كتاب : الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي
المؤلف : علي بن عبد الكافي السبكي

المسألة الثانية في تكليف الكفار
قال الثانية الكافر مكلف بالفروع خلافا للحنفية وفرق قوم بين الأمر والنهي
أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون وباعتبارها مطالبون ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن العلم بالعقائد يقع اضطرارا فلا يكلف به وأجمعت الأمة كما نقله القاضي أبو بكر على تكليفهم بتصديق الرسل وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم ولم يقل أحد إن التكليف بذلك متوقف على معرفة الله تعالى
وأما فروع الدين فقال الشافعي ومالك وأحمد إنهم مخاطبون بها وخالفت الحنفية وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفرايني من أصحابنا وذهب قوم إلى أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر وربما ادعى بعضهم أنه لا خلاف في تعلق النواهي وإنما الخلاف في الأوامر قال والدي رحمه الله وهي طريقة جيدة وفي المسألة مذهب رابع أن المرتد مكلف دون غيره لالتزام المرتد أحكام الإسلام ولا معنى لذلك لأن مأخذ المنع فيهما سواء وهو جهله بالله تعالى وزعم القرافي أنه مر به في بعض الكتب حكاية قوم وأنهم مكلفون بما عدا الجهاد دون الجهاد لامتناع قتالهم أنفسهم
واعلم أن هذه المسألة إنما ذكرت على صفة المثال لأصل وهو أنه هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أم لا وهي مسألة مشهورة وهنا مباحثتان

احدهما أن تكليف الكافر بالصلاة والصوم والحج ونحوها لا إشكال فيه لتمكنه من إزالة المانع والفعل بعده كالمحدث وحصول الشرط الشرعي غير مشروط في صحة التكليف على الرأي الصحيح أما الزكاة فقد يقال في تكليفهم بها إشكال لأن شرطها بعد ملك النصاب مضي الحول وإنما يجب بتمامه فإذا تم الحول وهو كافر كيف يكلف بزكاته وهو لا يمكنه فعلها في حال الكفر ولا بعده لأنه لا أسلم اشترط مضي حول من وقت إسلامه وهذا بخلاف الصلاة حيث يمكن فعلها في الوقت وجواب هذا الإشكال بأنه إذا تم الحول كلف بإخراجها بأن يسلم ويخرجها بعده فالتكليف بإخراجها بعد الإسلام الآن متحقق ولكنه إذا أسلم تسقط ويكون بمثابة نسخ الشيء قبل إمكان فعله وذلك جائز فما كلفناه بمستحيل بل بممكن فإن استمر على كفره كان التكليف مستمرا وإن أسلم سقط ويظهر بهذا معنى قول الأصوليين كما ستعرفه إن شاء الله
الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة ومضي الحول ليس من شرطه الإسلام والذي يستأنف حوله بعد الإسلام زكاة الحول الثاني
أما الأول فقد استقر وجوبه وهو متمكن من الإخراج
وفي الزكاة ثلاثة أشياء
الخطاب بأدائها وهو حاصل لما بيناه
والثاني ثبوتها في الذمة وهو حاصل أيضا لا يفترق الحال بين المسلم والكفار فيه
الثالث تعلقها بالمال وهذا يظهر أنه في المسلم خاصة دون الكافر لما سنعرفه على الأثر إن شاء الله فنقول
والمباحثة الثانية أن إطلاق الخلاف بخطاب الكفار بالفروع ربما يتوهم منه أن من يقول بتكليفهم بالفروع يقول كل حكم ثبت في حق المسلمين ثبت في حقهم ومن لا يقول بذلك يقول لا يثبت في حقهم شيء من فروع الأحكام

وليس الأمر على هذا التوهم وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين
خطاب تكليف وخطاب وضع فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف وليس كل تكليف أيضا بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض المؤمنين وإنما المراد العامة التي شملهم لفظا هل يكون الكفر مانعا من تعلقها بهم
أولا وأما خطاب الوضع فمنه ما يكون سببا لأمر أو نهي مثل كون الطلاق سببا لتحريم الزوجة قال والدي رحمه الله فهذا من محل الخلاف أيضا والفريقان مختلفان في أنه هل هو سبب في حقهم أيضا وربما يقول المانع من التكليف هو سبب ولكن قارنه مانع والعبارتان إن وقع فيهما تشاجر فهو لفظي
ومن خطاب الوضع كون اختلافهم وجناياتهم سببا في الضمان وهذا ثابت في حقهم إجماعا بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي وكون و قوع العقد على الأوضاع الشرعية سببا فيه في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في حق المسلم وكذا كون الطلاق سببا للفرقة فإن الفرقة تثبت إذا قلنا بصحة أنكحتهم ومن هذا القبيل الإرث والملك به ولولا ذلك لما شاع بيعهم لمواريثهم وما يشترونه ولا معاملتهم وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية والخلاف في ذلك لا وجه له
قال والدي بل ما أظن أحدا يتحقق عنه القول بأن النكاح الصادر منهم على الأوضاع الشرعية يكون فاسدا والصحة حكم شرعي وهي ثابتة في حقهم ومن يقول بأن الصحة حكم عقلي مراده مطابقة الأمر فهي حاصلة في حقهم لمطابقة عقدهم الوجه المشروع وأوضح دليل على ثبوت الصحة في حقهم من غير نزاع أن أبا حنيفة قال بها في الأنكحة وهو صدر القائلين بعدم تكليفهم بالفروع وأما صحة البيع ونحوه إذا جرى على الوضع الشرعي فلا تعلم من يقول بفساده في حقهم

ومن خطاب الوضع ثبوت المال في ذمتهم في الديون وفي الكفارات عند حصول أسبابها ولا نزاع في ثبوت ذلك حقهم كما ثبتت في حق المسلمين و كذلك تعلق الحقوق التي يطالبون بأدائها فأموالهم مثل تعلق أروش الجنايات برقاب الجناة ونحوذلك وعكس هذا تعلق الزكاة بالمال تعلق رهن كما قاله بعض الفقهاء أو جناية كما قاله بعضهم أو شركة كما هو الأصح من مذهب الشافعي فظهر أنه لا يثبت في حقهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالزكاة لأمرين
أحدهما أن المقصود أنهم يأثمون بتركها وليس المقصود أنهم تؤخذ منهم في كفرهم والتعلق المذكور إنما يقصد به تأكيد الوجوب لأجل الأخذ ليصان الواجب عن الضياع فلا معنى لإثباته في حق الكافر لأنه إن دام على الكفر لم يوجد منه وإن أسلم سقطت وما كان كذلك لا معنى للتعلق الذي هو توثقة فيه والموجود في حق الكفار إنما هو الأمر بأدائها وهذا مشترك بينهم وبين المسلمين وثبوتها في الذمة قدر زائد على ذلك قد يقال به في الكافر أيضا وإثبات تعلقها بالدين أمر ثالث يختص بالمسلم لا وجه للقول به في الكافر
الثاني أن المعتمد في ثبوت الشركة قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ولا مرية في أن الكافر لا يدخل في ذلك وكتاب أنس الذي كتبه له أبو بكر رضي الله عنه وفيه هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين وفيه كل خمس شاة ولا يلزم من إثبات هذا التعلق في حق المسلمين إثباته في حق الكافرين لظهور الفرق على ما قدمناه ولا شك أن الأدلة الواردة في أحكام الشريعة
منها ما يتناول لفظه الكفار مثل يا أيها الناس ونحوه فيتعلق بهم حكمه على القول بتكليفهم بالفروع
ومنها ما لا يشملهم لفظه كما ذكرناه من الآية والحديث كالآيات التي فيها يا أيها الذين آمنوا ونحوه فلا تتناولهم لفظا

قال والدي رحمه الله ولا يثبت حكمها لهم وإن قلنا إنهم مخاطبون بالفروع إلا بدليل منفصل أو تبين عدم الفرق بينهم وبين غيرهم والاكتفاء بعموم الشريعة لهم ولغيرهم وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا نثبته في حقهم بغير دليل ولا معنى
ومن خطاب الوضع كون الزنا سببا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم ولذلك رجم النبي صلى الله عليه و سلم اليهوديين ولا يحسن القول ببناء ذلك على تكليفهم بالفروع فإنه كيف يقال بإسقاط الإثم عنهم فيما يعتقدون تحريمه لكفرهم وهذا في الكتابي الذي يعتقد شرعا أما من لا يعتقد شيئا فيجري الخلاف في تعلق التحريم به في جميع المحرمات وقد قال الأستاذ أبو إسحق في أصوله لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه عليهم كما هو في المسلمين ونص الشافعي على أن حد الزنا لا يسقط بالإسلام
فانظر هذه المواضع وتأملها ونزل كلام العلماء عليها ولا يظنن الظان مخالفة ما ذكرناه لعبارات الأصوليين لأنهم إنما قالوا التكليف بالفروع فلا يرد خطاب الوضع عليهم

أدلة القائلين بتكليف الكفار
قال لنا أن الآيات الآمرة بالعبادة تتناولهم والكفر غير مانع لإمكان إزالته وأيضا الآيات الموعدة بترك الفروع كثيرة مثل فويل للمشركين وأيضا فإنهم كلفوا بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم فيكونون مكلفين بالأمر قياسا
استدل على المختار بأوجه
الأول أن المقتضى لتناول الكفار قائم مثل يا أيها الناس اعبدوا ربكم وغيرها والكفر لا يمنع من التناول للتمكن من إزالته فأشبه الحدث مانع من الصلاة إذ كل منهما مانع ممكن الزوال وما قال أحد من المسلمين إن المحدث لا يكلف بالصلاة حتى نبغ أبو هاشم وقال منكرا من القول وزورا قلت والاستدلال بنحو يا أيها الناس مستقيم وأما ما حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كل ما جاء في القرآن يا أيها الناس فالمراد المؤمنين فلم يصح عنه

الثاني أن الآيات الموعدة بترك الفروع مثل قوله تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ومثل قوله ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين دلت على أنهم كلفوا ببعض الفروع فيكونون مكلفين بالباقي إذ لا قائل بالفرق أو بالقياس
الثالث وهو دليل على من فصل وقال تتناولهم المناهي دون الأوامرولك أن تجعله دليلا على الفريقين وبه يشعر إيراد المصنف حيث استدل بتناول النهي ولو جعله دليلا على من وافق في النهي لم يحتج إلى الإستدلال وتقريره أن الدليل على أن النهي يتناولهم وجوب حد الزنا عليهم فيلحق به الأمر بجامع مطلق الطلب
فإن قلت لانسلم بأنه يتناول الكافر النهي ولا يرد وجوب حد الزنا لأنه التزم أحكامنا بعقد الجزية أو غيرها ولذلك لا نحد الحربي
قلت الالتزام بمجرده لا يوجب الحد
فإن قلت قال أبو عبد الله بن خويد و منداذ المالكلي إنهم إنما يقطعون السرقة ويقتلون في الحرابة من باب الدفع فهو تعزيز لا حد لأن الحدود كفارات لأهلها وليست هذه كفارات ومقتضى ذلك ألآ يجب حد الزنا لما ذكره
قلت مقالته هذه فاسدة فإن الحدود إنما تكون كفارة لأهلها إذا كانوا مسلمين كما صرح به الشافعي والكافر ليس من أهل الأجر ولا الثواب ولا الطهرة وإنما هي في حقه كالديون اللازمة ولذلك نلزمه بكفارة الطهار ونحوها ولا يزول عنه بها إثم
قال قيل الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال وأجيب بأن مجرد الفعل

والترك لا يكفي فاستويا وفيه نظر قيل لا يصح مع الكفر ولا قضاء بعده قلنا الفائدة تضعيف العذاب
لما قاس الأمر على النهي بالجامع الذي بينه اعترض الخصم وزعم ثبوت الفرق من جهة أن النهي من باب التروك فلا يحتاج إلى النية بخلاف الأمر وإذن يمكن للكافر الانتهاء عن المنهيات مع كفره ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات وأجيب عن هذا الاعتراض بأنك إن عنيت بقولك يمكنه الانتهاء عن المنهيات أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فكذلك المأمورات وإن عنيت أنه متمكن من الانتهاء عن المنهي لغرض امتثال قول الشرع فهذا حالة الكفر متعذر فاستوى المأمور والمنهي في أن الإتيان بهما من حيث الصورة غير متوقف على الإيمان والإتيان بهما لغرض الامتثال متوقف على الإيمان فبطل الفرق قال صاحب الكتاب وفي هذا الجواب نظر ووجهه أن المكلف إذا ترك المنهي عنه سقط عنه العقاب ولم ينو بخلاف المأمور به فإنه لايحصل الأجر إذا لم ينو
واحتج من قال بعدم تكليف الكفار بالفروع بأنها لو وجبت عليهم لكانت إما في حال الكفر أو بعده والأول باطل لامتناع الإتيان بها في تلك الحالة وكذلك الثاني لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم لا يؤمن بالقضاء لقوله عليه السلام الإسلام يجب ما قبله وأجاب المصنف بأن فائدة قولنا إنهم مكلفون بالفروع تضعيف العذاب عليهم يوم القيامة ولقائل أن يقول التعذيب في الآخرة متوقف على سبق التكليف لا محالة ويعود الكلام إلى أن التكليف بها إما في حالة الكفر أو بعده بل الجواب أنا نقول هو مكلف بإيقاع ذلك

بأن يسلم ويوقع وأما قوله صلى الله عليه و سلم الإسلام يجب ما قبله فحجة لنا لأن قوله يجب يقتضي سبق التكليف به ولكن يسقط ترغيبا في الإسلام ومن الدلائل الواضحة على أن الكافر مكلف بالفروع مطلقا ولم أر من ذكره قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون إذ لا يمترى الفهم في أن زيادة هذا العذاب إنما هو بالافساد الذي هو قدر زائد على الكفر إما الصد أو غيره وأما قول الأصوليين الفائدة تضعيف العذاب في الآخرة فصحيح ولم يريدوا أنه لا يظهر فائدة الخلاف إلا في الآخرة وإن أفهمته عبارة طوائف منهم فينبغي أن يخصص كلامهم ويعلم أنه جواب عما ألزم به الخصوم في فروع خاصة لا يظهر فيها فائدة للخلاف فيها كالزكاة ونحوها وقد فرع الأصحاب على الخلاف الأصولي مسائل عديدة
واعلم أن الأقوال الثلاثة في خطاب الكفار بالفروع أوجه للأصحاب حكاها النووي في أوائل الصلاة من شرح المهذب وسبقه الشيخ أبو إسحق في شرح اللمع فوضح وجه اختلافهم في المسائل التي بنوها حسب اختلافهم في الأصول
منها ذهب الأستاذ أبو إسحق إلى أنه يجب على الحربي ضمان النفس والمال تخريجا من أن الكفار مخاطبون بالفروع وعزى هذا إلى المزني في المنثور
ومنها إذا اغتسلت الذمية لتحل لمن يحل له وطؤها من المسلمين فهل يجب عليها إعادة الغسل إذا أسلمت فيه وجهان وفرق إمام الحرمين بين هذه وبين ما لو وجب على الذمي كفارة فأخرجها ثم أسلم لا يجب عليه الإعادة قطعا بأن الكفارة إنما تكون بالمال ولا تخلو الكفارة عن قصد شرعي من إطعام محتاج أو كسوة عار أو تخليص رقبة عن قيد رق وهذه المصلحة لا تختلف باختلاف

أحوال فاعليها فإذا وجدت لا حاجة إلى إعادتها بخلاف ما تعبد به في حق الشخص نفسه كمسألتنا وكالصوم
ومنها لو اغتسل الكافر عن جناية أو توضأ أو تيمم ثم أسلم فالمذهب الصحيح وجوب الإعادة
والثالث الفرق بين الوضوء والغسل
ومنها هل يمكث الكافر الجنب في المسجد فيه وجهان
ومنها هل يؤخذ في الجزية وفي ثمن الشقص المشفوع مما تيقنا أنه من ثمن الخمر المذهب أنا لا نأخذه وفيه وجه
ومنها التصرف في الخمر حرام عليهم خلافا لأبي حنيفة وصرح في التتمة ببناء المسألة على الأصل المذكور فإن قلت لم لا جرى فيها خلاف مذهبي
قلت شفاء الغليل في ذلك من وظائف كتابنا الأشباه والنظائر فعليك به
ومنها إذا دخل الكافر الحرم وقتل صيدا لزمه الضمان وقال في المهذب يحتمل ألا يلزمه
خاتمة قول المصنف وغيره الفائدة تضعيف العذاب قد يفهم أن الخلاف في تكليفهم بالفروع يختص بما يترتب عليه حرج من مأمور ومنهي ويقتضي أن الإباحة لا تتعلق بهم لاسيما على قولنا إنها ليست من التكليف والظاهر تعلق الإباحة بهم فيما هو مباح قال والدي وقد يقال إن أقدامهم على المباح وهم غير مستندين فيه إلى الشرع الذي يجب عليهم اتباعه حرام لقيام الإجماع على أن المكلف لا يحل له الإقدام على فعل حتى يعلم حكم الله فيه فإن صح هذا فهم آثمون على جملة أفعالهم وهذا البحث عام في الكتابيين والمشركين قال والدي وهو مما لم أره لغيري وفيه عندي توقف ولا ينافي القول به الحكم بصحة أنكحتهم ومعاملاتهم لأن أثرها في الدنيا والمقصود عقابهم في الآخرة

المسألة الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء
قال الثالثة امتثال الأمر يوجب الإجزاء لأنه إن بقي متعلقا به فيكون أمرا بتحصيل الحاصل أو بغيره فلم يمتثل بالكلية قال أبو هاشم لا يوجبه كما لا يوجب النهي الفساد والجواب طلب الجامع ثم الفرق
إتيان المكلف بالمأمور بالمأمور به على الوجه المشروع موجب للإجزاء عند الجمهور وخالفهم أبو هاشم وعبد الجبار وحجة الجمهور أنه لو لم يكن الامتثال موجبا للإجزاء لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لذلك المأتي به ويلزم تحصيل الحاصل أو لغيره ويلزم ألا يكون الإتيان به بتمام المأمور به بل ببعضه والفرض خلافه
وأعلم أن الإجزاء له تفسيران
أحدهما سقوط التعبد به وهو الذي اختاره المصنف في أوائل الكتاب
والثاني سقوط القضاء وقد ضعفه ثم والخلاف في هذه المسألة إنما هو مبنى على تفسيره بسقوط القضاء أما إذا فسر بما اختاره المصنف فامتثال الأمر يكون محصلا للإجزاء من غير خلاف وإنما خالف أبو هاشم وأتباعه إذا بنى على ذلك التفسير فقالوا لايمتنع الأمر بالقضاء أيضا مع فعله فحاصل ما يقوله أبو هاشم أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل

يدل على وجوب الإعادة ولا خلاف بين أبي هاشم وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمرو به وقد شبه القرافي هذا الخلاف في مفهوم الشرط كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت حر فمن قال لا مفهوم للشرط قال عدم عقته ما لم يأت بالمشروط مستفاد من الملك السابق ومن قال له مفهوم قال هو مستفاد من ذلك ومن مفهوم الشرط أيضا وكذلك الخلاف الذي
هنا وإذا عرفت ذلك أن أبا هاشم لا يقول ببقاء شغل الذمة بعد الفعل لأن الأمر بمجرده لا يدل عليه وحينئذ فدليل المصنف عليه دليل في محل الوفاق لا معترض به عليه وهذا هو التحرير في نقل مذهب أبي هاشم وكذلك نطق به جماعة منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد في شرح العنوان واحتج أبو هاشم على مذهبه بأن النهي لا يدل على الفساد بدليل البيع وقت النداء فكذلك الأمر لا يدل على الإجزاء وإليه الإشارة بقوله لا يوجبه أي لا يوجب الأمر الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد
والجواب أولا طلب الجامع بين المقيس والمقيس عليه وهو الأمر والنهي فإن أتى به بأن قال الجامع أن كلا منهم طلب لا إشعار له بذلك أو أنهما متضادان والشيء محمول على ضده كما هو محمول على مثله أجبنا ثانيا بالفرق وهو أن مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به فلو لم يكن موجبا للإجزاء لم يكن للأمر فائدة لأنه حينئذ يكون كأنه قال افعل هذا وإن فعلت فكأنك لم تفعل بخلاف النهي فإن مقتضاه الانكفاف عن المنهي وقد يكون الانكفاف بحكم آخر كالنهي عن البيع وقت النداء مع مجامعته للصحة ولهذا يصح أن يقال لا تفعل هذا وإن فعلته يكون فعلك صحيحا

فإن قلت الحاج إذا فسد فهو مأمور بالمضي في فاسد الحج وإذا مضى فيه كما أمر لزمه في مستقبل الزمان حج صحيح ولم يقع إذن مضيه مجزئا وإن كان مأمورا به
قلت قال إمام الحرمين هذا قول من يتلقى الحقائق في الأصول من خيالات في مضطرب الظنون المتعلقة بالفروع فنقول إن كان ما خاض أولا حجا مفروضا فالخطاب بإيقاع حج صحيح قائم والإفساد مناف لحق الامتثال وليس المضي في الفاسد مقتضى الأمر بالحج الصحيح وإنما هو متلقى من أمر جديد يختص بالحج فيثبت الجريان في الفاسد بأمر جديد وبقي على المفسد حق القيام بالأمر الأول وإن كان الحج تطوعا فيجب القضاء على المفسد بأمر جديد وليس ذلك من مقتضى الأمر بالمضي قال وهذا لا غموض فيه وقد يتعارض على الفقيه الفرق بين الفساد والفوات والتحلل بعد الإحصار وحظ الأصولي من هذه المسائل تقرير أمر جديد في كل ما لا يتلقى من الأمر الأول وهذا ليس بالعسر بل هو مقطوع به والله أعلم وبه التوفيق

-

الكتاب الأول في الكتاب وهو القرآن الكريم
قال الكتاب الأول في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة وأقسامهما وهو ينقسم إلى أمر ونهي وعام وخاص ومجمل ومبين وناسخ ومنسوخ وبيان ذلك في أبواب
الكتاب هو القرآن وهو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه وقد خرج بقولنا المنزل الكلام النفسي وكلام البشر وبالإعجاز الأخبار الربانية وسائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور إن لم يقل إنها معجزة وقولنا بسورة منه أي ببعض ولو ساوى أقصر سورة منه كالكوثر وخرج بذلك سائر الكتب المنزلة إن قيل بإعجازها فإنها حينئذ وإن أنزلت للإعجاز لكن لم يكن الإعجاز بسورة منها وهذا التعريف صادق على الآية وعلى بعضها أيضا لأنه يصدق عليها أن قدر سورة من نوعه معجزة ولما كان الكتاب منزلا على لغة العرب احتاج المستدل به إلى معرفتها والاستدلال به أيضا متوقف على معرفة أقسامه من جملة أقسام اللغة وهو ينقسم إلى خبر وإنشاء ولاحظ للأصولي في الخبر وإنما كلامه في الإنشاء وهو ينقسم باعتبارت ثلاث
الأول بالنظر إلى ذاته إلى أمر ونهي فنقول هذا القول أمر أونهي فيجعل مورد القسمة ذات القول
والثاني بالنظر إلى عوارضه ونعني بها متعلقاته وبهذا ينقسم إلى العام والخاص فنقول المعني بهذا القول جميع متعلقاته وهو العام أو بعضها وهو الخاص

والثالث بالنظر إلى النسبة بين الذات والمتعلق وبهذا ينقسم إلى المجمل والمبين فنقول دلالة القول على متعلقاته إما ظاهرة غنية عن المبين وذلك المبين أو غير غنية وذلك المجمل ثم إن أحكام الله تعالى لما كانت تارة في جانب النفي وطورا في قالب الإثبات إما لكونها تابعة للمصالح تفضلا وإحسانا عند من يعلل أحكامه سبحانه وتعالى أو بحسب إرادته وقضاياه التي لا تعلل عندنا فيرد حكم يرفع حكما فالرافع ناسخ والمرفوع منسوخ
فهذا وجه انقسام الإنشاء في الكتاب إلى هذه الأمور وليس التقسيم مختصا بالكتاب بل السنة كذلك وقد بين المصنف ذلك في كتاب السنة بقوله سبق مباحث القول

الباب الأول في اللغات وفيه فصول
الفصل الأول في الوضع
قال الباب الأول في اللغات وفيه فصول الفصل الأول في الوضع
وجه تقديم باب اللغات على غيره أن معرفة ماهية الشيء سابقة على معرفة أقسامه وأحكامه واللغات جمع لغة وإنما جمعها وإن كان الغرض الكلام في لغة العرب وهي واحدة لاشتراك مباحثه بين جميع اللغات وقد أودع هذا الباب تسعة فصول أولها في الوضع وهو عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني وهذا تعريف سديد فإنك إذا أطلقت قولك قام زيد فهم منه صدور القيام منه
فإن قلت مدلول قولنا قام زيد صدور قيامه سواء أطلقنا هذا اللفظ أم لم نطلقه فما وجه قولكم بحيث إذا أطلق
قلت الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد فإنك إذا قلت قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم فإذا قلت إن قيام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية فإن قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا فعلمت بهذا أن لإفادة قام الناس للإخبار بقيام جميعهم شرطين
أحدهما ألا يبتدئه بما يخالفه

والثاني ألا يختمه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط لا بد منها وعلى السامع التنبه لها فوضح بهذا أنك لا تستفيد قيام الناس من قوله قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كلف في ذلك لأن الواضع وضعه لذلك
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيئا لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم يعلم من قائله هل قصده أو لا أو ابتداه وختمه بما يغيره أو لا هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس أو لا قلت فيه نظر يحتمل أن يقال بجوازه لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيره ويحتمل أن يقال لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ولكن الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقق ويحتمل أن يقال إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شرط والشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الإبتداء والختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان والشك في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصل عدمه واختار والدي أيده الله أنه لا بد من أن يعلم الثلاثة ويؤيده ما حكاه الروياني عن صاحب الحاوي فيما إذا قال الرجل لزوجته طلقتك ثم قال سبق لساني وإنما أردت طلبتك أن المرأة إن ظنت صدقه بأمارة فلها أن تقبل قوله ولا تخاصمه وإن من عرف ذلك منه إذا عرف الحال يجوز أن يقبل قوله ولا يشهد عليه قال الروياني وهذا هو الاختيار وهذه الأسئلة من إيرادي في مجلس مباحثة على الشيخ الإمام والدي والأجوبة له

أسباب وضع اللغات
والموضوع والموضوع له وفائدة الوضع
قال لما مست الحاجة إلى التعاون والتعارف وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال لعمومه وأيسر لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضروروي وضع بإزاء المعاني الذهنية لدورانه معها
يتعلق بالوضع أمور ستة
أحدها سببه وقد خلق الله نوع الإنسان وصيره محتاجا إلى أمور لا يستقل بها بل يفتقر إلى المعاونة عليها ولا بد في المعاونة من الاطلاع على مضمرات النفوس وذلك إما باللفظ أو بالإشارة أو بالمثال قوله وكان اللفظ هذا هو الأمر الثاني في الموضوع ومن لطف الله تعالى إحداث الموضوعات لأنها أفيد هذه الثلاثة وأيسرها أما كونها أفيد فلأنها تعم كل شيء معلوم موجود ومعدوم إلى غير ذلك لإمكان وضع اللفظ بإزاء ما أريد من تلك المعاني بخلاف الإشارة فإنها مخصوصة بالموجودات المحسوسة وبخلاف المثال وهو أن نجعل لما في الضمير شكلا فإنه أيضا كذلك لا يعسر بل يتعذر أن يجعل لكل شيء مثال يطابقه وأما كونها أيسر موافقة للأمر الطبيعي لأن الجروف كيفيات تعرض للنفس الضروري ولا شك في أن الموافق للأمر الطبيعي أسهل من غيره
قوله وضع
هذا هو الأمر الثالث الموضوع له وإذا ثبت ما ذكرناه فنقول وضع اللفظ بإزاء المعاني الذهنية وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بل بإزاء الخارجية واستدل المصنف على الأول بدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية فإن من رأى

شبحا من بعيد واعتقده مثلا حيوانا مخصوصا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان فإذا تغير ذلك الاعتقاد باعتقاد آخر أطلق عليه بحسب ذلك الاعتقاد اسما آخر وهذا الدليل أيضا يدل على بطلان القول بأنها موضوعة بإزاء الخارجية لأنها لو كانت موضوعة بإزاء المعاني الخارجية لامتنع تسمية ذلك بحيوان مخصوص وقد عرف أن ذلك لا يمتنع مع عدم الشعور بكونه إنسانا ولكان يمتنع اختلاف الألفاظ عند عدم اختلاف الأمر الخارجي وقد أجيب عن هذا الدليل بأن هذا الاختلاف إنما هو لاعتقاد أنها في الخارج كذلك لا لمجرد اختلافها في الذهن
قال ليفيد النسب والمركبات دون المعاني المفردة وإلا فيدور
اللام في قوله ليفيد متعلقة بقوله قبل ذلك وضع وهذا هو الأمر الرابع في فائدة الوضع فنقول ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة أن يفاد بها معانيها المفردة لأن إفادتها لها متوقفة على العلم بها ضرورة أن العلم بالنسبة يستدعي العلم بالمنتسبين فلو استفيد العلم بها منها لزم الدور بل الغرض منه التمكن من إفادة المعاني المركبة بتركيبها والدور غير لازم هنا إذ يكفي من تلك الإفادة العلم بوضع تلك الألفاظ المفردة وانتساب بعضها إلى بعض بالنسبة المخصوصة والحركات المختصة

الواضع للغات وآراء العلماء فيها
قال ولم يثبت تعيين الواضع والشيخ زعم أنه تعالى وضعه ووقف عباده عليه لقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ما أنزل الله بها من سلطان واختلاف ألسنتكم ولأنها لو كانت اصطلاحية لاحتيج في تعريفها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل ولجاز التغيير فيرتفع الأمان عن الشرع وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء وخصائصها أو ما سبق وضعها والذم للاعتقاد والتوقيف يعارضه الإقدار والتعليم بالترديد والقرائن كما للأطفال والتغيير لو وقع لاشتهر وقال أبو هاشم الكل مصطلح وإلا فالتوقيف إما بالوحي فيتقدم البعثة وهي متأخرة لقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أو بخلق علم ضروري في عاقل فيعرفه تعالى ضرورة فلا يكون مكلفا أو في غيره وهو بعيد وأجيب بأنه يلهم العاقل بأن واضعا وضعها وإن سلم لم يكن بالمعرفة فقط وقال الأستاذ ما وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي والباقي مصطلح
هذا الفصل باحث عن الوضع وهو الأمر الخامس فنقول ذهب عباد بن سليمان الصيمري ومن وافقه إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما وهذا يحتمل وجهين
أحدهما وهو الذي اقتضاه نقل الامدي عنه أن تلك المناسبة الطبيعية حاملة للواضع على الوضع وهو أقل نكيرا ولا يمكن ادعاؤه في كل الألفاظ واللغات إذ لو كان كذلك لما وقع المشترك بين الضدين ولما اختلفت دلالات الألفاظ على معانيها باختلاف الأمم والأزمنة إذ المناسبة الطبيعية لا تختلف باختلافها

والثاني وهو أعظم نكيرا أن تلك المناسبة الطبيعية وحدها كافية في كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني من غير احتياج إلى الوضع وهو معلوم الفساد هو الذي اقتضاه نقل الإمام عنه واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح والجواب أن الواضع إن كان هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون غيره وإن كان الناس فيحتمل أن يكون السبب حضور ذلك اللفظ بالبال في ذلك الوقت دون غيره إذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري حان النظر في الكلام في الواضع وفيه كلام الكتاب فالواضع إن كان هو الله تعالى فهو مذهب الشيخ أبي الحسن ومن وافقه وهو المسمى بالتوقيف وإن كان هو العبد فهو مذهب الشيخ أبي هاشم وهو المسمى بالاصطلاح والتواطؤ وإن كان منهما فإما أن يكون ابتداء الوضع من الله والباقي من العبد وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق أو العكس وهو مذهب ضعيف لم يذكره في الكتاب وأما جمهور المحققين كالقاضي فمن بعده فقد توقفوا في الكل وقالوا بإمكان كل واحد من هذه الاحتمالات الأربعة وهو الذي اختاره في الكتاب حيث قال ولم يثبت تعيين الواضع وقال ابن الحاجب الظاهر قول الأشعري ومعنى هذا القول بالوقف لعدم القطع بواحد من هذه الاحتمالات ويرجح مذهب الأشعري بغلبة الظن وقد كان بعض الضعفاء يقول إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد لأن العلماء في المسألة بين متوقف وقاطع بمقالته فالقول بالظهور لا قائل به وهذا ضعيف فإن المتوقف لعدم قاطع قد يرجح بالظن ثم إن كانت المسألة ظنية اكتفى في العمل بها لذلك الترجيح وإلا توقف عن العمل بها

الأدلة
وقد احتج الشيخ رضوان الله عليه بأوجه
الأول قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها الآية دلت على أن التعليم من الله تعالى وإذا ثبت هذا في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف لأنه لا قائل بالفرق ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف ولأن الاسم إنما سمي إسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي أسماء وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهو اصطلاح محدث للنحاة واللغويين
الثاني قوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ذمهم على تسميتهم بعض الأسماء بما سموها به من تلقاء أنفسهم فلولا التوقيف في كلها لما استحقوا الذم بذلك ولقائل أن يقول في الاستدلال بهذا اعتراف بكون البعض اصطلاحا
الثالث قوله تعالى ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ولا يجوز أن يكون المراد اختلاف تأليفات الألسنة وتركيبها لأن ذلك في غيرالألسن أبلغ وأكمل فلا يفيد تخصيص الألسنة بالذكر فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات إما بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إطلاق اسم العلة على المعلول أو اسم المحل على الحال وحينئذ فلولا أنها توقيفية لما امتن علينا بها

الرابع أنها لو كانت اصطلاحية لاحتاج الواضع في تعليمها إلى اصطلاح آخر بينه وبين من يعلمه ثم إن الفرض أن ذلك الطريق أيضا لا يفيد لذاته فلابد من اصطلاح آخر ويلزم التسلسل ولقائل أن يقول هذا الدليل يبطل مذهب أبي هاشم ولا يثبت مذهب الشيخ
الخامس وهو كالرابع أنها لو كانت اصطلاحية لجاز التغيير إذ لا حجر في الاصطلاح وحينئذ يرتفع الوثوق عن الشرع فإن كل لفظ شرعي يستعمله في معنى جاز والحالة هذه أن يكون مستعملا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم في غير ذلك المعنى
وأجاب في الكتاب عن الوجه الأول بأن المراد من الأسماء في قوله تعالى وعلم آدم الأسماء علامات الأشياء وخصائصها فيعلمه مثلا أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وهذا لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى كل تقدير فكل ما يعرف ماهية ويكشف عن حقيقة اسما وتخصيص الاسم بهذه الألفاظ عرف حادث ولو سلمنا أن المراد بالأسماء ما ذكرتم فلا يلزم التوقيف إذ من الجائز أن يكون من الأسماء التي علمها الله لآدم قد وضعتها طائفة مخلوقة قبله وفي هذين الجوابين نظر
أما الأول فإنه خلاف الظاهر إذا الظاهر من الأسماء الألفاظ
وأما الثاني فالأصل عدم استعمال سابق ومنهم من أجاب بجواب آخر وهو أن المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من المعلوم ما لأجله قدر على الوضع قال الإمام وليس لأحد أن يقول التعليم إيجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم وهذا أيضا خلاف الظاهر إذ الظاهر من التعليم الإيجاد الأول للإلهام
قال بعضهم وأصل التعليل لإثبات أثر الثلاثي المشتق يقال سودته فتسود وقول الأمام يقال علمته فلم يتعلم ممنوع
قلت وهذا المنع غير منقدح وقد كان الإمام علاء الدين الباجي يقول أو لم يصح علمته فما تعلم لما صح علمته فتعلم لأنه إذا كان التعليم يقتضي

إيجاد العلم وهو علة فيه فمعلوله وهو التعلم يوجد معه بناء على العلة مع المعلول والفاء في قولنا فتعلم تقتضي تعقيب التعلم وإن قلنا إن المعلول يتأخر فنقول لا فائدة في قولنا فتعلم لأن التعلم قد فهم من قولنا علمته فوضح أنه لو لم يصح علمته فما تعلم لكان أما ألا يصح علمته فتعلم بناء على أن العلة مع المعلول أو لا يكون في قولنا فتعلم فائدة بناء على تأخر المعلول
فإن قلت أليس أنه يقال كسرته فما انكسر فما وجه صحة قولنا مع ذلك علمته فما تعلم
قلت فرق والدي أحسن الله إليه بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمور من المعلم ومن المتعلم وكان علمته موضوعا للجزء الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ولا بد بخلاف الكسر فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار وهو جواب دقيق والإنصاف أن هذه ظاهرة فيما ادعاه الشيخ فالمتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب هذا هو الحق الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان وأجاب عن الثاني وهو التمسك بقوله ما أنزل الله بها من سلطان بأنا لا نسلم أنه ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء إنما ذمهم على اعتقادهم كونها آلهة وإليه أشار بقوله والذم للاعتقاد وعن الثالث وهو التمسك بقوله واختلاف ألسنتكم بأنه إذا انتفت الحقيقة وهي أن يكون المراد بها الجارحة وثبت العدول إلى المجاز فليس صرفك إياه إلى اللغات أولى من صرفنا إياه إلى الإقدار على اللغات أو مخارج اللغات وإليه أشار بقوله والتوقيف يعارضه الإقدار والقائل أن يقول مجاز المستدل أدنى لأنه أقل إضمارا وما ذكرتموه يلزم منه كثرة الإضمار والمجاز معا إذ يصير تقدير الآية واختلاف اقتدار ألسنتكم باللغات أو اختلاف اقتداركم باللغات على أنه أطلق اللسان وأراد الاقتدار كما في إطلاق اليد وإرادة القدرة فعلى الأول يلزم كثرة الإضماره وعلى الثاني يلزم المجاز والإضمار معا وأما على ما ذكره الشيخ فلا يلزم إلا الإضمار الذي هو أقل من إضماركم لأنه يصير تقدير الآية على ما ذكره واختلاف لغات ألسنتكم فكان أولى

فإن قلت لعله من إطلاق اسم العلة على المعلول أو المحل على المعلول أو المحل على الحال كما ذكرتم في تقرير الاستدلال
قلت حينئذ يقع التعارض بين الإضمار والمجاز والمجاز أولى
قال صفي الدين الهندي والأولى أن يجاب بأنا لا نسلم أن اختلاف اللغات إنما يكون آية أن لو كانت اللغات توقيفية وهذا لأن واضعها وإن كان هو العبد فهي مخلوقة لله تعالى على مذهب أهل الحق في أفعال العباد وأجاب المصنف عن الرابع بأنا لا نسلم أنه يحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر بل يحصل العلم بترديد اللفظ وهو تكراره مرة أخرى مع القرائن كالإشارة إلى المسمى ونحوها وبهذا الطريق تعلمت الأطفال ولو سلمنا ذلك فما ذكرتم من الدلالة لا يقتضي أن جميعها بالتوقيف كما تدعون بل بعضها لأنه يمكن تعريف ما هو بالاصطلاح بذلك البعض كما هو قول الأستاذ وعن الخامس بأنا لا نسلم ارتفاع الأمان عن الشرع فإن التغيير لو وقع لاشتهر لكونه من مهمات الأمور وأما أبو هاشم فقد احتج على مذهبه بأنها لو لم تكن اصطلاحية لكانت توقيفية أو البعض والبعض لعدم الواسطة بينهما والقول بالتوقيف باطل مطلقا فثبت كونها اصطلاحية وإنما قلنا ببطلان التوقيف لأنه إما أن يكون بالوحي أو بخلق علم ضروري في عاقل أو في غير عاقل والكل باطل
أما الأول فلاقتضائه تقدم البعثة على اللغة وهي متأخرة عنها لقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
وأما الثاني فلأنه اقتضى ألا يكون ذلك العاقل مكلفا لأنه إذا علم بالضرورة أنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى فلا بد وأن يعرف الله ضرورة وإذا عرفه ضرورة لم يكن مكلفا بالمعرفة لحصولها
وأما الثالث فبعيد جدا أن يصير غير العاقل عالما بهذه الكيفيات العجيبة والجواب أن يجوز أنه يكون الله تعالى ألهم العاقل بأن واضعا ما وضع هذه

الألفاظ بإزاء هذه المعاني لا أن الله تعالى هو الواضع حتى يلزم عدم التكليف ولو سلمنا ما ذكرتم فإنما رفع التكليف بالمعرفة لا رفع التكليف مطلقا وهذا الجواب ضعيف لأن معرفة الله تعالى واجبة قطعا والتوقيف بخلق العلم الضروري مستبعد لكونه خلاف المعتاد فالأولى في الجواب أن يقال إنه حصل بطريق الوحي ولا يلزم ما ذكره لأن الآية وإن دلت على تقدم اللغة على بعثة الرسل بالرسالة فلا يدل على تقدمها على بعثة الأنبياء فيجوز تقدم نبوة آدم وإيحاء اللغات إليه ثم إن آدم عليه السلام يعلمها لغيره ثم يرسل إليهم باللسان الذي تعلموه منه وأما الأستاذ فذكر في الكتاب مقالته مجردة عن الدليل لإمكان إستخراج دليله من حجيج الفريقين بأن يقال إذا بطل التوقيف والاصطلاح في الكل تعين أن يكون البعض والبعض فحينئذ فنقول القدر الذي وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي وإلا يلزم التسلسل لاحتياج التعليم في كل اصطلاح إلى اصطلاح سابق عليه وأما الباقي فمصطلح وجوابه يعلم مما سبق وبتقرير الأجوبة عن أدلة الجازمين يتعين الوقف الذي اختاره صاحب الكتاب ويقال بظهور فائدة الخلاف في هذه المسألة في جواز قلب اللغة فعند الشيخ لا يجوز دون القائلين بالاصطلاح وبنى بعضهم على الخلاف فيها ما إذا اعتقد صداقا في السر وصداقا في العلانية المسألة المشهورة ويلتحق بذلك ما إذا استعملا لفظ المفاوضة وأراد شركة العنان حيث نص الشافعي على جوازه والحق أن بناء المسألتين على هذا الأصل غير صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغات الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على اطلاق لفظ الثوب على الفرس أو الألف على الألفين مثلا

طريق معرفة اللغات
قال وطريق معرفتها النقل المتواتر والآحاد واستنباط العقل من النقل كما إذا نقل أن الجمع المعرف باللام يدخله الاستثناء وأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ فيحكم بعمومه وأما العقل الصرف لا يجدي
هذا هو الأمر السادس في بيان كيفية الطريق إلى معرفة وضع الألفاظ لمعانيها وذلك بطريق الحصر إما النقل الصرف أو العقل الصرف أو المركب منهما
الأول النقل وهو إما متواتر أو آحاد الأول المتواتر كالسماء والأرض والحر والبرد وهو مفيد للقطع
الثاني الآحاد كالفرس ونحوه وهو مفيد للظن الثاني العقل الصرف قال في الكتاب وهو لا يجدي أي لاينفع إذ لامجال للعقل في معرفة الموضوعات اللغوية
الثالث المركب منهما كما إذا نقل إلينا أن الجمع المعرف بالألف واللام يجوز أن يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ فإن العقل يدرك بذلك أن الجمع المحلى بالألف واللام للعموم وقد بلغنا أن الإمام العلامة زين الدين بن الكتنامي رحمه الله اعترض على التمثيل بهذا وقال هاتان المقدمتان نقليتان وإذا تركب الدليل من مقدميتين نقليتين لم يصح أن يقال إنه مركب من العقل والنقل وهذا عجيب فإنه لولا العقل لما صح الاستنتاج من المقدمتين النقليتين وتركيبهما على الوجه المنتج وبيان صحة الإنتاج من فعل العقل والجزء الصوري القياس عقلي

الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ
قال الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ دلالة اللفظ على تمام مسماه مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى لازمه الذهني التزام
تقسيم دلالة اللفظ تقسيم للفظ فلذلك صح ذكر تقاسيم دلالة الألفاظ في فصل تقاسيم الألفاظ والدلالة معنى يعرض للشيء بالقياس إلى غيره ومعناه كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر وهي تنقسم إلى لفظية وغير اللفظية قد تكون وضعبة كدلالة وجود المشروط على وجود الشرط وقد تكون عقلية كدلالة الأثر على المؤثر والعكس مثل دلالة الدخان على النار وبالعكس وليس الكلام إلا في اللفظية وللإحتراز عن هذين القسمين أشار في الكتاب بقوله دلالة اللفظ ثم إن اللفظية تنقسم إلى أقسام ثلاثة عقلية كدلالة الصوت على حياة صاحبه وطبيعية كدلالة أح أح على وجع الصدر ووضعية وهي المرادة هنا فلو أن المصنف قال دلالة اللفظ الوضعية لكان أحسن على أن الإمام قال الوضعية هي دلالة المطابقة وأما الباقيتان فعقليتان لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه ولازمه إن كان داخلا فيه فهو التضمن أو خارجا فهو الالتزام وهذا واضح لا إشكال فيه وقال بعضهم دلالة التضمن لفظية أيضا وهو ضعيف فإن الحكم عليها بذلك إن استند إلى أن الجزء مفهوم من اللفظ ومتلقى بواسطته فدلالة الالتزام كذلك وإن كان لأجل أن اللفظ موضوع له بالوضع المختص بالحقيقة فهو باطل أو بالوضع المشترك بين الحقيقة والمجاز فكذلك اللازم وإن كان لأجل دخول الجزء في المسمى وخروج اللازم عنه فهو تحكم محض ثم هذه الدلالة عبارة عن

كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بالوضع وإنما قلنا إنها عبارة عن كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه ولم نقل إنها نفس الفهم كما قال ابن سينا لأن الدلالة نسبة مخصوصة بين اللفظ والمعنى ومعناها صفة تجعل اللفظ يفهم المعنى ولهذا يصح تعليل فهم المعنى من اللفظ بدلالة اللفظ عليه والعلة غير المعلول وإذا كانت الدلالة غير فهم المعنى من اللفظ لم يجز تفسيرها به إذا عرفت ذلك فنقول الدلالات اللفظية منحصرة في المطابقة والتضمن والالتزام لأن اللفظ إما أن يدل على تمام ما وضع له أو لا والأول المطابقة كدلالة البيت على المجموع المركب من السقف والجدار والأس
والثاني إما أن يكون على جزء مسماه أولا والأول دلالة التضمن كدلالة البيت على الجدار فقط والثاني أن يكون خارجا عن مسماه وهي دلالة الالتزام كدلالة الأسد على الشجاعة
واعلم أن ذلك إنما يتصور في اللازم الذهني وهو الذي ينتقل الذهن إليه عند سماع اللفظ سواء كان لازما في الخارج أيضا كالسرير والارتفاع من الأرض إذ السرير مهما وجد في الخارج فهو مرتفع أم لم يكن لازما في الخارج كالسواد إذا أخذ بقيد كونه ضدا للبياض فإن تصوره من هذه الحيثية يلزم تصور البياض فهما متلازمان في الذهن وليسا بمتلازمين في الخارج بل متنافيين ولا يتصور ذلك في اللازم الخارجي فقط كالسرير مع الإمكان فإنه مهما وجد السرير في الخارج فهو ممكن ضرورة وقد يتصور السرير ويذهل عن إمكانه وإذا عرفت هذا علمت أن قوله وعلى لازمه الذهني غير مستقيم لإيهامه وجود الدلالة مع اللزوم الخارجي وهو باطل وبهذا التقسيم تعرف حد كل واحد منها
تنبيهات الأول قال الإمام هذا اللزوم شرط لا سبب وقرر القرافي هذا بأن الشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته

فاحترز بالقيد الأول من المانع وبالثاني من السبب وبالثالث من مقارنة وجوده للسبب فإنه يحصل الوجود ولكن ليس لذات الشرط بل لوجود السبب والسبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته فالقيد الأول احتراز عن الشرط والثاني عن المانع والثالث عن مقارنة وجوده فقدان الشرط فلا يلزم الوجود أو مقارنة عدمه إخلاف سبب آخر فلا يلزم العدم وذلك ليس لذاته بل لأمر خارج والمانع ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته فالقيد الأول احتراز من السبب والثاني من الشرط والثالث من مقارنة عدمه عدم السبب فيلزم العدم لكن لا لذاته بل لعدم السبب وإذا اتضحت هذه الحقائق فالملازمة الذهنية يلزم من عدمها العدم لأن اللفظ إذا أفاد معنى غير مستلزم لآخر لا ينتقل الذهن لذلك الآخر إلا بسبب منفصل فيكون إفادته مضافة لذلك المنفصل لا للفظ فلا يكون فهمه دلالة للفظ بل أثرا للمنفصل فلا يلزم من وجود الملازمة وجود الدلالة عند عدم الإطلاق فإن الملازمة في نفس الأمر والفهم معدوم من اللفظ إذ اللفظ معدوم فهي حينئذ شرط والإطلاق هو السبب
فإن قلت هذا التقرير بعينه يتقرر في اللفظ فإنه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود الدلالة إذا فقدت الملازمة فيمكن أن يقال الإطلاق شرط والملازمة سبب فلم لا عكستم أو سويتم
قلت الإطلاق قد يستقل بالدلالة في المطايقة والتضمن فيثبت له السببية والملازمة لم تستقل في صورة فيترجح الإطلاق على الملازمة الذهنيه بوجوده في الصورتين
الثاني في التقسيم الذي ذكره مناقشات من وجوه
منها أن قوله تمام ليس بجيد لأنه إن لم يحترز به عن شيء فهو زيادة بلا معنى وإن احترز به عن جزء المسمى فليس جزء المسمى نفس المسمى وكذا فعل ابن الحاجب حيث قال كمال مسماه وكان ينبغي أن يقول على مسماه

ومنها أن اللفظ جنس بعيد لدخول المستعمل والمهمل فيه وهو مجتنب في الحدود فكان ينبغي أن يقول دلالة القول كما فعله شيخنا أبو حيان في مختصراته في تعريف الكلمة معترضا على من ذكر اللفظ بما قلناه
ومنها كان ينبغي أن يقول في المطابقة من حيث هو تمامه وفي التضمن من حيث هو جزؤه وفي الالتزام من حيث هو لازمه ليحترز به عن اللفظ المشترك بين الشيء وجزئه مثل وضع الممكن للعام والخاص فإنه يصير به للفظ المسمى علة جزئه دلالتان دلالة تضمن باعتبار الوضع الأول ومطابقة باعتبار الوضع الثاني فقد يدل على بعض المسمى دلالة مطابقة باعتبار الوضع الثاني فلا بد وأن يقول من حيث هو كذلك وليحترز به أيضا عن المشترك بين اللازم والملزوم كالشمس بين القرص والضوء المستفاد منه وهكذا فعل صاحب التحصيل وأما الإمام فلم يقيد دلالة المطابقة وقيد الباقيتين قال القرافي وهو قيد لم يذكره أحد ممن تقدمه وإنما اكتفى المتقدمون بقرينة التمامية والجزئية واللازمية قال فيقال له إن كانت هذه القرائن كافية فيلزم الاستغناء عن هذه القيود في الدلالات الثلاث وإلا فيلزم الاحتياج في الثلاث فما وجه تخصيص التضمن والالتزام فإنا نقول في المطابقة كما يمكن وضع العشرة للخمسة يمكن وضعها للخمسة عشر أيضا فيصير لها على العشرة دلالتان مطابقة باعتبار الوضع الأول وتضمن باعتبار الثاني الثالث جميع ما تقدم في دلالة اللفظ أما الدلالة باللفظ فهي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة أو غير موضوعه لعلاقة وهو المجاز والباء في قولنا الدلالة باللفظ للسببية والاستعانة لأن اللافظ يدلنا على ما في نفسه بإطلاقه اللفظ فإطلاق اللفظ آلة للدلالة كالقلم للكتابة والقدوم للنجارة والفرق بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من وجوه
أحدها المحل فمحل دلالة اللفظ القلب ومحل الدلالة باللفظ اللسان
وثانيها من جهة الوجود فكلما وجدت دلالة اللفظ وجدت الدلالة باللفظ ولا يوجد دلالة اللفظ في الألفاظ المجملة والأعجمية

وثالثها من جهة الأنواع فدلالة اللفظ ثلاثة أنواع المطابقة والتضمن والالتزام وللدلالة باللفظ نوعان الحقيقة والمجاز
ورابعها من جهة السببية فالدلالة باللفظ سبب ودلالة اللفظ مسبب عنها
وخامسها من جهة الموصوف فدلالة اللفظ صفة للسامع باللفظ صفة للمتكلم
قال واللفظ إن دل جزؤه على جزء المعنى فمركب وإلا فمفرد
هذا تقسيم آخر للفظ باعتبار التركيب والإفراد وذلك لأنه إن دل جزؤه على جزء المعنى المستفاد منه فهو المركب سواء كان التركيب إسناد مثل قام زيد وزيد قائم أو تركيب مزج مثل خمسة عشر أم تركيب إضافة مثل غلام زيد وقد أورد بعض الفضلاء على هذا حيوان ناطق إذا جعل علما لإنسان فإنه مفرد مع أن جزأه يدل على جزء معناه فمنهم من قبل هذا الإيراد وقال الصواب أن يزاد في الرسم المذكور حين هو جزء ومنهم من رده وقال دلالة اللفظ على المعنى متعلقة بإرادة اللافظ فيما يتلفظ به ويراد به معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال إنه دال عليه وما سوى ذلك المعنى مما لا يتعلق به إرادة اللافظ لا يقال إنه دال عليه وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه موضوعا له بحسب تلك اللغة أو لغة أخرى وحينئذ لا يرد الحيوان الناطق نقضا لأن المتلفظ به حال كونه علما لا يقصد شيئا من جزأيه بقيد الوحدة وإنما يقصد بمجموع اللفظين الشخص المسمى به فلا فرق حينئذ بينه وبين عبد الله العلم في ذلك
قوله وإلا فمفرد أي وإن لم يكن جزؤه على جزء المعنى فهو المفرد
فإن قلت الزاي مثلا من زيد لا تدل على جزء المعنى فوجب ألا يكون زيد قائما مركبا
قلت أجاب الجاربردي شارح الكتاب بأن جزأه لا يفيد العموم فلا

يجب أن يدل كل جزء من أجزائه على جزء من أجزاء المعنى وهو ضعيف لأن جزأه مفرد مضاف والمختار في ذلك إفادة العموم بل الحق أن المراد بجزئه ما صار به اللفظ مركبا كزيد وحده وقائم وحده
فإن قلت الزاي مثلا جزء الجزء وجزء الجزء جزء
قلت صحيح ولكن المفهوم من إطلاق الجزء جزء الأصل الذي ليس هو جزء الجزء والأمر في مثل هذا قريب
قال والمفرد إما ألا يستقل بمعناه وهو الحرف أو يستقل وهو الفعل إن دل بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة وإلا فاسم
بدأ بعد تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركب بأقسام المفرد لتقدمه على المركب بالطبع وتقسيم المفرد يقع من وجوه
منها ما هو باعتبار أنواعه وهو تقسيمه إلى الاسم والفعل والحرف ووجه انحصاره في هذه الثلاثة أن اللفظ المفرد إما ألا يستقل بالمفهومية فهو الحرف أو يستقل فإما أن يدل بهيئته أي بحالته التصريفية على أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال فهو الفعل أو لا يدل فهو الاسم سواء لم يدل على زمان أصلا كالسماء والأرض وزيد أو دل لكن لا بهيئته بل بذاته كالصبوح والغبوق وأمس والآن والمستقبل
قال كلي إن اشترك معناه متواطيء إن استوى ومشكك إن تفاوت وجنس إن دل على ذات غير معينة كالفرس ومشتق إن دل على ذي صفة معينة كالفارس
هذا تقسيم الاسم فنقول هو إما كلي وإما جزئي وذلك لأنه إما ألا يمنع نفس تصوره من اشتراك كثيرين فيه أو يمنع والأول الكلي وهو تارة يقع فيه الشركة كالحيوان وتارة لا يقع إما مع الإمكان كالشمس أو مع الاستحالة كالآلة وبهذا يعلم أن قول المصنف إن اشترك معناه ليس بجيد وأنه كان الأحسن أن يقول إن قبل معناه الشركة ثم الكلي يمكن تقسيمه من وجهين

أحدهما وإليه أشار بقوله ومتواطئ أو مشكك لأنه إن كان حصول معناه في أفراده الدهنية والخارجية على التسوية كالإنسان إذ كل فرد من الأفراد لا يزيد على الآخر في الإنسانية فهو المتواطئ وإن لم يكن على السوية بل كان في بعض أفراده أقدم أو أولى أو أشد فهو المشكك وسمى بذلك لكونه يشكك الناظر هل هو متواطؤ لوحدة الحقيقة فيه أو مشترك لما بينهما من الاختلاف وذلك كالبياض الذي هو الثلج أشد منه في العاج وكالوجود فإن معناه واحد في أشياء كثيرة مع اختلافه في تلك الأشياء فإن وجود الجوهر أقدم من وجود العرض والموجود بالذات أولى من الموجود بالغير والوجود القار أقوى وأشد من غير القار كالحركة مثلا وتجتمع هذه الأنواع من الاختلاف بالنسبة إلى الخالق والمخلوق
فإن قلت الأبيض مثلا إذا أطلق على الثلج فإما أن يكون استعماله فيه مع ضميمة تلك الزيادة أو لا فإن لم يكن فهو المتواطئ وإن كان فهو المشترك فإذن لا الحقيقة لهذا القسم المسمى بالمشكك
قلت كذا أورده ابن التلمساني ونحن نقول المتواطئ أن يضع الواضع للقدر المشترك بقيد عدم الاختلاف في المحال مع اختلاف المحال في أمور من غير جنس المسمى كامتياز أفراد الإنسان بالذكورة والأنوثة وهذا معنى قولهم المتواطئ ما استوى محاله والمشكك أن يضع للقدر المشترك بقيد الاختلاف في المحال بأمور من جنس المسمى كأجزاء النور في الشمس واستحالة التغير في الواجب فاشترك القسمان في أن الوضع في كل منهما للقدر المشترك وافترقا بقيديهما
الوجه الثاني الكلي إما جنس أي اسم جنس أو مشتق لأنه إما أن يدل على الماهية وهو اسم الجنس كالإنسان والفرس أو على موصوفية الماهية بصفة دون خصوصية الماهية وهو المشتق فإنه لا يدل على خصوصية الماهية بل على اتصافها بالمصدر كالأسود مثلا فإنه يدل على ذات متصفة بالسواد وأما على جسمية الذات فلا

هذا تقرير ما ذكر وقوله في اسم الجنس إنه ما يدل على ذات غير معينة كالفرس منتقض بعلم الجنس فإنه دال على ذات عين معينة فإنك تقول رأيت ثعالة أي ثعلبا مع أنه ليس باسم جنس بل علم جنس يعامل في اللفظ معاملة الأعلام
فإن قلت وما الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس مع أن كلا منهما يصدق على ما لا يتناهى ومسماه كلي
قلت المختار في التفرقة بينهما أن علم الجنس هو الذي يقصد به تمييز الجنس من غيره من غير نظر إلى أفراده واسم الجنس ما يقصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على أفراده حتى إذا أدخلت عليه الألف واللام الجنسية الدالة على الحقيقة ساوى علم الجنس كذا ذكره والدي أحسن الله إليه في الفرق بينهما
قال ويستنتج منه أن علم الجنس لا يثنى ولا يجمع لأنه إنما يثنى ويجمع الأفراد
فائدة اعلم أنا إذا قلنا على الإنسان حيوان وأنه كلي فهنا اعتبارات ثلاثة
أحدها أن يراد به الحصة من الحيوانية التي شارك باعتبارها الإنسان غيره وهذا يقال له الكلي الطبيعي وتارة يراد به أنه غير مانع من الشركة وهذا هو الكلي المنطقي وتارة يراد به الأمران أعني الحيوانية التي وقعت بها الشركة مع كونها غير مانعة وهذا هو الكلي العقلي فالأول موجود في الخارج لأنه جزء من الإنسان الموجود وجزء الموجود موجود
والثاني لا وجود له في الخارج لاشتماله على ما لا يتناهى ومنهم من زعم أنه موجود في الخارج
والثالث في وجوده في الخارج أيضا اختلاف والظاهر أنه لا وجود له أيضا لاشتماله على ما لا يتناهى وزعم أفلاطون أنه موجود في الأعيان وأن الإنسان الكلي موجود في الخارج

قال جزئي إن لم يشترك هذا مقابل لقوله كلي أي الذي لا يشترك في معناه كثيرون هو الجزيء
وإن شئت قلت الجزيء ما يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه كزيد العلم مثلا
قال علم إن استقل ومضمر إن لم يستقل الجزيء إما علم أو مضمر لأنه إما أن يستقل في دلالته على المعنى الجزئي فهو العلم كزيد وإما ألا يستقل في ذلك بل يحتاج إلى قرينة تكلم أو خطاب أو غيبة فهو المضمر كأنا وأنت وهو هذا شرح ما أورده وفيه مناقشات من وجوه
أحدها أن هذا التقسيم كله في الاسم وقد قدم أن الاسم هو الذي يستقل فكيف يقسم ما يستقل إلى ما لا يستقل
الثاني أن عجم الاستقلال موجود في اسماء الإشارة والاسماء الموصولة وغيرها وليست مضمرات
الثالث أن عدم الاستقلال قد جعله أولا رسما للحرف فإن أراد بالاستقلال ذاك فالاعتراض لائح وإن أراد غيره فليبينه
الرابع أنه أهمل في تقسيم الكلي إلى اسم جنس ومشتق ذكر علم الجنس كما عرفت
الخامس أنه جعل المضمر من أقسام الجزئي ولقائل أن يقول وحدة المضمر بالنوع لا بالشخص فإن أنت مثلا معناه المخاطب المذكر الفرد من غير تعين فيصح إطلاقه على من كان كذلك والناس مختلفون في أن المضمر جزئي أو كلي وحجة المصنف في جعله جزئيا أن الكلي نكرة والمضمرات أعرف المعارف
قال تقسم آخر اللفظ والمعنى إما أن يتحدا وهو المنفرد أو يتكثرا وهي المتباينة تفاصلت معانيها كالسواد والبياض أو تواصلت كالسيف والصارم والناطق والفصيح أو تكثر اللفظ واتحد المعني وهي المترادفة أو بالعكس فإن

وضع للكل كالعين فمشترك وإلا فإن نقل لعلاقة واشتهر في الثاني سمي بالنسبة إلى الأول منقولا عنه وإلى الثاني منقولا إليه وإلا فحقيقة ومجاز
هذا تقسيم ثان للفظ وهو باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما وينقسم بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام وذلك لأنك إذا نسبت اللفظ إلى المعنى فإما أن يتحدا أو يتكثرا أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس فأما الأول وهو أن يتحدا ومثاله لفظة الله فإنها واحدة ومدلولها واحد ويسمى هذا بالمنفرد لانفراد لفظه بمعناه وهو ينقسم إلى كلي وجزئي على ما مر في التقسيم السابق
أوما الثاني وهو أن يتكثر اللفظ والمعنى فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة الموضوعة لمعان مختلفة وحينئذ إما أن يمتنع اجتماعها كالسواد والبياض أو لا يمتنع بأن يكون بعضها اسما للذات وبعضها اسما للذات إذا اتصفت بصفة خاصة كالسيف والصارم فإن السيف اسم للذات والصارم للسيف القاطع كما قاله الجوهري في الصحاح وغيره وقد يجتمعان في سيف واحد أو يكون بعضها اسما للصفة وبعضها اسما لصفة الصفة كالناطق بالفعل والفصيح فإن الناطق بالفعل صفة للإنسان وقد لا يكون فصيحا فالأولى التي لا يمكن اجتماعها هي المسماة بالمتباينة المتفاصلة لتفاصل معانيها بالذات
والثانية التي لا يمتنع اجتماعها هي المسماة بالمتابينة المتواصلة لتواصل معانيها وقد بينا أنها على نوعين
وأما القسم الثالث وهو أن يكون اللفظ كثيرا والمعنى واحدا فهي الألفاظ

المترادفة كالإنسان والبشر الواحد سواء كانت من لغة واحدة أو من لغات مختلفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل الترادف
وأما الرابع وهو أن يكون اللفظ واحدا والمعنى كثيرا فلا يخلو إما أن يكون قد وضع للكل أي لكل واحد من تلك المعاني أو لا والأول المشترك كالمعين لمدلولاتها المتعددة
والثاني وهو ألا يوضع لكل واحد بل لمعنى ثم ينقل إلى غيره فإما أن ينقل لعلاقة أو لا فإن لم ينقل لعلاقة وقد أهمله المصنف فهو المرتجل كذا قال الإمام
قال القرافي وفيه نظر لأن المرتجل في الاصطلاح هو اللفظ المخترع الذي لم يتقدم له وضع وإن نقل لعلاقة فإما أن يشتهر في الثاني فإن اشتهر في الثاني كصلاة سمى بالنسبة إلى المعنى الأول منقولا عنه وبالنسبة إلى المعنى الثاني منقولا إليه إما شرعيا أو عرفيا عاما أو خاصا بحسب اختلاف الناقلين كما سيتبين لك إن شاء الله تعالى في حد المجاز وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة إلى الأول أعني الحيوان المفترس مجاز بالنسبة إلى الثاني وهو الرجل الشجاع هذا تقرير ما في الكتاب والنظر فيه من وجوه
منها اشتراطه المناسبة في المنقول وهو غير شرط ألا ترى أن كثيرا من المنقولات لا مناسبة بينها وبين المنقول عنها كالجوهر إذ هو في اللغة الشيء النفيس وفي اصطلاح المتكلمين قسيم العرض
وأما قول الأصفهاني إن قيامه بنفسه نفاسة فهو إن صح ودفع صحة التمثيل بالجوهر لا يدفع أصل الدعوى
ومنها أن كلامه يقتضي أن المجاز لا يشتهر وهو مردود بل رب مجاز أشهر من الحقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح
ومنها أن كلامه ناطق بأن المجاز موضوع وسوف يأتي ما يخالفوه إن شاء الله تعالى

ومنها أنه يقتضي أن المجاز يوضع لا لعلاقة إذ قال وإلا فحقيقة ومجاز أي وإن لم يوضع لعلاقة فحقيقة ومجاز وليس كذلك إذ لا بد من العلاقة في المجاز ويمكن أن يجاب عن هذا بأن قوله لعلاقة إنما ذكر لتحقيق معنى النقل لا لتنويعه أي لا يتحقق النقل ولا يعتبر إلا بالعلاقة لكن يتعين على هذا أن يكون قوله وإلا فحقيقة ومجاز معطوفا على قوله واشتهر أي وإن لم يشتهر فمجاز ويجيء الإيراد الثاني
قال والثلاثة الأول المتحدة المعنى نصوص وأما الباقية فالمتساوي الدلالة مجمل والراجح ظاهر والمرجوح مؤول
الثلاثة الأول المتحدة اللفظ والمعنى والمتكثرة اللفظ والمعنى والمتكثرة اللفظ دون المعنى نصوص لأن لكل لفظ منها فردا معينا لا يحتمل غيره وهذا هو المعنى بالنص سمى به لارتفاعه على غيره من الألفاظ في الدلالة من قولهم نصت الظبية جيدها إذا رفعت ومنه منصة العروس وقد يطلق النص على ما يدل على معنى قطعا ويحتمل غيره كصيغ العموم في الجموع فإنه لا بد لها من ثلاثة ويحتمل الزيادة وقد جمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضي الله عنه في شرح العنوان الاصطلاحات في النص فقال هي ثلاث
أحدها ألا يحتمل اللفظ إلا معنى واحدا
الثاني اصطلاح الفقهاء وهو اللفظ الذي دلالته قوية الظهور
قلت وهو الذي مشى عليه الإمام والمصنف في كتاب القياس كما سينتهي الشرح إليه إن شاء الله تعالى
الثالث اصطلاح الجدليين فإن كثيرا من متأخريهم يريدون بالنص مجرد لفظ الكتاب والسنة وقد احترز في الكتاب بقوله المتحدة المعنى عن العين والقرء فإنها متباينة مع أنها ليست بنصوص لأن كل لفظ منها مشترك بين معان وكذلك المترادفة الألفاظ قد تكون مشتركة كلفظة العين والناظر
قوله وأما الباقية أي متحدة اللفظ متكثرة المعنى وإنما قال الباقية وأراد

القسم الرابع لأن تحته أقساما عدة كالمشترك والمنقول عنه وإليه والحقيقة والمجاز وحاصل هذا أن هذا القسم إما أن تكون دلالته على كل واحد من المعاني على السوية فهو المجمل أو لا فإن كانت دلالته على بعض المعاني أرجح فالطرف الراجح ظاهر والمرجوح مؤول لأنه يؤول إلى الظهور عند مساعدة الدليل له
قال والمشترك بين النص والظاهر المحكم وبين المجمل والمؤول المتشابه
لا شك في اشتراك النص والظاهر في رجحان الإفادة وإنما النص راجح لا يحتمل غيره والظاهر راجح يحتمل والقدر المشترك بينهما من الرجحان يسمى المحكم لإحكام عبارته وإتقانه فالمحكم جنس لنوعين النص والظاهر ومقابلهما المجمل والمؤول فإنهما اشتركا في أن كلا منهما يفيد معناه إفادة غير راجحة إلا أن المؤول مرجوح والمجمل ليس مرجوحا بل مساويا والقدر المشترك بينما من عدم الرجحان يسمى بالمتشابه فالمتشابه جنس لنوعين المجمل والمؤول وأصل هذا الاصطلاح مأخوذ من قوله فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
قال تقسيم آخر مدلول اللفظ إما معنى أو لفظ أو مركب مستعمل أو مهمل نحو الفرس والكلمة وأسماء الحروف والخبر والهذيان
اللفظ المفرد باعتبار حقيقة مدلوله ينقسم إلى خمسة أقسام لأن مدلوله إما معنى أو لفظ والأول قد تقدم الكلام فيه من كونه كليا أو جزئيا
والثاني إما أن يكون اللفظ الذي هو مدلوله مفردا أو مركبا وكل منهما إما أن يكون مهملا أو مستعملا الأول كالفرس فإنه لفظ مدلوله معنى
والثاني نحو الكلمة فإنها مدلوله لفظ مفرد مستعمل وهو الاسم والفعل والحرف وقد عرفت في التقسيم السابق وجه انحصار انقسام الكلمة في الاسم والفعل والحرف وأجمعت النحاة على انحصارها في ذلك

قال شيخنا أبو حيان رحمه الله وحكى لنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخنا عن صاحبه أبي جعفر بن صابر أنه كان يذهب إلى أن ثم رابعا وهو الذي نسميه نحن اسم فعل وكان يسميه خالفة إذ ليس هو عنده واحدا من هذه الثلاثة
والثالث كأسماء حروف التهجي فذلك مدلوله لفظ مفرد مهمل ألا ترى أن حروف جلس لم توضع لمعنى مع أن كلا منها قد وضع له اسم فللأول الجيم وللثاني اللام وللثالث السين
فإن قلت فيكون قول الأستاذ لتلميذه قل أ ب ت عبثا إذ لا معنى لهذه الألفاظ
قلت لما كانت آلة يتوصل باجتماعها على الترتيب المعتبر إلى الكلام المفيد لم يكن تعليمها عبثا
والرابع كلفظ الخبر فإن مدلوله لفظ مركب مستعمل نحو قام زيد
والخامس أن يكون المدلول لفظا مركبا مهملا
قال الإمام والأشبه أنه غير موجود لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة فحيث لا إفادة لا تركيب قال صفي الدين الهندي وهذا حق إن عني بالمركب ما يكون جزؤه دالا على جزء المعنى حين هو جزؤه وإن عني به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه أو ما يكون مؤتلفا من لفظتين كيف كان التأليف وإن لم يكن لشيء من أجزائه دلالة فهو باطل
أما الأول فمثل عبدالله إذا كان علما فإن اسم العلم يدل عليه وهو لفظ مركب على هذا التقدير غير دال على المعنى المركب
وأما الثاني فكلفظ الهذيان فإنه يدل على المركب من مهملتين أو من لفظة مهملة ومستعملة وهو غير دال على المعنى المركب أما إن أراد أنه لا يدل على معنى أصلا وأراد باللفظ المركب المعنى فينتقض بالثاني دون الأول انتهى والمصنف حاول ذلك فخالف الإما ومثل الهذيان كما قررناه فإنه لفظ موضوع للمهمل المركب كما عرفت

قال والمركب صيغ للإفهام شرع في تقسيم المركب ولا ريب فيما ذكر من أن المتكلم إنما صاغ المركب من المفردات ليفهم ما في ضميره
قال فإن أفاد بالذات طلبا فالطلب للماهية استفهام وللتحصيل مع الاستعلاء أمر ومع التساوي التماس ومع التسفل سؤال وإلا فمحتمل التصديق والتكذيب خبر وغيره تنبيه ويندرج فيه الترجي والتمني والقسم والنداء
المركب تارة يفيد طلبا بالذات أي بالوضع وإن شئت قلت إفادة أولية وطورا يفيد غير ذلك فإن أفاد طلبا بذاته فإن كان الطلب لماهية في الذهن وأحسن من هذه العبارة أن يقول طلب ذكر ماهية الشيء فهو الاستفهام كقولك ما هذا ومن هذا وإن كان لتحصيل أمر ما من الأمور فإن كان مع الاستعلاء فأمر كقول المتعاظم المستعلي لآخر افعل كذا سواء كان مع الاستعلاء عاليا في نفس الأمر أم لم يكن وإن كان مع التساوي كقول القائل لمماثله افعل كذا فهو التماس وتسمية التساوي بالالتماس اصطلاح خاص كما قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان وإن كان من التسفل كقول من يجعل نفس دون المطلوب منه فهو سؤال سواء كان دونه في نفس الأمر كقول الداعي رب اغفر لي أو لم يكن وإن لم يفد بالذات طلبا فإما أن يحتمل التصديق والتكذيب أو لا
القسم الأول أن يحتملها فهو الخبر وزعم قوم أن تعبير المصنف ومن وافقه بالتصديق والتكذيب أحسن من قول غيره الصدق والكذب لأن من الأخبار ما لا يحتمل إلا الصدق كخبر الصادق وما لا يحتمل إلا الكذب كقول من قال الواحد نصف العشرة مع احتمال تصديق ذي المكابرة وقولنا الواحد نصف الإثنين ويحتمل التكذيب من الكفار والمعاند وهذا عندي غير مرضي فإن الحكم على الخبر من حيث هو والخبر من حيث هو خبر محتمل لذلك وسقوط أحد الاحتمالين في بعض الأفراد لخصوصية ومزية لا يخرج احتمال ماهية الخبر من حيث هي لمحتملاتها ثم إن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار بكون الكلام صدقا أو كذبا فتعريفه به دور

فإن قلت التصديق والتكذيب والصدق والكذب نوعان للخبر والنوع إنما يعرف بعد معرفة الجنس فلو عرف الجنس به لزم الدور
قلت أجاب القرافي بأن الحد هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال لأن من سمع لفظ إنسان وجهل مسماه يقال له هو الحيوان الناطق فإن كان جاهلا بالحيوان الناطق فسد الحد لأن الحد بالمجهول لا يصح فتعين أن يكونا معلومين له ومتى كانا معلومين فمن علم الحيوان والناطق فقد عرف الإنسان لأنه ليس شيئا غيرهما فعلمنا أن كان عارفا بحقيقة الإنسان وإنما كان جاهلا بمسمى اللفظ على التفصيل وكان يعلمها من حيث الإجمال جاز أن يكون السائل عالما بمدلول لفظ الصدق والكذب وجاهلا بمدلول لفظ الخبر فيبين له مدلول لفظ الخبر بمدلول لفظ الصدق والكذب
قال ولا يقال العلم بالنوع يستلزم العلم بالجنس لاستلزام العلم بالمركب العلم بالمفرد لأن الجهل هنا إنما وقع من وضع لفظ الخبر للخبر لا في نفس الخبر ولا تنافي بين العلم بالخبر والجهل بوضع لفظه له فإن المرء قد يعلم حقيقة ولا يعلم اسمها
فإن قلت الصدق والكذب ضدان يستحيل اجتماعهما فلا يقبل محلهما إلا أحدهما أم هما معا فلا وإذا كان المحل لا يقبل إلا أحدهما المتعين في الحد صيغة أو التي لأحد الشيئين دون الواو التي للشيئين معا هو الذي ارتضاه إمام الحرمين وقال من قال الصدق والكذب أوهم اتصالهما بخبر واحد فإذا ردد ونوع فقال ما يدخله الصدق أو الكذب فقد تحرز
قلت ما ذكرناه هو الصواب وذلك لأنه لا يلزم من تنافي المقبولين تنافي القبولين ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم ولو وجد أحد القبولين دون الآخر للزم من نفي ذلك القبول ثبوت استحالة ذلك المقبول فإن كان ذلك المستحيل هو الوجود لزم كون الممكن مستحيلا وإن كان مستحيلا هو العدم

لزم كون الممكن واجب الوجود فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن بتنافى القبولان فيتعين الواو وإنما الشبهة التي وقعت لإمام الحرمين التباس القبولين بالمقبولين وإنه يلزم من يقدر اجتماع المقبولين بقدر اجتماع القبولين وليس كذلك ولذلك نقول كل جسم قابل لجميع الأضداد وقبولاتها كلها مجتمعة له وإنما المتعاقبة على سبيل البدل هي المقبولات لا القبولات فتأمل ذلك
فإن قلت لم سمى الأصوليون ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم أخبارا معظمها أوامر ونواهي
قلت أجاب القاضي بوجهين
أحدهما أن حاصل جميعها آيل إلى الخبر فالمأمور به في حكم المخبر عن وجوبه وكذا القول في النواهي والسر فيه أنه صلى الله عليه و سلم ليس آمرا على سبيل الاستقلال وإنما الآمر حقا الله تعالى وصيغ الأمر من المصطفى عليه السلام في حكم الإخبار عن الله تعالى
والثاني أنها سميت أخبارا لنقل المتوسطين وهم يخبرون عمن يروي لهم ومن عاصر النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بلغه أمر لا يقول أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بل أمرنا نقلول فالمنقول إذا استجد اسم الخبر في المرتبة الثانية إلى حيث انتهى
القسم الثاني ألا يحتمل التصديق والتكذيب فهو تنبيه ويندرج في التنبيه لا على وجه الحصر التمني مثل ليت الشباب يعود
والترجي والقسم والنداء وأمثلتهن معروفة
فإن قلت ما الفرق بين الترجي والتمني
قلت الترجي لا يكون في المستحيلات والتمني يكون في المستحيلات وفي الممكنات وأما لفظ الكتاب فقوله بالذات احتراز عما يفيد الطلب باللازم كقولك أنا طالب منك أن تذكر لي حقيقة الإنسان فإنه لا يسمى استفهاما أو أن تسقيني الماء إذ لا يسمى أمرا أو ألا تفعل كذا فإنه لا يسمى نهيا بل هذه إخبارات وكذلك الأقسام الباقية من التمني والترجي القسم والنداء كلها

تفيد الطلب باللازم وعلى كلامه اعتراضات منها أنه اشترط في حقيقة الأمر الاستعلاء وذلك مذهب زيفه في باب الأوامر كذا أورده بعض الشراح وسنبين في كتاب الأواق إن شاء الله وجه صحة كلامه وعدم اضطرابه ومنها أنه جعل التساوي قسيما للاستعلاء والتسفل وإنما هو قسيم للعول والنزول لأن الاستعلاء جعل الطالب نفسه عاليا ولا يلزم من ذلك كونه عاليا في نفس الأمر والتسفل عكسه
ومنها أن قوله وللتحصيل مع الاستعلاء أمر وإن أراد به تحصيل الفعل الذي ليس بكف فالتقسيم غير حاصل لخروج طالب الكف بالنهي عنه وإن أراد تحصيل الفعل مطلقا كفا كان أو غيره لزم دخول النهي في حد الأمر وهما حقيقتان مختلفتان وقد يقول من ينصره بدخول النهي في حقيقة الأمر وأن مغايرتها مغايرة العام والخاص لا مغايرة المتباينين بناء على أن الأمر هو ما يطلب به فعل سواء كان الفعل كفا أم غير كف والنهي ما يطلب به فعل خاص وهو الكف
خاتمة قال القرافي في الفروق اعتقد جماعة من الفقهاء من قولنا في حد الخبر إنه المحتمل للصدق والكذب أو هذين الاحتمالين مستفادان من الخبر بالوضع اللغوي وأن الوضع اللغوي اقتضى له ذلك قال وليس كذلك بل لا يحتمل الخبر من حيث الوضع إلا الصدق لإجماع ذوي اللسان على أن معنى قولنا قام زيد حصول القيام في الزمان الماضي ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه ولقائل أن يقول لا نسلم أن مدلول قولنا قام زيد حصول القيام وإنما مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب والله أعلم

الفصل الثالث في الاشتقاق قال الفصل الثالث في الاشتقاق له في حروفه
الأصلية ومناسبته في المعنى
الاشتقاق في اللغة الاقتطاع وفي الاصطلاح ما ذكره فقوله رد لفظ جنس وقول لموافقته في حروفه الأصلية فصل احترز به عن الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر إذ لا اشتراك فيها في الحروف كذا ذكر الشراح ولقائل أن يقول الألفاظ المترادفة لم تدخل في الكلام قبل ذلك حتى تخرج بهذا القيد فإن أحد المترادفين ليس مردود اللفظ إلى الآخر وقوله الأصلية إشارة إلى أن الاعتبار في موافقة الحروف إنما هو بالحروف الأصلية فقط ولا عبرة بالحروف الزائدة وقوله ومناسبته في المعنى احتراز عن المعدول لأن المناسبة تقتضي المغايرة ولا مغايرة بين المعدول والمعدول عنه في المعنى وهذا الحد الذي ذكره أسد من تعريف الميداني الذي ارتضاه الإمام وهو قوله أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر أن يعترض على هذا بأن الاشتقاق ليس هو نفس الوجدان بل الرد عند الوجدان
وأعلم أن الاشتقاق أربعة أركان ذكرها في الكتاب

المشتق والمشتق منه والموافقة في الحروف الأصلية مع المناسبة في المعنى والرابع التغيير فقوله رد لفظ هو الركن الأول ودخل فيه الاسم والفعل وقوله إلى لفظ آخر هو الركن الثاني وهو المشتق منه ويوجد منه الركن الرابع وهو التغيير لأنه لو انتفى التغيير بينهما لم يصدق عليه أنه لفظ آخر بل هو هو ودخل فيه أيضا الاسم والفعل وقوله لموافقته في حروفه الأصلية هو الركن الثالث واحترز به عما عرفت أولا
قال ولا بد من تغيير بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما أو زيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر أو بزيادته أو نقصانه بزيادة الآخر ونقصانه أو بزيادتهما ونقصانهما نحو كاذب ونصر و ضارب وخف وضرب على مذهب الكوفيين وغلا ومسمات وحذر وعاد ونبت واضرب وخاف وعد وكال وارم
لا بد من تغيير بين اللفظين والتغيير المعنوي إنما يحصل بطريق التبع والإمام لم يذكر من أقسام التغيير غير تسع وليست الأقسام منحصرة في تلك وقد زاد المصنف عليه ستة أقسام فجعلها خمسة عشر وأورد لكل منها مثالا وفي أكثر أمثلته نظر وقد وضع والدي أطال الله بقاه في هذا الفصل أرجوزة حسنة
قوله بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما دخل فيه ستة أقسما
أربعة تغييرها فرادى واثنان ثنائيان فإن قوله بزيادة ليس منونا بل هو مضاف إلى حرف وحركة وكليهما وكذا نقصان مضاف إلى الثلاثة فكانت ستة أقسام زيادة الحرف وزيادة الحركة وزيادتهما معا وهكذا النقصان قوله أو بزيادة أحدهما ونقصانه أو نقصان الآخر يدخل فيه أربعة أقسام ثنائية أيضا زيادة أحدهما أو نقصانه يدخل فيه زيادة الحرف ونقصانه وزيادة الحركة ونقصانها ويدخل في زيادة أحدهما ونقصان الآخر قسمان
زيادة الحرف ونقصان الحركة وعكسه قوله أو بزيادته أونقصانه أو نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه بزيادة الآخر ونقصانه تقديره أو بزيادة

أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه فيدخل فيه أربعة أقسام ثلاثية التغيير لأن زيادة أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه يدخل فيه صورتان زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها والثانية زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه
ويدخل في نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه صورتان أيضا
إحداهما نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها
والثانية نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه
وقوله أو بزيادتهما ونقصانهما أي بزيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا وهو قسم واحد رباعي التغيير وبه تكلمت الأقسام خمسة عشر
قوله نحو كاذب شرع في المثل للأقسام المذكورة
الأول زيادة الحرف فقط نحو كاذب من الكذب زيدت الألف
الثاني زيادة الحركة نحو نصر الماضي من النصر زيدت حركة الصاد
الثالث زيادة الحرف والحركة معا مثل ضارب من الضرب زيد الألف وحركة الراء
الرابع نقصان الحرف نحو خف فعل أمر من الخوف نقصت الواو
وقد اعترض على المصنف بأن الفاء صارت في هذا ساكنة بعد أن كانت متحركة فاجتمع في هذا المثال نقصان الحرف والحركة معا فإن اعتذر بأن مثل هذا لا يعتبر لكونه نقصانا لحركة الإعراب
قلنا سيأتي إن شاء الله تعالى في القسم العاشر ما يخالفه فالأولى تمثيله بذهب من الذهاب أو حسب من الحساب
الخامس نقصان الحركة نحو ضرب المصدر من ضرب الماضي نقصت حركة الراء قال في الكتاب وهذا لا يتأتى إلا على مذهب الكوفيين يعني في اشتقاقهم المصدر من الفعل عكس مذهب البصريين وذهب أبو بكر بن أبي طلحة إلى مذهب ثالث وهو أن كلا من المصدر والفعل أصل بنفسه ليس أحدهما مشتقا من الآخر حكاه شيخنا أبو حيان في الارتشاف

السادس نقصان الحركة والحرف معا نحو غلا ماضي غليان نقصت الألف والنون ونقصت فتحة الياء ومن أمثلته أيضا سر من السير نقصت الياء وحركة العين
السابع زيادة الحرف ونقصانه أي نقصان حرف آخر ومثل في الكتاب له بمسلمات زيدت الألف والتاء للجمع ونقصت منه تاء كانت في المفرد في قولك مسلمة ولك أن تقول الجمع غير مشتق من مفرده فلا يصح ما ذكره مثالا فالأولى التمثيل بقولك مدحرج من الدحرجة نقصت هاء التأنيث وزادت الميم وكذا مزخرف من الزخرفة نقصت التاء وزادت الميم
الثامن زيادة الحركة ونقصانها أي نقصان حركة أخرى نحو حذر من الحذر زيدت فيه كسرة الذال المعجمة ونقصت منه فتحته وكذلك رمى من الرمي نقصت حركت الياء من الرمي وزيدت حركة الميم وسعى من السعي
التاسع زيادة الحرف ونقصان الحركة نحو عاد بالتشديد من العدد زيدت الألف بعد العين ونقصت حركة الدال الأولى
العاشر زيادة الحركة ونقصان الحرف نحو نبت من النبات زيدت فيه فتحة الباء ونقصت منه الألف كذا ذكره في الكتاب ولك أن تقول فتحة الباء جاءت عوض الكسرة فليس ثم غير نقصان الألف وليس له أن يقول لا يعتد بالحركة الإعرابية إذ سبق منه في القسم الرابع ما يخالف ذلك
الحادي عشر زيادة الحرف الحركة جميعا مع نقصان حركة أخرى مثل أضرب من الضرب زيدت فيه ألف الوصل وكسرة الراء ونقصت منه حركة الضاد
الثاني عشر زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه مثل خاب ماضي من الخوف زيدت الألف وحركة الفاء وحذفت الواو
الثالث عشر نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها مثل عد فعل أمر من الوعد زيدت كسرة العين ونقصت الواو وحركت الدال

الرابع عشر نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه نحو كال بتشديد اللام وهو اسم فاعل من الكلال نقصت حركة اللام الأولى وكذا الألف التي بين اللامين وزيدت ألف قبل اللامين
الخامس عشر زيادة الحرف والحركة معا نحو ارم من الرمي زيدت الهمزة وحركة الميم ونقصت الياء وحركة الراء والله أعلم

أحكام الاشتقاق
قال وأحكامه في مسائل الأولى شرط المشتق صدق أصله خلافا لأبي علي وابنه فإنهما قالا بعالمية الله تعالى دون علمه وعلاها فينابه لنا أن الأصل جزؤه فلا يوجد دونه
شرط صدق المشتق اسما كان أو فعلا صدق أصله المشتق منه فلا يصدق قائم على ذات إلا إذا صدق القيام على تلك الذات وسواء كان الصدق في الماضي أم في الحال أو في الاستقبال والكلام في أن صدق ذلك هل هو بطريق الحقيقة أو المجاز من وظائف المسألة التالية لهذه وهذا هو السر في قول المصنف صدق أصله دون وجود أصله كما قال غيره إذ لو قال وجود أصله لورد عليه إطلاقه باعتبار المستقبل إذ هو جائز مع عدم وجوده حالة الإطلاق والكلام في المسألة مع أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وهما لم يصرحا بالمخالفة في ذلك ولكن وقع ذلك منهما ضمنا حيث ذهبا هما ومن تبعهما من المعتزلة إلى القول بعالمية الله تعالى دون علمه أي قالا إن الله تعالى عالم ولم يقولا بحصول العلم الذي اشتق منه العالم له والحاصل أن هذه الطائفة ينفون عن الله تعالى الصفات الحقيقية الزائدة على الذات كالعلم والقدرة والحياة وقد يجمعهما قول الشاطبي رحمه الله ... حي عليم قدير والكلام له ... باق سميع بصير ما أراد جزاء ...
فرارا من أن تكون الذات قابلا وفاعلا من أشياء زعموها لازمة ويقولون

بثبوت العاملية والقادرية والحيية له وبناء على أنها نسب وإضافات لا وجود لها في الخارج بخلاف العلم والقدرة والحياة فإنها صفات حقيقية ويقولون عالمية الله غير معللة بالعلم لأن العالمية له واجبة والواجب لا يعلل بالغير بخلاف عالميتنا فإنها معللة بالعلم إذ هي غير واجبة
وقال أهل السنة وقوم من المعتزلة إن لله سبحانه وتعالى صفات مغايرة لذاته تعالى وهي العلم والقدرة والحياة وغيرها من الصفات الثبوتية ثم قال الذين نفوا الحال العاملية والقادرية والحيية نفس العلم والقدرة والحياة وقال مثبتوها عالمية الله حالة معللة بمعنى قائم به وهو العلم وكذا القادرية بالقدرة والحيية بالحياة وإذا عرفت هذا ظهر أن الأشاعرة ومن وافقهم قالوا إن الله تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة حي بالحياة والجبائيان قالا إنه تعالى عالم بالذات لا بالعلم قادر بالذات لا بالقدرة هي بالذات بالحياة فقد جوزوا صدق المشتق الذي هو العالم بدون صدق المشتق منه الذي هو العلم واستدل في الكتاب على امتناع إطلاق المشتق بدون المشتق منه بأنه لو صح المشتق بدون صدق أصله للزم وجود الكل بدون الجزء لأن الأصل الذي هو المشتق منه جزء للمشتق لأن المشتق يدل على الأصل وعلى ذات متصفة به كالعالم مثلا فإن مدلوله ذات متصفة بالعلم فالعلم الذي هو أصل العالم جزء من مجموع معناه فلو صح العالم بدون العلم للزم ما ذكرناه ولا ينقض هذا بصحة إطلاق اسم الكل على الجزء لأن ذلك من باب المجاز والكلام في صحة الإطلاق الحقيقي
قال الثانية شرط كونه حقيقة دوام أصله خلافا لابن سينا وأبي هاشم لأنه يصدق نفيه عند زواله فلا يصدق إيجابه قيل مطلقتان فلا يتناقضان
قلنا مؤقتتان بالحال فإن أهل العرف ترفع أحدهما بالآخر
المسألة السابقة في اشتراط صدق المشتق منه في كون المشتق حقيقة سواء دام معنى المشتق منه إلى حالة الإطلاق أم لم يدم وهذه في اشتراط دوام معنى

المشتق منه إلى حالة إطلاق المشتق فهي أخص من تلك فنقول إطلاق الاسم المشتق باعتبار الحال حقيقة بالإجماع وباعتبار المستقبل مجاز بالإجماع وأما إطلاقه باعتبار الماضي كإطلاق الضارب على من صدر منه الضرب وانتهى فقال الجمهور إنه غير حقيقة قال الإمام وهو الأقرب واختاره في الكتاب وقال ابن سينا وأبو هاشم ووالده أبو على إنه حقيقة وفي المسألة مذهب ثالث أن معنى المشتق منه إن كان مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود اشترط بقاؤه في كون المشتق حقيقة وإلا فلا حكاه الآمدي والإمام ذكره بحثا من جهة الخصم ثم أجاب عنه بأن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا
وأعلم أن محل الخلاف في المسألة إنما هو في صدق الاسم فقط أعني هل يسمى من ضرب أمس الآن بضارب وهو أمر راجع إلى اللغة وليس النزاع في نسبة المعنى أعني في أن الضارب أمس هل هو الآن ضارب فإن ذلك لا يقوله عاقل وإذا تبين أن محل النزاع إنما هو في صدق الاسم فاعلم أيضا أن الذي يتجه أن الخلاف أيضا ليس في الصفات القارة المحسوسة كالبياض والسواد لأنا على قطع بأن اللغوي لا يطلق على الأبيض بعد اسوداده أنه أبيض وقد قال الإمام في آخر المسألة لا يصح أن يقال لليقظان إنه نائم اعتبارا بالنوم السابق وادعى الآمدي في ذلك الإجماع فقال لا يجوز تسمية النائم قاعدا والقاعد نائما بإجماع المسلمين وأهل اللسان وهذا واضح من اللغة وإنما الخلاف في الضرب ونحوه من الأفعال المقتضية فإطلاق المشتق على محلها من باب الأحكام فلا يبعد إطلاقه حال خلوه من مفهومه لأنه أمر حكمي وتبين من هنا وجه انفصال الماضي عن المستقبل حيث كان إطلاقه باعتبار الماضي أولى لأن من حصل منه الضرب في الماضي قد يستصحب حكمه وأما المستقبل فلم يثبت له حكم حتى يستصحب
إذا عرفت ذلك فنقول استدل المصنف على ما اختاره من أنه ليس بحقيقة بأنه يضدق نفي المشتق عند زوال المشتق منه فيقول زيد ليس بضارب فلو صدق في الإيجاب حقيقة وهو زيد ضارب للزم اجتماع

النقيضين أهني صدق نفي الضرب وإثباته فتقرر أنه إنما يصدق مجازا لأن صحة النفي من أمارات المجاز واعترض على هذا بأن قولنا ضارب وليس بضارب قضيتان مطلقتان لم يتحد وقت الحكم فيهما فلا يتناقضان لجواز أن يكون وقت السلب غير وقت الإثبات وأجاب في الكتاب بأنهما مؤقتتان بحال التكلم
وأغنى عن هذا التقييد فهم أهل العرف أن لو لم يكن كذلك لما جاز استعمال كل واحد منهما في تكذيب الآخر ورفعه لكن أهل العرف يستعملون ذلك فيكونان متناقضين وهو المطلوب
فإن قلت سلمنا أنهما مؤقتتان بالحال وأنهما متناقضتان ولكن لا نسلم أنه حينئذ يصح إطلاقهما لأنه لا يصح ليس بضارب في الحال وهل قولكم إن ذلك يصح إلا مصادرة على المطلوب
قلت صدق ليس بضارب في الحال لا يقبل المنازعة إلا ممن لم يفهم معنى هذا الكلام وذلك لأنا لم نعن بذلك إطلاق الاسم حتى يقال إنه مصادرة على المطلوب بل إن المعنى غير ثابت في الحال وقد قدمنا أنه لا ينازع في ذلك عاقل ويقرر عندك أن المعنى بقولنا يصدق ليس بضارب في الحال تحقق المعنى لا صدق الإطلاق إذا الخصوم سلموا هذه المقدمة لما ذكرها الإمام وغيره وما اعترض أحد بهذا السؤال
فإن قلت سلمنا أنه يصح ليس بضارب في الحال ولكن لا نسلم استلزامها صحة ليس بضارب
قلت لأن ليس بضارب مطلقة وليس بضارب في الحال مؤقتة والمطلقة جزء من المؤقتة ولو صح ذلك فنقول إذا قيدت في الإيجاب أو في السلب بزمان ولم تجعل الزمان جزءا من المحمول كانت القضية موجهة مؤقتة وإن لم يقيد كانت القضية مطلقة وهي جزء من المؤقتة والقيد المذكور في المؤقتة كقولنا زيد ضارب الآن أو ليس بضارب الآن إذا جعلناه جهة معناه تقييد نسبة المحمول الذي هو ضارب إلى الموضوع الذي هو زيد إيجابا أو سلبا
فإذا قلت زيد ضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ثابتة الآن

وإذا قلت زيد ليس بضارب الآن فمعناه أن نسبة ضارب إلى زيد ممتنعة الآن والآن ظرف للنتفاء لا للتفي فإن النفي هو الحكم وهو حاصل الآن وانتفاء مدلوله وهو يحسبه قد يكون الآن كما في هذا المثال وقد يكون أمس أو غدا على حسب ما تأتي المؤقتة وقد يأتي الظرف جزءا من المحمول كقولك زيد ضارب الآن تريد أن ضربه الآن ثابت أو ليس بضارب الآن تريد ضربه الآن منتف فهذه ليست موجهة والمنفي فيها أخص من النفي في الموجهة والمثبت بأخص من المثبت ولنزد ذلك إيضاحا فنقول
إذا قلت ليس زيد ضاربا الآن أو يوم الجمعة فلا يجوز أن يكون الآن أو يوم الجمعة ظرفا لحكمك ألا ترى أنك تقول يوم الجمعة وأنت غير حاكم فيه وبقي بعد هذا أن يوم الجمعة إما أن يكون ظرفا لانتفاء الضرب المقيد بذلك الوقت أو المطلق والمعنى أن زيدا يصدق يوم الجمعة أنه ليس بضارب ومن ضرورة انتفائه انتفاء المقيد وإذ وضح أن المطلقة جزء من المؤقتة صح تعبير الإمام في المحصول بالكل والجزء ودعواه استلزام الكل الجزء ليس مراده الجزء من حيث اللفظ بل من حيث المعنى
فإن قلت المطلقة أعم من المؤقتة فكيف تستلزمها المؤقتة
قلت أصل المطلقة كذلك ولكن قد يعرض لها تقييدها لغة أو عرفا وقد ادعيناه هنا حيث قلنا إن العرف يؤقتهما بحال التكلم ودللنا عليه فالمطلقة وإن كانت مطلقة في اللفظ فهي مقيدة بحسب العرف وكان ذلك منطوقا به فسارت المؤقتة وإنما دلالة المؤقتة صريحة في الوقت ودلالة المطلقة ظاهرة ولهذا المعنى لم يأت الإمام في المحصول بلفظ الأعم والأخص لأنه يضره فإنه يدعى تساويهما عرفا ولغة فكيف يقول إن أحدهما أعم من الآخر بل ترك ذلك وعدل إلى الكل والجزء فإنه صحيح على التقديرين أعني من حيث القل والأصل ومن حيث الاستعمال والجزء قد يكون مساويا في الوجود كالناطق فإنه جزء الانسان ومساو له بخلاف الأعم فإنه قد يوجد بدون الأخص
فإن قلت قد فهم أصحاب الإمام أن مراده الأعم والأخص ومنهم

صاحب التحصيل فقال يصدق ليس بضارب لصدق الأخص منه وهو ليس بضارب في الحال
قلت قال والدي رضي الله عنه في كتابه الاتساق في مقاربة الاشتقاق وهو مختصر وضعه في هذه المسألة إنهم ما فهموا جيدا وأطال النفس في ذلك وأجاب عن سؤال لصاحب التحصيل ذكره على هذا وعظم خطبه ونحن لم نذكر السؤال لكونه مبنيا على ما فهمه صاحب التحصيل من أن الكل أعم والجزء أخص وقد بينا أن الإمام لم يرد بالكل والجزء الأعم والأخص وأن الجزء قد يكون مساويا
قال وعورض بوجوه الأول أن الضارب من له الضرب وهو أعم ورد بأنه أعم في المستقبل أيضا وهو مجاز اتفاقا
الثاني أن النحاة منعوا عمل النعت للماضي ونوقض بأنهم أعملوا المستقبل
الثالث أنه لو شرط لم يكن المتكلم ونحوه حقيقة وأجيب بأنه لما تعذر استعمال أجزائه اكتفى بآخر جزء
الرابع أن المؤمن يطلق حالة الخلو عن مفهومه وأجيب بأنه مجاز وإلا لأطلق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة
عارض الخصم دليلنا بأوجه زعم أنها تدل على مطلوبه
الأول أن الضارب عبارة عمن ثبت له الضرب وهو أعم من أن يكون دائما أو لا فيكون إطلاقه على أفراده على سبيل الحقيقة كإطلاق العام على أفراده وأجاب بأن ذلك منقوض بأنه أعم من المستقبل أيضا فيلزم أن يكون حقيقة فيه ولا قائل به ولقائل أن يقول إذا كان الضارب من ثبت له الضرب فهو غير صادق باعتبار المستقبل لأنه ما ثبت له فلا يتجه قولكم أنه أعم من المستقبل أيضا
الثاني أن جمهور النحاة قالوا النعت أي المشتق كاسم الفاعل واسم

المفعول إذا كان بمعنى الماضي وليس معه ال فهو لا ينصب مفعوله بل يتعين أن يجر بالإضافة إليه تقول مررت برجل ضارب زيد أمس وهذا يدل على جواز استعماله بمعنى الماضي والأصل في الاستعمال الحقيقة وأجاب بأن هذا منتقض بإجماعهم على إعماله إذا كان بمعنى الاستقبال ما قلتموه في الماضي يأتي بعينه في المستقبل مع أنه مجاز اتفاقا
الثالث لو كان المشتق منه شرطا في صحة إطلاق المشتق حقيقة لاستحال إطلاق المتكلم والمخبر بطريق الحقيقة على شيء أصلا لأن المشتق وهو الكلام والخبر لا يمكن بقاؤهما لأنهما من الموجودات التي هي غير قارة الذات وأجاب بمنع الملازمة وذلك لأن الشرط أحد الأمرين أما بقاء المشتق منه وذلك فيما يمكن بقاؤه أو بقاء آخر جزء من أجزائه إن لم يكن بقاؤه بالكلية لأن وضع اللغة غير مبني على المضايقة في مثل هذه الأمور وهذا كإطلاقهم الحال على الزمان المعين مع أن الموجود منه ليس إلا جزءا واحدا
الرابع أنه لو اشترط بقاء المشتق منه في صحة إطلاق المشتق حقيقة للزم ألا يصح إطلاق المؤمن بطريق الحقيقة على من خلا عن مفهومه بالنوم مثلا ولكن ذلك باطل لأنهم يطلقونه عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب بأن إطلاقه ليس على سبيل الحقيقة بل هو مجاز وإلا لصح إطلاق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة بسبب كفر تقدم إذ الإطلاق من لوازم الحقيقة ولقائل أن يقول إن الإيمان الطارئ بعد الكفر يضاده لذلك لم يصح إطلاق الكافر على من صدر منه في الماضي إذ هو وصف وجودي يصاد الأول فكان كإطلاقك على الأسود أنه أبيض باعتبار بياضه المتقدم وقد قدمنا أن ذلك ليس من محل النزاع
فوائد أحدها اعلم أنا لا نعني بالحال حال نطقنا بل حال اتصافه بالمشتق منه
فإذا قلت اقتلوا المشركين فمعناه الأمر بقتل من اتصف بالشرك وإن لم يكن وقت قولك اقتلوا المشركين متصفا به وقد خفى ذلك على بعض الفضلاء فظن أنه لا يشمل من يأتي بعد ذلك إلا مجازا

الثانية الحقيقة والمجاز إنما هما باعتبار الاستعمال
فإذا قلت زيد ضارب فهنا أمران
أحدهما استعمال ضارب في معناه أو غير معناه وهو محل الحقيقة والمجاز
والثاني حمل ضارب على زيد وهذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا دلالة له على حال ولا مضي ولا استقبال بل هو مطلق بالنسبة إليها والقضية إن أطلقت احتملت الثلاثة إلا أنا نحمله عند الإطلاق على زمان النطق لغة وعرفا ولأنه ليس غيره أولى منه وأما المحمول الذي هو ضارب فإن أريد به معناه ممن هو متصف بالضرب في الحال كان حقيقة إما صدقا إن طابق أو كذبا إن لم يطابق وإن أريد به غير معناه كان مجازا والأمر في السلب في جميع ذلك على اقررناه لا يختلف
الثالثة إذا قلت زيد ضارب أمس أو غدا فقد يطلق المطلق أنه مجاز لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال والتصريح بأمس أو غدا إنما هو قرينة لإرادة المجاز كقولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب وقد يطلق أنه حقيقة لأنه اتصل بمعموله والحق خلاف الإطلاقين لأن الحمل لا حقيقة فيه ولا مجاز كما عرفت فحكمك على زيد الآن بأنه ضارب غذا لا حقيقة ولا مجاز والمحكوم به هو ضارب غدا إن أريد معناه وهو أن يحصل منه الضرب غذا كان حقيقة مثل زيد سيضرب غدا وإن أريد به غير معناه كان مجازا وهكذا ضارب أمس ولا يمكنك أن تريد أن الضرب الثابت الذي يقع غدا هو ثابت الآن فذلك مستحيل لكن تريد أنه الآن محكوم عليه بالضرب في غذ والحكم غير موصوف بحقيقة ولا مجاز فإن أردت أن تصفه الآن بضربه في غد كان مجازا والله أعلم
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور
لو عزل القاضي فقال امرأة القاضي طالق هل يقع طلاقه فيه وجهان في فروع الطلاق من الرافعي
لو قال إن كانت امرأتي في المأتم فأمتي حرة وإن كانت أمتي في الحمام

فامرأتي طالق وكانتا عند التعليق كما ذكرنا عتقت الأمة ولم تطلق المرأة عتقت عند تمام التعليق الأول وخرجت عن أن تكون أمته فلم يحصل شرط الطلاق وهو الآن أمته لا تكون حقيقة إلا لمن يملكها في الحال ولو قدم ذكر الأمة فقال إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق وإن كانت امرأتي في الحمام فأمتي حرة وكانتا كما ذكر طلقت المرأة ثم إن كانت رجعية عتقت الأمة أيضا وإلا فلا والفرع مسطور في فروع الطلاق أيضا وإنما يعتق الأمة في هذه الحالة لصدق لفظ الزوجة على الرجعية
لو حلف لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فلان ولم ينو أنه يرفعه إليه وهو قاض وتمكن من الرفع إليه فلم يرفع حتى عزل ثم رفع إليه ففي الحنث وجهان إذا مات ولم يرفع إليه إلا وهو معزول
لو حلف لا يدخل مسكن فلان فدخل ملكا له لم يكن ساكنه فثلاثة أوجه ثالثها إن كان سكنه في الماضي ساعة ما حنث وإلا فلا قال المتولي لو وقف على عبد فلان وقلنا العبد يملك صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان حتى لو باعه أو وهبه زال الاستحقاق
قال الثالثة لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره للاستقراء قالت المعتزلة الله متكلم بكلام يخلقه في جسم كما أنه الخالق والخلق المخلق قلنا الخلق هو التأثير
لا يجوز إطلاق اسم الفاعل الذي هو المشتق على شيء والفعل الذي هو المشتق منه قائم بغيره واستدل الأصحاب على ذلك بالاستقراء فإنا تتبعنا

مواقع استعمال المشتقات فلم نجد موقعا اشتق له اسم الفاعل والفعل المشتق منه قائم بغيره فدل على أن ذلك خارج عن كلام العرب فيكون ممنوعا وقد لزم المعتزلة الخلاف في ذلك حيث قالوا إن الله تعالى متلكم بكلام قائم بغيره لا بذاته وإلا لكانت ذاته محلا للحوادث وذلك على أصلهم في أن الكلام حادث لأنهم لا يعترفون بالكلام النفسي واحتجوا على ما ذهبوا إليه من أنه يجوز إطلاق المتكلم على الله بسبب كلام يخلقه في جسم بأنه يطلق عليه الخالق بالحقيقة والخالق مشتق من الخلق والخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى هذا خلق الله أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق لم يقم بذاته سبحانه وتعالى لأن الخلق هو المخلوق وهو الأثر البائن عن ذات الله تعالى ومنه قوله تعالى هذا خلق الله أي مخلوق الله وأجاب بأن الخلق ليس هو المخلوق بل هوالتأثير الله تعالى وأما الإطلاق الواقع في الآية فإنه مجاز
قال قالوا قدم العالم وإلا لافتقر إلى خلق آخر وتسلسل قلنا هو نسبة فلم يحتج إلى تأثير آخر
قالت المعتزلة لو كان الخلق هو التأثير كما ذكرتم لزم أحد محالين إما قدم العالم أو التسلسل وذلك لأنه إما قديم أو حادث إذ كل مفهوم وجوديا كان أو عدميا لا يخلو عن أحدهما لأنه إن كان مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا فهو الحادث وإلا فهو القديم فإن كان قديما لزم قدم العالم لأن المؤثر قديم والتأثير فرضناه قديما وإذا وجد المؤثر والتأثير استحال تخلف الأثر وهو العالم فيلزم من وجودهما في الأزل وجود العالم فيه ولأن التأثير نسبة بين الخالق والمخلوق وقدم النسبة يقتضي قدم المنتسبين ضرورة افتقارها إليهما ولأن العالم هو ما سوى الله تعالى والتأثير غير الله تعالى إذ التأثير غير المؤثر وإن كان حادثا افتقر في حدوثه إلى تاثير والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وأجاب المصنف بأنه نسبة إلى آخره أي يختار أنه حادث ويمنع لزوم التسلسل وذلك لأن التأثير نسبة والنسبة لكونها من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج غير مفتقرة إلى تأثير مؤثر فيها ثم إن الأمور الاعتبارية لا يمتنع التسلسل فيها لذلك وهذا كما أن الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له من الأعداد

واعلم أن الإمام لم يجب عن الشبهة المذكورة ثم قال ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشقاق أن المفهوم من اسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظة ذو لا يقتضي الحلول ولأن لفظ ملابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتق من الأمور التي يمتنع قيامها بمن له الاشقاق هذا كلامه وقد أوهم اختيار مذهب المعتزلة ومناقضته في ذلك لما اختاره في كتبه الكلامية حتى قال الشيخ شمس الدين الأصفهاني في شرح المحصول الحق مذهب الأشاعرة لا ما اختار المصنف تقريره ههنا من مذهب المعتزلة والذي نقوله إنه لا يلزم من عدم ذكر الجواب اختيار مذهبهم كيف وقد صرح بخلافه وأما ما قاله من أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا ذو المشتق منه فهو مدخول لأنه اعترف بأن قولنا مكي ومدني مشتق من مكة والمدينة وليس المفهوم من المكي ذو مكة ولأنه يناقض ما التزمه سابقا من أن بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق فإن قولنا زيد قيسي أو تميمي يكون حينئذ مشتقا من قيس وتميم والمشتق منه غير باق والحق أن دعواه أن لفظة ذو لا تقتضي الحلول غير مسلمة له على الاطلاق لأن المفهوم من قولنا زيد ذو علم أو فهم قيامهما به وحلولهما فيه فلفظة ذو تقتضي الحلول في أسماء المعاني كما ذكرناه وكلامنا في المشتقات من المصادر التي هي أسماء المعاني ويخرج بهذا الجواب عن مثل مكي ومدني فإنها مشتقة من أسماء الذوات فليست في شيء مما نحن فيه
فروع يتجه بناؤها على الأصل المذكور
لو حلف لا يبيع أو لا يضارب فوكل فيه غيره حتى فعل لم يحنث في أظهر القولين لأنه لم يباشر والثاني إن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان حنث
ولو حلف لا يحلق رأسه فأمر غيره فحلق فقد قيل في حنثه القولان وقيل يحنث قولا واحدا وبه أجاب الماوردي وطرده في كل ما جرت العادة فيه بالأمر دون المباشرة من جميع الناس كقوله والله لا احتجمت أولا اقتصدت أو لا بنيت داري

الفصل الرابع في الترادف
قال الفصل الرابع في الترادف
قال الفصل الرابع في الترادف وهو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد كالإنسان والبشر
توالي الألفاظ هو تتابعها لأن اللفظ الثاني تبع الأول في مدلوله وقوله توالي الألفظ جنس يشمل المترادف وقوله المفردة احتراز عن المركبة كالحد مع المحدود والرسم مع المرسوم فإن الحد والمحدود غير مترادفين على المذهب المختار إذ المحدود دال على الماهية من حيث هي والحد دال عليها باعتبار دلالته على أجزائها فالاعتباران مختلفان وقوله الدالة على شيء واحد احتراز عن توالي الألفاظ المتباينة المتفاصلة فإنها تدل على الأشياء المتعددة كالإنسان والفرس والحمار وقوله باعتبار واحد يمكن أن يحترز به عن الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد لا باعتبار واحد بل أحدهما بطريق الحقيقة والآخر بطريق المجاز كالأسد والشجاع لكن قال الإمام احترزنا به عن اللفظين المفردين إذا دلا على شيء واحد باعتبار صفتين كالصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق فإنهما من المتباينة يعني أن كلا من المهند والصارم يدل على الشكل المعروف لكن المهند والسيف يدلان عليه سواء كان قاطعا أم لا والصارم لا يدل عليه إلا إذا كان قاطعا
هذا شرح التعريف وفيه نظر فإنه أتى المفردة ليحترز عما أشرنا إليه وهو غير مضرور إلى ذلك فإن ذلك خرج بقوله باعتبار واحد إذ الحد والمحدود يدلان على معنى واحد لكن باعتبارين كما عرفت ثم إن هذه اللفظة أعني

المفردة تصير الحد غير جامع إذ يخرج بها بعض المترادفات مثل خمسة ونصف العشرة وأيضا قوله الألفاظ جمع وأقله على رأية ثلاثة وقد يكون الترادف من لفظين ثم إنها جنس بعيد فلو أتى بالقول وقال توالي كلمتين فصاعدا لسلم من هذين الإيرادين وإنما قال توالي الألفاظ ولم يقل الألفاظ المتوالية لأنه شرع في حد المعنى وهو الترادف لا في حد اللفظ وهو المترداف وعبر الألفاظ ليشمل ترادف الأسماء كالبر والقمح والأفعال كجلس وقعد والحروف مثل في والباء في بعض المواضع كما في قوله تعالى مصبحين وبالليل
واعلم أن المصنف إنما ذكر حد الترادف مع تقدمه في تقسيم الألفاظ ليفرق بينه وبين التأكيد قوله كالإنسان والبشر هذا مثال للترادف من جهة اللغة فإن الإنسان يطلق على الواحد رجلا كان أو امرأة وكذلك البشر وأهمل المصنف التمثيل للمترادفين بحسب الشرع كالفرض والواجب عندنا وبحسب العرف
قال والتأكيد يقوي الأول والتابع لا يفيد
لما كان التأكيد والتابع فيهما شبه بالمترادف حتى ظن بعض الناس أن التابع من قبيل المترادف ذكر المصنف الفرق بينهما وحاصله أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت والمؤكد لا يفيد غير فائدة الأول بل تقويته وهو على نوعين لفظي وهو ما يكون لفظه لفظ المؤكد ومعنوي وهو ما يكون بغير ذلك اللفظ مثل كلهم وأما الفرق بين المترادف والتابع مثل قولنا شيطان ليطان ونظائره فهو أن التابع لا يفيد كذا أطلقه في الكتاب وزاد الإمام فقال بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه وأما الآمدي فإنه قال

التابع قد لا يفيد معنى أصلا بإثبات قد قال ولهذا قال ابن دريد سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن أي من قولهم حسن بسن فقال لا أدري ما هو والتحقيق أن التابع يفيد التقوية فإن العرب لا تضعه سدى وجهل أبي حاتم بمعناه لا يضر بل مقتضى قوله إنه لا يدري معناه أن له معنى وهو لا يعرفه
فإن قلت فصار كالتأكيد لأنه أيضا إنما يفيد قلت التأكيد يفيد مع التقوية نفي احتمال المجاز فإنك إذا قلت قام القوم احتمل أن يريد البعض مجازا وينتفي هذا الاحتمال بقولك بعد ذلك كلهم وأيضا فالتابع من شرطه أن يكون على زنه المتبوع والتأكيد لا يكون كذلك وقول المصنف التأكيد يقوي ليس بجيد بل كان ينبغي أن يقول التأكيد تقوية أو المؤكد يقوي

أحكام المترادف
قال وأحكامه في مسائل
الأولى في سببه المترادفان وإما من واضعين والتبسا أو واحد لتكثير الوسائل والتوسع في محل البديع
ذهب بعض الناس إلى إنكار المترادف في اللغة العربية وزعم أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات كما في الإنسان والبشر فإن الأول موضوع باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يؤنس
والثاني باعتبار أنه بادي البشرة وكذا الخندريس والعقار فإن الأول باعتبار الفتق والثاني باعتبار عقر الدن لشدتها وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب وقد اختار هذا المذهب أعني إنكار المترادف أبو الحسين أحمد بن فارس في كتابه الذي ألفه في فقه اللغة والعربية وسنن العرب وكلامها ونقله عن شيخه أبي العباس ثعلب وهذا الكتاب كتب منه ابن

الصلاح نكتا منها هذه وعلقت أنا ذلك من خط ابن الصلاح فيما علقته من خطه ونحن نقول أما الجواز فلا يظن بعاقل المنازعة فيه ضرورة أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال وأما الوقوع ففي مسميات تخرج عن حد الحصر
إذا عرفت ذلك فلوقوع المترادفة سببان
أحدهما أن تكون من واضعين
قال الإمام ويشبه أن يكون هو السبب الأكثري مثل أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفي الواضعان أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر ولا يخفى عليك أن هذا السبب مبني على كون اللغات اصطلاحية
والثاني أن يكون من واضع واحد وهو السبب الأقلي كما ذكر الإمام وله فوائد
منها أن تكثر الوسائل أي الطرق إلى الإخبار عما في النفس فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق به وقد كان بعض الأذكياء في الزمن السالف ألثغ فلم يحفظ عليه أنه نطق بحرف الراء ولولا المترادفات تعينه على ما قصده لما قدر على ذلك
ومنها التوسع في مجال البديع أي في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النظم والنثر وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأني باستعماله مع لفظ آخر للسجع والقافية أو التجنيس والترصيع وغير ذلك من أصناف البديع ولا يتأنى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ
قال الثانية أنه خلاف الأصل لأنه تعريف المعرف ومحوج إلى حفظ الكل
نقل الإمام أن من الناس من قال الترادف وإن كان واقعا لكنه على خلاف الأصل وبه جزم في الكتاب وحينئذ إذا دار اللفظ بين كونه مترادفا

للفظ آخر ومباينا له فحمله على المباين له أولى واستدل على كونه على خلاف الأصل بوجهين
أحدهما أن المقصود لما حصل بأحد اللفظين فالأصل عدم الثاني لئلا يلزم تعريف المعرف
والثاني أنه موجب للمشقة لأنه يوجب حفظ جميع تلك الألفاظ إذ لو لم يحفظ جميعها احتمل أن يكون الذي اقتصر على حفظه خلاف ما اقتصر عليه الآخر فعند التخاطب يجهل كل واحد منها مراد صاحبه
قال الثالثة اللفظ يقوم بدل مرادفه من لغته إذ التركيب يتعلق بالمعنى دون اللفظ
هل يجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مكان الآخر فيه ثلاث مذاهب
أحدها أنه غير واجب قال الإمام وهو الحق
والثاني أنه واجب بمعنى أنه يصح مطلقا وهو اختيار ابن الحاجب وقال الإمام إنه الأظهر في أول النظر
والثالث وهو اختيار المصنف وصفي الدين الهندي إن كانا من لغة واحدة صح وإلا فلا أما صحته إذا كانا من لغة واحدة فلأن المقصود من التركيب إنما هو المعنى دون اللفظ فإذا صح المعنى مع أحد اللفظين وجب أن يصح مع الآخر لاتحاد معناهما وأما عدم صحته إذا كانا من لغتين فلأن اختلاط اللغتين يستلزم ضم مهمل إلى مستعمل فإن إحدى اللغتين بالنسبة إلى اللغة الأخرى بمثابة المهمل
فإن قلت التركيب كما يتعلق بالمعنى كذلك يتعلق باللفظ كما في أنواع البلاغة من الترصيع والتجنيس وغير ذلك فإن رعاية هذه الأمور غرض يقصده اللبيب
قلت رعاية هذه الأمور خارجة عن المقصود الأصلي من الكلام فإنها من

محسنات الكلام لا من مصححاته وفي قول المصنف إذ التركيب إشارة إلى أن الخلاف إنما هو في حال التركيب وأما في حال الإفراد كما في تعديد الأشياء فلا خلاف في جواز ذلك هذا كلام الأصوليين في المسألة وأما الفقهاء فلا خلاف عندهم في إقامة كل واحد من المترادفين المختلفي اللغة مقام الآخر فيما تشترط فيه الألفاظ كعقود البيوعات وغيرها وأما ما وقع النظر في أن التعبد هل وقع بلفظه فليس من هذا الباب لأن المانع إذ ذاك من إقامة أحد المترادفين مقام الآخر ليس أنه لا يصح إقامة مرادف مقام صاحبه بل لما وقع من القيد لسبيله لفظه كالخلاف في أن لفظ النكاح كلي ينعقد بالعجمية واللغات للقادر على العربية ونظائر ذلك
قال الرابعة التوكيد تقوية مدلول ما ذكر بلفظ ثان فإما أن يكون بنفسه مثل قوله عليه السلام والله لأغزون قريشا ثلاثا أو بغيره للمفرد كالنفس والعين وكلا وكلتا وكل وأجمعين وإخواته والجملة كان
لك أن تقول الفصل معقود للترادف فلا مدخل لأحكام التوكيد فيه فكان ينبغي أن يقول الفصل الرابع في أحكام الترادف والتأكيد كما فعل الإمام والخطب في ذلك يسير
اعلم أن التوكيد عبارة عن تقوية مدلول اللفظ المذكور أولا بلفظ مذكور ثانيا هكذا قاله صاحب الحاصل وتبعه المصنف وقد أورد عليهما أن التابع يدخل في هذا لأنه يفيد تقوية الأول كما حررناه فكان من حقه أن يقول بلفظ ثان مستقل بالإفادة وأورد عليه أيضا القسم وإن واللام تؤكد الجملة وليس ذلك بلفظ ثان بل أول ولا يمكنه أن يقول بدل ثان بلفظ آخر لأنه يوهم أنه يشترط في المؤكد أن يكون بلفظ مغاير لذلك فيخرج التأكيد اللفظي ولك أن تجيب أولا بأن الثاني هنا بمعنى واحد كما في قوله ثاني اثنين

وثانيا بأن ما يؤكد الجملة مما ذكر وأن به التأكيد لم يصطلح النحاة على تسميته تأكيدا ولم يدخله في باب التأكيد وليس كل ما يحصل به التأكيد يكون تأكيدا في الاصطلاح بل لو قال القائل أؤكد عليك لم يكن تأكيدا مع صراحته فيه واشتماله على لفظه
إذا عرفت ذلك فقالت النحاة التوكيد على نوعين لفظي ومعنوي الأول اللفظي قال في الكتاب وهو أن يؤكد بنفسه أي بتكرار ذلك اللفظ الأول ومثل له بقوله صلى الله عليه و سلم والله لأغزون قريشا ثلاثا والحديث مروي في سنن أبي داود من حديث مسعر عن سماك عن عكرمة مرفوعا واللفظ والله لأغزون قريشا ثم قال إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال إن شاء الله ورواه أبو داود من طريق أخرى مرسلا وهو بهذا اللفظ غير صريح في التأكيد لاحتمال أن كل جملة مقصودة بإنشاء الحلف في نفسها ألا ترى إلى استثنائه في كل منها وسكوته في البعض وقد ذكر النحاة من شواهده قول الشاعر ... أيا من لست أقلاه ... ولا في البعد أنساه ... لك الله علي ذاك ... لك الله لك الله ...
هذا شرح ما ذكره المصنف في اللفظي وقد قال النحويون إن إعادة اللفظ بعينه على ضربين
الأول أن يكون ذلك في الجمل وهو إما مقرون بعاطف كقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين وقوله تعالى أولى لك فأولى فأولى ثم أولى لك فأولى وإما مجرد منه كالبيت الذي ذكرناه
والضرب الثاني أن يكون في المفردات وهو إما أن يكون اسما كقولك قام زيد زيد وقوله تعالى كلا إذا دكت الأرض دكا دكا أو فعلا

والأكثر أن يكون مع المؤكد فاعل الأول أو ضميره نحو قام زيد قام زيد أو قام زيد قام وقد يكون فاعل المؤكد والمؤكد ضميرين كقولك صل صل الصديق وقد يستغنى بفاعل أحدهما وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر ... فأين إلى أين النجاة ببغلتي ... أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس ...
أو حرفا كقول الشاعر ... فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواه ...
الثاني التأكيد المعنوي وهو بغير ذلك اللفظ الأول وذلك قسمان
أحدهما أن يكون مؤكدا للمفرد فإما أن يكون مؤكدا للواحد مثل جاء زيد بنفسه ومحمد عينه أو للمثنى مثل جاء الزيدان كلاهما أو المرأتان كلتاهما أو المجمع مثل جاء القوم كلهم أو أجمعون قال الله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون ومن ذلك أخوات أجمعين كأكتعين وأبصعين وأبتعين
والثاني أن يكون مؤكدا للجملة كأن نحو قوله إن الله وملائكته يصلون على النبي ولام الابتداء والجملة القسمية
قال وجوازه ضروري ووقوعه في اللغات معلوم
أنكر بعض الملاحدة التوكيد والخلاف معه إما في الجواز وهو ضروري أو في الوقوع لمن استقرأ لغة العرب وجدها مشحونة به وله فوائد تعرف من تتبع خواص تراكيب الكلام وأدناها بعد احتمال المجاز أو نفيه فإنك إن قلت إذا قلت قام زيد احتمل أن يريد غلامه مجازا فإذا قلت نفسه فإن لم يقتض ذلك انتفاء احتمال المجاز فلا أقل من اقتضائه ضرورة هذا الاحتمال مرجوحا ضعيفا ولذلك نقول زيد قائم لمن يكتفي بهذا الخبر فإن أردت أن تقرر عند ذلك لم تجد بدا من التأكيد بإن فتقول إن زيدا قائم فإذا توهمت منه نكيرا لم تلف

غنى عن الزيادة اللام فتقول إن زيدا لقائم ولذلك قال بعض أصحابنا إذا قال استأجرتك لكذا أو لتفعل كذا لم يكن الحاصل به إجارة عين بل ذمة وإن اقتضى ذلك الإضافة إلى المخاطب وأنه لا يحصل إجارة العين إلا إذا قال استأجرت عنك أو نفسك أو لتعمل بنفسك كذا
فائدتان إحداهما عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام رحمة الله أنه قال اتفق الأدباء على أن التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرات قال وأما قوله تعالى في سورة المرسلات ويل يومئذ للمكذبين في جميع السورة فذلك ليس تأكيدا بل كل آية قيل فيها ويل يومئذ للمكذبين في هذه السورة فالمراد المكذبون بما تقدم ذكره قيل هذا القول ثم يذكر الله تعالى معنى آخر ويقول ويل يومئذ للمكذببين أي بهذا فلا يجتمعان على معنى واحد فلا تأكيد وكذلك فبأي آلاء ربكما تكذبان في سورة الرحمن
الثانية سأل بعض الفضلاء فيما إذا قال الزوج أنت طالق انت طالق وقصد بالثانية التأكيد فإنه لا يقع إلا واحدة والحالة هذه فقال الجملة الثانية لا جائز أن تكون خبرية لأن الجملة الخبرية غير الإنشائية وشرط التأكيد أن يكون من جنس الأول ولا أن تكون إنشائية وإلا وقع طلقتان ويمكن أن يجاب باختيار أنها إنشائية ولا يلزم ما ذكر فإنها إنشاء للتأكيد ولا يقع بإنشاء التأكيد شيء وليست بإنشاء الإيقاع فاشتركت مع الأولى في أصل الإنشاء وافترقنا فيما أنشأه

الفصل الخامس في الاشتراك
قال الفصل الخامس في الاشتراك
المشترك هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة مع الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال ومن قولنا الواحد احتراز عن الأسماء المتباينة والمترادفة فإنه يتناول الماهية وهي معنى واحد وإن اختلفت محالها وقولنا عند أهل تلك اللغة إلى آخره إشارة إلى أن المشترك قد يكون بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو عرفية ولغوية والمصنف قدم حد الاشتراك في تقسيم الألفاظ فلم يحتج إلى إعادته هنا
قال وفيه مسائل الأولى في إثباته أوجبه قوم لوجهين
أحدهما أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية فإذا وزع لزم الاشتراك ورد بعد تسليم المقدمتين بأن المقصود بالوضع متناه
والثاني أن الوجود يطلق على الواجب والممكن وجود الشيء عينه ورد بأن الوجود زائد مشترك وإن سلم فوقوعه لا يقتضي وجوبه وأحاله آخرون لأنه لا يفهم الغرض فيكون مفسدة ونوقض بأسماء الأجناس
اختلف الناس في اللفظ المشترك هل هو واجب أم لا وبتقدير ألا يكون

واجبا فهل هو ممتنع أم ممكن وبتقدير إمكانه فهل هو واقع فهذه احتمالات أربعة بحسب الانقسام العقلي وقد صار إلى كل منها صائر واحتج من قال بالوجوب بشيئين
أحدهما أن المعاني غير متناهية وهذا واضح فإن الأعداد وهي لا تصل إلى نهاية والألفاظ لأنها مركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناه وحينئذ فإذا وزعنا الألفاظ على المعاني فلا بد وأن يستوعبها وإلا يلزم خلو بعض المعاني المقصودة عن الألفاظ ومتى كانت مستوعبة لها لزم الاشتراك لأنه لا بد حينئذ من لفظ واحد بإزاء معان كثيرة وهو الاشتراك وأجاب المصنف أولا بمنع المقدمتين أي لا نسلم أن المعاني غير متناهية ولا أن الألفاظ متناهية وسند المنع الأول أن حصول ما لانهاية له في الوجود محال وأما قوله الأعداد غير متناهية فمسلم لكن بمعنى أنه لا مرتبة من مراتبه إلا ويمكن أن يوجد بعدها مرتبة أخرى مع أن المراتب الداخلة في الوجود منه أبدا قد تكون متناهية لا بمعنى أن الحاصل منه في الوجود غير متناه ولا يلزم من كون الأعداد غير متناهية بالمعنى الذي تقدم ذكره أن تكون المعاني الموجودة غير متناهية وأيضا فأصولها متناهية وهي الآحاد والعشرات والمئات والآلاف والوضع للمفردات لا للمركبات ولمسند المنع الثاني وهو قولهم الألفاظ متناهية والمركب من المتناهي متناه أن كونها مركبة من الحروف المتناهية لا يقتضي أن تكون متناهية كما أن أسماء الأعداد غير متناهية وأصولها متناهية وأجاب ثانيا بأن المقصود بالوضع متناه أي ولئن سلمنا صحة المقدمتين فلا يلزم ما ذكرتم لأن المعاني التي يقصدها الواضع بالتسمية متناهية إذ الوضع للمعاني فرع تصورها وتصور ما لا يتناهى محال ويمكن أن يقرر على وجه آخر فيقال إنما يلزم الاشتراك أن لو حصل استيعاب جميع المعاني بالوضع ونحن نقول الوضع إنما هو لما يشتد الحاجة إليه وهو متناه وليس الوضع لكل معنى بل جاز خلو بعض المعاني عن الوضع ألا ترى ألا نجد لكثير من المعاني كأنواع الروائح أسماء مستقلة لا مشتركة ولا مفردة بعد الاستقراء والبحث التام

الثاني أن الوجود يطلق على وجود الواجب سبحانه وتعالى ووجود الممكن بطريق الحقيقة فيهما ووجود كل شيء عين ماهيته كما تقرر في علم الكلام وهو مذهب أبي الحسن ولا ريب في مخالفة حقيقة الواجب لحقيقة الممكن فيكون إطلاق الوجوب عليهما بطريق الاشتراك وأجاب أولا بأنا لا نسلم أن وجود كل شيء عين ماهيته بل هو زائد عليهما وذلك الزائد معنى واحد يشترك فيه الواجب والممكن فيكون متواطئا لا مشتركا وهذا المنع منه مبني على اختياره وقد نقله في كتابه الطوالع عن الجمهور والحق مذهب الشيخ وليس هذا موضع تقريره وأجاب ثانيا بأنا سلمنا أن وجود كل شيء عين ماهيته ولا يلزم مطلوبكم إذ لا يقتضي غير وقوع الاشتراك ووقوعه لا يقتضي وجوبه وأنتم ادعيتم وجوبه
قوله وأحاله آخرون إلى آخره
احتج ما أحاله وهم فرقة قليلون ومنهم ثعلب وأبو زيد البلخي والأبهري على ما حكاه ابن الفارض المعتزلي في كتابه النكت بأن وقوعه يقتضي المفسدة لأن المقصود من الألفاظ ووضعها إنما هو التفاهم حالة التخاطب والمشترك لو وقع وسمعه السامع لم يحصل له الفهم لأن المشترك متساوي الدلالة بالنسبة إلى معانيه فلو فهم منه المعنى الذي هو غرض المتكلم دون غيره لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح ولو فهم غيره

لأدى إلى وقوع المفسدة ففعل ما لم يطلب منه وربما كان ممنوعا منه وأجاب بالنقض بأسماء الأجناس وتقريره أنه إن أردتم أنه لا يفهم الغرض على جهة التفصيل فمسلم لكن هذا لا يوجب عدم وضع المشترك فإن أسماء الأجناس أيضا لا تفهم الغرض على وجه التفصيل مع كونها موضوعة وإن أردتم أنه لا يفهم الغرض أصلا فممنوع فإن المشترك يفيد فهم الغرض على سبيل الاجمال وذلك مطلوب ليستعد السامع للامتثال قبل البيان
فإن قلت اسم الجنس موضوع للقدر المشترك وهو مفهوم من اللفظ بخلاف المشترك إذ المقصود منه فرد معين وهو غير معلوم من اللفظ قلت اسم الجنس وإن دل على القدر المشترك إلا أنه لا دلالة على خصوصية الأفراد تساوي المشترك في عدم الدلالة التفصيلية قال والمختار إمكانه لجواز أن يقع من واحد من واضعين أو واحد لغرض الإبهام حيث يجعل التصريح سببا لمفسدة
المذهب الثالث وهو ما اختاره الأكثرون منهم المصنف أنه ممكن الوقوع لجواز أن يقع إما من واضعين بأن وضع أحدهما لفظا لمعنى ثم وضعه الآخر لمعنى آخر ثم اشتهر ذلك اللفظ ما بين الطائفتين في إفادته المعنيين ولا يخفى عليك أن هذا إنما يجيء إذا قلنا اللغات غير توقيفية وإما من واضع لواحد لغرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد سأله رجل عن النبي صلى الله عليه و سلم وقت ذهابهما إلى الغار من هذا قال هذا رجل يهديني السبيل
قال ووقعه للتردد في المراد من القرء ونحوه ووقع في القرآن مثل ثلاثة قروء والليل إذا عسعس
قوله ووقعه عطف على قوله والمختار إمكانه وهذا هو المذهب الرابع أنه واقع والخلاف فيه مع من سلم إمكان المشترك ومنع وقوعه لنا أنا نتردد في المراد من القرء ونحوه عند السماع بغير قرينة بين الطهر والحيض على السواء فلو كان حقيقة في أحدهما فقط أو في القدر المشترك لما كان ذلك وما يقال لعل

التردد حصل بسبب عرف طارئ لكثرة الاستعمال في المجاز فهو وإن كان محتملا لكنه على خلاف الأصل إذ الأصل عدم التغيير ولأن التردد حاصل في مفهومات ألفاظ قل ما يستعملها أهل العرف كما في عسعس الليل فإنا لا نفهم منه الإقبال والإدبار على التعيين إلا بقرينه ولا يجوز إحالته إلى استعمال أهل العرف ثم إذا ثبت وقوعه فهل وقع في القرآن منهم من منع والمختار خلافه بدليل قوله تعالى ثلاثة قروء عند من يجعل القرء مشتركا بينهما كما هو مقتضى اللغة وهو الصحيح وكذلك قوله تعالى والليل إذا عسعس أي أقبل وأدبر وإنما أتى المصنف بهذين المثالين لأن الأول من الأسماء والثاني من الأفعال ولأن أحدهما مفرد والآخر جمع ليفهم بذلك وقوع النوعين في القرآن وأنه مشحون بالمشترك على اختلاف أنواعه واحتج من منع وقوعه في القرآن بأنه إن وقع مبينا بذكر قرينة كان تطويلا من غير فائدة إذ يمكن التعبير عن المراد بلفظ مفرد وضع له فقط وإن وقع غير مبين كان غير مفيد وذلك عيب والجواب أنا نقول لا يذكر معه قرينة ولا نسلم أن غير المبين غير مفيد مطلقا بل هو مفيد لفهم المعنى على سبيل الإجمال والفهم الإجمالي أيضا مقصود في فهم الألفاظ لاشتماله على فوائد
منها استعداد المكلف للبيان وغير ذلك وأيضا فإنه كأسماء الأجناس
وأعلم أن المانع من وقوعه في كلام الله تعالى هو المانع من وقوعه في كلام الرسول صلى الله عليه و سلم وعلته المذكورة شاملة لذلك وإنما لم يذكر المصنف أن الخصم مانع في المكانين بل اكتفى بذكر أحدهما لأن لا قائل بالتفصيل كما صرح به صفي الدين الهندي وغيره
قال الثانية أنه بخلاف الأصل وإلا لم يفهم ما لم يستفسر ولامتنع الاستدلال بالنصوص ولأنه أقل بالاستقراء ويتضمن مفسدة السامع لأنه ربما لم يفهم وهاب استفساره واستنكف أو فهم غير مراده وحكى لغيره

فيؤدي إلى جهل عظيم واللافظ لأنه قد يحوجه إلى الإفراد أيضا ويؤدي إلى الإضرار إذ يعتمد فهمه فيضيع غرضه فيكون مرجوحا
هذه المسألة في تبيين أن الاشتراك على خلاف الأصل والمعنى به أن اللفظ إذا دار بين أن يكون مشتركا أو لا يكون كذلك كأن ظن عدم الاشتراك أغلب ويدل عليه وجوده
أحدها أنه لو كان احتمال الاشتراك مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل التفاهم بين أرباب اللسان حال التخاطب في أغلب الأحوال من غير استفسار واستكشاف عما أراده المتكلم وقد علمناه حصول ذلك فإن الفهم يحصل بمجرد إطلاق اللفظ فكان الغالب على الظن حصول الانفراد
الثاني لو تساوى الاحتمالان لامتنع الاستدلال بالنصوص على إفادة الظن فضلا عن اليقين لاحتمال أن تكون الألفاظ مشتركة بين ما ظهر لنا وبين غيره وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد غير ما ظهر لنا فلا يبقى التمسك بالأخبار والآثار مفيدا ظنا فضلا عن يقين
الثالث أن الاستقراء دل على أن الألفاظ في الأكثر مفردة لا مشتركة والكثرة تفيد ظن الرجحان
الرابع أن المشترك يتضمن مفسدة السامع واللافظ ومتضمن المفسدة على خلاف الأصل لأن الأصل عدمها والدليل على أنه يتضمن مفسدة السامع أنه ربما لم يفهم المقصود وهاب استفسار اللافظ مهيبا أو استنكف أي تعاظم السامع عن استفساره وحينئذ فربما يفهم من اللفظ غير مراد اللافظ ويحكى لغيره ويحكى ذلك الغير لآخر وهكذا فيؤدي إلى وقوع جمع كثير في الغلط وذلك جهل عظيم والدليل على أنه يتضمن مفسدة اللافظ أنه قد يحتاج في تفسير اللفظ المشترك إلى اللفظ المنفرد فيكون المشترك ضائعا وأيضا فإنه يؤدي إلى إضراره إذ يصير دائما مفتقرا إلى التفسير وأيضا فربما ظن اللافظ أن السامع فهم المعنى الذي أراده فيعتمد على ذلك فيضيع غرضه أي غرض اللافظ

قوله فيكون مرجوحا أي إذا ثبت هذا كله كان المشترك مرجوحا أي على خلاف الأصل
قال الثالثة مفهوما المشترك إما أن يتباينا كالقرء للطهر والحيض أو يتواصلا فيكون أحدهما جزء الآخر كالإمكان للعام والخاص أو لازمه كالشمس للكوكب وضوئه
المشترك لا بد له من مفهومين فصاعدا فمفهوماه إما أن يتباين أو يتواصلا
القسم الأول أن يتباينا أي لا يمكن اجتمعاعهما في الصدق على شيء واحد كالحيض والطهر فإنهما مدلولا القرء ولا يجوز اجتماعهما أبدا في زمن واحد
والثاني أن يتواصلا فإما أن يكون أحد المعنيين جزءا للآخر أو لازما له
الأول كالإمكان العام مع الإمكان الخاص فإن لفظ الإمكان موضوع لهما والإمكان العام جزء للإمكان الخاص لأن الإمكان العام سلب الضرورة المطلقة عن الطرف المخالف للحكم والإمكان الخاص سلب الضرورة المطلقة عن الطرفين الموافق للحكم والمخالف له
فإذا قلنا كل ج ب بالإمكان العام يكون معناه أن سلب المحمول الذي هو كل ج عن الموضوع الذي هو ب غير ضروري
وإذا قلنا كل ج ب بالإمكان الخاص فمعناه أن ثبوت المحمول للموضوع وسلبه عنه غير ضروري وإذا عرفت ذلك علمت أن الإمكان العام جزء من الإمكان الخاص بالضرورة لأن سلب الضرورة عن أحد الطرفين جزء من سلب الضرورة عن الطرفين جميعا
والثاني أن يكون لازما له ومثل له في الكتاب بلفظ الشمس فإنه موضوع لجرم الكوكب ولضوئه وضوء الكوكب لازم لجرمه ومن أمثلته أيضا الكلام فإنه عند المحققين مشترك بين النفساني واللساني مع أن اللساني دليل على النفساني والدليل يستلزم المدلول فيصدق أنه مشترك بين الشيء ولازمه

قال الرابعة جوز الشافعي رحمه الله والقاضيان وأبو علي إعمال المشترك في جميع مفهوماته الغير المتضادة ومنعه أبو هاشم والكرخي والبصري والإمام
اختلف أهل العلم في صحة إطلاق اللفظة الواحدة من متكلم واحد في وقت واحد إذا كانت مشتركا بين معنيين على المعنيين معا فذهب الشافعي رضي الله عنه والقاضيان أبو بكر الباقلاني وعبد الجبار بن أحمد وأبو علي الجبائي إلى صحة ذلك بطريق الحقيقة بشرط ألا يمتنع الجمع لأمر خارج كما في الضدين والنقيضين وإلى هذا أشار المصنف بقوله الغير المتضادة أي أنه ليس محل الخلاف في المتضادة وإدخال الألف واللام على غير ليس بشائع ولم يتعرض المصنف للنقيضين لأن الإمام زعم أنه لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين الشيء ونقيضه وقد مثل لذلك بلفظة إلى على رأي من زعم أنها مشتركة بين إدخال الغاية وعدمه وما استدل به المانع من أن اللفظ المشترك لا يفيد إلا التردد بين مفهوميه والتردد حاصل قبل وضع اللفظ له وسماعه فيكون وضع اللفظ لهما عبثا ضعيف لأنا نمنع حصر الفائدة فيما ذكره من التردد بين هذا لأنه كما يفيد التردد [ بين ] مفهوميه يفيد أيضا إخراج ما عداهما عن أن يكون مراد المتكلم ألا ترى أن قوله تعالى إلى المرافق كما يفيد التردد بين دخول المرفق وعدمه على تقدير أن يكون مشتركا بينهما يفيد أيضا إخراج العضد عن الأمر بالغسل فدعوى أن الوضع لهما عبث عارية عن التحقيق ما لا يحصل قبله وهو تعين أحدهما بأدنى قرينة حالية أو مقالية بخلاف ما قبل الوضع فإنه لا يزول التردد بذلك سلمنا صحة الدليل لكن إن كان الواضع الله تعالى فلا تعلل ولعل فيه فائدة لم نطلع على غامض سرها وإن كان العباد فالدليل إنما ينفي ما يكون مشتركا بينهما بوضع قبيلة واحدة لا ما يحصل بوضع قبيلتين وأما المتضادة فمثل بعضهم لها بالقرء وهو

فاسد لأن الشارع إذ قال اعتدى بقرء لم يمتنع أن تعتد بالطهر والحيضة وإن كان ضدين في نفسهما والمثال الصحيح لذلك صيغة أفعل عند من يجعلها حقيقة في الطلب وفي التهديد فإنها مشتركة إذن بين معنيين متضادين لا يمكن الجمع بينهما ولا الحمل عليهما وقد يمثل له بما إذا قال اعتدى بقرء في خمسة عشر يوما هذا أحد المذاهب في المسألة أعني أنه يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه بشرط ألا يكون الضدين ولا نقيضين وهو المختار عند المصنف
وذهب أبو هاشم والكرخي وأبو الحسين البصري والإمام فخر الدين وغيرهم إلى امتناع ذلك
ثم اختلف المانعون في سبب المنع فمن قائل سبب المنع أمر يرجع إلى القصدد أي لا يصح أن يقصد باللفظ المشترك جميع مفهوماته من حيث اللغة لا حقيقة ولا مجازا ولكنه يمكن أن يقصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة ويكون قد خالف الوضع اللغوي وابتدأ بوضع جديد ولكل أحد أن يطلق لفظا ويريد به ما شاء
وهذا ما ذهب إليه الغزالي وأبو الحسين البصري واختاره الإمام ومن قائل سببه الوضع الحقيقي أي أن الواضع لم يضع اللفظ المشترك على الجميع بل على البدل فلا يصح إطلاقه بطريق الحقيقة على الجميع ولكن يجوز أن يراد به جميع محامله على جهة مجاز إذا اتصل بقرينة مشيرة بذلك وهذا ما اختاره ابن الحاجب
وقال إمام الحرمين ما نصه الذي أراه في اللفظ المشترك إذا ورد مطلقا لم يحمل في موجب الإطلاق على المحاصل فإنه صالح لإفادة آحاد المعاني على البدل ولم يوضع مشعرا بالاحتواء عليها وادعاء إشعاره بالجميع بعيد عن التحصيل وهذا القول يجري في الحقائق وجهات المجاز
فإن قيل أيجوز أن يراد به جميع محامله
قلنا لا يمتنع ذلك مع قرينة متصلة مشعرة بذلك مثل أن يذكر الذاكر محامل العين فيذكر بعض الحاضرين لفظ العين ويتبين من حاله أنه يريد

تطبيقه على ما جرى انتهى وهو محتمل لكل من المقالتين المتقدميتين وسياقه إلى اختيار الغزالي وأبي الحسين أقرب ومنهم من منع من ذلك مطلقا وقال لا يجوز أن يراد باللفظ المشترك أكثر من معنى واحد في حالة واحدة لا لغة ولا وضعا جديدا ثم عند المجوزين لا فرق بين المفرد والمجموع والمثبت والمنفي ومنهم من فرق وسيأتي في كلام المصنف في آخر المسألة إن شاء الله تعالى وهنا كلامان نذكرهما قبل الخوض في الحجاج
أحدهما أن هذا الخلاف في استعمال اللفظ المشترك في معنييه جار في استعماله في مجازيه مثل أن يقول والله لا أشتري ويريد الصوم وشراء الوكيل كما صرح به الإمام أبو المظفر السمعاني في القواطع وغيره وفي حقيقته ومجازه مثل أن يطلق النكاح ويريد به العقد والوطء جميعا وقد جرى الشافعي على منوال واحد فجوز استعمال اللفظ في حقيقته وفي حقيقته ومجازه وحمله عند الإطلاق عليهما وأخرج ابن الرفعة نصه على ذلك من الأم عند الكلام فيما إذا عقد لرجلين على امرأة ولم يعلم السابق منهما ذكر ذلك في باب الوصية من المطلب
وأما القاضي رحمه الله فعظم نكيره على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز جميعا وقال في تحقيق إنكاره اللفظ إنما يكون حقيقة إذا انطبقت على ما وضعت له في أهل اللسان وإنما يصير مجازا إذا تجوز بها عن مقتضى الوضع ويحيل الجمع بين الحقيقة والمجاز محاولة الجمع بين النقيضين وهذا من القاضي تصريح بأنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا لما يلزم منه من الجمع بين النقيضين
الثاني أن محل الخلاف في استعمال اللفظ في كل معانيه إنما هو في الكلي

العددي أي في كل فرد فرد وذلك بأن يجعله يدل على كل منهما على حدته بالمطابقة في الحالة التي يدل على المعنى الآخر بها وليس المراد الكلي المجموعي أي يجعل مجموع المعنيين مدلولا مطابقيا كدلالة الخمسة على آحادها ولا الكلي البدلي أي يجعل كل واحد مدلولا مطابقيا على البدل ذكره صاحب التحصيل
وقال الأصفهاني في شرح المحصول أنه رأى في تصنيف آخر لصاحب التحصيل أن الأظهر من كلام الأئمة أن الخلاف في الكلي المجموعي فإن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشافعي كالعام كما سيأتي إن شاء الله تعالى
قال لنا الوقوع في قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي وهي من الله مغفرة ومن غيره استغفار قيل الضمير متعدد فيتعدد الفعل قلنا معنى لا لفظا وهو المدعي
استدل على جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه في وقوعه في آيتين إحداهما قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فإن الصلاة من الله تعالى المغفرة بالاتفاق ومن الملائكة الاستغفار وهما مفهومان متغايران فيكون لفظ الصلاة مشتركا بينهما وقد أطلق عليهما دفعة واحدة فإنه أسندها إلى الله تعالى وإلى الملائكة
فإن قلت لو كان معنى الصلاة المغفرة والاستغفار لم يعد بعلي لأنهما لا

يعديان إلا باللام تقول غفرت لزيد واستغفرت له ولا تقول غفرت عليه واستغفرت عليه قلت لما وقعت موقع التعطف والتحنن حسن تعديتها بعلي
وأعلم أن وقع في بعض نسخ المنهاج والصلاة من الله مغفرة كما أوردناه وهو الذي أورده الغزالي وفي بعضها رحمة وكذلك ذكر الإمام والتعبير بمغفرة أحسن لأن الصلاة في اللغة الدعاء بخير وهو محال من الله تعالى فحمل على المغفرة وأما حمله على الرحمة فغير ممكن لأن حقيقة الرحمة رقة القلب وهي مستحيلة في حق الله تعالى ولا يطلب عليه إلا مجازا ومن فسر الصلاة بالرحمة فرارا من تفسيرها بالدعاء وقع في هذا الخطأ العظيم وصار كمن فسر قوله الرحمن على العرش استوى بمعنى جلس فإنه فسر شيئا ظاهره محال بالمحال ولقائل أن يقول إذا كانت حقيقة الصلاة الدعاء فاستعمالها في المغفرة والرحمة مجاز فيكون الموجود في الآية استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لا في حقيقته والمحتجون بالآية إنما ساقوها لاستعمال المشترك في معنييه نعم يلزم من جوازه في حقيقته ومجازه جوازه في حقيقته
واعترض المانعون على هذا الاحتجاج بأن قوله يصلون فيه ضميران
أحدهما عائد على الله تعالى
والثاني عائد إلى الملائكة وتعدد الضمائر بمنزلة تعدد الأفعال فكأنه قال إن الله يصلي والملائكة يصلون فلا يكون حينئذ استعمل اللفظ الواحد في معنييه بل استعمل لفظين في معنيين وليس النزاع فيه وأجاب في الكتاب بأن الفعل لم يتعدد في اللفظ قطعا وإنما تعدد في المعنى فاللفظ واحد والمعنى متعدد وذلك عين الدعوى واعترض الغزالي على هذا الاحتجاج بجواز أن يكون الصلاة استعملت في قدر مشترك بين المغفرة والاستغفار وهو الاعتناء وإظهار الشرف فقال الأظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين وهو العناية بأمر النبي صلى الله عليه و سلم لشرفه وحرمته والعناية من الله تعالى مغفرة ومن الملائكة استغفار ودعاء قال وكذلك العذر عن

السجود يعني في الآية الثانية التي سنذكرها إن شاء الله تعالى وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن إطلاق الصلاة على الاعتناء مجاز دلعدم تبادر الذهن إليه والأصل عدم المجاز
فإن قلت لو لم تحمله على الاعتناء لزم إما الاشتراك أو المجاز وإذا دار اللفظ بين التواطئ وبين الاشتراك والمجاز فحمله على التواطئ أولى
قلت إنما يكون التواطؤ أولى إذا دار اللفظ بين الثلاثة من غير دليل مقتض لأحدهما بخصوصه أما إذا دلد دليل على الاشتراك أو المجاز بخصوصه فيتعين وقد دل الدليل هنا على أن الصلاة مشتركة بين المغفرة والاستغفار لتبادر الذهن إليه عند الإطلاق
فإن قلت سلمنا أنه غير موضوع للا عتناء بإظهار الشرف وأن استعماله فيه إنما هو بطريق المجاز ولكن المجاز أولى من الاشتراك فليحمل عليه
قلت هذه مغالطة فإن الحمل على الاعتناء لم يدفع الاشتراك إذ الاشتراك ثابت فيه لما بيناه سواء حملناه على الاعتناء أم لم نحمله نعم لو حملناه عليه لزم حمل اللفظ المشترك على مفهومه المجازي واعترض على الاحتجاج بالآية أبضا بأنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر للقرينة كقوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ويكون أصله أن الله يصلي وملائكته يصلون وأجيب بأن الإضمار خلاف الأصل وهذا الجواب لا يحسن ممن يقول الحمل على الجميع بطريق المجاز فإنه يعترض عليه بأن الحمل على المجموع مجاز وهذا مجاز فلم رجح أحد المجازين على الآخر
قال وفي قوله تعاى ألم تر أن الله يسجد له الآية قيل حرف العطف بمثابة العامل قلنا إن سلم فبمثابته في العمل بعينه
الآية الثانية قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وجه الاحتجاج أنه أسند السجود إلى هؤلاء المذكورين والسجود

مشترك بين وضع الجبهة والخضوع فإما أن يراد به معنى غيرهما أو وضع الجبهة وحده أو الخضوع وحده أو يرادا معا والكل باطل سوى القسم الرابع
فالأول لكونه خلاف الأصل إذ الأصل عدمه
والثاني كذلك لامتناع إسناده إلى كل واحد
والثالث كذلك لأنه حينئذ لا يبقى لتخصيص كثير من الناس بالذكر
فائدة إذ الخضوع شامل لجميع المخلوقات فإنها خاضعة بلسان الحال لما فيها من الدلالة على الصانع والوحدانية فتعين الرابع وحينئذ يكون اللفظ الواحد مستعملا في مدلوليه المختلفين دفعة واحدة وهو المدعي واعترض الاحتجاج بهذا بأنا لا نسلم أن هذا استعمال للفظ الواحد في معانيه إنما هو استعمال ألفاظ متعددة لأن حرف العطف بمثابة تكرار العامل فيكون التقدير أن الله يسجد له من في السموات ويسجد له من في الأرض إلى آخره ولا نزاع في جواز ذلك وأجاب عنه المصنف بأنا أولا لا نسلم أن حرف العطف بمثابة العامل ولئن سلمنا أن العاطف بمثابة العامل فيلزم على هذا التقدير أن يكون بمثابة العامل الأزل بعينه وهو هنا باطل لأنه يلزم أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو وضع الجبهة لأنه مدلول الأول وفي بعض النسخ بمثابته في العمل أي يقوم مقامه في الإعراب لا في المعنى
قيل يحتمل وضعه للمجموع أيضا فالأعمال في البعض قلنا فيكون المجموع مستندا إلى كل واحد وهو باطل
هذا اعتراض على الاحتجاج بالآيتين المذكورتين ووجهه أنه لا حجة فيما استدللتم به لأنه يحتمل أن يكون استعمال الصلاة والسجود في المجموع إنما هو لكون اللفظ قد وضع له أيضا كما وضع للآخر أو بل نقول لا بد من هذا وإلا فيكون اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له وحينئذ فيكون السجود موضوعا لثلاثة معان للخضوع منفردا ولوضع الجهة منفردا ولمجموعها وعلى هذا التقدير يكون إعمال اللفظ في المجموع إعمالا له في بعض ما وضع له وهو

خلاف المدعى وأجاب بأنه لو كان كذلك للزم أن يكون المغفرة والاستغفار مستندا إلى كل واحد من الله تعالى والملائكة وهو واضح البطلان ويلزم أيضا أن يكون معنى السجود الذي هو وضع الجهة على الأرض والخضوع مستندا إلى الداوب وهو باطب وفيه نظر فإن هذا الذي ذكره إنما يلزم أن لو أسند المجموع إلى واحد فقط أما إذا استعمل في بعض المعاني مع اتحاد المستند إليه مثل الطير يسجد بمعنى يخشع أو في المجموع مع تعدد المستند إليه ليرجع كل واحد إلى واحد فلا يلزم هذا المحذور والدليلان المذكوران من هذا القبيل
فالأولى الجواب أن يمنع وضعه للمجموع وسند المنع أنه خلاف الأصل إذ يلزم منه الاشتراك لأنه يكون موضوعا لكل فرد وللمجموع والاشتراك على خلاف الأصل
قال احتج المانع بأن الواضع إن لم يضع للمجموع لم يجز استعماله فيه قلنا لم لا يكفي الوضع لكل واحد للاستعمال في الجميع
احتج من منع استعمال اللفظ في حقيقتيه معا بأن اللفظ الموضوع لهما إما أن يكون موضوعا لمجموع المعنيين معا أيضا أولا
إن كان الأول فاستعمال اللفظ في المجموع يكون استعمالا له في جميع ما وضع له بل في البعض لأن مدلول اللفظ حينئذ هذا وهذا وحده ومجموعها من حيث هو مجموع بعض ما وضع له وإن كان الثاني لم يجز استعماله لأنه حينئذ يكون استعمالا للفظ في غير ما وضع له وأجاب في الكتاب بأنا لا نسلم أنه لو لم يكن موضوعا للمجموع لم يجز استعماله فيه بل يكون الوضع لكل واحد كافيا في الاستعمال في المجموع مجازا ولكن في هذا الجواب التزام أن استعمال المشترك في معنييه من باب المجاز فلا يحسن ممن يجعله حقيقة ويمكن تقدير الجواب على وجه آخر فيقال الوضع لكل واحد كاف لاستعماله في الجميع ويكون ذلك على الاستعمال استعمالا له فيما وضع له لأن كل واحد من تلك المعاني قد وضع له ذلك اللفظ ولا يلزم من استعماله في المجموع اشتراط الوضع للمجموع وإنما يشترط ذلك أن لو كان المراد أنه يكون مستعملا في

المجموع بحيث يكون المجموع مدلولا مطابقيا واحدا كدلالة الخمسة على آحادها ولكن ليس ذلك المدعى وهذا التقرير بناء على ما قاله صاحب التحصيل من حصر الخلاف في الكلي العددي
قال ومن المانعين من جوز في الجميع والسلب والفرق ضعيف
ليس كل من منع استعمال المشترك في معنييه منع مطلقا بل منهم من أطلق منعه وقد تقدم البحث معه ومنهم من فرق وافترق هؤلاء إلى فرقتين
الفرقة الأولى فرقت بين النفي والإثبات فقالت يجوز استعمال المشترك في معنييه في السلب دون الإثبات واحتجوا بأن النكرة في سياق النفي تعم فيجوز أن يراد به مدلولاته المختلفة وأجيب بأن هذا الفرق ضعيف لأن السلب لا يرفع إلا ما هو مقتضى الإثبات ومقتضى الإثبات عند هذا القائل أحد المدلولات المختلفة فقط فحينئذ لا يعم السلب والجمع فإن أردتم بعمومه أنه يعم مدلولات اللفظ ففاسد لما ذكرناه وإن أردتم أنه يعم في إفراد مدلول واحد لا في إفراده المدلولات المختلفة فمسلم ولا يجديكم شيئا
الفرقة الثانية قالت بجوازه في الجمع دون المفرد واحتجوا بأن الجمع في حكم تعديد الأفراد فقولك ثلاثة عيون في قوة قولك عين وعين وعين فكلما يجوز أن تريد بالأول الجارية مثلا وبالثانية الباصرة وبالثالثة عين الشمس فكذا في الجمع وأجاب بأن هذا الفرق ضعيف لأنا لا نسلم أن الجمع في حكم تعديد الأفراد ولو سلمناه لكنه في حكم تعديد الأفراد نوع واحد كما علم من استقراء اللغة فكما لا يجوز استعمال تلك المفردات في المعاني المختلفة فكذلك استعمال الجمع
واعلم أن التثنية عند هذا المفصل ملحقة بالجمع والله أعلم
قال ونقل عن الشافعي والقاضي الوجوب حيث لا قرينة احتياطا
الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل بين وذلك أن الوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا وهذا هو

الوضع اللغوي وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير فيه أشهر من غيره وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة الشرعية والعرفيين الخاص والعام والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم وهو الحقيقة أو غير مسماة لعلاقة وهو المجاز والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده فالمراد كاعتقاد الشافعي أن الله تعالى أراد بالقرء الطهر واعتقاد أبي حنيفة أنه تعالى أراد الحيض المشتمل نحو حمل من يحمل المشترك على معانيه إذا تجرد عن القرائن لاشتماله على مراد المتكلم احتياطا
إذا عرفت ذلك فالوضع أمر راجح إلى الواضع وقد سلفه الكلام في وضع المشترك والاستعمال من صفات المتكلم وهو الذي انتهينا من كلامه والحمل من صفات السامع وها نحن نتكلم فيه فنقول
اختلف مستعملو المشترك في معنييه أنه هل يجب حمله على ذلك إذا تجرد عن قرينة صارفة فنقل عن الشافعي والقاضي وجوب ذلك ونقله الإمام في مناقب الشافعي عن القاضي عبد الجبار أيضا والمصنف في باب العموم في الكلام على الجمع عن الجبائي فافهم ذلك وحجتهم أن لو لم يجب فإما ألا يحتمل على واحد منها ويلزم تعطيل النص أو يحمل على واحد وهو ترجيح بدون مرجح
وقال بعضهم لا يجب الحمل ويكون مجملا وبه قال الإمام تفريعا على القول بجواز الاستعمال واحتج عليه بأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع لم يجز استعماله فيه وإن كان موضوعا له فهو أيضا موضوعا لكل من الأفراد فاللفظ دائن بين كل واحد من الفردين وبين المجموع فيكون الجزم بإفادته للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا من غير مرجح
فإن قلت حمله على المجموع أحوط فيجب الأخذ به
قلت الأخذ بالاحتياط سنتكلم عليه هذا كلام الإمام واعترض عليه صاحب التحصيل بأن هذا ينفي جواز الاستعمال فالتمسك به على نفي الوجوب تفريعا على الجواز لا يستقيم بقي في المسألة أن وجوب الحمل عند القائل به هل

هو للاحتياط أو لأنه عنده من باب العموم اضطرب النقل فيه فمن ناقل أنه من باب الاحتياط وعليه جرى في الكتاب ومن ناقل أنه عندهم من باب العموم وبه يشعر إيراد إمام الحرمين فإنه صدر كلامه بقوله ذهب ذاهبون من أصحاب العموم إلى أنه محمول على جميع معانيه وعليه جرى الغزالي فقال الإسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا خلافا للشافعي والقاضي وتبعه الآمدي وقد قدمنا أن القاضي فصل بين الحقيقة والمجاز فلم يقل بالجملة فيها وبين المشترك فقال بالحمل فيه ويحصل بهذا التفصيل في الحمل مذاهب
أحدها حمل اللفظ على معنييه سواء كان أحدهما مجازا أم كانا حقيقتين وهو رأي الشافعي
والثاني عكسه
والثالث التفصيل وهو رأي القاضي وهل هو للاحتياطي أو للعموم فيه هذا الخلاف والمختار عندنا أنه للاحتياط وكيف يكون من باب العموم ومسمى العموم واحد والمشترك مسمياته متعدده وأيضا فالمشترك يجب أن يكون أفراده متناهية ولا كذلك العام وأما ما يقال كيف يحسن من القاضي جعل الحمل من باب العموم وهو من منكري صيغ العموم فجوابه أنه إنما ينكر وضعها للعموم ولا ينكر استعمالها والله أعلم ونختم المسألة بفوائد
أحداها قد علمت نقل الناقلين عن الشافعي في استعمال اللفظ معنييه وحمله عند الاطلاق عليهما
وقد قال الرافعي في باب التدبير الأشبه أن اللفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه ولا يحمل عند الإطلاق على جميعها ذكره في مسألة إن رأيت عينا فأنت حر
وقال في أوائل الباب الثاني في أحكام الوصية الصحيحة من كتاب الوصايا في مسألة الوصايا بالعود في المسألة يعني هذه نظر للأصوليين فسياق

كلامه لا يقتضي أن الشافعي رأى ذلك وكيف وقد جعل الأشبه خلاف ذلك
وأعلم أن الخلاف في المسألة بين أصحابنا وقد حكى الماوردي في الحاوي في أوائل كتاب الأشربة في المسألة أوجها ثالثها التفرقة بين الجمع والسلب وقد قدمنا أن الفقيه في المطلب أخرج نص الشافعي على الحقيقة والمجاز فليكن المشترك كذلك بطريق أولى
الثانية استدل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بحديث الأعرابي الذي بال في المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه و سلم بذنوب من ماء فاهريق عليه وذلك بالرواية التي جاء فيها صبوا عليه بذنوب من ماء ووجه بأن صيغة الأمر توجهت إلى صب الذنوب والقدر الذي يغمر النجاسة واجب في إزالتها فتناول الصيغة له استعمال اللفظ في حقيقته الوجوب والزائد على ذلك مستحب فتناول الصيغة له استعمال لها في الندب وهو مجاز فيه على الصحيح فقد استعملت صيغة الأمر في حقيقتها ومجازها وهذا بناء على زيادة الذنوب على القدر الواجب
الثالثة أطلق الأصوليون الخلاف في الحمل على الحقيقة والمجاز من غير تبين لمحله
واعلم أن المتكلم إذا ذكر لفظا له حقيقة ومجاز فتارة يقصد الحقيقة فقط فيحمل على الحقيقة وحدها بلا نزاع وتارة يقصد بها المجاز فقط فيحمل عليه وحده بلا خلاف أيضا وكل هذا يظهر بدلائل تقوم عليه من قرائن وألفاظ وتارة يقصد المجاز ويسكت عن الحقيقة أو يقصدهما معا فهذا هو محل النزاع وقد أفهم كلام بعضهم أن الخلاف جار وإن لم يقصد المجاز ولم ينفه وهو في غاية البعد فإن اللفظ لا يحمل على المجاز إلا بقرينة

الرابعة يضاهي الخلاف الأصولي في حمل المشترك على معنييه في الفقه صور منها لو وقف على مواليه وله موال من أعلى وموال من أسفل فأوجه أرجحها عند الغزالي بطلانه وهو منقدح على رأي من يمنع استعمال المشترك في معنييه
والثاني يصح ويصرف إلى الموالي من أعلى
والثالث يصح ويقسم بينهم وهو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق وشيخه القاضي أي الطيب وفقا لقاعدة الشافعي
والرابع يصرف إلى الموالي من أسفل لاطراد العادة بالإحسان إلى العتقاء
والخامس الوقف إلى حين يصطلحوا وهو متجه على رأي من يجوز الاستعمال ويمنع الحمل ووجه مضاهاة هذا الفرع للمسألة التي انتهينا منها أن لفظ الموالي مشترك بين الموالي من أعلى والموالي من أسفل فإن قيل بما قاله بعض الأصحاب بأن صدقه عليهما من قبيل التواطؤ وهو الموالاة والمناصرة زالت المضاهاة
ومنها قال الإمام في باب التدبير من النهاية ونقله الرافعي عنه الرجل إذا قال لعبده إن رأيت عينا فأنت حر والعين اسم مشترك بين الناظرة وعين الماء والدينار وأحد الإخوة من الأب والأم ولم ينو المعلق شيئا فهل يعتق العبد إذا رأى شيئا منها فيه تردد قال والوجه الحكم بأنه يعتق به
فإن قلت هل لا قلنا لا يعتق إلا برؤية الجميع جزما لأن رأى صاحب المذهب حمل المشترك هلى معانيه
قلت كان السبب في عدم الحمل على جميع معانيه أن الصفة في التعليق تتحقق بأول الأفراد فيقع العتق كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر يعتق بأول الدخول في بعضها وإن لم يدخل الجميع
ومنها إذا أوصى بعود من عيدانه والعود مشترك بين الخشب والذي

يضرب به والذي يبخر به فهل يحمل على الجميع بناه الرافعي على الخلاف الأصولي والمسألة تحتاج مزيد بسط ومحل ذلك كتابنا الأشباه والنظائر
الخامسة قال الأصحاب إذا قال لها أنت طالق في كل قرء طلقة طلقت في كل طهر طلقة وأصح الوجهين عندهم أن القرء حقيقة في الطهر والحيض
والثاني أنها مجاز في الحيض حقيقة في الطهر فقد يقال لم لا طلقت في الطهر واحدة وفي الحيض أخرى وفاء بالأصل المتقدم في حمل اللفظ المطلق على حقيقته أو على حقيقته ومجازه ويمكن أن يقال في جوابه إنه غلب استعماله في الطهر فلم يستعمل في الحيض إلا في قليل مثل قوله عليه السلام دعي الصلاة أيام أقرائك فلم يكن اللفظ مع هذا الاستعمال الغالب مطلقا والله أعلم
قال الخامسة المشترك إن تجرد عن القرينة فمجمل وإن قرن به ما يوجب اعتبار واحد تعين أو أكثر فكذا عند من يجوز الإعمال في معنيين وعند المانع مجمل أو إلغاء البعض فينحصر في الباقي أو الكل فيحمل على المجاز فإن تعارضت حمل على الراجح هو أصله فإن تساويا أو ترجح أحدهما واصل الآخر فمجمل
اللفظ المشترك على قسمين
الأول إن تجرد عن القرينة فقال المصنف إنه مجمل وهذا واضح على رأي من يمنع حمل المشترك على معنييه وعليه نبه الإمام بقوله فهو مجمل لما بينا من امتناع حمله على الكل وأما من يرى الحمل فإن جعله من باب العموم لم يكن عنده مجملا بل محمولا على المعاني التي لا تتضاد وإن جعله من باب الاحتياط فقد يقال لا ينافي الحمل على معنيين لأجل الاحتياط كونه مجملا بالنسبة إلى الواحد المعين ويكون وجوب العمل به في الجميع لأجل الإتيان

بذلك المعين وهذا هو عين الاحتياط والغرض من هذا أنه لا يؤخذ من كلام المصنف هنا أنه لا يختار الحمل
القسم الثاني أن تقترن به قرينة فهو على أربعة أضرب
الأول أن توجب تلك القرينة اعتبار واحد معين مثل إن رأيت عينا ناظرة فيتعين حمل ذلك اللفظ على ذلك الواحد قطعا وهذا يناظر ما قال الأصحاب فيما إذا قال أعطوه رقيقا فإنه لا يتعين العبد ولا الأمة ويجزي كل منهما فلو قال رقيقا يقاتل أو يخدم في السفر تعين العبد أو رقيقا يستمع به أو يحضن ولده تعينت الأمة
الثاني أن توجب اعتبار أكثرمن واحد فيتعين ذلك الأكثر عند من يجوز إعمال المشترك في معنييه وإن لم يوجب الحمل لأن القرينة هنا توجب الحمل قطعا عند من يجوزه والخلاف في أنه هل مجمل إنما هو إذا تجرد عن القرينة ويكون مجملا عند من لا يجوزه
ومثاله إن رأيت عينا صافية فإن الصفاء مشترك بين الباصرة والجارية والشمس والنقد
الثالث أن توجب تلك القرينة إلغاء البعض فينحصر المراد في الباقي أي يتعين ذلك الباقي إن كان واحدا مثل دعي الصلاة أيام أقرائك فإن الأمر بتركها قرينة تلغي الطهر وتوجب الحمل على الحيض وكذا إن كان أكثر عند من يجوز الإعمال في معنيين وأما عند المانع فمجمل
الرابع وإليه الإشارة بقوله أو الكل فيحمل على مجازه فإن كان ذا مجازات كثيرة وتعارضت فهي إما متساوية أو بعضها راجح فإن كان بعضها راجحا فالحقائق إما متساوية أو بعضها أجلى فإن كانت متساوية حمل على المجاز الراجح وإليه أشار بقوله حمل على الراجح هو أو أصله ومثال هذا القرء فإنه حقيقة لغوية متساوية بالنسبة إلى مدلوليه اللذين هما الطهر والحيض والحيض لغة دم يسيل من رحم المرأة من غير ولادة والطهر ضده وفي الاصطلاح الحيض دم يسيل من الرحم بعد تسع سنين أقله يوم وليلة

وأكثره خمسة عشر يوما وإطلاقه على ما عدا ذلك مجاز عن المعنى الاصطلاحي والطهر هو النقاء المحتوش بدمين وإطلاقه على الصغيرة والآيسة مجاز عن هذا فطهر أن إطلاق الحيض والطهر بالحقيقة اللغوية أعم منه بالاصطلاحية فلو قال لها أنت طالق في قرء وليس هو القرء الإصطلاحي انقدح أن يقال تطلق الآيسة والصغيرة دون المستحاضة ومن رأت دما دون يوم وليلة لغلبة إطلاق الطاهر عليهما وكثرته وقلة إطلاق الحيض على المستحاضة ومن رأت دما دون يوم وليلة والمجاز يرجح على نظيره بمثل هذا وإن لم تكن الحقائق متساوية بل كان بعضها أجلي فالأجلي إن كان حقيقة ذلك المجاز الراجح حمل عليه وهذا أيضا يفهم من قول المصنف حمل على الراجح هو أو من قوله أو أصله ومثاله ما ذكرناه من القرء إذ قلنا بأنه أجلى بالنسبة إلى الطهر ولم نقل بأنهما متساويان فإنه إذا قال أنت طالق في قرء ليس بطهر ولا حيض بالحقيقة الإصطلاحية يقع التعارض بين مجازي الحقيقتين فيحمل على مجاز الطهر الاصطلاحي لرجحان أصله وإن لم يكن الأصلي حقيقة ذلك الراجح فهو مجمل لاختصاص كل واحد من المجازين بجهة ترجحه إذ أحدهما راجح وأصله غير جلي والآخر بالعكس وإلى هذا القسم أشار بقوله أو ترجح أحدهما وأصل الآخر فمجمل ومثاله لا يخفى مما تقدم وهذا على تقدير أن يكون بعض المجازات راجحا وأما إن تساوت المجازات فإن كان بعض الحقائق أجلى حمل عليه وإن لم يكن بعضها أجلى فمجمل وأشار إلى هذا بقوله فإن تساويا

الفصل السادس في الحقيقة والمجاز
قال الفصل السادس في الحقيقة والمجاز
الحقيقة فعلية من الحق بمعنى الثابت أو المثبت نقل إلى العقد المطابق ثم إلى القول المطابق ثم إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية
قدم على الكلام في مسائل الفصل مقدمة في الكلام على لفظي الحقيقة والمجاز ومعناهما لغة وإصطلاحا
والمقصد الأعظم أن إطلاق لفظ الحقيقة والمجاز على المعنى المصطلح بين الأصوليين إنما هو على سبيل المجاز فأما الحقيقة فوزنها فعلية اشتقت من الحق إما بمعنى الفاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا أوجب وثبت فمعناه الثابت وإما بمعنى المعقول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته فمعناه المثبت ثم إن الحقيقة نقلت من معنى الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع والعلاقة ثبوته وتقرره ثم نقلت من الاعتقاد المطابق إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب
قال الإمام لأن في استعماله فيما وضع له تحقيقا لذلك الوضع قال فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية بل مجازا واقعا في الرتبة الثالثة نعم هو حقيقة عرفية ولقائل أن يقول الحق في اللغة موضوع للقدر المشترك بين الجميع وهو الثبوت قال الله تعالى ولكن حقت

كلمة العذاب على الكافرين أي ثبتت وهو من أسمائه تعالى بهذا الاعتبار لأن الثابت أزلا وأبدا لذاته بخلاف غيره من الموجودات ويقال الحق لما يقابل الباطل لأنه جدير بالثبوت كما أن الباطل جدير بالزهوق وإذا كان موضوعا للقدر المشترك فهو موجود في الجميع سلمنا أنه ليس موضوعا للقدر المشترك لكنا لا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله حتى يكون مجازا واقعا في الرتبة الثالثة بل كان مأخوذا من الحقيقة بعلاقة معتبرة وقد علمت تعريف الحقيقة فقوله اللفظ جنس
وقد قلنا غير مرة إنه جنس بعيد وأن الأحسن أن يأتي بالقول
وقوله المستعمل يخرج به اللفظ الموضوع قبل الاستعمال فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز كما ستعرفه إن شاء الله تعالى
ويخرج أيضا المهمل وقوله فيما وضع له يخرج به المجاز فإنه مستعمل في غير ما وضع له ولك أن تقول المجاز موضوع فلا يخرج بهذا الفصل وإنما يخرج لو قال وضعا أولا وهو لا يمكنه أن يزيد هذا القيد مخافة أن يورد عليه الحقيقة الشرعية والعرفية لأنهما من غير وضع أول
وقوله في اصطلاح التخاطب يدخل الحقيقتين الشرعية والعرفية ولقائل أن يقول إن الفصول لا تكون للإدخال وأن الحد غير مانع لصدقه على العلم مع أنه ليس بحقيقة ولا مجاز لدخول المجاز فيه كما عرفت
قوله والتاء إلى آخره هذا جواب عن سؤال مقدر وتقديره أن يقال إذا كانت الحقيقة بمعنى المثبت فينبغي أن تكون مجردة عن تاء التأنيث لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول فقياسه أن يسوى فيه بين المذكر والمؤنث تقول رجل جريح وامرأة جريح ورجل قتيل وامرأة قتيل وجوابه أن الحقيقة وإن كانت صفة في الأصل إلا أن الاسمية غلبت عليها وتركت وصفيتها ألا ترى أنك تقول كلمة حقيقة ولفظة حقيقة فإنما جئ بالتاء لذلك وفعيل إنما

يسوي فيه بين المذكر والمؤنث إذا كان باقيا على وصفيته مستعملا مع موصوفه استغناء بتأنيث الموصوف على تأنيثه وأما إذا غلبت عليها الاسمية وقطعت عن الموصوف فقياسه أن يدخل التاء فيه إذا قصد به المؤنث كما يقال أكيلة ونطيحة ويجوز أن يقال دخول التاء فيه علامة لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وهو أقرب إلى لفظ الكتاب إلا أنه مدخول فإنه لا دلالة للتاء على النقل
قال والمجاز مفعل من الجواز بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان نقل إلى الفاعل ثم إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح
إطلاق لفظ المجاز على المعنى المصطلح عليه بين إلا أنه مجاز لغوي حقيقة عرفية وذلك لأن المجاز مشتق من الجواز والجواز معناه التعدي والعبور تقول جزت الدار أي عبرتها ووزن المجاز مفعل لأن أصله مجوز فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها إلى الجيم والمفعل يستعمل حقيقة في الزمان والمكان والمصدر تقول قعدت مقعد زيد وتريد قعوده أو زمان قعوده أو مكان قعوه فيكون لفظة المجاز في الأصل حقيقة إما في المصدر الذي هو الجواز وإما في مكان التجوز أو زمانه ونقل لفظ المجاز من ذلك إلى الفاعل وهو الجائز أعني المنتقل لما بينهما من العلاقة والعلاقة إن نقل من المصدر هي الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق كقولك هذا رجل عدل أي عادل وإن نقل من المجاز المستعمل في المكان فهي إطلاق اسم المحل وإرادة الحال مثل سال الوادي
وأما المجاز المستعمل في الزمان فقد ترك المصنف ذكره كأنه للجزم بأن الجازم غير مأخوذ منه إذ لا علاقة بينهما ثم الجائز حقيقة إنما يطلق على الأجسام إذ الجواز الانتقال من حين إلى حين وأما اللفظ فعرض يمتنع عليه الانتقال فنقل لفظ المجاز من معنى الجائز إلى المعنى المصطلح
قال صاحب الكتاب وهو اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح وإطلاقه على هذا المعنى على سبيل التشبيه فإن تعدية اللفظ من معنى

إلى معنى كالجائز يتعدى من مكان إلى مكان فيكون إطلاق لفظ المجاز على المعنى للمصطلح مجازا في المرتبة الثانية حقيقة عرفية
وقوله اللفظ المستعمل قد عرفت شرحهما فيما سبق
وقوله في معنى غير موضوع له يخرج الحقيقة ويقتضي أن المجاز غير موضوع وكان الأحسن أن يزيد بوضع أول
وقوله يناسب المصطلح أشار به إلى فوائد
إحداها أن يشمل الحد كل مجاز من شرعي وعرفي عام وخاص ولغوي فإن الاصطلاح أعم من أن يكون بالشرع أو العرف أو اللغة
والثانية أن ينبه على اشتراط العلاقة في المجاز
والثالثة أن يحترز عن العلم المنقول مثل بكر وكلب فإنه ليس بمجاز لأنه لم ينقل لعلاقة والله أعلم
قال وفيه مسائل
الأولى الحقيقة اللغوية موجودة وكذا العرفية العامة كالدابة ونحوها والخاصة كالقلب والنقض والفرق والجمع
الحقيقة متعددة بلا خلاف وإلى ما تتعدد فيه اختلاف فقال قائلون إلى ثلاثة اللغوية والعرفية بنوعيها والشرعية
واقل آخرون الأوليين فقط وقد علمت من هذا الاتفاق على إمكان اللغوية والعرفية وأما الوجود فلا نزاع في وجود اللغوية وكيف ولا شك في وجود ألفاظ مستعملة في معان وذلك إن كان بالوضع فقد حصل الغرض وإلا فيلزم أن يكون مجازا فيها وهو باطل لأن شرط المجاز حصول المناسبة الخاصة بين الموضوع الأصلي والمعنى المجازي وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الموضوع الأصلي
وأما العرفية فاعلم أولا أن اللفظة العرفية هي التي نقلت عن موضوعها

الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال وهي منقسمة إلى خاصة وعامة بحسب الناقلين فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة وإن كانت عامة الناس سميت عامة وقد ذهب الأكثرون إلى وقوع العرفية العامة وهي على قسمين
أحدهما أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام لم يخصص بالعرف العام ببعض أنواعه كلفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على وجه الأرض وخصصها العرف العام بذات الحوافر
وثانيهما أن يكون الاسم في أصل اللغة قد وضع لمعنى ثم كثر استعماله فيما له نوع مناسبة وملابسة بحيث لا يفهم المعنى الأول كالغائط فإنه موضوع في الأصل للمكان المطمئن من الأرض التي تقضى فيها الحاجة غالبا وأطلقه العرف على الخارج المستقذر من الإنسان كناية عنه باسم محله لنفرة الطباع عن التصريح به وأما الخاصة فلا نزاع في وقوعها إذ هو معلوم بالضرورة بعد استقراء كلام الطوائف من ذوي العلوم والصناعات التي لا يعرفها أهل اللغة كالقلب والنقض والجمع والفرق في اصطلاح النظار وستعرف معاني هذه الأمور في كتاب القياس إن شاء الله تعالى
قال واختلف في الشرعية فمنع القاضي وأثبت المعتزلة مطلقا والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة وإلا لم تكن عربية فلا يكون القرآن عربيا وهو باطل لقوله تعالى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ونحوه
الحقيقة الشرعية هي اللفظة التي استفيد وضعها للمعنى من جهة الشرع وأقسامها الممكنة أربعة
الأول أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى
والثاني أن يكونا غير معلومين لهم
الثالث أن يكون اللفظ معلوما لهم والمعنى غير معلوم

الرابع عكسه والمنقولة الشرعية من هذه الأقسام إنما هي الأول والثالث فالمنقولة الشرعية أخص من الحقيقة الشرعية ثم من المنقولة ما نقل إلى الدين وأصوله كالإيمان والإسلام والكفر والفسق ويخص بالدينية فهي إذن أخص من المنقولة الشرعية
فإن قلت فهذه الأقسام الممكنة هل هي واقعة كلها تفريعا على القول بالحقيقة الشرعية
قلت قال صفي الدين الهندي الأشبه وقوعها أما الأول فهو كلفظ الرحمن لله فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم وكذا صانع العالم كان معلوما لهم بدليل قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله لكن لم يضعوه لله تعالى ولذلك قالوا ما نعرف الرحمن إلى رحمان اليمامة حين نزل قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
وأما الثاني فهو كأوائل السور عند من يجعلها اسما لهذا أو للقرآن فإنها ما كانت معلومة على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور
وأما الثالث فكلفظ الصلاة والصوم وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم
وأما الرابع فهو كلفظ الأب فإنه قيل إن هذه الكلمة لم تعرفها العرب ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى وفاكهة وأبا هذه الفاكهة فما الأب ومعناه كان معلوما لهم بدليل أن له اسما آخر عندهم نحو العشب هذا كلام صفي الدين الهندي إذا عرفت الحقيقة الشرعية فنقول أما إمكانها فقد نقل جماعة الاتفاق عليه وأبو الحسين البصري لما حكى في المعتمد عن قوم من المرجئة أنهم نفوا الحقائق الشرعية قال ونقض عللهم يدل

على أنهم أحالوا ذلك وأما وقوعها فذهبت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء إليه مطلقا وقالوا نقل الشارع هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية وابتدأ وضعها لهذه المعاني فليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها وأنكره القاضي أبو بكرمطلقا وزعم أن لفظ الصلاة والصوم وغيرهما في الشرع مستعمل في المعنى اللغوي وهو الدعاء والإمساك لكن الشارع شرط في الاعتداد بهما أمورا أخر نحو الركوع والسجود والكف عن الجماع والنية فهو منصرف بوضع الشرط لا بتغير الوضع وشدد النكير على مخالفيه وقال قد تبعهم شرذمة من الفقهاء الحائدين عن التحقيق وما راموا مرامهم بيد أنهم زلوا عن سواء الطريق وذهب إمام الحرمين والغزالي والإمام وأتباعه منهم صاحب الكتاب إلى التفصيل فاثبتوا من المنقولات الشرعية ما كان مجازا لغويا كما في الحقائق العرفية دون ما ليس كذلك بل كان منقولا عنها بالكلية وهذا معنى قول المصنف مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة أي لم تستعمل في المعنى اللغوي ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال بل استعملت في هذه المعاني لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة فالصلاة مثلا لما كانت في اللغة عبارة عن الدعاء بخير قال الشاعر ... تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا ... عليك مثل الذي صليت فاعتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا ...
كانت بالمعنى اللغوي جزءا منها بالمعنى الشرعي لاشتمال ذات الأركان على الدعاء فكان إطلاقها على المعنى الشرعي من باب التسمية للشيء باسم بعضه وهو مجاز لغوي اشتهر وصار بالاشتهار حقيقة شرعية وكذلك الصوم فإنه في اللغة الإمساك قال الشاعر ... خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما ...
وفي الشرع اسم للإمساك عن الطعام والشراب مع انضمام أمور أخر إليه وكذا الحج فإنه في اللغة القصد قال الشاعر ... واشهد من عرف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا

فإن ابن السكيت يقول يكثرون الاختلاف إليه وهو في الشرع اسم للمناسك المعروفة من جملتها القصد وكذلك سائر الأسماء الشرعية وذهب الآمدي إلى التوقف في المسألة
فائدة قال الشيخ أبو إسحاق هذه أول مسألة نشأت في الإعتزال وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين أي جعلوا الفسق منزلة متوسطة بين الكفران والإيمان لما علموا أن الإيمان في اللغة التصديق والفاسق موحد مصدق
فقالوا هذه حقيقة الإيمان في اللغة ونقل في الشرع إلى من لم يرتكب شيئا من المعاصي فمن ارتكب شيئا منها خرج عن الإيمان ولم يبلغ الكفر ثم اختار الشيخ أبو إسحاق أن الإيمان يبقى على موضوعه في اللغة وأن الألفاظ التي ذكرناه من الصلاة والصيام والحج وغير ذلك منقولة قال وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ وإنما يكن على حسب ما يقوم عليه الدليل ورأيت في كتاب تعظيم قدر الصلاة للإمام الجليل محمد بن نصر عن أبي عبيد أنه استدل على أن الشارع نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى الشرعي بأنه نقل الصلاة والحج ونحوهما إلى معان أخر
قال فما بال الإيمان وهذا يدل على تخصيص محل الخلاف بالإيمان وهو الذي وقع فيه النزاع في مبتدأ ظهور الاعتزال قوله وإلا لم تكن عربية استدل على ما اختاره بأنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعات مبتدأة لم تكن عربية والملازمة ظاهرة وإذا كانت غير عربية يلزم أن يكون القرآن غير عربي

لوقوعها فيه وذلك باطل لقوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا ونحوه كقوله تعالى أأعجمي وعربي فدل على أنها عربية أعني الصلاة والصيام والحج ونظائرها وهذا فيه نظر لأنه لا يبطل إلا مذهب المعتزلة فقط وقد رد إمام الحرمين على القاضي بأن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع والسجود من الصلاة ومساق ما ذكره أن المسمى بالصلاة الدعاء فحسب وليس الأمر كذلك
قال قيل المراد بعضه فإن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة البعض قلنا معارض بما يقال أنه بعضه قيل تلك كلمات قلائل فلا تخرجه عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية قلنا يخرجه وإلا لما صح الاستثناء قيل يكفي في عربيتها استعمالها في لغتهم قلنا تخصيص ألفاظ باللغات بحسب الدلالة قيل منقوض بالمشكاة والقسطاس والإستبراق والسجيل قلنا وضع العرب فيها وافق لغة أخرى
اعترضت المعتزلة على الدليل الذي أورده في الكتاب بأربعة وجه
الأول أن الآية لا تدل على أن القرآن كله عربي بل على أن بعضه عربي لأن القرآن يطلق على مجموعه وعلى كل جزء من أجزائه ويصدق صدق المواطئ على جزئياته ويدل على هذا أن الحالف على ألا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه وأجاب بأن ما استدللتم به من صورة الحلف وإن دل على أن المراد بالقرآن البعض فهو معارض بقولنا إلا آية والسورة بعض القرآن فإنه لو أطلق القرآن على ذلك حقيقة لم يكن لإدخال البعض معنى وأيضا فبعض الشيء غير الشيء وإذا تعارضا تساقطا وسلم ما ذكرناه من الدليل
وأعلم أن ما ذكره المصنف من الحنث في هذه الصورة تبع فيه الإمام وليس كما ذكر فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم ونقله

الرافعي عنه خلاف ذلك وقد رأيت نصه في الأم في الجزء السابع من باب جامع الترتيب
قال رضي الله عنه ما نصه ولو قال رجل لعبد له متى مت وأنت بمكة فأنت حر ومتى مت وقد قرأت القرآن فأنت حر فمات السيد والعبد بمكة وقد قرأ القرآن كله كان حرا وإن مات وليس العبد بمكة أو مات ولم يقرأ القرأن كله لم يعتق هذا لفظه
وقال الشيخ أبو حامد في التعليقة إذا قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت حر لم يعتق إلا بقراءة الجميع وكذا قال المحاملي في التجريد هذا هو المذهب في المسألة ولا يعرف ما يخالفه
الوجه الثاني إنا لا نسلم أنه يلزم من كون تلك الألفاظ غير عربية ألا يكون القرآن عربيا فإن تلك كلمات قلائل فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا كما أن الألفاظ العربية القليلة إذا وقعت في قصيد فارسية لا تخرجها عن كونها فارسية وأجاب بأنها تخرجه عن كونه عربيا والكلمات القلائل تخرج القصيدة عن أن تكون فارسية والدليل على ذلك صحة الاستثناء ذلك أن تقول القصيدة فارسية إلا موضع كذا منها
الوجه الثالث أنه يكفي في كون هذه الألفاظ عربية استعمال العرب لها من حيث الجملة وحينئذ فاستعمال الشارع لها في غير المعنى اللغوي لا يخرجها عن ذلك وأجاب بأن المقدار غير كاف في كونها عربية لأن تخصيص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها على معانيها فإن كانت دلالتها من جهة لغة العرب كانت عربية وإلا فلا وشك أن تلك الألفاظ لا تدل على معانيها من تلك الحيثية
واعلم أن المصنف لم يرتب هذه الاعتراضات الثلاث على الوجه اللائق فإن مقتضى النظم الطبيعي تقدم هذا الثالث ثم الإتيان بالثاني ثم بالأول فيقال لا نسلم أنها غير عربية بل يكفي استعمالها عندهم سلمنا لكن لا

تخرج القرآن عن كونه عربيا لقلتها سلمنا ولكن ذلك غير ممتنع لأن المراد من قوله تعالى قرآنا عربيا هو البعض
الوجه الرابع أنه لو صح ما ذكرتم لزم ألا يشتمل القرآن على لفظ غير عربي وليس كذلك فإن المشكاة فيه وهي عجمية وكذا القسطاس والإستبرق والسجيل والمشكاة الكوة التي لا تنفذ والقسطاس بالرومية الميزان والإستبرق بالفارسية الديباج الغليظ والسجيل الحجر من الطين وأجاب بأنا لا نسلم أن هذه الألفاظ غير عربية بل غايته أن وضع العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور وأن اللغات فيها متفقة
تنبيه عرفت من هذا أن المصنف يختار أن المعرب لم يقع في القرآن وقد تبع الإمام في ذلك وهو الذي نصره القاضي في كتاب التقريب ونص عليه الشافعي في الرسالة في باب البيان الخامس فقال ما نصه وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة فقال منهم قائل إن في القرآن عربيا وأعجميا والقرآن يدل على أنه ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ووجدنا قائل هذا القول ومن قبل ذلك منه تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم هذا نصه ونقل عن ابن عباس وعكرمة وقوعه وهو الذي اختاره ابن الحاجب واستدل عليه بإجماع النحاة على أن ابراهيم لا ينصرف للعلمية والعجمية وذلك لا يجديه شيئا إذا كان محل الخلاف مقصورا على أسماء الأجناس غير شامل للأعلام
قال صفي الدين الهندي وهو الذي يجب أن يكون
قال وعورض بأن الشارع اخترع معاني فلا بد لها من ألفاظ قلنا كفى التجوز
قد عرفت ما طعنت به المعتزلة في مقدمات الدليل الذي احتج به المصنف وما أجيبوا به وقد انتقلوا الآن إلى المعارضة بوجهين
أحدهما وهو إجمالي أن الشارع اخترع معاني لم تكن متعلقة قبل الشرع

بل حدث تعلقها بعده فوجب أن يوضع لها اسم لأنها من جملة المعاني التي تمس الحاجة إلى التعبير عنها وهي الأسامي التي تطلق عليها كالصلاة والحج لا مدخل للعرب في إطلاقها عليها إذ وضع الألفاظ مسبوق بتعلق المعاني وهم لم يتعلقوها قبل الشرع ولا خطرت لهم ببال
وأجاب بأنه إن عنيتم بقولكم ما يعقلوها ولا خطرت لهم لا من حيث المجموع ولا من حيث الجزء فممنوع فإنهم تعقلوها من حيث الجزء كما في الصلاة وإن عنيتم أنه لم يخطر لهم من حيث المجموع فمسلم ولكن لا نسلم أنه لا مدخل للعرب حينئذ فيها فإنه يكون من باب إطلاق الجزء على الكل وهو أحد أنواع المجاز والتجوز كاف هنا لحصول المقصود الذي هو الإفهام به
قال وبأن الإيمان لغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجب لأنه الإسلام وإلا لم يقل من مبتغيه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ولم يجز استثناء المسلم من المؤمن وقد قال تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين والإسلام هو الدين لقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام والدين فعل الواجبات لقوله تعالى وذلك دين القيمة
قلنا في الشرع تصديق خاص وهو غير الإسلام والدين فإنهما الانقياد والعمل الظاهر ولهذا قال تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وإنما جاز الاستثناء لصدق المؤمن على المسلم بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام
الوجه الثاني من وجهي المعارضة وهو تفصيلي وتقريره أن الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع فعل الواجبات فتكون الحقيقة الشرعية بمعنى أنها حقائق مبتدأة واقعة وهو المدعى

أما المقدمة الأولى فبالنقل عن أئمة اللغة ومنه قوله تعالى وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق لنا
وأما الثانية فلأن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الدين والدين هو فعل الواجبات فالإيمان فعل الواجبات إنما قلنا إن الإيمان هو الإسلام لوجهين
أحدهما أنه لو لم يكن كذلك لم يكن مقبولا من مبتغيه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
والثاني أنه تعالى استثنى بعض المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء لأن الاستثناء إخراج بعض الأول
فإن قلت أين الإستثناء وليس هنا إلا لفظة غير وهي ظاهر في الوصفية قلت هي هنا بمعنى إلا لأنه لو كانت على ظاهرها لكان التقدير فما وجدنا فيها المغاير لبيت المؤمنين أنه فيكون المنفي إذ ذاك بيوت الكفار وهو باطل لأنه وجد فيها بيوتهم فتقرر أنه استثناء مفرغ فيحتاج إلى تقدير شيء عام منفي يكون هو المسنثنى منه ولا بد من تقيد ذلك العام بكونه من المؤمنين وإلا يلزم انتفاء ثبوت الكفار وقد عرفت بطلانه فيكون تقدير الآية والله أعلم فما وجدنا فيها أحدا من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين أي منهم ويكون قد أوقع الظاهر موقع المضمر وإنما قلنا الدين إن الإسلام هو الدين لقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وإنما قلنا الدين فعل الواجبات لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك الدين القيمة أي دين الملة المستقيمة وقوله ذلك عائد إلى جميع ما تقدم ذكره فوجب أن يكون الكل مسمى بالدين
قوله قلنا في الشرع إلى آخره هذا هو الجواب عن هذا الوجه الثاني وتقريره أن يقال لا نسلم أن الإيمان في الشرع هو الإسلام وإنما الإيمان في الشرع عبارة عن تصديق خاص وهو تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم في جميع ما علم مجيئه بالضرورة وهو بهذا الاعتبار غير الإسلام وغير الدين فإنهما في اللغة الانقياد

وفي الشرع العمل الظاهر وهذا هو التحقيق في انفصال الإسلام عن الإيمان وإن كان كل منهما شرطه الشارع في الاعتبار بالآخر فإن الإسلام عبارة عن التلفظ ولا يعتبر به ما لم يساعده القلب بالاعتقاد والإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ولا يكفي ما لم يتلفظ بالشهادتين إذا أمكنه ذلك ويدل على انفصال الإسلام عن الإيمان صريح قوله تعالى في حق المنافقين قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا أي والله أعلم إن الذي وقع منكم ليس بإيمان حتى تقولوا نحن مؤمنون وإنما هو إسلام لأنه فعل ظاهر من غير تصديق بالقلب فلا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا لأنه هو الذي وقع منكم
فإن قلت وقع من المنافقين إسلام
قلت وقع منهم الإسلام باللسان الذي هو غير معتبر شرعا ويجوز أن يقال لم يقع منهم إسلام ويجعل تصديق القلب ركنا في الإسلام شرعا لا شرطا ولكن يعضد الأول قوله تعالى ولكن قولوا أسلمنا قوله وإنما جاز الاستثناء جواب عن قولهم لو غاير الإيمان الإسلام لم يجز الاستثناء المسلم من المؤمنين وتوجيهه أن يقال استثناؤه منه لا يدل على أنه هو وإنما بدل على أنه يصدق عليه كقول القائل ملكت الحيوان إلا الفرس فالحيوان غير الفرس لأنه أعم والأعم من حيث هو مغاير للأخص ومع ذلك فقد استثنى منه لصدق الحيوان إذا عرفت هذا فالصدق حاصل في المؤمن مع المسلم لأن شرط صحة الإسلام الذي هو التصديق وهذا مسوغ لاستثناء المسلم من المؤمن لأنه كلما صدق المسلم صدق المؤمن لكونه شرطه ولا ينعكس بدليل من كان مؤمنا تاركا للأفعال الظاهرة فصحة الاستثناء ثابتة لصدق المؤمن على المسلم ولا يلزم كون المسلم مؤمنا أن يكون الإسلام هو الإيمان فإن الكاتب ضاحك والكتابة غير الضحك والنزاع إنما هو الإسلام مع الإيمان لا في المسلم مع المؤمن ولقائل أن يقول الإيمان على هذا شرط صحة الإسلام والاعتداد به لا شرط وجود الإسلام فلا يلزم أن ينتفي الإسلام بانتفاء الإيمان إلا أن يجعلوا

الإيمان شرطا في صدق الإسلام لا في صحته أو ركنا في الإسلام وما دللتم على شيء منهما وقد نجز القول في المسألة ولم يذكر المصنف متمسك القاضي أبي بكر ومن متمسكاته أن القرآن مشتمل على هذه الألفاظ فلو كانت حقائق شرعية لكانت غير عربية لفقدان وضع العرب إياها لهذه المعاني فيلزم خروج القرآن عن كونه عربيا بكليته وقد قررتم بطلانه وجواب هذا يعلم مما سبق ومنها لو كانت حقائق شرعية لفهمناها الشارع قبل تكليفنا بها وإلا يلزم أن يكون كلفنا بما لا نفهمه ولا آحاد تدل على وقوع ذلك فضلا عن التواتر
وأجيب عن هذا بأنه لا يلزم من تفهيم الشارع أن ينقل بتواتر ولا آحاد لجواز حصول التفهم بالقرائن والله أعلم
وقد علمت بما سبق أن الإيمان في الاصطلاح عبارة عن تصديق الرسول بكل ما جاء به وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن رضوان الله عليه وقال أكثر السلف وعليه بعض المعتزلة والخوارج إنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان وفيه مذاهب أخر كثيرة ليس هذا محلها ورام السهيلي التفرقة بين الإيمان والتصديق من وجهين قررهما
أحدهما أن التصديق لا بد وأن يكون في مقابله خبر صادق وقد يكون عن نظر وفكر فإذا نظرت في الصنعة وعرفت بها الصانع آمنت به لم تكن به مصدقا بخبر إذ لا خبر هناك فإذا جاء الخبر كنت به مصدقا ونحن نقول في جواب هذا إن الصنعة لما عرفتنا الصانع كانت مخبرة بلسان الحال فلم يكن التصديق إلا في مقابلة خبر واقع بلسان الحال فإن قال التصديق لا يكون إلا في مقابلة خبر بلسان المقال قلنا من أين لك هذا التقيدد
الثاني أن التصديق قد يكون بالقلب وأنت ساكت تقول سمعت الحديث فصدقته والإيمان لا بد من اجتماع اللفظ مع العقد لغة وشرعا لتعديه بالباء ونحو ذلك ونحن نجيب عن هذا بأن اللفظ شرط في صحة الإيمان لا ركن منه كما علمت فيما تقدم ويدل عليه مع قوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا إجماع الأمة على أن من عرف الله بقلبه وعجز عن التلفظ بالشهادتين كان مؤمنا فائزا وبالله التوفيق

قال فروع الأول النقل خلاف الأصل إذ الأصل بقاء الأول ولأنه يتوقف على الأول ونسخه ووضع ثان فيكون مرجوحا
هذه مسائل مفرعة على جواز النقل
الأول أنه على خلاف الأصل بمعنى أنه إذا دار اللفظ بين احتمال النقل واحتمال عدمه كان احتمال عدمه أرجح لوجهين
أحدهما أن الأصل في الوضع الأول المنقول عنه البقاء إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان
والثاني أن النقل يتوقف على ثلاثة أشياء الوضع الأصلي ثم نسخه ثم وضع ثان وعدم النقل لا يتوقف إلا على واحد وما كان متوقفا على أمور كان مرجوحا بالنسبة إلى المتوقف على أمر واحد
قال الثاني الأسماء الشرعية الموجودة المتواطئة كالحج والمشترك كالصلاة الصادقة على ذات الأركان وصلاة المصلوب والجنازة والمعتزلة سموا أسماء الذوات دينية كالمؤمن والفاسق
هذا الفرع في أن الشارع هل نقل الأسماء والأفعال والحروف أم نقل البعض دون البعض
فنقول أما الأسماء فقد وجد النقل فيها وقد قدمنا انقسامها إلى متباينة ومترادفة ومتواطئة ومشتركة ومشككة فلينظر في واحد واحد أما المتباينة ة فقد وجدت كالصوم والصلاة وأهمل في الكتاب ذكر هذا القسم لوضوحه
وأما المترادفة فقد أهمل ذكرها أيضا فقال الإمام الأظهر أنها لم توجد لأنها ثبتت على خلاف الأصل فتتقدر بقدر الحاجة وتابعه صاحب التحصيل
وقال صفي الدين الهندي الأظهر أنها وجدت وهذا هو الصحيح لوجد أن الواجب والفرض وهما مترادفان عند الشافعي رضي الله عنه والإمام يوافق على ذلك والإنكاح والتزويج عند الشافعي أيضا وأما المتواطئة فموجودة أيضا ومثل لها المصنف بالحج فإنه يطلق على الإفراد والتمتع والقرآن وهذه الثلاثة

مشتركة في الماهية وهي الإحرام والطواف والوقوف والسعي وأما المشترك فاختلفوا في وقوعها وجزم المصنف بوقوعها
قال الإمام وهو الحق لأن لفظ الصلاة مستعمل في معاني شرعية لا يجمعها جامع لأن لفظها يتناول ما لا قراءة فيها كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالإيماء على مذهب الشافعي رضي الله عنه وهي التي عبر عنها في الكتاب بصلاة المصلوب فإنه لا شيء من ذلك فيها وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك هذا كلام الإمام
قال الهندي وهو ضعيف لأن كون الفعل واقعا بالتحرم والتحلل منه مشترك بين تلك الصلوات فلم لا يجوز أن يكون مدلولها قال والأقرب أنها متواطئة بالنسبة إلى الكل إذ التواطؤ خير من الاشتراك ثم ذكر الهندي أن الأشبه وقوع المشتركة ومثل لها بإطلاق الطهور على الماء والتراب وعلى ما يدبغ به كان ذلك ليس باشتراك معنوي إذ ليس بينها معنى مشترك يصلح أن يكون مدلول اللفظ ولقائل أن يقول لم اكتفيت بالتحلل والتحرم في الصلاة قدرا مشتركا ولم تكتف باشتراك الماء والتراب وآلة الدباغ في إزالة المانع قدرا مشتركا
وأما المشككة فالظاهر وقوعها أيضا وقد أهملها المصنف في الكتاب وهي كالفاسق بالنسبة إلى من فعل الكبيرة الواحدة ومن فعل الكبائر العديدة فإن تناوله للثاني بطريق أولى
قوله والمعتزلة أي أن المعتزلة لما أثبتوا الحقائق الشرعية قسموها إلى أسماء الأفعال وأسماء الذوات المشتقة من تلك الأفعال فالأول كالصوم والصلاة والثاني كاسم الفاعل مثل زيد مؤمن واسم المفعول مثل زيد مقروء عليه وأفعل التفضيل نحو أفضل من عمرو وسموا هذا القسم بالدينية تفرقة بينه وبين الأول وأن اشتراك الكل عندهم في كونه شرعيا هكذا نقل الإمام وتبعه صاحب الكتاب وفيه نظر فإن المنقول عن المعتزلة أن الدينية هي الأسماء المنقولة شرعا إلى أصل الدين كالإيمان والكفر

وأما الشرعية فكالصلاة والصوم كذا عزاه إليهم طائفة منهم القاضي وإمام الحرمين والغزالي فقال إمام الحرمين
قالت المعتزلة الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام
أحدها الألفاظ الدينية وهي الإيمان والكفر والفسق فهي عندهم منقولة إلى قضايا في الدين فالإيمان في اللسان التصديق والكفر من الكفر وهو الستر والفسق الخروج وهذا الذي ذكروه في قواعدهم في أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا دينا وليس كافرا أيضا وإنما هو فاسق
والقسم الثاني الألفاظ اللغوية وهي القارة على قوانين اللسان
والقسم الثالث الألفاظ الشرعية وهي الصلاة والصوم وأخواتها فهي مستعملة في فروع الشرع هذا لفظه في البرهان وهو الذي ذكره في كتاب التلخيص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي وكذلك أورده الغزالي وهذا هو التحقيق في نقل مذهب القوم
قال والحروف لم توجد والفعل يوجد بالتبع تقدم الكلام في الاسم وأما الحرف فلم يوجد واستدل عليه الإمام بالاستقراء
وأما الفعل فلم يوجد بطريق الأصالة للاستقراء ووجد بطريق التبعية لأن الفعل صغة تدل على صدور المصدر من الفاعل فالمصدر إن كان شرعيا كالصلاة كان الفعل أيضا كذلك كصلى وإن كان لغويا كان مثله فيكون الفعل شرعيا أمر حصل بالعرض لا بالأصالة وكلام المصنف مصرح بأن الحرف لم يوجد لا بطريق الأصالة ولا بطريق التبعية والحق مساواته للفعل فإن نقل متعلق معاني الحروف من المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية مستلزم لنقلها أيضا فلا فرق في ذلك بين الفعل والحرف كما في أنواع المجاز
فائدة قد تقرر أن الألفاظ هي المستعملة من الشارع أما الأسماء وهي على قسمين منها ما وضعه بإزاء الماهيات الجعلية وذلك معروف كالصلاة وأمثالها ومنها الأسماء المتصلة بالأفعال وسنذكرها إن شاء الله مع الفعل

وأما الفعل والحرف فقد علمت أن التحقيق فيهما أنهما مستويان والفعل ينقسم إلى ماض وأمر ومضارع والأسماء المتصلة بالأفعال ثمانية المصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة أما الفعل المضارع فلم يستعمل في الشرعية في شيء أصلا إلا لفظ أشهد في الشهادة فإنها تعينت ولم يقم غيرها مقامها وكذا في اللعان سواء قلنا إنه يمين أو شهادة أو فيه شائبتان ويجوز في اليمين في أقسم بالله وأشهد ولا يتعين ولا مدخل له في الإنشاءات
وأما الفعل الماضي فيعمل في الإنشاءات خلا الشهادة واللعان فمن الإنشاءات التي يعمل به فيها العقود كلها والطلاق وأما فعل الأمر فهو مسألة الإيجاب والاستحباب في العقود والطلاق وفي الوكالة لو أتى بصيغة أمر نحو بع واشتر
قال بعض الأصحاب هنا لا يشترط القبول بخلاف ما إذا أتى بصيغة عند نحو وكلتك والصحيح لا فرق وفعل الأمر يعمل به في كل موضع يعمل بالماضي على الصحيح
وأما اسم الفاعل ففي الطلاق في قوله أنت طالق ويعمل به في الضمان
وأما اسم المفعول فيستعمل الطلاق والعتق والوكالة ويقرب من هذا أنت حرام وأنت حر وأنت علي كظهر أمي
وأما المصدر فقد استعمل في الطلاق في قوله أنت الطلاق وهل هو صريح أو كناية فيه خلاف ولا يبعد جريان مثل ذلك في العتق والنظر في هذا الفصل طويل ولعلنا نستوعبه في كتابنا الأشباه والنظائر فإن الشيخ صدر الدين ابن المرحل رحمه الله تعالى ذكر هذا في كتابه الأشباه والنظائر وكتابنا كالتهذيب لكتابه أتمه الله تعالى
قال الثالثة صيغ العقود كبعث إنشاء إذ لو كان إخبار وكان ماضيا أو حالا لم يقبل وإلا لم يقع وأيضا إن كذبت لم تعتبر وإن صدقت

فصدقها أما بها فيدور أو بغيرها وهو باطل إجماعا وأيضا لو قال للرجعية طلقتك لم يقع كما لو نوى الإخبار
صيغ العقود والفسوخ مثل بعت واشتريت وتزوجت وطلقت وفسخت ونحو ذلك لامرأته في أنها إخبارات عن أمور واقعة في الزمن الماضي وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار كما لو صدر البيع من إنسان ثم قال بعت مريدا إخبار عما صدر منه في الزمان الماضي أما إذا استعملت هذه الألفاظ لإحداث أحكام لم تكن قبلها فهل هي إخبارات باقية على وضعها اللغوي أم إنشاءات نقلها الشارع إلى إنشاءات المخصوصة ذهب الأكثرون إلى الثاني وهو ما قطع به المصنف
وقالت الحنفية إنها إخبارت عن ثبوت الأحكام فمعنى قولك بعت الإخبار عمار في قلبك فإن أصل البيع هو التراضي ووضعت لفظة بعت للدلالة على الرضا فكأنه أخبر بها عما في ضميره فيقدر وجودها قبيل اللفظ للضرورة وغاية ذلك أن يكون مجازا وهو أولى من النقل هذا تحرير مذهبهم فافهمه واستدل الأصحاب على كونه إنشاء بدلائل
أحدها أن اللفظ لو كان إخبارا لكان إما عن ماض أو حال أو مستقبل والأولان باطلان وإلا يلزم ألا يقبل الطلاق التعليق لأن التعليق توقف وجود الشيء على شيء آخر والماضي والحال قد وجدا فلا يقبله لكن اللازم منتف لقبوله التعليق إجمالا وإن كان عن مستقبل لم يقع لأن قوله طلقتك إذن بمنزلة قوله ستصيرين طالقا والطلاق لا يقع بذلك
وثانيها لو كانت هذه الصيغ إخبارات لكانت إما كاذبة أو صادقة فإن كانت كاذبة فلا اعتبار بها وإن كانت صادقة فصدقها إما أن يحصل بنفسها أي يتوقف حصوله على حصول الصيغة أو يحصل بغيرها إن كان الأول لزم الدور لأن كون الخبر صدقا وهو بعتك مثلا موقوف على الخبر عنه وهو وقوع البيع فلو توقف المخبر عنه وهو الوقوع وجود على المخبر وهو بعتك لزم الدور وإن كان الثاني وهو أن يحصل الصدق بغيرها فهو باطل بالإجماع منا ومنهم على عدم الوقوع عند عدم هذه الصيغة

وثالثهما ان الزوج لو قال لرجعيته في عدتها طلقتك ونوى الإخبار عما مضى لم يقع قطعا وإن لم ينو شيئا أو نوى الأشياء وقع بالاتفاق فلو كان إخبارا لم يقع كما نوى به الإخبار
فائدتان إحداهما قال القرافي في الفروق الإنشاء ينقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه فالجمع عليه أربعة أقسام
الأول نحو قولنا أقسم بالله لقد قدم زيد ونحوه فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع سيكون منه قسم في المستقبل فكان ينبغي ألا يلزمه كفارة بهذا القول لأنه وعد بالقسم لا قسم كقول القائل سأعطيك درهما لكن لما وقع الاتفاق على أنه بهذا اللفظ أقسم وأن موجب القسم يلزمه دل ذلك على أنه أنشأ به القسم لا أنه أخبر عن وقوعه في المستقبل وهذا أمر اتفق عليه في الجاهلية والإسلام ولذلك لا يحتمل التصديق والتكذيب ولا يدخله شيء من لوازم الخبر
قال ولذلك نقول فيه من أحاط به من فضلاء النحاة الخبر القسم جملة إنشائية يؤيد بها جملة خبرية
الثاني الأوامر والنواهي
الثالث الترجي والتمني والعرض مثل ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا
والتحضيض وصيغته أربع هلا وألا ولوما ولولا
الرابع النداء نحو يا زيد اختلف النحاة فيه هل فيه فعل مضمر تقديره أنادي زيدا أو الحرف وحده مفيدا للنداء
قلت وقد خطأ الإمام في التفسير الكبير في أوائل البقرة من فسر قولنا يا زيد أنادي زيدا من وجوه
منها أن أنادي زيدا خبر يحتمل التصديق والتكذيب ويا زيد لا يحتملها

ومنها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا منادى في الحال بخلاف أنادي زيدا
ومنها أن يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب بخلاف أنادي زيدا فإنه لا يمتنع أن يخبر إنسانا آخر بأني أنادي زيدا
ومنها أن أنادي زيدا إخبار عن النداء والإخبار عن النداء غير النداء والنداء هو قولنا يا زيد فإذا هو غيره
ولقائل أن يقول حاصل هذه الأوجه ترجع إلى يا زيد إنشاء وقولنا أنادي زيدا خبر ونحن نمنع أن قولنا أنادي زيدا الذي هو بمعنى يا زيد خبر وإنما هو إنشاء
نعم الخبر أنادي زيدا الذي ليس هو بهذا المعنى
قال القرافي وأما المختلف فيه هل هو إنشاء أو خبر فهو صيغ العقود كما تقدم
الثانية ذكر القرافي في التفرقة بين الإنشاء والإخبار وجوها
أحدها أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب ولا كذلك الإنشاء
والثاني أن الخبر تابع لثبوت مخبره في زمانه كيف ما كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا والإنشاء متبوع لمتعلقه فيترتب بعده
والثالث أن الإنشاء سبب لثبوت متعلقه الذي هو مسببه عقيب آخر حرف أو مع آخر حرف إلا أن يمنع مانع وليس الخبر سببا متعلقا بمخبره وإنما هو مظهر فقط
خاتمة قال القرافي في الفروق مما يتوهم أنه إنشاء وليس كذلك الظهار في قول القائل لامرأته أنت علي كظهر أمي يعتق الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله أنت طالق وأن البابين سواء في الإنشاء
قال وليس كذلك ثم أطال في الدلالة على أنه خبر واستند إلى قوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا

اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور
فكذبهم الله تعالى في ثلاثة مواطن بقوله ما هن أمهاتهم وأن قولهم منكر وأنه زور والإنشاء لا يدخله التصديق والتكذيب واعتضد أيضا بالإجماع على تحريم الظهار
قال ولا سبب لتحريمه إلا انه كذب وإنما يكون الكذب في الإخبار وأورد على نفسه الطلاق الثلاث حيث كان إنشاء مع كونه محرما وأجاب بأن المحرم إنما هو الجمع بين الطلقات الثلاث لا لفظ الطلاق وأمعن الكلام فيما حاوله والذي نقوله في ذلك إن القول القائل أنت علي كظهر أمي يحتمل أن يريد به الخبر المحض ويحتمل أن يريد به أن يجعلها كذلك والظاهر أن المراد الثاني وهو الإنشاء ولكن الشرع ألغي حكمه ولما ألغاه وكان مقصود الناطق به تحقيق معناه الخبري سماه الشرع زورا ويناظر هذا من بعض الوجوه
قوله أنت علي حرام قصد به إنشاء التحريم والشرع لم يرتب مقتضاه من الحرمة فهذان الإنشاءان لم يرتب الشرع عليهما مقتضاهما الذي قصده المتكلم بل جعل المرتب على الأول أنه إن عاد وجبت الكفارة وحرم الوطء حتى يكفر والمرتب على الثاني حكم اليمين من التكفير وغير هذين الإنشاءين من الطلاق والبيع والنكاح ونحو ذلك إذا أنشأه المكلف رتب الشرع عليه المقتضى الذي اقتضاه كلام المكلف فصارت الإنشاءات على قسمين
أحدهما ما اعتبره الشرع وأذن فيه فيفيد كما أراده المنشيء ويترتب عليه حكمه
والثاني ما لم يأذن فيه الشرع ولم يعتبره ولكن رتب عليه حكما آخر وهو الظهار والتحريم
قال والذي أيده الله تعالى وينبغي أن يسمى هذا الإنشاء الثاني باطلا

وأما الإنشاء الأول فإن وقع شروطه الشرعية فصحيح وإلا فهو باطل أو فاسد والباطل لا يترتب عليه أثر أصلا بخلاف الباطل في القسم الثاني وهو الظهار والتحريم حيث ترتب عليهما حكم شرعي لأن البطلان فيهما لإلغاء الشارع إياهما لا لفوات شروط ووجود مفسد والبطلان في البيع والنكاح وغيرهما إما لفوات شرط أو لوجود مفسد
قال الثانية المجاز إما في المفرد مثل الأسد للشجاع أو في المركب مثل ... أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشى ...
أو فيما نحو أحياني اكتحالي بطلعتك
لما تناهى القول في الحقيقة شرع في المجاز
والشرح أن المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في تركيبها أو فيهما جميعا والأول كإطلاق الأسد على الشجاع والثاني كقوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وأخرجت الأرض أثقالها
ويسمى هذا النوع بالمجاز المركب والإسنادي والعقلي ومثل له في الكتاب بقول الشاعر ... أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشى ...
...
فإن مفردات هذا النوع من المجاز كلها مستعملة في موضوعاتها وإنما التجوز في إسناد بعضها إلى بعض وذلك حكم عقلي ألا ترى أن أشاب والصغير مستعملان في موضوعيهما وكذلك أفنى والكبير لكن إسناد أشاب وأفنى إلى

كر الغداة ومر العشي هو الذي وقع فيه التجوز لكونهما مسندين إلى الله تعالى في نفس الأمر ومثله أنبئت الربيع البقل
والضابط فيه أنك متى نسبت إلى ما ليس بمنسوب إليه لذاته بضرب من الملاحظة بين الإسنادين كان ذلك مجازا في التركيب وخرج بهذا القيد الأخير قول الدهري أنبت الربيع البقل إذ ذلك ليس عنده لضرب من الكلابسة بل هو أصلي عنده منتسب إلى من ينتسب إليه حقيقة ولهذا اخترنا التمثيل لهذا النوع بآي الكتاب العزيز فإن الإثبات الذي يذكر والأمثلة التي تورد جاز أن يكون قائلهما دهريا على أن البيت المذكور في الكتاب للصلتان العبدي وهو مسلم في قصدته التي هذا البيت منها ما يدل على ذلك وبهذا القيد ينفصل عنه الكذب أيضا لأن الكاذب لم يسند الأثر إلى ما أسنده لمشابهة ذلك الإسناد إسنادا آخر الذي هو أصلي بل إما لأنه أصلي عنده أو وإن لم يكن كذلك إلا أنه لم يلاحظ الملاحظة والملاحظة قد تكون بأن يختص الشيء بأثر يوجد الأثر عند وجوده وينعدم عند عدمه وهو غير صادر عنه لكن الله تعالى أجرى العادة بأن يوجد الأثر عند وجوده ويعدمه عند عدمه كنبات البقل مع الربيع أو بأن يوجد وإن لم ينعدم عند عدمه كالهلاك مع أكل السم في قولهم أهلكه السم أو بأن يكون الشيء سبب التسبب كقولهم كسا الخليفة الكعبة وما أشبه ذلك
وذهب ابن الحاجب إلى إنكار المجاز في التركيب وهو شاذ
والثالث وهو أن يقع المجاز فيها جميعا كقول القائل لمن سرته رؤيته أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحيا في السرور والاكتحال في الرؤية وذلك مجاز ثم أسند الإحيا إلى الاكتحال مع أن المحيي هو الله تعالى
هذا شرح ما في الكتاب ولك هنا مناقشات
أحدها على التمثيل بالبيت الذي ذكره من جهة أنه إنما يصلح مثالا للقسم الثالث لأن المراد بالصغير من تقدم له الصغير

وثانيهما أن هذا التقسيم إنما يصح عند من يقول إن المركبات موضوعة وقد اضطرب رأى المصنف في ذلك في هذا الكتاب
وثالثهما في تعبيره بالمركب فإن الصواب التعبير بالتركيب وذلك لأنك إذا قلت هلك الأسد تريد أن الشجاع مرض مرضا شديدا فهذا المجاز واقع في المركب لا في النسبة وليس هذا هو المراد بل كل مجاز في غير النسبة فهو مركب فإن الأسد مع قولك رأيت في قولك رأيت الأسد مركب لانضمام غيره إليه وهذا الإيراد إذا انقدح على التعبير بالمركب لدخوله فيه ورد على التعبير بالمفرد لخروجه منه
قال ومنعه ابن داود في القرآن والحديث لنا قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض
قال فيه إلباس قلنا لا إلباس مع القرينة
قال لا يقال لله تعالى إنه متجوز
قلنا لعدم الإذن أو لإيهامه الاتساع فيما لا ينبغي
اختلف أهل العلم في وقوع المجاز في اللغة العربية على مذاهب
أحدها وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني المنع مطلقا
قال إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي والظن بالأستاذ أنه لا يصح عنه وفيما علقه من خط ابن الصلاح أن أبا القاسم ابن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكار المجاز كما هو المحكي عن الأستاذ
والثاني أنه غير واقع في القرآن وواقع في غيره وإليه ذهب بعض الحنابلة

وطائفة من الرفضة وحكى عن بعض المالكية وأما أبو بكر بن داود الأصفهاني الظاهري فالمشهور عنه أنه منع وقوعه في القرآن خاصة كما هو رأى هؤلاء وحكى عنه الإمام وشيعته منهم المصنف اختيار المنع في القرآن والحديث
وعلى هذا في المسألة أقوال أربعة
المنع مطلقا المنع في القرآن وحده المنع في القرآن والحديث دون ما عداهما والرابع أنه واقع مطلقا والحديث وغيرهما وعليه جماهير العلماء سلفا وخلفا
والمصنف استدل على وقوعه في القرآن ليدل على ما عداه بطريق أولى وقد وقع المجاز في مواضع عديدة من الكتاب العزيز وصنف شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام في ذلك مصنفا حافلا اكتفى المصنف بذكر قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض ووجه الحجة أن الإرادة هي الميل مع الشعور وهي ممتنعة في الجدار لكونه جمادا وقد أضافها إليه وأراد بذلك الإشراف على الوقوع وهو مجاز
فإن قلت لا نسلم امتناع قيام الإرادة بالجدار لقدرة الله تعالى على خلق العلم والقدرة فيه
قلت هذا من خرق العادات التي لا يكون إلا في زمن النبوة لقصد التحدي لا في عموم الأوقات وهذا لم يكن للتحدي
قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع واستدل أبو العباس بن سريج على أبي بكر بن داود بقوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات فقال

الصلوات لا تهدم وإنما أراد به مواضع الصلوات وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه
قال فلم يكن له عنه جواب ومن أنصف من نفسه ونفى العصبية عن كلامه أقر بأن القرآن مشحون بالمجاز وكيف لا وهو من توابع العصابة وبدائع كلمات العرب ولا يخلو القرآن من ذلك
وقد قال القاضي في مختصر التقريب يلزم من إثبات المجاز في اللغة إثباته في القرآن
واحتج ابن داود رحمه الله على مذهبه بوجهين
أحدهما أن المجاز لا يدل بمجرده لعدم وضعه له فلو ورد في القرآن لأدى إلى الإلباس وهو لا يقع من الله تعالى وأجاب في الكتاب بأن الإلباس ينتفي مع القرينة فإن قلت إذا كان مع القرينة ففيه تطويل قلت التطويل لا ينفي إلا كونه على خلاف الأصل ونحن مقرون بذلك نعم لقائل أن يقول هذا الجواب يقتضي أن المجاز لا يقع في القرآن إلا مع القرينة
وثانيهما أنه لو جاز وقوع المجاز في القرآن لجاز أن يطلق على الله أنه متجوز لأن المتجوز من يتكلم بالمجاز وأجاب بوجهين
أحدهما إن أسماء الله تعالى توقيفية عنه لا بد في إطلاقها من ورود الإذن وهذا لم يرد به إذن فلا نطلقه عليه
والثاني سلمنا أن أسماءه تعالى دائرة مع المعني لكن شرطه ألا يوهم نقصا وما نحن فيه يوهم النقص لأن التجوز يوهم تعاطي ما لا ينبغي لأنه مشتق من الجواز وهو التعدي وأما من أنكر المجاز في اللغة مطلقا فليس مراده أن العرب لم تنطق بمثل قولك للشجاع أنه أسد فإن ذلك مكابرة وعناد ولكن هو دائر بين أمرين
أحدهما أن يدعي أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ يطلق

الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك وإن أراد بذلك استواء الكل في أصل الوضع
قال القاضي في مختصر التقريب فهذه مزاحمة للحقائق فإنا نعلم أن العرب ما وضعت اسم الحمار للبليد ولو قيل البليد حمار على الحقيقة كالدابة المعهودة وإن تناول الاسم لهما متساو في الوضع فهذا دنو من جحد الضرورة
قال وكذلك من زعم أن الجدار له إرادة حقيقية تمسكا بقوله تعالى جدارا يريد أن ينقض عد ذلك من مستشنع الكلام
قال الثالثة شرط المجاز العلاقة المعتبر نوعها السببية القابلية مثل سال الوادي والصورية كتسمية اليد قدرة والفاعلية مثل نزل السحاب والغائية كتسمية العنب خمرا
لا بد في التجوز من لفظ الحقيقة إلى المجاز من علاقة بينهما ولا يكتفي بمجرد الاشتراك في أمر ما من الأمور والجار إطلاق اسم كل شيء على ما عداه لأنه ما من شيء إلا ويشارك كل ما عداه في أمر من الأمور بل لا بد من المناسبة والمشاركة في أمر خاص ظاهر وهل يكفي وجود تلك العلاقة في التجوز أم لا بد من اعتبار العرب لها أي بأن تستعملها فيه واختلفوا فيه على مذهبين
اختار الإمام والمصنف أنه لا بد من ذلك وهذا ما أشار إليه بقوله المعتبر نوعها وصحح ابن الحاجب أنه لا يشترط ذلك والخلاف إنما هو في الأنواع لا في جزئيات النوع الواحد وإن أوهمه كلام بعضهم فالقائل بالاشتراط يقول لابد وأن تتجوز العرب بالتسبب عن المسبب مثلا وخصمه يقول يكفي وجود العلاقة وهذا معنى قول المصنف نوعها ومما ننبه عليه قبل الخوض في مقدارها أنا إذا أوردنا مثالا لجهة من الجهات للتجوز فلسنا قاضين عليه بأنه لا يشتمل على جهة أخرى من جهات التجوز بل يجوز اجتماع جهتين وثلاثة فلا نفهم من قولنا مثال الجهة الفلانية كذا الاختصاص بتلك الجهة بل شرطه أن يشتمل على تلك الجهة مع قطع النظر عن غيرها من الجهات وإن كان مشتملا على جهة أخرى فإنما لم ننبه عليها لأنا نذكر لها مثالا آخر

الجهة الأولى السببية وهي إطلاق اسم السبب على المسبب وإن شئت قلت العلة على المعلول وهي أربعة أقسام قابلية وقد يقال لهذا القسم مادة وعنصرا وصورية وفاعلية وغائية
أعلم أن كل متكون في الوجود لا بد له من هذه الأسباب الأربعة نحو السرير مادته الخشب والحديد وفاعله النجار وصورته الانسطاح وغايته الاضطجاع عليه فسميت الثلاثة أسبابا لتأثيرها في الإضطجاع فلولا الخشب والحديد ما تماسك ولولا الفاعل ما ترتب ولولا الانسطاح لما تأتي عليه الاضطجاع وسمى الرابع سببا لأنه الباعث على هذه الثلاثة فلولا استشعار النفس راحة الاضطجاع لما وقع في الوجود هذه الثلاثة وهو معنى قولهم أول الفكر آخر العمل ومعنى قولهم العلة الغائية علة العلل الثلاثة في الأذهان ومعلولة العلل الثلاثة في الأعيان
فإن قلت ما وجه انحصار الأسباب في هذه الأربعة
قلت لما كان السبب هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء انحصرت في هذه الأقسام لأنه لا يخلو إما أن يكون داخلا في ذلك الشيء أو خارجا
والأول إما أن يكون الشيء معه بالقوة وهو القابل أو بالفعل وهو الصورة العارضة له بعد التركيب
والثاني إما أن يكون مؤثرا في وجود ذلك الشيء وهو الفاعل كالنجار أو لا يكون وهو الغاية الحاملة للمؤثر على التأثير أي الجلوس على السرير
مثال الأول وهو تسميته الشيء باسم سببه القابلي قولهم سال الوادي أي ماء الوادي فعبروا عن الماء السائل بالوادي لأن الوادي سبب قابل له إطلاقا لاسم السبب على المسبب هكذا مثل به الإمام وأتباعه منهم المصنف وفيه نظر فإن الوادي ليس جزءا للماء فلا يكون سببا قابلا له والمادي في اصطلاحهم جنس ماهية الشيء كما عرفت في الخشب مع السرير
مثال الثاني وهو تسمية الشيء باسم سببه الصوري إطلاق اليد على

القدرة كما في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم أي قدرة الله فوق قدرتهم فإن اليد صورة خاصة يتأتى بها الاقتدار على الشيء فشكلها مع الاقتدار كشكل السرير مع الاضطجاع وهو سبب صوري فتكون اليد كذلك فإطلاقها على القدرة إطلاق لاسم السبب الصوري على المسبب
وإذا تأملت هذا فاعلم أن المثال انعكس على الإمام وأتباعه إلا الشيخ صفي الدين الهندي فقالوا ومنهم المصنف كتسميته اليد قدرة والصواب كتسمية القدرة يدا وكذا وقع في الآية الكريمة
مثال الثالث وهو تسمية الشيء باسم سببه الفاعل قولهم نزل السحاب أي المطر فإن السحاب في العرف سبب فاعلي في المطر كما تقول النار تحرق الثوب
مثال الرابع وهو تسمية الشيء باسم سببه الغائي تسميتهم العنب بالخمر كما في قوله تعالى حكاية إني أراني أعصر خمرا فأطلق العنب على الخمر لأن الخمر غاية مقصودة من زراعة العنب وعصره عند بعض الناس
قال والمسببية كتسمية المرض المهلك بالموت والأول أولى للالتزام على التعيين ومنها الغائية لأنها علة في الذهن ومعلولة في الخارج
العلاقة الثانية المسببية وهي إطلاق اسم المسبب على السبب مثل تسميتهم المرض المهلك موتا لأن الله تعالى جعل المرض الشديد في العادة سببا للموت وهنا بحثان أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن التجوز بلفظ السبب عن المسبب أولى من العكس لأن السبب المعين يستدعي مسببا معينا والمسبب المعين لا يستدعي سببا معينا بل سببا ما ألا ترى أن اللمس يدل على انتقاض الوضوء وانتقاض الوضوء لا يدل على اللمس لجواز أن يكون بمس أو بول أو غيرهما فلما كان فهم المسبب من السبب أسرع كان التجوز به في حالة الإطلاق أولى ولقائل أن يقول

هذا واضح على رأي من يجوز تعليل المعلولين المتماثلين بعلتين مختلفتين لأن العلم بالمعلول حينئذ لا يستلزم العلم بالعلة وأما العلم بالعلة المعينة فإنه يستلزم العلم بالمعلول المعين وأما من لم يجوز ذلك فقد يمنع هذا البحث
الثاني قد عرفت انقسام العلة الأولى إلى أربع علل وأولاها العلة الغائية وهذا معنى قول المصنف ومنها الغائية أي وأولى منها الغائية لأنها حال كونها ذهنية علة العلل وحال كونها خارجية معلول العلل فقد حصل لها علاتنا العلية والمعلولية وكل واحدة منهما على تحسن التجوز
قال والمشابهة كالأسد للشجاع والمنقوش ويسمى الاستعارة
العلاقة الثانية المشابهة وهي تسمية الشيء باسم شبيهه إما في صفة ظاهرة خاصة بمحل الحقيقة كإطلاق اسم الأسد على الشجاع والحمار على البليد وإما في الصورة كإطلاق إسم الأسد أو الفرس مثلا على المنقوش المصور في الحائط بصورته قوله وتسمى الاستعارة هذا يحتمل أن يعود إلى المنقوش وحده أي ويخص المنقوش الذي الذي هو أحد قسمي المشابهة بتسميته بالاستعارة وهذا لم نر أحدا ذكره ويحتمل أن يعود إلى المشابهة أي أن مجاز المشابهة مسمى بالمستعار
وأما الإمام فإنه قال إن المسمى بالإستعارة ليس إلا المشابه المعنوي كتسمية الشجاع أسدا وتبعه عليه صفي الدين الهندي وعلى كل حال فالاستعارة بهذا الاصطلاح أخص من المجاز لأنها مختصة ببعض أنواعه وقيل هما متساويان لأن اللفظ إذا وضع لمعنى يستحقه ذلك المعنى بسبب الوضع فيكون استعماله في غيره على وجه العارية
قال والمضادة وهي تسمية الشيء باسم ضده مثل قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها أطلق على الجزاء سيئة مع أنه ليس بسيئة ومثل قوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
قال الإمام ويمكن جعل هذا من مجاز المشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة بالنسبة إلى من وصل إليه ذلك الجزاء ومن أمثلته الفصل تسميتهم

البرية المهلكة بالمفازة تفاؤلا واستعمالهم صيغة الدعاء على الإنسان بمعنى الدعاء له مثل فولهم قاتله الله ما أحسن ما قال ومن هذا قوله صلى الله عليه و سلم عليك بذات الدين تربت يداك عند من يقول المقصود بها الدعاء له وبعضهم يقول إن لم تظفر بذات الدين سلبت البركة فافتقرت بذلك كذا حكاه الروياني في أوائل كتاب النكاح من البحر
وحكى عن ابن شهاب الزهري قولا ثالثا وهو جعل اللفظ على حقيقته وأنه إنما قال ذلك لأنه رأى الفقر خيرا له من الغنى
قال والكلية كالقرآن لبعضه
العلاقة الخامسة الكلية وهي إطلاق اسم الكل على الجزء ومثل له الإمام باطلاق لفظ العام وإرادة الخاص وفيه نظر لأن دلالة العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء وتحقيق هذا يتلقى من فاتحة كتاب العموم والخصوص من هذا الشرح وسننتهي إليه إن شاء الله تعالى والمصنف مثل له بإطلاق لفظ القرآن على بعضه وليس بجيد أيضا لأن القرآن من الألفاظ المتواطئة يطلق بالحقيقة على كله وعلى بعضه عند التجرد من الألف واللام وعند الاقتران بها إذا أريد بها مطلق الماهية ويطلق على ما يراد منه إذا اقترن بالألف واللام وأريد بها معهود إما كله وإما بعضه فإن اقترن بالألف واللام ولم يكن معهودا ولا أريد مطلق الماهية كانت الألف واللام للعموم فيحمل على جميع القرآن لأنه جميع ما يصلح له اللفظ لأن لفظ القرآن لم يطلق على غير الكتاب العزيز بالحقيقة
فإن قلت لو كان لفظ القرآن من الألفاظ المتواطئة لحنث الحالف على ألا يقرأ القرآن بقراءة بعضه كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل يحنث بقليله وكثيره وقد ذكرتم في الحقيقة الشرعية المنصوص يقتضي خلاف ذلك
قلت ليس هذا كالحالف على ألا يشرب الماء والعسل وغير ذلك من

الألفاظ المتواطئة حيث يحنث فيها بالبعض لأن تلك الحقائق أفرادها كثيرة لا تتناهى فلا يمكن الحمل فيها على العموم بخلاف لفظ القرآن فإن أفراده سور القرآن وآياته والحمل على العموم فيها ممكن فوجب المصير إليه عند عدم العهد لما قدمنا من أنه لم يطلق على غير الكتاب العزيز وإذا تقرر هذا فنقول كان الأحسن أن يمثل لهذا النوع من المجاز بقوله تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم أي أناملهم
قال والجزئية كالأسود للزنجي والأول أقوى للاستلزام
العلاقة السادسة الجزئية وهي إطلاق الجزء وإرادة الكل كقولهم للزنجي أسود ليس كله أسود ألا ترى إلى بياض عينيه وأسنانه فيكون إطلاق الأسود على المجموع المركب من أعضائه ومن الجلد وغيره من باب إطلاق اسم الجزء على الكل هكذا مثل به في الكتاب تبعا للإمام ولقائل أن يقول إطلاق الأسود على الزنجي إنما يكون مجازا أن لو كان المراد به وصف جميع أعضائه بالسواد وليس كذلك بل مفهوم الأسود من قام السواد بظاهر جلده فقط لا جميع أعضائه حتى العينين والأسنان لأن ما ثبت له المشتق شيء له المشتق منه وذلك أعم من كونه ثابتا لكله أو بعضه كما يقول لمكسور إحدى الرجلين أعرج والأولى أن يمثل لهذا النوع بقولهم فلأن يملك كذا رأسا من الغنم أو ذبح كذا رأسا من البقر
قوله والأولى أي إذا تعارض القسم الخامس والسادس فالأول الذي هو الخامس أولى من السادس لأن الكل مستلزم للخبر والجزء لا يستلزم الكل فكانت دلالة الأول أقوى لذلك
قال والاستعداد كالمسكر للخمر في الدن
العلاقة السابعة الاستعداد وهي تسمية الشيء المستعد لأمر باسم ذلك الأمر مثل تسميته الخمر حال كونه في الدن بالمسكر ولقائل أن يقول إذا كان الخمسة اسما لما خامر العقل فلا يصدق حقيقة إلا حال مخامرته المعقل وهي حالة الإسكار فيكون إطلاق الخمر على عصير العنب المودع في الدن مجاز

استعداد ويكون التمثيل بإطلاق الخمر على هذا العصير لا بإطلاق المسكر على الخمر وقد يمثل أيضا بإطلاق الكاتب على العارف بالكتابة عند مباشرته لها وكذا استعمال كل مشتق باعتبار الاستقبال
قال والمجاورة كالرواية للقربة
العلاقة الثامنة المجاوره وهي تسمية الشيء باسم ما يجاوره كإطلاق لفظ الرواية على القربة التي هي طرفا للماء فإن الرواية في اللغة اسم للجمل والبغل والحمار الذي يستقى عليه كما قاله الجوهري وأنشد لأبي النجم ... تمشي من الردة مشي الحفل ... مشي الروايا بالمزاد الأثقل ...
ثم إنه أطلق على القربة لمجاورتها له
قال وتسمية الشيء باسم ما كان عليه كالعبد
هذه العلاقة وهي التاسعة ساقطة في كثير من النسخ لتقدمها في كلام المصنف في فصل الاشتقاق وحاصلها أن من المجازات تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه كتسمية العبد الذي عتق بالعبد وتسمية من ضرب بعد انقضاء الضرب بالضارب على ما تقدم البحث فيه
قال والزيادة والنقصان مثل ليس كمثله شيء وأسأل القرية
العلاقة العاشرة الزيادة وهو أن يكون الكلام ينتظم بإسقاط شيء منه فيحكم بزيادة ذلك الشيء ومثاله قوله تعالى ليس كمثله شيء
فإن الكاف زائدة والتقدير ليس كمثله شيء والدليل على أنها زائدة أنه لو لم تكن كذلك لكنا التقدير ليس مثل مثله أن الكاف بمعنى مثل فيكون له تعالى مثل وهو محال والغرض بالكلام نفيه وقد اعترض الناس على هذا التمثيل بأن الكاف في قوله ليس كمثله شيء غير زائدة وأجابوا عما ذكره بأجوبة عدة استحسن الأذكياء منها جواب من قال لا نسلم أن قوله ليس كمثله شيء

المراد منه نفي المثل بل هو محمول على حقيقته وهو نفي مثل مثله ويلزم من نفي مثل المثل نفي المثل ضرورة أن مثل المثل مثل إذ المماثلة لا تتحقق إلا من الجانبين فمتى كان زيد مثلا لعمرو كان عمرو مثلا له وقد نفى المثل وأورد على هذا الجواب وجهان
أحدهما أن يلزم ألا يكون النص مقيدا لنفي المثل ما لم يضم إليه هذه المقدمة والأمة قد عقلت منه نفي المثل بدونها
وأجاب عنه صفي الدين الهندي بمنع أن الأمة بأسرها عقلت منه ذلك من غير اعتبار تلك المقدمة
قال وكيف يقال ذلك وفي الأمة من ينكر أن يكون في كلام الله مجاز ومنهم من ينكر أن يكون فيه زيادة لا معنى لها ولا يمكن حمل الآية على نفي المثل إلا بعد الاعتراف بهذين الأصلين جاز أن يفهموا نفي المثل على سبيل الاستقلال وجاز أن يفهموا ذلك منه بواسطة ما ذكرنا من المقدمة
والثاني أنه إن كان قد نفى مثل المثل والذات من جملة مثل المثل لزم أن يكون الذات منفية وهو أقوى الإيرادين
وأجاب بعضهم عن هذا بأن الذات لما كانت ثابتة قطعا بالبرهان القاطع الخارجي نفي ما عداهما منفيا وذكر القرافي في الجواب أنه إنما يلزم نفي الذات من جهة أنه مثل فإنها بقيد المثلية أخص منها من حيث هي ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فهذا النفي حق ولا يلزم نفي واجب الوجود ثم إن القرافي اعترض على هذا الجواب بما لانطيل بذكره والتحقيق أن الجوابين خارجان عن صواب التحقيق وإنما الجواب الدقيق الذي ليس بعده شيء ما قرره لنا غير مرة والدي أطال الله بقاه فقال تقدير الكلام ليس شيء كمثله فشيء اسم ليس وهو المبتدأ وكمثله الخبر فالشيء الذي هو موضوع نفى عنه المثل الذي هو محمول فهو منفي عنه لا منفى فيكون ثابتا فلا يلزم أن تكون الذات المقدسة منفية وإنما المنفي مثل مثلها ولازمه نفي مثلها وكلاهما منفي عنها والله أعلم

العلاقة الحادية عشر النقصان أي المجاز بالنقصان في اللفظ مثل قوله تعالى واسأل القرية تقديره واسأل أهل القرية إذ القرية عبارة عن الأبنية وهي لا تسأل ولقائل أن يقول يحتمل أن الله خلق في القرية قدرة الكلام ويكون ذلك معجزة لذلك النبي ويبقى اللفظ على حقيقته لا يقال الأصل عدم هذا الاحتمال لأنا نقول هذا معارض بأن الأصل عدم المجاز على أن هذا كله مفرع على أن القرية اسم للأبنية المجتمعة
أما إن قلنا إنها مشتركة بينها وبين الناس المجتمعين إما باشتراك لفظي أو معنوي فلاستدلال ساقط بالكلية ثم الذي يدل على أن القرية حقيقة في الناس المجتمعين أيضا قوله تعالى وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ولأن القرية مشتقة من القرء وهو الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته ومنه القراء وهو الضيافة لاجتماع الناس لها وهذا كله حركة البحث والنظر
والأول هو المرتضى أعني أن المراد سؤال أهل القرية كيف والشافعي رضي الله عنه قد نص عليه في الرسالة ونقله عن أهل العلم باللسان وسمى هذه الآية وأمثالها بالصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره فقال ما نصه باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره
قال الشافعي قال الله جل ثناؤه وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون فهذه الآية في معنى الآيات قبلها لا يختلف أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم انتهى وهنا مباحثتان
أحداهما أن العادين لهذين النوعين العاشر والحادي عشر ذكروه في

المجاز الإفرادي وكيف يكون ذلك في مجاز النقصان والمجاز في المفرد هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأول والمحذوف لم يستعمل البتة والمجاز بالزيادة كذلك لأن الزائد لم يستعمل البتة في شيء وهذا السؤال قد شاع وذاع وأجاب عنه والدي رحمه الله بأن هذا لفظ مستعمل في غير ما وضع له فصدق عليه تعريف المجاز الإفرادي
قال وذلك لأن قوله واسأل القرية موضوع لسؤالها مستعمل في سؤال أهلها فكان مجازا وليس هو مجاز في التركيب فإن مجاز التركيب مثل قولك أنبت الربيع البقل لفظ مستعمل في مقتضاه إسناد الإنبات إلى البقل ولكنا علمنا بالعقل أنه ليس كذلك وإنما هو من الله تعالى فقلنا إنه مجاز عقلي ولم ترد بقولنا المجاز بالزيادة والنقصان أن اللفظة الزائدة وحدها أو الناقصة وحدها مجاز ومن تأمل قول الإسلام في قوله تعالى واسأل القرية وفي قوله ليس كمثله شيء فهم ذلك ولا يقال إنه حينئذ يصير مجازا في التركيب لأنا لا نعني بمجاز التركيب إلا إسناد الفعل إلى الفاعل وهو الذي يكون الإسناد فيه من جهة الموضوع اللغوي صحيحا وإنما جاء المجاز من جهة العقل حتى لو فرض هذا الكلام من كافر يعتقد حقيقته لم يكن مجازا وهذا جواب نفيس
الثانية أن الأمام عد المجاز بالزيادة والمجاز بالنقصان مع تغايرهما وتقابلهما نوعا واحدا وبه أشعرت عبارة الكتاب وعليه جرى سائر أتباع الإمام إلا الشيخ صفي الدين الهندي فإنه عدهما نوعين كسائر المحققين وقد يعتذر عن الإمام بأنه لما كان مدار الأمر في هذين المجازين على شيء واحد وهو أن تستفيد الكلمة حركة لأجل إثبات مزيد مستغنى عنه أوحذف شيء لا بد منه جعلا نوعا واحدا لأن الكلمة نقلت عن حكم كان لها إلى حكم آخر لم يكن لها في الأصل وذلك كان في وضعها بالمجاز كما أنها توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي إلى معنى آخر وبيان انتقالها عما كان لها من الحكم إلى غيره أن المثل في قوله ليس كمثله شيء الجر بزيادة الكاف وكان حكمه في الأصل النصب فالجر فيه مجاز والقرية في قوله واسأل القرية اكتسبت النصب

لأجل حذف المضاف وإقامتها مقامه وكان واجبها في الأصل الجر فالنصب فيه مجاز وقد يلوح من هذا التقرير وجه عد هذين النوعين من مجاز الأفراد ويقال المجاز إنما وقع في الجر والنصب بسبب الزيادة والنقصان ولكن هذا بعيد ومع الجواب المتقدم لا يحتاج إلى التشنيع بمثل هذه التخيلات
قال والتعلق كالخلق للمخلوق
العلاقة الثانية عشر التعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول أو اسم الفاعل ويدخل منه أقسام
أحدها إطلاق اسم المصدر على المفعول كقوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر أي مخلوق آخر هذا خلق الله أي مخلوق الله كتاب كريم أي مكتوب وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب
وثانيها عكسه ومنه قوله تعالى بأيكم المفتون أي الفتنة وهذا على رأي من يقدر المصدر وأما من يقول الباء زائدة والتقدير أيكم المفتون فلا يصح له التمثيل له
وثالثها إطلاق إسم الفاعل على المفعول نحو من ماء دافق أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية
ورابعها عكسه مثل قوله تعالى حجابا مستورا أي ساترا وقوله إن كان وعده مأتيا أي آتيا
وخامسها إطلاق المصدر على اسم الفاعل نحو قولهم رجل عدل أي عادل وصوم أي صائم ومنهم من يقول التقدير ذو عدل وذو صوم فعلى هذا يكون من مجاز الحذف لا مما نحن فيه
وسادسها عكسه مثل قم قائما أي قياما واسكت ساكتا أي سكوتا وقد نجز شرح ما أورده المصنف من العلاقات وهي وإن كانت اثنتي عشر علاقة فهي أيضا في الحقيقة اثنان وعشرون قسما لأن العلاقة السببية

مشتملة على أربعة أقسام والمشابهة كما تقدم والاستعداد أيضا على قسمين لأن المستعد للشيء تارة يكون ذلك الشيء قريبا منه كالإسكار بالنسبة إلى العقار في الدن وتارة يكون بعيدا كتسمية الطفل بالكاتب والعالم ولا يخفى أن القريب أولى من البعيد عند التعارض والتعلق على ستة أقسام وأنت قريب العهد به ولتوصل الأقسام إلى ستة وثلاثين فنقول الثالث والعشرون اسم اللازم على الملزوم كالمس على الجماع الرابع والعشرين عكسه كقوله تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم أي يدل والدلالة لازم من لوازم الكلام الخامس والعشرون تسمية الحال باسم المحل كتسميته الخارج المستقذر بالغائط ومنه لا فض فوك أي أسنانك السادس والعشرين عكسه كقوله وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون أي في الجنة لأنها محل رحمته السابع والعشرون تسمية البدل باسم المبدل مثل يأكلن كل ليلة إكافا أي ثمن إكاف الثامن والعشرين عكسه كتسمية الأداء بالقضاء في قوله فإذا قضيتم الصلاة أي أديتم التاسع والعشرين إطلاق المنكر وإرادة المعين مثل أن تذبحوا بقرة عند من يقول كانت معينة الثلاثون عكسه مثل ادخلوا الباب سجدا عند من زعم أن المأمور به دخول أي باب كان الحادي والثلاثون إطلاق النكرة وإرادة الجنس مثل قوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت الثاني والثلاثون إطلاق الموت باللام وإرادة الجنس مثل الرجل خير من المرأة والدينار خير من الدرهم الثالث والثلاثون إطلاق اسم المقيد على المطلق كقول شريح القاضي أصبحت ونصف الناس على غضبان فإنه أراد بالنصف البعض المطلق لا المقيد بالتعديل والتسوية ومنه قول الشاعر ... إذا مت كان الناس نصفين ... شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع

الرابع والثلاثون عكسه كقوله تعالى فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا عند من يقول المراد بها رقبة مؤمنة وهذا غير إطلاق المنكر وإرادة المعرف لأن المطلق غير المنكر نعم قد يقال إن المطلق من حيث كونه جزءا للمقيد مذكور فيما تقدم من إطلاق الجزء على الكل
الخامس والثلاثون إطلاق آلة الشيء على الشيء كإطلاق اللسان على الكلام أو الذكر كما في قوله تعالى واختلاف ألسنتكم وقوله واجعل لي لسان صدق في الآخرين وكما يقال كتب العلم كيت وكيت وقد يقال برجوع ذلك إلى إطلاق اسم المحل على الحال والتحقيق أنه غيره لأن آلة الشيء قد تكون محلا له وقد لا تكون
السادس والثلاثون تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كتسمية المريض ميتا في قوله صلى الله عليه و سلم اقرءوا على موتاكم يس ومنه إني أراني أعصر خمرا وهذا غير القسم الذي تقدم في كلام المصنف أعني مجاز الاستعداد لأن المستمد للشيء قد لا يؤول إليه بل هو مستعد له ولغيره كما أن القصير قد لا يؤول إلى الحمزية وإن كان مستعدا لها ولغيرها وابن الحاجب عبر عن مجاز الاستعداد بتسمية الشيء باسم ما يؤول إليه بدليل أنه مثل ب بالخمر وذلك يوهم اتحاد القسمين وكذلك الإمام فإنه عبر بتسمية إمكان الشيء باسم

وجوده والحق افتراق القسمين والناظر إذا أمعن نظره في جزئيات هذه الأقسام ونظر إلى تفاوتها حصل على عدد كثير وفيما ذكرناه كفاية
قال الرابعة المجاز بالذات لا يكون في الحرف لعدم الإفادة والفعل المشتق لأنهما يتبعان الأصول والعلم لأنه لم ينقل لعلاقة
المجاز الواقع في الكلام قد يكون بالذات أي بالأصالة وقد يكون بالتبعية فالمجاز بالذات لا يدخل في أشياء
أحدها الحرف وذلك لأن مفهومه غير مستقل بنفسه بل ولا بد وأن يضم إلى شيء آخر ليحصل الفائدة
قال الإمام فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه كان حقيقة وإلا فهم مجاز في التركيب لا في المفرد وقد اعترض عليه النقشواني بأن الحرف له مسمى في الجملة إذ ما ليس له مسمى فهو مهمل والكلام في اللفظ الموضوع وإذا كان له مسمى واستعمل في موضوعه الأصلي كان حقيقة سواء كان الاستعمال عند ضمه إلى غيره أو عند عدم الضم فإن الاستعمال أعم منها وقد ذكر في حد الحقيقة هذا القدر فكان حقيقة وأما إذا استعمله في غير موضوعه لعلاقة كان مجازا من غير تفاوت
قال وأقرب مثال لذلك قوله تعالى ولأصلينكم في جذوع فإن الصلب مستعمل في موضوعه الأصلي وكذلك جذوع النخل ولم يقع المجاز إلا في حرف في فإنها للظرفية في الأصل وقد استعملت هنا لغير الظرفية
قال وأيضا لو لم يدخل المجاز في الحرف بالذات لما دخلت فيه الحقيقة بالذات ولو كان كذلك لما صح ماذكره في باب تفسير الحروف بيان الملازمة أنه لو تعذر دخول المجاز لكون الحرف غير مستقل فهو كما لا يفيد المعنى المجازي بالاستقلال لا يفيد المعنى الحقيقي بالاستقلال فإذا أوجب ذلك عدم دخول المجاز في الحرف وحده أوجب عدم دخول الحقيقة
قال ثم نقول ما الدليل على أنه إن ضم إلى ما لا ينبغي ضمه إليه يكون مجازا في التركيب لا في المفرد بل الحق أن هذا الضم قرينة على مجاز الأفراد

وهذا كما تقول في لفظة الأسد إذا ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه بأن تقول رأيت أسدا يثب فهذا حقيقة وإن ضم إلى ما لا ينبغي بأن تقول رأيت أسدا يرمي بالنشاب صار ذلك قرينة دالة على أنه أراد بلفظ الأسد معناه المجازي وهذا مجاز في المفرد دون التركيب هذا آخر كلام النقشواني وكله منقدح حسن
الثاني الأفعال والمشتقات لأنهما يتبعان أصولهما وأصل كل منهم المصدر فإن كان حقيقة كانا كذلك وإلا فلا
هذا كلام المصنف تبعا للإمام وقد اعترض عليه النقشواني بأن قولكم هذا لا يدخل المجاز في الفعل إلا بواسطة دخوله في المصدر يناقض قولكم استعمال المشتق بعد زوال المشتق منه مجاز
فإذا قال القائل إن زيدا ضرب عمرا بعد انقضاء الضرب كان هذا مجازا وليس المجاز في الأسامي إذ كل واحد منهما مستعمل في موضوعه ولا في المصدر لأن المصدر لم يستعمل ههنا أيضا وما لم يستعمل أصلا يمتنع أن يقال استعمل مجازا أو حقيقة وليس أيضا مجازا في التركيب فتعين المجاز ههنا في الفعل فقد دخل في الفعل من غير دخوله في المصدر
قال وهكذا يرد هذا النقض على المشتقات هذا اعتراضه ولقائل أن يقول إنما صح أن زيدا ضرب عمرا مجاز والحالة هذه لأنه يصح أن يقال زيد ذو ضرب لعمرو مجازا فما يجوز في الفعل إلا وقد صح إطلاق المصدر مجازا
وقوله إن المصدر لم يستعمل ولا يوصف بحقيقة ولا مجاز
قلنا صحة استعماله كافية في دخول المجاز في الفعل وليس المدعي غير ذلك أعني أن المجاز لا يدخل في الفعل إلا بواسطة صحة دخوله في المصدر لا بواسطة وقوع دخوله
الثالث العلم لأن الأعلام لم تنقل لعلاقة وشرط المجاز العلاقة وهذا فيما إذا كان العلم مرتجلا أو منقولا لغير علاقة وإن نقل لعلاقة كمن سمى ولده بالمبارك لما ظنه فيه من البركة فكذلك بدليل أنه لو كان مجازا لصح كذا في

خط المصنف ولعله سبق قلم والصواب لما صح إطلاقه عند زوال العلاقة وبهذا التقرير يعلم أن قول المصنف لأنه لم ينقل لعلاقة غير كاف في الدليل على مطلوبه بل كان الأحسن أن يقول لأنه إن كان مرتجلا أو منقولا لغيرعلاقة فواضح وإلا فلصدقه عليه مع زوالها
وقال الغزالي إن المجاز يدخل في الأعلام الموضوعة للصفة كالأسود والحرث دون الأعلام التي لم توضع إلا للفرق بين الذوات واعترض النقشواني على قولهم إن المجاز لا يدخل في الأعلام بأن القائل يقول جاني تميم أو قيس وهو يريد طائفة بني تميم وهذا مجاز لا حقيقة وتميم اسم علم فقد يطرق المجاز إلى العلم لما بين هؤلاء وبين المسمى بذلك العلم من التعلق وفي هذا الاعتراض نظر
قال الخامسة المجاز خلاف الأصل لاحتياجه إلى الوضع الأول والمناسبة والنقل ولإخلاله بالفهم
الأصل تارة يطلق ويراد به الغالي وتارة يراد به الدليل وقد ادعى المصنف أن المجاز خلاف الأصل إما بمعنى خلاف الغالب والخلاف في ذلك مع ابن جني حيث ادعى أن المجاز غالب على اللغات أو بالمعنى الثاني والغرض أن الأصل الحقيقة والمجاز على خلاف الأصل فإذا أراد اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمال الحقيقة أرجح لوجهين
أحدهما أن المجاز يحتاج إلى الوضع الأول وإلى العلاقة يعني المناسبة بين المعنيين وإلى النقل إلى المعنى الثاني والحقيقة محتاجة إلى الوضع الأول فقط وما يتوقف على أمر واحد كان راجحا بالنسبة إلى ما هو متوقف على أمور

متعددة وقد أهمل صاحب الكتاب ذكر الاستعمال لأن الحقيقة والمجاز مشتركان في افتقارهما إليه
والثاني أن الحقيقة لا تخل بالفهم وذلك ظاهر والمجاز يخل بالفهم فيكون مرجوحا والدليل على أنه يخل بالفهم وجهان
أحدهما أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة فلا جائز أن يحمل على المجاز لعدم القرينة ولا على الحقيقة وإلا لزم الترجيح بدون مرجح إذ الحقيقة والمجاز متساويان على هذا التقدير
والثاني أن الحمل على المجاز يتوقف على قرينة تدل على أنه المراد وقد تخفى هذه القرينة على السامع فيحمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع إرادة المجاز أو يختبط عليه الحال فيحمل على الذي ليس بمراد
قال فإن غلب كالاطلاق تساويا والأولى الحقيقة عند أبي حنيفة والمجاز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
ما تقدم من رجحان الحقيقة على المجاز إنما هو فيما إذا لم يعارض أصالة الحقيقة غلبة المجاز أما إذا غلب المجاز في الاستعمال فقال أبو حنيفة الحقيقة أولى لأن الحقيقة بحسب الأصل راجحة وكونها مرجوحة أمر عارض لا عبرة به
وقال أبو يوسف المجاز أولى لكونه راجحا في الحال ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد على الآخر من وجه فيتعادلان ولا يحمل على أحدهما إلا بالنية وهذا ما اختاره المصنف
قال الهندي وعزى ذلك إلى الشافعي وقد مثل المصنف لذلك بالطلاق فإنه حقيقة في إزالة القيد سواء كان عن نكاح أم ملك يد أم غيرها وخصه العرف بإزالة قيد النكاح ولذلك كان كناية في باب العتق محتاجا إلى النية بخلاف الطلاق هذا كلام المصنف وهو فيما اختاره في هذه المسألة وفيما مثل به متابع للإمام في كتاب المعالم فإنه كذلك فعل ثم أورد على ما ذكر في الطلاق بأنه يلزم ألا يصر إلى المجاز الراجح إلا بالنية وليس كذلك بدليل

أنه لو قال لزوجته أنت طالق طلقت من غير نية وأجاب بأن هذا غير لازم لأنه إذا قال لمنكوحته أنت طالق فإن عنى بهذا اللفظ الحقيقة المرجوحة وهو إزالة مطلق القيد وجب أن يزول مسمى القيد وإذا زال هذا المسمى فقد زال القيد المخصوص وإن عني به المجاز الراجح فقد زال قيد النكاح فلما كان يفيد الزوال على التقديرين استغنى عن النية هذا كلام الإمام في المعالم
وقد اعترض عليه ابن التلمساني بأن السؤال لازم إذ الكلام مفروض فيما إذا ذكره ولم ينو شيئا ولا خلاف أنه يحمل على الطلاق فقوله إن نوى وإن نوى حيد عن السؤال ولك أن تعترض على الإمام أيضا بأنا لا نسلم أنه إن عنى بذلك الحقيقة المرجوحة يجب زوال القيد المخصوص وإنما يجب ذلك أن لو كان المطلق في سياق الإثبات للعموم الشمولي وإنما هو عموم بدلي فإذا عنى الحقيقة المرجوحة فإنما أراد حصول مطلق الحقيقة وهي أعم من القيد المخصوص فلا تحمل عليه إلا بدليل
واعلم أن التمثيل بالطلاق من أصله فيه نظر متوقف على تحرير محل النزاع في المسألة وهو مهم وقد حرره المتأخرون من كتب الحنفية
المجاز أقسام
الأول أن يكون مرجوحا
والثاني أن يساوي الحقيقة في الاستعمال فلا ريب في تقديم الحقيقة في هذين القسمين ولا خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف في ذلك وإن حصل وهم من بعض المصنفين في نقل الخلاف عنهما في القسم الثاني فلا يعبأ به
والثالث أن تهجر الحقيقة بالكلية بحيث لا تراد في العرف فقد اتفقا على تقديم المجاز مثل من حلف لا يأكل من هذه النخلة فإنه يحنث بثمرها لا بخشبها وإن كان هو الحقيقة لأن المجاز حينئذ إما حقيقة شرعية كالصلاة أو عرفية كالدابة وإذا عرفت هذا فتقول لا يستقيم التمثيل بالطلاق لأنه صار حقيقة عرفية أو شرعية عامة في حل قيد النكاح وهاتان الحقيقتان مقدمتان على الحقيقة اللغوية

الرابع أن يكون المجاز راجحا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات نحو والله لأشربن من هذا النهر فإن شربه منه حقيقة في كرعه من النهر بفيه وإذا اغترف في الكوز وشرب فهو مجاز إذ شربه إنما هو من الكوز لا من النهر وإنما المجاز هنا راجح متبادر إلى الفهم وقد يراد الحقيقة فإن كثيرا من الناس يكرع بفيه فهذا هو محل النزاع
خاتمة قد علمت أن الأصل في الإطلاق الحقيقة وقد يصرف اللفظ من حقيقته إلى مجازه لقرينة في مثل ما لو قال رهنت الخريطة ولم يتعرض لما فيها والخريطة لا يقصد رهنها في مثل هذا الدين فهل يجعل رهنا لما في الخريطة وإن كان مجازا للقرينة الحالية فيه وجهان
قال السادسة يعدل إلى المجاز لثقل لفظ الحقيقة كالخنفقيق أو حقارة معناه كقضاء الحاجة أو لبلاغة لفظ المجاز أو عظمه في معناه كالمجلس العالي أو زيارة بيان كالأسد
هذه المسألة في السبب الداعي إلى التكلم بالمجاز وهو وجوه
أحدها ألا يكون للمعنى الذي عبر عنه بالمجاز لفظ حقيقي
وثاينها ألا يعرف المتكلم أو المخاطب لفظه الحقيقي
وثالثها أنه قد يكون معلوما لغير المتخاطبين كما هو معلوم لهما والمجاز قد لا يكون معلوما لغيرهما فيعبر عنه لئلا يطلع غيرهما على ذلك المعنى
ورابعهما أن الإخفاء وإن كان غير مطلوب له لكن قد يثقل لفظه الحقيقة على اللسان سواء كان ذلك لمفردات حروفه أو لتنافر تركيب أو لثقل وزنه وقد ذكر في الكتاب من أمثلة هذا القسم الخنفقيق بفتح الخاء المعجمة وإسكان النون وفتح الفاء بعدها وكسر القاف بعدها ياء آخر الحروف ثم قاف وهو الداهية فلما كان هذا اللفظ أعني الخنفقيق ثقيلا على اللسان لاجتماع هذه الأمور الثلاثة فيه أعني ثقل الحروف والوزن وتنافر التركب حسن العدول عنه إلى المجاز بأن تقول وقع فلان في موت وما أشبهه

فإن قلت إذا كان موضع الخنفقيق في اللغة الداهية فلا يحسن العدول عنه إلى المجاز مع وجود هذه اللفظة التي ليس فيها شيء من الأشياء الثلاثة
قلت لعل المجاز هو العدول إلى الداهية
فإن قلت هذا ينفيه قول الجوهري وهو ما ذكرتموه أن الخنفقيق هو الداهية والداهية ما يصيب الإنسان من نوب الدهر فإن مقتضى هذا أن يكون كل واحد من لفظي الخنفقيق والداهية دالا على النائبة
قلت لمعنى الداهية لفظان
أحدهما يدل عليها بالحقيقة وهو الخنفقيق
والثاني بالمجاز وهو الداهية ولعل قول الجوهري الخنفقيق الداهية معناه أن الخنفقيق هو المعنى الذي يطلق عليه الداهية بطريق المجاز
وخامسها أن يستحقر لفظ الحقيقة عن أن يتلفظ به لحقارة معناه كما يعبر بالغائط عن الخراة
وسادسها أنه قد لا يصلح لفظ الحقيقة للسجع والتجنيس وسائر أصناف البديع أو لإقامة الوزن والقافية بخلاف لفظ المجاز وهذا مراد التصنيف بقوله لبلاغة لفظ المجاز
وسابعها أن التعبير بالمجاز قد يكون أدخل في التعظيم وأبلغ في المعنى كالمجلس العالي والجناب الشريف وما أشبه هذه الألفاظ فإنها أبلغ من قولك فلان
وثامنها أن يكون لزيادة بيان حال المذكور مثل رأيت أسدا فإنه أبلغ في الدلالة على الشجاعة لمن حكمت عليه بها من قولك رأيت إنسانا كالأسد شجاعة
وتاسعها أن المجاز قد يكون أدخل في التحقير
وعاشرها أن يكون المجاز أعرف من الحقيقة ولم يذكر في الكتاب من هذه الوجوه غير الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن

قال السابعة اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا كما في الوضع الأول والأعلام قد لا يكون حقيقة ومجاز باصطلاحين كالدابة
اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا لغويا وقد يكون حقيقة ومجازا
أما الأول فمن اللفظ في أول الوضع قبل استعماله فيما وضع له أو في غيره ليس بحقيقة ولا مجاز لأن شرط تحقق كل واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمال كما تقدم في تعريفهما فحيث انتفى الاستعمال انتفيا ومنه الأعلام المتجددة بالنسبة إلى مسمياتها فإنها أيضا ليست بحقيقة لأن مستعملها لم يستعملها فيما وضعت له أو لا بل إما أنه اخترعها من غير سبق وضع كما في الأعلام المرتجلة أو نقلها عما وضعت له كالمنقولة وليست بمجاز لأنها لم تنقل لعلاقة كما مر في المسألة الربعة وقد ظهر أن المراد بالأعلام هنا الأعلام المتجددة دون الموضوعة بوضع أهل اللغة فإنها حقائق لغوية لأسماء الأجناس وعلى هذا لا فرق في ذلك بين الأعلام المنقولة والمرتجلة على خلاف ما ظن الجاريردي شارح الكتاب حيث قال الذي يدور في خلدي أن المراد الأعلام المنقولة
وأما الثاني وهو أن اللفظ قد يكون حقيقة ومجازا فذلك بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار اصطلاحين لأن اللفظ الموضوع للمعنى العام كالدابة الموضوعة لكل ما دب على الأرض إذا خصه العرف العام أو الشرع ببعض أنواعه كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى حقيقة العام لغوية ومجازا عرفيا أو شرعيا وبالنسبة إلى ذلك النوع بالعكس ومن هذا يعرف أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس
وأما بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار واحد فذلك ممتنع لاستحالة النفي والإثبات
قال الثامنة علامة الحقيقة سبق الفهم والعراء عن القرينة
اعلم أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص أو الاستدلال أما التنصيص فمن وجهين

أحدهما أن يقول الواضع هذه حقيقة وذاك مجاز وتقول ذلك أئمة اللغة قال الهندي لأن الظاهر أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن فقه
والثاني أن يقول الواضع هذه حقيقة أو هذا مجاز فيثبت بهذا أحدهما وهو ما نص عليه وزاد الإمام ثالثا وهو أن يذكروا خواصهما وفيه نظر فإنه يندرج في قسم الاستدلال ولا يعد من التنصيص وأما الاستدلال فبالعلامات وهذا القسم هو الذي ذكره المصنف وذكر فيه لكل من الحقيقة والمجاز علامتين
العلامة الأولى من علامتي الحقيقة تبادر الذهن إلى فهم المعنى من غير قرينة
فإن قلت ماذكرتم منقوض طردا وعكسا أما الطرد فلأن المجاز المنقول والمجاز الراجح مما يتبادر معنى كل منهما المجازي من غير قرينة دون حقيقتيهما وأما العكس فلأن المشترك حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها إلى فهم
قلت أما المنقول فغير وارد لأن المنقول إليه إنما يتبادر لأنه حقيقة فيه وكونه مجاز فيه أيضا لا ينافي كونه حقيقة فيه لما عرفت من أن اللفظ الواحد قد يكون حقيقة ومجازا وأما عدم تبادر الحقيقة الأصلية فلصيرورتها الآن مجازا عرفيا وأما المجاز الراجح فقال صفي الدين الهندي هو نادر والتبادر في الأغلب يختص بالحقيقة وتخلف المدلول على الدليل الظني لا يقدح فيه ألا ترى أن الغيم الرطب في الشتاء دليل وجود المطر وتخلفه في بعض الأوقات لا يقدح في كونه دليلا عليه لا سيما في المباحث اللغوية والأمارات الإعرابية وأما اللفظ المشترك فأحسن ما يجب به عنه أن التعريف بالعلامة لا يشترط فيه الانعكاس
والعلامة الثانية العراء عن القرينة يعني أنا إذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن معنى واحد بعبارتين ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى

فتعرف أن اللفظة في المستعمل حقيقة دول القرينة لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعين ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوضع لم يقتصروا عليه عادة قال وعلامة المجاز الإطلاق على المستحيل مثل وأسأل القرية والأعمال في المنسى كالدابة للحمار
العلامة الأولى من علامتي المجاز إطلاق اللفظ على ما يستحيل تعلقه به إذ الاستحالة تقتتضي أنه غير موضوع له فيكون مجازا ومثل في الكتاب له بقوله تعالى وأسأل القرية أي لأنه لما علم امتناع سؤال الأبنية المجتمعة المسماة بالقرية علم أنه مجاز والتقدير وأسأل أهل القرية وفي هذا المثال من النظر ما قدمته
العلامة الثانية أن يستعمل اللفظ في المعنى المنسي بأن يكون موضوعا لمعنى له أفراد فيترك أهل العرف استعماله في بعض تلك الأفراد بحيث يصير ذلك البعض منسيا ثم يستعمل اللفظ في ذلك المعنى المنسي فيكون مجازا عرفيا مثال ذلك لفظ الدابة فإنه موضوع لكل ما يدب على الأرض فيترك أهل بعض البلدان استعمالها في الحمار بحيث نسي إطلاقها عليه عندهم
وأعلم أن إطلاقها على غير المنسي مجاز لغوي لا قصرها على الحمار ببلاد مصر وعلى الفرس بالعراق وضع غير الوضع الأول كذا ذكروه وقد يقال إن استعملها المتكلم ملاحظا للوضع الأول كان حقيقة وإلا مجازا فالوضع الثاني لا يخرج الأول عما وضع له

الفصل السابع في تعارض ما يخل بالفهم
قال الفصل السابع في تعارض ما يخل بالفهم وهو الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص وذلك على عشرة أوجه
الأحوال اللفظية المخلة بالأفهام الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص
واعلم أن التعارض بين هذه الاحتمالات الخمسة يقع على عشرة أوجه فقد اشتمل كلامنا هذا على دعاء
والأولى أن هذه الخمسة مخلة بالأفهام وبيان ذلك أنه على تقدير الاشتراك يحتمل أن يكون المراد غير ما يعنيه وعلى تقدير النقل يحتمل أن يكون المراد الحقيقة وكذلك على تقدير الإضمار والتخصيص
والثانية أنه لا يخل بالفهم من الألفاظ سواها وبيانها حصر المخلات في هذه الأقسام بالدوران وذلك بأن يقال كلما حصل أحد هذه الخمسة حصل الإخلال لما ذكرناه وكلما انتفت الخمسة انتفى الإخلال لأن مع زوال الاشتراك والنقل يكون اللفظ حقيقة واحدة ومع انتفاء المجاز والإضمار يكون المراد تلك الحقيقة ومع زوال التخصيص يكون المراد كلها هذه طريقة تدلك على الحصر ولك على ذلك طريقة أخرى وهي الترديد الدائر بين النفي والإثبات وذلك بأن تقول إذا لم يتعين المعنى من اللفظ فلا يخلو إما أن يكون لاحتمال معنى آخر داخل في مفهوم اللفظ أو خارج عنه إن كان

الأول فهو احتمال التخصيص وإن كان الثاني فإما أن يكون لاحتمال حقيقة أخرى أو لا
والأول إن كان مسبوقا بوضع آخر فهو احتمال النقل وإلا فاحتمال الاشتراك
والثاني إن كان المصير إليه لضرورة لفظية فهو احتمال الإضمار وإلا فاحتمال المجاز
والثالثة أن التعارض بينها يقع على عشرة أوجه وبيانها أنه إنما يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية ثم بين المجاز وبين الوجهين الباقيين ثم بين الإضمار والتخصيص فكان المجموع عشرا
وأعلم أنه هذه الدعوى غير محررة والاعتراض عليها من وجوه
أحدها أنه إن أريد أنه إذا انتفت الخمسة حصل الظن بالمدلول لا الجزم فليس بصحيح فإن الظن حاصل مع الاحتمالات وإن أريد أن الخمسة تخل بالجزم بالمدلول لا بظنه فنقول لا يلزم من انتفاء الخمسة انتفاء الاحتمال وحصول الجزم كيف وقد ذكر الإمام أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين إلا بنفي عشرة احتمالات فذكر هذه الخمسة مع التقديم والتأخير والناسخ والمعارض العقلي وتغير الإعراب ومعلوم أنه هذه العشرة إنما تخل باليقين لا بالظن فكان حقه أن يذكر هاهنا العشرة بعينها فالحصر في الخمسة باطل
فإن قلت لعل المراد أن انتفاء الخمسة يحصل غلبة الظن وتلك رتبة متوسطة بين اليقين وأصل الظن
قلت هذه الغلبة لا ضابط لها وغلبة الظن لا تخرج عن باب الظن فإن الظنون تتفاوت وهي مشتركة في مشروع واحد
والثاني أن ما ذكر من أنه إذا انتفى المجاز والإضمار بقي اللفظ مستعملا فيما وضع له مفهومه أنه إذا وجد أحدهما لا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وليس كذلك لأن الإضمار على قسمين

أحدهما ما يوجب مجازا في اللفظ مثل واسأل القرية فإن إضمار الأهل هو الذي صير إسناد السؤال في الظاهر إلى القرية مجازا
الثاني هو ما لا يوجب مجازا في اللفظ كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية فإذا أضمرنا فيها محدثين لا يتجدد في اللفظ مجاز وكذلك قوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فإذا أضمرنا فأفطرتم لا يتجدد في اللفظ مجاز
الثالث أن الكلام في هذه المحتملات إن كان في مطلقاتها وأجناسها دون أنواعها وأشخاصها فلا ينبغي أن يذكر الإضمار ولا التخصيص لأنهما نوعان للمجاز فيندرجان تحت مطلقه وعلى هذا يكون الاحتمالات المخلة ثلاثة فقط وإن كان الكلام في أنواعها دون مطلقاتها وأجناسها فلا ينحصر في خمسة لأن أنواع المجاز متعددة كما سبق وقد ذكر فيما تقدم اثني عشر نوعا وأنواع النقل ثلاثة فهذه خمسة عشر اثنين منها فعلم أن الحصر في الخمسة فاسد
الرابع أن من جملة الاحتمالات المخلة بالفهم النسخ لأن السامع إذا جوز على حكم اللفظ أنه منسوخ لم يجزم ثبوته ولم يذكروه مع الخمسة والإمام ذكره بعد ذلك وزعم أنه مندرج في التخصيص فلذلك لم يقرره بالذكر وتبعه المصنف في ذلك وهذا لا يستقيم لا على أصله ولا على الحق في نفس الأمر فإن أصله أن صيغة الأمر للقدر المشترك بين المرة والتكرار فلا عموم في الأزمان فلا نسخ وأما على الحق في نفس الأمر فلأنا إذا سيرنا الأوامر لا نجدها تقتضي بصيغتها فعل المأمور أبدا فكان الأحسن أن يعد النسخ وقد نظم بعضهم بيتين في هذه الأقسام وذكر النسخ فقال ... تجوز ثم إضمار وبعدهما ... نقل تلاه اشتراك فهو يخلفه ... وأرجح الكل تخصيص وآخرهم ... نسخ فما بعده قسم يخلفه ...
قال الأول النقل أولى من الأشتراك لأفراده في الحالتين كالزكاة

شرع في ذكر الوجوه العشرة على الترتيب المذكور فنقول النقل أولى من الاشتراك لأن المنقول مدلوله مقرر في الحالتين أي قبل النقل وبعده أما قبل النقل فلأن مدلوله المنقول عنه وهو اللغوي وأما بعده فلأن مدلوله المنقول إليه وهو الشرعي أو العرفي وإذا كان مدلوله مفردا لم يمتنع العمل به
وأما المشترك فمدلوله متعدد في كل وقت فيكون المجمل لا يعمل به إلا بقرينة اللهم إلا أن يقال نحمله وما لا يمتنع العمل به أولى من عكسه مثال ذلك لفظ الزكاة فإنه يحتمل أن يكون مشتركا بين النماء والقدر المخرج من النصاب وأن يكون موضوعا للنماء فقط ثم نقله الشرع إلى القدر المخرج من النصاب فإذا تعارضا فالنقل أولى لما ذكرناه ومن أمثلته أن يقول الشافعي الفاتحة ركن في الصلاة لقوله صلى الله عليه و سلم كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ولفظ الصلاة في عرف الشرع منقول إلى العبارة المخصوصة فوجب أن تكون الفاتحة ركنا فيقول الحنفي مذهب القاضي أن الشرع لم ينقل شيئا من الألفاظ بل الصلاة مشتركة بين الدعاء وبين المتابعة ومنه سمي الثاني في جلية السياق مصليا لكونه تابعا لصلوي الذي قبله وسميت هذه العبارة صلاة لما فيها من المتابعة للأئمة غالبا وذا كانت مشتركة كانت مجملة فيسقط الاستدلال بها حتى يدين الخصم رجحان اللفظ في أحدهما
فنقول جعلها منقولة إلى العبارة المخصوصة أولى من الاشتراك لما تقرر
ومنها أن يقول الشافعي الكلب نجس لقوله صلى الله عليه و سلم طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا والطهارة في عرف الشرع منقولة إلى

إزالة الحدث والخبث ولا حدث فيتعين الخبث فيقول المالكي لفظ الطهارة مشترك في اللغة بين إزالة الأقذار وبين الغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى لأنه مستعمل فيهما حقيقة إجماعا والأصل عدم التغيير والتقرب إلى الله تعالى كان معلوما لهم لقوله تعالى ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى والمشترك مجمل فيسقط الاستدلال د به حتى بين الخصم الرجحان
فنقول جعله منقولا إلى العبارة المخصوصة أولى من الاشتراك لما مر
قال الثاني المجاز خير منه لكثرته وإعمال اللفظ مع القرينة ودونها كذلك
المجاز أولى من الاشتراك لوجهين أحدهما أنه أكثر في اللغة والأكثرية دليل الرجحان
والثاني أنه على تقدير المجاز إن كان اللفظ مع القرينة وجب حمله على المجاز وإن كان مجردا عنها وجب حمله على الحقيقة فهو معمول به على التقديرين بخلاف الاشتراك فإن اللفظ المشترك إذا تجرد عن القرينة وجب التوقف على المختار عندهم وإن عمل به عند البعض احتياطا فليس العمل للاحتياط كالعمل مع التحقيق
ومن أمثلة الفضل قولنا موطوءة الأب بالزنا يحل للإبن نكاحها لقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذه طابت للإبن
فإن قلت هذا معارض بقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم والنكاح حقيقة في الوطء
قلت بل هو حقيقة في العقد لقوله تعالى وانكحوا الأيامى منكم

وغيرها من الآيات وإذا كان حقيقة في العقد لا يكون حقيقة في الوطء وإلا يلزم الاشتراك
فإن قلت لولا ذلك لزم المجاز
قلت المجاز خير من الاشتراك لما ذكرناه
ومنها قولنا لا يجوز التوضؤ بالنبيذ لأن الله تعالى نص على سبيله الماء فوجب حصر السبب فيه عملا بالأصل الثاني لسببية غيره
وإنما قلنا إن الله تعالى نص على سببية الماء لقوله تعالى وأنزلناه من السماء ماء طهورا والطهور هو الذي يتطهر به كالحنوط والسعوط الذي يتحنط به ويتسعط به فيقول الحنفي الأصل في فعول أن يكون تابعا لفاعل في القصر والتعدية وطاهر قاصر فطهور مثله فلو كان ههنا الذي يتطهر به للزم الاشتراك وعلى ما نقوله تكون صيغته هنا مجازا فإنه لا تكرار في طاهرية بماء السماء فالمجاز أولى من الاشتراك لما مر فتقول هو الترجيح مدفوع بقوله تعالى ليطهركم به والباء للسببية فيدل على أن المراد الذي يفعل به التطهير
قال الثالث الإضمار خير منه لأن احتياجه إلى القرينة في صورة احتياج الاشتراك إليها في صورتين
الإضمار أولى من الاشتراك لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في صورة واحدة وهي صورة إرادة المعنى الإضماري بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره إذ ليس البعض فيه أولى من البعض وفي بعض نسخ الكتاب بعد قوله في صوريتن مثل واسأل القرية أي أن لفظ القرية يحتمل أن يكون منقولا بالاشتراك على الأهل والأبنية ويحتمل أن يكون حقيقة في الأبنية فقط والأهل مضمر فيقول المناظر الإضمار أولى لما قلناه ومن أمثلته قولنا لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه لقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وحلائل أبنكئكم وجارية الابن حليلة

لأن الحليلة فعيلة من الحل وهي المرأة التي يحل وطؤها فحليلة الابن المرأة التي يحل وطؤها والجارية المملوكة للإبن كذلك فتكون حليلة له وإذا كانت حليلة للإبن اندرجت تحت الآية فتكون محرمة على الأب فيقول الحنفي حليلة الرجل هي المرأة التي تحل له بالنكاح وهي الزوجة ودليله النقل
قال الجوهري الحليلة الزوجة فنقول لا نسلم أن إطلاق الحليلة على الزوجة بطريق الحقيقة
فإن قلت الأصل في الإطلاق الحقيقة قلت نعم لكن لو جعلناه حقيقة فيما ذكرتم فإما أن يكون حقيقة فيما ذكرناه أيضا أو مجازا فيه والثاني باطل لأنه يلزم منه ترجيح الاستعمال في دلالته على الحقيقة على الإشتقاق في دلالته عليها وذلك لأن الظاهر أن الجوهري إنما أخذ أن الحليلة هي الزوجة من استعمال العرب والاستعمال أعم منه أن يكون على سبيل الحقيقة أو المجاز ونحن دللنا باشتقاق لفظ الحليلة المقتضي لما هو أعم من الزوجة فليكن أرجح لبعد الخطأ فيه والأول أيضا باطل لأنه يلزم منه الاشتراك
فإن قلت لو لم يكن مشتركا بل كان حقيقة فيما ذكرتم مجازا فيما ذكرناه لزم الإضمار لأن جارية الإبن لا تحرم على الأب على التأييد بالإجماع بل ما دامت مملوكة والآية إنما سيقت لبيان المحرمات على التأييد فلا بد من إضمار ما يصح به تحريم جارية الإبن لا على التأييد لجواز أن يقال وحلائل أبنائكم بالنكاح وبملك اليمين مادامت حليلتهم والإضمار أيضا خلاف الأصل فوقع التعارض بين الاشتراك والإضمار
قلت الإضمار أولى
ومنها قراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة لقوله صلى الله عليه و سلم كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وهذه صلاة فوجبت الفاتحة فيها فإن قال الخصم لفظ الصلاة مفهوم مشترك في عرف الشرع لإطلاقه على ما لا ركوع فيه ولا سجود كالجنازة وعلى ما لا تكبير فيه ولا سلام كالطواف وعلى ما لا قيام فيه كصلاة المريض وليس بينهما قدر مشترك فحعل اللفظ حقيقة فيه فيكون

مشتركا مجملا يسقط الاستدلال به قلنا المشترك عندنا يحمل على جميع مسمياته عند عدم القرينة فتندرج صلاة الجنازة تحت عمومه
فإن قلت وجب جعل اللفظ غير منقول حذرا من الاشتراك ويكون ههنا إضمار تقديره كل صلاة من الصلوات الخمس لم يقرأ فيها بأم القرآن ويكون إطلاق لفظ الصلاة على الصلوات الخمس مجازا لغويا والإضمار أولى من الاشتراك
فنقول هذا الترجيح مدفوعا بالقياس على الصلوات الخمس
قال الرابع التخصيص خير لأنه خير من المجاز كما سيأتي مثل ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم فإنه مشترك أو مختص بالعقد وخص عنه الفاسد
التخصص خيرمن الاشتراك لأن التخصيص خير من المجاز والمجاز خير من الاشتراك ينتج ما ادعيناه
أما الصغرى فلما سيأتي إنشاء الله تعالى وأما الكبرى فلما مر مثاله أن يقول الحنفي موطوءة الأب بالزنا محرمة على الابن لقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وهو حقيقة في الوطء فنقول بل هو حقيقة في العقد لما قررناه كما في قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم وإذا ثبت أنه موضوع للعقد فلم يبق إلا أن يكون مشتركا بين العقد والوطء أو أن يكون مختصا بالعقد وخص عنه الفاسد حتى إذا نكح الأب نكاحا فاسدا فللإبن أن ينكح تلك الموطوءة بالوطء الفاسد والتخصيص أولى من الاشتراك
قال الخامس المجاز خير من النقل لعدم استلزامه نسخ الأول كالصلاة
المجاز الأول خيرمن النقل لأن النقل سيتلزم نسخ الأول مثاله الصلاة فإن المعتزلة ادعت أنها منقولة إلى الأفعال الخاصة وجمهور الأصحاب قالوا إنها مجازات لغوية اشتهرت فمذهبهم أولى لأن المجاز أولى من النقل

ومن أمثلته أن يقول المالكي يجزى رمضان كله نية واحدة من أوله لقوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لم يبيت الصيام من الليل ووجه الاحتجاج أن الصيام منقول عن أصل الإمساك إلى الإمساك المخصوص والمعرف بأل يفيد العموم واستغراق الصوم إلى الأبد ورمضان من جملة ذلك فيكون مفهوم ذلك أن من بيت كان له الصوم وهذا قدثبت فيقول الشافعي لا نسلم أنه منقول بل مجاز في إمساك جزء من الليل قبل الفجر ويكون من مجاز التعبير بالأعم عن الأخص فإن الشرع لم يصرح بتبييت الصوم وما ذكرناه محمل صالح له والمجاز أولى من النقل
قال السادس الإضمار خير منه لأنه مثل المجاز كقوله تعالى وحرم الربا فإن الأخذ مضمر والربا نقل إلى العقد
الإضمار أولى من النقل لأن الإضمار مساو للمجاز لما سيأتي إن شاء الله تعالى والمجاز أولى من النقل لما مر مثاله قوله تعالى وحرم الربا فإن الربا هو زيادة والزيادة بعينها لا توصف بحل ولا حرمة فلا بد من تأويل فأضمرت طائفة الأخذ وقالت التقدير حرم أخذ الربا فإذا توافق البايع والمشتري على إسقاط الزيادة صح وقالت طائفة الربا نقل إلى العقد المشتمل على الزيادة وذلك لقرينة قوله وأحل الله البيع فإذن المنهي عنه نفس العقد سواء اتفقا على خط الزيادة أم لا فالأول أولى لأن الإضمار أولي من النقل
قال السابع التخصيص أولى لما تقدم مثل وأحل الله البيع فإنه المبادلة مطلقا وخص الفاسد أو نقل إلى المستجمع لشرائط الصحة
التخصيص أولى من النقل لأن التخصيص خير من المجاز لما سيأتي إن شاء الله والمجاز خير من النقل لما مر والخير من الخير خير مثاله قوله تعالى وأحل الله البيع فمن قائل البيع موضوع للمبادلة مطلقا وخص عنه

الفاسد لكونه غير حلال ومن قائل بل نقل إلى المعارضة المشتمل على الأركان والشرائط فالأول أولى لأن التخصيص أولى من امثلته أن يقول المالكي يلزم الظهار من الأمة وأم الولد لقوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم الآية وهما من جملة النساء فإذا قال الشافعي لفظ النساء صار منقولا في العرف للحرائر فوجب ألا يتناول محل النزاع ولو لم يكن منقولا للزم أن يكون مخصوصا بذوات المحارم فإنهن من نسائهم ولا يلزمهم فيهن ظهار كان للمالكي أن يقول إذا وتعارض النقل والتخصيص فالتخصيص أولى
قال الثامن الإضمار مثل المجاز لاستوائهما في القرينة مثل هذا ابني
الإضمار مثل المجاز فلا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل من خارج وإنما قلنا إنهما سيان لاستوائهما في الاحتياج إلى القرينة واحتمال خفائها وهذا ما جزم به في الكتاب تبعا للإمام في المحصول
وقال الإمام في المعالم يترجح المجاز لكثرته وهذا ما اختاره صفي الدين الهندي وقيل بالعكس وقوله مثل هذا ابني
أعلم أن هذا المثال لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل والذي عندي في تقريره أن القائل لعبده هذا ابني والعبد لا يمكن أن يكون ابنه إما لكونه مشهور النسب من غيره أو لكونه أكبر سنا منه فههنا قد انتفت الحقيقة وبقي اللفظ دائرا بين مجازي الإضمار والمجاز إذ يحتمل أن يكون المراد مثل ابني في الحنو أو أنه ابني مجازا لذلك وأما أنه هل يترتب على هذا عتق أو لا يترتب فليس من وظيفة الأصولي التعرض له ولا إرادة المصنف وقد حكى الأصحاب وجهين فيما إذا كان مشهور النسب من غيره واستلحقه هل يعتق لكونه أقر بالنبوة التي لازمها العتق فيؤاخذ باللازم وإن لم يثبت الملزوم ولكن ليس مأخذ الوجهين الإضمار والمجاز كيف وهو إنما أراد باللفظ حقيقته ولكن لم تسمع منه وكذا لو قال أحد الوارثين فلانة بنت أبينا هل يحكم بعتقها وجهان وليس مأخذهما مجاز الإضمار والتخصيص بل شيء غيره وقد

نبهان على ذلك لئلا يغتر به مغتر
وأما ما ذكره الرافعي في الركن الأول من الباب الثاني في أركان الطلاق عن فتاوى القفال من أنه لو قال يا بنتي وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن كما لو قال لعبده أوأمته واختار النووي أنه لا يعتق بمجرد ذلك لأنه يذكر في العادة للاستيناس والتحنن فهذه المسألة غير المسألة التي نحن فيها وهي قوله هذا ابني والفرق واضح بينهما وهو ما ذكره النووي من أن بنتي يذكر في العادة للاستيناس والتحنن وهذا ابني ليس كذلك فقد وضح أن مسألة هذا ابني على الوجه المذكور غيرمعروفة في المذهب فافهم ذلك ونظيرها ما لو قال أوصيت لزيد بنصيب ابني
وقد اختلف الأصحاب في أن الوصية هل تبطل أو تحمل على مثل نصب ابنه ومن أمثلة تعارض المجاز والإضمار أن يقول الشافعي يجوز قتل الرهبان في الحرب لدخولهم في عموم قوله تعالى اقتلوا المشركين فإن قال المالكي يلزم على ما ذكرته أن يكون لفظ المشرك مجازا إذا المشترك من جعل الشريك وهذا يصدق على شركاء الزرع والعقار ويكون قد عبر بلفظ المشرك على الكافر بالشرك تعبيرا عن الأخص بلفظ الأعم بل ينبغي أن يكون في الآية إضمار تقديره اقتلوا محاربة المشركين صونا له عن المجاز ولا يندرج صورة النزاع حينئذ كان للشافعي أن يقول المجاز أولى ويتجاذبان أطراف الكلام
ومنها أن يقول الشافعي النية شرط في الوضوء للصلاة لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية وجه التمسك أنه تعالى يأمر بغسل الأعضاء المذكورة لأجل الصلاة لأنه أمرنا بالغسل لأجل إرادة الصلاة لأن المراد من القيام إلى الصلاة إرادة الصلاة والأمر بالفعل بشرط إرادة فعل آخر يكون أمر بالفعل لأجل الفعل الآخر كما في قولهم إذا دخلت على الخليفة فتأدب أي لأجل الدخول عليه ومنه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقه أي لأجل نجواكم فعلم أنه بغسل الأعضاء لأجل الصلاة

وجوبا ولا يعني باشتراط النية سوى وجوب غسل الأعضاء الأربعة لأجل الصلاة فإن قال الحنفي لم قلت إن المراد هنا الوجوب
قلنا ظاهر الأمر الوجوب فإن قال نعم ولكن لو حملناه على الوجوب لزم إضمار الحدث لأن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ولو حملناه على الندب لم يلزم الإضمار وإنما يلزم المجاز في لفظ الأمر
قلنا الإضمار أولى وهو منقول هنا عن عكرمة وابن مسعود ويقع النظر بينهما
ومنها إذا تحقق الرجل من امرأته النشوز ولكنه لم يتكرر ولم يظهر إصرارها عليه فله مع الوعظ أن يهجرها في المضطجع وفي ضربها وجهان رجح الشيخ أبو حامد والمحاملي أن لايجوز ومال ابن الصباغ والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الجواز واختاره النووي والمأخذ قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فمن قال بالأول قال مجازا كما في قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أي علم وفي الآية إضمار والمعنى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن ومن قال بالثاني قال الخوف بمعنى العلم مجازا كما في قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أي علم فتعارض المجاز والإضمار
قال التاسع التخصيص خير لأن الباقي متعين والمجاز بما لم يتعين مثل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فإن أراد التلفظ وخص النسيان أو الذبح
التخصيص أولى من المجاز لأن الباقي من أفراد العام بعد التخصيص متعين بخلاف المجاز فإنه ربما لم يتعين لأن اللفظ وضع ليدل على المعنى

الحقيقي فإذا انتفى بقرينة افتقر صرف اللفظ إلى المجاز إلى تأمل لاحتمال تعدد المجازات ولا يقال اللفظ لا يصرف عن الحقيقة إلا بقرينة وتلك القرينة تهدي إلى المجاز فأين التأمل بعد القرينة لأنا نقول قد تجئ القرينة بصرف اللفظ عن ظاهره من غير تعرض إلى تبيين المقصود مثال تعارض التخصيص والمجاز قول الحنفي متروك التسمية عمدا لا يخل بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق أي ولا تأكلوا مما لم يتلفظ عليه باسم الله
وقول الشافعي المراد بذكر الله تعالى هو الذبح مجاز لأن الذبح غالبا لا يخلو عن التسمية فيكون نهيا عن أكل غير المذبوح لأنه لولا ذلك وأولنا كما قلتم للزم تخصيص اللفظ إذا سلمتم أن ذبيحة الناس حلال فللحنفي أن يقول التخصيص خير من المجاز ومن أمثلته أيضا أن يقول الشافعي العمرة فرض لقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وظاهر الأمر الوجوب فيقول المالكي تخصيص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز والتخصيص أولى من المجاز للشافعي بعد هذا أن يقول هذا الترجيح معارض بأنهما قد استويا في السياق فوجب أن يستويا في الحكم والحج واجب إجماعا فيجب الآخر عملا بالأصل المستوي بينهما
قال العاشر التخصيص خيرمن الإضمار لما مر مثل ولكم في القصاص حياة
التخصيص خير من الإضمار لأن التخصيص خير من المجاز لما مر والمجاز مساو للإضمار والأولى من المساوي أولى مثاله قوله تعالى ولكم في القصاص حياة فإن الأئمة اختلفوا فيه فقال منهم قائل الخطاب عام اختص بالورثة لأنهم إذا اقتصوا حصلت لهم الحياة بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم

وقال قائل بل هو عام والمشروعية مضمرة أي ولكم في مشروعية القصاص حياة وذلك لأن الناس إذا سلموا أن القصاص مشروع كان أدعى لاندفاع القتل ما بينهم لأن من هم بالقتل واستحضر أنه يقتص منه انكف عن القتل غالبا
واعلم أن هذا التأويل الثاني هو الصحيح وإن كان الأول مترجحا من جهة أولوية التخصيص وكذلك كل ما أوردناه من هذا الفصل من الأمثلة فإنا غير حاكمين عليه بالترجيح إلا من جهة ما أوردناه له مثالا ولا يشترط أن يكون مرجوحا من وجه آخر هو أقوى أو مساو لذلك ذكرنا في بعض الأمثلة أن الترجيح يندفع بالأمر الفلاني تنبيها على ما أشرنا إليه الآن ومن أمثلة هذا الوجه العاشر أن يقول المالكي الكلب طاهر لقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم والضمير في أمسكن عام في جملة الجوارح فيندرج فيه الكلب فيجوز أكل موضع فمه عملا بالظاهر فيكون طاهرا فيقول الشافعي يلزم على ما ذكرتموه جواز أكل ما أمسك بعد القدرة عليه من غير ذكاة وليس كذلك فيلزم التخصيص بل ههنا إضمار تقديره كلوا من حلال ما أمسكن عليكم وكون موضع فمه من الحلال محل النزاع فللمالكي أن يقول على ما ذكرناه يلزم التخصيص وعلى ما ذكرتموه يلزم الإضمار والتخصيص أولى
ومنها قولنا لا يصح صوم رمضان إلا بنية الفرض خلافا لأبي حنيفة حيث قال يصح بمطلق النية أو بنية النقل ونية واجب آخر لنا إنما الأعمال بالنيات ويقتضي توقف ذات الأعمال على نياتها كما يقال إنما الكتابة بالقلم ويلزم من توقف ذوات الأعمال توقف صحتها لاستحالة وجود الصحة بدون الذات والمراد بالنيات نيات الأعمال فاقتضى توقف صحة كل عمل على نيته فيتوقف الفرض على نية الفرض
فإن قلت الكمال مضمر في الحديث إذ لو لم يضمر لزم التخصيص بالأعمال التي لا تتوقف على النية كرد الودائع والغصوب

قلت التخصيص أولى
قال تنبيه الاشتراك من النسخ لأنه لا يبطل
التخصيص الذي سبق ترجيحه على الاشتراك وغيره هو التخصيص في الأعيان لا التخصيص في الأزمان الذي هو النسخ فإن الاشتراك خير منه وذلك لأن الاشتراك لا إبطال فيه بل غايته التوقف إلى القرينة عند من لا يحمله على معنييه بخلاف النسخ فإنه يبطل الحكم السابق بالكلية مثال التبييت شرط في صحة صوم رمضان خلافا لأبي حنيفة وساعدنا على القضاء والنذر فنقيس محل النزاع على محل الوفاق
فإن عارض بما روي أنه عليه السلام قدم المدينة يوم عاشوراء فرأي اليهود صائمين فسأل عليه السلام عن صومهم ويومهم فقيل هذا يوم أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وأهلك عدوه فرعون وكان موسى عليه السلام يصومه شكرا ونحن نصومه اتباعا له فقال عليه السلام نحن أحق بموسى منهم ثم أمر مناديا ينادي ألا من أكل فليمسك بقية النهار ومن لم يأكل فليصم أمر بالصوم في أثناء النهار ومن المعلوم أن الصوم في أثناء النهار لا يكون إلا بنية من النهار
قلنا لا نسلم وجوب ذلك اليوم
فإن قال ظاهر الأمر الوجوب كان لمن يعتقد أن الأمر مشترك بين الوجوب والندب أن يقول كما هو في حقيقة في الوجوب فكذلك في الندب وإذا كان حقيقة فيهما لا يحمل على الوجوب إلا بقرينة زائدة وعندنا صوم النقل يصح بنية من النهار
فإن قلت الاشتراك خلاف الأصل قلت لو لم يكن مشتركا لزم النسخ فإن صح يوم عاشوراء غير ثابت والاشتراك خير من النسخ

قال والاشتراك بين علمين خير منه بين علم ومعنى وخير منه بين معنيين
هذان فرعان
الأول أنه إذا تعارض المشترك بين علمين والمشترك بين علم ومعنى فالمشترك بين علمين أولى لأن الأعلام إنما بين علمين أولى لأن الأعلام إنما تطلق على الأشخاص المخصوصة كزيد وعمرو إذ المراد العلم الشخصي لا الجنسي وهذا بخلاف أسماء المعاني إذا تتناول المسمى في أي ذات كان فكان اختلال الفهم يجعله مشتركا بين علمين أقل الفرع
الثاني وإليه أشار بقوله وهو أي المشترك بين علم ومعنى أولى من المشترك بين معنيين لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك من الأول أقل من الثاني هذا ما ذكره المصنف تبعا للإمام في هذين الفرعين وأنت إذا نظرت إلى قولهما المشترك بين علمين وبين علم ومعنى وعلمت أن المشترك لا بد وأن يكون حقيقة في أفراده وتذكرت ما قالاه قبل ذلك من أن العلم ليس بحقيقة ولا مجاز علمت أن الغفلة تطرقت إليهما في ذلك وبالله التوفيق

الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها
قال رحمه الله الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها وفيه مسائل
الأولى الواو للجمع المطلق بإجماع النحاة ولأنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب مثل تقابل زيد وعمرو وجاء زيد وعمرو قبله ولأنها كالجمع والتثنية وهما لا يوجبان الترتيب
هذا الفصل معقود لتفسير حروف يشتد حاجة الفقيه إلى معرفتها لكثرة وقوعها في الدلائل وقد أودعه مسائل
الأولى في حكم الواو العاطفة وبدأ بها لأنها أصل الباب وفيها مذاهب
أحدها أنها للترتيب وهو الذي اشتهر من أصحاب الشافعي كما قال إمام الحرمين وهو قضية كلام الماوردي حيث استدل على الترتيب في الوضوء بآية الوضوء وقال قد عطف بحرف الواو ذلك موجب للترتيب لغة وشرعا
الثاني أنها للمعية وعلية الحنفية كما قال إمام الحرمين ثم قال وقد ذل الفريقان يعني القائلين بالترتيب والمعية
والثالث وهو المختار أنها لمطلق الجمع لا تدل على ترتيب ولا معية فإذا قلت جاء زيد وعمرو فقد أشركت بينهما في الحكم من غير تعرض لمجيئهما معا أو لمجيء أحدهما بعد الآخر فهي للقدر المشترك بين الترتيب والمعية وهذا ما نقله القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية عن أكثر أصحابنا ونقل عن الفراء

أنا للترتيب حيث يمتنع الجمع مثل اركعوا واسجدوا ويشبه ألا يكون هذا مذهبا رابعا مفصلا لأن الموضوع للقدر المشترك بين معنيين إذا تعذر حمله عليه للقرينة موضوعا له بل لتعذر الحمل على صاحبه وانحصار الأمر فيه ونقل بعضهم عن الفراء أنه للترتيب وقد استدل في الكتاب على المذهب المختار بثلاثة أوجه
أحدها إجماع النحاة قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع المطلق
الثاني أنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب فإنك تقول تقاتل زيد وعمر والتفاعل يقتضي صدور الفعل من الجانبين معا وذلك ينافي الترتيب وتقول جاء زيد وعمرو هنا أن تكون الواو للترتيب وإلا لزم التناقض وإذا استعملت في غير الترتيب وجب ألا تكون حقيقة في الترتيب رفعا للاشتراك وهذا الدليل لا يثبت المدعى وإنما ينفي كونها للترتيب
والثالث أن النحاة قالوا واو العطف في المختلفات بمثابة واو الجمع وياء التثنية في المتغقات ولذلك أنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة وتثنيتها استعملوا واو العطف ثم إن واو الجمع والتثنية لا يوجبان الترتيب فكذلك واو العطف وهذا الدليل كالذي قبله لا ينفي القول بالمعية وهنا أمور
أحدها أنه أطلق الواو والصواب تقييده لواو العطف لتخرج واو مع واو الحال مثل سرت والنيل فإنهما يدلان على المعية بلا شك
وثانيها حكايته الإجماع قلد فيه الإمام والإمام حكاه عن الفارسي وكذلك نقله السيرافي والسهيلي وفيه نظر فإن الخلاف موجود عند النحويين في ذلك كما هو عندهم غيرهم
وقد سبق النقل عن الفراء وكذلك قال شيخنا أبو حيان في الارتشاف

ونقله السهيلي والسيرافي إجماع النحويين بصريهم وكوفيهم على ذلك غير صحيح
وثالثها وهو المقصود الأعظم والمهم الأكبر ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام عن بعض الباحثين المتعلقين بعلم المعقول أنه فرق بين مطلق الماء والماء المطلق بما حاصله أن الحكم المعلق بمطلق الماء يترتب على حصول الحقيقة من غير قيد والمرتب على الماء المطلق مرتب على الحقيقة بقيد الإطلاق ولا يلزم من توقف الحكم على مطلق الحقيقة توقفه على الحقيقة المقيد بقيد الإطلاق قلت وقد جرى البحث مع والدي رحمه الله في قاعدة مطلق الشيء والشيء المطلق ولا شك أنه إذا أخذ المطلق قيدا في الشيء كان المراد بالأول حقيقة الماهية وبالثاني هي تقيد الإطلاق فالأول لا يقيد والثاني يقيد لا
وقولنا يقيد لا يقيد التجرد عن جميع القيود إلا قيد لا وقد لا يراد ذلك بل يراد التجرد عن قيود معروفة ولذلك أمثلة منها مطلق الماء والماء المطلق
فالأول ينقسم إلى الطهور والطاهر غير الطهور والنجس وكل الطاهر غير الطهور والنجس ينقسم بحسب ما يتغير به ويخرجه ذلك عن أن يطلق عليه أسم الماء

والثاني وهو الماء المطلق لا ينقسم إلى هذه الأقسام وإنما يصدق على أحدها وهو الطهور وذلك لأنه أخذ فيه قيد الإطلاق وهو التجرد عن القيود اللازمة التي يمتنع بها أن يقال له ماء إلا مقيدا كقولنا ماء متغير بزعفران أو أشنان أو نحوه وماء اللحم وماء الباقلا وما أشبه ذلك
ومنها اسم الرقبة وحقيقتها يصدق على السليمة والمعيبة والمطلقة لا يصدق إلا على السليمة فلا يجزى في العتق عن الكفارة إلا رقبة سليمة لإطلاق الشارع إياها والرقبة المطلقة مقيدة بالإطلاق بخلاف مطلق الرقبة
ومنها الدرهم المذكور في العقود قد يقيد بالناقص والكامل وحقيقية منقسمة إليهما وإذا أطلق يتقيد بالكامل المتعارف ونحوها في الرواج بين الناس
ومنها الثمن والأجرة والصداق وغيرها من الأعراض المجعولة في الذمة ينقسم إلى الحال والمؤجل وإذا أطلقت إنما تحمل على الحال فالإطلاف قيد اقتضى ذلك
ومنها حقيقة القرابة يدخل فيها الأب والإبن وغيرهما من القرابات وعند الإطلاق لا يدخل فيها الأب والإبن لأنهما أعلى من أن يطلق فيهما لفظ القرابة لما لهما من الخصوصية المقتضية لمزيد على بقية القرائب فيقال إنهما أقرب الأقارب وأفعل التفضيل يستدعي المشاركة فلولا ما قلناه من تحقق معنى القرابة فيهما لما صدق عليهما أنهما أقرب الأقارب وإنما امتنع إطلاق القرابة عليهما لما يقتضيه الإطلاق من التقييد بالقرابة العامة التي لا مزيد فيها على مجرد القرابة
هذا ماحرره والدي أيده الله تعالى حال البحث وكان أصل البحث في مسألة القرابة فلذلك أوردناه وقد أوردت عليه إذ ذاك سؤالات وألف مختصرا لطيفا في ذلك وأجاب عنها فلنذكرها على وجه السؤال والجواب
فإن قلت اللفظ إنما وضع لمطلق الحقيقة لا للحقيقة المطلقة فتقييدكم إياه

عند الإطلاق بالحقيقة المطلقة من أين قلت من جهة إطلاق المتكلم فصار إطلاقه قيدا في اللفظ
فإن قلت من المعلوم أنه ليس في اللفظ فهل يقولون إن ذلك قرينة حالية أو لفظية وهي متوسطة بين القرائن الملفوظ بها والقرائن الحالية وهي هيئة صادرة من المتكلم عند كلامه وذلك أن الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد
فإنك إذا قلت قام الناس كان كلاما يقتضي إخبارك بقيام جميع الناس فإذا قلت إن قام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية فإذا قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا وقد علمت أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين
أحدهما ألا يبتدئه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا عبرة بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في الإفادة لأن الواضع وضعه لذلك
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيأ لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمقيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم تعلم من قائله هل قصده وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيره هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس
قلت قد تقدم الجواب عن هذا في أول باب اللغات وكذلك ما قبله وبالله التوفيق
وإنما دعا إلى ذكر هذا البحث جميعه الاعتراض على قول المصنف الجمع المطلق وأنه كان الأسد أن يقول مطلق الجمع فساق النظر إلى ذكر هذه المباحث الجليلة

قال قيل أنكر ومن عصاهما ملقنا ومن عصى الله ورسوله
قلنا ذلك لأن الأفراد أشد تعظيما قيل لو قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق طلقت واحدة بخلاف أنت طالق طلقتين
قلنا الإنشاءات مترتبة بترتيب اللفظ وقوله طلقتين تفسير لطالق
احتج القائلون بأن الواو للترتيب بوجهين
الأول ما روى مسلم في صحيحه أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله وهذا يدل على أنها للترتيب إذ لو كانت للجمع لما حسن الذم
أجاب بأن ذلك ليس لأنها للترتيب بل لأن الإفراد بالذكر أشد في التعظيم ومما يدل على هذا أنه لا يترتب بين عصيان الله وعصيان نبيه صلى الله عليه و سلم بل معصية الله معصية الرسول صلى الله عليه و سلم لتلازمهما
فإن قلت ما الجمع بين إنكاره صلى الله عليه و سلم على هذا الخطيب مع قوله صلى الله عليه و سلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وقال في حديث آخر فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم فقد جمع بينهما في ضمير واحد وقد قلت أجيب بوجهين
أحدهما النبي صلى الله عليه و سلم أنكر ذلك على الخطيب لكونه عدل عن الأولى

والأفضل لا سيما وهو في مقام الخطابة المقتضى للتعليم وأما النبي صلى الله عليه و سلم فلم لا يفعل إلا الأولى فإنه في مقام تشريع وتبيين ففعل الأولى له بتبيينه الأولى ليدل على الجواز
والثاني أن حسن الكلام إيجازا وإطنابا مما يختلف باختلاف المقام فرب مقام يقتضي الإطناب وبسط العبارة ورب آخر لا يقتضي ذلك والخطيب كان في مقام الترغيب والدعاء إلى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم فناسب بسط العبارة والمبالغة في الإيضاح
الوجه الثاني للقائلين بأن الواو للترتيب أن الرجل إن قال لزوجته التي لم يدخل بها أنت طالق طالق طلقت واحدة على المذهب الصحيح ولو كانت الواو لمطلق الجمع لكان مثل قوله أنت طالق طلقتين حتى يقعا
أجاب بأن قوله وطالق معطوف على الإنشاء فكان إنشاء آخر أتى به بعد تمام الأول وعمله عمله لأن معاني الإنشاء مقاربة لألفاظها فيكون قول ثانيا وطالق إنشاء لإيقاع طلقة أخرى في غير وقت قابل للطلاق لأنها بالأولى بانت إذ هي غير مدخول بها بخلاف قوله طلقتين أو ثلاثا فإنه تفسير للكلام الأول وبيان لما قصد به لا إنشاء ثان
خاتمة قد عرفت دعوى إمام الحرمين أن المشتهر في أصحاب الشافعي أن الواو للترتيب وما قاله الماوردي وهذا لعله أخذ من مسألة الترتيب في الوضوء وإن كان ذلك فهو لا يكفي في تسويغ النقل على هذه الصورة فإن للأصحاب مستندا آخر غير كون الواو للترتيب وقد قيل إن الناقلين لكون الواو للترتيب عن الشافعي إنما هم قوم من الحنفية من غير ثبت بل بمجرد ظن من مسألة الترتيب في الوضوء ولذلك قال الأستاذ أبو منصور البغدادي معاذ الله أن يصح هذا النقل عن الشافعي بل الواو عنده لمطلق الجمع
قلت وهو اللائق بقواعد مذهبه وعليه تدل الفروع وقد اتفق الأصحاب قاطبة على أن قول القائل وقفت على أولادي وأولاد أولادي مقتض للتسوية والتشريك بينهم دون الترتيب ولا نعلم أحدا قال بالترتيب وإن أتى في بعض

الفروع خلاف فمنشأة اختيار من صاحب ذلك الوجه أن الواو للترتيب ومن ذلك قول الأصحاب فيما يقال إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق لا بد من وجودهما في وقوع الطلاق ولا يقع بهما إلا طلقة ولا فرق بين أن يتقدم الكلام أو يتأخر وفي التتمة ما يقتضي إثبات خلاف فيه لأنه قال من جعل الواو للترتيب فلا بد عنده من أن يتقدم الدخول على الكلام
قال االرافعي ومن الأصحاب من جعل الواو للترتيب وذكر الرافعي في آخر باب القسم والنشوز أنه لو قال لوكيله خذ مالي ثم طلقها لم يجز تقديم الطلاق ولو قال خذ مالي وطلق فهل يشترط تقديم أخذ المال أو لا يشترط ويجوز تقديم الطلاق كما لو قال طلقها وخذ مالي فيه وجهان
رجح صاحب التهذيب منهما الأول
قلت وليس الوجهان في المسألة ناظرين إلى ما نحن ناظرين فيه من اقتضاء الواو للترتيب وإنما القائل بوجوب تقديم المال ناظر إلى أن الموكل قدمه في كلامه والوكيل يراعي المصلحة فليقدم أخذ المال والمخالف ناظر إلى عدم اقتضاء الواو للترتيب ويدل على هذا أنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المال في عكسه وهو ما إذا قال طلقها وخذ مالي بل لو صرح بثم التي وضعت للتراخي لجاز له تقديم أخذ المال على الطلاق قال الرافعي لأنه زيادة خير
فإن قلت قد نقل الرافعي في التدبير عن صاحب التهذيب فيما إذا قال لعبده إن مت ودخلت الدار فأنت حر لا بد أن يقع دخوله الدار بعد موت السيد ولم يحك ما يخالفه فقد جعلوها هنا للترتيب
قلت هذا مشكل والظاهر أنه مبنى على أن الواو للترتيب وإلا فأي فرق بين هذه المسألة والمسألة التي قدمناها فيما إذا قال إذا دخلت الدار وكلمت زيدا ولم يقل أحد بالترتيب إلا ما أخرجه صاحب التتمة
وعلى الجملة إن وضح معنى في هذه المسألة فقد حصل الغرض من أن الفرع غير مبني على اقتضاء الواو للترتيب وإلا فما قاله الأصحاب في مسألة إن دخلت الدار وكلمت زيدا يناقضها وهو أصح

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7