانه يوجد المشروط عند أول أزمنة الوجود ان علق عليه او العدم ان علق عليه مثل ان لم أطلقك فأنت طالق والى هذين القسمين أشار بقوله فذاك وان وجد على التدريج كالتعليق على قراءة سورة مثلا فإن كان على الوجود كقوله ان قرأت الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند تكامل أجزاء الفاتحة وان كان على العدم كقوله ان لم تقرئي الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند ارتفاع جزء من الفاتحة حتى لو قرأت الجميع الا حرفا واحدا تطلق لأن المركب ينفى بانتفاء أجزائه وانتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل

المسألة الثانية في تعدد الشرط والمشروط أما الشرط فاعلم ان الشرطين إن دخلا على جزء واحد فإما ان يكونا على الجميع او على البدل فإن كانا على الجمع مثل إن كان زانيا ومحصنا فارجم فلا يوجد المشروط الذي هو الرجم الا عند وجودهما معا وإن كان على البدل كفى أيهما وجد في ترتب الحكم نحو إن كان سارقا او نباشا فاقطع وأما المشروط فاعلم أن الجزائين ان دخلا على شرط واحد فإن كانا على الجميع وجد عند وجوده مثل ان شفيت فسالم وغانم حر فأيهما يعتقان عند شفائه أحدهما والخيرة في التعيين إليه هذا ما ذكره في هذه المسألة ولم يذكر اتحاد الشرط والمشروط مثل ان دخلت الدار فأنت طالق بل وضع المسألة في التعدد فقط
فائدة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام لا نعلم في ذلك نزاعا وعلى أنه يجوز تقييد الكلام بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي قال الشيخ صفي الدين الهندي وهذا ما يجب تنزيله على ما علم أنه كذلك وأما ما يجهل الحال فيه فإنه يجوز ان يقيد ولو بشرط لا يبقى من مدلولاته شيئا كقولك اكرم من يدخل الدار إن أكرمك وان اتفق أن أحدا منهم لم يكرمه
قال الثالث الصفة مثل فتحرير رقبة مؤمنة وهي الاستثناء
القسم الثاني من المخصصات المتصلة للصفة نحو أكرم بني تميم الطوال ومثل له المصنف تبعا للإمام بقوله فتحرير رقبة لأن رقبة عام والتقييد بالمؤمنة يخرج الكافرة وفيه تجوز لأن رقبة مطلق وعمومه يدل والكلام في العموم الشمولي قوله وهي الاستثناء أي الصفة كالاستثناء في وجوب الإيصال وعودها إلى الجمل فقط لا في جميع أحكام الاستثناء حتى يجيء فيها الخلاف في جواز إخراج الأكثر والمساوي ويحتمل أن يجري الخلاف في هذا أيضا وإطلاق الكتاب يقتضيه وقال الإمام إذا تعقبت الصفة شيئين فإما أن يتعلق أحدهما بالأخرى مثل اكرم العرب والعجم المؤمنين فتكون عائدة إليهما وإما ان لا يكون كذلك مثل اكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد فهاهنا الصفة عائدة الى الجملة الأخيرة قال وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء
قال الرابع الغاية وهي طرفه وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها مثل ثم

أتموا الصيام إلى الليل
غاية الشيء طرفه ومنتهاه وإنما أعاد المصنف الضمير في طرفه على الشيء وهو غير مذكور للعلم به وألفاظ الغاية حتى وإلى كقوله تعالى حتى يطهرن حتى مطلع الفجر وأيديكم إلى المرافق ثم أتموا الصيام إلى الليل وحكم ما بعد الغاية مخالف ما قبلها وإلا لم تكن الغاية غاية بل وسطا هذا خلف وأما الغاية نفسها هل تدخل كقولك أكلت حتى قمت هل يكون القيام محلا للأكل فيه مذاهب
أحدها أن حكمه يخالف حكم ما قبله
والثاني أنه لا يدل على شيء واختاره الآمدي
والثالث إن كان من جنسه دخل وإلا فلو نحو بعتك التفاح إلي هذه الشجرة أهي من التفاح فتدخل أم لا فلا فتدخل
والرابع إن كان معه لفظ من دخل نحو من هذه النخلة أو هذه وإلا لم يدخل
والخامس قال الإمام وهو الأول أن يميز عما قبله بالحسن مثل وأتموا الصيام إلى الليل كان حكم ما بعدها خلاف ما قبلها وان لم يتميز حسا استمر ذلك الحكم على ما بعده مثل وأيديكم إلى المرافق فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس قال العراقي وقول الإمام يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها من مدخول من جهة أنا لا نعلم خلافا فيما بعد الغاية وهذا يقتضي أنه محل خلاف والخلاف ليس هو في الغاية نفسها
والسادس إن اقترن بمن دخل وإلا فاحتمل ان يدخل وألا يدخل ويكون بمعنى مع كقوله ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أي مع أموالكم وهذا كله في غاية الانتهاء أما غاية الابتداء ففيها مذهبان وهنا فوائد
أحدها قول الاصوليين ان الغاية من جملة المخصصات قال والدي أيده الله إنما هو فيما تقدمها عموم يشملها لو لم يؤت بها وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية ولم يقله لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أو لم يعطوها ولا يأتي ذلك

في مثل قوله صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق لأن حالة النائم خارجة عن الصبي وحالة الإفاقة خارجة عن الجنون والاستيقاظ خارج عن منوم فلو قال عن الصبي والمجنون والنائم ولم يذكر الغايات المذكورة لم يشملها فإن قلت فما يقصد بالغاية في مثل هذا قلت تارة يقصد بها تأكيد العموم فيما قبلها وهذا المعنى هو المقصود في الحديث فان عدم التكليف في جميع أزمنة الصبي تعمها بحيث لا يستثني منها شيء وهكذا أزمنه الجنون والنوم فالمقصود بهذه الغاية من هذا الوجه تحقيق التعميم لا التخصيص ومن ذلك قوله تعالى حتى مطلع الفجر وطلوعه وزمن طلوعه ليسا من الليل حتى يشملها قوله سلام وتارة يقصد بها ارتفاع ذلك الحكم عند الغاية فإن اللفظ لو اقتصر على قوله رفع القلم عن الصبي شمل حالة الصبي ولم يتعرض لحالة البلوغ إثبات التكليف فيها ولا نفيه عنها بل كان ساكتا عن حكمها فلما قال حتى يبلغ وقد علم مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها فهم إثبات التكليف في حالة البلوغ فقصد بالغاية المذكورة هذا الحكم أيضا وهذا يقوله من يقول بالمفهوم وقال والدي أعزه الله تعالى وهو إن قيل به في نحو قوله حتى يعطوا الجزية فهو أقوى من القول به هنا لأن هناك لو لم يقل به لم يكن للغاية فائدة وهنا فائدتها المقصد الأول كما بيناه فلم يكن دليل على الثاني الثانية قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل يحتمل ان يكون مثل قوله حتى يعطوا الجزية فإن الصيام لغة تشمل الليل والنهار فخص هذا العموم بقوله إلى الليل ويصح تمثيل المصنف حينئذ بهذه الآية للتخصيص بالغاية ويحتمل ان يكون مثل قوله حتى مطلع الفجر وهو الظاهر فإن الصيام شرعا لا يكون إلا نهارا وأيضا عموم قوله وأتموا الصيام إنما هو في أفراد الصيام أي أتموا كل صيام ولا

تعرض فيه للوقت نعم لو قال قائل أتموا الصوم في الزمان الى الليل كان تخصيصا راجعا إلى العموم في الأوقات المستفاد من قوله الزمان
الثالثة قد عرفت الخلاف في انتهاء الغاية هل يدخل قال والدي أحسن الله إليه ولا بد ان يستثنى من هذا الطلاق شيئان
أحدها ما تقدم وهي الغاية التي لو سكت عنها لم يدل عليها اللفظ كالغايات المذكورة في الحديث وكطلوع الفجر وكقوله واعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن وإن حالة الطهر لا يشملها اسم المحيض
الثاني ما يكون اللفظ الأول شاملا لها مثل قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام لأنه لو اقتصر على قوله قطعت أصابعه كلها لأفاد الاستغراق فكان قوله من الخنصر إلى الإبهام تأكيدا وكذلك قوله قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته وهو في الحقيقة راجع إلى الأول لأن المقصود فيهما تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه وان افترقا في ان الذي جعل غاية في الثاني طرف المغيا وفي الأول ما بعده ففي هذين الموضعين الغاية لا خلا ف فيها بل هي في الأول خارجة قطعا وفي الثاني داخلة قطعا وكذا بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه وانما اختلف الأصحاب فيما إذا قال بعتك من هذه النخلة إلى هذه النخلة هل يدخل الابتداء أو الإنتهاء ولا يدخل واحد منهما ومحل القطع بدخول الغاية في قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام فإن اللفظ الأول صريح في الدخول فلو كان ظاهرا غير صريح كقولنا ضربت القوم حتى زيدا فالحكم كذلك ظاهر مع احتمال أن يكون انتهاء الضرب إليه ولم يضر به
الرابعة من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية ويتكرر حتى يصل إليها كقولك سرت من البصرة إلى الكوفة فإن السير الذي هو المغيا ثابت قبل الكوفة ومتكرر في طريقها وعلى هذا يمتنع أن يكون قوله إلى المرافق غاية لغسل اليد لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو الغاية فلا ينتظم غاية له نعم لو قيل اغسلوا إلى المرافق ولم يقل أيديكم انتظم لأن مطلق الغسل ثابت إلى المرافق ومتكرر قال بعض الحنفية فيتعين

أن يكون المغيا غير الغسل ويكون التقدير اتركوا من اباطكم إلى المرفق فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق ومتكررا إليه ويكون الغسل نفسه لم يغيا وفي هذا المقام يتعارض المجاز واضمر فإن لنا ان نتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت المغيا قبل الغاية ولا يضمر لنا ان المضمر كم قال هذا الحنفي ومن هذا قوله ثم أتموا الصيام إلى الليل يقتضي ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس ويتحرر إلى غروبها وليس كذلك فيشكل كون الليل غاية للصوم التام نعم لو قيل صوموا إلى الليل انتظم لأن الصوم الشرعي ثابت قبل الليل ومتكرر إليه بخلاف الصوم بوصف التمام قال القرافي وهذا السؤال أورده الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأجاب عنه بأن المراد أتموا كل جزء من أجزاء الصوم سنته وفضائله وكرروا ذلك إلى الليل والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء الليل دون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما يأباه الصوم وكذلك آدابه الخاصة كترك السواك والتفكر في أمور النساء وغير ذلك فامرنا بتكرير هذا إلى غروب الشمس
الخامسة إذا قال له من درهم إلى عشرة وقال ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة صححناه كما هو الصحيح لزمه تسعة على الأصح عند العراقيين والغزالي والنووي وقضيته القول بأن غاية الانتهاء لا تدخل دون غاية الابتداء وقيل عشرة وصححه
الثاني كتخصيص قوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإنا نخصص الطفل والمجنون لعدم فهمهما الخطاب واعلم أن منهم من خالف في التخصيص بالعقل ونقله إمام الحرمين عن بعض الناشئة أي الذين نشأوا أبوا أن يسموا هذا الفيء تخصيصا ونحن نقول أولا هذا هو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في الرسالة باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص توطئة لما ذكره بعدها مما يدخله الخصوص وكذلك كانت ترجمة الباب في بعض نسخ الرسالة كما ذكر شرحها أبو بكر الصيرفي ما ترك عاما يراد به العام وعاما يدخله الخصوص قال الشافعي رضي الله عنه قال الله عز و جل الله خالق كل شيء وذكر قوله تعالى وما من دابة في

الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ثم قال وهذا عام لا خاص فيه كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها انتهى
ثانيا كما قال إمام الحرمين في هذه المسألة قليلة الفائدة نزرة الخدوي والفائدة فإن تلقى الخصوص من مأخذ العقل غير منكر لو كون اللفظ موضوعا للعموم على اصل اللسان لا خلاف فيه مع من يعترف ببطلان مذهب الواقفية وإن امتنع ممتنع من تسمية ذلك تخصيصا فليس في إطلاقه مخالفة عقل أو شرع والخلاف في المسألة عند التحقيق لفظي فان مقتضى اللفظ العام غير ثابت فيما دل العقل على امتناعه فيه ثم نقول يمكن ان يقال ان الآيتين اللتين أوردهما الشافعي رضي الله عنه على عمومها ودعوى تخصيص العقل فيها باطلة أما قوله الله خالق كل شيء فهو عز و جل غير داخل وهذا الخطاب لوجهين أحدهما أن المخاطب لا يدخل في عموم خطابه عند جماعة الأصوليين ولعله البغوي والرافعي في المحرر في الضمان ووالدي وقيل ثمانية ولو قال بيتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار لم يدخل الجداران في البيع ولو قال له من هذه النخلة إلى هذه النخلة قال للشيخ أبو حامد تدخل الأولى في الإقرار دون الأخيرة وقال الرافعي ينبغي أن لا تدخل الأولى أيضا كقوله بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل انقطع الخيار بغروب الشمس خلافا لأبي حنيفة حيث قال يثبت والخيار إلى طلوع الفجر وكذا إذا باعه بثمن إلى شهر لم يدخله الشهر الثاني في الأجل
قال ووجوب غسل المرافق للاحتياط
وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره لو صح ما ذكرتم من مخالفة حكم ما بعد الغاية لما قبلها لم يجب غسل المرافق وجوابه إنما وجب للاحتياط فان النبي صلى الله عليه و سلم توضأ فأدار الماء على مرفقه فاحتمل أن يكون غسله واجبا فاخذ بالاحتياط وقد تم القول في المخصصات المتصلة

قال والمنفصل ثلاثة الأول العقل مثل الله خالق كل شيء
المنفصل هو الذي يستقل بنفسه ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه بخلاف المتصل قال المصنف وهو ثلاثة العقل والحس والدليل السمعي قال القرافي والحصر غير ثابت فقد نفي التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت افضل من زيد والعادة تقتضي أنك لم تركل الناس وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك أتيتني بمن يحدثني فإن ذلك لمن يصلح لحديثه في مثل حاله والتخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا
فالأول كتخصيص قوله تعالى الله خالق كل شيء فأنا نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه
أحدهما عدم الإذن ويتجه على هذا ما ذكرت
وثانيهما وهو الذي عول عليه ان لفظة شيء مأخوذه من مشاء والمشاء المحدث الذي ليس بقديم والله تعالى قديم فلا يصدق عليه ذلك لما ذكرناه فان قلت فما تصنع في قوله تعالى قل أي شيء اكبر شهادة قل الله قلت لعله لا يرى الوقف على قول قل الله فإن قلت لا يخلو المانع من التخصيص بالعقل في هذه الآية من ان يقول أن الله علما أو لا علم فإن كان ممن ينفيه فكتاب الله شاهد عليه إذ يقول ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله أنزله بعلمه وإن كان يثبته وجب عليه أن يقول علم الله مخلوق ويلزمه أيضا ان يقول القرآن مخلوق قلت قد أورد ابن داود هذا على الشافعي رضي الله عنه وسفه الأئمة مقاله وقالوا هو اعتراض غير سديد لأن صفات الله عز و جل من العلم والقدرة والكمال ليست بأعيان له لأن الصفة ليست هي الموصوف ولا هي غيره وأما قوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها فهي أيضا على عمومها فكل دابة تدب على وجه الأرض أو في قعر البحار أو تحت أطباق الثرى فالله رازقها دون غيره ويعلم مستقرها ومستودعها واعترض ابن داود بقوله من الدواب من أفناه الله تعالى قبل أن

يرزقه خطأ كما قال أبو بكر الصيرفي بل لا بد أن يرزقه إلى أن يغنيه بما يقيم حياته وله نفس ثابتة وقد جعل الله غذاء طائفة من الطير التنفس إلى مدة يصلح فيها للمأكل وليس في قوله عز و جل يرزق من يشاء ما يوجب انه لا يرزق بعض الدواب قال الصيرفي لأن هذا رزق التفضيل بقوله والله فضل بعضكم على بعض في الرزق والتفضيل وقع كما رأينا الموسر والمعسر واما الرزق الذي يقيم الأبدان للعبادة أو الحياة فلا بد منه كما قال الله عز و جل وقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الروح الأمين قد ألقى في روعي انه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب قال الصيرفي فهذا نص من السنة إن كل نفس لا بد من استيفائها رزقها واعلم أن الشافعي إنما قال كل شيء من سماء وأرض إلى آخره ليذكر أفرادا مما دخل تحت اللفظ العام يتبين بها أن الداخل تحته من جنسها ولم يتعرض للأشياء التي ذكرت من العلم والقدرة والكلام لكراهية الكلام وتجنبه ترك الخوض فيه
فرع قال الإمام النسخ بالنسخ بالعقل واحتج بأن من سقط رجلاه نسخ عنه غسلهما وهو مدخول فإن ساقط الرجلين لم ينسخ عنه غسلهما بل زال الوجوب لعدم القدرة لا غير ثم أن ما ذكره مخالف لما قاله في النسخ من أنه لا بد وأن يكون بطريق شرعي
قال الثاني الحس مثل وأوتيت من كل شيء
المخصص الثاني من المخصصات المنفصلة الحس مثل قوله تعالى حكاية عن بلقيس وأوتيت من كل شيء فإن مقتضاه أنها أوتيت من كل شيء بعضه ونحن نعلم أنها لم تؤت شيئا مما كنا نشاهده في يد سليمان صلى الله عليه و سلم وكذلك

قوله تعالى تدمر كل شيء ونحن نشاهد أشياء كثيرة لا تدمير فيها كالسماء ونحوها وقوله تعالى ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ونحن نرى الجبال أتت عليها وما جعلتها كالرميم وقوله تجبى إليه ثمرات كل شيء وما كان مختصا من الثمار بأقصى المشرق والمغرب لم تر أنه يجيء إليه
قال الثالث الدليل السمعي وفيه مسائل الأول الخاص إذا عارض العام خصصه علم تأخيره أم لا وأبو حنيفة يجعل المتقدم منسوخا وتوقف حيث جهل لنا أعمال الدليلين أولى
الثالث من المخصصات المنفصلة الدليل السمعي وفيه مسائل الأولى في بناء العام على الخاص اعلم انه إذا ورد عام وخاص يدل كل واحد منهما على خلاف ما يدل عليه الآخر فرأى الشافعي رضي الله عنه أن الخاص يخصص العام سواء علم أن الخاص متأخر عن العام أم لم يعلم أم علم تأخره عن الخاص وبه قال أبو الحسين واختاره الإمام واتباعه منهم المصنف واختاره ابن الحاجب وذهب أبو حنيفة إلى الأخذ المتأخر سواء كان هو الخاص أم العام فعلى هذا ان تأخر الخاص نسخ من العام بقدر ما يدل عليه وان تأخر العام نسخ الخاص وان جهل وجب التوقف إلا أن يترجح أحدهما على الآخر بمرجح وذهب ابن العارض إلى التوقف في المسألة وابن العارض هذا بالعين المهملة بعدها ألف ثم راء ثم ضاد معجمة واسمه الحسين بن عيسى معتزلي قدري له كتاب في أصول الفقه سماه انكت ورأيت عبارته تعابه عبارة المحصول فعلمت أن الإمام كان كثير المراجعة له وقد انتخب ابن الصلاح هذا الكتاب ووقفت عليه بخط ابن الصلاح وكتبت منه فوائد وقد وهم القرافي فظن أن ابن العارض قد وقع في المحصول مصحفا قال وانما هو ابن القاص بالقاف والصاد المهملة المشددة وهو الشيخ أبو العباس أحد أئمة أصحاب الشافعي هذا كلام القرافي

وهو وهم وحجتنا ان العام والخاص قد اجتمعنا فأما أن يعمل بهما أو لا يعمل بواحد منهما أو يعمل بالعام دون الخاص أو بالعكس والأقسام الثلاثة الأولى باطلة فتعين الرابع أما الأول والثاني فلاستحالة الجمع بين النقيضين ولاستحالة الخلو عنهما ويراد الثاني انه يستلزم ترك الدليلين من غير ضرورة وهو باطل وأما الثالث فلأنه يستلزم إبطال أحدهما بالكلية بخلاف عكسه فإنه لا يستلزم إبطال العام بالكلية بل من وجه فكان العمل به متعينا لأن أعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما بالكلية واحتج أصحابنا بأن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام واحتج أبو حنيفة بما روى أن ابن عباس رضي الله عنه قال كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله وأجيب بأنه يجب حمل الأحدث على غير صورة النزاع جمعا بين الدليلين والله اعلم ولا يخفى عليك أن الخاص المتأخر إنما يكون مخصصا للعام المتقدم إذا ورد وقت العمل بالعام أو قبله أما إذا ورد بعده فكذلك عند من يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وعند المانعين يكون الخاص ناسخا للعام إن كان مما يصلح لنسخه وإلا فلا يعبأ به
قال الثانية يجوز تخصيص الكتاب به وبالسنة المتواترة والإجماع كتخصيص والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء بقوله وأولات الأحمال أجلهن وقوله تعالى يوصيكم الله بقوله القاتل لا يرث والزانية والزاني فاجلدوا برجمه عليه السلام المحصن وتنصيف حد القذف على العبد
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمقطوع وذكر فيها ثلاثة مباحث
الأول أنه يجوز تخصيص الكتاب به أن بالكتاب خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أنه وقع لأن الله تعالى قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام في أولات الأحمال بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ووقوعه دليل جوازه وزيادة لا يقال لعل التخصيص وقع بغير هذه الآية لأنا نقول الأصل عدم غيرها واحتج الخصم بقوله تعالى لتبين للناس فوض البيان إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله

والجواب أن قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء يدل على أن الكتاب هو المبين والجمع بين الآيتين أن البيان يحصل من رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك أعم من أن يكون منه أو على لسانه واعلم أنه يجوز تخصيص السنة المتواترة بها كالكتاب به
البحث الثاني يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة قال الآمدي لا أعرف فيه خلافا وصرح الهندي بقيام الإجماع عليه ومنهم من حكى خلافا في السنة الفعلية وقد مثل المصنف للقولية بأنهم خصصوا عموم قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم بما روى الترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة وهو رجل متروك عند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال القاتل لا يرث قال الترمذي لا يصح هذا الحديث ولا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال البيهقي شواهده تقويه فإن قلت هذا الحديث على تقدير صحته من أخبار الآحاد والكلام في المتواترة قلت قال القرافي هذا السؤال إنما يرد لو كان زماننا زمان النسخ والتخصيص وإنما ذلك زمن الصحابة رضي الله عنهم وهذا الحديث وأمثاله كان متواترا في ذلك الزمان والمتواتر قد يصير آحادا وكم من قضية كانت متواترة في الزمن الماضي ثم صارت آحادا بل ربما نسيت بالكلية ومثل للسنة الفعلية بأنهم حكموا بأن قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة مخصوص بما تواتر عندهم عن النبي صلى الله عليه و سلم من رجمه المحصن والحديث في الصحيحين ولك أن تقول لعل

التخصيص إنما هو بالآية التي نسخت تلاوتها ويبقى حكمها وهي الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما كما سيأتي في النسخ ان شاء الله تعالى والمراد بالشيخ والشيخة الشيب والشيبة ثم أن رجمه صلى الله عليه و سلم المحصن ليس فعلا وإنما هو قول فإن عليه السلام قال اذهبوا به فارجموه فلا يصح مثالا للفعلية
فرع يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب وعن بعض فقهاء أصحابنا أنه لا يجوز البحث
الثالث يجوز تخصيص الكتاب بالإجماع وكذا السنة المتواترة يجوز تخصيصها بالإجماع قال الآمدي لا اعرف فيها خلافا واستدل في الكتاب او مثل بأن الإجماع خصص العبد من آية الجلد يعني قوله والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة لأنه قام على ان ينصف على العبد وإما عكس ذلك وهو تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة فلم يذكره كم الكتاب وهو غير جائز بالإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص خطأ ولا يجوز الإجماع على الخطأ
تنبيه معنى قولنا تخصيص الكتاب بالإجماع أنهم يجمعون على تخصيص العام بدليل آخر فالمخصص سند الاجماع ثم يلزم من بعدهم متابعتهم وان جهلوا المخصص وليس معناه انهم خصوا العام بالاجماع لأن الكتاب والسنة المتواترة موجودان في عهده عليه السلام وانعقاد الاجماع بعد ذلك على خلافه خطأ فالذي جوزناه اجماع على التخصيص لا تخصيص بالإجماع والله اعلم
قال الثالثة يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد ومنع قوم وابن أبان فيما لم يخصص بمقطوع والكرخي بمنفصل
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيها بحثان
الأول في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد وفيه مذاهب
أحدها الجواز مطلقا وهو المنقول عن الأئمة الأربعة واختاره الإمام

وأتباعه منهم المصنف وبه قال امام الحرمين وطوائف وتبعهم الآمدي قال إمام الحرمين ومن شك ان الصديق لو روى خبرا عن المصطفى صلى الله عليه و سلم في تخصيص عموم الكتاب لا بتدره الصحابة قاطبة بالقبول فليس على دراية من قاعدة الاخبار
والثاني المنع مطلقا ونقله ابن برهان في الوجيز عن طائفة من المتكلمين وشرذمة من الفقهاء
والثالث قال عيسى بن أبان إنه لا يجوز في العام الذي لم يخصص ويجوز فيما خصص لأن دلالته تضعف وشرط ان يكون الذي خصص به دليلا قطعيا
والرابع إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز وإن يخص أو كان بمتصل فلا يجوز قاله أبو الحسن الكرخي وشبهته أن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا كما هو رأيه وإذا كان مجازا ضعف فيتسلط عليه التخصيص فمدار ابن ابان والكرخي على والضعف غير ان مدرك الكرخي في القوة الحقيقية والمجاز ومدرك الأخر القطع بالمجاز وعدم القطع وقوله والكرخي بمنفصل أي ومنع الكرخي فيما لم يخصص بمنفصل وقد اقتصر في الكتاب على الأربعة
وفي المسألة مذهب خامس وهو الوقف في المحل الذي يتعارض فيه الخبر ومقتضى لفظ الكتاب وأجرى اللفظ العام من الكتاب في بقية مسمياته
وذهب إليه القاضي كما نقله عن إمام الحرمين والغزالي والامام والآمدي نقل عنه ابن برهان في الوجهين أنهما يتعارضان ويتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر وهو عند التحقيق غير القول بالوقف وكلامه في مختصر التقريب محتمل لكل من النقلين إلا أنه لما نقله ابن برهان أقرب فانه قال إذا تقابلا يتعارضان القدر الذي يختلفان فيه ولا يتمسك بواحد منهما ويتمسك بالصفة العامة في بقية المسميات التي لم يتناولها الخبر الخاص فينزل الخبر مع العموم فيما يختلف فيه ظاهرهما منزلة خبرين مختلفي الظاهر نقلا مطلقين انتهى وحكى في مختصر التقريب مذهب سادسا وهو أنه يجوز التعبد بتخصيص العموم بخبر الواحد وعدمه عقلا لكن لم يدل على أحد القسمين وهذا أيضا قول بالوقف وهنا فوائد

أحدها ان هذا الخلاف الذي في تجوير تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد هل هو جار في تخصيص السنة المتواترة به الظاهر وهو الذي صرح به في الكتاب نعم والمصنف وإن كان منسوبا في ذلك الى التقرير عن الإمام وأصحابه وغيرهم من المتأخرين فهو آت بحق فقد سبقه بذلك القاضي رضي الله عنه فقال في مختصر التقريب القول في تخصيص الكتاب والسنة المقطوع بها بأخبار الآحاد اعلم وفقك الله ان هذا باب عظيم
خلاف العلماء فيه ثم ساق المذاهب المذكورة
الثانية لعلك تقول قد سبق أن ابن أبان يرى أن العام المخصوص ليس بحجة فكيف الجمع بينه وبين ما ذكره هنا والجواب أن الجمع بينهما أنه لا يحتج بالعام المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من البعض بالعام المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من البعض فيصير مجملا عنده فإذا جاء مخصص بعد ذلك جزمنا بإخراج ما دل عليه بعد أن كنا لا نحكم عليه بشيء ويبقى الباقي على ما كان عليه لا يحتج به ولا يجزم لعدم إرادته فالمخصص مبني لكون ذلك الفرد غير مراد وساكت عن الباقي فلا منافاة بين الكلامين وهذا الجمع قرره والدي أحسن الله إليه ورأيت أنا بعد ذلك القاضي في مختصر التقريب قال بعد حكاية مذهب ابن أبان هذا مبني على أصل له قدمناه وهو أن العموم إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده انتهى وهذا حسن نفيس
الثالثة قال القرافي المحدثون والنحاة على عدم صرف أبان قال ونقله ابن يعيش في شرح المفصل عن الجمهور وقال إنه بناء على أن وزنه أفعل واصله أبين صيغه مبالغة في الظهور الذي هو البيان والابانه فيقول هذا أبين من هذا أي أظهر منه وأوضح فلوحظ أصله مع العلمية التي فيها فلم يصرف
قال لنا أعمال الدليلين ولو من وجه أولى قيل قال عليه الصلاة و السلام إذا روى عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه قلنا منقوض بالمتواتر قيل الظن لا يعارض القطع قلنا العام مقطوع المتن مظنون الدلالة والخاص بالعكس فتعادلا قيل لو خصص لنسخ قلنا التخصيص أهون

احتج على الجواز مطلقا بأن فيه أعمالا للدليلين أما الخاص ففي جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الإفراد التي لم تخصص دون وجه وهو ما خصص ومنع التخصيص يفضي إلى إلغاء أحد الدليلين وهو الخاص وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما وقد سبق مثل هذا واحتج المانع مطلقا بثلاثة أوجه
أحدها ما روي أنه صلى الله عليه و سلم قال إذا روى عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه وهذا الحديث مخصوص بالكتاب فلا يدل على السنة المتواترة كما هي طريقة المصنف وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده موصولا من حديث أبي هريرة واللفظ أنه ستأتيكم عني أحاديث مختلفة فما أتاكم عني موافقا لكتاب الله وسنتي فليس مني وفي سنده مقال ورواه البيهقي في المدخل من طريق الشافعي رضي الله عنه عن طريق منقطعة وأجاب المصنف بأن هذا منقوض بالسنة المتواترة فإنها مخالفة ويجوز التخصيص بها اتفاقا كما سبق وقال الشافعي رضوان الله عليه ما هو أحسن من هذا الجواب وهو ما نصه وليس يخالف الحديث القرآن ولكنه مبين معنى ما أراد خاصا وعاما وناسخا ومنسوخا ثم يلزم الناس ما بين يفرضه الله عز و جل فمن قيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعن الله قيل قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه انتهى
الثاني إن الكتاب مقطوع به وكذا السنة المتواترة والآحاد مظنونة والمقطوع أولى من المظنون

وأجاب بأن العام الذي فيه الكلام وهو الكتاب والسنة المتواترة مقطوع في متنه إذ لا شك في كونه من القرآن إن كان من الكتاب ولا ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ان كان من السنة المتواترة وأما الخاص فبالعكس متنه مظنون لأنه من رواية الآحاد فلا يقطع بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ودلالته مقطوع بها لأنه لا يحتمل إلا ما يعرض له فكل منهما مقطوع به من وجه مظنون من آخر فتساويا فان قلت إذا تعادلا فلا ينبغي ان يرجح احدهما على الآخر إذ هو حينئذ ترجيح من غير مرجح قلت يرجح الخاص بأن فيه أعمالا للدليلين وقد ضعف الأصفهاني شارح المحصول هذا الدليل بأن خبر الواحد يحتمل المجاز والنقل وغيرهما مما يمنع القطع غاية ما في الباب أنه لا يحتمل التخصيص وذلك لا ينفع نعم يمكن ان يدعي قوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها أقوى من دلالة العام عليه
الثالث انه لو جاز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد لجاز نسخهما به واللازم منتف بالاتفاق على أنه لا يجوز نسخ المتواترة بخبر الواحد وبيان الملازمة ان كل واحد منهما تخصيص لكن أحدهما وهو النسخ تخصيص في الأزمان والآخر تخصيص في الأعيان وأجاب بأن التخصيص أهون من النسخ لأن النسخ يرفع الحكم بالكلية بخلاف التخصيص ولا يلزم من تأثير الشيء في الأضعف ان يكون مؤثرا في الأقوى قلت وهذا الدليل وجوابه يمشيان على طريق المصنف فإنه قال لا ينسخ المتواترة بالآحاد وهي طريقة فيها كلام لأن جماعة ينفلوا الاتفاق على الجواز وجعلوا محل الخلاف في الوقوع وجماعة جزموا بالجواز من غير حكاية خلاف كالإمام وغيره كما ستعرف ذلك إن شاء الله في النسخ فالعجب ليس من المصنف لأنه مشى على طريقته وهي صحيحة سنبين ذلك في كتاب النسخ بل من الإمام حيث لم ينبه على ذلك إذ ذكر الدليل والجواب
قال وبالقياس ومنع أبو على وشرط ابن ابان التخصيص والكرخي بمنفصل وابن سريج الجلاء في القياس واعتبر حجة الإسلام ارجح الظنين وتوقف القاضي وإمام الحرمين

المبحث الثاني في جواز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس أي بقياس نص خاص كذا صرح الغزالي وقوله بالقياس معطوف على قوله بخبر الواحد أي يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد وبالقياس والخلاف في هذه المسألة على مذاهب
أحدها الجواز مطلقا وبه قال الأئمة الأربعة والشيخ أبو الحسن وأبو هاشم بعد أن كان يوافق وهو المختار في الكتاب
والثاني المنع مطلقا قال أبو علي الجبائي ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين منهم ابن مجاهد من أصحابنا
والثالث أن تطرق إليهما التخصيص بغير القياس جاز تخصيصهما به وإلا فلا قاله ابن أبان ونقله ابن برهان في الوجيز عن أصحاب أبي حنيفة
والرابع أن تطرق إليهما التخصيص بمنفصل جاز وإلا فلا قاله الكرخي
والخامس يجوز تخصيصهما بالقياس الجلي دون الخفي وهو رأي ابن سريع وجماعة من أصحابنا واختلف هؤلاء في تفسير الجلي والخفي فقيل الجلي قياس العلة والخفي قياس الشبه وقيل الجلي ما تتبادر علته إلى الفهم عن سماع الحكم نحو تعظيم الأبوين عند سماع قوله تعالى ولا تقل لهما أف ونحو اندهاش العقل عقل عند تمام الفكر عند سماع قوله عليه السلام لا يقضي القاضي وهو غضبان والخفي ما ليس كذلك وقيل الجلي ما ينقض قضاء القاضي بخلافه والخفي ما ليس كذلك
والسادس ان تفاوت العام والقياس في إفادة غلبية الظن رجحنا الأقوى و أن تساويا فالتوفيق وهو مذهب حجة الاسلام الغزالي واعترف الإمام في بناء المسألة بأنه حق واستحسنه القرافي وقال الأصفهاني انه حق واضح وكذلك قال الهندي في أثناء المسألة

والسابع الوقف ذهب إليه القاضي وإمام الحرمين واقتصر المصنف على حكاية هذه المذاهب السبعة
والثامن قال الآمدي ان كانت العلة منصوصة او مجمعا عليها جاز التخصيص به وإلا فلا
والتاسع ان كان الأصل المقيس عليه مخرجا من عام جاز التخصيصي وإلا فلا وهنا الخلاف كله في القياس المستنبط من الكتاب او عمومها او عموم خبر الواحد بالنسبة الى خبر الواحد فعلى الخلاف ايضا واما بالنسبة الى عموم الكتاب فيرتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد فمن لا يجوز ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى واما من يجوز قال الهندي فيحتمل ان لا يجيز ذلك لزيادة الضعف ويحتمل أن يجوز ذلك كما في القياس المستنبط من الكتاب إذ قد يكون قياسه أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد قياسة أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصيات كثيرة ويحتمل ان يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك
قال لنا ما تقدم قيل القياس فرع فلا يقدم قلنا على اصله قيل مقدماته أكثر قلنا قد يكون بالعكس ومع هذا فاعمال الكل أحرى
استدل على ما اختاره بأن فيه اعمالا للدليلين وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى وهذا هو الذي تقدم وقد مضى تقريره قال الغزالي وهو فاسد لأن القدر وقع فيه التقاتل ليس فيه جمع بين الدليلين بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس وهذا حسن وهو مأخوذ من القاضي فإنه أجاب به عن هذه الشبه في مختصر التقريب قال والمقصود من ذلك ان القدر الذي تحقق اجتماع القياس واللفظ فيه توهم فيه قضية اللفظ والقدر الذي بقي من اللفظ لم يمانعه القياس فينزل اللفظ باقي المسميات في منزلة اللفظة الأخرى فبطل ادعائه استعمال الدليلين في محل الاجتماع في الدليلين واحتج الجبائي على المنع مطلقا بوجهين
أحدهما أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم به لقدمنا الفرع على

أصله لا على أصل آخر وإذا خصصنا العموم به لم نقدمه على أصله وإنما قدمناه على أصل آخر وهو بالنسبة الى الأصل الآخر ليس فرعا بل هو دليل مثله
والثاني ان مقدمات القياس اكثر من مقدمات النص لأنه فرعه وكل مقدمة توقف النص عليها من غير عكس لاختصاص القياس بتوقفه على مقدمات آخر وبيان ذلك ان جهة الضعف في العام المقطوع المتن منحصرة في أمرين
احدهما احتمال التخصيص
وثانيهما احتمال التجوز وفي غيره الاحتمالان المذكوران مع احتمال كذب الناقل وأما في القياس فهذه الثلاثه أو الاثنان لأن الأصل في القياس لا بد وأن يكون نصا ورابع وهو احتمال ان لا يكون الحكم معللا بعلة أصلا وخامس وهو احتمال ان تكون العلة غير ما ظنه القائس عله لأنه ربما لم يستكمل أوصاف الاجتهاد وربما قصر في الاجتهاد عامدا او مخطأ وسادس وقد ذكره القاضي في مختصر التقريب انه وان كان ما ظنه علة فيحتمل ان يكون قد زل في طريقة قرب مخطىء في الطرق التي ثبتت بها العلل وسابع وهو انه وان لم يزل في الطريق فيحتمل ان لا تكون موجودة في الفرع مع انه ظن وجودها فيه وثامن وهو أنها وإن وجدت في الفرع لكن ربما لم توجد فيه شرط الحكم أو فقد صانع وإذا كان كذلك كان القياس اضعف من العام لا سيما من المقطوع متنه فلم يجز تقديمه عليه لامتناع العمل بالمرجوح مع معارضة الراجح وقال القاضي في مختصر التقريب فإن قالوا إن كلامنا في قياس يصح قلنا فلا يتصور في المجتهدات قياس يقطع بصحته ثم ان صورتم قياسا قاطعا فصوروا صيغة تقطع بعمومها هذا تقرير الوجه الثاني من الوجهين اللذين اعتصم بهما الجبائي وأجاب في الكتاب عن هذا الثاني بوجهين
أحدهما لا نسلم أن مقدمات القياس أكثر مطلقا بل يكون بالعكس أي يكون مقدمات العام اكثر من مقدمات القياس فإن فيه احتمال التجوز والنسخ وخطأ الراوي وغير ذلك والقياس لا يحتمل شيء من ذلك

وثانيهما إنا سلمنا ان مقدمات القياس اكثر مطلقا لكن في العمل فيهما عمل بالدليلين وهو أحرى أي أحوط وأولى كما سبق وقد عرفت ما فيه من النظر والحق ان الوجهين ضعيفان أما هذا فلما عرفت واما الذي قبله فلأن القياس لا بد وأن يستند إلى أصل وذلك الأصل ان لم يكن مقطوع المتن تطرقت إليه هذه الإحتمالات وينضم إليها ما يختص به القياس من المحتملات فيكون الاحتمال فيه اكثر وان كان مقطوع المتن فدلالته ظنية وهي تقبل القوة والضعف كالقياس وعند ذلك نقول الحق في الجواب ان يقال كميات المقدمات قد تعارض كيفياتها بمقدمات القياس وإن كانت كثيرة لكنها قد تكون أقوى من مقدمات العام القليلة التي للعام او أرجح ومن أمثلة ذلك أنه لا يخفى على ذي لب أن إلحاق النبيذ بالخمر بالقياس بعلة الإسكار اغلب على الظن من بقائه تحت قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحى الى محرما وكذلك دلالة قياس الأرز على البر في الربا أقوى بالنسبة الى الدلالة المأخوذة من قوله تعالى وأحل الله البيع على جواز بيعه متفاضلا وإذا فهم هذا لاح وجه الحق مع الغزالي ووضح ان مذهبه هو المرتضى الذي نختاره فإذا قلت ما ذكره الغزالي من الأخذ بأرجح الظنين يلزمه في خبر الواحد مع العموم فإن المرجحات المتجهة هنا متجهة ثم من جهة غلبة المجاز على أحدهما وقلته في الآخر وكثرة الأفراد وقلتها ونحو ذلك قلت أجاب الأصفهاني شارح المحصول بأن ذلك لا يلزمه فإنه يرى ان خبر الواحد في دلالته على مورده الخاص كالنص او هو نص فيه ودلالة العموم على مورده الخاص ضعيفة لاحتمال الإجمال في صيغة العموم بسبب الاشتراك على رأي قدم ولا كذلك القياس مع العمومات فإن قلت الخلاف في اصل هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات او المجتهدات قلت قال الغزالي يدل سياق كلام القاضي على ان القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع فيه بخطأ المخالف ما به من مسائل الأصول قال وعندي إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة فيه من الجوانب متفاوتة غير بالغة مبلغ القطع

قال الرابعة يجوز تخصيص المنطوق بالمفهوم لأنه دليل كتخصيص خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه بمفهوم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا
قال الآمدي لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أم المخالفة أما الإمام فتوقف في ذلك ولم يختر شيئا وقال سراج الدين في جوازه نظر وجزم في المنتخب بأنه لا يجوز ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن بعضهم كما ذكر الاصفهاني
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على الحديث الثاني في شرح الإمام أنه رأى في كلام بعض المتأخرين ما يقتضي أنه لا تخصيص بالمفهوم وقد حصلنا من هذا القول على أن الخلاف في تخصيص العموم بالمفهوم موجود وقال صفي الدين لا يستراب في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة وهذا حسن وينبغي ان يجعل محل الخلاف في مفهوم المخالفة ويؤيده ان الإمام صرح في آخر الناسخ والمنسوخ قبل القسم الثالث فيما يظن أنه ناسخ بأن الفحوى يكون ناسخا بالاتفاق وكذلك الآمدي فأدعى الإتفاق ايضا واحتج المصنف على الجواز مطلقا بأنه دليل شرعي إذ القول بجواز التخصيص بأنه حجة وإذا كان كذلك فيخصص به جمعا بين الدليلين ومثل له المصنف بقوله عليه السلام خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه او ريحه مع قوله عليه السلام إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فإن الأول دل بمنطوقه على ان الماء لا ينجس عند عدم التغيير وإن لم يكن قلتين والثاني دل بمفهومه الذي هو مفهوم شرط وهو حجة على ان القليل ينجس وإن لم يتغير فيكون هذا المفهوم تخصيصا لمنطوق الأول وقد سبق الكلام على الحدثين ولم يمثل لمفهوم الموافقة لظهوره ومثاله ان يقول من أساء إليك فعاقبه ثم يقول ان أساء إليك زيد فلا تقل له أف
قال الخامسة العادة التي قررها رسول الله صلى الله عليه و سلم تخصيص وتقريره عليه الصلاة و السلام على مخالفة العام تخصيص له فان ثبت حكمي على الواحد حكمي على الجماعة يرفع عن الباقين

هذه المسألة مشتملة على بحثين الأول أن العادة هل تخصص العموم وأعلم أن كلام من أطلق القول في أن العادة هل تخصص يحتمل نصين
احدهما ان يكون الرسول صلى الله عليه و سلم أوجب أو حرم أشياء بلفظ عام يشملها ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها او بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة في تخصيص ذلك العام حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت به العادة او هو باق على عمومه وهذا القسم هو الذي تكلم فيه الإمام وأتباعه كالمصنف قال الإمام والحق ان نقول العادة إما أن تعلم من حالها أنها كانت حاصلة في زمانه عليه السلام مع عدم منعه عليه السلام إياهم منها أو يعلم أنها ما كانت حاصلة او لا يعلم واحد من الأمرين فإن كان الأول صح التخصيص وهو في الحقيقة تقريره عليه الصلاة و السلام وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع اللهم الا ان يجمعوا عليه فيصح حينئذ والمخصص هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث واحتمل وتابعه المصنف على ذلك
فرع إذا باع شجرة وأطلق دخل في بيعها أغصانها الا اليابس لأن العادة فيه القطع وقال صاحب التهذيب يحتمل ألا يدخل كالصفوف على ظهر الغنم يعنى إذا بيع وقد استحق الجز لاحتمال الثاني ان تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلا ثم انه عليه السلام ينهاهم عنه بلفظ يتناوله كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام ومنه نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بجنسه فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام فقط أم يجري على عمومه ولا تأثير للعادة في ذلك
وهذا الاحتمال هو الذي تكلم فيه الآمدي وتابعه ابن الحاجب وهما مسألتان لا تعلق لأحدهما على الأخرى ولم يتعرض الآمدي لتلك وقد عرفت حكمها أولا والإمام لهذه ومن قال إن العادة تخصيص حمل النهي فنها على ذلك المعتاد لا غير ومن قال لا تخصيص وهو المختار أجراه على عمومه هذا تمام القول في التخصيص بالعادة وقد أورده الهندي كما ذكرناه فلا يعدل به فإن

بعض الضعفاء حاول الجمع بين كلام الإمام والآمدي ظنا منه لأنهما تواردا على محل واحد فوقع في خبط كبير البحث
الثاني في تقرير النبي صلى الله عليه و سلم واحد من المكلفين على خلاف مقتضى العام قد يكون مخصصا وأما في حق ذلك الشخص الذي أقر فلا شأن فيه ضرورة أنه عليه السلام يقر على باطل وأما في حق غيره فإن يثبت المروي من قوله صلى الله عليه و سلم حكمي على الواحد حكمي على الجماعة فيرتفع حكم العام عن الباقين ايضا وعلى هذا يكون نسخا لا تخصيصا ان خالف ذلك الواحد جميع ما دل عليه العام ويكون تخصيصا ان خالف في فرد كما لو قال لا تقتلوا المسلمين وقدرنا أن شخصا قتل مسلما وأقره عليه السلام على ذلك فيعلم ان ذلك المقتول كان يجوز قتله لكل أحد وهذا الحديث وهو حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا اعرف له أصلا وسألت عنه شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يعرفه وأعلم أنه يشترط في تقريره عليه السلام أن لا يعلم من الفاعل اعتقاده ذلك الفعل كتردد اليهود كنائسهم فإن سكوته عن ذلك لا يقتضي إباحته للعلم بتقدير أهل الذمة على ذلك
ونختم البحث في التقرير بسؤال وهو ان الاستدلال بالتقرير على الإباحة كيف يتم مع انه يحتمل ان يكون التقرير قبل نزول الوحي
ينبغي ان يقال يستدل به على عدم التحريم أما إن شاء الإباحة فلا وهذا السؤال أورده والدي احسن الله إليه قديما على الشيخ صدر الدين بن المرحل ولم يحصل عنه جواب إذ ذاك قال والدي أيده الله تعالى وقد ظهر لي بعد ذلك جوابه وهو ان التقرير إنما يكون على فعل قد وقع او هو واقع ولنا قاعدة قد نقلوها وهي انه لا يجوز الإقدام على فعل حتى يعرف حكمه فلذلك الفعل الذي اقر عليه لو لم يكن مباحا لكان حراما عليه فلا علم يحكمه
فمن هنا دل التقرير على الإباحة بخلاف السكوت عند السؤال فإنه يحمل على عدم نزول الحكم لأن السؤال عما لم يقع او عما وقع والسائل ينتظر حكمه فيفهم من السكوت عدم الحكم فيبقى واقفا بخلاف المقيم على الفعل قد يعتقد

إباحته فهذا فرق بين المقامين فان قلت يكفي في تسويغ الفعل البرآة الأصلية قلت هذا كاف في الإباحة لأن إبقاء الشارع بحكم البرآة الأصلية حكم وهو دليل شرعي وإنما يقول بالتحريم إذا قدم بلا سبب فهذا ينكر عليه سواء كان هناك حكم أم لا فإذا لم ينكر دل على الإباحة ويحمل على ان فاعله اقدم عن علم بخلاف السائل فإن ظاهر حاله انه واقف عن الاعتقاد منتظر الجواب فلا يحصل مفسدة والله اعلم
قال السادسة خصوص السبب لا يحصل لأنه لا يعارضه
هذه المسألة مشتملة على بحثين
الأولى في ان خصوص السبب لا يخصص عموم اللفظ ومن الناس من أطلق الكلام في هذه المسألة كالمصنف والتحبيق تفصيل وهو ان الخطاب إما ان يكون لسؤال سائل او لا فان كان جوابا فاما أن يستقل بنفسه أولا فإن لم يستقل فلا خلاف انه على حسب الجواب ان كان عاما فعام وان كان خاصا فخاص وان استقل فهو أقسام لأنه وإما ان يكون أمضى أو مساويا أو اعم والأخص مثل قول القائل من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر في جواب من سأله عمن افطر في نهار رمضان وهذا جائز بشرائط
أحدها ان يكون فيما خرج من الجواب ينبه على ما لم يخرج منه
والثاني ان يكون السائل مجتهدا او لا لم يفد التنبيه
والثالث ان لا تفوت المصلحة بأشغال السائل بالاجتهاد وأما المساوي فلا إشكال فيه وأما الأعم فهو منقسم إلى قسمين لأنه إما ان يكون اعم منه فيما سئل عنه كقوله عليه السلام لما سئل عن ماء بئر بضاعة ان الماء طهور لا ينجسه شيء رواه أبو داود والترمذي وقال حسن

وإما أن يكون عاما في غير ما سئل عنه كقوله عليه السلام حين سئل عن التوضؤ بماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وحكم هذا القسم التعميم بالنسبة الى ما سئل عنه والى غيره من غير خلاف
وأما القسم الأول فقد جعلوه من محل الخلاف الذي يستقصي القول فيه إن شاء الله تعالى وقال والدي أيده الله تعالى الذي يتجه القطع بأن العبرة بعموم اللفظ لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه الى العام دليل على إرادة العموم
وإما الخطاب الذي لا يرد جوابا لسؤال بل واقعة فإما ان يرد في اللفظ قرينه تشعر بالتعميم كقوله تعالى والسارق والسارقة والسبب رجل سرق رداء صفوان فالإتيان معه قرينة تدل على الاقتصار على المعهود وكذلك العدول عن الإفراد الى الجمع كما في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها نزلت في عثمان بن طلحة اخذ مفتاح الكعبة وتغيب به وأبى ان يدفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقيل ان عليا رضي الله عنه أخذه منه وأبى ان يدفعه إليه ونزلت فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم اياه وقال خذوها يا بني طلحة خالده مخلدة فيكم أبدا لا ينزعها منكم إلا ظالم وإن لم يكن ثم قرينة وكان معرفا بالألف واللام فمقتضى كلامهم الحمل على المعهود إلا ان يفهم من نفس الشرع تأسيس قاعدة فيكون دليلا على العموم وإن كان العموم لفظ آخر غير

الألف واللام فيحسن ان يكون ذلك هو محل الخلاف إذا عرفت ذلك فالصحيح الذي عليه الجمهور وبه جزم في الكتاب ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وخالف في ذلك مالك والمزني وأبو ثور فقالوا ان خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذلك قال الغزالي في المنخول
وقال في مختصر التقريب والإرشاد نقل المذهبان جميعا عنه واعلم ان الذي صح من مذهب الشافعي رضي الله عنه موافقة الجمهور خلاف ما ذكره امام الحرمين
قال الإمام في كتابه الموضوع في مناقب الشافعي رحمه الله ومعاذ الله ان يصح هذا النقل وكيف وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة ثم لم يقل الشافعي رحمه الله أنها مقصورة على تلك الأسباب قال والسبب في وقوع هذا النقل الفاسد عنه انه يقول ان دلالته على سبب أقوى لأنه لما وقع السؤال عن تلك الصورة لم يجز ان لا يكون اللفظ جوابا عنه وإلا تأخر البيان عن وقت الحاجة وأبو حنيفة عكس ذلك وقال دلالته على سبب النزول اضعف وحكم بأن الرجل لا يلحقه ولد أمته وان وطئها ما لم يقم بالولد مع ان قوله صلى الله عليه و سلم الولد للفراش وللعاهر الحجر إنما ورد في أمة والقصة مشهورة في قضية عبد بن زمعه فبالغ الشافعي في الرد على من يجوز إخراج السبب وأطنب في ان الدلالة عليه قطعية كدلالة للعام عليه بطريقين
احدهما العموم
وثانيهما كونه واردا لبيان حكمه فتوهم المتوهم انه يقول ان العبرة بخصوص السبب هذا حاصل ما ذكره الإمام وهو بليغ واما ما ذكره إمام الحرمين فلعله

اطلع على نص مرجوح عنه او غير ذلك فإن الخلاف فيه غير بعيد عن المذهب ولذلك اختلف الأصحاب في ان العرايا هل يختص بالفقر أم يشترك فيها الأغنياء والفقراء والصحيح والتعميم مع أنها وردت على سبب خاص وهو الحاجة والفرص أن الصحيح من مذهبه موافقة الجمهور وفروعه تدل على ذلك
قال الأصحاب في من دخل عليه صديقه فقال تغد معي فقال أن لم تتغد معي فامرأتي طالق لا يقع الطلاق ولو تغدا بعد ذلك معه ان طال الزمان انحلت اليمين فإن نوى الحال فلم يفعل وقع الطلاق وهو يخالف قول الأصوليين ان الجواب الذي يستقل بنفسه الا ان الفرق يقتضي عدم استقلاله مثل هذه الصورة في حكم الذي لا يستقل بوضعه فيكون على حسب السؤال
ورأى البغوي حمل المطلق على إكمال العادة وهو يوفق قول الأصوليين هذا وأفتى القاضي الحسن في امرأة صعدت بالمفتاح الى السطح فقال زوجها ان لم تلق بالمفتاح فأنت طالق فلم تلقه ونزلت انه لا يقع ويحمل قوله ان لم تلقه على التأييد واخذ ذلك مما قاله الأصحاب في المسألة المذكورة وفي الرافعي عن المبتدأ في الفقه للقاضي الروباني انه لو قيل له وكلم زيدا فقال والله لا كلمته انعقدت اليمين على الأبد الا ان ينوي اليوم فإن كان ذلك في طلاق وقال أردت اليوم لم يقبل في الحكم وهذه الصور كلها شاهدة لأن العبرة بعموم اللفظ ومخالفة لما قال الأصوليون في الجواب الذي يقتضي العرف عدم استقلاله دون الوضع
والحق مع الفقهاء لأن اللفظ عام والعادة لا تخصص وأما ما وقع في كتابي طبقات الفقهاء في ترجمة الإمام الشافعي في الأم في الجزء الرابع من أجزاء تسعة في كتاب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع وهو بعد الطلاق الذي يملك فيه الرجعة وقبل الحجة في النية وما أشبهها نص على ما ذكره الإمام عنه من ان العبرة بعموم اللفظ فذلك خطا مني في الفهم وأردت ان انبه على ذلك هنا لئلا يغتر به فإن حذفه من ذلك الكتاب تعذر لانتشار النسخ به وبيان ذلك انه قال ما نصه ما يقع به الطلاق من الكلام ومالا يقع

قال الشافعي رضي الله عنه ذكر الله تعالى في كتابه الطلاق والفراق والسراح فقال عز و جل وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن وقال تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وقال عز و جل لنبيه صلى الله عليه و سلم في أزواجه ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية
قال الشافعي فمن خاطب امرأته فأفرد لها اسما من هذه الأسماء فقال أنت طالق أو أطلقتك أو فارقتك أو سرحتك لزمه الطلاق وان لم ينوه في الحكم ونويناه فيما بينه وبين الله عز و جل ويسعه إن لم يرد شيئا منه طلاقا ان يمسكها ولا يسعها ان يقيم لأنها لا تعرف من صدقه ما يعرف من صدق نفسه وسواء فيما يلزم من الطلاق ولا يلزم تكلم به الزوج عند غضب او مسألة طلاقا او رضا وغير مسألة طلاق ولا تصنع الأسباب شيئا إنما تصنعه الألفاظ لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير السبب ولا يكون مبتدأ الكلام الذي له حكم فيقع فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئا لم يصنعه ما بعده ولم يمتنع ما بعده ان يصنع ما له حكم إذا قيل انتهى فتوهمت انا ما توهمت من قوله ولا تصنع الأسباب شيئا الى آخر وهو وهم وانما مراده ان الغضب وغيره من الأسباب التي يرد عليها الطلاق لا تدفع وقوع الطلاق ولا تعلق لذلك بالمسألة الأصولية وقد احتج المصنف على ان العبره بعموم اللفظ بأن اللفظ صالح لتناول الأفراد إذ هو عام وكونه ورد على سبب لا يعارضه لأنه لا منافاة بينهما بدليل ان المجيب لو قال احمل اللفظ على عمومه ولا تخصيصه بخصوص سببه كان ذلك جائزا
واعترض على هذا بأنه لا ينافي كون السبب يدل بطريق الظهور على تخصيص العام لأن الذي ذكر احتمال والإحتمال لا ينافي الظهور كما أنه لو صرح بإرادة الخصوص في العمومات من غير سبب جاز ذلك مع كون هذا الاحتمال لا ينافي ظهور صيغة العموم في الاستغراق وذكر الإمام دليلا آخر وهو اجماع الأمة على ان آية اللعان والظهار وغيرهما إنما نزلت في أقوام معينين مع

تعميم الأمة حكمها وما قال أحد ان ذلك التعميم خلاف الأصل واحتج الخصم بأن الجواب لو عم لم يكن مطابقا للسؤال والمطابقة بين السؤال والجواب شرط ولهذا لم يجز ان يكون الجواب خاصا وبأن السبب لو لم يكن مخصصا لما نقله الراوي لعدم فائدته
واجيب عن الأول بأنك ان أردت بمطابقة الجواب ان تستوعب السؤال ولا تغادر منه شيئا فمسلم وإلا علم يحصل فيه المطابقة بهذا المعنى بخلاف الأخص وإن أردت بالمطابقة اختصاص الجواب بالسؤال فلا نسلم اشتراطها بهذا المعنى
وعن الثاني بأن فائدته معرفة السبب وقد صنف بعض المتأخرين في معرفة أسباب الحديث كما صنفت العلماء في معرفة أسباب النزول ومن فوائد ذلك امتناع إخراج صورة السبب عن العموم بالإجتهاد فمنه لا يجوز إخراج تلك الصورة التي ورد عليه السبب بالاجماع نص عليه القاضي في مختصر التقريب والآمدي في الأحكام وطائفة
وحكى عن أبي حنيفة انه يجوز إخراجها وقد عرفت ذلك من قبل وقد قال العلماء ان دخول السبب قطعي لأن العام يدل عليه بطريقتين كما مر ومن ذلك استثناء كونه لا يخرج بالإجتهاد
وقال والدي رحمه الله وهذا عندي ينبغي ان يكون إذا دلت قرائن حالية ومقالية على ذلك او على ان اللفظ العام يشمله بطريق الوضع لا محالة وإلا فقد تنازع الخصم في دخوله وضعا تحت اللفظ العام ويدعي انه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيانه انه ليس داخلا في الحكم فإن للحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زمعة ان قوله صلى الله عليه و سلم الولد للفراش وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد وبيان حكمه إما بالثبوت أو بالانتفاء فإذا ثبت ان الفراش هي الزوجة لأنها الذي يتخذ لها الفراش غالبا
وقال الولد للفراش كان فيه حصرا كالولد للحرة وبمقتضى ذلك لا يكون للأمة فكان فيه بيان للحكمين جميعا نفي السبب عن مسبب وإثباته لغيره ولا يليق دعوى القطع هنا وذلك من جهة اللفظ وهذا في الحقيقة نزاع في ان اسم

الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطؤة أو للحرة فقط والحنفية يدعون الثاني فلا عموم عندهم في الآية فتخرج المسالة من باب ان العبرة بعموم اللفظ وبخصوص السبب تعم قوله صلى الله عليه و سلم في حديث عبد بن زمعة هو لك يا عبد وللعاهر الحجر فهذا التركيب يقتضي انه ألحقه به على حكم السبب فيلزم ان يكون مرادا من قوله للفراش فلينتبه لهذا البحث فإنه نفيس جدا ولا يقال ان الكلام إنما هو حيث تحقق دخوله في اللفظ العام وضعا لأنا نقول قد يتوهم ان كون اللفظ جوابا للسؤال يقتضي دخوله فأردنا أن ننبه على أن الأمر ليس كذلك والجواب إنما يقتضي بيان الحكم وانما أردنا ان دعوى من ادعى انه دلالة العموم على سببه قطعية يمكن المنازعة فيها النزاع في دخوله تحت اللفظ العام وضعا لا مطلقا والمقطوع به انه لا بد فيه من بيان حكم السبب إما كونه يقطع بدخوله فى ذلك أو بخروجه عنه فلا يدل على تعيين واحد من الأمرين وتختم المسألة بعد ذكر هذا البحث النفيس بمثلين
فأحدهما ان جميع ما تقدم في السبب وبقية الأفراد التي دل اللفظ العام بلا وضع عليها وبين ذينك الشيئين رتبة متوسطة فنقول قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الأي رعاية لنظم القرآن وحسن اتساقه فلذلك الذي وضعت معه الآية النازلة على سبب خاص للمناسبة إذا كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام او كان من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام فدلالة اللفظ عليه يحتمل ان يقال انه كالسبب فلا يخرج ويكون من الآية قطعا ويحتمل ان يقال انه لا ينتهي في القوة الى ذلك لأنه قد يراد غيره وتكون المناسبة لشبهيته به والحق ان ذلك رتبة متوسطة دون السبب وفوق العموم المجرد ومثال ذلك قوله تعالى ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها فإن مناسبتها للآية التي قبلها وهي قوله ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا إن

ذلك إشارة الى كعب بن الأشرف كان قدم الى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه و سلم فسألوه من أهدى سبيلا النبي صلى الله عليه و سلم أم هم فقال انتم كذبا منه وضلالة لعنه الله فتلك الآية في حقه وحق من يشاركه في تلك المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم نعت النبي صلى الله عليه و سلم وصفته وقد أخذت عليهم المواثيق ان لا يكتموا ذلك وإن ينصروه كان ذلك أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها
ولا يرد على هذا ان قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر ونزول ان الله يأمركم في الفتح او قريبا منه وبينهما نحو ست سنين لأن اتحاد الزمن إنما يشترط في سبب النزول ولا يشترط في المناسبة لأن المقصود منها وضع الآية موضع يناسبها
والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه و سلم بوضعها في المواضع التي يعلم من الله مواضعها وثانيها سؤال عظيم أورده والدي احسن الله إليه في تفسيره في آية الظهار وهو قوله والذين يظاهرون من نساءهم
الآية وتقريره يتوقف على اعراب الآية فنقول الذين مبتدأ وخبره فتحرير أو فكفارتهم تحرير وجاز حذف ذلك لدلالة الكلام عليه وجاز دخول الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط وتضمين الخبر معنى الجزاء
فإذا أريد التنصيص على ان الخبر مستحق بالصلة دخلت الفاء حتما للدلالة على ذلك فإذا لم تدخل احتمل ان يكون مستحقا به او بغيره كما لو قيل الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة وان كنا نقول ان ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ولكن ليس بنص ودخول الفاء نص وهذا المواضع المتفق عليه جواز دخول الفاء لعموم الموصول فلو أريد بالموصول خاص بحيث لا يكون فيه عموم
فالصحيح عدم جواز دخول الفاء وكذلك لو وصل بماض لم يجز دخول الفاء على الصحيح إذا عرفت هذا فالآية على ذلك لا تشمل الا من وجد من الظهار بعد نزولها لأن معنى الشرط متقبل فلا يدخل فيه الماضي والنبي صلى

الله عليه وسلم قد أوجب الكفارة على أوس بن الصامت وذلك لا يشك فيه من جهة ما عرفت من كونه هو السبب الا ان هذا الإشكال يعتوره من جهة عدم شمول اللفظ على ما تقرره من قاعدة دخول الفاء ومن جهة أخرى وهي ان الحكم إنما يثبت من حين نزول الآية وأوس ظاهر قبل نزولها فكيف يعطف حكمها على ما سبق لا سيما إذا كان الحكم قبل نزولها انه طلاق كما ورد انه صلى الله عليه و سلم قال ما أراك الا قد حرمت عليه فكيف يرتفع التحريم أو الطلاق بعد وقوعه
وهذا الإشكال وارد في أية اللعان من الجهتين كما هو وارد هنا ووارد في آية السرقة وآية حد الزنا ونحوهما من الجهة الثانية لإثبات أحكامها لمن صدر منه السبب المتقدم على نزولها وان لم نجعل الفاء فيها داخلة في خبر المبتدأ هذا تقرير السؤال وهو قوي وأجاب عنه بما لا يقاومه فقال أما إثبات أحكام هذه الآية لمن وجد منه السبب قبل نزولها فنقول ان السرقة والزنا ونحوهما من الأفعال التي كانت معلومة التحريم عندهم وجوب الحد فيها لا يتوقف على العلم والفاعل لها قبل نزول الآية إذا كان هو السبب في نزولها في حكم المقارن لها لأنها نزلت مبنية لحكمه فلذلك يثبت حكمها فيه دون غيره ممن تقدمه واما دخول الفاء في الخبر فيستدعي العموم في كل من يتظاهر من امرأته مثلا وذلك ويشمل الحاضر والمستقبل وسبب النزول حاضرا وفي حكم الحاضر واما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل فقد يمنع واما كون الظهار كان طلاقا فلم يكن ذلك شرع واما قول النبي صلى الله عليه و سلم ما أراك الا قد حرمت عليه فلم يثبت وقال بعض الناس انه منسوخ بالآية فإن ثبت ان النبي صلى الله عليه و سلم قاله فالأمر كذلك ويكون من نسخ السنة بالكتاب
قال وكذلك مذهب الراوي كحديث أبي هريرة في الولوغ وعمله لأنه ليس بدليل قيل خالف الدليل وإلا انقدحت روايته قلنا ربما ظنه دليلا ولم يكن

البحث الثاني فيما أن أعمل الراوي بخلاف العموم هل يكون ذلك تخصيصا للعموم وقد اختلفوا فيه الاكثرون منهم الإمام والآمدي الا انه لا يخصص وعزاه الإمام الى الشافعي قال لأنه قال ان حمل الراوي الخبر على أحد محمليه صرت الى قوله وإلا فلا أصير إليه
هذا كلام الإمام وهو صريح في ان صورة اختياره في المسألة التفصيل الذي ذكره ومنهم من يطلق القول في المسألة ويجعل هذا قولا مفصلا
وذهبت الحنفية والحنابلة الى ان يكون مخصصا وفصل بعضهم فقال ان وجد ما يقتضي تخصيصه به لم يخصص بمذهب الراوي بل به ان اقتضى نظر الناظر فيه ذلك والأخص بمذهب الراوي وهو مذهب القاضي عبد الجبار وقال امام الحرمين إن علم من حاله أنه فعل ما يخالف الحديث نسيانا فلا ينبغي ان يكون فيه خلاف إذ لا يظن بعاقل انه يرجح فعله إذ ذاك ولو احتمل ان يكون فعله احتياطا كما لو روى ما يقتضي رفع الحرج عن الفعل فيما يظن به التحريم رأيناه متحرجا عنه غير ملابس له فالتعويل على الحديث ويحمل فعله على الورع والتعليق بالأفضل وإن لم يحتمل شيئا من ذلك لم يجز التعليق بالحديث قلت وعندي ان محل الخلاف مخصوص بالقسم الثالث إذ لا يتجه في القسمين الأولين
وقد مثل المصنف تبعا للإمام هذه المسألة بما روى عن مسلم عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب رواه البخاري ولفظه إذا شرب مع ان أبا هريرة كما روى قال يغسل ثلاثا فلا نأخذ بمذهبه لأن قول الصحابي ليس بدليل إذ نحن مفرعون على ان قوله غير حجة وهذا المثال على هذا الوجه غير مطابق لأن التخصيص فرع العموم وسبع مرات من أسماء الأعداد التي هي نصوص في مسمياتها لا عامة نعم قد يحسن ايراد ذلك مثالا إذا صدرت المسألة هكذا الراوي الصحابي إذا خالف الحديث وفعل ما يضاده فهل يعول على الحديث او على فعله نحو خبر أبي هريرة واما لما نحن فيه فلا يحسن إيراده مثلا ومثل له صفي الدين الهندي وكذا ابن برهان كما نقل القرافي عنه بمثال اقرب من هذا وهو ابن عباس رضي الله عنه روى من بدل دينه فاقتلوه وهذا عام في

الرجال والنساء وذهب هو الى ان المرتدة لا تقتل قلت وفي هذا المثال ايضا نظر وهو ان من الشرطية على رأي لا تدخل فيها النساء فلعل ابن عباس يختار ذلك الرأي
على ان كل هذا عدول عن التحقيق والتمثيل بحديث أبي هريرة وعمله صحيح وانما جاء الفساد فيه من جهة تقريره على الوجه المتقدم وكان الإمام الناظر علاء الدين البابجي يقرره على الوجه الصحيح وهو ان الكلب من حيث انه مفرد معروف للعموم يشمل كلب الزرع وغيره وأبو هريرة يرى ان كلب الزرع لا يغسل منه الا ثلاثا وغيره يغسل فقد اخرج بعض افراد الكلب
هذا هو معنى التخصيص في الحديث وهذه فائدة حسنة لكن ما ادري من أين كان له ان أبا هريرة كان يغسل من كلب الزرع ثلاثا فإن المعروف اختلاف الرواية عن أبي هريرة في انه هل كان يرى ان الغسل من ولوغ الكلب سبع او ثلاث فروى الدارقطني بسنده الى عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات ثم قال الدارقطني يرويه غير عبد الملك عن عطاء عنه سبع مرات قلت فإن صح ان أبا هريرة كان يفصل بين كلب الزرع وغيره يكون في ذلك جمعا بين اختلاف الروايات فمن روى عنه السبع يكون كلامه في غير كلب الزرع ومن روى الثلاث يكون مراده كلب الزرع
واحتج من جعل مذهب الراوي مخصصا بأنه إنما خالف لدليل لأنه لو خالف لا لدليل لفسق فلا تقبل روايته وإذا كانت مخالفته مشاره الى دليل تحتم اتباعه والجواب انه ربما خالف لشيء ظن في نفسه بما اداه اليه نظره كونه دليلا ولم يكن كذلك في نفس الامر فلا يلزم القدح في روايته لأنه لم يقدح الا على حسب تأدية اجتهاده ولا الاتباع لعدم صحة المظنون بل ولو احتمل ان ما ظنه حق في نفسه فليس لنا الانقياد له بمجرد التقليد ما لم يتضح لنا وجه الحق في ذلك والفرض ان الذي يتضح لنا خلاف ما عمله لقيام الدليل الذي رواه معارضا بحق لما رآه

خاتمة اضطراب النظر في انه هل صورة هذه المسألة مخصوصة بما إذا كان الراوي صحابيا أم الأمر اعم من ذلك الذي صح عندي ويجوز ان الأمر اعم من ذلك ولكن الخلاف في من ليس بصحابي اضعف فليكن القول في المسألة هكذا ان كان الراوي صحابيا وقلنا قول الصحابي حجة خص على المختار
قال القاضي في مختصر التقريب وقد ينسب ذلك إلى الشافعي في قوله الذي يقلد الصحابي فيه ونقل عنه انه لا يخصص به الا إذا انتشر في أهل العصر ولم ينكره وجعل ذلك نازلا منزلة الإجماع وان قلنا قوله غير حجة ففيه الخلاف المتقدم وان كان غير صحابي ترتب الخلاف على الصحابي فإن قلنا لا يخص بقول الصحابي الراوي لم يخصص بقول الراوي الذي ليس بصحابي جزما وان قلنا يخصص ففي هذا خلاف
وأما قول القرافي صورة المسألة ان يكون صحابيا واما غير الصحابي فلا يخصص قطعا فليس بجيد والمعتمد ما قلناه ويشهد له الدليل الذي ذكر من أنه إنما يخالف الدليل وإلا انقدحت روايته فان هذا يشمل الصحابي وغيره وبما ذكرناه صرح امام الحرمين في البرهان فقال وما ذكرناه يعني من هذه المسألة غير المختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمل بخلافه فالأمر على ما فصلناه انتهى
قال السابعة افراد فرد لا يخصص مثل قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر مع قوله في شاة ميمونة دباغها طهورها لأنه غير مناف قيل المفهوم قلنا مفهوم اللقب مردود
إذا افرد الشارع فردا من افراد العام بالذكر وحكم عليه بما حكم على العام لا يكون مخصصا للعموم خلافا لأبي ثور مثاله ما روى مسلم ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أيما إهاب دبغ فقد طهر وقال عليه السلام وقد مر بشاة ميتة لمولاة ميمونة كما رواه مسلم إلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به

والدليل على ان العام لا يختص ببعضه إذا افرد بالذكر ان المخصص لا بد وان يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة بين كل الشيء وبعضه واحتج أبو ثور بأن تخصيص الشيء بالذكر يفهم منه نفي الحكم عما عداه وإلا فلا تظهر فائدة التخصيص ذلك الفرد بالذكر
وأجاب المصنف بأن المفهوم هنا مفهوم اسم وهو غير حجة كما سبق وعندي في ترتيب المسألة على هذا الوجه نظر وما أظن أبا ثور يستند في ذلك الى مفهوم اللقب فإن الظاهر انه لا يقوم به فإنا لم نر أحدا حكاه عنه مع انه اجل واقدم من الدقاق وأولى ان تودع الاؤه بطون الأوراق ولعله يقول بهذا المفهوم إذ أورد خاصا بعد عام تقدمه ونقول ان ذلك قرينة في المراد بذلك العام هذا الخاص ويجعل العام كالمطلق والخاص كالمقيد ولا يكون ذلك قولا منه بمفهوم اللقب الذي قال به الدقاق وحينئذ ترتيب المسألة على انه استند فيها الى مفهوم اللقب غير سديد والرد عليه كذلك
قال الثامنة عطف الخاص لا يخصص مثل لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده وقال بعض الحنفية بالتخصيص تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه قلنا التسوية في جميع الأحكام غير واجبة
عطف الخاص على العام لا يوجب تخصيص العام خلافا لأبي حنيفة وأصحابه وتوقف فيه بعض المتكلمين مثاله ان أصحابنا لما احتجوا على ان المسلم لا يقتل بالذمي بما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده
الحنفية او بعضهم انه عليه السلام عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم ان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فيجب ان يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم ايضا هو الحربي تسوية

بين المعطوف والمعطوف عليه أجاب المصنف بأن التسوية بين المعطوف والمعطوف غير واجبة في جميع الأحكام وهو جواب ضعيف لأن الحنفية لا يقولون باشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحكام بل باشتراكهما في المتعلقات كالحال والشرط والمصنف يوافق على ذلك
كما نص عليه في الاستثناء المتعقب للجمل بل الجواب الصحيح ان قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام لأنه لو قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز ان يتوهم منه متوهم ان من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده لا يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا ان هذا النهي مختص بكونه في حال العهد وإذا ثبت كونه كلاما تاما فلا يجوز إضمار تلك الزيادة اعني لفظة بكافر لأن الإضمار على خلاف الأصل
فإن قلت ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين حينئذ أعنى قوله لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده إذ لا يظهر لأحداهما تعلق بالأخرى
قلت ظني ان أبا اسحق المروزي أحد أئمة أصحابنا أجاب عنه في التعليقة بأن عداوة الصحابة رضي الله عنهم للكفار في ذلك الوقت كانت شديدة جدا فنبه صلى الله عليه و سلم على ان صاحب العهد إذا كان في عهده لا يقتل لئلا يتجرد اللفظ الدال على ان المسلم لا يقتل بالكافر اعني قوله لا يقتل مسلم بكافر فتحمل العداوة الشديدة على الإقدام على قتل كل كافر من معاهد وغيره وهذا الجواب جدير بأن يغتبط ولا يقال حرمة وان انتفى القصاص باقية وهي تحمل الصحابة الذين هم أهل الورع الشديد على الإحجام لأنا نقول كان ذلك في صدر الاسلام فلا يلزم من كون المسلم لا يقتل بالكافر ان يكون قتل المعاهد حراما بل حكم ولا بنفي القصاص بين المسلم والكافر مطلقا والدليل على جواز قتل الكافر في الجملة قائم فبين تخصيص ذلك الدليل عن نهيه قتل المعاهد في عهده
قال التاسعة عود ضمير خاص لا يخصص مثل والمطلقات مع وبعولتهن لأنه لا يزيد على إعادته

عود الضمير الى بعض العام المتقدم هل يوجب تخصيص العام وإن شئت قلت إذا عقب اللفظ العام باستثناء او تقييد بصيغة او حكم خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه فهل يوجه ذلك تخصيصه اختلفوا فيه فذهب الأكثر من أصحابنا إلى أن ذلك لا يوجب تخصيصه وبه جزء في الكتاب واختاره الغزالي والآمدي وابن الحاجب وصفي الدين الهندي
وذهب أكثر الحنفية الى انه يخصصه ولذلك قالوا في قوله عليه السلام لا تبيعوا للبر بالبر الا كيلا بكيل ان المراد منه ما يكال من البر فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين لأن ذلك القدر مما لا يكال
وذهب جماعة منهم إمام الحرمين وأبو الحسين والإمام إلى التوقف ومثل في الكتاب لذلك بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم أنه تعالى قال وبعولتهن أحق بردهن وهذا اختص بالمطلقة بالطلاق الرجعي دون البائن فيقول الأولون ان ذلك لا يقتضي إن المراد من المطلقات الرجعيات وتقول الحنفية يقتضيه ومثال الإستثناء قوله تعالى لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن الى قوله الا ان يعفون فإستثناء العفو عنه الكناية راجعة الى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح الا من البالغات العاقلات دون الصبية والمجنونة فهل يوجب ذلك ان يقال ان المراد من النساء أو أول الكلام البالغات العاقلات فقط ومثال التقييد بالصفة قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعنى الرغبة في مراجعتهن ولا ريب في ان ذلك لا يتأتى في الطلاق البائن فهل يقتضي بعد ذلك تخصيص المذكور في أول الكلام بالرجعي

ومثال ذلك التقييد بحكم آخر ما أورده المصنف وقد شرحناه واحتج المصنف بأن عود الضمير لا يزيد على إعادة ذلك البعض أو صرح بالإعادة فقيل وبعولة المطلقات أحق بردهن في المثال الأول وإلا أن يعفو العاقلات والبالغات في المثال الثاني او يحدث أمرا في الرجعيات في المثال الثالث لم يكن ذلك مخصصا اتفاقا فكذلك هنا
واحتج المتوقف بأن ظاهر العموم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية تقتضي مطابقتها للمكني في العموم والخصوص وليست مراعاة ظاهر العموم بأولى من مراعاة ظاهر الكناية فوجب التوقف
واجيب عنه بأنا لا نسلم انه ليست مراعاة احدهما بأولى من مراعاة الآخر بل مراعاة إجراء العام على عمومه أولى من مراعاة مطابقة الكناية للمكنى لأن المكنى اصل والكناية تابعة لأنها تفتقر في دلالتها على مسماها إليه من غير عكس ومراعاة دلالة المتبوع أولى من مراعاة دلالة التابع ومنه اكثر فائدة وأظهر دلالة فكان بالرعاية اجدر
فائدة سألت والدي رحمه الله في قوله تعالى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة او ما ملكت أيمانكم وقول الشافعي رضي الله عنه ان ذلك في الأحرار بدليل ان العبد لا يملك فقلت هذا من عطف الضمير الخاص على العام فلا يقتضي التخصيص على الصحيح فقال ليس هذا من ذلك القبيل لأن ذلك في لفظ عام يتقدم ويأتي بعده ضمير لا يستقل بنفسه بل يعود على ذلك اللفظ المتقدم العام
وهنا خطاب والمخاطب لم يتحقق فيه عموم ولا خصوص والمرجع فيه الى قصد المتكلم وما يدل عليه فقوله فأنكحوا خطاب لمخاطبين لم يتحقق دخول العبيد فى موضوعه بل بحسب ما يريد المتكلم من مخاطبه
فإذا دل في آخر الكلام او في أوله على المراد حمل عليه وهنا قد دل دليل في آخره وهو قوله او ما ملكت أيمانكم وفي أوله وهو وإن خفتم ان لا

تقسطوا في اليتامى فإنه إنما يخاطب به من يلي أمر اليتيم والعبد لا يلي أمر اليتيم فقلت الخطاب الأول لجميع الناس الأحرار والعبيد بدليل قوله يا أيها الناس اتقوا ربكم فقال لنا في الجواب طريقان
أحدهما ما قررناه غير مرة من أن أيا نكرة وهي المنادى وصف بالناس فالألف واللام في الناس للعهد والمعهود هي النكرة المقصودة وهو الذي ناداه المتكلم والعهد مقدم على العموم
والثاني أن يسلم أنها للعموم ويقوم دليل على ان الخطاب بعدها لبعضهم مثاله ان يقول لعشرة افعلوا كذا ثم يقول لبعضهم افعلوا كذا فليس تخصيصا للأول وإنما هو خطاب لغير من خوطب أولا وهو بعض منه وهو يشبه الإلتفات فليس من باب عود الضمير المقتضي للتخصيص على خلاف فيه بل هذا لا يقتضي التخصيص قولا واحدا لأن كل الكلامين مستقل بنفسه وان كان بينهما التئام والله اعلم
قال تذنيب المطلق والمقيد ان اتحد سببهما حمل المطلق عليه عملا بالدليلين وإلا فإن اقتضى القياس تقييده قيد وإلا فلا
المطلق والمقيد كالعام والخاص وكل ما يجوز فيه تخصيص العام من الأدلة أما على الوفاق الخلاف فإنه يجوز به تقييد المطلق من غير تفاوت
ولذلك جعل المصنف الكلام فيه ذنابة وتتمة للعام والخاص والأخذ في شرح ما أورده يستدعي تقديم مقدمة فنقول المطلق منقسم الى حقيقي وإضافي أما الحقيقي فهو طلق من كل وجه وقد يقال المطلق على الإطلاق وهو المجرد عن جميع القيود الدالة على ماهية الشيء من غير ان يدل على شيء من أحوالها وعوارضها على ما ذكرنا في باب العام والخاص
أما الإضافي مثل قولك اعتق رقبه واضرب رجلا فليس هو مطلقا من كل وجه بل هو دال على واحد شائع في الجنس وهما قيدان زائدان على الماهية

وهذا مطلق بالنسبة الى قولنا رقبة مؤمنة ومقيد بالنسبة الى اللفظ الدال على ماهية الرقبة من غير ان يكون فيها دلالة على كونها واحدة أو كثيرة شائعا في الجنس او معينا وإذا عرفت انقسام المطلق الى قسمين فاعلم ان المقيد ينقسم ايضا الى قسمين مقابليهما فالمقيد من كل وجه او على الإطلاق هو اللفظ الذي لا اشتراك فيه أصلا كأماء الاعلام
وأما المقيد من وجه دون وجه فنحو رقبة مؤمنة ورجل عالم وإذا عرفت ذلك فلنعد الى الشرح والمقصود الكلام في حمل المطلق على المقيد اعلم ان متعلق حكم المطلق أما أن يكون غير متعلق حكم المقيد او لا يكون
فإن كان الثاني فلا يحمل المطلق على المقيد وفاقا لأنه لا مناسبة بينهما ولا تعلق لأحدهما بالآخر أصلا ومثلوا هذا بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة فى الكفارة مطلقا مجرى العدالة
وإن كان الأول فأما أن يتحد السبب او يختلف وعلى التقديرين إما ان يكون كل واحد من المطلق والمقيد أمرا أو نهيا أو أحدهما أمرا والآخر نهيا فهذه أقسام ستة
أحدهما ان يكون السبب واحدا وكل واحد منهما أمرا نحو ان نقول اعتقوا رقبة مؤمنة إذا أحسنتم ثم نقول مرة أخرى اعتقوا رقبة إذا أحسنتم فها هنا لا خلاف ان المطلق محمول على المقيد وكذا لو قال أولا اعتقوا رقبة ثم قال اعتقوا رقبة مؤمنة وكذا لو لم يعلم التاريخ بينهما لأن من عمل بالمقيد فقد عمل بالمطلق ضرورة ان المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت بالجزء فيكون العمل بالمقيد عملا بالدليلين
وأما العمل بالمطلق فليس عملا بالمقيد لأن الآتي بالجزء لا يكون آتيا بالكل بل تاركا له فيكون العمل بالمطلق يستلزم الترك لأحد الدليلين بالكلية فإذا كان الجمع بين الدليلين واجبا مع إستلزامه الترك لشيء من مدلولات
أحدها فليجب حيث لا يستلزم ذلك بطريق أولى ولا يخرج ذلك على الخلاف في تقابل المتأخر والخاص المتقدم بهذا الذي ذكرناه
فإن قلت فمقتضى الإطلاق التمكن من أي فرد شاء المكلف والتقييد يزيل

التمكن من ذلك فلم كان هذا أولى من حمل الأمر بالمقيد على الندب قلت هذا الحكم الذي هو التمكن حالة الإطلاق غير مدلول عليه باللفظ وهو اعتق رقبة مثلا إنما دل على اتحاد عتق رقبه وكون الكافرة في حالة الاطلاق مجزئة
إنما جاء من تركيب العقل مع النقل لأنك تقول هذه الكافرة تجزىء لأنها رقبة والرقبة تجزي لقوله اعتق رقبة فكون الكافرة تجزي غير مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية المطلق عاما والمقيد غير المدلول عليه لفظا والمقيد وهو اعتق رقبة مؤمنة مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية
الثاني ان يكون كل واحد من المطلق والمقيد نهيا نحو ان تقول لا تعتق رقبة ثم تقول مرة أخرى لا تعتق رقبة كافرة فمن يقول بمفهوم الخطاب يلزمه ان يخصص النهي العام بالكافرة لأن النهي الثاني عنده يدل على أجزاء من ليست كافرة
ولقائل ان يقول وجود المطلق والمقيد في جانب النهي والنفي يصير المطلق عاما والمقيد خاصا لأن ذلك نكرة في سياق النفي فلا يتصوران في هذين الجانبين
الثالث أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا والمقيد نهيا نحو ان تقول اعتق رقبة كافرة ثم تقول لا تعتق رقبة او بالعكس نحو لا تعتق رقبة ثم تقول اعتق رقبة مؤمنة ففي هاتين الصورتين يوجب المقيد تقييد المطلق بضده بلا خلاف
الرابع ان يكون كل واحد منهما أمرا ولكن السبب مختلف نحو قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة وقوله في كفارة القتل فتحرير رقبة مؤمنة فها هنا اختلفوا على ثلاثة مذاهب
أحدها ان يحمل عليه من غير حاجة الى دليل آخر فان تقييد أحدها يوجب تقييد الآخر لفظا وبه قال بعض أصحابنا قال امام الحرمين واقرب طريق لهؤلاء ان كلام الله تعالى في حكم الخطاب وحق الخطاب الواحد ان يترتب المطلق فيه على المقيد قال وهذا من فنون الهذيان فان قضايا الألفاظ في

كتاب الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعليق والإختصاص ولبعضها حكم الإستفلال والإنقطاع
فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد أدعى أمرا عظيما ولا يعني في مثل ذلك الإشارة الا اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين في الألفاظ وقضايا الصيغ وهي مختلفة لامراء في اختلافها فسقط هذا الكلام
والمذهب الثاني وعليه الحنفية انه لا يجوز الحمل عليه بحال لأن ذلك الدليل ان كان دون المطلق في القوة لم يصلح لنسخه وان كان مثله فمن علم شرط النسخ كان نسخا له وإلا كان تعارضا فهو غير محمول على المقيد بحال
والثالث وهو قول الشافعي وجمهور الأصحاب أنه إن وجد قياس وكان دليل يقتضي تقييده قيد وإلا فلا وهذا ما جزم به في الكتاب
الرابع ان يكون كل واحد منهما نهيا والسبب مختلف نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار مثلا ثم نقول لا تعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل فالقائل بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد ان وجد دليل تخصيص النهي العام بالكافرة ان وجد دليل
الخامس ان يكون احدهما أمرا والآخر نهيا والسبب مختلف وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا نحو اعتق رقبة في كفارة الظهار والمفيد نهيا نحو لا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل او بالعكس نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار ثم يقول اعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل وحكمهما واحد ولا يخفي عليك مما سبق وقد ذكر المصنف ما إذا اتحد السبب وما إذا اختلف
ولا يعسر عليك فهم كلامه بعد الصفو الى ما ألقيته لك من الشرع ومما أهمله المصنف ما إذا أطلق الحكم في موضع ثم قيد في موضعين بقيدين متضادين فمن زعم إن التقييد باللفظ قال ببقاء المطلق على إطلاقه إذ ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد بالقياس حمله على ما كان حمله

عليه أولا وقد مثل لذلك بقوله صلى الله عليه و سلم في الغسلات من ولوغ الكلب إحداهن بالتراب وفي رواية أولاهن وفي رواية فعفروه الثامنة فلا يحمل على إحدى الروايتين دون الأخرى للترجيح من غير مرجح ان القياس هنا متعذر بل يرجح الى أصل الإطلاق ونقول يجوز التغفير في كل واحدة من المرات عملا برواية إحداهن المطلقة هكذا ذكروه وبه أجاب الشيخ أبو العباس القرافي عن الاعتراض وأورده بعض قضاة الحنفية على الشافعية بان قاعدتهم حمل المطلق على المقيد فكان ينبغي او يوجبوا أولاهن لورود إحداهن وأولاهن فأجابه القرافي بأنه قد عارض رواية أولاهن رواية أخراهن يريد بذلك فعفروه الثامنة فيرجع الى اصل الإطلاق
قال بعض المتأخرين وعلى هذا ينبغي الوجوب في الأولى والثامنة يخير فيها واعلم ان هذا هو الذي نص عليه الشافعي في الأم فقال ما نصه وإذا غسلهن سبع مرات جعل أولاهن ترابا لا يطهر الا بذلك انتهى
وفي مختصر البويطي فقال في أثناء باب غسل الجمعة وهو بعد باب التيمم كيف هو وقبل كتاب الصلاة ما نصه وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب لا يطهر غير ذلك
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والخنزير قياسا عليه يغسل سبعا انتهى وهو في غاية الغرابة وعليه جرى المرعشي من أصحابنا في كتابه ترتيب الأقسام وعبارته ما أصاب الكلب أو بعضو من أعضاءه من الماء القليل نجسه ولم يطهر الإناء إلا ان يغسل سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب لكن في هذا البحث نظر ذكره والدي وهو انه إنما ينبغي حينئذ ان يوجب كليهما الاولى والأخيرة لورود الحديث فيهما ولا تنافي في الجمع بينهما اللهم إلا ان يراد بالثامنة ثامنة العدد لا الأخيرة فإنه حينئذ يكون مطلقا كإحداهن ويكون رواية إحداهن والثامنة واحدة ومعنى رواية أولاهن فيعود اصل السؤال ويناظر هذا السؤال سؤالان آخران
أحدهما أن أبا حنيفة قال لا يجري التخالف بين المتبايعين الا إذا كانت السلعة قائمة أما إذا كانت تالفة فالقول قول المشتري والشافعي رضي

الله عنه قال إذا اختلف المتبايعان تحالفا سواء كانت السلعة قائمة او تالفة مع انه روى انه صلى الله عليه و سلم قال إذا اختلف المتبايعان تحالفا وروي انه صلى الله عليه و سلم قال إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا فلم لا حمل مطلق على المقيد مع إعادة القاعدة
والثاني إن في كتاب فريضة الصدقة في فريضة الإبل فان زادت على عشرين ومائة وهو المطلق في الزيادة وجاء مقيدا في حديث ابن عمر فإن زادت واحدة فلا ينبغي ان يجب في مائة وعشرين وبعض واحدة الى ما يجب في مائة وعشرين فقط والجواب عن الأول من وجوه
أحدها أنه روى من حديث أبي وائل عن عبد الله ان النبي صلى عليه وسلم قال إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع رواه الدارقطني والخصوم رووا ان النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع فإن استهلك فالقول قول المشتري
وهذا يوافق الحديث المفيد بكون السلعة قائمة وهما قيدان متضادان فرجعنا الى اصل الإطلاق ثم ان هذا الحديث يقتضي عدم جريان التحالف مطلقا وهم لا يقولون به ثم انه يرويه الحسن بن عمارة وهو متروك رديء الحفظ
والثاني أن الحديث المشتمل على التقييد بكون السلعة قائمة يرويه القاسم ابن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يلقه فيكون مرسلا ونحن لا نقول بالمراسيل والحق ان الحديث الذي رواه من التقييد بقيام السلعة ضعيف والذي رويناه من التقييد بهلاكها ضعيف ايضا ولا حاجة الى التطويل في بيان ذلك
وضعف التقييدين يكفي في الرجوع الى اصل الإطلاق وقول الغزالي في المآخذ فيما يرويه أصحابنا من التقييد بالهلاك أجمع أهل الحديث على صحته باطل نبهنا عليه لئلا يقع الاغترار به

والثالث أن التنصيص على قيام السلعة إنما كان تنبيها على حالة تلفها لأنه إذا كان التحالف ثابتا عند حالة قيام السلعة مع انه يمكن الاستظهار بالرجوع الى القيمة وتعرف صفاتها فلأن يتحالفا مع تلفها ولا يمكن الرجوع الى صفاتها أولى وعن الثاني انه إنما يرد على الاصطخري من أصحابنا القائل بأنه يجب ثلاث بنات لبون فيما إذا زادت بعض واحدة والصحيح انه إنما تجب حقتان وفاء بحمل المطلق على المقيد فاندفع السؤال

الباب الرابع
في المجمل و المبين
وفيه فصول الأول في المجمل وفيه مسائل المجمل مأخوذ من الجمل بفتح الجيم واسكان الميم وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام لعن الله اليهود حرم الله عليهم شحوم الميتة فجملوها أي خلطوها وباعوها فأكلوا ثمنها فسمي اللفظ مجملا لاختلاط المراد بغيره والمبين بفتح الياء أخر الحروف في البيان يقال لفظ مبين وإذا كان نصا في معناه بمعنى ان واضعه ومستعمله وصلابه الى نهاية البيان فهو مبين وإذا كان اللفظ مجملا ثم بين يقال له مبين وبينت الشيء بيانا أي أوضحته ايضاحا وأما تعريفه اصطلاحا فقد سبق في تقسيم الألفاظ
قال الأول اللفظ أما ان يكون مجملا بين حقائقه كقوله تعالى ثلاثة قروء او افراد حقيقة مثل ان تذبحوا بقرة او مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت فإن ترجح واحد لأنه اقرب الى الحقيقة كنفي الصحة من قوله لا صلاة لا صيام او لأنه اظهر عرفا وأعظم مقصودا كرفع الحرج وتحريم الأكل من رفع عن امتي الخطأ والنسيان وحرمت عليكم الميتة حمل عليه
اللفظ المجمل إما ان يكون مجملا بالنسبة الى خصائصه ان كان ذا حقائق أولا والأول هو المشترك كقوله تعالى ثلاثة قروء فإنه مجمل بالنسبة الى حقيقته اعني الطهر والحيض عند من يقول ان القرء موضوع لهما وضعا أوليا وهو الصحيح

والثاني إما ان يكون بالنسبة الى افراد حقيقة واحدة أولا والأول مثل قوله تعالى ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها افراد والمراد واحد منها معين على كلام فيه سيأتي ان شاء الله في الفصل الثاني هذا
والثاني ان يكون الإجمال في الخارج عما وضع له اللفظ وإنما يكون ذلك بأن تنتفي الحقيقة أي يظهر إرادة عدمها وتتكافأ مجازاتها أي تتساوى وأما إذا ترجح أحد المجازاة فيتعين العمل به ولا يكون اللفظ مجملا وللترجيح أسباب ذكرها في الكتاب
أحدها ان يكون اقرب الى الحقيقة من المجاز الآخر كقوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة الا بطهور
وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وقوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام قبل الفجر وهذا الحديث لفظه هكذا غير معروف ولكن رواه عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن حفصة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له
وهذا إسناد صحيح قال الحاكم أبو عبد الله على شرط البخاري فحقيقة هذين الخبرين نفي الصلاة عند عدم الطهارة وذات الصوم عند عدم النية المبيتة
وهذه الحقيقة غير مرادة لأنا نشاهد الذات قد يقع بدون هذين الشرطين فتعين الحمل على المجاز وهو إضمار الصحة والكمال وإضمار الصحة ارجح لكونه اقرب الى الحقيقة لأن نفي الذات يستلزم كل الصفات ونفي الصحة اقرب بهذا المعنى إذ لا يبقى البتة بخلاف نفي الكمال فان الصحة تبقى معه وهي وصف

ولك ان تقول ما ذكرتموه في هذين الحديثين منقدح إذا قلنا ان الصحة والفساد مما يعتوران الماهية الجعلية أما إذا قلنا الفساد يزيل اسمها فنفي الحقيقة موجود
الثاني ان يكون أحد المجازيين أظهر عرفا أشهر كقوله صلى الله عليه و سلم رفع عن امتي الخطأ والنسيان فإن ظاهره رفع نفس الحرج ونفس النسيان وليس بمراد فتعيين حمله على المجاز بإضمار الحكم أي حكم الخطأ والنسيان والحرج يعني الإثم أي اثمهما والحمل على الإثم اظهر من جهة العرف لتبادره الى الذهن من قول السيد لعبده رفعت عنك الخطأ والنسيان ولأنه لو قال ذلك ثم اخذ يعاقبه على ما اخطأ فيه أو نسيه عد مناقضا
واعلم ان الحديث الذي أورده المصنف رواه الحافظ أبو القاسم التيمي من حديث ابن عباس وروى ابن ماجه معناه وصححه ابن حبان وقال احمد لا يثبت
والثالث ان يكون اعظم مقصودا من غيره كقوله تعالى حرمت عليك الميتة وقوله عليه السلام في البحر الحل ميتته فان حقيقة اللفظ إضافة الحرمة والحل الى نفس العين كما ذهب إليه الكرخي وهو عندنا باطل لأن الأحكام عندنا إنما تتعلق بالأفعال المقدورة للمكلف وليست العين كذلك فلا تتعلق بها حل ولا حرمة فيتعين المجاز بالإضمار فيضمر أما الأكل أو البيع أو نحوهما والأكل أولى لأنه اعظم المقصود من تلك الأشياء عرفا فيحمل اللفظ عليه
وقد ذهب جماعة من الأصوليين الى دعوى الإجمال في الأمثلة المذكورة متمسكين بأن الحقيقة غير مرادة والمجازات متعددة فلا يضمر الجميع لأن الضرورة تندفع بالبعض وليس بعضها من بعض فيترجح الإجمال والجواب لنا نضمر البعض ولا نسلم عدد الأولوية فإن بعضها ارجح وأولى لما تقدم
واعلم ان المجمل ليس منحصرا فيما ذكره بل بقيت أشياء أهملها
أحدها الإجمال العارض للفظ بواسطة الإعلال كالمختار فإنه صالح لاسم الفاعل واسم المفعول

والثاني بواسطة جمع الصفات واردافها بما يصلح ان يرجع الى كلها او الى بعضها نحو قولك زيد طبيب أديب ماهر فقولك ماهر يصلح ان يكون راجعا الى الكل او الى البعض فقط وذلك البعض يصح ان يكون هو الأخير أو غيره
الثالث المجمل بواسطة الاستثناء المجهول كما تقدم في العام إذا خص بمجهول كما في قوله تعالى الا ما يتلى عليك
والرابع المجمل بواسطة التركيب كقوله تعالى او يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإن من بيده العقدة يحتمل ان يكون هو الزوج او الولي
ولذلك اختلف العلماء فيه فأخذ بالأول الشافعي وبالثاني مالك رحمهما الله
والخامس المجمل بسبب التردد في عود الضمير الى ما تقدمه كقولك كلمة علمه الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود الى الفقيه والى معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفا حتى انه قيل بعوده الى الفقيه كان معناه فالفقيه كمعلومه وان عاد الى معلومه كان المعنى فمعلومه على الوجه الذي علم
والسادس المجمل بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وبين جمع الصفات نظرا إلى اللفظ وان كان احدهما يتعين بدليل من خارج وذلك نحو قولك الثلاثة زوج وفرد فإنه بالنظر الى دلالة اللفظ لا يتعين احدهما وبالنظر الى صدق القائل يتعين ان يكون المراد منه جمع الأجزاء فإن حمله على جميع الصفات او على جمعها يوجب كذبه
والسابع الإجمال بسبب الوقف والإبتداء كما في قوله تعالى وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون فالواو في قوله والراسخون مترددة بين العطف والإبتداء ويختلف المعنى بذلك
الثامن الإجمال بصلاحية اللفظ المتشابهين بوجه كالنور للعول ونور الشمس

التاسع بصلاحية للمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو قال الغزالي وقد يكون موضوعا لهما من غير تقدم وتأخر وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر والأم إنما وضعت للوالدة وهذا كله في الإجمال في اللفظ والمصنف جعل اللفظ مورد التقسيم فأفهم بذلك أن الإجمال لا يكون في الفعل وليس بجيد بل قد يكون فيه فوائد
الأولى لتصحيح جواز المجمل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والدليل عليه ما تكونا من الآيات وفي مسألة ورود المشترك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم
الثاني اختلفوا في جواز إبقاء الإجمال بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم واختار امام الحرمين في البرهان في أثناء بحث ان كل ما يثبت التكليف في العلم به فيسجل استمرار الإجمال وما لا يتعلق به تكليف لا يستحيل ذلك فيه ولا يبعد
والثالثة لقائل ان يقول يجوز التمسك بعموم أحلت لكم بهيمة الأنعام إذا الاستثناء وقع بقوله الا ما يتلى عليكم والتقدير فإنه ليس بحلال وعدم الحل لا يوجب الحرمة فيبقى على البراءة الأصلية ولا يقال هذا استثناء مجهول فيصير الباقي من العام مجملا لأنه يكون كذلك ان لو حرم ما يتلى علينا والله اعلم
قال الثانية قالت الحنفية وامسحوا برؤوسكم مجمل وقالت المالكية يقتضي الكل والحق انه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم دفعا للاشتراك والمجاز
ذهبت الحنفية او بعضهم كما في المحصول جميع الرأس لأن قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا قام الاحتمال ثبت الإجمال في الآية ثم افترقوا فرقتين فقالت المالكية يقتضي مسح لأن الرأس حقيقة في جميعها والباء دخلت للالصاق وقالت طائفة إنها

حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين الرأس وبعضها لأنها تأتي تارة لمسح الكل وتارة للبعض كما تقول مسحت برأس اليتيم ولم يمسح منها الا البعض قد جعلناه حقيقة فيهما لزم الاشتراك او في احدهما لزم المجاز في الآخر فنجعله حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز الذين هما على خلاف الأصل
ونقل الإمام هذا المذهب عن الشافعي قال المصنف هنا وهو الحق والذي جزم به في تغيير الحروف تبعا للإمام أنها للتبعيض تفيد مسح بعض الرأس وهو المحكي عن بعض الشافعية
قال الثالثة قيل آية السرقة مجملة لأن اليد تحتمل الكل والبعض والقطع الشق والإبانة والحق ان اليد للكل وتذكر للبعض مجازا والقطع والإبانة والشق إبانة
قال بعضهم آية السرقة يعنى قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما مجملة في اليد والقطع أما اليد فلأنها تطلق على العضو من اصل المنكب وعليه من الكوع وعليه من أصول الأناملة وإذا أطلقت على الكل والبعض ولم يعلم المراد فتكون مجملة واما القطع فلأنه قد يراد به الشق أي الجرح فقط كما يقال برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة
وقال الجمهور لا إجمال فيها بل حقيقة اليد للكل وهو العضو من المنكب وانما يذكر للبعض مجازا ولهذا يصح ما قطعت يده بل بعضها وحقيقة القطع الإبانة والشق إبانة ايضا لأن فيه إبانة لأجزاء اللحم بعضها عن بعض فيكون موضوعا للقدر المشترك بينهما وهو مطلق الإبانة واما لفظ السارق والسارقة للإجمال فيه وذلك متفق عليه

الباب الرابع
في المبين
وهو الواضح بنفسه أو بعين مثل والله بكل شيء عليم واسأل القرية وذلك الغير يسمى مبينا
المبين بفتح الباء هو ما اتضحت دلالته بالنسبة الى معناه وهو على قسمين
احدهما الواضح بنفسه وهو الكافي في إفادة معناه وذلك إما لأمر راجع الى اللغة مثل قوله تعالى والله بكل شيء عليم أو بالعقل مثل قوله واسأل القرية فإن حقيقة هذا اللفظ طلب السؤال من الجدران لكن العقل صرفنا عن ذلك وقضى بان المراد به الأهل وهذا على كلام في القرية تقدم في المجاز بالنقصان هذا ما ذكره المصنف في الواضح بنفسه وأهمل ما يكون بسبب القليل وهو ضربان
احدهما ان يكون الحكم في المسكوت عنه أولى
وثانيهما كما في قوله عليه السلام إنها من الطوافين عليكم والطوافات وأهمل مما لا يكون تعليلا ان الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به

الثاني الواضح بغيره وهو ما يتوقف فهم المعنى منه على انضمام غيره إليه وذلك الغير أي الدليل الذي حصل به البيان يسمى مبينا بكسر الياء وله أقسام تأتي ان شاء الله تعالى على الأثر بأمثلتها
تنبيهات أحدها اطلاق المبين بفتح الباء على الواضح بنفسه صحيح لأن المتكلم أوضحه حيث لم يأت بحمل نبه عليه الجار بردى
الثاني جعل العبري والجار بردى والاسفرايني وغيرهم من الشارحين قوله واسأل القرية مثالا للواضح بغيره وهو وهم لأنه قسم ذلك الغير في المسألة الآتية الى القول والفعل وظاهر كلامه حصره فيهما فلو كان هذا من أقسامه لم ينحصر في ذينك القسمين إذا المبين فيه ليس الى العقل وهو غير القول والفعل والذي حملهم على ذلك أنهم لما رأوه قد مر قوله وبغيره فوهموا انه من باب اللف والنشر كذلك
قال وفيه مسائل الأولى انه يكون قولا من الله والرسول وفعلا منه كقوله تعالى صفراء فاقع وقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وصلاته وحجه فإنه دل فإن اجتمعا وتوافقا فالسابق وان اختلفا فالقول لأنه يدل بنفسه
المبين بكسر الياء قد يكون بالقول وذلك بالإتفاق وقد يكون بالفعل وخالف في ذلك شرذمة قليلون والقول إما ان يكون من الله تعالى كقوله صفراء فاقع لونها تسر الناظرين فإنه مبين لقوله ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة وهذا المثال جار على المشهور من ان البقرة المأمور بذبحها كانت معينة في نفس الأمر وقد حكى ابن عباس خلاف ذلك وانه قال لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأهم ذلك ولكنهم شددوا فسألوا فشدد الله عليهم
وأما ان يكون من الرسول صلى الله عليه و سلم كقوله فيما سقت السماء وكان عشريا العشر وما سقى بالنضج نصف العشر رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه ولمسلم عن جابر نحوه وهو مبين لقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده واستفدنا من هذا المثال ان السنة تبين مجمل الكتاب وهو الصحيح والفعل لا يكون إلا من الرسول صلى الله عليه و سلم وذلك كصلاته فإنها مبينة لقوله تعالى أقيموا

الصلاة بواسطة قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني اصلي وكحجه فإنه مبين لقوله تعالى ولله على الناس حج البيت بواسطة قوله عليه السلام خذوا عني مناسككم قوله فإنه أدل أي علة جواز البيان بالفعل أنه أدل من القول على المقصود لأن فيه مشاهدة ومن الأمثال ليس الخبر كالمعاينة وهو مروي رواه احمد ابن محمد الملجمي وهو ضعيف عن علي بن الجعد عن شعبه عن قتادة عن انس ان النبي صلى الله عليه و سلم قاله ورواه احمد بن حنبل من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث انس والخطيب في التاريخ من وجه آخره موضوع
تنبيه الترك منه عليه السلام كالفعل وذلك كتركه التشهد الأول بعد فعله إياه يبين انه غير واجب وإنما لم يذكر المصنف الترك لدخوله في قسم الفعل على الرأي المرتضى قوله فإن ثبت انه يجوز البيان بكل واحد من القول والفعل فورد بعد المجمل قول وفعل وكل منهما صالح لبيانه فبماذا يكون البيان الحق التفصيل وهو انهما ان اتفقا في غرض البيان وعلم ان احدهما سابق فهو المبين قولا كان أم فعلا ويكون الثاني تأكيدا له وان لم يعلم فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقتضي بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والتأكيد بالثاني وهذا القسم أهمله في الكتاب لوضوحه وحكم القسمين في الحقيقة واحد بالنسبة الى نفس الأمر وإن اختلفا كما روي انه صلى الله عليه و سلم أمر بعد نزول آية الحج في القرآن بطواف واحد وروي انه طاف قارنا طوافين فالمختار عند الجمهور منهم الإمام وأتباعه وابن الحاجب ان المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا أو يحمل الفعل على الندب أو على الواجب المختص به صلى الله عليه و سلم وذلك لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل الا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أدل وقال أبو الحسين المتقدم هو البيان
فائدة قد ذكر المصنف هنا ان الفعل أدل من القول وان القول يدل بنفسه يعني فيكون أدل وظاهر هذا التنافي بين الكلمتين والتحقيق ان الفعل أدل على الكيفية والقول أدل على الحكم ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول

لأن فيه المشاهدة واستفادة وقوعها على جهة معينة من واجب أو ندب وغيرهما بالقول أقوى وأوضح من الفعل لصراحته
قال الثانية لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق ويجوز عن وقت الخطاب ومنعت المعتزلة وجوز البصري ومنا القفال والدقاق وأبو اسحاق بالبيان الإجمالي فيما عدا المشترك
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول في تأخير البيان عن وقت الحاجة والثاني في تأخير وقت الخطاب
أما الأول فاعلم لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الحاجة عن وقت الحاجة أي الوقت الذي قام الدليل على إيقاع العمل بالمجمل فيه على التضييق من غير فسحة في التأخير لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع والتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق وقد نقل القاضي في مختصر التقريب إجماع أرباب الشرائع على ذلك ولقائل ان يقول التكليف بالمحال جائز عند المصنف فكان ينبغي ان يفعل الإمام فيقول إنا منعنا التكليف بما لا يطاق فلا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة والإيجاد لكن لا يقع لأن التكليف بالمحال غير واقع واخصر من هذا أن يقول لا يقع تأخير للبيان عن وقت الحاجة
وأما الثاني وهو تأخيره عن وقت الخطاب الى وقت الحاجة فيقدم عليه أن الخطاب المحتاج الى البيان ضربان
احدهما ما له ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير بيان التخصيص وتأخير بيان النسخ وتأخير بيان الأسماء الشرعية إذا استعملت في المسميات الشرعية كالصلاة إذا أريد بها الدعاء ونحو ذلك بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين
والثاني ما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة إذا عرفت هذا فنقول في جواز تأخيره عن وقت الخطاب مذاهب
احدهما يجوز في جميع هذه الأقسام واليه ذهب اكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي نفسه واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب

والثاني وإليه ذهب اكثر متقدمي المعتزلة انه لا يجوز الا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير بيانه كذا استثناه الإمام وهو مأخوذ من الغزالي فإنه ادعى الاتفاق على انه يجوز تأخير بيان النسخ قال بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز ان يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط ان لا يرد نسخ وما ادعاه الغزالي ادعاه ابن برهان في الوجيز ايضا
وهذا الكلام من الغزالي مأخوذ من امام الحرمين فإنه قال ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول قال وليس لهم عن هذا جواب والقاضي في مختصر التقريب ذكر ذلك ايضا فقال ومما إستدل به أصحابنا ان قالوا النسخ تخصيص في الزمان والتخصيص في الأعيان ثم يجوز ان ترد اللفظة مغلقة في الأزمان والمراد بعضها فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان قال القاضي ولا يستقيم هنا الاستدلال بذلك فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عند معظم المحققين من أصحابي وإنما هو رفع والمصنف أهمل إستثناء النسخ وكذا الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وابن برهان في الوجيز والغزالي الا انه نقل الاتفاق على النسخ بعد ذلك
كما عرفت ولعل من أطلق القول ترك الاستثناء اكتفاء بالعلم بالاتفاق على النسخ وانه خارج عن صور النزاع الا ان كلام جماعة يقتضي ان النزاع في النسخ موجود والذي يظهر من جهة النقل ان النزاع فيه موجود ولكن ليس من القائلين بامتناع تأخير البيان كلهم من بعضهم
والثالث ان المجمل ان لم يكن له ظاهر كالمشترك قال الإمام والأسماء المتواطئة جاز تأخير بيانه لأنه لا يلزم محذور من تأخيره وان كان له ظاهر جاز تأخير البيان التفصيلي دون الإجمالي فانه يشترط وجوده عند الخطاب حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ فنقول مثلا المراد من هذا العام هو الخاص أو بالمطلق المقيد أو بالنكرة المعين
قال الإمام والآمدي ان هذا الحكم ينسخ وهذا يدل على ان النسخ من

محل الخلاف وأما البيان التفصيلي وهو تشخيص بكذا مثلا فليس بشرط وقد نقل المصنف تبعا للإمام هذا المذهب عن أبي الحسين البصري من المعتزلة والدقاق والقفال وأبي اسحاق فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح وأما الدقاق فقد نقل عنه الأستاذ أبو اسحاق في أصوله موافقة المعتزلة وأما القفال فالظاهر أن المراد الشاشي وفي النقل عنه نظر فقد نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وغيرهما موافقة سائر الأصحاب على المذاهب المختار وأما أبو اسحاق فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام ففي النقل نظر إذ نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والغزالي والآمدي القول بمذهب المعتزلة وان كان مراد المصنف الشرازي فالنقل أيضا ليس بجيد لأنه قد صرح في شرح اللمع الجواز مطلقا وكذلك الأستاذ لا يصح ان يكون هو المراد لتصريحه في كتابه بموافقة الأصحاب وقد اقتصر في الكتاب تبعا للإمام على حكاية هذه المذاهب
والرابع انه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره كتخصيص العموم
والخامس يجوز التأخير في الأمر وكذا النهي كما قاله القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والإمام أو الظفر بن السمعاني وغيرهم ولا يجوز في الخبر قال ابن السمعاني قال الماوردي ولم يقل بهذا القول أحد من أصحاب الشافعي
والسادس عكسه يجوز في الخبر ولا يجوز في الامر والنهي حكاه الشيخ أبو اسحاق
والسابع واليه ذهب الجبائي ونقله الآمدي عن عبد الجبار يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره وبحكاية هذا المذهب يعلم ان النسخ من محل الخلاف وابن برهان حكى عن عبد الجبار تجويز تأخير التخصيص دون المجمل والقرافي قال قد يجمع بين هذا وبين من نقل الاتفاق ان لا نفاق إنما هو على جواز تأخير البيان التفصيلي والخلاف في الإجمال قال وكذلك حكاه صاحب العمد في المعتمد
فائدتان إحداهما قال الأستاذ في كتابه هذه العبارة مزيفة يعنى تأخير البيان

الى وقت الحاجة قيل وهي لائقة بمذهب المعتزلة دون مذهبنا لأن عندهم المؤمنون بهم حاجة الى التكليف نحو العبادات لينالوا بها الدرجات الرفيعة ويستحقونها على طريق المعارضة وعندنا للباري تعالى ينزل المؤمنين الجنة فضلا ويدخل الكافرين النار
عدلا فالعبادة الصحيحة على مذهبنا ان نقول تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب والى وقت وجوب الفعل
الثانية نقل الجماهير عن أبي بكر الصيرفي موافقة المعتزلة على المنع من تأخير البيان مطلقا قال الأستاذ في كتابه وهذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما فنزل به أبو الحسن الأشعري ضيفا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة ورجع الى مذهب الشافعي وسائر المتسننة
قلنا لنا مطلقا قوله تعالى ثم ان علينا بيانه قيل البيان التفصيلي قلنا تقييد بلا دليل وخصوصا ان المراد من قوله ان تذبحوا بقرة معينة بدليل ما هي ما لونها والبيان تأخير قيل يوجب التأخير عن وقت الحاجة قلنا الأمر لا يوجب الفور قيل لو كانت معينة لما عنفهم قلنا للتواني بعد البيان وانه تعالى انزل إنكم وما تعبدون فنقض ابن الزبعري بالملائكة والمسيح فنزل ان الذين سبقت الآية قبل ما لا تتناولهم وان سلم لكن خصوا بالفعل واجيب بقوله والسماء وما بناها وان عدم رضاهم لا يعرف الا بالنقل
احتج على المذهب المختار بأدلة ثلاثة أولها مطلق أي يدل على جواز التأخير مطلقا والآخران مقيدان احدهما يدل على جواز التأخير في صورة النكرة والآخر في صورة العام الدليل الأول الدال على جواز التأخير مطلقا قوله تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم ان علينا بيانه وثم في اللغة للتراخي أي والله أعلم علينا بيانه بعد القراءة وقوله مطلقا عبارة ركيكة وليس المراد حقيقة المطلق بل انه عام يتطلق على الصور ولو قال يدل مطلقا عموما لكان احسن لا سيما وقد قال بعد ذلك خصوصا

واعترض أبو الحسين ومن وافقه بأن المراد البيان التفصيلي دون الإجمالي وأجاب المصنف بأن هذا تقييد بلا دليل ولقائل ان يقول قوله بيانه مفرد مضاف فيعم البيانين الإجمالي والتفصيلي وحينئذ فليس القول بان المراد البيان التفصيلي تقييدا بلا دليل بل تقييدا على خلاف الدليل وفرق بين كون الشيء على خلافه وبين كونه بلا دليل أي لم يدل عليه دليل وهذا الجواب احسن من جواب المصنف وبه ضعف ضعف قوله الآمدي البيان يراد به الإظهار لغة تقول تبين الحق وتبين الكوكب معنى الآية ان علينا بيانه للخلق وإظهاره فيهم واشتهاره في الآفاق فلا يكون فيها حجة على صورة النزاع لأنا نقول البيان من حيث تعميمه بالإضافة كل ما يصدق عليه انه بيان قوله وخصوصا هذا معطوف على قوله مطلقا
وقد قلنا انه يظهر به ان مراده بالمطلق العام لأن الخصوص إنما يقابله العموم ولو أراد الاطلاق لقال وتقييدا وهذا الدليل هو الثاني المختص بالنكرة اعني الدال على جواز تأخير البيان في النكرة وتقريره ان شاء الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة في قوله تعالى ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة وأراد معينة بدليل سؤالهم عن صفتها ولونها في قوله ادع لنا ربك الى آخر الآيات ثم لم يبينها لهم حتى سألوا هذه السؤالات فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين
أحدهما ان بني إسرائيل أمروا بالذبح وقت الخطاب فكانوا محتاجين الى البيان في ذلك الوقت فتأخيره عن ذلك الوقت تأخير عن وقت الحاجة وهو ممتنع
قال الخصم فحاصل الأمر انك لم تفعل بما تقتضيه الآية بل بما لا تقتضيه أجاب بأن الأمر لا يوجب الفور كما سبق فإن قلت هذا الجواب مبني على ان الأمر لا يقتضي الفور فلا يعم المذاهب بل يختص بمن يرى رأي المصنف ثم ان الامر بذلك إنما وقع للفصل بين الخصمين اللذين تنازعا في القتل والفصل واجب على الفور

قلت أجاب القرافي بأن الآية إذا دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب لأن كل من قال بجواز الأول قال بجواز الثاني من غير عكس
ولأنه إذا ثبت في الأول ثبت في الثاني بطريق أولى وأما قول القرافي هنا انا لم نقل بما تقتضيه الآية بل قلنا به وهذا الصحيح من مذهبنا بناء على تجويز بما لا يطاق فضعيف لأنه عندنا غير واقع الكلام إنما هو في هذا الواقع
والثاني إنما ذكرتم وان دل على ان البقرة كانت معينة لكن عندنا ما يدل على أنها لم تكن معينة وبسببه يمنع كونها معينة وهو أنها لو كانت معينة لما عنفهم على السؤال عنها لكنه عنفهم بقوله فذبحوها وما كادوا يفعلون ومما يدل على أنها لم تكن معينة ما سلف من كلام ابن عباس وهو قوله شددوا فشدد الله عليهم
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم انه عنفهم على السؤال وإنما عنفهم على التواني أي التقصير بعد البيان هذا هو الأقرب
واحتمال كون التعنيف على السؤال بعيد لأنه لو وجب المعينة بعد إيجاب خلافه لكان نسخا قبل الفعل وهو لا يجوز عند الخصم
قوله وأنه تعالى هو معطوف على قوله وخصوصا ان المراد تقديره ولنا خصوصا في النكرة كذا وفي جواز تأخير بيان التخصيص انه تعالى انزل وتقريره إن الله تعالى لما انزل قوله أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال عبد الله الزبعري قد عبدت الملائكة وعبد عيسى وليس هؤلاء من حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى نزل
قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فإن

قيل لا نسلم ان قوله وما تعبدون مندرج فيها الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين
احدهما ان لفظة ما تتناولهم لكونها مخصصة بمن لا يعقل فلا يتوجه نقض ابن الزبعري ولا يحتاج الى تخصيص قل كيف يمكن والتخصيص فرع الشمول ويدل على ذلك ما رواه الأصوليون في كتبهم من قوله صلى الله عليه و سلم لابن الزبعري حين قال ما قال ما أجهلك بلغة قومك أما علمت ان ما لمن لا يعقل ومن لمن يعقل
والثاني وهو المشار إليه بقوله في الكتاب ولو سلم انا سلمنا ان لفظة من تتناولهم لكن خص الملائكة والمسيح من هذه الآية بالعقل لا بقوله ان الذين سبقت لهم منا الحسنى وذلك التعذيب إنما يقع على جريمة وأي جريمة لهؤلاء بعبادة غيرهم إياهم وهذا الدليل العقلي كان حاضرا في عقولهم قبل نزول إن الذين سبقت
قلنا الجواب عن الأول انا لا نسلم ان صفة ما مختصة بغير العقلاء بل هي شاملة للجميع ويدل على ذلك إطلاقها على الله تعالى والسماء وما بناها
وكذلك قوله وما خلق الذكر والأنثى
وقوله ولا انتم عابدون ما اعبد وأنها تأتي بمعنى الذي لا اتفاقا وكلمة الذي تتناول العقلاء فكذلك صيغة ما والحديث المذكور من قوله صلى الله عليه و سلم ان ما مختصة بمن لا يعقل غير معروف لو ثبت لسمعنا واطعنا
وعن الثاني إن العقل إنما يجعل ترك تعذيبهم إذا علم بالعقل ايضا أنهم غير راضين بالعبادة لأنهم ان رضوا بالعبادة لكان ذلك الرضا موجبا للسخط وعدم رضاهم إنما علم بالنقل وهذان الجوابان ضعيفان أما الأول فما وجهين
احدهما ان المصنف قدم في باب العموم ان ما مختصة بما لا يعقل
وثانيهما ان ما في هذه الآيات مصدرية تقديره وخلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم عابدون عبادتي ذكره القرافي وأما قوله ترد بمعنى الذي فتتناول العقلاء كما يتناول الذي فساقط لأن الذي وضعت للقدر المشترك بين

العقلاء وغيرهم ولا نسلم أنها تقوم مقامها ان استعملت في غير العقلاء وما ذلك الا أول النزاع
واما الثاني فإنه غير مستقيم على مذهب من يقول عصمة ذوي العصمة ثابتة بالعقل وهم المعتزلة ولا على من يقول إنها ثابتة بالسمع لأنها قد اشتهرت وصار العقل يحيل عدمها وان كان الأصل في إحالة هذا العقل لذلك إنما هو السمع لأنا بالضرورة من العقول ندرك ان الملائكة وعيسى عليهم السلام غير راضين بعبادة هؤلاء إياهم
فائدة ابن الزبعري بكسر الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة من تحت بعدها وقد تكسر ايضا بعدها عين مهملة ساكنة ثم راء مهملة مفتوحة كان من اشد الناس على الإسلام وأكثرهم أذى بلسانه فحشا وهجاء وبنفسه مكايدة وعنادا ثم اسلم عام الفتح وحسن إسلامه وهذا المذكور عنه مشهور في كتب التفسير والسير وروى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك عن الحسن بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله
قوله لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها
قال فنزلت ان الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وهذا مسند صحيح لكن ليس فيه ذكر ابن الزبعري بخصوصه
قال قيل تأخير البيان أعز قلنا كذلك ما يوجب الظنون الكاذبة قيل كالخطاب بلغة لا تفهم قلنا هذا غرضا إجماليا بخلاف الأول
احتج أبو الحسن على اشتراط البيان الإجمالي فيما له ظاهر بأن العموم خطاب لنا في الحال اجماعا فالمخاطب إما أن لا يقصد إفهامنا في الحال وهو باطل لأنه إذا لم يقصد إفهامنا في الحال مع ان ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا

في الحال يكون قد أغوانا بأن نعتقد انه قصد إفهامنا في الحال فيكون قصد ان نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغواهم بأن يعتقدوا فيه انه يعني ما يفهمونه منه فثبت بطلانه
وإما ان يقصد وحينئذ فإما ان يريد ان نفهم ان المراد ظاهره فقد أراد منا الجهل وهو باطل أو غير مظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه وهو تكليف بالمحال وهذا التقرير على هذا الوجه هو الذي أورده الإمام وهو الصواب فاعتمده
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم ان ذلك ممتنع وقد ورد ما أوجب ظاهره الظنون الكاذبة فدل على الجواز أما وروده فكثير قال الله تعالى يد الله فوق أيديهم وقال الرحمن على العرش استوى وقال وجاء ربك فلو صح ما ذكرتم لزم ان يكون هذه الخطابات للإغواء لأنه أطلق وأراد خلاف الظاهر ومن ها هنا عميت بصائر الحشوية وصمموا على فساد عقد لو نشر الواحد منهم بالمباشر لم يكن ولم يرجع وهو معتقد لا يعود وباله الا عليه ولا يرجع نكاله الا إليه ولقائل ان يقول هذه الأشياء يحتويها براهين عقلية ترشد الى الصواب بخلاف تأخير البيان
واعلم ان ظاهر ايراد المصنف يفهم ان هذا الدليل الذي أجاب عنه دليل للمانع مطلقا وعلى ذلك قرره العبري والجار بردي وليس كذلك بل هو حجة أبي الحسين كما قلناه وبه صرح الإمام وكيف يتجه أن يكون حجة للمانع مطلقا والمشترك ليس فيه إيقاع في الجهل فإن نسبته عند عدم القرينة الى كل معانيه على السوية وقد تنبه الاسفرايني لهذا وذكر ما أوردناه واحتج من منع تأخير البيان عن وقت الخطاب مطلقا بأنه كالخطاب بلغة لا نفهم مثل خطابك العربي باللغة الزنجية والخطاب بلغة لا تفهم ممنوع
والجامع بينهما كون كل واحد منهما لا يفيد المقصود حالة الخطاب
وأجاب في الكتاب بالفرق وهو ان الخطاب بما لا يفهمه المخاطب لا يفيد

شيئا بخلاف الخطاب بالمشترك ونحوه فإنه يفهم غرضا إجماليا يستعد المكلف من اجله لما يراد منه فان قيل مثلا اعتدى بثلاثة أقراء أفاد ان المراد إما الإظهار أو الحيض وان العدة وجبت بأحدها
واما الخطاب بما لا يفهم فلا يفيد لا غرضا جماليا ولا تفصيليا وقد أجاب القاضي في مختصر التقريب ان النبي صلى الله عليه و سلم مبعوث الى العرب والعجم وكان ما يندر منه من الألفاظ العربية إلزاما للفريقين وفاقا وإذا شاع مخاطبة العجم بلغة العرب لم يبعد عكسه قلت وهذا حسن والتحقيق ان خطاب الغير اضراب
الأول ان يخاطب بما يفهمه هو لغيره وهو جائز اجماعا
والثاني عكسه وفيه الخلاف المتقدم في مسألة ان الله لا يخاطبنا بالمهمل
والثالث ان يفهمه المخاطب بفتح الطاء دون غيره فيجوز اتفاقا سواء تعلق بخاصة نفسه أم بغيره ويصير فيما إذا تعلق بغيره كالترجمان والمبلغ
والرابع ان يفهمه غيره ولا يفهمه هو وهذا هو الذي تكلم فيه القاضي ويظهر انه جائز اتفاقا لاطلاع المخاطب على مدلول الخطاب من غيره
والخامس ان يخاطب جميعا بلغة يفهمها بعضهم دون بعض وهذا أيضا لا نزاع في جوازه كيف والقرآن للعرب والعجم
قال تنبيه يجوز تأخير التبليغ الى وقت الحاجة وقوله تعالى بلغ لا يوجب الفور
الذين منعوا تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحي به الى النبي صلى الله عليه و سلم من الأحكام والجمهور على جوازه لأن امتناعه لا جائز ان يكون لذاته إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال ولا لأمر خارج إذ الأصل عدمه كيف ويحتمل ان يكون في التأخير مصلحة لا نعلمها نحن واحتج الممانع بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك والجواب ان الامر لا يقتضي الفور كما سبق قال الإمام والآمدي ولو سلمناه لكن المراد هو القرآن إذ

هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل قلت وفي الفرق بين تبليغ القرآن وغيره نظر وقد يقال قال المصنف في أول الفصل وفيه مسائل ولم يورد سوى اثنتين وهذا التنبيه هو الثالثة وليس بشرط ان تصدر المسألة بلفظ الثالثة أو انه ذكر في الثانية مسألتين تأخير البيان عن وقت الحاجة وعن وقت الخطاب والاشتغال بمثل هذا مما يضيع الوقت ولا تحصل فائدة
قال الفصل الثالث في المبين له إنما يجب البيان لمن أريد فهمه للعمل كالصلاة أو الفتوى كأحكام الحيض
يجب البيان لمن أريد فهمه لأن تكليفه بالفهم بدون البيان تكليف بالمحال ولا يجب بيانه لغيره إذا لا تعلق له به ثم إرادة الفهم قد تكون للعمل بما يضمه المجمل كآية الصلاة وقد تكون للإفتاء كآية الحيض فإن تفهيم المجتهدين ذلك إنما هو لإفتاء النساء به هذا ما ذكره المصنف تبعا للإمام والإمام تبعا فيه لأبي الحسين وفيه نظر من وجهين
احدهما اطلاق قوله يجب البيان لمن أريد فهمه يشعر بأنه يجب على الله تعالى وهذا إنما يقوله المعتزلة فهي عبارة ردية والأولى التعبير بأن البيان لمن أريد فهمه لا بد من وقوعه
والثاني ان فيه إشعارا بأنه لا يجب على النساء تحصيل العلم بما كلفن به وليس كذلك بل النساء والرجال سواء في ذلك

الباب الخامس
في الناسخ والمنسوخ
الفصل الأول في تعريف النسخ
قال الباب الخامس في الناسخ والمنسوخ وفيه فصلان الأول في النسخ وهو بيان حكم شرعي بطريق شرعي متراخ وقال القاضي برفع الحكم ورد بأن الحادث ضد السابق فليس رفعه بأولى من رفعه
النسخ في اللغة يطلق على الإزالة نسخت الريح اثر القدم أي إزالته وعلى النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته وهو المعنى بقوله تعالى انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ومنه المناسخات وهي انتقال المال من وارث الى وارث ثم قال القاضي والغزالي انه مشترك بينهما وقال أبو الحسين حقيقة في الإزالة وقال القفال حقيقة في النقل
واما في الإصطلاح فقال صاحب الكتاب هو بيان انتهاء حكم شرعي متراخ فقوله بيان جنس يدخل فيه المحدود وغيره وبإضافته الى الانتهاء حكم عقلي كالمباح الثابت بالبراءة الأصلية عند القائل به فإنه لو حرم فرد من تلك الأفراد لم يسم نسخا وقوله بطريق شرعي يحترز به عن الطريق العقلي كالموت فإنه إذا وقع تبين به انتهاء الحكم الشرعي ولا يسمى نسخا في الإصطلاح ولمن سقط رجلاه لا يقال نسخ عند غسل الرجلين
وما قاله الإمام في المخصصات من انه نسخ واه بلا ريب وقوله متراخ يخرج البيان المتصل بالحكم كالاستثناء والشرط والصفة وغير ذلك وقال

القاضي النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه هذه عبارته في مختصر التقريب وهو معنى قول المصنف وقال القاضي رفع الحكم فإن التشاجر بين التعريفين إنما هو في لفظ الرفع والبيان وقد وافق القاضي على هذا الشيخ أبو اسحاق الشيرازي والغزالي والآمدي وابن الحاجب ورد القاضي بأن الحكم الحادث ضد السابق وليس رفع الحادث للسابق بأولى من رفع السابق للحادث بل رفع السابق للحادث أولى
إذ الدفع أولى من الرفع فهذا الرد هو المذكور في الكتاب وقد أجاب عنه بأنه دفع الحادث للسابق أولى من العكس بدليل ان عند وجود التامة أو لعدم الشيء منافية لعدمه يحصل عدمه أو وجوده قطعا ولولا الأولوية لامتنع حصوله وقد أورد على القاضي غير ما ذكره المصنف من ساقط ومتماثل ولا نرى في التطويل بذكره كبير فائده
واعترض على التعريف الذي ارتضاه في الكتاب بوجوه
أحدها انه غير جامع لأن المنسوخ في الحقيقة إنما هو الحكم الثابت بالخبر لا نفس الخبر
والثاني انه غير مانع لأنه منطبق على قول الراوي هذا منسوخ مع انه ليس كذلك كما ستأتي ان شاء الله تعالى وفيه نظر لأن قول الراوي نسخ حكم كذا بيانا للانتهاء وإنما هو أخبار عن وجود ما زعم انه بيان الانتهاء
الثالث ان الأمة ان افترقت الى فرقتين جاز للعامي الأخذ بقول أي فرقة شاء ثم إذا اجمعوا على أحد القوانين تحتم عليه الأخذ بالمجمع عليه مع انه ليس بنسخ لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به قال وفيه مسائل
الاولى وانه واقع واحالته اليهود لنا ان تبع المصالح فيتغير بتغيرها وإلا فله ان يفعل ما يشاء وان نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ثبتت بالدليل القاطع وقد نقل قوله ما ننسخ من آية وان آدم عليه السلام زوج بناته من بنيه والآن محرم اتفاقا
اجمع المسلمون على جواز النسخ وذهبت فئة من المنتمين الى الإسلام منهم

أبو مسلم الأصفهاني الى منع النسخ هربا من البدء واعتقادا منهم ان النسخ يؤدي إليه واما لليهود لعنهم الله فمنهم من انكر جوازه عقلا ووقوعه شرعا ومنهم من انكر وقوعه فقط وذهبت العسوية منهم وهم أصحاب أبي عيسى الاصفهاني المعترفون بصحة نبوة نبينا عليه افضل الصلاة والسلام لكن الى بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب خاصة الى جوازه عقلا ووقوعه سمعا واعلم انه لا يحسن ذكر هؤلاء المبدعين في وفاق ولا خلاق ولكن السبب في تحمل المشقة بذكرهم التنبيه على انهم لم يخالفوا جميعا فى ذلك وإما من أنكره من المسلمين فهو معترف بمخالفة شرع من قبلنا لشرعنا في كثير من الأحكام ولكنه يقول ان الشرع من قبلنا كان مغيا الى غاية ظهوره عليه السلام وعند ظهوره صلى الله عليه و سلم زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية وليس ذلك من النسخ في شيء بل هو جار مجرى قوله ثم اتموا الصيام الى الليل وحينئذ لا يلزم من انكار نبوة صلى الله عليه و سلم وقد ذكر في الكتاب من أدلتنا على النسخ اوجها ثلاثة
الأول وهو دليل على الجواز فقط ان حكم الله تعالى أما أن يتبع المصالح كما هو رأي المعتزلة فيلزم ان يتغير بتغير المصالح فانا على قطع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأشخاص والأوقات والأحوال واما ان لا يتبع المصالح فله سبحانه وتعالى ان يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد
والثاني ان نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ثبتت بالبراهين القاطعة التي لا يقبلها شك ولا يدخلها ريب وقد نقل لنا عن الله تعالى أنه قال ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وصحة التمسك بالقرآن ان توقفت على صحة النسخ عاد الأمر الى نبوة محمد صلى الله عليه و سلم إنما تصح مع القول بالنسخ ونبوته صحيحة قطعا فدل على صحة النسخ وان لم يتوقف عليها صح الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ وفي هذا الاستدلال نظر ذكره الإمام في التفسير وتقريره ان ما ننسخ جملة شرطية معناها ان ننسخ وصدق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي وقوع احدهما ولا صحة وقوعه ومنه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا

وذكر القاضي في مختصر التقريب مع قوله تعالى ما ننسخ وان أبدلنا آية مكان آية وهذه الآية سالمة عن النظر الذي ذكره الإمام لأن إذا تدخل الإعلى المحقق وقوعه وذكر ايضا قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقال لهم على هذه الآيات أسئلة وتمويهات يسهل مدركها قلت ومن التمويهات في ذلك قول قائلهم اليهود لا تعتقد بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم فالاستدلال عليهم بذلك الاستدلال على الخصم بدليل لا يسلم مقدماته وهذا ساقط فان الخصم إنما لا يعترض عليه بما لا يعتقده إذا كان شبهة فيه واما ما لبس فيه كمشكك بل هو ثبات بثبوت المحسوسات بل يلتفت إلى عدم اعتقاده فيه
والثالث مما يدل على وقوع النسخ انه ورد في التوراة ان آدم عليه السلام كان مأمورا بتزويج بناته من بنيه وهو الآن محرم بالنسخ الا ذلك فإن قلت يجوز ان يكون هذا شرع لبني آدم أي غاية معلومة وهي ظهور شريعة أخرى ومثل هذا لا يكون نسخا قلت أمر آدم كان مطلقا وتقييده في علم الله لا ينافي النسخ فانه تعالى ان أمر بالفعل مطلقا فهو عالم بأنه سينسخه والوقت الذي فيه بنسخه فتقييده في علم الله تعالى لا يخرجه عن حقيقة النسخ ولقائل ان يقول تحريم ذلك في حقنا إنما يكون نسخا ان لو ثبتت الإباحة قبل ذلك وهي لم تثبت الا في حق بني آدم لصلبه وثبوتها في حق أولئك لا يوجب ثبوتها في حقنا وهي لم ترفع في حق أولئك فأين النسخ
قال قيل الفعل الواحد لا يحسن ويقبح قلنا مبنى فاسد ومع هذا فيحتمل ان يحسن لواحد أو في وقت ويقبح لآخر أو في آخر احتج مانعو النسخ بأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه والنهي عنه يقتضى قبحه فيلزم من وقوع النسخ اجتماع الضدين اعني الحسن والقبح وهو محال
أجاب أن هذا مبني على فاسد وهو قاعدة التحسن والتقبيح ومع هذا أي ولو سلمنا صحة تلك القاعدة فيحتمل ان يحسن لواحد ويقبح لآخر أو يحسن له

في وقت ويقبح عنده في وقت آخر وذلك لأن المصلحة كما تقدم تتغير بتغير الأوقات والأشخاص
قال الثانية يجوز نسخ بعض القرآن ومنع أبو مسلم الاصبهاني لنا ان قوله تعالى متاعا الى الحول نسخت بقوله يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال قد تعتد الحامل بسنة قلنا لا بل تعتد بالحمل وخصوص السنة لاغ وأيضا تقديم الصدقة على نجوى الرسول واجب بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول الآية ثم نسخ قال زال الزوال بسببه وهو التمييز بين المنافقين وغيرهم قلنا زال كيف كان احتج بقوله تعالى لا يأتيه الباطل قلنا الضمير للمجموع
اللائق بهذه المسألة ان تذكر في الفصل التالي لهذا الفصل الذي أودعه ما ينسخ وما نسخ أو حاصلها ان نسخ جميع القرآن اجماعا كما صرح به بعضهم وأشار إليه المصنف في آخر المسألة وكذا الإمام في أثنائها واما بعضه فجائز ومنع منه أبو مسلم الأصفهاني كما نقله عنه الإمام وأتباعه منهم المصنف وقد تقدم النقل عنه انه منع وقوعه مطلقا واحتج في الكتاب بوجهين
أحدهما ان الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا في قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا الى الحول ثم نسخ ذلك بأربعة اشهر وعشر وقال أبو مسلم الاعتداد بالحول لم يزل بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان تخصيصا لا نسخا وأجاب في الكتاب انا نمنع ان الحامل قد تعتد بسنة بل إنما تعتد بوضع الحمل سواء حصل لسنة أم اقل أم اكثر وخصوص السنة إن وقع لاغ لا عبرة به وهو جواب صحيح

الا ان أبا مسلم لم يدع عدم النسخ في الآية بهذا التقرير المذكور بل بتقرير غيره فنقول اختلف العلماء في هذه الآية فذهب جمهور المفسرين الى أنها منسوخة بقوله أربعة عشر اشهر وعشرا كما ادعاه الأصوليون وهو الذي رواه البخاري بسنده إليه الى أنها غير منسوخة وإنها ان لم تختر السكنى كانت عدتها أربعة اشهر وعشرا كما في إحدى الآيتين وإن اختارت اعتدت بحول كما في الآية الأخرى فحمل الآيتين على حالتين وذهب أبو مسلم الاصبهاني الى قول ثالث وهو ان معنى الآية ان الذين يتوفون ان كانوا قد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فالعدة بالحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة قال والسبب في ذلك انهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا وكان يجب على المرأة الإعتداد بالحول فبين الله تعالى في هذه الآية ان ذلك غير واجب وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل عند أبي مسلم ولكن ليس بالطريقة المتقدمة من ان الحامل قد تعتد بسنة وحينئذ لا يصلح الاستدلال بالآية عليه
وقوله هذا هو الذي اختاره الإمام في التفسير وقال انه في غاية الصحة وقد وافق والدي احسن الله إليه مجاهدا وأبا مسلم على ان الآية غير منسوخة وذهب الى رأي رابع ارتضاه وهو ان الله تعالى انزل في المتوفى عنها زوجها آيتين
إحداهما آية العدة بأربعة اشهر وعشرا
والثانية آية الوصية ومعناها انه تعالى جعل للأزواج وصية منه سبحانه وتعالى سكنى حول كامل بعد وفاة أزواجهن سواء أوصى الزوج بذلك أم لم يوص وهذا هو ظاهر الآية فلا يخرج عنه بلا دليل
الوجه الثاني انه تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم نسخ ذلك بقوله ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم

صدقات الآية قال الواحدي اجمعوا على أنها منسوخة الحكم واعترض أبو مسلم بأن ذلك إنما زال لزوال سببه وهو التمييز بين المنافق وغيره لأن المؤمن يمتثل والمنافق يخالف فلما حصل بعد ذلك التمييز سقط الوجوب وأجاب بأن المدعي إنما هو زوال الحكم بعد ثبوته سواء لزوال سببه أم لم يكن لأن ذلك معنى النسخ وهو جواب ضعيف من وجهين
أحدهما انه سيأتي في كلامه ان شاء الله تعلى ان زوال الشيء لزوال سببه أو شرطه ليس بناسخ
الثاني انه ان أراد التمييز للنبي صلى الله عليه و سلم فهو عليه السلام كان عالما بأعيانهم وسماهم لحذيفة بن اليمان صاحب سره وإن أراد التمييز للصحابة فلا نسلم حصول التمييز لهم وكيف وقد قيل ما كانت الا ساعة من نهار حتى نسخت ومن البعيد حصول التمييز في ساعة واحدة بل الجواب ان الإجماع قد قام على أنها منسوخة كما حكيناه عن الواحدي وان التمييز لا يحصل في ساعة من نهار كما ذكرناه
واما قول الإمام في الجواب لو كان ذلك لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل لأنه روي انه لم يتصدق غير على رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم فهو ضعيف لأن عدم الصدقة إنما يدل على النفاق لو وجدت النجوى معه وذلك لم يوجد لأنه لم يناج أحد من الصحابة بدون التصدق بل لم يصح ان أحدا ناجاه غير على رضي الله عنه
واما على فقيل لم يصح انه ناجاه واحتج بذلك على جواز نسخ الحكم قبل العمل به وهذا يشهد له قوله تعالى فإن لم تفعلوا إذا جعلت إذ على بابها والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى ولكن روى ليث عن مجاهد قال قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلى ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى

كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي صلى الله عليه و سلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد وعلى هذا يجب إخراج إذ عن بابها وإما ان تكون بمعنى إذا كما قيل في إذا الإعتلال وإما ان تكون بمعنى ان الشرطية وسواء صح المنقول عن علي أم لم يصح فعدم الصدقة إنما كان لعدم النجوى فلا يصح الجواب بما ذكره الإمام فإن قلت كيف لم يعمل غير علي من أكابر الصحابة بالآية قبل نسخها كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
قلت إن صح أنهم لم يعملوا بها فإما لسرعة نسخها وإما لأنهم فهموا ان المقصود الكف عن المناجاة تعظيما للرسول صلى الله عليه و سلم لأن سبب نزول الآية ان المسلمين اكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى شقوا عليه وأراد الله ان يخفف عن نبيه كذا ذكره حبر الامة ابن عباس رضي الله عنهما فيكون كفهم عن المناجاة مبالغة في التعظيم فإن قلت لم لافعل علي رضي الله عنه ما فعلوه مبالغة في التعظيم
قلت لعل الضرورة ألجأته الى المناجاة وذلك غير مستبعد لأنه كان قريب الأقرب وزوج ابنته والعادة تقضي بأن يكون أحوج الى مناجاته صلى الله عليه و سلم واحتج أبو مسلم بأنه تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لأتاه الباطل وأجاب المصنف بان الضمير يأتيه عائد على مجموع القرآن أعني الهيئة الاجتماعية لا الجمعية اعني كل فرد سواء كان مجتمعا مع غيره أم لم يكن وإذا كان عائدا الى المجموع لم يكن دليلا على محل النزاع لأن مجموع القرآن لا ينسخ اتفاقا كما سلف وإنما الكلام في بعضه وفي هذا الجواب نظر من وجهين
احدهما انك لم قلت بعوده لمجموعه دون جميعه ولم لا كان العكس
والثاني ان الضمير في يأتيه عائد الى القرآن والقرآن من الالفاظ المتواطئة يطلق على كله وعلى بعضه كما تقدم في الحقيقة والمجاز فليس حمله على الكل بأولى من حمله على البعض
فإن قلت ولا حمله على البعض ايضا بأولى من العكس وحينئذ يبطل

استدلال أبي مسلم بالآية لما ذكر من ان الحمل على واحد يقتضي الترجيح من غير مرجح
قلت الحمل على البعض أولى لوقوع الاتفاق عليه اذ من حمل على الكل حمل البعض من غير عكس وقد أجاب الإمام بأن المراد ان هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده وأجاب غيره بأن النسخ ليس باطلا إذ هو حق والباطل يضاد الحق فوجب حمل الباطل على غير النسخ وكلا الجوابين صحيح حسن قال الثالثة يجوز نسخ الوجوب قبل العمل خلافا للمعتزلة
كل نسخ على التحقيق فهو واقع قبل الفعل فإنه إنما يرد على مستقبل الزمان دون ماضيه وهذا واضح وإنما الخلاف في انه هل يجوز ان يقال صل غدا ركعتين ثم انه ينسخه قبل مجيء الغد فجوز ذلك الجماهير من أصحابنا وخالفت المعتزلة وكثير من الحنفية والحنابلة وهذه هي المسألة الملقبة بنسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به والمصنف عبر عنها بنسخ الوجوب قبل العمل وهذا يوهم اختصاص المسألة بالوجوب وليس كذلك
والتعبير الأول غير واف بالمقصود ايضا لأنه قد يقال انه لا يتناول ما إذا حضر وقت العمل به لكنه لم يمض مقدار ما يسعه وهذه الصورة من صور النزاع وقد يعتذر المعبر بهذه العبارة بأنه لا يتصور حضور وقت العمل به الا إذا مضى ما يسعه ولو عبر عنها بنسخ الشيء قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته لتناول جميع صور النزاع من غير شك وعلى هذا يجوز النسخ بعد مضي مقدار ما يسعه وان لم يكن قد فعل المأمور به قال الهندي وفي بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم كالكرخي خالف فيه أيضا وقال لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أم لم يمض والمصنف أطلق قوله قبل العمل وهو يقتضي ان الخلاف جار من غير فرق بين الوقت وما قبله وما بعده فأما قبله وفي معناه ما إذا دخل ولكن لم يمض زمن يسع الفعل فقد عرفت انه محل النزاع وأما بعد

خروج الوقت قال الآمدي فقد انفق القائلون بجواز النسخ على تجويزه وأما وقوع النسخ في الوقت ولكن بعد التمكن من فعله فقد عرفت انه داخل تحت صور النزاع بما حكاه الهندي عن الكرخي ولكن صرح ابن برهان في الوجيز في آخر المسألة بأن النزاع لم يقع في جواز النسخ بعد التمكن من الفعل وإنما وقع في النسخ قبل التمكن من الفعل وكذلك الآمدي في أثناء الإستدلال فإنه قال والخلاف إنما هو قبل التمكن لا بعده
تنبيه ذكره الهندي اعلم ان كل من قال ان المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال يلزمه ان يقول بعدم جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال إذ النسخ قبله على هذا التقدير تبين ان الامر في نفس الأمر وإن كنا نتوهم وجوده والنسخ يستدعي تحقق الامر السابق فيستحيل النسخ عند عدمه
واما من لم يقل بذلك فجاز ان يقول بجوازه وان لا يقول بذلك لما يظهر له من دليل يخصه ويتضح عند هذا ان هذه المسألة ليست فرع تلك المسألة على الإطلاق اعني في الجواز وعدم الجواز كما وقعت إليه الإشارة في كلام الغزالي بل في عدم الجواز فقط
قال لنا ان ابراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل افعل ما تؤمر ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم فنسخ قبله قيله تلك بناء على ظنه قلنا لا يخطىء ظنه قيل امتثل فإنه قطع فوصل قلنا لو كان كذلك لم يحتج الى الفدا قيل الواحد بالواحد في الواحد لا يؤمر وينهي قلنا يجوز للابتلاء
استدل أصحابنا على الجواز بالوقوع في قصة الذبيح عليه السلام قالوا وذلك ان الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل الفعل أما انه أمره بالذبح فلثلاثة اوجه
أحدها قول ولده يا أبت افعل ما تؤمر جوابا لقوله يا بني اني أرى في المنام اني أذبحك فإن قوله ما تؤمر لا بد وان تعود الى شيء وليس ثم غير اني أذبحك فوجب صرفه إليه
والثاني قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام ان هذا لهو البلاء المبين يدل على ان المأمور به هو الذبح لأن مقدمات الذبح لا توصف بذلك

فإن قلت متى لا توصف بذلك مع العلم بعدم وجوب الذبح أو مطلقا والأول مسلم والثاني ممنوع وهذا لأن الامر باضجاع الولد واخذ المدية المستفاد من الامر بالذبح مع غلبة الظن بأن الذبح سيؤمر به بلاء مبين قلت متى غلب على ظنه بشيء فهو الواقع في نفس الامر إذ هو نبي فلا يخطىء ظنه
والثالث قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ولو لم يؤمر بالذبح لما احتاج الى الفداء
واما كونه نسخ قبل الفعل فلأنه لو لم ينسخ لذبح ضرورة انه عليه السلام لا يخل بأمر ربه لكنه لم يذبح فدل على انه نسخ ولم يستدل المصنف على هذا لظهوره واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم انه كان مأمورا بالذبح وإنما كان مأمورا بالمقدمات فظن انه أمر به والدلائل التي تمسكتم بها إنما هي بناء على ظنه
وأجاب في الكتاب بأن ظنون الأنبياء مطابقة يستحيل فيها الخطأ واعترض ثانيا بأنا سلمنا انه أمر بذبح لكن لا نسلم انه نسخ قبل العمل وبيانه ان ابراهيم عليه السلام كان كلما قطع موضعا من الخلق وتعداه الى غيره أوصل الله تعالى ما تقدم قطعه
وأجاب بأنه لو كان كذلك لم يحتج الى الفداء لأن الفداء بدل والبدل لا يحتاج إليه مع وجود المبدل ولقائل ان يقول لعل الفداء إنما كان للحياة التي من الله تعالى عليه بها مع حصول الذبح لا لنفس الذبح واستدل الخصم بأن قوله صل غدا ركعتين ليس موضوعا إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا
وقوله لا تصل غدا ركعتين ليس موضوعا إلا للنهي عنها في ذلك الوقت لغة وشرعا فلو جاز ان يرد الامر بشيء ثم النهي عن فعله في ذلك الوقت الواحد مأمورا ومنهيا أجاب بان ذلك لا يستحيل الا إذا كان المقصود حصول الفعل وأما إذا كان الغرض ابتلاء المأمور أي اختياره وامتحانه فيجوز

فإن السيد قد يقول للعبد اذهب غدا الى موضع كذا ولا يريد الفعل بل امتحان العبد ليتبين رياضته ثم يقول لا تذهب قلت ولا يخفى ان هذه الشبهة إنما ترد إذا كان الوجوب قد نسخ بالتحريم أما إذا نسخ بالجواز فليس الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فان قلت الله تعالى يعلم من يمتثل ممن لا يمتثل والاختيار إنما يكون مما يستدعي خبرا يستفيد منه ما لم يكن عالما به قلت المراد إظهار ذلك للخلق والتنبيه بذكر العبد الممتثل بين العالم
ألا ترى ان ابراهيم عليه السلام صار له بذلك لسان صدق في الآخرين وربما ان بعض من كان لا يؤمن به رآه قد بادر الى امتثال هذا الامر المدبر فصدق به وآمن وعرف انه على الحق المبين ومنهم من أجاب عن هذه الشبهة بأنه لم يجتمع الامر النهي في وقت واحد بل بورود النهي انقطع تعلق الامر وذكر القاضي في مختصر التقريب
هذا وطريقة أخرى وهي ان نقول كان الرب تعالى قال افعل الفعل الفلاني تقربا منك الى ما دام الامر متصلا بك فإذا نهيتك عنه فلا تفعله تقربا الى ولا تقربا الى غيري ليتبين للعبد انه عند النهي منهي عن قصد التقرب بما أمر به أولا الى الله تعالى وهو منهي عن اصل فعله ايضا من غير قصد التقرب
فائدة الصحيح عن جمهور العلماء ان الذبيح هو إسماعيل عليه السلام واحتجوا له بأمور كلها ظاهرة غير قطعية واستنبط والدي رضي الله عنه من القرآن دليلا على ذلك يقارب القطع أو يقتضي القطع بذلك لم يسبقه إليه أحد وهو ان البشارة التي وقعت لإبراهيم عليه السلام بالولد من الله تعالى كانت مرتين مرة في قوله اني ذاهب الى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني اني أرى في المنام اني أذبحك فهذه الآية قاطعة في ان هذا المبشر به هو الذبيح
وقوله تعالى وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أءلد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ان هذا لشيء عجيب

فقد صرح في هذه الآية ان المبشر به فيها اسحاق ولم يكن سؤال من ابراهيم عليه السلام بل قالت امرأته أنها عجوز وانه شيخ وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في أواخر أمره واما للبشارة الاولى لما انتقل من العراق الى الشام حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ولذلك سأله فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين احدهما بغير سؤال وهو اسحاق صريحا والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح ولا يرد على هذا قوله ونجيناه ولوطا الى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة ووجه الإيراد ذكر هبة اسحاق بعد الإنجاء لأنا نقول لما ذكر لوطا واسحاق هو المباشر به في قضية لوط ناسب ذكره ولم يذكره ولم يكن في الآية ما يدل على التعقيب والبشارة الأولى ولم يكن للوط فيها ذكر والله أعلم
واعلم ان هذه الفائدة ليس لها كبير تعلق بما نحن فيه من الشرح ولكن لما عظم موقعها حسن إيرادها
قال الرابعة يجوز النسخ بلا بدل أو يبدل أثقل كنسخ وجوب تقديم النجوى والكف عن الكفار بالقتال استدل بقوله تعالى نأت بخير منها قلنا ربما يكون عدم الحكم أو الأثقل خيرا
المسألة مشتملة على بحثين احدهما في جواز نسخ الشيء لا الى بدل ذهب إليه الجمهور وخالف فيه قوم من أهل الظاهر وكذلك المعتزلة كما قال القاضي في مختصر التقريب واستدل الجمهور بأن وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاته عليه السلام نسخ بلا بدل واعلم ان الأصوليين صدروا المسالة بالخلاف في الجواز وهذا الدليل يدل على انهم يختارون الوقوع وهو صحيح إذ الظاهر ان نسخ الصدقة قبل النجوى لا إلى بدل وقول من قال وجوب الزكاة هو الناسخ وهو البدل ضعيف من وجهين
احدهما انه تعالى قال فان لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا

الزكاة وأطيعوا الله ورسوله فلو كانت الزكاة ناسخة لزم مساواة الصلاة والطاعة لها وأقام الصلاة وطاعة الله ورسوله واجبان قبل ذلك
وثانيها انه يحتاج الى نقل التاريخ في ذلك وهو يعيد بل الظاهر انه لما نسخ عنهم وجوب الصدقة أمروا بلزوم الواجبات التي هي عليهم باقية تنبيها على أنها هي ذروة الامر وسنامه واستدل القاضي في مختصر التقريب على تجويز نسخ الشيء لا الى بدل بانا يجوز ارتفاع التكليف عن المخاطبين جملة فلأن يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا الى بدل أولى قال والمخالفون في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع التكليف فلهذا خالفونا في هذه المسألة فهذا هو مثار الخلاف في هذه المسألة
فائدة قال الشافعي في الرسالة في ابتداء الناسخ والمنسوخ وليس بنسخ فرض أبدا الا اثبت مكانه فرض كما نسخت قبله بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة انتهى وظاهر هذه العبارة انه لا يقع النسخ الا ببدل وليس ذلك مراده بل هو موافق للجماهير على ان النسخ قد يقع بلا بدل وانما أراد الشافعي بهذه كما نبه عليه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة انه ينقل من حظر الى إباحة أو إباحة الى حظر وتخيير على حسب أحوال الفروض قال ومثل ذلك مثل المناجاة كان يناجي النبي صلى الله عليه و سلم بلا تقديم صدقه ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم الى ما كانوا عليه فان شاءوا وتقربوا بالصدقة الى الله وان شاءوا ناجوه من غير صدقة قال فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فتفهمه انتهى وهذا لا يخالفه فيه الأصوليون فانهم يقولون إذا نسخ الامر بقوله رفعت الوجوب أو التحريم مثلا عاد الامر الى ما كان عليه وهو حكم ايضا
البحث الثاني يجوز عند الجمهور نسخ الشيء والإتيان ببدل اثقل منه وخالف بعض أهل الظاهر قال ابن برهان في الوجيز ونقل ناقلون ذلك عن الشافعي وليس بصحيح وانتهى وليس بصحيح عنه
ومنهم من أجاز ذلك عقلا ومنع منه سمعا لنا ان الكف عن الكفار كان واجبا بقوله تعالى ودع أذاهم ونحوه ثم نسخ بإيجاب القتال وهو اثقل أي

اكبر مشقة واستدل الخصم على منعها أعني النسخ بلا بدل والنسخ ببدل اثقل بقوله تعالى بخير منها أو مثلها فدل على انه لا بد ان يأتي بالبدل وهو المدعي أولا وعلى ان البدل منحصر في الأول والمساوي وهو المدعي ثانيا وأجاب بأن عدم الحكم قد يكون خير للمكلف منه في ذلك الوقت واعترض الهندي على هذا بان العدم الصرف لا يوصف بقوله نأت لأن ما أتى به فهو شيء وهو صحيح الا ان نقول النسخ يزيل الحكم ويعيد الامر الى ما كان عليه فكان مشتملا على الإتيان بالحكم الذي كان من قبل ومن هذا يظهر انه أتى بشيء
وهذا إنما استفاد من كلام الصيرفي والأصل فيه كلام الشافعي رضي الله عنه وهذا تقرير الجواب عنهم قولهم لا يكون النسخ الا ببدل والقاضي في مختصر التقريب قال الجواب عن هذه الآية هذا إخبار عن أن النسخ يقع على هذا الوجه وليس فيه ما يدل على انه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه
قال هذا واضح عند التأمل
قلت وهذا من القاضي يفهم ان محل الخلاف في الجواز وانه يسلم ان النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه وهذا ما اقتضاه كلام الآمدي في آخر المسالة إذ قال ان سلم امتناع وقوع ذلك شرعا لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي وقد قدمنا ان الاستدلال بآية النجوى يدل على ان الخلاف في الوقوع ايضا وبذلك صرح الهندي إذ قال الآية وان لم تدل الا على عدم الوقوع فذلك كاف لأنه إذا ثبت عدم الوقوع ثبت عدم الجواز لأن كل من يقول بالجواز قال بالوقوع فالقول بعدم الوقوع من الجواز قول لم يقل به أحد والأظهر ان ما قال بالجواز قال بالوقوع كما ذكره الهندي وكلام الآمدي إنما هو على سبيل النزل إذ صدر المسالة بالجواز وقد صرح الآمدي بدليلين وقال احدهما يدل على الجواز العقلي والثاني على الجواز الشرعي وكلام القاضي ليس بالصريح في ذلك ان قال بعد ذلك أو يقول يعني في الجواز
قوله ما ننسخ من آية يحمل على بعض الأحكام دون بعض قال ويقوى ذلك على منع صيغ العموم قلت ومن هنا يؤخذ من كلام القاضي ان النكرة في

سياق الشرط تعم كما قدمناه في باب العموم عن امام الحرمين لقوله ويقوى ذلك على منع صيغة العموم ومفهوم هذا انه لا يقوى عند تسليمها واما الجواب عند استدلالهم بقوله بخير منها أو مثلها على ان البدل منحصر في الأخف والمساوي
فقد أجاب في الكتاب عنه بقوله أو الأثقل خيرا يعني ان الخير يصدق على ما هو اجزل ثوابا واصلح لنا في المعاد وان كان اثقل في الحال ومن الخصوم من استدل بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر واقتصر المتأخرون في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية على قولهم ان ذلك محمول على اليسر في الآخرة ومناسب هذا الجواب والحق في الجواب عن ذلك ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من ان ذلك إنما ورد في مخاطبة المرضى من المسلمين لما خفف الصيام عنهم ولا تعلق له بمسألتنا
قال الخامسة ينسخ الحكم دون التلاوة مثل قوله تعالى متاعا الى الحول آية وبالعكس مثل ما نقل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وينسخان معا كما روي عن عائشة قالت كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس
يجوز نسخ الحكم دون التلاوة وبالعكس ونسخهما معا وخالف في ذلك كله بعض الشاذين واستدل في الكتاب لكل من الصور بالوقوع أما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ الاعتداد بالحول من قوله تعالى متاعا الى الحول بقوله يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشرا وقد سبق الكلام في آية الحول فكان الأولى التمثيل بغير هذه الآية المختلف في أنها هل هي منسوخة والآيات في هذا القسم كثيرة واما عكسه اعني نسخ التلاوة دون الحكم فكما روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إياكم ان تهلكوا عن آية الرجم ان يقول قائل لا نجد حديثا في كتاب الله فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم فوالذي نفسي بيده لولا ان يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها رواه الشافعي وهذا لفظه

وروى الترمذي نحوه والبخاري ومسلم ما يقرب منه وروى النسائي عن أبي أمامة اسعد بن سهل بن حنيف عن خالته قالت لقد أقرأناها رسول الله صلى الله عليه و سلم آية الرجم والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته بما قضينا من لديهما وإسناده جيد والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة قلت وأنا لا يبين لي معنى قول عمر رضي الله عنه لولا ان يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها إذ ظاهر هذا ان كتابتها جائزة وإنما منعه من ذلك قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه
وإذا كانت كتابتها جائزة لزم ان تكون التلاوة باقية لأن هذا شأن المكتوب وقد يقول القائل في مقابلة هذا لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله عنه الى كتابتها ولم يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا من فعل هذا الواجب وبالجملة لا يبين لي هذه الملازمة اعني لولا قول الناس لكتبت ولعل الله ان ييسر علينا حل هذا الأثر بمنه وكرمه فانا لا نشك في ان عمر رضوان الله عليه إنما نطق بالصواب ولكنا نتهم فهمنا واما نسخهما معا فكما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي فيما يقرأ من القرآن رواه مسلم ونحن نعلم انه ليس في القرآن اليوم وان حكمه غير ثابت وقد تكلم العلماء في قولها وهي فيما يقرا من القرآن فإن ظاهره يقتضي ان التلاوة باقية وليس كذلك فمنهم من أجاب بان المراد قارب الوفاة والأظهر في الجواب ان التلاوة نسخت ايضا ولم يبلغ ذلك كل الناس الا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فتوفي وبعض الناس يقرأها فيصدق انه توفي وهي فيما يقرأ
واعترض الهندي بأن ثبوت نسخ تلاوة ما هو من القرآن وحكمه يتوقف على كونه من القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد فلا يثبت به تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معا قلت والاعتراض وارد ايضا في منسوخ التلاوة دون الحكم فلا ينبغي ان يقصره على هذا القسم ثم قال الهندي ممكن ان يجاب بان القرآن المثبت بين الدفتين هو الذي لا بد في نقله من التواتر وأما المنسوخ فلا نسلم أنه لا يثبت بخبر الواحد سلمنا لكن الشيء قد يثبت ضمنا بما لا يثبت به استقلالا كما قال بعض الأصوليين

إذا قال الصحابي في أحد الخبرين المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ولزم منه نسخ المتأخر وان لم يقبل قوله في نسخ المعلوم ولقائل ان يقول لا يندفع السؤال بواحد من الجوابين أما الأول فأنا لا نعقل كونه منسوخا حتى نعقل كونه قبل ذلك من القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد قلنا وقوله لا نسلم ان القرآن المنسوخ لا يثبت بخبر الواحد لأن نسخه لا يكون الا بعد ثبوت كونه من القرآن ثم يرد النسخ بعد ذلك متأخرا في الزمان فيصدق إثبات قرآن غير منسوخ بخبر الواحد ثم إثبات نسخه بخبر الواحد ويوضح هذا ان قول الراوي كانت الكلمة الفلانية من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة خبرين احدهما أنها من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة خبرين احدهما أنها من القرآن والثاني أنها منسوخة وكلا الخبرين لا يكفي فيه خبر الواحد واما الثاني ففيما نحن فيه لم يتعارض وليلان وفيما استشهد به تعارض دليلان فلذلك رجحنا في موضع التعارض بمرجح ما وهو قول الصحابي هذا متقدم وإنما الذي يظهر في الجواب عن هذا السؤال أن زماننا هذا ليس زمان النسخ وفي زمان النسخ لم يقع النسخ بخبر الواحد
فرع قال الآمدي هل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية ان يمسها المحدث ويتلوها الجنب تردد فيه الأصوليون والأشبه المنع من ذلك قلت الخلاف وجهان لأصحابنا والصحيح جواز المس والحمل وقول الآمدي ان المنع أشبه ممنوع وذكر الرافعي في أول باب خلافه حد الزنا ان القاضي ابن كج حكى عن بعض الأصحاب وجها انه قرأ قارىء آية الرجم في الصلاة لم تفسد والصحيح خلافه
قال السادسة يجوز نسخ الخبر المستقبل خلافا لأبي هاشم لنا انه يحمل ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ثم يقول أردت سنة قيل يوهم الكذب قلنا ونسخ الامر يوهم البداية
هذه المسالة في نسخ الأخبار والنسخ أما ان يكون لنفس الخبر أو لمدلوله وثمرته فإن كان الأول فأما ان تنسخ تلاوته أو تكليفنا بالأخبار به إذا كنا قد كلفنا بأن نخبر بشيء فهذان جائزان من غير نزاع سواء كان ما نسخت

تلاوته ماضيا أو مستقبلا وسواء كان مما لا يتغير كالأخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم أو كالأخبار بكفر زيد وإيمانه لأن جميع ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز كونه مصلحة في وقت ومفسدة في آخر لكن هل يجوز ان ينسخ تكليفنا بالاخبار عما لا يتغير تكليفنا بالاخبار بنقيضه قال الآمدي قالت المعتزلة لا يجوز لأنه كذب والتكليف به قبيح وهذا مبني على قاعدة الحسن والقبيح الباطلة عندنا وعلى هذا فلا مانع من التكليف بالخبر بنقيض الحق هذا كلام الآمدي ولا يقال عليه ان الكذب نقض ونحن نوافق على ان قبحه عقلي لأنا نقول هو في هذه الصورة نقص في المكلف بفتح اللام وهو المخير لا المكلف بكسرها وهو الله تعالى الآمر بالأخبار ويجوز التكليف بما هو نقص في حق العبد لأن له تعالى ان يفعل ما يشاء واما ان كان النسخ لمدلول الخبر فإن كان لا يتغير فلا خلاف في امتناع نسخه وان كان مما يتغير فهي مسإلة الكتاب ومذهب اكثر المتقدمين منهم أبو هاشم فيها المنع سواء كان الخبر ماضيا أو مستقبلا أو وعيدا أو خبرا عن حكم كالخبر عن وجوب الحج واختاره ابن الحاجب وقال عبد الجبار وأبو عبد الله وأبو الحسين والإمام والآمدي يجوز مطلقا وفصل بعضهم
فقال ان كان مدلوله مستقبلا جاز وإلا فلا وهذا هو الذي اختاره المنصف وليعلم ان محل الخلاف فيما إذا لم يكن بمعنى الامر أو النهي كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن وقوله لا يمسه الا المطهرون فإن هذا يجوز نسخه ولا نعرف فيه خلافا ولا يتجه لأنه بمعنى الأمر والنهي قال الهندي وما نقل الإمام وغيره من الخلاف في الخبر عن حكم شرعي ليس هو هذا لأن ذلك محمول على ما هو خبر في هذا اللفظ والمعنى مدلوله حكم شرعي وما نحن فيه ليس الا صيغة الخبر استعملت في الامر على وجه التجوز فهو في معنى الامر ونحن على جزم بأن الصيغة لا مدخل لها في تجويز النسخ وعدمه فهو في معنى الامر وقد استدل المصنف على ما اختاره بأنه يصح ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ان لا يلزم من وقوعه محال ثم يقال أردت سنة واحدة ولا نعنى بالنسخ الا هذا فإن النسخ إخراج بعض الزمان وهو موجود هنا واستدل المانع بأن نسخه يوهم

الكذب إذ المتبادر منه الى الفهم ليس الا استيعاب المدة المخبر بها وإيهام الكذب قبيح أجاب بأن نسخ الأمر ايضا يقتضي ان يظن الظان ظهور الشيء بعد خفائه أي فلو امتنع نسخ الخبر للإيهام لامتنع نسخ الأمر ولا قائل به من المنازعين في هذه المسألة هذا ما في الكتاب والحق في المسألة ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من بناء المسألة على ان النصح بيان أو رفع فمن قال بالأول جوز ذلك فقال إذا اخبر الله سبحانه عن ثبوت شريعة فيجوز ان يخبر بعدها فيقول أردت ثبوتها بأخباري الأول الى هذا الوقت ولم أرد أولا الا ذلك وهذا لا يقضي الا تجويز خلف ولاوقوع خبر بخلاف مخبر وأما من قال بالثاني كالقاضي فلا يجوز ذلك كيف ونسخ الخبر حينئذ يستلزم الكذب قطعا لأن الخبر ان كان صادقا كان الناسخ المقتضي رفع بعض مدلوله كاذبا ضرورة أنه صدق وإلا فهو كاذب وبهذا يظهر لك ان من وافق القاضي على ان النسخ رفع لا يحسن منه الذهاب الى تجويز نسخ الاخبار

الفصل الرابع
في الناسخ والمنسوخ
قال الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ
وفيه مسائل الاولى الأكثر على جواز نسخ الكتاب بالنسبة كنسخ الجلد في حق المحصن وبالعكس كنسخ القبلة وللشافعي رضي الله عنه قول بخلافها دليله في الأول قوله تعالى
نأت بخبر منها بأن السنة وحي ايضا وفيهما بقوله لتبين للناس وأجيب الأول بان النسخ بيان وعورض الثاني بقوله تبيانا
المراد هنا بالناسخ والمنسوخ ما ينسخ وما ينسخ به من الأدلة اعلم انه يجوز نسخ الكتاب به والسنة المتواترة بها والآحاد بمثله وبالمتواتر وأما نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه وذهب ابن سريح كما نقل القاضي عنه في مختصر التقريب الى جائز ولكن لم يرد وذهب قوم الى امتناعها ونقل عن الشافعي رضي الله عنه وقد استنكر جماعة من العلماء ذلك من الشافعي حتى قال الكيا الهراسي هفوات الكبار على أقدارهم ومن عن خطأوه عظم قدره وقد كان عبد الجبار بن احمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل الى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير لكن الحق اكبر منه قال والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره كيف وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه قالوا لا بد وان يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها وأورد الكيان بعضها واعلم انهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا في غير عظيم وهذا ان صح عن الشافعي

فهو غير منكر وان جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه
ولقد صنف شيخ الدنيا الشيخ الجليل أبو الطيب سهل بن الإمام الكبير المتفق على جلالته وعظمته وبلوغه في العلم المبلغ الذي يتضاءل عنده جماعة من المجتهدين أبي سهل الصعلوكي كتابا في نصرة هذا القول وكذلك الأستاذان الكبيران أبو اسحق الاسفرايني وتلميذه أبو منصور البغدادي وهما من أئمة الأصول والفقه وكانا من الناصرين لهذا الرأي قال القاضي في مختصر التقريب
واختلف الذين منعوا نسخ القرآن بالسنة فمنهم من منعه عقلا ومنهم من قال يجوز سمعا وانما امتنع بأدلة السمع
قال القاضي وهذا هو الظن بالشافعي مع علو مرتبته في هذا الفن ومنهم من نقل للشافعي في كل من نسخ الكتاب بالسنة وعكسه قولين وهو ما أورده في الكتاب والرافعي حكى في باب الهدية وجهين في نسخ السنة بالقرآن أو قولين التردد منه
قال وينسب المنع الى اكثر الأصحاب فإن جرى الخلاف في نسخ السنة بالقرآن فليكن من العكس بطريق أولى
وقال امام الحرمين قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد في قوله في نسخ السنة بالكتاب قلت وهنا هو الذي قاله في الرسالة فانه قال في باب ابتدأ سمي الناسخ والمنسوخ ما نصه ولا ينسخ كتاب الله الا كتابه كما كان المبتدي بفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه ولا يكون ذلك لأحد من خلقه انتهى
ثم قال ما نصه وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينسخها الا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو احدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لسن فيما حدث الله إليه حتى يبين للناس ان له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها انتهى ومن صدر هذا الكلام اخذ من نقل عن الشافعي رحمه الله أن

النبي صلى الله عليه و سلم إذا سن سنة ثم انزل الله في كتابه ما ينسخ ذلك الحكم فلا بد ان يسن النبي صلى الله عليه و سلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الاولى لتقوم الحجة على الناس في كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب
وقوله ولو احدث الله الى آخره صريح في ذلك قوله بعد ذلك ما نصه فان قال هل تنسخ السنة بالقرآن قيل له لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه و سلم سنة تبين ان سنته الاولى منسوخة لسنة الأخيره حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله انتهى
وكذلك ما ذكره بعد ذلك في باب جمل الفرائض التي احكم الله فرضها بكتابه وبين كيف فرضها على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فإنه قال لما تكلم على صلاة ذات الرقاع ما نصه
وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل في هذا الكتاب من ان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سن سنة فأحدث الله في تلك السنة نسخا أو مخرجا الى سنة منها سن رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنة تقوم الحجة على الناس بها حتى يكونوا إنما صاروا من سنته الى سنته التي بعدها انتهى
فهذا هو معنى القول المنسوب الى الشافعي أعني انه لا بد ان يسن النبي صلى الله عليه و سلم سنة أخرى واكثر الأصوليين الذين تكلموا في ذلك لم يفهموا مراد الشافعي وليس مراده الا ما ذكرناه
واستدل المصنف على كون السنة المتواترة تنسخ الكتاب بان النبي صلى الله عليه و سلم رجم المحصن مع شمول آية الجلد له وفيه نظر فإن هذا تخصيص والمصنف قد ذكره بعينه مثالا لتخصيص الكتاب بالسنة ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت تلاوته وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
واستدل على أن الكتاب ينسخ السنة بأن التوجيه الى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة ثم نسخ بقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام قوله

دليله في الاول أي دليل الشافعي في امتناع نسخ الكتاب بالسنة قوله تعالى نأت بخير منها أو مثلها وقد استدل بها الشافعي رحمه الله في الرسالة ويمكن تقرير وجه الدلالة منها بطريقين
احدهما انه تعالى اسند للأنبياء بالخبر أو المثل الى نفسه وانما يكون ذلك إذا كان الناسخ القرآن
والثاني انه تعالى قال نأت بالخبر أو المثل والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثله فدل على ان الإتيان إنما هو بالقرآن
والجواب ان السنة منزلة إذ هي حاصلة بالوحي كقوله تعالى وما ينطق عن الهوى فالآتي بها هو الله واما الخبر أو المثل فالمراد بهما الأكثر ثوابا والمساوي ودليل الشافعي فيهما اي في نسخ الكتاب بالسنة وفي عكسه قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس فإما نسخ الكتاب بالسنة فلأن الآية دلت على ان السنة تبين جميع القرآن بدليل قوله ما نزل إليهم فلو كانت ناسخة كانت رافعة لا مبينة
وأما نسخ السنة بالكتاب فلأنها تدل على ان السنة تبين القرآن فلو كان القرآن ناسخا بالسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر أجيب عن الأول بأن النسخ لا ينافي البيان بل هو عينه بناء على بيان انتهاء الحكم وعن الثاني بقوله تعالى في صفة القرآن تبيانا لكل شيء فإنه يقتضي ان يكون الكتاب تبيانا للسنة كما في قوله لتبين يقتضي أن تكون السنة مبينة للكتاب فلما تعارض مقتضاهما لم يكن الاستدلال بواحد منهما ارجح من عكسه وفي الاستدلال بقوله لتبين على المقامين معا نظر آخر لأن البيان ان لم يكن مغايرا للنسخ لم يتجه الاستدلال به على امتناع نسخ الكتاب بالسنة وإن كان مغايرا لم يتجه ان يستدل به على العكس وأورد القرافي عل الشافعي بأن قوله تعالى ما نزل إليهم عام في الكتاب وفي السنة لأن السنة منزلة ايضا فقد يفهم ان الآية انه عليه السلام يبين القرآن والسنة بغيرهما وهو خلاف الإجماع

فما تدل عليه الآية وقد يجاب عن هذا بأن الآية إنما تدل على أنه بينهما لا تعارض لها للمبين به ولعل المبين به منهما أو من احدهما على ان هذا كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية وسياقها فان المفهوم منها ان التبيين هو التفهيم لا النسخ

نسخ المتواتر بالآحاد
قال لا ينسخ المتواتر بالآحاد لأن القاطع لا يدفع بالظن قيل لا أجد منسوخا بما روي انه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع قلت لا أجد للحال فلا نسخ
نسخ المتواتر بالآحاد جائز في النقل ونقل قوم الاتفاق على ذلك وليس بجيد فقد حكى القاضي في مختصر التقريب عن بعضهم انه ذهب الى منع ذلك عقلا وعبارة المصنف وهكذا ابن الحاجب توهم ان الخلاف فيه وعلى ذلك جرى الجار بردي في شرحه وهو صحيح لما حكاه القاضي الا انه ليس مقصود المصنف غير الجواز السمعي بدليل انه اختار انه لا ينسخ ولو نصب المسألة في الجواز العقلي لكان الظن به ان لا يختار ذلك وإذا عرفت وقوع الاختلاف في الجواز فاعلم ان الجماهير وان قالوا بالجواز الا انهم اختلفوا في الوقوع فذهب الأكثرون الى انه غير واقع وذهب جماعة من أهل الظاهر الى وقوعه وفصل القاضي في مختصر التقريب والغزالي بين زمان الرسول وما بعده فقالا بوقوعه في زمانه عليه السلام دون ما بعده
ونقل القاضي اجماع الامة على منعه بعد الرسول صلى الله عليه و سلم قال وإنما اختلفوا في زمانه وكذا امام الحرمين قال اجمع العلماء على ان الثابت قطعا لا ينسخه مظنون ولم ينقرض لزمان الرسول صلى الله عليه و سلم
واعلم ان المراد المتواتر في هذه المسألة القرآن والسنة المتواترة واستدل المصنف على المنع بأن المتواتر قطعي وخبر الواحد ظني والظني لا يعارض القطعي لأن ترجيح الأضعف على الأقوى غير جائز وهذا الدليل إنما يتمشى إذا كان

محل النزاع في الجواز العقلي كذا اعترض به الهندي ظنا منه وقوع الاتفاق على انه يجوز عقلا فإنه ممن نقل الاتفاق عليه
وقد عرفت انه محل خلاف الا انا نقول قد قررنا ان المصنف إنما تكلم في الوقوع ودليله هذا يقتضي عدم الجواز وهو لا يقول به فيكون منقوضا ثم انه ضعيف من اوجه أخر
أحدها ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من انا نقول وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به فما يضرنا التردد في اصل الحديث مع انا نعلم قطعا وجوب العمل به فكان صاحب الشريعة قال إذا نقل من ظاهره العدالة فاقطعوا بأن حكم الله تعالى عليكم العمل بظاهره وصدق الناقل
والثاني انا لا نسلم ان المقطوع لا يدفع بالمظنون الا ترى ان انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع مقطوع به عندنا وثبوت الحظر أو الإباحة مقطوع به عند آخرين ثم إذا نقل خبر عن الرسول صلى الله عليه و سلم أحادا يثبت العمل به ويرتفع ما نقرر قبل ورود الشرائع ذكره القاضي ايضا
والثالث انا مهما جوزنا نسخ النص بخبر الواحد فلا نسلم مع ورود خبر الواحد كون النص مقطوعا به فإنا لو قلنا ذلك لزمنا ان نقطع بكذب الراوي وهذا ما لا سبيل إليه ذكره القاضي ايضا ومراده ان المقطوع به إنما هو اصل الحكم لا دوامه والنسخ لم يرد على اصل الحكم وانما قطع دوامه ومنهم من ضعف هذا الدليل بوجهين آخرين
احدهما منع لزوم ترجيح الأضعف على الأقوى وسنده ان الكتاب والسنة المتواترة وان كان مقطوعي المتن لكنهما مظنونا الدلالة وخبر الواحد بالعكس لكونه خاصا فتعادلا بل خبر الواحد الخاص أقوى دلالة على مدلوله لأن تطرق الضعف إلى مدلول الخبر الواحد الخاص إنما هو احتمال الكذب والغلط وتطرق الضعف الى مدلول الكتاب العام إنما هو من جهة تخصيصه وارادة بعض مدلولاته دون بعض ومعلوم ان تطرق التخصيص الى العام اكثر من تطرق الكذب والغلط الى العدل المتحفظ وضعفه الشيخ صفي الدين الهندي بأنه ليس

من شرط المنسوخ من الكتاب والسنة المتواترة ان يكون عاما وناسخه من خبر الواحد خاصا حتى يتأتى ما ذكر بل قد يكون عامين أو خاصين والمنسوخ خاصا والناسخ عاما على رأي من يرى ان العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم
وإذا لم يتأت ما ذكر من المنع لزم ترجيح الأضعف على الأقوى فلم يجز النسخ في هذه الصور وإذا لم يجز في هذه الصور ولم يجز في تلك الصورة لعدم القائل بالفصل في ولا تعارض بمثله بان يقال إذا جاز النسخ في تلك الصورة لتساويهما جاز في هذه الصورة لعدم القائل بالفصل لأن إلحاق الفرد بالأكثر أولى ولأن تحقق المفسدة فى صور عديده اشد محذورا من تحققها في صوره واحدة
وثانيهما النقض يجوزان تخصيصهما به ولقائل ان يقول التخصيص أهون فلا يلزم من جوازه جواز النسخ وأيضا فالتخصيص لا يلزم منه ترجيح الأضعف على الأقوى لما ذكر من المعنى فلا يلزم النقض واستدل الخضم بقوله تعالى
قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية فإنه يقتضي حصر التحريم فيما ذكر في الآية وقد نسخ ذلك بما روت الأئمة الستة من نهيه صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب من السباع فقد نسخ الكتاب بعد هذا الخبر الظني وأجاب في الكتاب بأن الآية إنما دلت على الرسول صلى الله عليه و سلم لم يجد في ذلك الوقت من المحرم الا الأربعة المذكورة في الآية ولذا قال أوحى بلفظ الماضي وبقي ما عداها على الأصل الحل ونهيه صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب وجد بعد ذلك فلا نسخ لأن الآية دلت الحال ولم تتعرض للاستقبال والحديث إنما دل على الاستقبال ولو قدر تناول الآية للاستقبال فالحديث مخصص لعموم ليس غير هذه الاربعة بمجرد وهو عموم المفهوم من حصر التحريم في الاربعة بناء على ان للمفهوم عموما وحينئذ فهو مخصص لا ناسخ
قال الثالثة الاجماع لا ينسخ لأن النص يتقدمه ولا ينعقد الاجماع ولا ينسخ به أما النص والإجماع فظاهران واما القياس فلزواله بزوال شرطه

هذه المسألة تشتمل على بحثين
الأول في ان الحكم الثابت بالاجماع لا ينسخ وان الحكم الثابت باجماع هذا هو رأي الجماهير اعني ان الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وبه جزم في الكتاب ودليله انه لو انتسخ لكان انتساخه إما بالكتاب والسنة أو الاجماع أو القياس والكل باطل أما بطلانه بالأوليين فلأن نص الكتاب والسنة متقدم على الاجماع لأن جميع النصوص متلقاة من النبي صلى الله عليه و سلم ولا ينعقد الاجماع في زمنه لأنهم ان اجمعوا دونه لم يصح وان كان معهم أو علم بهم وسكت فالعبرة بقوله أو تقريره واما بالاجماع فلاستحالة انعقاده على خلاف الاجماع للزوم خطا أحد الاجماعين والى هذا أشار بقوله ولا ينعقد الاجماع بخلافه واما القياس فلأن شرط صحته ان لا يخالف الاجماع فإذا قام القياس على خلاف الاجماع لم يكن معتبرا لزوال شرطه واما ان الاجماع لا ينسخ به فلأن المنسوخ به إما النص أو الاجماع او القياس والأولان باطلان لما عرفت وكذا القياس لزواله بزوال شرطه كما عرفت أيضا وأعلم أن ما ذكرناه من أن الإجماع لا ينعقد في زمن النبي صلى الله عليه و سلم هو ما ذكره الأصوليون على طبقاتهم القاضي في مختصر التقريب لمن بعده ولقائل ان يقول إذا كانت الأمة لا تجتمع على خطا انعقد الإجماع بقولها ولا سيما إذا جوزنا الاجتهاد في زمانه وهو الصحيح فلعلهم اجتهدوا في مسألة واجمعوا عليها ولم يعلم هو صلى الله عليه و سلم بهم والامام وان جرى هنا على ما ذكره الأصوليون من ان الاجماع لا ينعقد في زمانه صلى الله عليه و سلم فقد ذكر ما يناقضه بعد ذلك
قال والقياس إنما ينسخ مقياس اجلي منه
البحث الثاني في نسخ القياس والنسخ به وقد اختلفوا في ذلك والذي ذهب إليه المصنفون ان القياس إنما ينسخ بقياس اجلي من القياس الأول وأظهر ويعرف قوة أحد القياسين بما سيأتي ان شاء الله في ترجيح الأقيسة وإنما حصر الذي ينسخ في القياس الأجلي دون غيره لأن غيره أما نص أو إجماع ويمتنع النسخ بهما لزوال شرطه حينئذ كما تقدم واما قياس مساو للأول ويمتنع الترجيح من غير مرجح واما قياس أخفى ويمتنع لتقديم المرجوح على الراجح فقد تحرر من كلام المصنف هذا ان القياس قد يكون منسوخا وقد يكون ناسخا لأن

في نسخ القياس بالقياس ذلك ومنهم من منع نسخه والنسخ به مطلقا ومنهم من جوز نسخه بسائر الأدلة ونسخ جميع الأدلة وقال الإمام نسخ القياس إما ان يكون في زمان حياة الرسول صلى الله عليه و سلم وبعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص والإجماع والقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول صلى الله عليه و سلم في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس
واما بالاجماع فلأنه ان اختلفت الامة على قولين قياسا ثم اجمعوا على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضى القول واما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع ويكون إمارة عليتها أقوى من امارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل ذلك بعد التعبد بالقياس الأول
واما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه يجوز نسخه في المعنى وان كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم نظفر بشيء أصلا ثم اجتهد فخرج شيئا بالقياس ثم ظفر بعد ذلك بنص أو اجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فان قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم الأول من القياس لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط ان لا يعارضه شيء من ذلك وان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول معتدا به فلم يكن النص الذي وجده آخر ناسخا لذلك القياس واما ان يكون القياس ناسخا فهو أما ان ينسخ كتابا أو سنة أو اجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالاجماع
واما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم الكلام فيه هذا كلام الإمام قال صاحب التحصيل ولقائل ان يقول في هذه الاقسام نظر فليتأمله الناظر وما ذكره صاحب التحصيل صحيح فان النظر من اوجه
أحدها قوله يجوز نسخ القياس حال حياة النبي صلى الله عليه و سلم بالاجماع يناقض قوله قبل ذلك ان الاجماع لا ينعقد في زمنه وانه يمتنع نسخ القياس به ايضا
والثاني بناء ذلك على ان كل مجتهد مصيب غير سديد فان ذلك النص

الذي يطلع عليه المجتهد بعد ذلك لا بدوران يكون كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ضرورة ان النصوص لا تنشا بعده ولكنه كان قد خفى عليه فإذا بان له تبين إذ ذاك ان حكم القياس مرتفع من اصله وليس هو من النسخ في شيء لا في اللفظ ولا في المعنى سواء قيل كل مجتهد مصيب أم لم يقل بذلك
والثالث ان بناء ذلك على ان كل مجتهد مصيب ان صح لم يختص بما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم
والرابع انه نقل الاجماع على بطلان الاقسام الثلاثة الأول وليس يجيد لما نقله جماعة من تجويز نسخ الكتاب بالسنة وبالقياس عن طائفة
والخامس في قوله ان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به قلنا لا نسلم فإن المصيب وان اتحد فقد انعقد الاجماع على انه يجب على كل مجتهد ان يعمل به ومن قلده بما اداه إليه اجتهاده من قياس أو غيره وإن كان قد اخطأ الحكم المقرر في نفس الأمل كما يقول فيمن اجتهد ثم اخطأ الكعبة يجب ان يصلي الى الجهة التي استقبلها وان كانت خطأ في نفس الأمر واعلم ان الإمام لم يخترع هذا التفصيل بل سبقه إليه ابو الحسين في المعتمد
وقال الآمدي العلة الجامعة في القياس ان كانت منصوصة فهي في معنى النص ويمكن نسخه بنص أو قياس في معناه لو ذهب إليه ذاهب بعد النبي صلى الله عليه و سلم لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث فانه وان وجب عليه اتباع ما ظنه فوقع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخا متجددا بل يتبين انه كان منسوخا وان كانت مستنبطة فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه لا يكون نسخا لكونه ليس بخطاب لأن النسخ هو الخطاب
أما النسخ بالقياس فاختار فيه انه يصح ان كانت العلة منصوصة وإلا فإن كان القياس قطعيا كقياس الامة على العبد في السراية فانه وان كان مقدما لكن ليس نسخا لكونه ليس بخطاب والنسخ عنده هو الخطاب وان كان ظنيا بان تكون العلة مستنبطة فلا يكون نسخا

قال الرابعة نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى وبالعكس لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم والفحوى يكون ناسخا
فحوى الخطاب هو مفهوم الموافقة كما سبق واختلف في ان نسخ الأصل كتحريم التأفيف مثلا هل يستلزم نسخ الفحوى كتحريم الضرب وفي عكسه وهو ان نسخ الفحوى وهو تحريم تضرب هل يستلزم نسخ الأصل وهو تحريم التأفيف على مذاهب
أحدها ان نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر واختاره صاحب الكتاب واستدل على ان نسخ الفحوى يستلزم بان الفحوى لازم للأصل ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ولم يستدل على عكسه وسيأتي ان شاء الله تعالى
والثاني انه لا يلزم من نسخ الآخر
والثالث ان نسخ الأصل يستلزم لأن الفحوى تابع له ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع ونسخ الفحوى لا يستلزم وجزم الإمام بنسخ الأصل يستلزم واما نسخ الفحوى هل يستلزم فنقله عن اختيار أبي الحسين وسكت عليه وقال الآمدي المختام ان تحريم الضرب فى محل السكوت ان جعلناه من باب القياس فنسخ الاصل يوجب نسخ الفرع لاستحالة بقاء الفرع دون اصله وان جعلناه ثابتا بدلالة اللفظ فلا شك ان دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير ان دلالة الفحوى تابعة فيمكن حينئذ ان يقال لا يلزم من رفع إحدى الدلالتين رفع الأخرى
فان قلت الفحوى تابع فكيف يحتمل بقاؤه مع ارتفاع المتبوع قلت نسخ حكم المنطق ليس نسخا لدلالته بل نسخا لحكمه ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا تابعة لحكمه ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل ذلك فما هو اصل لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو مرتفع ليس أصلا للفحوى قوله والفحوى تكون ناسخا قد ادعى الإمام والآمدي في ذلك الاتفاق وفيه نظر حجاجا ونقلا أما الحجاج فوقوع الاختلاف في انه هل هو من باب القياس

وإذا كان من باب القياس وفي النسخ بالقياس ما تقدم من الخلاف فلا ينفك عن خلاف وأما النقل
قال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في شرح اللمع ما ذكرناه إذ قال من أصحابنا من جعله بالقياس فعلى هذا لا يجوز النسخ به انتهى أي بناء على أنه لا يجوز النسخ بالقياس وذلك هو المختار عند الشيخ أبي اسحاق وكذلك القاضي كما نص عليه في مختصر التقريب وفاتنا ان نحكي ذلك فيما تقدم ولكن العهد به قريب
واستدل الإمام على ان الفحوى ينسخ بأن دلالته ان كانت لفظية فظاهر وان كانت عقلية قال القرافي يعنى قياسية أي أدرك العقل الحكمة التي لأجلها ورد الحكم فالحق المسكوت بالمنطوق قياسا
قال الإمام فهي يقينية فيقتضي النسخ لا محالة ولقائل ان يقول القياس ليس يقينيا لاحتمال غلطنا في ان ذلك الحكم في الأصل معلل وان العلة هي ما ذكرنا فلعل العلة غيرها ولعلها تقضي نفي ما يريد ثباته والمسالة خلافية بين العلماء ولا قاطع مع الخلاف والله اعلم
وهذا تمام القول في مفهوم الموافقة واما مفهوم المخالفة فيجوز نسخه مع نسخ الأصل وبدونه وذلك واضح كقوله عليه السلام الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه بقوله عليه السلام إذا التقى الختانان وبقي اصله وهو وجوب الغسل من الإنزال ذكره صفي الدين الهندي قال واما نسخ الأصل بدونه فأظهر الاحتمالين انه لا يجوز لأنه إنما يدل على العدم باعتبار ذلك القدر المذكور فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما يبنى عليه فعلى هذا نسخ الاصل نسخ للمفهوم وليس المعنى منه ان يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي بل المعنى منه ان يرتفع العدم الذي كان شرعيا ويرجع الى ما كان عليه من قبل
قال الخامسة زيادة صلاة ليس بنسخ قبل تغير الوسط قلنا وكذا زيادة العبادة
اتفق العلماء على أن زيادة عبادة من غير جنس ما سبق وجوبه كزيادة

وجوب الزكاة مثلا على الصلاة ليس بنسخ واختلفوا في ان زيادة صلاة على الصلوات الخمس هل يكون نسخا فذهب الجماهير الى انه ليس بنسخ
وقال بعض أهل العراق انه نسخ لأن زيادة هذه السادسة بغير الوسط أي أنها تجعل ما كان وسطا غير وسط فيكون ذلك نسخا للأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى
وأجاب بان هذا غير سديد إذ يلزم عليه ان تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير الآخرة فلو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا واعلم ان هذا الجواب غير سديد لأن غير الصلاة من العبادات لم يرد فيه الامر فالمحافظة على الوسطى ليقال مثله فيها بل الحق عندي أنهم ان أرادوا بكونها تغير الوسط أنها تجعل المتوسط بين الشيئين غير وسط فذلك غير سديد لأن كون العبادة وسط أمر حقيقي ليس بشرعي والنسخ إنما يتطرق الى الحكم الشرعي وان أرادوا به ما ذكر من نسخ الامر بالمحافظة على الوسطى فنقول ان كانت الوسطى علما على صلاة بعينها أما الصبح أو العصر وليست فعلى من المتوسط بين الشيئين فما ذكرتموه ساقط إذ لا يلزم من زيادة صلاة ان يرتفع الامر بالمحافظة على تلك الصلاة الفاضلة لعدم منافاته له وان كانت الوسطى المتوسطة بين الصلوات فالقول حينئذ الذي يظهر ان الامر يختلف بما يزيد والحالة هذه فان زيدت واحدة فهي ترفع الوسط بالكلية ويتجه ما ذكروه اتجاها واضحا لأن الوسط حينئذ وان كان أمرا حقيقيا الا ان الشرع ورد عليه وقرره فيكون نسخا للحكم الشرعي وان زيدت ثنتين ونحوهما مما لا يرفع الوسط فلا نسخ إذ لم يرفع للوسط وانما خرجت الظهر مثلا عن ان يكون وسطا وكونها كانت الوسط إنما هو امر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ عليه والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك وهو لم يزل بل هو باق
قال أما زيادة ركعة ونحوها فذلك عند الشافعي رضي الله عنه ونسخ عند ابي حنيفة رحمه الله وفرق قوم بين ما نفاه المفهوم وما لم ينفه والقاضي عبد الجبار بين ما ينفي اعتداد الاصل وبين ما لم ينفه وقال البصري ان نفي ما

ثبت شرعا كان نسخا وإلا فلا زيادة ركعة على ركعتين نسخ لاستعقابهما التشهد وزيادة التغريب على الحد ليس بنسخ
مضى الكلام في زيادة العبادة المستقلة كزيادة ركعة أو ركوع ففيه مذاهب
أحدها أنها ليست نسخا وهو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وقول ابي علي وأبي هاشم
الثاني أنها نسخ وهو قول الحنفية
الثالث التفصيل فقال قوم ان كانت الزيادة قد نفاها المفهوم فيكون نسخا وإلا فلا كما قال في سائمة الغنم زكاة ثم قال في المعلومة زكاة وقال القاضي عبد الجبار بن احمد إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيرا شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على ما كان يفعل قبلها لم يعتد به بل وجوده كعدمه ويجب استئنافه فانه يكون نسخا كزيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على نحو ما كان يفعل قبل الزيادة لصح لم تكن نسخا كزيادة التغريب على حد القاذف
وقال أبو الحسين البصري ان كان الزائد رافعا لحكم ثابت 2بدليل شرعي كان نسخا سواء ثبت بالمنطوق أم بالمفهوم وان كان ثابتا بدليل عقلي كالبرآة الأصلية فلا وهذا هو الأحسن عند الإمام والمختار عند الآمدي وابن الحاجب قوله فزيادة أي فعل ما ذكره أبو الحسين زيادة ركعة على ركعتين يكون حينئذ نسخا لأنها رفعت حكما شرعيا وهو وجوب التشهد عقيب الركعتين وزيادة التغريب على الحد في حق الزاني لا يكون نسخا لأن عدم التقريب كان ثابتا بالبرآة الأصلية وكلام المصنف يوهم ان هذين المثالين من تتمة كلام أبو الحسين وليس كذلك فقد نقل عنه الآمدي في الفرع الثاني من فروع المسالة أن المثالين جميعا ليسا بنسخ
أما الثاني فظاهر واما الأول فلأن التشهد ليس محله بعد الركعتين بخصوصهما بل آخر الصلاة وذلك غير مرتفع وقال بعضهم واختاره الغزالي إن

كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وان لم يكن كذلك كزيادة عشرين على حد القاذف فلا ولم يذكر في الكتاب هذا المذهب والله اعلم
قال خاتمة النسخ يعرف بالتاريخ فلو قال الراوي هذا سابق قبل بخلاف ما لو قال هذا منسوخ لجواز ان يقوله عن اجتهاد ولا يراه
المقصود من هذه الخاتمة بيان الطرق التي بها يعرف الناسخ من المنسوخ وإنما ذكر ذلك آخر الباب وجعله خاتمة لنقله بجميع أنواع النسخ وجملة القول فيه ان النسخ يعرف إما بأن ينص عليه الشارع ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لوضوحه وإما بالتاريخ بأن يعلم بطريق صحيح ان أحد الدليلين المتنافيين متأخر عن الآخر فيحكم بأنه ناسخ له فلو قال الراوي هذه الآية نزلت قبل تلك الآية أو في سنة كذا والأخرى في السنة التي بعدها وهذا الحديث سابق على ذلك الحديث أو كان في سنة كذا وكذا وهذا في السنة التي بعده قبل قوله في ذلك وان كان قبوله يقتضي نسخ المتواتر وذلك لأن النسخ حصل بطريق للتبع والشيء يغتفر إذا كان تابعا ولا يغتفر أصلا في مسائل كثيرة أصولية وفقهية كما ان الشفعة لا تثبت في الأشجار والأبنية بطريق الأصالة وتثبت تبعا للأرض إذا بيعت معها وكما إذا قطعت يد المحرم فانه لا فدية عليه للشعر الذي عليها والظفر لأنهما هنا تابعان غير مقصودين بالإبانة وعلى قياس هذا لو كشط جلدة الرأس فلا فدية ويشبه هذا بما لو كان تحته امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة فإنه يبطل النكاح ويجب المهر ولو قتلتها لا يجب المهر لأن البضع تابع عند القتل غير مقصود ويلتحق به ايضا ما في الرافعي عن التتمة من انه لا يجوز توكيل المرأة في الاختيار في النكاح ان اسلم الكافر على اكثر من أربع نسوة لأن الفروج لا تستباح بقول النساء
وفي الاختيار للفراق وجهان لأنه وان تضمن اختيار الأربع للنكاح فليس أصلا فيه بل تابعا فاغتفر وكذلك إذا أذن السيد للعبد في النكاح وأطلق فزاد على مهر المثل فإن الزيادة تجب في ذمته يتبع بها إذا عتق بلا خلاف ولا يقال هل الأخرى في ثبوت هذه الزيادة في ذمة العبد بغير إذن السيد خلاف كما

جرى في ضمان العبد بغير إذن السيد لأن الالتزام ها هنا جرى في ضمن عقد مأذون فيه
وقد يمتنع الشيء مقصودا وان حصل في ضمن عقد لم يمتنع ونظيره يصح خلع العبد قولا واحدا ويمتنع من تمليك السيد بعقد الهبة على اصح الوجهين ومسائل هذا الفصل تخرج عن حد العد
أما لو قال الراوي هذا منسوخ لم يقبل لجواز ان يقوله عن اجتهاد منه ولا يلزمنا ذلك الاجتهاد أو لا يقتضيه رأينا وقال الكرخي ان عين الراوي الناسخ كقوله هذا نسخ هذا فالأمر كذلك لجواز ان يقوله عن اجتهاد وان لم يعينه بل اقتصر على قوله هذا منسوخ قبل لأنه لولا ظهور النسخ فيه لما أطلق النسخ إطلاقا
قال الإمام هذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أول الامر كذلك وليس كذلك وبالله التوفيق والعون تم الجزء الأول ومن تجزئة المصنف فسح الله في مدته

-

الكتاب الثاني
في السنة
قال رحمه الله الكتاب الثاني في السنة وهي قول الرسول صلى الله عليه و سلم أو فعله قد سبق مباحث القول والكلام في الأفعال وطريق ثبوتها وذلك في بابين الباب الأول في أفعاله وفيه مسائل الاولى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب الا الصغائر سهوا والتقرير مذكور في كتاب المصباح
السنة في اللغة الطريقة والسيرة وفي الاصطلاح ما ترجح جانب وجوده على عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض وتطلق السنة على ما صدر عن النبي صلى الله عليه و سلم من الأقوال والأفعال التي ليست للإعجاز وهذا هو المراد هنا ويدخل في الأفعال التقرير لأنه كف عن الإنكار والكف فعل على المختار كما سبق فإذا أردنا تعريف السنة التي عقد لها هذا الكتاب قلنا هي الشيء الصادر عن محمد المصطفى صلى الله عليه و سلم لا على وجه الإعجاز وقد سبقت مباحث القول بأقسامها والأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ وكلامنا الآن في الأفعال والباب الأول معقود لها وفي الطريق التي يتوصل بها الى ثبوت الأفعال والباب الثاني معقود لذلك وفي الباب الأول مسائل
الاولى في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واعلم ان الكلام في هذه المسألة محلة علم الكلام واختيار المصنف قد عرفته وهو رأي جماعات ويشترط عند من يقول بوقوع ذلك بطريق السهو ان يحصل الذكر والذي نختاره نحن وندين الله تعالى عليه انه لا يصدر عنهم ذنب لا صغير ولا كبير لا عمدا ولا سهوا وان الله تعالى نزه ذواتهم الشريفة عن صدور النقائص وهذا هو

اعتقاد الشيخ الإمام الوالد أيده الله وعليه جماعة منهم القاضي عياض بن محمد اليحصبي ونص على القول به الأستاذ أبو اسحاق في كتابه في أصول الفقه وزاد انه يمتنع عليهم النسيان ايضا واما دعوى الإمام في الكلام على الطرق الدالة على القطع بصحة الخبر مما عدا المتواتر في الكلام على خبر الرسول صلى الله عليه و سلم انه وقع الاتفاق على جواز السهو والنسيان فهي دعوى غير سديدة لما حكاه الأستاذ وذهب إليه والمصنف أحال الكلام في هذه المسالة على كتابه مصباح الأرواح
قال الثانية فعله المجرد على الإباحة عند مالك والندب عند الشافعي والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وتوقف الصيرفي وهو المختار لاحتمالها واحتمال ان تكون من خصائصه
فعل النبي صلى الله عليه و سلم على أقسام
الأول ان يدل آخر أو قرينة معه على انه لوجوب كقوله صلى الله عليه و سلم صلوا كما رأيتموني اصلي وقوله عليه السلام خذوا عني مناسككم فان هذين الحديثين يدلان على وجوب اتباعه في أفعال الصلاة وأفعال الحج إلا ما خصه الدليل والقول في هذا القسم متضح فانه على حسب ما يقوم الدليل والقرينة عليه وفاقا
الثاني ما علم انه صلى الله عليه و سلم فعله بيانا لشيء نحو قطعه يد السارق من الكوع إذ فعله بيانا لقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
الثالث ما عرف بالقرينة انه للإباحة كالأفعال الجلية نحو القيام والقعود والأكل والشرب وغير ذلك وأمره واضح الا أن التأسي مستحب وقد كان ابن عمر رضي الله عنه لما حج يجر خطام ناقته حتى يبركها في موضع بركت فيه ناقة النبي صلى الله عليه و سلم تبركا بآثاره الظاهرة ومواطن نعاله الشريفة
والرابع ما عرف انه مخصوص به كالضحى والأضحى
الخامس ما عرف انه غير مخصوص به كأكثر التكاليف فهذه الاقسام

كلها ليس فيها شيء من الخلاف وأمرها واضح وكل هذه الاقسام خرجت بقول المصنف فعله المجرد فافهم ذلك
السادس ما تجري عن جميع ما ذكرناه الا ان قصد القربة ظاهر فيه فهذا ليس أيضا مجردا من كل وجه ولك ان تقول انه يخرج ايضا بقول المصنف المجرد وفي هذا القسم اختلاف لنا غرض في تأخير حكايته الى سابع الأحكام
السابع ما لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا فهذا أمر دائر بين الوجوب والندب والإباحة لأن المحرم يمتنع صدوره عنه لما تقرر في مسألة عصمة الأنبياء والمكروه يندر وقوعه من أحاد عدول المسلمين فكيف من سيد المتقين وإمام المرسلين والذي نراه انه لا يصدر منه وانه من جملة ما عصم عنه وإذا دار الامر بين هذه الأمور فهل يدل على واحد منها مسألة الكتاب وفيها مذاهب
أحدها انه يدل على الإباحة وهو مذهب مالك وتابعه في ذلك جماعة من الأئمة وجزم به الآمدي
والثاني انه يدل على الندب وهو المنسوب الى الشافعي واختاره امام الحرمين وبه قالت طوائف من الأئمة ونقله القاضي أبو الطيب عن ابي بكر القفال وعن الصيرفي وسيأتي النقل عن الصيرفي بالوقف
الثالث انه يدل على الوجوب وبه قال ابن سريج وأبو سعيد الاصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة والحنابلة وكثير من المعتزلة ونقله القاضي في مختصر التقريب عن مالك قال القرافي وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية وفروع المذهب مبنية عليه ثم قال القاضي واختلف القائلون بالوجوب على طريقين فذهب بعضهم الى انا ندرك الوجوب بالعقل وذهب بعضهم الى انا ندركه بأدلة السمع
الرابع التوقف وعليه جمهور المحققين منا كالصيرفي والواقفية واختاره الغزالي والامام واتباعه منهم المصنف وصححه القاضي أبو الطيب في الكفاية عن اكثر الأصحاب وأبي بكر الدقاق وأبي القاسم بن كج وقالوا لا ندري أنه

للوجوب أو الندب أو للإباحة لاحتمال هذه الأمور كلها واحتمال ان يكون ايضا من خصائصه
والخامس انه على الخطر في حقنا حكاه الغزالي قال الآمدي وهو قول بعض من جوز على الأنبياء المعاصي قلت وليس مستندا لقائل بهذه المقالة تجويز المعاصي بل ما ذكره القاضي في مختصر التقريب فقال ذهب قوم الى انه يحرم اتباعه وهذا من هؤلاء الانباء على أصلهم في الأحكام قبل ورود الشرائع فانهم زعموا أنها على الخطر ولم يجعل فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم علما في تثبت حكم فبقي الحكم على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود الشرائع انتهى وكذلك ذكر الغزالي وقال لقد صدق هذا القائل في قوله بقي على ما كان وأخطا في قوله
ان الأحكام قبل الشرع على الخطر لما قررناه في موضعه فان قلت فهل قصد القربة في الفعل قرينة الوجوب أو الندب حتى لا يتأتى فيه الخلاف المذكور قلت لا لتصريح بعضهم بجريان الخلاف في القسمين جميعا اعني ما ظهر فيه قصد القربة وما لم يظهر غير ان القول بالوجوب والندب يقوي في القسم الأول بالإباحة والتوقف يضعف فيه
واما القسم الثاني فبالعكس منه فإن قلت فكيف يتجه جريان قول بالإباحة فيما يظهر فيه قصد القربة فإن القربة لا بجامع استواء الطرفين قلت النبي صلى الله عليه و سلم قد يقدم على ما هو مستوى الطرفين ليبين للامة جواز الاقدام عليه ويثاب صلى الله عليه و سلم بهذا القصد وهذا الفعل وان كان مستوى الطرفين فيظهر في المباح قصد القربة هذا الاعتبار ولا يتجه جريان القول بالإباحة الا بهذا التقريب على انا لم نر من المتقدمين من صرح بحكايته في هذا القسم أعني السادس وهو ما ظهر فيه قصد القربة نعم حكاه الآمدي ومن تلقاه منه ولا مساعد للآمدي على حكايته وأنا قد وقفت على كلام القاضي فمن بعده
الثامن ما دار الأمر فيه بين ان يكون جبليا ان يكون شرعيا وهذا القسم لم يذكره الأصوليون فهل يحمل على الجبلي لأن الاصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه صلى الله عليه و سلم تعث لبيان الشرعيات

وهذا القسم قاعدة جليلة وهي مفتتح كتابنا الأشباه والنظائر وقد ذكرت في كتاب الأشباه والنظائر انه قد يخرج فيها قولان من القولين في تعارض الاصل والظاهر ان الاصل عدم التشريع والظاهر انه شرعي لكونه مبعوثا لبيان الشرعيات
ومن صور هذا القسم أنه صلى الله عليه و سلم دخل من ثنية كداء وخرج من ثنية كداء فهل كان ذلك لأنه صادف طريقة أو لأنه سنة فيه وجهان ومنها جلسة الاستراحة عندما حمل اللحم فقيل ذلك جبلي فلا يستحب وقيل شرعي ومنها انه صلى الله عليه و سلم طاف راكبا فهل يحمل على الجبلي فلا يستجيب أو على الشرعي ومنها حجه راكبا ومنها ذهابه في العيد في طريق وإيابه في آخر القاعدة مستوفاة في كتابنا الأشباه والنظائر كمله الله
قال احتج القائل بالإباحة بأن فعله لا يكره ولا يحرم والأصل عدم الوجوب والندب فبقي الإباحة ورد بأن الغالب من فعله الوجوب أو الندب
احتج القائل بالإباحة بأن فعله صلى الله عليه و سلم لا يكون حراما لما تقرر في مسألة العصمة ولا مكروها لما قدمناه من انه نادر بالنسبة الى آحاد العدول فكيف الى اشرف المرسلين وهذا عند من يجوز وقوع المكروه وقد قدمناه في ذلك في المكروه الذي لا يقصد بفعله بيان جوازه
أما ما فعله ليبين انه جائز فقد يقال لم لا يقع الاقدام ويكون مستحبا أو واجبا بالنسبة إليه لما في أقدامه عليه من تبيين الجواز كما قدمناه والذي يظهر انه لا يقدم على فعله إذ في القول مندوحة عن الفعل وإذا انتفى المحرم والمكروه انحصر الامر في الواجب والمندوب والمباح والاصل عدم الوجوب والندب فلم يبق الا الإباحة
وأجاب بأن الغالب على فعله الوجوب والندب فيكون الحمل على احدهما أولى لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ارجح وأولى من إلحاقه بخلاف ذلك ولقائل ان يقول الوجوب والندب وان كانا غالبا الا انا لا نسلم انه يقاوم الاصل الذي اشرنا إليه بل الاصل أولى قال وبالندب بأن قوله تعالى لقد

كان لكم في رسول الله أسوة حسنة يدل على الرجحان والاصل عدم الوجوب
واحتج القائل بالندب بقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والاستدلال بهذه الآية يقرر على أربعة اوجه ثلاثة منها تدل على الندبية والرابع يدل على الوجوب
الأول التمسك بقوله لكم ووجهه انه قال عليكم وذلك يفيد انه مندوب إليه إذ المباح لا نفع فيه واللام للاختصاص بجهة النفع والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا الدنيوي
والثاني هو ما أورده الإمام التمسك بقوله أسوة وتقريره ان التأسي لو كان واجبا لقال عليكم كما عرفت فلما قال لكم دل على عدم الوجوب ولما اثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك فلم يكن مباحا
الثالث وهو ما أورده في الكتاب التمسك بقوله حسنة ووجهه ان قوله حسنة تدل على الرجحان والوجوب منتف بالأصل فتعين الندب ولم يجب عن هذا بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب
وأجاب عنهما بأن الأسوة والمتابعة من شرطهما العلم بصفة الفعل
والرابع الدال على الوجوب وتقريره انه تعالى قال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وهذا جار مجرى التهديد على ترك التأسي به لأن معنى الآية ان يرجو الله واليوم الآخر فله فيه الأسوة الحسنة ومن لا يرجو الله واليوم الآخر فليس له فيه الأسوة الحسنة فيكون وعيدا على ترك التأسي به أو نقول بعبارة أخرى انه جعل التأسي به لازما لرجاء الله واليوم الآخر فيلزم من عدم التأسي به عدم رجاء الله واليوم الآخر وهو محرم فكذلك ما يستلزمه والتأسي به في الفعل إنما هو بإتيان مثل فعله فيكون الإتيان بمثل فعله واجبا هذا تقرير الأوجه

واعلم أن الذي يظهر في الآية أن الله تعالى جعل للمؤمنين في النبي صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة وتلك الأسوة هي الاقتداء به وليست عامة في كل شيء إذ هي نكرة في سياق الاثبات فلا تقتضي العموم فلا يلزم دخول الفعل المجرد تحتها هذا من حيث اللفظ وسواء قرر على الوجه المقتضي للوجوب أم للندب والحق من الدلائل الخارجية والبراهين القاطعة ان الاقتداء به في كل شيء مشروع محبوب لأن الله تعالى جعله قدوة الخليقة ولكن الاقتداء به يستدعي العلم بصفة الفعل والفعل المجرد لم تعلم صفته فلا يدل وجوب الاقتداء ولا استحبابه عليه
واما تمسك الإمام بلفظ الأسوة ففيه نظر إذ المعنى ان لكم فيه قدوة وانه شرع الاقتداء به وذلك اعم من ان يكون على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة كما تقول زيد قدمه وليس المعنى انه يجب الاقتداء به ولا يستحب بل ما هو اعم من ذلك
واما تمسك المصنف بقوله حسنة فقد أورد عليه ان الحسنة لا تدل على الرجحان لما تقرر في أوائل الكتاب من ان المباح حسن وهذا ايراد لائح في مباديء النظر الا ان الذهن يسابق في هذه الآية الى فهم الرجحان من قوله حسنة لا يكاد يتمارى فيه
ولعل سبب ذلك انه قال لكم أسوة فأفاد ذلك مشروعية الاقتداء فلما قال حسنة بعد ذلك اقتضى زيادة على المشروعية وليست تلك الزيادة الا الرجحان كما تقول زيد إنسان فان هذا كلام مفيد يفهم اللبيب منه بقولك إنسان فوق ما يفهم من مدلول إنسان من حيث هو وهو انه حلو الخصال الإنسانية الشريفة ولو لم يفهم زيادة على مدلول الإنسان لم يعد الكلام مفيدا إذ كل زيد إنسان
قال والوجوب بقوله تعالى فاتبعوه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وما آتاكم الرسول فخذوه وإجماع الصحابة على وجوب الغسل بالتقاء الختانين لقول عائشة رضي الله عنها فعلته انا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا واجيب بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فعل على وجهه وما آتاكم معناه وما أمركم بدليل وما نهاكم واستدلال الصحابة بقوله خذوا عنى مناسككم

واحتج القائل بالوجوب بالنص والإجماع أما النصف ففي مواضع
أحدها قوله تعالى فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه وظاهر الامر الوجوب
وثانيها قوله تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني دلت على ان محبة الله تعالى التي هي واجبة اجماعا مستلزما لمتابعة الرسول صلى الله عليه و سلم ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة
وثالثها قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه فإذا فعل فقد أتانا بفعل فوجب علينا ان نأخذه واما الاجماع فان الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته انا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا رواه الإمام احمد والترمذي وقال حسن صحيح فرجعوا لقول عائشة واتفقوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين
والجواب عن الدليلين الأولين بان المتابعة هي الإتيان بمثل فعله عل الوجه الذي اتى به من الندب أو غيره حتى لو فعله على جهة الوجوب ففعلناه على جهة الندب لم تحصل المتابعة
وحينئذ فيلزم توقف الامر بالمتابعة على معرفة الجهة وإذا لم نعلم بها لم نؤمر بالمتابعة واعلم ان المتابعة والتأسي بمعنى واحد فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابا على التأسي الذي احتج به الذاهب إلى الندب كما عرفت
وللمتابعة والتأسي شرط آخر مع ما ذكر وهو أن يقع الفعل لكونه فعل ومن هنا يغايران الموافقة فانه لا يشترط فيها ان تكون علة إياه كونه فعله وعن

الآية الثالثة ان معنى قوله آتاكم أمركم يدل على ذلك انه قال في مقابلة وما نهاكم واما الاجماع على وجوب الغسل فليس لمجرد الفعل بل لأنه فعل في باب المناسك وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه بقوله خذوا عنى مناسككم
واللفظ وان ورد في الحج فهو عام في كل نسك أي كل عبادة قلت وفي الجواب نظر فان في الحديث بعد قوله خذوا عني مناسككم فإني لا ادري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه كذا رواه مسلم واحمد والنسائي وعامة من رواه ويتعين بهذا اللفظ حمله على أعمال الحج دون غيرها
ويمكن ان يقال في الجواب عن الاجماع انهم لم يجمعوا بمجرد فعله عليه السلام بل لفعل عائشة رضي الله عنها معه فان بفعلها يتبين ان الحكم فيها فينا واحد بخلافه لاحتمال الخصوصية فيه ثم لقائل ان يقول هذا القسم مما ظهر فيه قصد القربة والمصنف إنما تكلم في المتجرد
قال الثالثة جهة فعله أما بتنصيصه أو تسويته بما علم جهته وبما علم انه امتثال آية دلت على أحدها أو بيانها وخصوصا الوجوب بإمارته كالصلاة بأذان وإقامة وكونه موافقة نذر أو ممنوعا لو لم يجب كالركوعين في الخسوف والندب بقصد القربة مجردا وكونه قضاء لمندوب
تقدم أن المتابعة مأمور بها وأن من شرطها العلم بجهة الفعل وهذه المسألة في بيان الطرق التي يعرف بها الجهة وقد عرفت ان فعله صلى الله عليه و سلم منحصر في الواجب والمندوب والمباح فالطريق حينئذ قد يعم هذه الأمور وقد يخص البعض منها فالعام أربعة
أحدها ان ينص على كونه من القسم الفلاني
الثانية ان يسويه بفعل علمت جهته كما إذا قال هذا الفعل مساو للفعل الفلاني وكان ذلك الفعل المساوي إليه معلوم الجهة
والثالث ان يقع امتثالا لآية دلت على أحد هذه الثلاثة
والرابع ان يقع بيانا لآية مجملة دلت على أحدها والى هذا القسم أشار بقول أو بيانها وهو مرفوع عطفا على قوله امتثال أي ويعلم جهة فعله بسبب أن

علم ذلك الفعل امتثال آية أو بيان قوله وخصوصا أي ويعلم خصوصا الوجوب بالعلامات الدالة عليه وذلك في أشياء
أحدها ان يقع صفة تقرر في الشريعة أنها امارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة
والثاني ان يكون جزاء شرط كفعل ما وجب بالنذر بأن يقول مثلا لله على إن جرى الأمر الفلاني صوم غد ثم نرى جريان ذلك الامر وصومه في غد واعلم ان وقوع النذر من النبي صلى الله عليه و سلم غير متصور ان قلنا بكراهته وهو الذي حكاه الشيخ أبو علي السبخي عن نص الشافعي كما نقل ابن أبي الدم
الثالث ان يكون ممنوعا لو لم يجب كالإتيان بالركوعين في صلاة الخسوف والكسوف وكالختان ولقائل ان يقول هذا لا ينتقض بسجود السهو وسجود التلاوة فإنهما شيئان وممنوع منهما لولا المقتضى لهما ويعرف الوجوب ايضا بكون قضاء الواجب هذا قد ذكره المصنف في المندوب ومن العجب إخلاله به هنا ويعرف ايضا بالمداومة على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب وهذا دليل ظاهر على الوجوب كأنه لو كان غير واجب لنص عليه دليلا أو لأدخل بتركه لئلا يوهم إيجاب ما ليس بواجب
وقوله والندب أي ويختص معرفته الندب بشيئين
احدهما قصد القربة مجردا عن امارة دالة على الوجوب فانه يدل على انه مندوب لأن الرجحان ثبت بقصد القربة والاصل عدم الوجوب وفي هذا ما تقدم من الخلاف
والثاني كون الفعل قضاء لمندوب وبعرف الوجوب والندب كلاهما بالدلالة على انه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر نبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وما ليس بواجب هذا أهمله المصنف
قال الرابعة الفعلان لا يتعارضان فإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متقدما نسخه وان عارض متأخرا عاما فبالعكس وان اختص بنا خصنا قبل الفعل ونسخ عنا بعده وان جعل التاريخ فالأخذ بالقول في حقنا لاستبداده

التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجه يمنع منهما مقتضى صاحبه والتعارض بين الفعلين غير متصور لأنهما وان تناقض حكمهما فيجوز ان يكون الفعل في ذلك واجبا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه لأن الأفعال لا عموم لها ولو فرض مع الفعل الأول قول مقتض الوجوب تكراره فالفعل الثاني قد يكون ناسخا أو مخصصا لكن ذلك القول لا للفعل فالمتعارض بين الفعلين ممتنع بل أما ان يقع بين قولين أو قول وفعل ومحل الكلام في الأول كتاب التعادل والتراجيح
واما الثاني فذكره هنا وله أحوال لأنه إما ان يكون القول متقدما أو متأخرا أو يجهل الحال
قوله قولا متقدما هذا هو الحال الأول وجملة القول فيه انه عليه السلام إذا فعل فعلا وقام الدليل على وجوب اتباعه فيه فإنه يكون ناسخا للقول المتقدم عليه سواء كان ذلك القول عاما كقوله مثلا صوم يوم عاشوراء واجب علينا ثم انا نراه افطر فيه وأقام الدليل على اتباعه فيه أم كان خاصا به أم خاصا بنا
قوله فإن عارض متأخرا هذا هو الحال الثاني فإذا كان القول متأخرا عن الفعل الذي دل الدليل على وجوب اتباعه فيه فإن لم يدل دليل على وجوب تكرر الفعل فلا تعارض وتركه المصنف لوضوحه وان دل على وجوب تكرره عليه وعلى أمته فالقول المتأخر إما ان يكون عاما يشمله يشمل أمته فيكون ناسخا للفعل المتقدم كما إذا صام عاشوراء وقام الدليل على وجوب اتباعه فيه وجوب تكرره ثم قال لا يجب علينا صومه هذا شرح قوله فإن عارض متأخرا عاما فبالعكس أي يكون الفعل منسوخا عكس حالته الاولى التي كان فيها ناسخا للقول
واما ان يكون خاصا به عليه السلام كقوله في المثال المذكور لا يجب علي صيامه فلا تعارض بالنسبة الى الامة لعدم تعلق القول بهم فيستمر حكم الفعل الأول عليهم وينسخ في حقه صلوات الله وسلامه عليه وإما ان يكون خاصا بنا كقوله لا يجب عليكم صومه فلا تعارض أيضا وحكمه صلى الله عليه و سلم مستمر

واما نحن فيرتفع عنا التكليف به ثم ان ورد ذلك قبل صدور الفعل منا كان مخصصا مبينا لعدم الوجوب وهذا يتجه ان يكون بناء على انه يجوز التخصيص في اللفظ العام الى ان يبقى واحد وان ورد بعد صدور الفعل كان ناسخا لفعلنا المتقدم ولا يكون تخصيصا لإستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة
واعلم ان هذا التفصيل إنما يأتي إذا كانت دلالة الدليل الدال على وجوب اتباع الفعل ظاهرة كالإتيان بلفظ عام مثل هذا الفعل واجب على المكلفين ان قلنا المخاطب داخل في عموم خطابه أو علينا معاشر الناس واما إذا كانت قطعية فلا يمكن حمل القول المتأخر على التخصيص أصلا بل يتعين حمله على النسخ مطلقا ثم هذا كله فيما إذا كان الفعل المتقدم بما يجب علينا اتباعه كما عرفت واما ان لم يكن كذلك فلا تعارض بالنسبة إلينا لعدم تعلق الحكم بنا
واما بالنسبة إليه صلى الله عليه و سلم فإن الدليل على وجوب تكرر الفعل وكان القول المتأخر خاصا به أو متناولا له بطريق النص فيكون القول ناسخا للفعل وان كان بطريق الظهور فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم لأن المخصص عندنا لا يشترط تأخره عن العام
ولم يذكر المصنف ذلك لظهور قوله فإن جهل هذا هو الحال الثالث وهو ان يكون المتأخر منهما اعني من القول والفعل مجهولا فان أمكن الجمع بينهما بالتخصيص أو غيره جمع لأن الجمع ما بين الدليلين ولو من وجه أولى من خلافه وان لم يكن الجمع بوجه ما وفيه تكلم المصنف ففيه مذاهب
أحدها ان الأخذ بالقول لأنه مستقل بالدلالة موضوع لها بخلاف الفعل فإنه لم يوضع لها وإن دل فإنما يدل بواسطة القول فيقلد القول لاستلزامه وهذا ما جزم به الإمام وأتباعه واختاره الآمدي
والثاني أنه يقدم الفعل لأنه أوضح الدلالة ألا ترى انه يبين به القول كالصلاة والحج
والثالث الوقوف الى ظهور التاريخ لتساويهما في الدلالة واختار ابن الحاجب قولا رابعا من هذه الثلاثة وهو الوقف بالنسبة إليه صلى الله عليه و سلم والقول بالنسبة

ترجح القول فيعمل به في حقنا لا في حقه بشيء وهذا هو الذي اشعر به اختيار صاحب الكتاب لأنه قال فالأخذ بالقول في حقنا وسكت عن حقه صلى الله عليه و سلم قال الخامسة انه عليه السلام قبل النبوة تعبد بشرع وقيل لا
المسالة مشتملة على بحثين
الأول فيما كان صلى الله عليه و سلم عليه قبل ان يبعثه الله تعالى برسالته قال امام الحرمين وهذا ترجع فائدته الى ما يجري مجرى التواريخ وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب
الأول انه كان قبل النبوة متعبدا بشرع واختاره ابن الحاجب والمصنف وعلى هذا فقيل كان على شريعة آدم وقيل ابراهيم وقيل نوح وقيل موسى وقيل عيسى عليهم وعليه صلوات الله وسلامه وقال بعضهم ما ثبت انه تشرع من غير تخصيص
والمذهب الثاني انه عليه السلام لم يكن قبل المبعث متعبدا بشيء قطعا
قال القاضي في مختصر التقريب وهذا هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين ثم اختلف القائلون بهذا المذهب فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلا وذهب عصيبة أهل الحق الى انه لم يقع ولكنه غير ممتنع عقلا قال القاضي وهذا ما نرتضيه وننصره
والمذهب الثالث التوقف وبه قال امام الحرمين والغزالي والآمدي وهو المختار وقد اعتمد القاضي على ما ذهب إليه بأنه لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعثه نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده وعارض امام الحرمين ذلك بأنه لو لم يكن على دين أصلا لنقل فإن ذلك أبدع وابعد عن المعتاد مما ذكره القاضي
قال فقد تعارض الأمران والوجهان يقال كانت العادة انخرقت للرسول صلى الله عليه و سلم في أمور منها انصراف همم الناس عن أمر دينه والبحث عنه قال وبعدها الأكثر على المنع وقيل أمر بالاقتباس ويكذبه انتظار الوحي وعدم مراجعته ومراجعتنا

قيل راجع في الرجم قلنا للإلزام واستدل بآيات أمر فيها فاقتفاء الأنبياء السالفة عليهم السلام قلنا في أصول الشريعة وكلياتها
البحث الثاني في انه صلى الله عليه و سلم هل تعبد بشرع بعد النبوة من قبله والكلام في ذلك مع من لم ينف التعبد قبل النبوة
واما من نفاة قبل النبوة فقد نفاه بعده بطريق أولى
وقد ذهب الاكثرون من المعتزلة وأصحابنا الى انه لم يكن متعبدا بشرع أصلا ثم افترقوا فقالت معتزلتهم ان التعبد بشرع من قبلنا غير جائز عقلا زاعمين ان ذلك لو قدر لأشعر بحطيطة ونقيصة في شرعنا ولتضمن ذلك ايضا إثبات الحاجة الى مراجعة من قبلنا وهذا حط من رتبة الشريعة
وقال الآخرون ان العقل لا يحيل ذلك ولكنه ممنوع شرعا واختاره الإمام والآمدي
وقال قوم من الفقهاء انه كان متعبدا أي مأمورا بالاقتباس من كتبهم كما أشار إليه المصنف
وهذا هو اختيار ابن الحاجب وهو معنى قولهم إذا وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمنا التعلق به
قال امام الحرمين وللشافعي ميل الى هذا وبنا عليه أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه
قال في الكتاب ويكذب هذا المذهب أي يبطل ما ذهب إليه بعض الفقهاء انه صلى الله عليه و سلم كان ينتظر الوحي ولا يقتبس من كتبهم ولا يراجعها إذ لو فعل ذلك لاشتهر ويكذبه ايضا عدم مراجعتنا إذ لو كان متعبدا لوجب على علمائنا الرجوع الى كتبهم بأسبابه وهذا الوجه هو الذي اعتمد عليه القاضي رضي الله عنه وكذلك امام الحرمين
وقال هو المسلك القاطع فان الصحابة كانوا يترددون في الوقائع بين الكتاب والسنة والاجتهاد إذ لم يجدوا متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون على أحكام

الكتب المنزلة على من قبل نبينا صلى الله عليه و سلم وكذلك من بعدهم من التابعين وتابع التابعين لم يفتقروا قط في جزئية ولا كلية الى النصارى واليهود ولا التفتوا نحو التوراة والإنجيل بشفة ولا إيماء مع تقابل الإمارات وتزاحم المشكلات ولقد كانوا يجتزون بقياس الشبه وطرق التلويح والترجيع فكان ذلك اجماعا قاطعا وبرهانا واضحا على عدم الرجوع الى ذلك
إذ لو كانوا مخاطبين بشرائع من قبلنا لبحث علماؤنا عنها كما بحثوا عن مصادر الشريعة ومواردها
قال القاضي فإن قال الخصوم بأن ذلك امتنع عليهم من جهة ان أهل الأديان السالفة حرفوا وبدلوا ولم يبق من نقلة كتبهم من يوثق به حتى قال أهل التواريخ لم يبق من يقوم بالتوراة بعد عزير ولا الإنجيل بعد برخيا قيل لهم الجمع بين هذا السؤال والمصير الى الأخذ بشرع من قبلنا تصريح بالتناقض لأن سياقه بحر الى انه لا يجب تتبع الشرائع المتقدمة لمكان التباسها واندراسها وصيرورة التكليف بها تكليفا بالمستحيل لعدم التمكن من الوصول إليه فكأنكم وافقتم المذهب وخالفتم العلة وإيضا فلو كان لنا تعلق في شرع من قبلنا لنبهنا الشرع على مواقع اللبس حتى لا يتعطل علينا مراجعة الأحكام
وأيضا فأنا نقول من أحكام الأوائل ما نقل إلينا نقلا يقع به العلم فهل اخذ أهل الاعصار به وإيضا فان من أهل الكتاب من اسلم وحسن إسلامه وبلغ من الأمانة والثقة أعلى الرتبة كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار فهلا رجع للصحابة الى قولهما في الاخبار عما لم يبدل من التوارة واعتذر القرافي عن هذا الجواب الأخير بأن الذين اسلموا من الاخبار وان كانوا عدولا عظماء في الدين غير أنهم ليس لهم رواية بالتوراة ولا سند متصل وليس الا انهم وجدوا آباءهم يقرؤون هذا الكتاب والجميع في ذلك الوقت كفار فلا رواية
ولو وقعت كانت عن الكفار والرواية عن الكفار لا تصح ومن اطلع على أهل الكتاب في شرائعهم ومطالعة أحوالهم حصل على جزم بذلك
واعترض الخصم بأنه صلى الله عليه و سلم رجع الى التوراة في قصة الرجم ففي الصحيحين

من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ان اليهود جاؤوا الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له ان إمرأه منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تجدون في التوارة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرا ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام إرفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقال صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه و سلم فرجما الحديث وهذا اعتراض ضعيف لأن الرجوع إليها إنما كان لإلزام اليهود حيث أنكروا ان وجد وجوب الرجم في التوراة فأقيمت الحجة عليهم بوجود ذلك فيما بين أيديهم وان الحكم فيه موافق لشريعتنا ووضح بهتهم وعنادهم ولم يكن ذلك رجوعا من النبي صلى الله عليه و سلم الى التوراة بل يتعين اعتقاد ان ذلك كان بوحي إليه لتعذر الوصول الى ما في التوراة لعدم اتصال السند عن الثقاة كما ذكره القرافي
واحتج الخصم بآيات من الكتاب العزيز يدل على انه صلى الله عليه و سلم كان مأمورا باقتفاء الأنبياء السالفة عليهم السلام كقوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وقوله أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقوله ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه وقوله ثم أوحينا إليك ان اتبع وقوله انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وهو عليه السلام سيد النبيين والجواب ان المراد بذلك إنما هو وجوب المتابعة في الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع وتلك أصول الديانات وكلياتها كقواعد العقائد المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته والقواعد العملية المشتركة بين جميع الشرائع لحفظ العقول والنفوس والأموال والأنساب والأغراض فان قلت ألستم تقولون ان هذه الكليات لا تجب عقلا وانما تجب سمعا وإذا ثبت وجوب الاتباع فهو المقصد قلت أجاب القاضي في مختصر التقريب بانا نقول انه تعالى ما أوجب إن نبيه التوحيد الا ابتداء ثم نبه على انه كلفه بمثل ما كلف من قبله قال القاضي رضي الله عنه وأقوى ما يتمسك به في إبطال استدلالهم

انه صلى الله عليه و سلم ما بحث عن دين واحد من الأنبياء المغيبين قط لا نوح ولا ابراهيم ولا غيرهما ولو كان مأمورا باتباع شريعة لبحث عنها فوضح انه ليس المعنى بأنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وأمثال ذلك الا النهي عن الإشراك وما تابعه من الكليات
واما قوله تعالى فبهداهم اقتده فالمراد به افعل مثل فعلهم واعتقد في التوحيد مثل ما اعتقدوه
قال القاضي ويدل عليه انه جمع الأنبياء عليهم السلام في هذه الجملة ونحن نعلم انهم لا يجتمعون قضية الشريعة والذي اجتمعوا عليه هو التوحيد ومعرفة الله تعالى وأمثال ذلك فان قلت لئن استقام لكم ذلك في الآية المنطوية عل تخصيص ابراهيم عليه السلام بالاتباع قلت أجاب القاضي بأنه كما خص ابراهيم خصص نوحا
ونحن نعلم اختلاف ملتيهما واستحالة الجمع بينهما جملة فدل ذلك على انه لم يرد اتباع الشريعة وانما خصص من خصص بالذكر تكريما له وتعظيما قال وهذا كقوله تعالى وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح مع اندراجهما في اسم النبيين ونظائر ذلك يكثر في الكتاب العزيز فروع
الأول ان قلنا ان شرع من قبلنا شرع لنا فالاختلاف السابق في البحث الأول انه هل هو شرع آدم أو نوح أو ابراهيم أو موسى أو عيسى عليهم السلام جل ههنا بعينا
والثاني إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة حكمه من كتاب ولا سنة ولا استطابة ولا استحباب ولا غير ذلك مما قرره علماء شريعتنا من المأخذ وثبت تحريمه في شرع من قبلنا فهل يستجب تحريمه فيه قولان الأظهر انا لا نستصحب وهو قضية كلام عامة الأصحاب فان استصحبناه فشرطه ان يثبت تحريمه في

شرعهم بالكتاب أو السنة ويشهد به عدلان اسلما منهم يعرفان المبدل من غيره كذا ذكره أصحابنا ويخدشه ما سلف عن القرافي
والثالث اختلف الفقهاء في ان الاسلام هل هو شرط في الإحصان أم لا ومذهبنا انه ليس بشرط فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه ومذهب أبي حنيفة ان الاسلام شرط في الإحصان واستدل أصحابنا بحديث رجم اليهوديين المتقدم واعتذر الحنفية عنه رجمهما بحكم التوراة وهذا ضعيف يظهر بما تقدم فائدة الشرائع المتقدمة ثلاثة أقسام
الأول تعلمه لا من كتبهم ونقل أخبارهم الكفار ولا خلاف ان التكليف به علينا
والثاني ما انعقد الاجماع على التكليف به وهو ما علمناه بشرعنا انه كان شرعا لهم وامرنا في شرعنا بمثاله كقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس وقد قال كتب عليكم القصاص في القتلى وقام دليل الشرع على القصاص
الثالث ما ثبت انه من شرعهم بطريق صحيح نقبله ولم نؤمن به في شريعتنا فهذا هو موضوع الخلاف فاضبط ذلك وبالله التوفيق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7