كتاب : فاكهة الخلفاء و مفاكهة الظرفاء
المؤلف : ابن عربشاه

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله) الذي شهدت الكائنات بوجوده وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده ونطقت الجادات بقدرته وأعربت العجمات عن حكمته وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته وتناغت الأطيار بتوحيده وتلاغت وحوش القفار بتفريده كل باذل جهده وأن من شيء إلا يسبح بحمده بل المكان ومن فيه والزمان وما يحويه من نام وحامد ومشهود وشاهد تشهد بأنه إله واحد منزه عن الشريك والمعاند مقدس عن الزوجة والوالد مبرأ عن المعاند والمنادد مسبح بأصناف المحامد (أحمده) حمد تنطق به الشعور والجوارح وأشكره شكراً يصيد نعمه صيد المصيد بالجوارح (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب أودع أسرار بوبيته في بريته وأظهر أنوار صمديته في جواني بحره وبريته فبعض يعرب بلسان قاله وبعض يعرب بلسان حاله وتسبحه السموات باطيطها والأرض بغطيطها والأبحر بخريرها والأسد بزئيرها والحمام بهديرها والطير بتغريدها والرياح بهبوبها والبهائم بهبيبها والهوام بكشيشها والقدور بنشيشها والخيل بضجها والكلاب بنبحها والأقلام بصريرها والنيران بزفيرها والرغود بعجيبها والبغال بشحيحها والانعام برغائها والذباب بطنينها والقسى برنينها والنياق بحنينها كل قد علم صلاته وتسبيحه ولازم في ذلك غبوقه وصبوحه وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم (وأشهد) أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي من صدقه تم سوله أفضل من بعث بالرسالة وسلمت عليه الغزالة وكلمه الحجر وآمن به المدر وانشق له القمر ولبت دعوته الشجر واشتجار به الجمل وشكا إليه شدة العمل وحن إليه الجذع ودر عليه يابس الضرع وسجت في كفه الحصباء ونبع من بين أصابعه الماء وصدقه ضب البرية وخاطبته الشاة المصلية صلى الله عليه صلاة تنطق بالاخلاص وتسعى بالخلاص وعلى آله أسود المعارك وأصحابه شموس المسالك وسلم تسليما وزاده شرفاً وتعظيماً (أما بعد) فان الله المقدس في ذاته المنزه عن سمات النقص في صفاته قد أودع في كل ذرة مخلوقاته من بديع صنعه ولطيف آياته ومن الحكم والعبر مالا يدركه البصر ولا تكاد تهتدي إليه الفكر ولا يصل إليه ذوي النظر ولكن بعض ذلك للبصر بالرصد ظاهر يدركه كل أحد قال اللهتعالى وجل ثناؤه جلالاً وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وقال عز من قائل في كلامه الطائل أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وقال الشاعر:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد

لكن لما كثرت هذه الآيات والحكم وانتشرت أزهار رياضها في وهاد العقول والاكم وترادف ما فيها من العجائب والعبر وتكرر ورود مراسيمها على رعايا السمع والبصر وعادتها النفوس ولم يكترث بوقوعها القلب الشموس ولم يستهن من وجودها ولم يلتفتن إلى حدودها فكثر في ذلك أقوال الحكماء وتكررت مقالات العلماء فلم تصغ الأسماع إليها ولا عولت الأفكار عليها فقصد طائفة من الأذكياء وجماعة من حكماء العلماء ممن يعلم طرق المسالك إبراز شيء من ذلك على ألسنة الوحوش وسكان الجبال والعروش وما غير مألوف من البهائم والسباع وأصناف الأطيار وحيتان البحار وسائر الهوام فيسندون إليها الكلام لتمثيل لسماعه الأسماع وترغب في مطالعته الطباع لأن الوحوش والبهائم والهوام والسوائم غير معتادة لشيء من الحكمة ولا يسند إليها أدب ولا فطنه ولا معرفة ولا تعرف ولا قول ولا فعل ولا تكليف لأن طبعها الشماس والأذى والافتراس والإفساد والنفور والعدران والشرور والكسر والتغريق والنهش والتمزيق فإذا أسند إليها مكارم الأخلاق وأخبر بأنها تعاملت فيما بينها بموجب العقل والوفاق وسلكت وهي مجبولة على الخيانة سبل الوفاء ولازمت وهي مطبوعة على الكدورة طرق الصفاء أصغت الآذان إلى استماع أخبارها ومالت الطباع إلى استكشاف آثارها وتلقتها القلوب بالقبول والصدور بالانشراح والبصائر بالاستبصار والأرواح بالارتياح لكونها أخباراً منسوجة على منوال عجيب وآثاراً أسديت لحتها في صنع بديع غريب لا سيما الملوك والأمراء وأرباب العدل والرؤساء والسادة والكبراء وأبناء الترفه والنعم وذو والمكارم والكرم إذا قرع سمعهم قول القائل صار البغل قاضياً والنمر طائعا لا عاصيا والقرد رئيس الممالك والثعلب وزيراً لذلك والذئب مؤرخاً أديباً والحمار منجماً طبيباً والكلب كريماً والحجل نديماً والغراب دليلاً والعقاب خليلاً والجدأة صاحبة الأمانة والفأرة كاتبة الخزانة والحية راقية والبومة ساقية وضحك النمر متواضعاً وغدا الأسد لإرشاد الذئب سامعاً ورقص الغزال في عرس القنفد وغنى الجدي فطرب الجدجد وتصادق القط والجرذات وصار السرحات راعي الضان وعانق الليث الحمل والذئب الجمل ورفع الباشق الحمامة على رقبته وحمل ارتاحت لذلك نفوسهم وزال عبوسهم وانشرحت خواطرهم وسرت سرائرهم وأصغت إليه أسماعهم ومالت طباعهم وأدى طيشهم إلى أن طاب عيشهم ولكن أهل السعادة وأرباب السيادة ومن هو متصد لفصل الحكومات والذي رفعه الله لدرجات فانتصب لإغاثة الملهوفين وخلاص المظلومين من الطالمين والمتنبهون بتوفيق الله تعالى لدقائق الأمور وحقائق ما تجري به الدهور إذا تاملوا في لطائف الحكم والفرائد التي أودعت في هذه الكلم ثم تفكروا في نكت العبر وصفات العدل والسير والأخلاق الحسنة والقضايا المستحسنة المسندة إلى ما لا يعقل ولا يفهم وهم من أهل القول الذي يشرف به الإنسان ويكرم يزدادون ويسلكون بها الطرق المنيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم وربما أدى بهم فكرهم وانتهى بهم في أنفسهم أمرهم أن مثل هذه الحيوانات مع كونها عجماوات إذا اتصفت بهذه الصفة وهي غير مكلفة وصدر منها مثل هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك فيسلكون تلك المسالك وقد ضرب الله ذو الجلال في كلامه العزيز الأمثال فقال مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كان يعلمون وقال سبحانه بعد ذلك وتلك الأمثال نضربها للناسوما يعقلها إلا العالمون وقال سبحانه ما أعظم شأنه يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لنم يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيأ لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وقال تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها وقال تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وقال تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً وقال تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين أسند

سبحانه وتعالى الأفعال والأقوال إلى الجمادات بعدما وجه الخطاب إليها وقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم وكل ما جاء في هذه الطريقة فأنه بالنسبة إليه تعالى حقيقة لأنه قادر على كل شيء وسواء عنده الميت والحي ولا فرق في كمال قدرته بالنظر إلى قدرته ومشيئته وتصوير كمال عظمته وهيبة بين الناطق والصامت والنامي والجامد والشاهد والغائب والآتي والذاهب كما لا فرق في هذا الكمال بين الماضي والاستقبال وقال تعالى فما بكت عليهم السماء والأرض وقال فوجدوا فيها جداراً يريد أن ينقض وقال تعالى قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم وقال في الهدهد فقال أحطت بما لم تحط به وقال الشاعر (ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب) وقالت العرب في أمثالها قال الجدار للوتد تشقني قال سل من يدقني قل لمن ورائي يتركني ورائي وقالوا من الأسد ومن أشهر أمثالهم قالوا أن الأرنب التطقت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب فقالت الأرنب يا أبا الحصين قال سميعا دعوت قالت أتيناك لنختصم إليك قال عاد لا يحكما قالت أخرج قال في بيته يؤتى الحكم قالت أني وجدت تمرة قال حلوة فكليها قالت فاختلسها مني الثعلب قال لنفسه بغى الخير قالت فلطمته قال بحقك أخذت قالت فلطمني قال حر انتصر لنفسه قالت فاقض بيننا قال قد قضيت فذهبت هذه الأقوال كلها أمثالاً وقالوا اتحككت العقرب بالأفعى وقال الشاعر
قام الحمام إلى البازي يهدد ... واستصرخت بأسود البر أضبعه

وهذا أمره مستغيض مشهور معروف بين الأنام غير منكور والحصر في هذا المعنى يتعسر والاستقصاء يتعذر وإنتما الأوفق التمثيل والتنظير والاستدلال بالقليل على الكثير فيتفكه السامع تارة ويتفكر أخرى ويتتقل في ذلك من الأخفى إلى الأجلى ويتوصل بالتأمل من الأدنى إلى الأعلى ومن جملة ما صنف في ذلك واشتهر فيما هنالك وفاق على نظائره بمخبره ومنظره وحاز فنون الغطنه كليله ودمنه والمتمثل بحكمة الطباع كتاب سلوان المطاع والمفحم بنظمه العجيب كل شاعر وأديب معجز الضراغم الصادج والباغم وفي غير لسان العرب ممن يتعاطى فن الأدب جماعة رضعوا أفاويقه وسلكوا من هذا النمط طريقة لكن تقادم عصرهم واشتهر أمرهم وتكرر ذكرهم وصارت مصنفاتهم مطروقة وعتاق نجائبها في ميدان التأمل عتيقة ففلذت من دهري فلذه وعملت بموجب لكل جديد لذة وسيرت فارس الأفكار في ميدان هذا المضمار وقصدت من الفائدة ما قصدوه ومن العائدة في الدارين ما رصدوه وجمعت ما بلغني عن نقله الأخبار وحملة الآثار ورواة الأسفار على لسان شيخ اللطائف ومنبع المعارف وإمام الطوائف ومجمع العوارف ذي الفضل والإحسان أبي المحاسن حسان ووضعت هذا الكتاب نزهة لبني الآداب وعمدة لأولي الألباب من الملوك والنواب والأمراء والحجاب وجعلته عشرة أبوابومن الله أسمد الصواب وأستغفره من الخطأ في الجواب أنه رحيم تواب كريم وهاب (وسميته فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) شعر:
فان يغض بحر علمي تهدمنه على ... در ينير عيون العقل في السدف
ألبسته من خلاعات النهى خلعا ... وربما ازدان عقد الدر بالخزف
والفضل يحتاج في ترويج سلعته ... إلى الخرافة والمعقول للخرف
فاعبر إلى البحر تجن الدر منه ولا ... يلهيك عن دره أضحوكة الصدف

الباب الأول
في ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب
(قال) الشيخ أبو المحاسن بلغني عن ذي فضل غير آسن أنه كان فيما غير من الزمان قيل من الأقيال غزير الأفضال عزيز الأمثال وارث المعارف حائز الفضائل واللطائف وافر السيادة كامل السعادة ذو حكم مطاع وجند وأتباع وممالك واسعة ذات أطراف شاسعة تحت أوامره ملوك عده ذو سطوات ونجده وله من الأولاد الذكور خمسة أنفار كل بالسيادة مذكور وبالعلم والحلم والحكم مشهور ومشكور متوشح للسلطنة متول من والده مكاناً من الأمكنة وكان أسعدهم عند أبيه وهو متميز على أخوته وذويه سمسي المنظر اياسي المخبر ذا فهم مصيب واسمه في فضله حسيب قد حصل أنواعاً من العلوم وأدركها من طريقي المنطوق والمفهوم وكان لهذا الفضل الجسيم يدعى بين الصغير والكبير الحكيم فلما دعا أباهم داعي الرحيل وعحك إلى دار البقاء أجمال التحميل استولى على السرير أكبر أولاده وأطاعه أخوته ورؤس أمرائه وأجناده وصار السعد يراقبه والملك بلسان الحال يخاطبه شعر:
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب

35 - عمرو بن قميئة بن قيس بن ثعلبة، شاعر كبير، معمر، مجيد مُقِلّ، مختار الشعر على قلته، يقال إنّه أرمى على مائة سنة، ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال: حدثني أبو عمرو الشيباني قال: نزل امرؤ القيس ببكر بن وائل فضرب قبّته وقال: هل فيكم من يقول الشعر؟ قالوا: شيخ كبير قد خلا من عمره وأتوه بعمرو بن قميئة فلما أنشده شعره أعجب به فاستصحبه وكان معه إلى الروم، قال وأنشدني أبو عمرو الشيباني له:
كأنّي وقد جاوزتُ تسعينَ حِجًة ... خلعتُ بها عني عِذَار لِجامِ
رمتني بناتُ الدهرِ من حيث لا أرى ... فكيف بمَن يُرمى وليس برامِ
فلو أنها نَبْلٌ إذن لاتقَّيتُها ... ولكنما أُرْمَى بغيرِ سهامِ
على الراحتين مرةً وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثاً بعدَهُنَّ قيامي
وأهْوَنُ كفٍّ لا غَيرُكَ ضيرَةً يدٌ بين أَيدٍ في إناءِ طعامِ يَدٌ من غريبٍ أو قريبٍ أتت به شآميةٌ غبراءٌ ذاتُ قَتامِ وأَفني وما أُفْنِي من الدهرِ ليلةً ولم يُغْنِ ما افنيت سِلْكَ نظامِ وأنشد له:
لا تَغْبِطِ المرءَ إن يُقال له ... أمسى فلانٌ بسّنهِ حَكَما
إن يُمْسِ في خفضِ عيشةٍ فلقد ... أخنى على الوجهِ طولُ ما سَلِما
قال اليعقوبي: وقال رَوح بن عُبادة، وهو من قيس بن ثعلبة صليبةً: كان امرؤ القيس أملك من أن يقول شعراً، وكل شعر يُروى عنه فهو لعمرو بن قميئة. وهذا القول إذا صحَّ عن رَوح لا يخلو من قلّة فهم منه بما بين نمط شعر امرىء القيس وشعر عمرو بن قميئة، وإن كان عمرو محسناً في شعره فليس هو من نظراء امرىء القيس في غزارة الشعر وإصابة المعنى وحسن التشبيهات، وإنما صحب امرأ القيس مدة يسيرة. أو من عصبية على امرىء القيس لعمرو، وليس مكان امرىء القيس من بيت الملك مانعاً له عن قول الشعر. وقد قال امرؤ القيس مما يعاب عليه ومما ليس مشبهاً للملك الذي نشأ فيه وطلبه إلى أن أتى عليه أجله، وقد استجار في طيء جاراً بعد جارٍ، كلّهم أو أكثرهم يغدر به ويتهضّمه حتى حصل على أعْنُزٍ له، وسيقت إبله، فقال:
إذا ما لم يكنْ إبلٌ فمِعْزَى ... كأنَّ قُرونَ جلَّتِها عِصيُّ
إذا ما قام حالِبُها أَرَنَّتْ ... كأنَّ الحيَّ صبَّحَهم نِعَيُّ
فتملأَ بيتنا أَقِطَاً وسَمْناً ... وحسبُك من غِنىً شِبَعٌ ورِيُّ
وقد ثبتت أبو عبيدة وغيره من الرواة أمر عمرو بن قميئة مع امرىء القيس، ووصفوا أنّه إياه عَنَى بقوله:
بكَى صَاحِبي لمّا رأى الدَّربَ دوننا ... وأيقنَ أنَّا لاحِقانِ بقيصرا
فقلتُ له لا تَبكِ عينُكَ إنَّما ... نُحاولُ مُلكاُ أو نَموُتَ فَنُعذَرا
وكان أعلمني أبو محمد بن قتيبة الدينوري في خبر حدثنيه، لستُ أقوم عليه: أن عمرو بن قميئة هلك في سفر امرىء القيس إلى الروم، فلا أدري في إصعادِه إليه أو في انحداره. ومات امرؤ القيس في منصرفه عن ملك الروم بأنقرة، وقبره هناك معروف.
وحُكي لي عن المأمون أنه رآه ورأى صورته هناك في حجر.
ولا يُعرف لعمرو بن قميئة خبر بعد صحبته امرأ القيس. وكان امرؤ القيس معتقداً للحلف بين من تحالف من أحياء ربيعة واليمن، وفي ذلك يقول:
يا راكباً ابلغ ذوي حلْفِنا ... مَنْ كان من كِندةَ أو وائلِ
والحيَّ عبدَ القيس حيث انتوَوا ... من سَعفِ البحرين والساحلِ
إنَّا وإيّاهم وما بيننا ... كموضِعِ الزَّوْرِ من الكاهلِ
36 - عمرو بن سعد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهو المرقّش الأكبر. ذكر أبو عبد الله بن مسلم الدينوري: أن اسمه عمرو، وأخبرني غيره: أنَّ لقيطَ بن بُكير سمّاه عمراً. وحدثني أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة قال أخبرني عبد الله بن أبي كريم عن إسحاق بن مرار أبي عمرو الشيباني: أنّ اسمه عوف بن سعد، وفي نسب ابن الكلبي اسمه عوف. وهو جاهلي قديم جيد الشعر.
والمرقّش االأصغر ابن أخيه، وطرفة ابن أخي المرقش الأصغر.
ومن قول المرقش الأكبر القصيدة المعروفة:

هل بالديارِ أنْ تُجيبَ صَمَمْ ... لو كان حيُّ بها لتَكلَّمْ
الدارُ وحشٌ والرسومُ كما ... رقَّشَ في ظهرِ الأَديمِ قَلَمْ
ليس على طُولِ الحياةِ نَدَمْ ... ومن وراء المرء ما يَعْلمْ
37 - عمرو بن حرملة، المرقّش الأصغر حدثني أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، قال أخبرنا غيث بن عبد الكريم الباهلي، قال: المرقش الأصغر: عمرو بن حرملة بن سعد بن مالك. وذكر الدينوري أن اسمه ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك، وأن المرقش الأكبر عمّه أخو أبيه، وهو الذي يقول:
أَمِنْ حُلُمٍ أصبحتَ تَنكُتُ واجماً ... وقد تعتري الأَحلامُ مَنْ كانَ نائما
فمنْ يَلْقَ خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ... ومَن يغوِ لا يَعْدَمْ على الغيِّ لائما
ومن قوله:
فمَنْ مُبلِغُ الأقوامَ أنَّ مرقّشاً ... أَضحى على الأقوامِ عِبئاً مثُقْلا
وكانت صاحبة الأول أسماء، وصاحبة الثاني فاطمة ابنة عجلان.
38 - عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، وهو طَرَفة، قال أبو عبيدة: كان أُطردَ بسبب هجائه آل المنذر اللخميين، فلحق بالحبشة، وسُمّي بها طرفة بقوله في قصيدته:
لا تعجلا بالبكاء اليومَ مُطّرفاً ... ولا أميريكما بالدار إذ وَقَفا
وأنشدني أحمد بن أبي خيثمة عن عبد الله بن أبي كريم عن أبي عمرو الشيباني لطرفة:
فوَجدي بسلمى فوقَ وجدِ مرقّش ... بأسماءَ إذ لا تستفيقُ عواذِلُةُ
لَعَمْرِي لَمَوتُ لا عقُوبةَ بعدَهُ ... لذي البَثِّ أشفى من هَوىً لا يُزايلُهُ
حدثني ابن أبي خيثمة عن الأثرم عن أبي عبيدة: أن لبيد بن ربيعة قال - وقد سُئِل عن الشعراء - : أشعر الناس الملك الضِلّيل، يريد امرأ القيس، ثم الغلام القتيل ابن العشرين، يريد طَرَفة، ثم صاحب المِحْجَن، يعني نفسه. وقال غير أبي بكر إنه قال: ثم الشيخ أبو عقيل، يعني نفسه.
قال أبو عبيدة: ورفع لبيد رحمه الله نفسه فوق مقداره في الشعر.
39 - عمرو بن قَطَن يلقب جِهنّام، وهو ابن قطن بن المنذر بن عِبدان بن حُذافة بن حبيب بن ثعلبة، وهو مهاجي أعشى بني قيس بن ثعلبة، الذي يقول فيه الأعشى:
دَعَوْتُ خَليلي مِسْحَلاً ودَعَوْا له ... جِهنّامَ، جَدْعاً للهجينِ المذمَّمِ
ومسحل: شيطان الأعشى فيما زعموا.
ومن قول جهنّام:
أمُجّاعُ تَزْعمٌ لو أنني ... لقيتُ ابن حوّاءَ ما ضرَّني
بلى إنْ يدٌ قبضتْ خمسَها ... عليك مكاناً من الأَمكنِ
40 - عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة هو المشهور بكرم الأولاد السادة الفرسان.
وفيه يقول طرفة بن العبد:
فلو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ ... ولو شاءَ ربي كنتُ عمرو بنَ مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مالٍ كثيرٍ وزارني ... بَنونَ كرامٌ سادةٌ لمُسوَّدِ
ومن قول عمرو، ويروى لجدّه سعد بن مالك:
يا بؤسَ للحرب التي ... وضعتْ أَراهِطَ فاستراحوا
والحربُ لا يبقى لجا ... مِحِها التخيّلُ والمِراحُ
إلاّ الفتى الصبّار في النَجدَاتِ والفرسُ الوَقاح
ومن قوله:
لعَمرُ أبيك ما مالي بنخل ... ولا طَهْفٍ يطير به الغبارُ
قال الطائي: الطَهفُ: طعام يشبه الذُرَة.
حدثني ابن مهرويه قال: حدثني سهل بن محمد أو غيره قال: قلت لأبي عبيدة: ما الطهف؟ قال: لا أدري فقلت لكيسان أبي سليمان، فقال: هو التِبْنُ فقلت ذلك لأبي عبيدة، فقل: خذ عنه.
41 - عمرو بن عبد الله، ذو الكف الأشل بن حُنيف بن ثعلبة بن سعد بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، يكنّى أبا جلاّن، فارس شاعر، يقول في فرسه: أَمِنْ دَعَةٍ شهرين عَضَّ رياطَه ونازعَ أطرافَ الجِلالِ المُزَرَّرِ
فأبْشِر برَبٍ لا تُعرَّى جيادُهُ ... وحَرْبٍ تلظّى كالحريقِ المُسَعَّر
ومن قوله:
رَددنا لقاحَ المرءِ جلاَّنَ بعدما ... أهَلَّ ورَجَّى الغُنْمَ منها السميدعُ
42 - عمرو بن حُباشة بن قِرْواس بن رِزاح بن حبيب بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة.
الذي يقول:

ثم عش واسلم وتيقن واعلم يا ملك الزمان أن أفضل شيء حل في وجود الإنسان وأحسن جوهرة تزين بها عقد تركيبه العقل الداعي إلى كيفية تهذيبه في أساليبه وأفضل درة ترصع بها تاج العقل في تزيينه وترتيبه الخلق الحسن الذي فضل الله به خير خلقه في تعليمه وتأديبه وخاطب بذلك نبيه الكريم فقال وأنك لعلى خلق عظيم وبالخلق الحسن ينال شرف الذكر في الدارين ولا يضع الله الخلق الحسن إلا فيمن اصطفاه من الثقلين وأفضل جنس الإنسان بعد رسول الله الرفيع الشان الملك الذي يحيى أحكام شريعته ويمشي على سنته وطريقته وإذا كان الملك حسن الخلق والفعال فهو الدرجة العليا من الكمال قال الرسول النجيب صاحب التاج والقضيب محمد المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم صلاة يتمسك بأذيالها الطبيب ويترنح لنسمات قبولها الغصن الرطيب ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب وروى أن ذلك السيد السديد الكامل المكمل الرشيد أتى برجل فكامه فارعد فقال هون عليك فأني لست بملك ولا جبار وأنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ومن جملة حسن الخلقالعدل والشفقة على الرعية والفضل وإذا حسن خلق الملوك العلية صلحت بالضرورة الرعية طائعة وكارهة وسعت في ميدان الطاعة فارهة فان الناس على دين ملوكهم وسالكون طرائق سلوكهم واردل عادة الملوك الطيش والخفة وأن يكون ميزان عقله خالي الكفية وأن عدم الثبات والوقار من عادة الأطفال والصغار والرجل الخفيف القليل الحيلة لا يقدر على تدبير الأمور الجليلة ولا باب يوجد له ولا طاقة للدخول في الأشغال الشاقة ولا يستطيع أن يتحمل ثقل الرياسة ويتعاطى الايالة والسياسة ولا قدرة على فصل الحكومات المشكلة والقضايا العريضة المعضلة ولا الوصول إلى إثبات السيادة ولا الدخول في أبواب السعادة فان تدبير الممالك وسلوك هذه المسالك يحتاج إلى رجل كالجبل في السكون والوقار أو أن الثبات وكالبحر الهائج والسيل الهامر أو أن الحركات وأعلم يا ذا العلا والمالك المال والدما أنه يجب على الملك الكبير اجتناب الإسراف والتبذير فانه حافظ دماء الناس وأموالهم مراقب مصالحهم في حالتي حالهم وما آلهم والمال الذي في خزائنه قد اجتمع ومن وجوه مكانه ومن خراج مملكته ومن أعدائه ومعادنه إنما هو للرعية ليذهب عنهم البلية ويصرفه في مصالحهم وما يحدث من حوائجهم وجوائحهم فهو في يده أمانة وصرفه في غير وجهه خيانة فكما لا ينبغي أن يتصرف في مال نفسه بالتبذير كذلك لا يتصرف في أموالهم بالأسراف والتقتير ومصداق هذا المقال قول ذي الجلال جل كلاماً وعز مقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً فينبغي للملك بل يجب أن لا يسترعن الرعية ولا يحتجب وأن لا يبادر بمرسوم إلا بعد تحقيق العلوم ولا يبرز مرسومه ما لم يتحقق فيه معلومه وذلك بعد التأمل والتدبر وستر عورة القضية والتفكر وهذا الآن مرسوم السلطان على فم أبناء الزمان وهو بمنزلة القضاء النازل من السماء وإذا نزل القضاء وفتحت أبواب السماء فلا يرد ولا يصد ولا يعوقه عن مضيه عدد ولا عد ولا حيلة في منعه لأحد وأمر أولى الأمر على زيد وعمرو كالسهم الخارج من الوتر بل شبه القضاء والقدر تعجز عن أدراك سره قوى البشر فكما أنه إذا نفذ سهم القضاء والقدر لا يمنعه ترس حيلة ولا يصده درع حذر فكذلك أمر السلطان لا يثبت لوده حيوان ولا يمكن تلقيه إلا بالإمضاء والإذعان فإذا لم يتدبر قبل إبرازه في عواقب ما آله وأعجازه ربما أدى إلى الندم والتأسف حيث زلت القدم ولا يفيد التلافي بعد التلاف ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف وكما أن الملك سلطان الأنام كذلك كلامه سلطان الكلام وكل ما ينسب إليه فهو سلطان جنسه فيجب عليه حفظ كلامه كحفظ نفسه.

(وحسبك يا ملك الزمان لطيفة للملك أنوشروان) فبرزت المراسيم الشريفة ببيان تلك اللطيفة فقال الحكيم ذكر أهل السير ونقله الأثر أن الملك أنوشروان كان راكباً في السيران فجمع به فرسه وقوى عليه نفسه فاستخف شانه وجبذ عنانه فهمزه ولكزه وضربه ووخزه فزاد جموحاً وماد جموحاً فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان أن يقع فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان فلما وصل إلى محل ولايته واستقر راجف قلبه من مخافته دعا بسائس المركوب فلبى دعوته وهو مرعوب فلعنه وشمته وأراد أن يقطع يده وقدمه وقال تلجم هذه الداهية بلجام سيوره واهية فانقطعت في يميني وكاد الفحل يرميني ثم دعا بالمقارع وبالجلاد ليقطع منه الاكارع فقال السائس المسكين أيها الملك المكين وصاحب العدل والتمكين أسألك بالله الذي رفعك إلى هذا المقام أن تسمع لي هذا الكلام فقال قل ولا تطل قال كأن هذا العنان يقول وكلامه فصل لا فضول ومقوله قريب من العقول الملك أنوشران وأن سلطان الأنس وفرسه سلطان هذا الجنس وقد تجاذبني قوة سلطانين فاين لي طاقة هذا الثبات لهما ومن أين لا جرم ذهب مني الحبل فتمزقت بين سلطان الأنس والخيل فأعجبأنوشروان من السائس هذا البيان فانعم عليه وأطلقه ومن رق عقابه وعذابه أعتقه وإنما أوردت هذا البيان ليتحقق مولانا السلطان أن حركاته ملكه الحركات وصفاته سلطانه الصفات وكلامه ملك الكلام فلا يصرفه في كل مقام وليصنعه بالتأمل قبل القول وليحتط لبروزه ويحفظه بالصدق والطول وإذا أمر بأمر فلا يرجع فيه بل يستمر على ما أمر به لئلا يقال سفيه ثم اعلم يا ملك الرقاب أن كلاً من الثواب والعقاب له حد ومقدار مفهوم ينبغي للملك أن لا يتعدى لذلك حداً وعلى الملك أن يصغي للنصيحة ممن مودته صحيحه وقد جرب منه الصدق وعلم منه الإخلاص في النطق لاسيما إذا كان ذا عقل صحيح وود صريح ولا ينفر من خشونة النصيحة ومرارتها فبرودة الخاطر وسلامة القلب حرقة حرارتها فان الناصح المشفق كالطبيب الحاذق فان المريض الكئيب إذا شكا إلى الطبيب شدة ألمه من مرارة يصف له دواء مراً فيزيد حرارته فلا يجد بداً من شربه وأن كان في الحال ينهض بكربه لعلمه بصدق الطبيب وأنه في الرأي مصيب وما قصد بالدواء المر الضر وإنما قصد بألمه عوداً الحلاوة إلى فمه ولا يستحقر النصيحة أن كانت صادقة صحيحة ولا الناصح خصوصاً الرجل الصالح فان سليمان وهو من أجل الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وأحد من ملك الدنيا وحكم على الجن والأنس والطير والوحش والهوام استشار نملة حقيرة فنجح في أمره وخالف وزيره آصف بن برخيا فابتلى بفقره وسلب من جميع ما ملك وصار كما قيل أجير الصياد السمك ثم قال الحكيم حسيب أيها الملك الحسيب وأنا لما رأيت أمور المملكة قد اختلت ومباشرى مصالح الرعية قلوبهم اعتلت ولعبوا بالثقيل والخفيف واستطال القوي منهم على الضعيف ومدوا أيديهم إلى الأموال بالباطل وأظهروا الحالي في حلية العاطل وخرجوا عن دائرة العدل واطرحوا أهل العلم والدين وتولى المناصب غير أهلها ونزلت المراتب إلى غير محلها وحرم المستحقون وأبطل المحققون إلى أن وقع الاختلال وعم الفساد والضلال وقويت أعضاد الظلمة على العباد وسائر القرى والبلاد وهذا لا يليق بشرف مولانا الملك ولا بأصله ولا يجوز في شرع المروأة أن يكون الظلم طراز عدله إذ قدره العلي وأصله الزكي أعظم مقاماً من ذلك ولا يحسن أن ينتشر الأصيت رأفته في الممالك وعلى الخير مضى سلفه الكرام وانطوى على مآثرهم صحائف الأيام وقد قيل:
فان الظلم من كل قبيح ... وأقبح ما يكون من التنبيه
وقيل:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام

ما وسعني إلا الانحياز إلى العزلة والتعلق بذيل الانفراد والوحدة وما أمكنني أن أعمل شيا ولا أقطع دون العرض على الآراء الشريفة وامتثال ما تبرزه مراسيمها المنيفة فغد قال الناصح في بعض النصائح لا تخاطب الملوك فيما لم يسألوك ولا تقدم على ما لم يامروك فلما أذن في الكلام قمت هذا المقام فقلت قطرة من بحور وذرة من طيور ورأيت ذلك واجباً عليّ ونفعه عائداً إليّ وذكرت بعض ما وجب على سائر الناصحين ولزم ذكره جميع المسلمين من طريق واحدة ولزمني أنا من طرق متعددة أدناها طريق المروة وأعلاها بل أغلاها وثيق الأخوة التي هي أقوى الأسباب وأعظم الوصلات في هذا الباب فان لحمة القرابة عي السبب الذي لا يقطعه سيف الحدثان والبنيان الذي لا يهدمه معول الزمان وأساس الأخوة عنوان الفتوة قال الله تعالى وعز وجمالاً وتقدس كمالاً سنشد عضدك بأخيك وقال القائل:
أخاك أخاك أن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح

(وناهيك يا زين الملاح بقصة الولهى مع الضحاك) قال أخبرنا أيها الحكيم بذلك الحديث القديم قال الحكيم بلغنا عن التاريخ الباذخ الشماريخ أن الضحاك كان من أحسن الناس سيرة وأصفاهم سريرةقد فاق الناس فضلاً وبلغ ذكره الآفاق عدلاً فتزياله ابليس في صورة الدهاء والتلبيس فزعم ذلك الطباخ انه طباخ وصار كل يوم يهيئ له من أطيب الأطعمة ولذيذ الأغذية ما يعجزه غيره ولا يقدر أحد أن يسير سيره ولم يأخذ على ذلك جراية فبلغت مرتبته عنده النهاية واستمر على ذلك مدة مديدة وأياماً عديدة والناس تكمره أن تخدم بغير أجرة خصوصاً في هذا الزمان رؤساء الأعيان فقال له الإمام في بعض الأيام لقد أوجبت علينا يدا وشكراً وما سألتنا على ذلك أجراً فاقترح ما تختار أكافئك يا مهار فقال تمنيت عليك أن أقبل بين كتفيك فأني لي بذاك أن يقال قبل بدن الضحاك فأعجبه ذلك وأجابه وحسر عن بدنه ثيابه وأدار ظهره إليه فاقبل لوحي كتفيه ثم غاب عن عينيه ولم يقف على أثره ولا عينه فبمجرد ما لثمه ومس فمه جسمه أخذته حكة وشكه موضع لثمه شكه ثم خرج من موضع فيه سلعة تلذعه شر لذعة وتلسعه أحر لسعة ثم صارا حيتين أشبهتا كيتين فصار يستغيث ولا مغيث فطلب الأطباء فأعياهم هذا الداء ثم لم يقوله قرار ولم يأخذه سكون ولا اصطبار إلا بدماغ الإنسان دون سائر الحيوان فمديد الفتك ولأجل الأدمغة استعمل السفك فضجر الناس لهذا البأس وصاحوا وناحوا وغدوا مستغيثين وراحوا فوقع الاتفاق بعد الشقاق على الاقتراع لدفع النزاع فمن خرجت قرعته كسرت قرعته وأخذ دماغه وحصل لغيره فراغه فعالجوا به الكيتين وغذوا به الحيتين فيبرد الألم ويخف السقم ففي بعض الأدوار خرجت القرعة على ثلاث أنفار فربطوا بالأغلال ودفعوا إلى الشكال ليجري عليهم ما جرى على الأمثال فبينما هم في الحبس بين طالع نحس وعكس وقف للضحاك امرأة وضيعة واستغاثت به في هذه القضية فأدناها وسأل ما دهاها فقالت ثلاثة أنفار من دار لا صبر لي عنهم ولا قرار وحاشى عدل السلطان أن يرضى بهذا العدوان ولدي كبدي وأخي عضدي وزوجي معتمدي وكل مسجون يسقي كأس المنون فرق لها الضحاك وقال لا يعمهم الهلاك فاذهبي يا مغاثة واختاري واحد من الثلاثة وجهزها إلى الحبس ليقع اختيارها على من يدفع اللبس فتصدى لها الزوج وتمنى الخلاص من ذلك البوج فتذكرت ما مضى من عيشها معه وانقضى واستحضرت طيب اللذات والأوقات المستلذات فأتت إليه ومالت عليه فتحركت الأنفس الإنسانية والشهوة الحيوانية فهمت بطلبه وتعلقت بسببه فوقع بصرها على ولدها فلذة كبدها فرأت صباحة خده ورشاقة قده فتذكرت طفوليته وصباه وترتيبها إياه وحمله وإرضاعه وتناغيه وأوضاعه فعطفت عليه جوارحها ومالت إليه جوانحها فقصدت أن تختاره وتريح أفكاره فلمحت أخاها باكيا مطرقا عانيا قد أيس من نفسه وتيقن الإقامة بحبسه لأنه يعلم أنها لا تترك زوجها وابنها ولا تختاره عليهما ولا تميل إلا إليهما فأفكرت طويلا واستعملت الرأي الصائب دليلا ثم أداها الفكر الدقيق وأرشدها التوفيق وقالت أختار أخي الشقيق فبلغ الضحاك ما كان من أمرها واختيارها لأخيها بفكرها فدعاها وسألها عن سبب اختيارها أخاها وقال إن أتت بجواب صواب وهبتها إياهم مع زيادة الثواب وإن لم تأت بفائدة قاطعة وعائدة في الجواب نافعة كانت في قتلهم الرابعة فقالت اعلم واسلم إني ذكرت زوجي وطيب عشرته وأوقات معانقته ولذته وما مضى معه من حسن العيش وانقضى من خفة الأحلام والطيش فملت إليه وعولت في الطلب عليه ثم أبصرت ابني فتذكرت مقامه في بطني وما مضى عليه من عاطفة وشفقة عامة في الأيام السالفة فهيمني حبه القديم وشكله القويم فملت إلى اختياره وخلاصه من بواره ثم لمحت أخي المتقدم عليهما فقست مقامه بالنظر إليهما فقلت إني امرأة مرغوبة قينة عاقلة مطلوبة إن راح زوجي فعنه بدل وإن حصل الزوج وجد الولد وحصل فتهيأ الغرض ووجد عنهما العوض وأما الأخ الشقيق عما عنه عوض في التحقيق لأن أبوينا ماتا وفاتا وصارا تحت الأرض رفاتا فهذا الذي أدى إليه افتكاري ووقع عليه اختياري وأنشد لسان القال فيما قال (شعر)وكم أبصرت من حسن ولكن عليك من الورى وقع اختياري

قال فاستحسن الضحاك هذا الكلام ووهبها جماعتها مع زيادة الأنعام (قال الحكيم) وإنما أوردت هذا المثل لمولانا الملك الأجل وعرضته على الحضار ومسامع النظار ليعلم أن لي عن كل شيء بدلا وأما عن مولانا السلطان فلا كما قال من أجاد في المقال:
وقد تعوضت عن كل بمشبه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا
وليس لي عوض إلا في بقاء ذاتك المحروسة ودوام حياتك العزيزة المأنوسة ثم أني أخاف والعياذ بالله تعالى أن هذه الفتن قد أقبلت والحركات الداهية التي وجوه الخلاص منها قد أشكلت تستأصل شافة أسلافنا الكرام وتقرض شرف أجدادنا الملوك العظام فاخترت العزلة لذلك فإنها أسلم الطرق والمسالك (قال الملك) لقد صدقت إذ نطقت وتحريت الصواب في الخطاب وأنا أتحقق حسن نيتك وخلوص طويتك وحسن وفائك ويمن آرائك فإنك أخ شقيق وصدوق صديق ولكن تعلم أن هذا الوزير رجل خطير ورأيه مستنير وفضله غزير وهو من أصل كبير وله علينا حق كثير وأريد أن يقع ما عزمت عليه وفوضت فكرك المصيب إليه مع محاورته ومناظرته ومشاورته فإن كلا منكما ناصح مشفق وحكيم مدقق وعالم محقق وفي مثل هذه الأشياء إذا اتفقت الآراء وطال النفس تكاشف نور القبس وسعد البخت وتمكن التخت وصح الحق ووضح الصدق لا سيما إذا كان الكلام بين عالمين والسؤال والجواب من فاضلين كاملين (قال الحكيم) أيها الملك العظيم إذا قام الإنسان في صدد المعارضة وتصدى في البحث إلى المعاكسة والمناقضة لا سيما إن كان من أهل الفصاحة واللسن وساعده في ذلك الإدراك الحسن لا يعجزان يقابل الإيجاب بالسلب والاستقامة بالقلب والعكس بالطرد والقبول بالرد ويكفي في جواب المتكلم إذا أورد مسألة لا نسلم وقد قيل في الأقاويل لا تنفع الشفاعة باللجاج ولا النصيحة بالاحتجاج أما أنا فقد بذلت جهدي وأديت في النصيحة ما عندي وكشفت عن مخدرات التحقيق أستار السبك وكررت على محك التصديق آثار الحك فإن وعيتم كلامي يسمع حي فقد تبين الرشد من الغي وإن أعرضتم عن عين اليقين فلا إكراه في الدين فتصدى الوزير للكلام وحسر عن ثغر بيانه اللئام وبرز في ملابس الملاينة والخداع وسلك بخبث طرق الملاطفة والاصطناع ودس السم في الشهد ونزل من اليفاع إلى الوهد وقال الحمد لله الكريم الذي من على مولانا الملك بهذا الأخ الحكيم الفاضل الحليم الكامل العليم الناظر في العواقب ذي الرأي المصيب والفكر الثاقب فلقد بالغ في النصيحة بعباراته الصحيحة وإشاراته المليحة وكل شيء أبداه إلى المسامع وأنهاه هو الذي يرتضيه العقل ويرضيه العدل ويقبله الطبع القويم إذ هو المنهج المستقيم يترتب عليه الذكر الجميل ويحصل به الثواب الجزيل لكن الذي نعرفه في حفظ الرياسة وإقامة ناموس السياسة هو الذي عليه القوم في هذا اليوم وجرت عليه عادات الأكابر وانخرط في سلكه الأصاغر فإن الزمان فسد والفضل فيد كسد وزاد الحقد والحسد وتشرب المكر والأذى الروح والجسد وكل في الروغان ثعلب وفي العدوان أسد وصار هذا مقتضى الحال والمحمود من الخصال والمطلوب من الرجال والناس يدورون بزمانهم بقدر مكانهم وإمكانهم وقد قيل الناس بزمانهم أشبه بآبائهم وبعض السياسات عند أهل الرياسات يقتضي العقوبة معاقبة من لا ذنب له فإن وضع الأشياء في محلها وزمام الأمور والمناصب في يد أهلها هو أحد قوانين الشرع والسياسة ومقتضى العقل والكياسة والعدل والرياسة والعقل والفراسة والفضل والنفاسة وناهيك أيها الحكيم الفاضل قول القائل:ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم وما قيل:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ومن مقالات الملك أتابك أزدشير بن بابك رب إراقة دم تمنع من إراقة دم وفي أمثال العرب القتل أنفى للقتل وقيل:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل

وهذا كله مصداق قوله تعالى ولكم في القصاص حياة (وناهيك يا ذا القدر الخطير قصة قابوس بن بشكمير) قال الحكيم للوزير أخبرني أيها الدستور الكبير بكيفية ما أنت إليه مشير قال الوزير ذكر أن قابوس بن بشكمير ذاك الأسد المنير قبض على جماعة كانوا جبذوا أيديهم من الطاعة من أركان دولته وبنيان صولته ثم قيدوه وحبسوه وأقاموا ولده مقامه وأجلسوه ثم إنهم لم يأمنوا غوائله وأفكاره الصائلة فتآمروا أن يسكبوه ويعمدوا إلى دمه فيسفكوه فأرسوا إليه قاتلا فوثب إليه سائلا وقال ما سبب قتلي وما نابهم من أجلي مع كثرة إحساني إليهم وانسبال ذيل ذيل إكرامي وإنعامي عليهم وتربيتي إياهم كالأولاد وفلذ الأكباد وصوني إياهم عن آذاهم فقال كثرة إراقة الدماء أهاجت عليك الغرماء وأكثرت لك الخصماء لما تغيرت خواطرهم عليك خافوا وقبل أن تحيف عليهم حافوا فقال قابوس والله ما سبب هذا النكد والبوس وإثارة هؤلاء الخصماء الأقلة إراقتي للدماء يعني لو أراق دماء القائمين عليه لما وصل هذا المكروه إليه فلما أبقى عليهم أفنوه وحين ترك آذاهم آذوه وإنما أوردت هذا التنظير ليقف خاطرك الخطير إن أمور الرياسة وقواعد السياسة كانت تقتضي السبك وأحرى بالعفو والترك وأما الآن فذلك الحكم قد انتسخ والفساد في قلوب العباد رسخ وقد قيل:
تلجي الضرورات في الامور ... سلوك ما لايليق بالأدب
ومزاج الزمان قد تغير والمعروف منه قد تنكر وقد أعرضوا عن طاعة السلطان واتبعوا مخادعة الشطان وكل منهم قد شرخ وباض الشيطان في أذنه وفرخ وتصور لخيالاته الفاسدة ومحالاته الكاسدة إنه بما يكيد يبلغ ما يريد وهيهات وشتان:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس

وهذا كما قال الله تعالى يعدهم ويمنيهم الشيطان وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وما شعروا إن الملوك والسلاطين اختاره الله تعالى وألبسه من خلع جبروته كمالا وجلالا وجعلهم بأموره قائمين وبعين عنايته ملحوظين وكما إن الرسل والأنبياء والسادة الأعلام الأصفياء هم صفوة الله من خليقته ومختاروه من خير بريته من غير كد ولا جهد ولا سعي منهم ولا جد ما برطلوا على النبوة والرسالة ولا رشوا على نيل هذه الكرامة والنبالة إنما هو محض فضل من الله تعالى وعنايته والله أعلم حيث يجعل رسالاته كذلك الملوك والسلاطين والقائمون بإقامة شعائر الدين هم ممن اختاره الله على خلقه وأجرى على يديه لهم بحار كرمه ورزقه والسلطان ظل الله في أرضه يجري بين عباده شريعة نفله وفرضه قال من له الخلق والأمر أطيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر وقد غفل أهل هذه الممالك عن السلوك في هذه المسالك وعن درك هذه الحقائق وأعرضوا عن الدخول في أحسن الطرائق وهي طريق المحاشمة والصفح والمكارمة وعدوا المكر من أحسن الرياسة والعقل والكياسة والتحيل لأكل أموال الناس من الذكاء ومظالم العباد من خلال الصدق والصفاء وتملقهم للملوك والسلاطين من أسباب الوصول إلى الأغراض مع تحسين الظواهر وفي البواطن أمراض فظواهرهم ظواهر الإنس تشمل على المودة والإنس وما فيهم تحت الثياب إلا كلاب وذئاب ولأجل هذا سلطنا الله عليهم ومد يد بطشنا إليهم معاملهم بالفراسة ونعمل بما تقتضيه الكياسة وتصوبه الآراء السلطانية من قواعد السياسة قال الحكيم حسيب بعد ما أدركما في هذا الكلام من نكر غير مصيب اعلم أيها الوزير النافع الناصح والدستور الشفيق المصالح أن الرعية بمنزلة السرج والملك لمنزلة الشمس في البرج وإذا تلألأ على صفحات الأكوان وأنار في وجه الزمان والمكان أشعة نور الشمس الوهاج فأي شعاع ووجود يبقى للسراج وإن أنوار قلوب الرعايا وما يحصل لها من إشراق ومزايا إنما هي من فيض أشعة ملوكهم وإن الرعية تتبع الملوك في سلوكهم فإذا صفت مرآة قلب السلطان أشرقت بالطاعة قلوب الرعايا والأعوان بل الزمان والمكان تابعان لما يضمره وينويه السلطان وقد قيل إذا تغير السلطان تغير الزمان (وهل أتاك أيها الدستور واقعة الرئيس مع بهرام جور) قال الوزير أخبرنا يا باقعة كيف كانت تلك الوقعة قال الحكيم أخبرني شيخ عليم بالفضل مشهور إن بهرام وكان ذا يد عزم على الصيد فخرج في عسكر جرار واستوى في الصحارى والقفار وبينما هم قد تفرقوا فما شعر إلا وقد حركت يد الشمال غربال المطر ثم تراكم من السحاب على وجه عروس السماء النقاب وانهل الغمام المدرار وصارت الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار وأقبلت سوابق السيول تجري في مضمارها الخيول فتشتت العساكر وتشوشت الخواطر فقصد بهرام جور كفرا من الكفور وطلب القرى من تلك القرى منفردا عن عسكره مخفيا من خبره فنزل بيت الرئيس وهو رجل خسيس فلم يقم من حقه بالواجب لأنه يعلم ذلك الراكب فتشوش خاطره وتكدرت ضمائره وتغيرت عليهم نيته وإن لم تتغير بشريته فلما أقبل الليل جاء الراعي وهو يدعو بالويل ويشكو كثرة المحن من قلة اللبن وذكر أن المواشي لم تدر ضرعا مع إن رعيتها كانت أحسن مرعى ولا وقف لذلك على سبب ولا درى كيف حال حالها وانقلب وكان للرئيس بنت تخجل الأقمار بخدها وتقصف الأغصان على قدها فلما سمعت كلام الراعي قالت والله أنا أعرف السبب والداعي وهو أن السلطان الذي نيته حفظ أوطاننا تغيرت نيته علينا وتقدم ضميره بالسوء إلينا فظهر النقص في ماشيتنا وسيتعدى ذلك إلى أنفسنا وحاشيتنا وقد قيل إذا هم الحاكم بالجور على الرعايا أدخل الله النقص في أموالهم حتى الزروع والضروع قال أبوها فإذا كان الأمر كذلك فلا مقام لنا في هذه الممالك فالأولى أن نتحول عن هذا المكان إلى مقام لا يضمر فيه سوءا لرعيته السلطان ونستريح في ظل حاكمه ونرعى في مسارج مكارمه كل هذا وبهرام يصغي إلى هذا الكلام فقالت البنت إن كان ولا بد من الانتقال واقتعاد مطية الارتحال فما نصنع بهذه الأثقال والأزواد الثقال نقدم لهذا الضعيف منها يحصل التخفيف عنها ويقع بذلك فائدتان إحداهما حسن المضيف وثانيهما التخفيف فامتثل أبوها أمر ابنته ونقل إلى الضيف ما حواه بيته من طعام وشراب ونقل وكباب وبسط بساط النشاط وأخذ دواعي الانبساط وانتقل من

إنّا ثلاثةُ رَهطً عنك في شُغُلٍ ... بياننا مُبْرزٌ عن حالِنا جَالي
حُقَ له أن يُلاقى وسطَ معركةٍ ... في فِتيةٍ بسُيوفِ الهند أَبطالِ
يَبغونَ ما ابتغى مَلْقَى نفوسهم ... فيهم عُراةٌ من الأموالِ أمثالي
ومن قوله:
ماذا رُزِئن من الرجالِ نفوسهم ... يومَ العقيقِ ويومَ نَعْفِ الأثْولِ
107 - عمرو بن صَيفيّ الجُهني من بني خِزامة.
وهو الذي يقول:
تركتُ أبا لأمٍ يُوشّجُ نَسْلَها ... وأنقذتُ من طول العناوةِ مَعْقِلا
ومن قوله: تُذكّرِني ولا تَذْكُرُ.
108 - عمرو بن الحارث بن أبي شمر الجُهني.
القائل:
تقاربي هُمَيمُ لا أبَالكِ ... لا بدَّ أنّي ثالغٌ قذالكِ
كلُّ قِتالِ القومِ قد بَدالكِ
109 - عمرو بن المُراد البَلَوي، أحد بني عوفٍ بن وَدْم بن هِنْيء البلوي، يقول للنخّار بن أَوسٍ العُذري الراوية، واستلحق بطناً من بَليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وذكر أنهم من قومه:
وقد كنتَ يا نخّارُ ما تدّعيهم ... وتُعرِضُ عنهم في السنين العوارق
يُمنّيهم النخّارُ إلحاقَ نسبةٍ ... بَلأيْ، وما النخّارُ فينا بصادق
110 - عمرو بن ذي الرحَا القيني، يقول:
بكرتْ عليَّ تلومني وَتُغضّبُ ... ومتى تُردْنِي بالملامةِ تُصْعِبِ
بكرتْ عليَّ فلم يزلْ مصخابها ... بغريضِ غاديةٍ ورَاحِ أَصهبِ
111 - عمرو بن أوس بن أسماء بن رِباب بن معاوية بن بلال بن سُلَّى بن رِفاعة بن عُذرة بن عدي الجرميّ.
هو الذي يقول:
فأَجلَتْ سماءُ البيتِ عنّا وعنهمُ ... فريقين محبورٌ يُسَرُّ وهاربُ
كأَنّهم والنقعُ ينَجابُ عنهم ... رعيلُ نعامٍ لَفَّهُ القَطرُ آيبُ
112 - عمرو بن قُدامة العَذري، من بني عامر.
يقول:
يا عمرو مَنْ لليزَازِ خصمٍ جَائرٍ ... بالعُرمِ إذ حضرَ الصديقُ فأضلعا
113 - عمرو بن قُعيَط العُذري، من بني هند.
يقول:
إنْ كنتِ باكيةً من كُبرِ مرزئةٍ ... فابكي الكرامَ بني عمرو بن شمّاسِ
من كلِ أبيضَ نصُل السيف معْقلُه ... كأنَّما يُهتدَى منه بمِقْباسِ
114 - عمرو بن شَراحِيل بن عبد العُزى بن امرىء القيس الكلبي، من عبد وُدٍ. من قوله:
تركتُ كعباً وكعبٌ قائمٌ رَدِنٌ ... كأنَّه من جمالِي الريفِ مهشومُ
يا كعبُ إنّا قديماً أهلُ سابقةٍ ... فينا السلامُ وفينا المجدُ والخِيْمُ
115 - عمرو بن عروة بن العدّاء الكلبي الأجداري، يقول:
تباغت عَديُّ بينهما وتفاضلتْ ... إليَّ وأهلُ العلمِ قاضٍ وحاكمُ
ومن قوله:
بَني أمّ عَقّاسٍ أَقرّوا خدودكم ... على خِزْيةٍ عثّارُها يَتثوَّرُ
116 - عمرو بن زيد بن المُتَمنّي بن عبد الله بن الشجب بن عبد وُدّ الكلبي. يقول:
فلو كنتُ بعض المُقرنينَ وعاجزاً ... لكنتُ أسيراً فيٍ جبال مُحاربِ
وقفتُ على عمرو الذبابَ غُدّيةً ... ورَوَّحتُه بالأمسِ عن ذي تَناضُب
117 - عمرو بن الأَسود الكلبي الاجداري.
يقول:
وإنْ يكُ صادقاً بالتَّيم ظنّي ... يشبُّ الحربَ ألويةٌ كرِامُ
فما أدري وعَلِّي سوفَ أدري ... أحَلٌ مالُ أَهيْبَ أم حرامُ
أهْيَب: قبيلة.
وأَهيبُ معشرٌ من جِذم كلبٍ ... لهم نسبٌ وآلهم قُدَامُ
118 - عمرو بن عبد وُدٍّ الحارث بن كعب بن الوكّاء الكلبي، وهو ابن شُعاث الأَصغر.
يقول:
ولو شكرتْ بهراءُ يوماً لنعمةٍ ... إذن شكرتْ يومَ المُسيح ابنَ أصْرَم
119 - عمرو بن جُنادة الخُزاعي.
يقول:
فلا والله ما أكسو غُلاماً ... دعا لحْيانَ ثوباً ما حَيِيتُ
المُخَضرمون // من مُضَر 120 - عمرو بن عبدوُدّ، من بني عامر بن لؤي، فارس قريش وشاعرُها. قالى حماد بن إسحق الموصلي: أخبرني هشام ابن الكلبي: أته كان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية.

وحدثني الحسن بن محمد بن فهم عن سعيد بن يحيى عن أبيه عن محمد بن إسحق بإسناده وعن الحسن بن حمّاد سجادة عن يجيى بن سعيد الأموي بحديث مقتل عمرو بن عبدودّ يوم الخندق، قال: كان عمرو ممن حضر يوم بدر حارب فارتشتْهُ، الجراحات وهو مثبت، وأفلت ولم يحضر يوم أُحُد وحضر يوم الخنلق فأقبل بتنزَّى الى القتال وينادي بالبراز، ويقف وراء الخنلق فيُنشد:
ولقد بححِتُ من الندا ... ءِ لجمعهم هل من مُبارِزْ
ووقفتُ إذ وقفَ المُشجَّعُ موقفَ القرن المُناجَزْ
فأمر رسول الله ( علي بن أبي طالب عليه السلام بالخروج إليه، فخرج إليه راجلاً، فقال له: انتسب، فتسمّى، فقال له: ابن أخي لقد كنت أراك صبيّاً عند أمّك فأومِّل أن تكون للاّتِ والعُزَّى نصيراً. فقال له: إن الله تعالى أنزل على ابن عمي كتاباً وشرع له ديناً ولا يرضى غيره وكلّ ما كان عليه آباؤنا باطل وضلال.
قال: ما أحبُّ أن أجزي أبا طالب عن مودته بقتلك.
قال: يعينُ الله عليك، فنزل إليه عمرو واجتلدا، قال: فلما سُمع التكبير من تحت العجاجة عُلِم أن علياً قتله، وكان ذلك أول الفتح على رسول الله (. 121 - عمرو بن قميئة الليثي، عدو الله وعدوّ رسوله (، والذي تولى الأثم العظيم من كسر رباعية رسول الله ( وشجّه في وجهه يوم أحُد، وكان فارس قريش، وتعاهد هو وأُبيّ بن خلف الجُمحي وابن شهاب جدُّ الفقيه الزُهري وعتبة ابن أبي وقاص، على قتله (. فردّ الله ابن شهاب بغيظه، وقصده أبيّ بن خلف، فأخذ رسول الله ( الحربة من الحارث بن الصِمَّة الأنصاري فطعنه بها طعنة خفية لم تصل الى حلقه. فلم يَسرْ إلاّ ليلتين حتى احتقن به الدم فقتله الله، ثم أفضى عدو الله عمرو بن قميئة إليه وقد خفَّ عنه أصحابه، فجرحه وانصرف إلى قريش فبشرهم بقتله، وامتحن الله المسلمين بالجِراح والانحياز واستشهد منهم من خُتِم له بالرحمة، فلما تحاجزوا وصعد المسلمون الجبل، قال أبو سفيان بأعلى صوته: اُعْلُ هُبِلْ. فقال له عمر بن الخطاب بأمر النبي (: الله أعلى وأجل، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال أبو سفيان: من المتكلم قال: عمر بن الخطاب. قال: نشدتُكَ الله هل قُتلَ صاحبكم؟ قال: لا والله، إنه ليسمع كلامك الآن.
قال: قبحُ الله ابن قميئة، أنت والله أصدق عندي منه وأبرُّ.
ولابن قميئة شعر.
122 - عمرو بن أبي أُحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس.
أسلم في أول الاسلام واستشهد يوم أجنادين بالشام، وكان أسلم قبله أخوه خالد بن سعيد، يقال: إنه خامس المسلمين، ثم أسلم عمرو بن سعيد وكتما اسلامهما عن أبيهما أبي أحيحة فمات بالظريبة من أرض الطائف، فأظهروا إسلامهما، فقال أخوهما أبان بن سعيد، وقد أسلم بعد ذلك:
ألا ليت ميتاً بالظريية شاهدٌ ... بما يفتري في الدين عمرو وخالدُ
أطاعا بنا أمرَ الوُشاةِ فأصبحا ... نُكابد من أعداننا مَنْ نُكابِدُ
فأجابه عمرو بن سعيد:
أخي ما أَخي لا شاتمُ أنا عِرضَه ... ولا هو عن سوءِ المقالةِ مُقْصِرُ
يقول إذا اشتدَّتْ عليه أمورُه ... أَلاَ ليت مَيْتاً بالظريبةِ يُنْشَرُ
فَدعْ عنك مَيْتاً قد مضى لسبيله ... وأَقبلْ على الحيّ الذّي هو أفقرُ
أنشدني ذلك أحمد بن أبي خيثمة عن أحمد بن محمد بن أيوب عن إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحق، قال: ولما غزا رسول الله ( الطائف مرَّ بقبر أبي أحيحة، فقال أبو بكر الصدّيق رضوان الله عليه: لعن الله صاحب هذا القبر فإنّه كان شديد العداوة لله ولرسوله. فقال خالد بن سعيد: لعن الله أبا قُحافة فإنه كان لا يُقري الضيف ولايُعين على النوائب. فقال رسول الله (: لا يؤذى مسلم بسبِّ كافرٍ.
123 - عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي.
يكنّى أبا عبد الله، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، هاجر إليه إلى المدينة في الهدنة التي كانت بينه ( وبين قريش، واستعمله، وعمل لأبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم - صدراً من خلافته، وكان يُهاجي وهو بمكة حسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة فيمن كان يهاجيهم من شعراء قريش، وسمع حسّان شعره فقال: هو عاقلُّ وليس بالشاعر، وعُمّر عمراً طويلاً.

فتقدم بجأش صليب وقبل الأرض بين يدي الذيب وقال محبط الراعي لجنابك داعي يسلم عليك وقد أرسلني إليك يشكر صداقتك وشفقتك وحشمتك ومرافقتك ويقول قد تركت بحسن آدابك عادة أجدادك وآبائك فلم تتعرض لمواشيه وحفظت بنظرك حواشيه وقد حصل لضعافها الشبع وأمست بجوارك آمنة من الجوع والفزع وحصل لها الأمن من الجزع فالله يجعل جوارك وغياضك أحسن مجتمع لأن عجاف ماشيته شبعت ورويت واستنعشت وقويت فأراد مكافأتك وتطلب مصافاتك ومصادقتك فأرسلني إليك لتأكلني وأوصاني أن أطربك بما أغني فإني حسن الصوت في الغناء وصوتي يزيد في شهوة الغذاء فإن اقتضى رأيك السعد غنيتك غناء ينسي أبا أسحق ومعبد وهو شيء لم يظفر به آباؤك ولا أجدادك ولا يناله أعقابك وأولادك بقوى كرمك وشهوتك وقرمك وبطيب مأكلك وبسني مأملك وإن صوتي للذيذ ألذ للجائع من جدي حنيذ بخبز سميذ وللعطشان من قدح نبيذ ورأيك أعلى وامتثالك أولى فقال الذئب لا بأس قد أجبت سؤالك فغن ما بدا لك فرفع الجدي عقيرته ورأى في الصياح خبرته وملأ الدنيا عياطا وأعقبه ضراطا وأنشد:
وعصفور الهوى يهوي جراده ... كما عشق الخروف أبا جعاده
فاهتز الذئب طربا وتمايل عجبا وعجبا وقال أحسنت يا زين الغنم ولكن هذا الصوت من ألم فارفع صوتك في الزير فقد أخجلت البلابل والزرازير وزدني يا مغني قولي:
أقر هذا الزمان عيني ... بالجمع بين المنى وبيني
وليكن يا سيدي المغني هذا من أوج الحسيني فاغتنم الجدي الفرصة وأزاح بعياطه الغصه وصرخ صرخة أخرى أذكره الطامة الكبرى ورفع الصوت كمن عاين الموت وخرج من دائرة الحجاز إلى العراق وكاد يحصل له من ذلك الانفتاق وقال:
قفوا ثم انظروا حالي ... أبو مذقة أكالي
فسمعه الراعي يشدو فأقبل بالمطرق يعدو فلم يشعر الذئب الذاهل وهو لحسن السماع غافل ألا والراعي بالعصا على قفاه نازل فرأى الغنيمة في النجاة وأخذ في طريق النجاة وترك الجدي وأفلت ونجا منسيف الموت المصلت وصعد إلى تل يتلفت بعد إذ تفلت فأقعى يأكل يديه ندامة ويخاطب نفسه بالملامة وقال أيها الغافل الذاهل والأحمق الجاهل متى كان على سماط السرحان الغناء والأوزان وأي جد لك فإني وأبي مفسد جاني كان لا يأكل إلا بالأغاني وعلى صوت المثالث والمثاني فلولا أنك ما عدلت عن طريقة آبائك ما فاتك لذيذ غذائك ولا أمسيت جائعا تتلوى وبجمر فوات الفرصة تتكوى وبات يحرك ضرسه ونابه ويخاطب نفسه لما نابه ويقول:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وإنما أوردت هذا النظير لمولانا والوزير ليعلم أن العدول عن طرائق الأصول ليس إلا داعية الفضول ولا يساعد معقول ولا منقول وأمور ذميمة وعاقبته وخيمة وناهيك ما هو وكالعلم ومن يشابه أباه فما ظلم ويؤخذ من مفهوم هذه الحكم أن من لم يشابه أباه فقد ظلم خصوصا الملوك والسلاطين الذين اختار رفعتهم رب العالمين وذلك لئلا يدخل على قواعد المملكة من حركات الاختلال والاختلاف حركة ولله يا ذا الإحسان ما قيل في شأن الملك أنوشروان:
لله در أنوشروان من رجل ... ما كان أعرفه بالوغد والسفل
نهاهم أن يمسوا عنده قلما ... وأن يذل بنو الأحرار بالعمل

ولكنْ متى ما يُجْمعَا عند واحدٍ ... فحُق له من طاعةٍ بنصيبِ
ومن قوله، وكان مجاوراً لبني قُشير، وهم عثمانية:
يقولُ الأرذلون بنو قُشَيرٍ ... طوالَ الدهرِ ما تنسىَ عليّا
أحبُّ محمداً حبّاً شديداً ... وعبّاساً وحمزةَ والوصيّا
فإنْ يكُ حبُّهم رَشَداً أُصِبْهُ ... ولستُ بمخطىءٍ إنْ كان غيّا
قال: فقيل له: شككت. فقال: ما شك الله عزّ وجلّ حين قال(وإنّا وإيّاكم لعلى هدى أو في ضلالٍ مبين).
وحدثني أبو زيد عمر بن شبّة قال: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة، مرّ أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يا بني قُشير على ماذا أجمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولمَ تسألنا يا أبا الأسود؟ قال: لأُخالفه فإن الله لا يجمعكم على هُدَى.
وأنشدني أبو زيد في هذا المعنى:
إذا اشتبه الأمران يوماً واشكلا ... عليَّ ولم أعرفْ صواباً ولم أدرِ
على محمدفقلت لم
فإن قال قولاً قلت شيئاً خلافهلأن
126 - عمرو بن شأس الأسدي، يكنى أبا عِرار، شاعر مقدَّم، أسلم في صدر الإسلام، وشهر وقعة القادسية.
أنشدنا حمّاد بن إسحاق الموصلي، من قوله:
وبيضٍ تطلّى بالعبير كانَّما ... يطأنَ، وإنْ أعنَقْهنَ بي جَددَاً وحَلاْ
لهوتُ بها يوماً ويوماً بشاربٍ ... إذا قلتَ مغلوباً وجدتَ له عَقْلاً
إذا ماجرتْ فيه المُدامُ كأنَّما ... يُصادي هجاناً ردَّ عن شولهِ فَحْلا
ومن قوله:
وقد يُدَوّمِ ريقَ الطّامع الأَملُ
وهو يقول في ابنه عِرار بن عمرو:
فإنَّ عِراراً إنْ يكنْ غير واضحٍ ... فإنّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذا المنكب العَمَمْ
أرادتْ عِراراً بالهوانِ ومَنْ يُرِد ... عِراراً لعمري بالهوانِ فقد ظَلمْ
ومن أصحاب رسول الله ( الذي يُروى عنهم حديثه، رجل يُقال له عمرو بن شأس وهو أسلمي خُزاعي، وليس بهذا، وليس يُروى لذاك شعر.
وحديثُه قولُه (: لا تؤذِني في عليّ يا عمرو بن شأس.
127 - عمرو بن الأَهْتَم المِنْقَري، واسم الأهتم سِنان، بن سُمَيّ، سيّد من سادات قومه، وبيت من بيوت الخطابة واللَسَن، ولم يزل ذلك معروفاً لهم منذ الجاهلية، وفي الإسلام متصلاً. ووفد عمرو بن الأهتم على رسول الله (، في وفد بني تميم وبايعه، وكان حديث السنِّ.
حدثني أبو زيد عمر بن شبّة قال: حدّثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى أن قيس بن عاصم ضرب وجه سنان بن سُميّ في يوم الكُلاب في شيءٍ جرى بينهما بقوسٍ عربية فهتمَ فاه، فعُرف بعد ذلك بالأهتم.
وحدّثني ابو أحمد محمد بن موسى بن حمّاد البربري عن ابن أبي السري عن ابن الكلبي قال: لمّا أمر النبي ( لوفدِ بني تميم بجوائزهم، قال: هل بقي منكم أحد؟ فقال قيس بن عاصم: غلامٌ منّا يحفظ ركابنا، فأمر له النبي ( بمثل ما أمر لكل واحد منهم، فقال عمرو بن الأهتم يهجو قيساً وينفيه :
ظللتَ مفترشاً هِلْباكَ تشتمني ... عند الرسولِ، فلم تصدُق ولم تُصِبِ
إنْ تبغضونا فإنَّ الرومَ أصلكمُ ... والرومُ لا تملِكُ البغضاءَ للعربِ
سُدْنَا فسؤدَدُنا عِزُّ وسؤدَدُكم ... مؤخَّرٌ عند أصلِ العُجْبِ والذَنَبِ
فقال قيس يعارضه بمثل قوله:
جاءتْ بكم فقرةٌ من أهلها ... حيريّة، ليس كما يزعمون
لولا دفاعي كنتم أعبُدا ... مسكنها الحيرةُ والسَّيْلحون
وحدثني أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثنا عليّ بن حرب، قال:حدثنا الهيثم بن محفوظ قال: حدثنا أبو المُقوّم يحيى بن سالم الأنصاري عن الحَكم عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله ( لعمرو بن الأهتم: يا عمرو كيف الزبرقان فيكم؟ قال: يا رسول الله شديد العارضة، مُطاعٌ في أدانيه، مانعٌ ما وراء ظهره.
قال: والله يا رسول الله لقد حسدني، وإنّه ليعلم مني أكثر مما قال. فقال عمرو : أمّا إذا أبيتَ، فأنت والله ما علمت زمر المروءة، ضيقُ العطنِ، حديث الغِنى، أحمق الأب، لئيم الخالِ، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، ولكني رضيت فقلت أحسن ماعلمت، وسخطتُ فقلت أسوأ ما علمت.

فقال رسول الله ( إن من البيان لسحرا.
وحدثني عسل بن ذكوان النحوي، قال: حدّثنا العباس بن ميمون قال: حدثنا بن عائشة، قال: حدثنا حمّاد بن زيد قال: حدّثنا محمد بن الزبير الحنظلي. قال عَسَل: وحدثنيه أبو حرب محمد بن خالد المهلّبي قال: حدثنا محمد بن عبّاد المهلبي عن أبيه عن محمد بن الزبير وفي الحديثين اختلاف ألفاظ. 128 - عمرو بن يثربيّ الضبّي، فارس بني ضبّة يوم الجمل، وقد قيل إن اسمه عَمِيرة بن يثربي، وقيل: إن عميرة أخوه.
وحدثني ابن أبي خيثمة عن دعبل: أن أسمه عمرو بن يثربي وكان عثمان بن عفّان استقضاه على البصرة ثم خرج مع عائشة، وقتل يوم الجمل ثلاثة من قُرَّاء الكوفة المعدودين رحمهم الله من أصحاب عليّ رضوان الله عليه: عِلباء بن الهيثم المُرادي وهند بن عمرو الجملي من مُراد أيضاً وزيد بن صُوحان العبدي، وارتجز فقال:
إنْ ينكروني فأنا ابن يثربي
قاتلُ عِلباء وهند الجملي
ثم ابن صُوحانَ على دين علي
وقتله عمّار بن ياسر رضي الله عنه في ذلك اليوم. وكان عمرو بن يثربيّ قبل ذلك من العُبّاد المعروفين.
وحدثني أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا وهب بن جرير عن أبيه عن ابن عون عن أبي رجاء العُطارِدي.
قال: سمعت ابن يثربي يرتجز يوم الجمل:
نحن بنو ضبّة أصحاب الجملْ
والموتُ أحلى عندنا من العسلْ
ننعى ابن عفّان بأطراف الأَسلْ
رُدّوا علينا شيخَنا ثمَ بَجَلْ
ومن قوله:
أَلا قُل للزبير وصاحبيه ... وطلحةَ والذين هم النُّضَار
129 - عمرو بن أبي حمزة الهُذَلي، أخو بني قُريم.
قال:
بَلّغوا قومَنا الصواهلَ أنّا ... قد نبذنا بَحِلْيةَ الأَوزارا
حين لا نَنْظُر المطيَّ ولكن ... طارَ في حبلِ لاحقٍ ما طارا
130 - عمرو بن المستوغر بن زمعة، بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
يزعم بعض الرواة أنّه عُمِّرَ ثلاثمائة وخمسين سنة، وهذا باطل، والمشهور من أمره، أنه حضر أمر الجاهلية الجهلاء وبقي إلى آخر أيام معاوية بن أبي سفيان. قالوا: بينه وبين مضر عشرة أباء، وبين عمرو بن قميئة المعمرَّ وبين نزار عشرون أباً، وهذا فوقه في قُعْدُد النسب وطرافته وبُعده، وقد يكون مثل هذا. حدثني محمد بن أحمد قال: حدثنا مسعود بن بشر قال: حدثنا الأصمعي قال: حدّثنا أبو عمرو بن العلاء وعقبة بن رؤلة. وحدثني عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أنَّ المستوغر مرَّ بعكاظ، وعلى ظهره ابنُ ابنه يحمله شيخاً هرماً، وأُعيِيَ من حمله فوضعه بالأرض وقال: عنّيتَني صغيراً وكبيراً، فقال له رجلٌ: يا عبد الله اتقول هذا لأبيك؟ قال: أنا جدُّه. قال: ما رأيت شيخاً أكذبَ منك، مازدتَ لو كنتَ المستوغر بن زمعة، قال: فأنّا المستوغر.
وذكرمحمد بن الهيثم بن عَدِي عن أبيه: أنَّه سُمّي المستوغر بقوله في شعره:
ينشُّ الماءُ في الرَّبلاتِ منها ... نشيشَ الرَضْف في اللَّبنِ الوغيرِ
131 - عمرو بن حبيب الثقفي، أبو مِحْجَن، فارس شاعر له صحبة، وكان مستهتراً بالشراب، كثير القول فيه، فحدّه عمربن الخطاب رضي الله عنه مرَّات، ثم أخرجه الى العراق فشرب به فضربه سعد بن أبي وقاص وسجنه في قصر العُذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، فأقام المسلمون في حرب القادسية أياماً ووجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا مَن فيه، فاحتال أبو محجن حتى ركب فرس سعدٍ عن غير علمه وخرج فأوقعَ بهم ورآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلّى سبيله وقال: لا أضربك بعدها في الشراب.
فقال: فإنّي لا أذوقها أبداً.
أخبرني أبو حنيفة إسماعيل بن عبد الله قال: دخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له: أبوك الذي يقول:
إذا مت فادْفِنّيّ إلى أَصل كَرْمةٍ ... يُروِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تَدْفِنَنّي بالفلاة فإنّني ... أخافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقَها
فقال: يا أمير المؤمنين بل هو الذي يقول:
لا تسأَلي الناسَ عن مالي وكثرتِه ... وسائلي القومَ عن جودي وعن خُلُقي
نُعطي السنانَ غداةَ الروعِ حصّتَه ... وعاملُ الرمحِ أرويه من العَلَقِ

لنفسه المنفعة أن يرجع معه فربما ينجح ويسلب من الحمار وعيه فقال يا أخي شوقتني بهذه القضية إلى الاطلاع على تلك الوصية لاستفيد منها وآخذ حظي من الفضل عنها فلا بد من مصاحبتك والذهاب معك ومرافقتك فقال الحمار لا دافع ولا مشاقق ولا مانع أن تكون لي مرافقك فقال ابن آوى فهل في حفظك منها شيء فإن كان فألقه إلي لنتذاكر في الطريق ولا يؤثر فينا التعب والضيق فقال نصيحة واحدة هي بصدقي شاهدة وهي كلمة مجملة فوائدها فيها مجملة وهي أن أبي قال لي إياك أن تفارق هذه الوصية فإن فارقتها وقعت في بلية وسأخبرك بسائرها في المسير إذا تذكرت أيها البصير ثم سار قليلا وأفكر طويلا وقال وهذه أخرى سنحها ذكري وارتضاها فكري وهي إذا وقعت في شدة ورمت للخلاص منها عده فتصور أصعب منها يحصل لك التغصي عنها وتهن عليك وتعدها نعمة أسديت إليك فتشتغل بشكرها وتستأنس بذكرها فقال ابن آوى أحسنت يا حمار وهذا مقام الأخيار والصالحين والأبرار ثم سار سيرة رائثة وقال والله هذه نصيحة ثالثة فقال قل واسلم وطل فقال لا تحسب أن الصديق الجاهل خير من العدو العاقل فإن علم العدو العاقل خير لك من جهل الصديق الجاهل فقال ابن آوى ما أحلى كلامك وأعلى في اللطف مقامك وأنزه منادمتك وأفكه مكالمتك بالله شنف المسامع فإني لك بقلبي وجوارحي سامع فقال مهلا حتىأتذكرها وأتصورها كما ينبغي وأتفكرها أمر ابن آوى على تعسه وساقه القضاء إلى رمسه فوصل إلى الضيعة وقد وقع ابن آوى في ضيعة فالح على الحمار فقال أخبرني فما بقي لي اصطباري فقال قال لي أبى بكلام فصيح عربي لا تجعل مقامك ومقيلك بمكان يكون فيه ابن آوى دليلك والذب فيه جارك وخليلك وأن جعلت لك في هذا المكان ساحه فما ترى يكون لك فيه من الراحة وأن أردت أن تخلص من هذا المكان فانصب الآذان وارفع ذكر الله بالأذان فانه ينجيك من الضيق ثم رفع عقيرته بالنهيق فسمعه معارفه من الكلاب فسارت إليه مستبشرة بحسن الإياب وسارعت إليه واجتمعت حواليه فما شعر ابن آوى إلا وهو متورط في البلوى فطفر للهرب فادركه من الكلاب الطلب فاحتموشته وانتوشته واختطفته واقتطفته ووزعته ومزعته ومرشته وقرشته فلم تبق منه عيناً ولا أثر واذهب دمه في تدبير هدراً وإنما أوردت هذا المثال وعرضته على الرأي العال ليعلم أن الاغترار بالكلام والإصغاء إلى الحكايات والقول البطال من غير تنقل من ألفاظها إلى معانيها وتأمل في مآكل مقاصدها وفحاويها والأعتماد على القضايا المزخرفة والركون إلى الأمور المسفسفة لا يفيد سوى الندم وزلة القدم والأصل في الولايات والمناصب التفكر في الخواتيم والتأمل في العواقب والأفلبس في ذلك سوى إضاعة العمر والمصير إلى المهالك وقلت شعراً:

فإمّا تُرْدنا لهَنْي الجمال ... ومدِّ الدِلاءِ وجرِّ الفَرَسْ
واطراقنا بعد ثني السؤال ... فليس بنا يا ابن هندٍ خَرَسْ
134 - عمرو بن أحمر بن العمرَّد الباهلي، من بني قرَّاص، شاعر فصيحٌ مقدّم على جميع نظرائه في فنون الشعر وغريبه.
وقد أسلم وغزا مغازي الروم وأُصيب بعينه هناك، وتوفي على عهد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وهو أحد العُور المحسنين من الشعراء أنشدني أبو العباس محمد بن يزيد المبرد لعمرو بن أحمر في عينه:
ضُمّا وسادي فإنَّ الليلَ قد برَدا ... وانّ مَنْ كان يرجو النومَ قد هَجَدا
فما على الجانب الوحشي مرتفَقٌ ... ولا على الظّهر ما لم تجعلا سَنَدا
شُلّتْ أناملُ مَخْشِيٍّ فلا اجثبرتْ ... ولا استعانَ بضاحي كفّه أبدا
أَصارَنِي سهمُهُ أعشَى وغادَرَه ... سيفُ ابنِ عَيْساء يشكو النحرَ والكمرا
أهْوَى لها مِشْقصاً حَشْراً فشَبْرَقها ... وكنتُ أدعو قَذاها الإثمد القَرِدا
قال لي المبّرد: الإثمد الذي لم يُنعم سحقُه ومثله الحَتِرُ.
135 - عمرو بن شُبَيل الثقفي، من بني عتّاب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد، له شعر.
136 - عمرو بن قبيصة وهو ابن الطيفانية الدارمي أحد بني زيد بن عبد الله بن دارم يقول:
إذا ما تذكرتُ ابني يزيد تصعدتْ ... إلى الصدرِ أحشائي وأسلمني ظهري

- ربيعة
-
137 - عمرو الرحال بن النعمان بن البراء بن أسعد بن عبد الله بن سعد بن مرة بن ذهل بن شيبان، أنشد له دعبل:
عضت بنو هندٍ بأَير أبيهم ... هل كنتَ الا عاقداً لمجيرِ
إذ خيلُهم تردى عليَّ فضولها ... ورجالُهم في الكوكبِ المسعورِ
وأنشدنى له المرثدى.
سألوا البقية والرماحُ تنوشهم ... شرقى الأسنة والنحور من الدمِ
فتركتُ في نقع العجاجةِ منهم ... جزراً لساغبةٍ ونسرٍ قشعم
هذا البيت الأخير في قصيدة عنترة الميمية.
138 - عمرو بن شقيق من بني عمرو بن سدوس، له أشعار في يوم النشاش.
139 - عمرو بن العديل العبدي القائل:
ذهلتَ عن الصبا إلا القصيدا ... وراجعت الأنابة والسجودا
- اليمن
-
140 - عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه صاحب رسول الله ( وهو ممن أعان على عثمان رضي الله عنه وحضر قتله ومن قوله:
يا عمرو يا ابنَ الحمق بن عمرو ... من معشرٍ شُم الأُنوفِ زهرِ
141 - عمرو بن الجموح بن زيد الخررجي صاحب رسول الله (، والشهيد يوم أحد، وقال له رسول الله ( وهو يخرج إلى أُحُد قولا يعذره به في التخلف عنه لمكان عَرَجِهِ فقال: والله يا رسول الله إني لأَطمع أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، وقبره معروف في قبورالشهداء بأُحد ومن قوله:
أَتوبُ إلى الله مما مضى ... وأَستغفُر الله من نارِه
وأُثني عليه بآلائه ... بأعلان قلبي وإسراره
وكان أُسلم قبل هجرة النبي ( بعد أن أمتنع من الأسلام مدة وقد فشا بالمدينة، فعدا فتيان من قومه قد أسلموا على صنمه فكسروه وألقوه في بئر وقرنوا به كلباً ميتاً فقال:
بالله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنتَ وكلب وسط بئرِ في قرنْ
ثم أَسلم.
142 - عمرو بن معدي كرب الزبيدي الفارس المشهور، يكنّى أبا ثور، جعله ابن سلام رابع فرسان العرب المذكورين، وحكي عن خلف الأحمر وغيره تقدمه عليهم أخبر بذلك أبو خليفة بن الحباب قال: حدثنا محمد بن سلام، وأخبرني أبو بكر بن زهير قال حدثنا الأثرم أن أبا عبيدة معمر بن المثنى قال كانت العرب لا تزيد فيمن تعد من الفرسان أو الشعراء أو الخطباء على ثلاثة نفر، وذكر أن العرب مجمعة على أن فرسانها في الجاهلية ثلاثة: عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي، وعامر بن الطفيل العامري وبسطام بن قيس بن مسعود الشيباني، ولم يذكر أبو عبيدة عمرو بن معدي كرب فيهم.
وأخبرنا أبو سعيد بن شاهين قال حدثنا ابن النطاح قال حدثنا أبو عبيدة قال: كان عمرو بن معدي كرب يقدم على زيد الخيل في البأس والنجدة، ولا يُعلم له في الجاهلية أسيرٌ.

وكان عمرو قد أسلم في حياة رسول الله ( ثم ارتد مع مرتدة اليمن وحارب عمال رسول الله ( ثم عاد الى الإسلام، وأخرجه عمر بن الخطاب في بعث العراق فشهد فتوح فارس وأبلى فيها فكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص أن يستشيره في الحرب وطليحة بن خويلد الأسدي ولا يوليهما شيئاً من أمر المسلمين، وأخباره في غاراته في الجاهلية وقتله من قتل من الفرسان مشهورة وكثير منها أكاذيب.
حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن سلام أراه عن عبد الملك بن الماجشون قال: كان عمرو بن معدي كرب في مسجد الكوفة يحدث بأيامه في الجاهلية إذ قال: فلقيت أنس بن مدرك الخثعمي فطعنته فقتلته وأنس في القوم فقال أنس: حلاّ أبا ثور: ها أنا جالساً اسمعك فقال: اسكت ويحك نوزغ هذه النزارية، نوزعها نكفها وذكر أحمد بن الهيثم الفراسي قال: حدثني عمي أبو فراس قال: حدثنا ابن الكلبي قال: كانت الفرسان تتواقت على خيولها في الكناسة بالكوفة فتتحدث، قال فوقف جماعة من الأشراف فيهم خالد بن الصقعب النهدي وطلع عليهم عمرو بن معدي كرب فقالوا، يا أبا ثورحدثنا ببعض عجائبك، فابتدأ بذكر أمر جرم حين حالفت بني زبيد وإغارتهم على الحارث بن كعب وحلفائها من نهد وإخوتها وساق خبرهم فقال فيه: فلقيتني بنو نهد مسترعفين بخالد بن الصقعب، فضربته بالصعصامة ضربةً فرقت بها بين شقيه، فسقط الى الأرض من كلا جانبيه فقال له خالد: إن قتيلك يا أبا ثور يسمع حديثك، قال: إنما أنت محدث فاسمع.
وأخبرنا ابن شاهين قال: حدثنا ابن النطاح قال: حدثني أبو عبيدة معمر قال: كان عمرو بن معدي كرب يوم القادسية قد أرمق على مائة سنة.
وحدثني عسل بن ذكوان قال: حدثنا أبو حاتم السجستاني قال كان خلف الأحمر مولى الأشعريين يتعصب لعمر بن معدي كرب ويفرط في الإشادة بذكره، فقال له بعض أصحابه يوماً: إنه كذاب، فقال: إن كان يكذب في المقال فإنه كان يصدق في الفعال.
وأخبرنا محمد بن إسماعيل بن يعقوب الأعلم قال: حدثنا محمد بن سلام قال: قال يونس بن حبيب: أبت العرب إلا أنّ عمراً كان يكذب، وله أشعار كثيرة جياد، أنشدنا له محمد بن يحيف المروزي عن الجاحظ قصيدته التي أوّلها.
أمن ريحانة الداعي السميعُ ... يؤرقني وأصحابي هجوعُ
وفيها يقول:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه الى ما تستطيع
ومما استحسن تشبيهه فيه:
ترى السرحان مفترشاً يديه ... كأنَّ بياضَ لبتهِ صديعُ
ومن قوله المختار.
ظللتُ كأني للرماح دريّةً ... أقاتلُ عن أبنَاءِ جَرمٍ وفرّتِ
وجاشت اليّ النفسُ أوّلَ مرّةٍ ... فرُدّت على مكروهها فاستقرتِ
والبيت الأول من أمضّ ما هُجَي به أحدٌ والبيت الثاني من أصدق ما قاله فارسٌ.
143 - عمرو بن سالم بن حصيرة الخزاعي المُلَحي: من أصحاب رسول الله (، وبسببه كان فتح مكة.
حدثني محمد بن الأزهر قال حدثنا سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن محمد بن إسحق قال: كانت راية خزاعة يوم الفتح وهم مع رسول الله ( مع عمرو بن سالم هذا.
وأخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا أحمد بن محمد عن إبراهيم ابن سعد عن محمد بن إسحق بإسناده قال: لها هادن رسول الله ( قريشاً السنين التي كتب بها الكتاب بالحديبية كانت خزاعة مسلمها وكافرها في عقد النبي ( وكانت بكر بن عبد مناة في عقد قريش وبين بكر وخزاعة مغاورات، وفشا الإسلام في خزاعة وانتصفت من بكر فشكت بكر ذلك إلى قريش فأعانتها سراً ودسّت اليها الرجال والسلاح فبيتوا خزاعة على ماءٍ لهم يقال له الوثير، فقتلوهم قتلاً ذريعاً، فخرج عمرو بن سالم حتى قدم المدينة على النبي ( فأنشده:
لا هُمَّ إني ناشدٌ محمدا ... حلفَ أَبيه وأَبينا الأَتلدا
كنت أباً براً وكنا ولدا ... إن قريشاً أَخلفتكَ الموعدا
ونقضتْ ميثاقكَ المؤكدا ... وزعمت أن لستَ تدعو أحدا
وهم أذلُّ وأقلُّ عدداً ... وطرَّقونا بالوثير هُجّدا
فقتلّونا ركّعاً وسُجّدا ... فانصر هداك الله نصراً أيِّدا
وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجرَّدا

أن صحبة الأخيار كجرة النضار بطيئة الانكسار سريعة الأنجبار وصحبة الأشرار كجرة الفخار سريعة الانكسار بطيئة الأنجبار وبالجملة فما في صحبة الناس فائدة ولا في مخالطة الناس كبير عائده وقد قيل:
ولم تر من بني الدنيا سلاما ... فان تراه فابلغه سلامي
وينبغي أن تكون غيبتكم وحضوركم وأجوالكم وأموركم وأجتماعاكم وفراقكم وصلحكم وشقاقكم في حالتي السراء والضراء والبؤس والرخاء على وتيرة واحدة وهي الخالية عن الأغراض الفاسدة أعني إذا رضيتم فبالحق وإذا غضبتم فالحق وإذا توجهتم فاللحق ولا تبطروا في حالة النعم ولا تضجروا في حالة النقم وعلى كل حال فلا يقع بينكم اختلال وذلك بتفرق الكلمة واختلافها وتصادمها وعدم ائتلافها فانه قيل:
إن الدليل الذي ليست له عضد ... مثل الوحيد بلا مال ولا عدد
(وقيل أيضاً):
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى ... خطب ولا تتفرقوا أجنادا
تأبى القداح إذا جمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا
ولا تثقوا بأحد من الكبار والصغار إلا بعد الأختبار في الشدة والضعف والرفق والعنف والبؤس والرخاء والخوف والرجاء ولا تقدموا على قديم الأصحاب أحداً ولا على الموثوق بهم من لا جربتموه أبداً وقد قيل في المثل المشهور النحس المعروف خبر من الجيد المنكور وقيل أيضاً خير الأشياء جديدها الأصحاب قديمها وأسوأ قواعدكم أخراكم في دنياكم واغتنموا السعادة الباقية من الدار الفانية وعاملوا تجدوا وازرعوا تحصدوا وتفكروا من أول يومكم أحوال عزكم ومن أوائل عمركم أواخر دهركم ومن ليلة الهلال سرار أشهركم فكل من له صدق قدم يتفكر وهو موجود حالة العدم ومن زمان شبابه حالة الهرم كما فعل التاجر المراقب وما آل إليه العواقب فقبل الأرض الأولاد وقالوا مولانا السلطان أعظم من أفاد لو تصدق على عبيده الطائعه ببيان تلك الواقعة (قال الملك) ذكر الحكماء وذووا الفضل من العلماء أنه كان في بعض الأمصار تاجراً من أعيان التجار ذو مال جزيل وجاه عريض طويل ونعمة وافرة وجشم وخدم متكاثرة من جملتهم غلام مخابل السعادة من جبينه لائحة وروائح النجابة من أذيال شمائله فائحة قد أفتى عمره في خدمة مولاه ولم يقصر لحظة في طلب رضاه فقال له سيده في بعض الأيام لك على حق يا غلام وأنا أريد مكافأتك وأطلب موافاتك فتوجه هذه المرة في هذه السفرة فمهما ربحت فهو لك بعد أن أعتقك من قيد رق أشغلك ثمن أوسق مركباً وفسح له في السير شرقاً ومغرباً وصاه بأشياء امتثل مرسومها والتزم منطوقها ومفهومها فقال له مولاه سأرفعك على إضرابك وأغنيك عن أمثالكوأصحابك وأجعلك كأكبر من في الدنيا ولجميع رفقتك بمنزلة المولى ثم أخذ في تعبية البضائع وأوسق مركبه المتاجر والمنافع وسلمه إلى الهواء والماء بعد أن توكل على رب السماء فسار بعض أيام وهو في أهنى مرام وخضره الملاح وموسى وفتاة حافظ الألواح وبينهما السفينة من نسف العواصف أمينه تجاري السهم والطير وتبارى الدهم في السير فإذا بالرياح هاجت والأمواج ماجت وأشباح البحر تصادمت وأطواد الأمواج على العرفاء تلاطمت فعجز ذلك الملاح والحافظ ونشر مذهب ابنه أبو الجاحظ وترك سيمة الوقار والسكينة ورقم نقش الحروف في ألواح السفينة فشاهدوا من ذلك الهواء والأهوال وغدا قاع البحر كالجبال وصار في ذلك الغراب بمن فيه من الأصحاب كأحوال الدنيا بين صعود وهبوط وقيام وسقوط طوراً يستأمنون الأفلاك ويناجون الأملاك وينهون أخبار ظلمات صاحب الحوت إلى السماك وطوراً يهبطون الغور وينظرون قرن الثور وربما قوامنه من تحت الزور فلم يزالوا عاجزين حيارى سكارى وما هم بسكارى يتناشدون:
وفلك كبناه والبحر ذو ... هواء فثار وحار ومارا
فطوراً اعلونا السماء وطوراً ... رمتنا أراضيه منها انحدارا

وآخر الأمر نسفت السفينة الرياح وألقى كاتب الحاصب إلى كل حرف من حروف الجبال لوحاً من الألواح وأوعر الله سهلها وخرقها فأغرقها وأهلها وذهب البحر بأموالها وأرواحها وتعلق الغلام بلوح من ألواحها واستمر تقذفه الأمواج وتصدم به أثباج البحر الهياج إلى أن وصل إلى ساحل فخرج وهو كئيب ناحل وصعد إلى جزيرة فواكهها غزيرة ووصفها عجيب ليس بها داع ولا مجيب فجعل يمشي في جنباتها إلى أن أداه التوفيق إلى فم طريق فسار تلك الجادة وهداية الله له مادة فانتهى به المسير إلى أن تراءى له سواد كبير وبلغ مملكة عظيمة ولاية جسيمة ورأى على بعد مدينة مسورة حصينه فعمد إلى ذلك البلد وتوجه نحوها وقصد فاستقبله طائفة من الرعال نساء ورجال يتبعهم جنود مجندة وطوائف محشدة مع طبول تضرب وفوارس تلعب رزمور تزعق وألسنة بالثناء تنطق حتى إذا وصلوا إليه تراموا عليه وأكبوا بين يديه يقبلون يديه ورجليه مستبشرين برؤيته متبركين بطلعته ثم ألبسوه الخلع السنية وقدموا فرساً عليه بكنبوش ذهب وسرج مغرق ووضعوا له التاج على المفرق ومشوا في الخدمة بين يديه والجنائب في الموكب تجر لديه ينادون حاشاك واليك سلطان الناس قادم عليك حتى وصلوا إلى المدينة ودخلوا قلعتها الحصينة ففرشوا شقق الحرير ونثروا النثار والكثير وأجلسوه على السرير وأطلقوا مجامر الند والعبير ووقف في خدمته الصغير والكبير والمأمور والأمير والدستور والوزير وأشندوه:
قدمت قدوم البدر بيت سعوده ... وأمرك فيتاصاعد كصعوده

لا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار القرارِ نصيبُ
فحسبي من الدنيا دلاصٌ حصينةٌ ... وأجرد خوار العنان نجيبُ
في أبيات، ثم أخذ رمحه فعمل في المسلمين عملاً مارأوا مثله من أحد. حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا الجاحظ عن القريعي قال: قلت ليونس بن حبيب: أين كان عمرو القنا من جذل الطعان وملاعب الأسنة، فقال: لا بل أين كان جذل الطعان وملاعب الأسنة من عمرو القنا، ومات موتاً ولم يقتل. فقال الحجاج: لا وألت نفس الجبان، هذا عمرو القنا مات،حتف أنفه. 158 - عمرو بن حُكَيْم بنُ مُعَيَّة بن أبي صعبة التميمي من ربيعة الجوع، يقول:
هل تعرف الدارة من ام وهب ... إذ هي خودٌ عجبٌ من العجبْ
فيما اشتهت من خبزٌ برٍّ وَحَلب ... تقتل كلَ ذات زوجٍ وعزبْ
159 - عمرو بن حُرثان ذي الاصبع العدواني، نزل خراسان وهو شاعر فارس، ضربه أمية بن عبد الله بن خالد بن أَسِيد حداً في الشراب - فهجاه فقال - :
لعمري لقد ضيعت ثغراً وليته ... أبا جعل أفٍ لفعلكَ من فعلِ
فلو كنت حراً يا أمية ماجداً ... زحفت إلى الأعداء في الخيل والرجلِ
ولكن أبي قلبُ جبانٌ ونيةٌ ... تقصر عن فعل الكرام ذوي الفصلِ
عذرت قريشاً أن يجودوا ويبخلوا ... فما لبني سوداء والجود والبخل
مغازيل اكفال إذا الحربُ شمّرت ... وحلمُ بني السوداء شرٌ من الجهلِ
رأيتُ بني السوداء ليسوا بسادةٍ ... ولا قادة عند الحفاظِ على الأصلِ
وقال فيه أيضاً.
أضاع أمير المؤمنين ثغورَنا ... وأطمع فينا المشركين ابنُ خالدِ
وباتَ على خور الحشايا منعماً ... يلاعبُ أمثال المها في المجاسِد
وبتنا جلوساً في الحديد وتارةً ... قياماً ننادي ربنا في المساجد
إذا هتف العصفورُ طارَ فؤادُه ... وليثٌ حديدُ النابِ عند الثرائِد
أخبرني أبو حنيفة إسماعيل بن عبد الله، ومحمد بن أحمد عن مسعود بن بشر عن إبراهيم بن داحة قال: فقال له عبد الملك بن مروان: مالك ولابن حُرثان، قال: وجب عليه حد فأقمته قال: فهلا درأته عنه بالشبهة فو الله ما يسرني أنه لحقني ما لحق علقمة بن علاثة من بيت الأعشى وأن لي ما على الأرض، ثم أنشد بعض أبيات الأعشى الصادية في علقمة.
160 - عمرو بن عتاب التيمي تيم الرِباب أحد بني رُبَيْع من قوله يرثي أخاه عباد بن عتاب:
كأنَّه لم يكن ميتٌ ولا حزنٌ ... ولا رزيةٌ دهرٍ قبل عبْادِ
161 - عمرو بن رياح المزني من بني جآوة بن عثمان، يهجو أبا وجزة السعدي:
أنا ابن أوسٍ وعثمان الأُلى بلغوا ... مع الرسول تمامَ الألف وانتسبوا
وما وفى معه من غيرهم أحدٌ ... ألفاً وما خذلوا عنه ولا نكبوا
162 - عمرو بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أُمية، له شعرصالح، وأكثر ما يروى له في هجاء عمّته أم موسى بنت عمرو بن سعيد ورميه إياها بمتطبب نصراني يقال له وهب، أنشدني محمد بن القاسم بن مهروية قال: أنشدنا روح بن فرج الحرمازي، قال: أنشدنا هشام ابن الكلبي له:
لا بارك الرحمن في عمتي ... وزادها في ضعفها ضَعْفَه
ما زوجت من رجل سيّد ... يا زيد الا عجّلت حتفه
ولا رأينا قط زوجاً لها ... أبلى جديداً عندها خفّهِ
وأنشدني له محمد بن الهيثم بن عدي عن أبيه في المتطبب:
يا ليتني كنت وهباً كي تطاوعني ... فيما هويت من الأشياء عمتنا
إذن لكنت قريياً من مودتها ... وأَنجحت عندها يا زيد حاجتنا
يريد وهب أموراً كنت آمنها ... يردنا عن هوى ربي ويلفتنا
قسٌّ وضيءٌ لطيفُ الخصر مختلقٌ ... هانت على عمتي في القس سخطتنا
وأنشد له أيضاً فيها:
لا بارك الرحمنُ في عمّتي ... ما أبعد الأيمان من قلبها
تلك أم موسى بنت عمرو التي ... لم تخش في القسيس من ربها
يا عبد لاتأسي على بعدها ... فالبعد خير لك من قربها

والنصوح الصديق جزاك الله خيرا وكفاك ضيماً وضيراً أني قد فكرت في شيء ينفع نفسي ويحيها ويدفع شر هذه البلية التي وقعت فيها وأريد معاونتك وأطلب مساعدتك فأني رأيتك في الفضل متميزاً بين أقرانك فاثقافي محاسن الشيم على أصحابك وإخوانك فقال افعل يا ذا الزعامة وحبالك وكرامه قال اعلم أيها الصاحب الأعظم أن الرجوع إلى هذاالمكان الذي كنت فيه خارج عن الإمكان والإقامة في هذا الملك المعهود إنما هي إلى أجل معدود ووقت محدود وانقضاؤه على البتات وكل ما هو آت آت وكيفية الخروج قد عرفت وطريقها قد تقررت ووصفت ولهذا قيل يا ذا الفضل الجزيل دخلنا مضطرين وأقنا متحيرين وخرجنا مكرهين ولم يتجه مخلص من هذا المقنص إلا طريق واحد وسبيل غير متعاهد وهي أن تأخذ طائفة من البنائين وجماعة من المهندسين والنجارين وتذهب بهم أيها الوزير إلى مكان إليه نصير فتأمرهم أن يبنوا لنا هناك مدينة ويشيدوا لنا فيها أماكن مكينة ومخازن وحواصل وتملؤها من الزاد المتواصل من المآكل الطيبة والأطعمة والأشربة اللذيذة المستعذبة ولا تغفل عن الإرسال ولا تختر الإمهال والإهمال في الظهيرة والأسحار والغدوّ والآصال إذ أوقاتنا وأنفاسنا معدودة وساعة تمضي منها غير مردوده وإذا فات شيء من ذلك الوقت فلا نعوض عنه إلا الخيبة والمقت فننقل هناك ما يكفينا على حسب طاقتنا ومقدار قدرتنا واستطاعتنا فإذا تزودنا منها لم نرحل عنها بحيث إذا نقلنا من هذه الديار وطرحنا في تلك المهمة والقفار وجفانا الأصحاب وتخلى الإخلاء عنا والأحباب وأنكرنا المعارف والأوداء واحتوشتنا في تلك البيداء فنون الداء نجد ما نستعين به على إقامة الأود مدة إقامتنا في ذلك البلد فأجاب بالسمع والطاعة وأختار من المعمارية جماعة وأحضر المراكب وقطع البحر إلى ذلك الجانب وجعل الملك يمدهم بالآلات والأدوات على عدد الأنفاس ومدى الساعات إلى أن أعنى المعمارية العمارة وأكملوا حواصل الملك ودلره وأجروا فيها الأنهار وغرسوا فيها الأشجار فصارت تأوي إليها الطيور بالليل والنهار ويترنم فيها البلبل والهزار بأنواع التسبيح والأذكار وغدت من أحسن الأمصار وبنوا إليها الضياع والقرى وزرعوا منها الوهاد والثرى ثم أرسل إليها ما كان عنده من الخزائن ونفائس الجواهر والمعادن وأرسل من ظريف التحف إليها ومن حاجاته المعول عليها بحيث لو أقام بها سنين قامت بكفايته وفضلت خزائنها عن حاجته وأكثر من إرسال ما يلزم من الأدوات والأشربة والمطعومات وجهز الخدم والحشم وصنوف الأستعدادات من النعم فما انقضت مدة ملكه ودنت أوقات هلكه إلا ونفسه إلى مدينته تاقت وروحه إلى مشاهدتها اشتاقت وهو مستوفز للرحيل ورابض للنهوض والتحويل فلما تكامل له في الملك العام لم يشعر إلا وقد أحاط به الخاص والعام ممن كان يفديه بروحه من خادمه ونصوحه ومن كان سامعاً لكلمته من أعيان خدمه وحشمته وقد تجردوا لجذبه من السرير ونزع ما عليه من لباس الحرير ومشوا على عادتهم القديمة وسلبوه الحشمة الجسيمة ومملكته العظيمة وزالت الحشمة والكلمة والحرمة وشدوا وثاقه وذهبوا به إلى الحراقة ووضعوه وقد ربطوه في المركب الذي هيئوه وأوصلوه إلى ذلك البز من البحر فما وصل إليه إلا وقد أقبلت خدمه عليه وتمثلت طوائف الحشم والناس لديه ودقت البشائر المقدمة وحل في سروره المقيم ونعمه واستمر في أتم سرور واستقر في أوفر حبور ثم قال الملك للأولاد فلذ الأكباد وإنما أوردت هذا المقال على سبيل المثال فأصغوا إلى حسن التنظير حتى أبين لكم النظير وعوامل ما أقول بآذان القبول وتأملوا رموز المعاني من هذه الألفاظ التي خجلت المثاني ثم تفكروا وتبصروا وبعد التذكير والتبصر تدبروا أما ذلك العام المعهود فأنه الولد في أول الوجود وأما المركب الذي أودعه فهو بطن أمه الذي استودعه وانكسار السفينة هو انشقاق المشيمة والجزيرة التي خرج إليها فهي الدنيا التي دخل عليها والناس الذين استقبلوه فأقاربه وذووه وأهلوه يربونه بالملاطفة والعلال ويعاملونه بالإكرام والأفضال وذلك الشاب الذي هو وزيره فهو عقله ومن إيمانه نوره والسنة المضروبة أجله المحتوم وعمره المعدود المعلوم ونزوله عن سريره عبارة عن آخرته ومصيره وخروجه من الدنيا بالإكراه وشروعه في دخول إلى أخراه والبحر الثاني الذي طرح فيه هو أحوالما يعاينه عند الموت ويعانيه

شبا كل شيء حده، وقال لنا أحمد بن يحيى ثلب وقد أنشدنا هذا الشعر ما النيم؟ فقال له جعفر المؤدب المعروف بالشاعر النيم أعزك الله نصف بالفارسية، فقال: فأنا ترجمان لست صاحب لغة، ثم حدثنا عن سلمة عن الفراء عن الصقيل العقيلي قال: النيم الفرو، ومن هذا أخذ القائل شعره.
نشربها صرفاً وممزوجة ... يميلُ منها عنقُ البازلِ
إذا شربنا خمسةً خمسةً ... فقد لبسنَا الفروَ من داخِل
169 - عمرو بن حسان بن هانئ بن مسعود بن قيس بن خالد من بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان صاحب شراب استفرغ شعره في وصف المجالس والندامى والخمر وأسبابها، وأنشد له حماد بن إسحق وغيره، ويروى لعمرو بن الأيهم التغلبي.
ما بال قوم أغربوا... ... أن قيل يوماً إن عمراً سكورْ
إن أَكُ مسكيراً فلا أشرب ... وغلاً ولا يسلم مني البعيدْ
قاتلك الله من مشروبةٍ ... لو أن ذا مرَّةٍ عنك صبورْ
الزقُّ مُلكٌ لمن كان له ... والملك منه طويل وقصيرْ
منه الصبوح الذي يجعلني ... ليث عِفِرّين ومالي كثيرْ
فأَول الليل فقرم ماجد ... وآخر الليل فضبعان عثور
وأنت ان تلقك أرُبية ... منهم يلاقيك غلامٌ غريرْ
أو أشمط اللمة يوماً به ... من صدأ الدرع ويوماً عبيرْ
يسعى إلى الموت به قارحٌ ... أحكمه الصُنعُ مِجشُّ ضمورْ
وأنشدني ابن أبي خيثمة لعمرو بن حسان هذا
أَلا يا أمَّ عمروٍ لاتلومي ... إذا اجتمَع النَدامى والعمائم
أفي نابين بالهما أُسافٌ ... تاوّه طلتي ما إن تنام
بالهما: باعهما فشرب، بأثمانهما، وطلته زوجته.
170 - عمرو بن عبد الله بن معاوية بن عبد بن سعد بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل الذي يقول:
إذا أُخمِدَ النيرانَ من حذرِ القُرى ... رأيتَ سنا نارِي يُشبّ اضطَرامُها
171 - عمرو بن مبرّدة، وقالوا: مبرّد العبدي، من محارب عبد القيس، أنشد له دعبل:
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدركوا
فتفتر كفاه ويسقط سوطه ... وتحدر ساقاه فما يتحركُ
وهل يستوي المرآن هذا ابنُ حرةٍ ... وهذا ابن أخرى طهرها متشرك
وأدركه خالاته فاختزلنه ... ألا إنَّ عرق السوء لا بدّ مدركُ
ويقال: إنّ بني عبد الملك بن مروان استبقوا بين يديه فسبقوا جميعاً مسلمة بن عبد الملك فأنشد عبد الملك هذا الشعر فأجابه مسلمة بشعر مثله.
172 - عمرو بن أوس بن عُصْبَة العبدي أخو أبي الجويرية عيسى بن أوس، وهو الذي يقول في علي بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم:
يا ابنَ صريحِ الحسبِ المهذبِ ... أنت النجيبُ للنجيب المنجبِ
وقد رووها له في العريان بن الهيثم بن الاسود النخعي يقول فيها:
عريان يا طيّب يا ابن الطيبِ
173 - عمرو بن الهذيل الربعي، هو الذي يقول:
فدىً لسيوفٍ من ربيعة بحبحتْ ... أخاها سجستاناً بُجِيرَ بن سَلهبِ
174 - عمرو بن ذكينة الربعي الخارجي - من الشراة، حدثني أبو بكر محمد بن راشد قال: حدثنا سعد بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه كتب إليه رجل من الحرورية يقال له عمرو بن ذكينة بأبيات من شعره:
قل للمولّى على الإسلام مؤتنفاً ... وقد نُرى أنه رثُ القوى واهِ
أزرى به معشرٌ غذّوه مأكلة ... بنخوةِ العزِ والأترافِ والباهِ
إنّا شرينا بدينِ الله أنفسنا ... نبغي بذاكِ إليه أعظَم الجاهِ
نبغي الولاة بحدِ السيفِ عن سَرَفٍ ... كفى بذاكَ لهم من زاجرٍ ناهِ
فأنْ قصدتَ سبيلَ الحقِ يا عمرا ... آخاكَ في اللهِ أمثالي وأشباهي
وإنْ لحقتَ يقومٍ كنتَ واحدهم ... في جورٍ سيفهِم فالحكمُ للهِ

إلى سفر طويل زاده قليل قفاره يابسة وطرقه دامسه لا أنيس فيه ولا رفيق ولا مصاحب ولا صديق ولا دليل ولا خليل ولا مغيث ولا مقيل ولا ماء ولا معين ولا صاحب ولا معين فيهيئ لهذا السفر بقدر الإمكان ما قدر من الزاد وألما والمركب والكلا ونور الطريق والمسافر والرفيق والخادم والأنيس والمنادم والجليس ويمهد المضجع للمبيت ويهيئ والمقيل ويهيئ الموضع في النزول والرحيل وبالجملة لا يترك من أفعال الخير شيئاً إلا فعله ولا مجملاً إلا فصله ولا متأخر إلا قدمه ولا معاملاً في مبايعة إلا أسلفه وأسلمه وليعلم أن كل ذلك محتاج إليه ومصروف لديه إذا نقل إلى دار البقاء وأقبل عليه فإذا جاء وقت الرحيل ونادى منادي الانتقال والتحويل وجد ما كان في عمله حاضراً وكل ما قدمه إلى رياض الخير نزها ناضراً كما قال ذو الجلال وأخبر به الصادق في الوعد والمقال أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون معنى أن لا تخافوا لا خوف عليكم فيما هو أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم فإذا دخل في قبره وجده روضته من رياض الجنة يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وأما الشقي الغافل الغبي الذي أمهل أمره ونسي الله وذكره وأهمل ما خلق لأجله وتاه في بيداء الضلال وسبله فقد اغتر بهذه اللذة اليسيرة في تلك المدة القصيرة واستمر سكران في ميدان العصيان من خمرة الطغيان وتردى لباس الردى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فانهدمت عمارتهم ولا ربحت تجارتهم حتى إذا جاءه الوقت المعلوم ونزل به الأجل المحتوم ونظر أمام وتراءت الأعلام فإما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم نزل من دار الغرور إلى دار الشرور فندم ولا ينفعه الندم وقد زلت به القدم فخاب مآبا وقال يا ليتني كنت تراباً فانظروا يا أولادي وعدتي وعتادي حال الفريقين وتأملوا ما للطائفتين فقد بذلت في النصيحة جهدي وأستخلف الله عليكم من بعدي فقال أكبر ولده وهو أسلك محاسنهم واسطة عقدهم جزى الله مولانا عن شفقته خيراً وأولاده على حسن النصيحة أجروا ذخراً فلقد أحييت قلوباً بزواهر حكمك وشنفت أسماعاً بجواهر كلمك ولكن أخوتي وإن كانوا من أولي العلم وأرباب النباهة والحلم والعقل الغزير والفضل الجم الكثير والرأي المصيب المنير غير أن حدة الشباب عليهم غالبه ودواعي النفس بشهواتها مطالبه لا سيما أن حصلوا على ملك عريض وكرعوا من ألبانه المخض والمخيض فان اتفق مع ذلك موافق منافق أو صاحب ممارق أو صديق خدوع أو مباطن مكار هلوع أضلهم عن سواء السبيل وصار إلى طريق المخالفة أوضح دليل فتتحول صداقتنا عداوة وتتبدل فيها بالمرارة الحلاوة الرخاء فينتزع الرخاء ويتمزع الإخاء ويبغي بعضنا على بعض وتعود الأخوة على موضعها بالنقض ويتولد من ذلك الفتن ويظهر من العداوة ما بطن فالرأي عندي أنه ما دام زمام التصرف في يد الإمكان يتصرف مولانا السلطان على مقدار جهده في مصلحة عبده بحيث لا أكون مضغة للماضغ ومشغلة لكل قلب فارغ ولا يسلمني لا سباب الحوادث ومخالب الدهر الكوارث فإنه بذلك يكفيني من نوائب الزمان ما يدهيني والعياذ بالله المنان من مفارقة مولانا السلطان جلعني الله تعالى فداءه ولا أراني فيه يوماً أساءه فليأخذ بيدي من هذه الورطة وليرحمنيمن شر هذه الخطه فانه قد قيل من لا يقبل المستقبل ولا يغيث المستغيث ولا يتقصد بمعنى الحديث ولار يدفع غصة هذه القصة ويفوت عند الأمكان الفرصة يصيبه من حوادث الزمان ما أصاب بعض الجرذان الذي لم يخلص الغزالة الواقعة في شرك الحبالة قال السلطان قل لي كيف كانت قصته وما كانت قضيته (فقال) ذكر أن بعض الصيادين المحتالين الكيادين نصب حباله ليصيد غزاله فعلق بها مهاة من المها وطلبت مجالاً واضطربت يميناً وشمالاً فوقعت عينها على جرذ من الجرذان عنيد يتفرج عليها من بعيد فنادته بلسان زلق وأثنت عليه بلسان طلق وقالت يا فارس ميدان المروة والنجدة والفتوة والموصوف بالشطارة والقوة هذا وقت الكرم وأوان استعمال مكارم الشيم وفعل المعروف وإغاثة الملهوف وصرف الهمة إلى كشف الغمة نعم وأن كانت طرائق الصداقة بيننا معدومة ونقوش التنافر على صحف خواطرنا مرقومه ونقود المعرفة والإخاء في جنب التباين غير مبذولة ومرآة

ومثلُ الذي في قلبه حلَّ قلبَها ... فكن أنت تجلو اليومَ عن قلبِ عاشقِ
ولولا الذي قد خفتُ من قطع كفِّه ... لألفيتُ في أمرِ الهوى غير ناطقِ
إذا مُدتْ الغاياتُ في السبقِ للعلى ... فأنت ابن عبد الله أولُ سابقِ
فأرسل خالد مولى له يثق به يسأل عن الخبر سراً، فأتاه بتصحيح ما قال عمرو، وأخذه بتزويجه، فامتنع وقال: ليس بكفؤ لها، قال: بلى والله، إنه لكفؤ لها إذ بذل كفّه عنها، ولئن لم تزوجه لأُزوجنّه وأنت كاره، فزوّجه وساق خالد عنه المهر، فكان يسمى العاشق إلى أن مات.
181 - عمرو بن مرة بن عبد يغوث بن مالك بن الحارث بن شجب النهدي، هو الذي يقول في خبر له مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في شعر له:
رهنتُ يميني عن قضاعة كلها ... فأبتُ حميداً فيهم غيرَ مغلقِ
182 - عمرو بن عبد العزيز الحمصي الطائي، من قوله:
سُمتُ المديحَ رحالاً دونَ نَقْدِهم ... صدٌ قبيحٌ ولفظٌ ليس بالحسنِ
183 - عمرو بن مِخْلَى الكلبي، من أهل الشام، ويقولون: ابن مخلاة، ومخلاة الحمار، وأخبرت عن حمزة المصري مؤدب ولد يزيد بن عبد الله أنه ابن ذي المخلاة، فأمّا أبو زيد عمر بن شبة، فحدثني عن عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن خالد بن سعيد بن العاص عن أبيه أن ابن المخلاة قال في زينب إبنة سعيد بن العاص وأمها إبنه عثمان بن عفان، وكان خطبها الوليد بن عبد الملك وعبد الله بن يزيد بن معاوية، ولجّا فيها وتغايرا، يخاطب الوليد:
فتاةٌ أبوها ذو العصابة وابنُه ... وعثمانُ ما أكفاؤها بكثيرِ
فأان تفتلتها والخلافة تنقلب ... بأكرم علقي منبرٍ وسريرِ
وكان ابن مخلاة شاعر آل مروان، وفيهم يقول يذكر ما كان من قومه في معاونة مروان بن الحكم في يوم مرج راهط.
ضربنا لكم عن منبرِ الملك أهلَه ... بجَيرونَ إذ لا تستطيعون منبرا
وأيام صدقٍ كلها قد علمتم ... نصرنا ويوم المرج نصراً مؤزرا

- المحدثون في أيام بني العباس
-
وأكثرهم كان بعد الأصمعي وخلف إلا نُفَيرْ لعلهما لم يعرفاهم.
184 - عمرو بن مُسلّم أبو مضر المُسَلّم الرياحي مديني حسن الشعر يمدح ويهجو ، وله حظ من أدب، وكان على عهد المنصور والمهدي، حدثني محمد بن الحسن الزُرَقي قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق البكري قال: حدثني أبو المسلّم عمرو بن المسلّم قال: جئت الحسن بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي صلوات الله عليهم أمتدحه، وهو بينبع، وهو أخو حسين صاحب فخ، قال: فلما رآني قال: لا حيا الله ولا سلم، يا عاض كذا، فقلت: لم ذاك أعزّك الله؟ قال: ألست القائل في محمد بن خالد بن عمرو بن عثمان رضي الله عنه:
يا ابنَ الذي حنَّ الحصى في يمينه ... وأكرمَ من وافي جمارَ المحصّبِ
وخير إمام كان بعد ثلاثةٍ ... مَضَوا سَلَفاً أرواحُهم لم تشعَّب
هو الثالثُ الهادي بهدي محمدٍ ... على رغمِ أنفِ الساخِط المتعتب
قال: قلت: نعم أعزّك الله، أنا قائل ذاك، ووالله لئن احتملتُ رحلي حتى أصيّر هذه الحرَّة بيني وبينك ليأتينك معنى ما قال زهير:
لئن حللتُ بجوٍّ في بني أسدِ ... في دين عمروٍ وحالتْ بيننا فَدَكُ
ليأتينكَ منّي منطقٌ قذِعٌ ... باقٍ كما دَنّس القِبطيّة الوَدكُ
قال: فقال: أدنُ لا حياكَ الله، فأوسع لي إلى جنبه، وأوقر لي رواحلي تمراً، وحدثني ابن أبي خيثمة ومحمد بن الحسن الزُرَقي قالا: حدثنا عبد الله بن شبيب عن ميسرة بن عبد الله الكلابي عن أبيه أن أبا المسلّم أنشده لنفسه:
ألا يا لقومٍ للفؤادِ المعذَّبِ ... وعينٍ تمادتْ في البكا والتنحبِ
وقلبٍ كئيبٍ لا يزال يهيضه ... لميّةَ رَبْعً ذو أَمارٍ وملعبِ
ليالي لا تُوليك إلا تحبُباً ... إلينا ألا أهلاً بذاكَ التحببِ
أقمنَا بذاكَ العيشِ ثم انتحى لنا ... من الدهر صرفُ المِرّة المتقلّبِ
وأنشدني محمد بن الحسن الزُرَقي قال: أنشدني أبو سعيد.

قال: أنشدني محمد بن الله بن أبي عتيق لأبي المسلّم، وطلق امرأته ومتّعها وحملها إلى أهلها، فلما استقلّت ركابها قال:
ولستُ بناسٍ إذ غَدَوا فتحملوا ... لزومي على الأحشاءِ من لاعجِ الوَجْد
وقولي وقد زالت بليلٍ حمولُهم ... بواكِرَ تُحدىَ لا يكن آخر العَهدِ
185 - عمرو بن واقد مولى عُتبة بن يزيد بن معاوية، شآمي دمشقي يقول في فتنه الهَيذام المُريّ بالشام أيام الرشيد يصف هيذاماً وخريماً ابني أبي الهيذام ومولاه سابقاً ورجلاً من قريش، وكانوا حماته في تلك الحرب مع من كان فيها من المعديّة لما وقعت العصبية بين معد واليمن:
فلم أر كالهَيْذامِ في الناسِ فارساً ... ولا كخُريم حَلْبةً في الخلائقِ
ولا كأخينا من قريشٍ رأيتهُ ... بعيني ولا مولىً رأيتُ كسابقِ
كأنهم كانوا صقورَ دُجُنّةِ ... أُتِيحت على الخربانِ من رأس حالقِ
فولتْ بنو قحطان عنّا كأنهم ... هنالك ضأنٌ جُلْنَ من صوتِ ناعقِ
وكان عمرو بن واقد ذا أدب وأخبار، حدثني محمد بن راشد قال: حدثني الهيثم بن مروان قال: حدثنا أبو مسهر قال: سمعت غير واحد منهم عمرو بن واقد وخالد بن عبدة بن رياح يقولون: فتى العرب في الجاهلية امرؤ القيس، وفي الاسلام يزيد بن معاوية: 186 - عمرو بن نصر القصافي التميمي أبو الفيض، من شعراء الرشيد المحسنين، أخبرنا أبو هفّان عبد الله بن محمد قال: كان أحسن شعراء عصره ابتداء شعر، من ذلك قوله:
غيري أطاعَ مقالةَ العُذّالِ
وقوله:
راحوا ولَما يؤذنوا برواحِ
وقوله:
لا نومَ حتى تقضّى دولةُ السَهَر
وقوله:
في دَمْعه الجاري وإعوالهِ ... ما يُخبر السائلَ عن حاله
رحّلْتُ عِيساً كلّتها عامل ... في حالِ أرقالي وأرقالِهِ
حتى تناهينَ إلى سيّدٍ ... صَبّ إلى طلعة سُؤّالِهِ
قال: وضده في بشاعة ابتداء الأشعار حبيب بن أوس الطائي.
وأخبرنا ابن أبي خيثمة عن دعبل قال: قال القصافي الشعر ستين سنة لم يعرف له إلا بيت واحد وهو:
خوصٌ نواجٍ إذا صاحَ الحُداةُ بها ... رأيتَ أرجُلَها قُدّامَ أيديها
187 - عمرو بن أبي بكر العدوي، قرشي، قاضي دمشق، أخو عمر بن أبي بكر المؤمّلي الذي روى عنه زبير بن بكار، وله شعر ظريف منه قوله: برِئتُ من الأسلامِ إن كان ذا الذّي أتاكِ به الواشون عني كما قالوا
ولكنّهم لما رأوكِ سريعةً ... إليّ تواصَوا بالنميمة واحتالوا
وبلغني أن المأمون استنشده هذا الشعر، فاعترف به له، وقال: قلته وأنا حدثٌ، فقال: قاض لا تكون له يمين إلا بالبراءة من الإسلام! وأمر بصرفه عن الحكم بدمشق، وأنه قال لمن يتغنى فيه أن يتغنى فيه:
حرمت مناي مند إن كان ذا الذي
وذكر دعبل أن عمرو بن مسعدة كان يقوم بأمر عمرو بن أبي بكر في أيام المأمون - وكان محمد بن يزداد يحمل عليه - فقال يمدح عمراً ويغمز على ابن يزداد:
لشتّان بين المدَّعِين وزارةً ... وبين الوزير الحق عمرو بن مَسْعَدْ
فَهمُّمُ في الناسِ أن يجبوهم ... وهئُّم أبي الفضلِ اصطناعٌ ومَحْمَدْ
فأسكن ربُّ الناس عمراً جنانه ... وأسكنهم ناراً من النار مُؤصَدة
188 - عمرو بن بحر الجاحظ العلامة أبو عثمان، صاحب الكتب التي لم يسبقه إلى تأليفها أحد من نظرائه، ولا يلحق به غيره إن شاء الله، وهو مقتدر على الشعر، وكثير القول، وسرَّاق فيه حدثني أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشّي رحمه الله قال: حدثني إبراهيم بن رياح بن شبيب قال: مدحني حمدان بن أَبان بن عبد الحميد اللاحقي بشعر فيه هذان البيتان:
بدا حسين أَثرى بأخوانِه ... قفلّلَ عنهم شَباةَ العدمِ
وذكرهُ الحزمُ غِبَّ الأمو ... رِ فبادرَ قبلَ انتقالِ النِعمِ
قال: فرُوي هذا الشعر وعُرف بالبصرة، ثم جاءني الجاحظ بشعر أدخل فيه هذين البيتين، فاحتملتف ذلك وأَثَبْتُهُ عليه، فبينا أنا يوماً في مجلس أحمد ابن أبي داود والجاحظ في مجلسه إذ قال لي أحمد: ما مُدِحتُ بشيء أحسن مما مدحني به أبو عثمان.

وأنشد هذين البيتين فقلت له: أن مادحك أعزّك الله يجد فيك مقالاً، والجاحظ يملأُ عينيه مني ولا يستحيي، وله في رسالته إلى أبي الفرج بن نجاح قصيدة فيه مستحسنة جداً وفي غيره أشعار جياد.
189 - عمرو بن عبد العزيز صاحب العصبية في فتنة محمد الأمين على مثل ما كان خرج عليه أبو الهيذام، حدثني محمد بن أبي مسهر الرملي قال: حدثني حمزة بن ميمون أو حُدِّثت عنه قال: حضرت عبد الملك بن صالح يوماً وقد أُدخِلَ إليه عمرو بن عبد العزيز وهو يسائله بعد أن استأمن إليه، لما قلده محمد الأمين الشام، فأعجبه محاورته وجوابه فقال له: يا عمرو، لقد تناهى إلي من خبر ظفرك بأعدائك في حروبك ما يعجب منه، فهل تعرف سبباً تخبرني به؟ قال: لا والله، أصلح الله الأمير، إلا ما قال، الشاعر:
فما إن قتلناهم بأكثر منهم ... ولكن بأَوْلى بالطعانِ وأَصبرا
وقام عمرو من عنده، فقال: أنت والله كما قال الشاعر:
يغدو إذا ما خِلاجُ الشك عنَّ له ... على صريمةِ أمرٍ غيرِ مردودِ
رَكّابُ ما يكره الأبطالُ يَقْدمه ... رأيٌ جميعٌ وقلبٌ غيرُ رعديدِ
ومن قوله عمرو بن عبد العزيز:
دعوتُ بني عمّي فكان جوابهم ... بلبيكَ فعلَ السادةِ النُّجبِ الغُرِّ
فما لمتُهم في النصرِ حينَ دعوتُهم ... ولا لامني قومي لدى النهي والأَمرِ
ومن قوله:
يَطلُب الثأر من إذا هَمَّ أمضى ... همُّه كان مخطئاً أو مُصيبا
ليس يخشى عواقبَ الأمرِ يغشا ... هُ إذا ناله وإنْ كانَ حُوبا
ومن قوله:
ما الفتكُ إلا الذي إنْ قالَ يفعله ... ولا يُشاور فيما يَرْتَئِي أحدا
لا كالمُشاورِ فيما يرتئِيه وقد ... يخشى العواقب إن بقّى له ولدا
لا تخشىئ عاقبةً في الفتكِ وامضِ لما ... هممتَ إن غيّةً كانت وإن رشَدَا
مَن يَسْتَشر تُختزل أولى عزيمتِه ... في الفتكِ أو يطلب الأَعوانَ والمددا
190 - عمرو بن عبد الرحمن بن الخلق، أبو هشام الباهلي الظالمي، شاعر مكثر كان على عهد المنصور والمهدي والرشيد، وهاجى بشاراً الأعمى فانتصف منه، وفيه يقول:
بذلّةِ والديكَ كسبتَ عزاً ... ويا للؤم اجترأت على الجوابِ
وهجا روحَ بن حاتم المهلبي فأسرف عليه، ورماه باللواط والأجارة في صباه، واللؤم والجبن، حدثني أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة عن دعبل بن علي قال: كان أبو هشام يعبر الجسر على دجلة بمدينة السلام، فلقيه عليه أبو نِيقة الحسين بن الورّاس مولي خزاعة وكان شاعراً، وعاتبه أبو نيقة على هجائه آل المهلب، ثم اتخذا وتلاطما، فدفع أبو نيقة أبا هشام، فرمى به إلى دجلة فبادر إليه قوم من الملاحين وأصحاب الزواريق فأخرجوه وتشبث به، وكان على أحد الجانبين المسيب بن زهير الضبّي وعلى الآخر نصر بن مالك الخزاعي، فقال أبو نيقة: إرفعونا إلى نصر، وقال أبو هشام: إرفعونا إلى المسيّب، ففرق الناس بينهما، فقال أبو نيقة.
فمن مبلغٌ عُليا خزاعة أنني ... قذفتُ بعبد الباهليين في الجِسرِ
قذفتُ به كي يغرق العبدُ عنوةً ... فجاشَ به من لؤمِه زبَدُ البحرِ
ومن قول أبي هشام في سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي يمدحه:
ألا قل لساري الليل لا تخشَ ضلةً ... سعيدُ بنُ سلمٍ ضوءُ كل بلادِ
لنا سيدٌ أركل على كل سيدٍ ... جوادٌ حثا في وجهِ كلِّ جوادِ
يطولُ على الرمحِ الرديني قامةً ... ويقصرُ عنه باعُ كلِّ نجادِ
191 - عمرو المخلخل، مولى ثقيف، بصري، ومن قوله يهجو عمراً الخاركي الأعور:
نظرتُ في نسبةِ الكرامِ فما ... فيها لكم ناقةٌ ولا جملُ
قومٌ لئامٌ أعراضهُم هدفٌ ... فيها سهامُ الهجاءِ تنتضل
لا يستجيبونَ إنْ دعوتهم ... إن لم تقل في الدعاءِ يا سِفَل
أبوهمُ خَالُهمْ وأمُّهمُ ... من بعضِ أولادِها بها حبلُ

فاشمأزت من الرشيق نفسه وزوى في رياض مصاحبته غرسه فأمر الحجار والبوابين أن يكونوا لدخوله على الملك آبين فلما أن جاء الرشيق وقصد الدخول بجاش وثيق منعوه من الدخول فرجع خائباً خاسراً وبقي حائراً بائراً ولم يشك أن هذا الضرب سهم غرب لأنه لم يعلم السبب فقضى من الزمان العجب فشرع يتفحص عن سبب البعاد ويتردد بين أغوار وانجاد ويذهب رائد فكره كل مذهب ويعزم على توابعه ليقفوا على موانع المطلب إلى أن وقف على السبب المضرم وعلم أنه الإحسان إلى ذلك المجرم وظهر لذلك البحر البر من قوله الإحسان إلى اللئيم سلف في الشر فاجتمع بجماعة من أصحابه وطائفة من خلص أحبابه وعرض عليهم قصته واستدفع بآرائهم غصته ثم تعرى من لباسه عند الخواص من أناسه لينظروا إلى جسده وباسه فرأوا يدنا كسبائك الفضة وأطرافنا ناعمة غضه وأعضاء تحسبها من الحور غوانيها مسلمة لاشية فيها فأجمعوا على سلامتها وذكروا للملك محاسنها بعلامتها وشهدوا بحسن صفائها ورونق بهائها وأنها سليمة عن الأدواء بريئة من كل داء وكأنه في شأنه قيل:
وأعجب ما شاهدت في وصله وقد ... نزعنا غلالات وثوب حياء
تلألؤ نور في ترقرق مائه ... وصورة روح في مثال هواء
وإنما لشدة الحسد عاب ذلك الجسد فقال الملك صدقتم وبالحق نطقتم ولكن كيف وقد قيل:
قد قيل ذلك أن صدقاً وان كذباً ... فما احتيالك في شيء وقد قيلا

196 - عمرو بن حنظلة العجلي ، أحد بني خُمْصانة، يقول في مروان بن سعد العجلي، الخارج على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان قلّده أمر واسط، وهو من أصحاب الحديث، وكان عمرو بن حنظلة من الدعاة إلى رأى الرافضة في أيام بني أمية وبني العباس، وممن يُكفّر الزيدية:
جرى في الغيّ مروانُ بنُ سعدٍ ... وجارَ به الهوى جوراً مبينا
وتابعَهُ الذين عُمّوا وصُمُّوا ... فأَمسوا في الضلالةِ تائهينا
197 - عمرو بن عبد الملك الوراق، مولى عنزة، شاعر رشيدي، وله شعر كثير في حرب محمد أيام مقامه بمدينة السلام، وأصله بصري، وهو أحد الخلعاء المجّان، وله مع أبي نواس أخبار، ومن قوله:
عوجوا إلى بيتِ عمرو ... إلى سماعٍ وخمرِ
وبيسريٍّ رخيمٍ ... يزهو بجيدٍ ونحرِ
فذاكَ برُّز وإن شئ ... تم أَتينَا ببحرِ
هذا وليسَ عليكم ... أُوْلَى ولا وقتُ عصرِ
198 - عمرو بن دِراك العبدي، وقد قالوا: اسمه عُمَر وسمّاه لي المرثدي عمرو بن دَرّاك بتشديد الراء، يهجو اليمن ويتعصب عليهم لنزار، ومن قوله:
لَهنِّي إن قطعتُ حبالَ قيسٍ ... وخالفتُ المزونَ على تميمِ
لأخسرُ خطةُ من أبي رغالٍ ... وأجور في الحكومة من سَدومِ
ومن قوله يهجو سليمان بن حبيب بن المهلب
سليمان مالَكَ لا تنتهي ... عن العلج والعلجةِ الزانية
رضيتَ وأنتَ تسامي الملو - كَ لئيم اللهازم من طاحية
وأشبهتَ خالَكَ خالَ الخسار ... ولم تشبه العصبة الماضية

- اليمن
-
199 - عمرو بن المبارك الخزاعي، كوفي طيب الشعر، أعطاني شعره ابن أبي خيثمة في نحو جلدين، ومن قوله:
مَنْ لأذني بملامِ ... ولكفَي بمٌدامِ
رقَّ عظمُ الجهلِ منّي ... وانحنى متنُ عُرامِي
وتمشّى الفذُّ من شي ... بي إلى الشيبِ التؤامِ
نظَمكَ الدرّ إلى الدرّ ... ةِ في سلكِ النظامِ
ومن قوله:
لم ينتظَرنَ فتستبلَّ قلوبُ ... حقِ رمينَ فرشقهُنَّ مصيبُ
نجلّ يتّبعنَ السهامَ لأسهمٍ ... فلهنَّ من بعدِ النُدوبِ نُدوبُ
وأنشدني له:
أمَا يُحسنُ مَنْ يُحسنُ ... أنْ يَغضبَ أنْ يرضَى
أمَا يرضَى بأن صرتُ ... على الأرضِ له أرضا
200 - عمرو بن حُوَيّ السكسكي، أبو حُوَيّ، من أهل دمشق كان على عهد الرشيد والمأمون، وذكر دعبل أنه كان صديقه، وكان ينزل عليه أيام مقامه بالشام، وأنه وابنه نوح بن عمرو كانا شاعرين محسنين، وكانا يتقلدان للسلطان أعمالاً، وهو من ولد ابن حُوي، قاتل عمار بن ياسر بصفين وأنشد له دعبل:
هلم أسقنيها لا عدمتُكَ صاحبا ... ودونَكَ صفو الراحِ إنْ كنتَ شاربا
إذا أَسرَتْ نفسُ المُدامِ نفوسَنَا ... جنينَا من اللذّاتِ منها الأطايبا
وبالليل لولا أن تَشُوبكَ عذَرةٌ ... بنا ما تبدّلنَا بكَ الدهرَ صاحبا
201 - عمرو بن سليم بن قابوس العبادي الحيري من بني الحارث من كعب أخبرني أبو العباس المبرد أنه يقال له أبا قابوس وهو لبني العباس مثل الأخطل لبني إذ لم يكن يمدح سواهم وسوى كُتّابهم، أنشدني كثيراً من شعره أبو بكر بن أبي خيثمة قال: أنشدني المُعلّى بن عثمان مولى يحيى بن خالد شعره في الفضل بن الربيع، وهو محسن في شعره، وأكثر قوله في البرامكة، ووفي لهم بعد نكبتهم، حدثني أبو قدامة محمد بن محمد قال: وقف أبو قابوس على خشبة جعفر بن يحيى التي صلب عليها بالجسر بمدينة السلام فقال:
أمينَ الله هَبْ فضلَ بنَ يحيى ... لنفسِكَ أيها الملكُ الهمامُ
وما طلبي إليكَ العفوَ عنه ... وقد قعدَ الوشاةُ به وقاموا
أرى سببَ الرضا عنهُ قوياً ... على الله الزيادةُ والتمامُ
نذرتُ عليَّ فيه صيامَ شهرٍ ... فإنْ تمَّ الرضا وجبَ الصيامُ
وهذا جعفرٌ بالجسرِ يمحو ... محاسنَ وجهِهِ ريحٌ قتامُ

واطمأن خاطره واستقرت أموره واستقامت حبوره فلما هجم جيش الليل أقبلت السباع من الوادي كأنها السيل وقصدت الوحوش والهوام ما لها من مأوى ومقام وعوت الذئاب وزأرت الأسود وهمزت النمور والنسور والفهود فساورت ابن الملك الهموم وأورثته أصناف الغموم وأحتوشته المخاوف والوجوم فلجا إلى جناب الحي القيوم جناب قاصده ولا يصدر الابنيل الأمل وأرده وصار يحسس بيديه ويصغي إلى الحيوان بأذنيه ويتمشى إلى كل جانب ويهوى بيديه إلى الأطراف والجوانب ويتعلق بحبال الهواء كالغريق الغاطس في الماء فوقعت يده على شجره فعلق فيها يديه وظفره وصعد عليها وأوى إليها وتوجه بقلبه إلى خالقه وموجده ورازقه وقطع عما سواه أسباب علائقه واشتغل بالذكر والتسبيح وفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى بأمل فسيح واستمر في هذا الويل برهة من الليل وكان طائفة من الجان المهرة كل ليلة تأوي إلى هذه الشجرة فتيذاكرون ما جرى في العالم وما صدر في عالم السكون والفساد من أعمال بني آدم ويقيمون أفراحهم ويتعاطون انشراحهم فلما اجتمعوا تلك الليلة ذكر كل قوله وما جرى من الحوادث ومن المفرحات والكربات وما وقع من العجائب واتفق من واقعات الغرائب فقال واحد من القوم ومن أعجب ما وقع اليوم من الأمر الكريه ما فعله ملك بابل بابنأخيه وذكر لهم القضية وما تضمنه من بليه وجعل يتأرق ويتحرق ويتبرم ويتضرم ويحرق الأرم ويتعجب من عدم وفاء بني آدم فقال رئيس الجان وهذا غير بديع من طبع الإنسان فانه مجبول على الغدر مطبوع على الدهاء والمكر ألم تسمع قول قائلهم في وصف فضائلهم وقبيح شمائلهم ممن أنخرط في سلك الفضل بدون منع ولا حجز إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز ثم قال الرئيس اعلم يا نفيس اني أعلم ما يزيل هذا الألم ويطفيء هذا الضرم ويشفي هذا السقم وهو أن هذه الشجرة النجيبة لها خاصية عجيبة اسمها شجرة النور وفضلها في ذلك مشهور إذا أخذ من عصارة ورقها ووضعها الأعمى على حدقها انجلى عماها بدقرة رب براها وخلقها فسواها ورد إليها بصرها وزاد نظرها ثم أن الخرابة الغلانية فيها حجر حية بذيه وهي تابعة ملك بابل الفاعل هذا الفعل السافل وحياته متعلقة بحياتها وموته موقوف على مماتها لأن طالعه على طالعها وطبعه اللئيم مطبوع على طابعها فبمجرد ما تموت الحية يموت وينقل من درج الملك إلى درج الملكوت كل ذلك وابن الملك يسمع هذا القول فلجأ إلى ذي القوة والحول حتى من عليه بعد شديد العقاب بهذا الطول وجعل ينادي ويبتهل ويقول متى جبين الصبح يهل وينشد:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الأصباح منك بأمثل

فلما أصبح الصباح ونادى مؤذن السعد حي على الفلاح تميم ابن الملك وصلى وحمد الله على النهار إذا تجلى ورض بين حجرين من ورق الشجرة واكتحل بمائه فرد الله عليه بصره ثم وجه ذهابه إلى تلك الخرابة ورصد خروج تلك الحية اللاطئة وضربها ضربة غير خاطئة فاحاط بها نازل الهلك وفي الحال خر الملك ميتاً على سرير الملك وبينما العزاء عليه قائم وإاذا بصاحب السرير عليهم قادم وقد قصد ملك أبيه وتمكن من ملكه وذويه وتصرف فيه كما شاء وألبسه خلعة الملك من يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء وإنما أوردت هذا التمثيل خوفاً أن يكون صاحب مولانا الملك الجليل الذي بخراسان من هذا القبيل فتبدل المحبة بالبغض وترجع على موضوعها بالنقض ثم أن بعض الصحاب والأخوان يفعل ما يفعله من الخير والإحسان على سبيل المكافاة لأعلى طريق والمصافاة فإذا كافأ بالإحسان عاد إلى ما كان عليه من العدوان فأسال الحضرة الشريفة والمراحم المنيفة ذات الفضل المشهور والإحسان المأثور التأمل في عواقب هذه الأمور لئلا يصيبنا ما أصاب المسافر ضعف الحداد المنافر من العفريت الملقى في المحافر قال أخبرني أيها الولد النجيب عن ذلك الأمر العجيب وقاك الله شر الواجيب (قال) بلغني من رواة الأخبار أن شخصاً من الأخيار لازم الأسفار وقطع القفار فجاب مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أكنافها وجوانبها وشاهد عجائبها وقاسى حر الزمان وذاق حلوه ومره وعانى خيره وشره فأداه بعض المسير إلى بلد كبير فرأى في بعض نواحيه وطرف من بعض ضواحيه طائفة من الصبيان قد اجتمعوا في مكان فوصل إليهم ذلك الفقير فوجدهم واقفين على حفير يرمون فيه بالأحجار وهم يستغيثون بالستار من العدو المكار الغدار والحسود القديم والكافر الذميم والشيطان الرجيم فسألهم ما هذه المعضلة فقالوا عفريت وقع في هذه البئر المعطلة وهو عدو قديم نريد أن نقتله فقال أفسحوا حتى أنظر إليه وأساعدكم عليه ففسحوا عن ذلك الطوى فنظر في قعر الركى فرأى في جانب منها عفريتاً منزوياً وقد هشموه وكسروه وحطموه وكاد يهلك مما رجموه فعند ما نظر إليه رق له وعطف عليه وقال أفضل المعروف إغاثة الملهوف وإن لم يكن بيننا سابقة صداقة ولا وشيجة محبة ولا علاقة بل عداوتنا جبلية ومباينتنا أزلية لكن فعل الخير لا يبور ولله عاقبة الأمور وإذا قصد الإنسان فعل الخير فلا عليه أن فعله مع أهله أو الغير وقد قيل للتمثيل أيها الإنسان قد عداك الذمأفعل الخير وألقه ثم منع عنه الكبير والصغير وساعده على الخروج من البير واستنفذه من أيديهم وأطلقه فكان كمن اشتراه وأعتقه فلما رأى العفريت هذا الإحسان من ذلك الإنسان من غير سابقة ولا عرفان قبل يده ورجله وشكر له هذه الفعلة وقال أني عاجز عن مكافأتك يا إنسان في هذا الأوان وأنا اسمي فلان فان وقعت في ضيق أو ضللت في طريق فنادي باسمي أحضر إليك بجسمي وأنفعك في ضيقك وأرشدك إلى طريقك وأكافئك أيها اللوذعي بما فعلته معي ثم ودع كل صاحبه وخالف في السير جانبه فوصل السياح إلى بلد من البلاد له فيها صديق حداد فنزل عنده فأكرمه ورحب به وخدمه وكان لتلك البلدة عادة حسنة أنهم في يوم معين في كل سنة يقربون من يقدم عليهم فيه ولا يسألون أخامل هو أم نبيه فان لم يقدم عليهم غريب في ذلك اليوم اقترع فيما بينهم القوم فمن خرجت قرعته سحبوه وكسروا قرعته وقربوه فوافق ذلك اليوم قدوم السائح ولم يرد سواه من غاد ورائح ولا شعر به أحد من أهل تلك البلد فاخذوا في القرعة بالاجتهاد فطرقت القرعة قرعة الحداد فقبضوا عليه وعزموا على تقريبه فقال عندي غريب لم يكن أحد يدري به فلم يدر السائح إلا وقد أحاطت به الشوائخ فهجموا عليه وربطوا عنقه ويديه صم سحبوه وحبسوه وفي أضيق مكان أجلسوه وأشهروا النداء أنه حصل للحداد الفداء فعلم السائح القضية وتحقق أنه تورط في بلية فذكر اسم العفريت وقد علقه الهم علوق النار بالكبريت فحضر لساعته ووقته فرأى السائح في هوله ومقته واطلع على جملة الشان فقال لا تخش يا ذا الإحسان أعلم أن أمير هذه البلد له ولد هو واحد أبويه وأني الآن أصرعه بين يديه ثم أنادي في النادي أن رمتم شفاء هذا العليل فهو بدعاء ذلك الرجل الجليل السيد الصالح الزاهد السائح ضيف الحداد الذي بسببه حصلت هذه الأنكاد فأطلقوه والتمسوا دعاءه فان فيه لعليلكم شفاءه ولا تطلبوا

من غيره دواءه فإذا طلبوك وأعزوك وأرغبوك وأكرموك واحترموك فادع بما يرفع نكدهم فغاني إذ ذاك أترك ولدهم فإذا رأوا منك هذه الكرامة بالغوا وسلموك الزعامة وخيروك بين الرحيل والإقامة وأقل ما يفعل معك السلامة ثم ذهب إلى ابن الملك وخبط. وحل في أعضائه وربطه فتخبط الصبي وتخيل وتكسل وتخبل وكادت روحه تخرج ويدرج مع من يدرج فاشتغلوا بشأنهم عن أمر قربائهم فطلبوا الأطباء فأعياهم علاج هذا الداء ولم يقدروا على علاجه وتعديل مزاجه وتقويم اعوجاجه واشتعلت الخواطر وتنكد البادي والحاضر فعند ذلك نادى العفريت من ذلك البيت يسمعون كلامه ولا ينظرون مقامه أن زوال هذا العارض ومنع هذا الداء المعارض عند رجل قدوة مستجاب الدعوة رجل صالح زاهد سائح عالم عامل كامل فاضل هو بركة البلاد والعباد مادة الصلاح وقاطع الفساد وهو ضيف الحداد الذي فرط منكم في حقه سوء الأدب فأدركوه بالطلب وأسرعوا نحوه والتمسوا منه دعوة وإلا فولدكم هالك عنوه وبادروا باللحوق لئلا يخرج السهم من فوق فان السهم هذا المصاب بسبب ذلك أصاب فركب الملك بنفسه وسارع إلى باب حبسه ودخل عليه وأكب على رجليه وطلب دعاءه ورام لولده شفاءه فتوضا وصلى وأعرض منهم وتولى وتوجه ودعا فحصل للولد الشفا ونهض في الحال كأنما نشط من عقال ثم أن العفريت الجائح أتى الرجل السائح وقال لا تحسب أني إذا كافيتك صادقتك أو صافيتك كيف وعداوتنا مغروزة وغروس التباغض في حدائق ذواتنا مركوزة أنا من نار وأنت من تراب شيمتك الترابية وشيمتي الإحراق والخراب ومتى استقام أعوج مع قوام أو وجد بين المتباينين التئام وإنما كان هذا الوفاء لئلا ينسب إلى الجفاء ونحن على الكدر دون الصفاء وعلى ما نحن عليه من العدوان وأن لم يصر بيننا معرفة ولا كان صار شعلة لهب وترك السائح وذهب (ثم قال ابن الملك) ومن أنواع المحبة والصداقة وما يتأكد فيها من العلاقة نوعمحبة تتوفر فيه الرغبة ينشأ من فرط الشهوة ويركب من صاحبه على الصهوة وتميل إليه النفس والطبيعة ولكن تكون استحالته سريعة فيزول بأدنى سبب ويشبه شواظ اللهب يتلهب ساعة وقد ذهب وربما أدى إلى الهلاك والعطب كما فعل بالبطة الثعلب حيث كانت محبتها غير صادقة ومودتها بالشهوة ممازقه وشتان ما بين المحبة الخالصة والمحبة المنافقة لا جرم أدت إلى عكسها وإزهاق نفسها قال الملك أخبرني أيها الخبير كيف هو هذا النظير (قال ابن الملك) ذكر أن زوجاً من البط كان له مأوى على شط جار بين رياض ومروج وغياض أزاهيرها عطره ورياحينها نضرة وقريب من وكر البطتين مأوى لأبي الحصين فحصل لذلك الثعلب المرض المسمى بداء الثعلب فسقط وبره وتمعط صوفه وشعره وذاب جسمه وتهرى لحمه وقارب التلف واللحاق بمن سلف وصار كما قيل:

أصبح في أمراضه يعذب ... كخرقه بال عليها الثعلب
فلما أنحله السقم وأضناه قالت له سلحفاة لما زاد به المرض واشتط دواء دائك كبد البط فان أكلت كبد بطه نصلت من هذه البلاء البتة فقال ومن لي بهذا الدواء إذ ليس لي حراك والبط في الهواء فشفاء هذا الداء العضال من باب التعليق بالمحال وكأن الشاعر يعنيني إذ سمع أبني ورأى سكوني تحت أحمال شجوني بقوله:
فقال قم قلت رجلي لا تطاوعني ... فقال خذ قلت كفى لا توانيني

ثم استنهض همته واستنخى نهمته وصمم عزيمته واستعمل فكره واستورى مكره وقال لنفسه لا ينجيك من هذا الأنكال إلا التشبث بذيل المحال لعل الله واهب العطية يظفرني بهذه الأمنية ثم توجه وهو يتشحط إلى صوب البط وصار يتلظى في جنبات الشط إلى أن لاح له بعد الأين أنثى هاتين البطتين فتخفي إلى أن قاربها ثم وأثبها فما ساعدته القوة فهوى في هوه فما وأسعه إلا أن غالط وأظهر المودة وخالط وعبرت عيناه وبالط وأرى من نفسه أن تلك الوثبة إنما هي من داعية المحبة ونهضة الاشتياق إلى الأحبة ثم بادر وقال مرحباً بالجارة الصالحة ومن نعوتها بمسك العفة فائحة وأخلاقها غادية ببشر الخير رائحة المخدرة المحببة الحبيبة النجيبة حياك الله من قرينة رضية جميلة الأوصاف بهية فما أكثر إحسانك وفضائلك وأوفر متنانك وفواضلك لقد عممت بإحسانك جميع معارفك وجيرانك وأطعت زوجك وحلالك وتحقق كل أحد لحسن الشيم جلالك وما زال ينفق عليها من حواصل هذه الخزعبلات ويفعم أردان عقلها من معادن هذه التمويهات حتى سكنت بعض السكون وركنت إليه أدنى ركون ثم أخذ في الإيناس وتمهيد قواعد الأساس حتى اطمأنت واستكانت واستنكنت ثم قال إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ترين ما رأى فيك زوجك من الخلل ولاح له من عيب حتى فعل ما فعل قالت وما فعل ذلك الجعل قال لولا أن الغيبة ريبة والنمنمة مشؤمة ونقل المجالس القبيحة وإن كانت وقائعها صحيحة أمر مذموم وهذا معلوم لكنت أفصحت وأشبعت القول ونصحت ولكن الصبر على الضرائر فعل الحرائر والورد لا يخلو عن شوك ولا الشباب عن نوع نوك فلما سمعت هذه النجوة حماتها المحبة الممزوجة بالشهوة أن ألحت عليه وسألت إيضاح ما لديه وأقسمت عليه بحق الجوار إلا ما أطلعها على هذه الأسرار فقال لولا أن الجوار ذمه لما فهمت بكلمة خصوصاً وقد ألحت بالقسم وتشفعت بالجوار والذمم وأيضاً لولا وفور الشفقة وعظم المحبة والمقه واعتمادي عليك أنك ثقة وإن صدرك مخزن الأسرار وأنك سيدة الأحرار ما أطلعتك على شيء مما كان وصار اعلمي أن زوجك المشتط قد خطب بنت ملك البط وله في هذه المكيدة مدة مديدة آخرها اليوم كان قد أرسل إلى القوم المشاية والخطابة أن يهيؤا أسبابه فلما سمعت هذا الكلام ساورها من الغيرة الضرامولا نشك في أنه صادق وذهلت عن التبين في خبر الفاسق وجميع الأخبار عن الأزواج يتوقف فيها النساء إلا خبر الزواج تم إنها تماسكت وأرت تجلداَ وتمالكت وقالت أحل الله له من الأزواج ما طاب له لا حيلة إلا الانقياد وترك المراد وموافقة السنة والجماعة والدخول تحت الأمر بالسمع والطاعة وماذا يفيد التدله والحيرة أن الحلال جدع أنف الغيرة قال والأمر كما ذكرت وما أحسن ما افتكرت وصبرت وما يمكن الطعن في الحلال ولكن هذا دليل الملال وكل من ادعى هواك وتخلل في طريق سواك ولو بخلال من سواك فلا شك أنه قلاك وبنار الهجر والجفاء سلاك وليس هذا ساعة وتمضي ولا حادثة تقع ثم تنقضي إنما هو أمر دائم ونزاع أبد الدهر وأنا ما أخشى إلا عليك بما يصل من النكد إليك فان حقك ثابت علي وضررك عائد إلي فأنك جارة قديمة معروفة بحسن الشيمة لم أر منك الإحسان وعدم التعرض إلى إيذاء الجيران وكل منا قد اعتاد بالآخر وباهى بصحبته وجواره وفاخر وأخاف أن يتجدد لي في الجوار من يتصدى لي بالأضرار ويؤذي ولا يعرف حق الجار لا يعرفني ولا أعرفه ولا ينصفني ولا أنصفه فيتكدر لي الوقت ولا أخلو من نكد ومقت لا سيما وأنا ضعيف مبتلى نحيف فلا يستقيم الحال على الارتجال ولا زال يسدد المشارب ويفتل منها في الذروة والغارب حتى أثر فيها سمه ونفذ في سويدائها من مكره سهمه فاسترشد إلى وجه الحيلة في هذه النازلة الوبيلة فقال الرأي السديد الرشيد أنه إذا بفعله وأتبع في أذاه فرضه بنفله واختار غيرك عليك طلقيه وألف زوج لديك وأرض الله واسعة وهو المعتدي في المقاطعة وأنا أكون السفير في زوج يخجل البدر المنير يعمر دارك ويعرف مقدارك ويخدم كلبك وحمارك ويملأ وكرك خيراً وبطنك طيراً ودارك شعيراً وبراً مع كونه وافر الحشمة مسموع الكلمة قد جمع بين طرفي الأصالة والحرمة فقالت هذا الذي تقول أكر معقول وإلى الآن ما وقع وعلى تقديران يقع أن حصل الشقاق والنفاق وترجح الأنذال المستجدة على الكرام العتاق فيكون بيننا هذا الاتفاق وأن وقعت بيننا المعادلة ولم يحصل

في حقي منه مساهمله ولا للضرة عليّ مفاضلة كيف أشافقه وعلى فعل مباح أضايقه فضلاً عن أني أفارقه وكيف أخرب داري وأضر بحبي وجاري وأشمت بي الأعداء ويحتاط بي من كل جهة البلاء ولكن الرأي المحمود عندي يا ودود الصبر في كل حال على الدهر الكدود وتجرع الغصص لئلا يشمت الحسود كما قيل في التمثيل ما بي دخول جهنم ولكن بي شماتة اليهود فلما رأى الخبيث أنه لم يفده هذا الحديث ولم تتم له الحيلة وأفكاره الوبيلة قال أقول الحق الذي حصحص ولا عنه محيد ولا مخلص أن زوجك قد نقل إليه أنك اخترت غيره عليه وأنك عاشقة وصحبتك له مخادعة ومماذقه وثبت ذلك لديه وعقد اعتقاده عليه وعزمه على الزواج إنما هو تعلل واحتياج لفتح باب الشر وتعاطي أسباب النكد والضر وقد ثبت عندي أن ذاك الأفاك الأثيم السفاك يريد أن يجرعك كأس الهلاك فتيقظي لنفسك وتداركي غدك في أمسك قبل حلولك في رمسك واستقيمي قبل عكسك وأنا منذ سمعت هذه الأخبار لم يقر لي قرار وذلك لوفور المشفقة وحسن الجوار وقد زدت ضعفاً على ضعفي وكدت لهذا الغم أسقى كاس حتفي وأنت يا غرض الحاسد تعلمين أن ليس لي غرض فاسد وهذا بديهي التصور لا يحتاج إلى تدبير ولا تفكر ولقد غرت عليك والأمر في هذا كله منك إليك فتكدر خاطرها وتشوشت ضمائرها وضاقت بها الحيل وتاه منها العلم والعمل ومن يسمع بخل وصالت أفكارها وحالت ويدر منها إن قالت والله لو أمكنني لقتلته وأوجدت فرصة لاغتلته واسترحت من نكد الدهر المغبر وهذا العيش الوحش المكدر فالتقط الثعلب هذه الكلمة من فيها وعلم أن سهم ختله نفذ فيها لأن عقود المحبة انحلت وصورة المودة القديمة زالت واضمحلتوتلاشت الصداقة بالكلية وانمحت شهواتها بأدنى جزئية فقال لا تهتمي لذلك يا ضرة هند فعندي عقار من عقاقير الهند أحلى في المذاق منت ساعة التلاق وأمضى من السيف في حكم الفراق اسمه كسير الموت وتدبير الفوت وسم ساعة وتفريق الجماعة لو أكل منه ذرة أو شم منه نشره لقتل في الحال وفرق الأوصال من غير إمهال فان اقتضى رأيك الأسد أن تخلصني من هذا النكد ناولتك منه شذره تكفيك ذرة منه أمره فان شئت أطعمته وأن شئت أشممته ولولا أنك عزيزة علي لم أفه لك من هذه الأمور بشيء ولقد فضلتك على روحي فاكتمي هذا السر ولا تبوحي فتحملت منه جميلته وعرفت قدرته وفضيلته وطلبت منه الدوا لتذهب به عن قلبها الجوا وتقتل زوجها المسكين وتسلم من نكده وتستكين وزالت تلك المحبة القديمة ونسيت الصحبة والصداقة القويمة ووعدها الثعلب أن يأتيها بالعقار وفارقها على هذا القرار ثم أنها انتظرته ليفي بوعدها واحترق صبرها من نار سمها ووقدها وتقاعد الثعلب عنها ينتظر ما يتأتى فحملها مثير الوجد إليه وساقها الأجل المحتوم إلى أن قدمت عليه فدخلت وكره وقبلت يده وصدره فتمكن منها ذلك الغادر ومزقها كما يريد فصارت كالأمس الغابر وإنما أوردت هذا التمثيل لئلا يكون أصحاب مولانا السلطان من هذا القبيل فيكون المعتمد عليهم والمستند إليهم كالنائم على تيار الأنهار والمؤسس بنيانه على شفا حرف هار قال الملك معاذ الله يا ولدي وقرة عيني وكبدي أن يكون صاحبي ومعتمدي من هذا النمط وسبيهاً بالعفريت والثعلب والبط بل كل من أصحابي وسائراً أوليائي وأحباني ما منهم إلا الصديق المهذب والرفيق المؤدب والشفيق المدرب والعتيق المجرب وقد جربته في المودة والإخاء والشدة والرخاء والمروأة والسخاء كما جرى ذلك للتاجر المجرب صديقه في الشدة والارتخاء قال الولد ينعم مولانا الإمام بتقرير هذا الكلام (قال الملك) بلغني أن بعض التجار الأكرمين الأخيار والكرماء الأبرار كان له جزيل وولد صالح جليل سعيد الطالع سديد المطالع عالي الهمة متوالي الحشمة ميمون الحركات جميل الصفات حسن الصورة مشكور السيرة طاهر السريرة وكان أبوه قد تخيل فيه مخايل السعادة وتفرس فيه آثار النجابة والإجادة فكان لا يصبر عن تأديبه وإرشاده إلى سبيل الخير وتهذيبه وتربيته بمكارم الأخلاق وتربيته فقال له يا بني إن الإنسان يحتاج إلى كل شيء وأعظم ما يحتاج إليه ويعول في التحصيل عليه الصاحب الصافي والصديق المصافي والرفيق المساعد في وقت الشدائد فان المال ميال والذهب ذاهب والفضة منفضة والملبوس بوس والمأكل متآكل والخيل خيال والفواضل شواغل والدهر قاصي والعصر عاصي والأقارب عقارب والوالد معاند

والولد كمدو الأخ فخ والعم غم والخال خيال والدنيا وما عليها لا يركن إليها وما ثم إلا رفيق ذو وفاء مجبول على الصدق والصفاء إن غبت ذكرك وإن حضرت شكرك مأمون على نفسك ومالك وأهلك وعيالك في حالك ومالك إن غاب صانك وإن حضر زانك فهو أفضل موجود يقتني وأحسن مودود يصطفي فان ظفرت به فتشبث بسببه ثم قال يا بني قد أقمت في الحضر وانقضى لك فيه ما ذقت مما حلا ومر فلا باس أن تحيط علماً بأحوال السفر فان السفر محك الرجال ومجلبة الأموال ومكسبه التجارب ومرآة العجائب والغرائب فاعزم على بركة الله تعالى وتوكل عليه واصحب معك فيه ما تحتاج إليه ثم أفاض عليه المال وأضاف إليه صالحي الرجال وحين ودعه ووصاه واستودعه قال يا بني لا تجعل دأبك وطلبك واكتسابك الاستجلاب الصاحب النافع دون سائر المنافع فانه أوفر بضاعة وأربح تجارة وليس على الصديق أبداً خسارة واجعله في سفرك نصب عينك واشتره بنفسك ومالك ونقدك ودينك وقد قيل:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاحوالمراد به الصديق وأعلم أن الأخ الصلبي ربما يضرك وأما الصديق الصالح فأنه يسرك والصاحب الشقيق خير من الأخ الشقيق وقد قيل رب أخ لم تلده أمك فقبل الشاب وصية أبيه ثم توجه في حشمه وذويه بقصد جميل ومال جزيل فمكث غير بعيد ثم عاد وهو سعيد فقال له أبوه حبيت وحييت ما أسرع ما جبت قل لي أين ذهبت وماذا اكتسبت فقال يا أبت امتثلت مرسوك الكريم واكتسبت بالمال كل ولي حميم وقد جئت بهم زمراً وعدتهم خمسون نفراً كل منهم صديق صادق ورفيق موافق في الفضل بارع وإلى الخير مسارع وفي الرخاء صادق الإخاء وفي الشدة أوفى عده قال أبوه يا بني كيف تصفهم بهذه الصفة وتعرفهم بهذه المعرفة ولم تجربها في قضية ولا واقعة صعبة أو رخيه وقد قيل:
لا تمدحن امرأ حتى تجربه ... ولا تذمه من غير تجريب
وقد قيل أيضاً:
إذا رمت تصفي لنفسك صاحباً ... فمن قبل أن تصفي له الود أغضبه
فان كان في وقت التغاصب راضياً ... وإلا فقد جربته فتجنبه
(وقيل أيضاً):
الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... ما لم يروا عنده آثاراً حسان

واعلم يا ذا اللطائف أني خائف أن يكون أصحابك وأصدقاؤك وأحبابك مثل أصحاب الرئيس المدير الخامل النفيس الذين رعوه في روض وفره وتركوه في قفر قفره قال ابنه يا أبت كيف ورد ذلك وثبت قال التاجر ذكر رواة الأخبار أنه كان في بعض الأمصار رجل رئيس كبير نفيس له أموال وافرة وجهات متكاثرة وأماكن عامرة وضياع ومزدرعات وبساتين واقطاعات وعقار له ارتفاعات فكان ولده يمد يده إلى كل معصية ومفسده ويجترئ ذلك السفيه على كل ما يلوح له من جهات أبيه والتف عليه جماعه من عبيد البطن والمجاعة كأنهم طير قر لي أن رأى خيراً تدلى وأن رأى شراً تعلى ومديد الإسراف في التبذير والإتلاف وصار أبوه ينصحه ويردعه عن جموعه ويكبحه وقال له يا بني استعمل الارتفاق في النفاق واستخلص من الرفاق ذوي الإشفاق واعلم أن هذا المال هو لك مدخر لتصرفك فيه منتظر وإنما أنا لك خازن والله تعالى مجاز على فعالى من مساو ومحاسن وتيقن أن المال هو عزك في الدنيا وزادك إلى الأخرى وأن له وجوهاً ومصارف وعوارف ومعارف فإذا صرف في غير محله ودفع إلى غير أهله كان أثماً ووبالاً وفي الآخرة عذاباً ونكالاً وأحمق الناس المستحق لنزول الباس من اكتسب من اكتسب المال حلالاً وبذرة في الفساد يميناً وشمالاً وادخر به إثماً وخبالاً فصرفه إلى من لا يحمده وعليه حسابه ونكده وأنت إذا صرفت مالك ووزعته وفي غيره مواضعه زرعته وأنفقته على من لا يعرف فضيلتك ولا يحمل حملتك ولا يشكر صنعك ولا يقصد نفعك ولا يجلب لك خيراً ولا يكشف عنك ضيراً خرجت من عز الدنيا وفوت زاد الأخرى وهؤلاء الذين قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ثمرة صحبتهم الندامة وعاقبة أمرهم الخيبة والملامة والبعد عنهم غنيمة وسلامة وإذا كان الأمر كذاك فإياك يا ولدي ثم إياك من صحبة هؤلاء الأحداث والمكوث بقربهم فإنهم اخباث واحتفظ بصوت ما لك ولا تنفقه إلا على نفسك وعيالك وفيما يبقى ماء وجهك في حالك ومالك ولا زال أبوه قابض عنانه بقدر طاقته وإمكانه يذكره هذه الوصية بكرة وعشية حتى أدركته المنية وخلف ذلك المال العريض لذلك الولد المريض فمد يده كما كان إلى كل مفسدة ونسي يومه وغده وشرح في مناه متن اللهو وقرر بحديث من كتاب الزهو باب الأنجاس وسجود السهو واجتمع عليه قرناء السوء وحضروا وخلاله ولهم الجو فباضوا في الفساد وصفروا وغابوا عن الرشاد وما حضروا وصاروا يظمونه ويكرمونه ويحترمونه فإذا كذب صدقوه وإذا ضرط سمتوه وشمتوه وإذا نهق طربوا وإذا أخطأ صوبوا وإذا قعد قاموا وإذا قام ناموا يفدونه بالمهج والأرواح ويلازمون خدمته في المساء والصباح وكان له أم مدبره عاقلة مفكرة فقالت له يا بنيلا تكن صبي وتذكر وصايا أبيك وإياك ومن يليك وتأمل ما لديك واحفظ مالك وما عليك ودبر معاشك وصن ماء وجهك ورياشك وأعلم أن أصحابك وعشراءك وأحبابك وندماءك ورفقاءك وأخصاك وأصدقاءك كلهم عبيد البطن ولورقات بذي شيق أو حصن لا خير عندهم ولا مير جميعهم كسير وعوير فإياك إياك وصحبة من لا يتولاك لاتركن إلى صداقتهم ولا تعتمد على موافقتهم فانهم في الرخاء يأكلونك وفي البلاء يتركونك وإلى مخالب القضاء يسلمونك رأس مال محبتهم ما في يديك وأساس بنيان مودتهم ما يرونه من النعماء عليك فإن قلت والعياذ بالله فلوا وخلوك في عقد النوائب مربوطاً وانحلوا وأقل الأقسام يا ذا الأصل السام أن تجرب أصحابك وتختبر من يلازم بابك ويقبل بشفاه المودة أعتابك في شيء نابك أعجز عن حمله نابك من حوادث القضاء أو في حالة من أحوال الغضب والرضاء أو السعة والضيق أو التكذيب والتصديق فمن وجدته ناصحاً صادقاً أو مطاوعاً مصادقاً وفي كل الأحوال موافقاً وفي الرخاء والشدة مرافقاً يوثق به في الغيبة والحضور وحالتي السرور والشرور يؤدي الأمانة ويجتنب الخيانة ويغار على دينك وعرضك ويساعدك على أداء مسنتك وفرضك فاركن إليه واعتمد في أمورك عليه ومن وجدته منافقاً وفي إخلاصه ممازقاً ينسج شقة الوداد بوجهين ويتكلم كخائض المداد بلسان فلا تقربه ولا تصحبه فان بعده غنيمة والخلاص منه نعمة جسيمة وانظر بعين الثبات ما في هذه الأبيات من حسن الصفات فمن كان بها متصفاً فتمسك بأذياله فانه من أهل الصفا وهي هذه:
وقد قيل قول المرء يكشف عقله ... وببدي سجاياه وما كان يكتم

فهذا كلامي مظهر ما أكنه ... وأكثر هذا الخلق عن عيبهم عموا
فمن شيمتي أني مطيع لصاحبي ... وأصلح عن خصمي وإن كنت أخصم
وأرضى لنفسي ديون ما هو حقها ... وألزمها للخل ما ليس يلزم
إذا قال أصغى للمقال وأنني ... لا علم منه بالمقال وأفهم
ولم أشك من خل لئلا يملني ... ومن لي بخل لا يمل ويسأم
وأقطع في بحثي وأن كنت غالباً ... واسكت حتى قيل ذا ليس يعلم
لا بقي وداد الناس لي لا أضيعه ... ومن لا يداري الناس يرمى ويرغم
وفي كل ذا تقوى إلا له شعائري ... ولا بد من لا يتقي الله يندم
ولا نقص في عقلي وأسباب نعمتي ... وأني وأنى بالكمال مكرم
ولي همة يسموا لي الأوج قدرها ... ولكن خمول المرء للدين أسلم
ووجه اعتقادي مثل عرضي أبيض ... وديني متين واعتمادي مقوم
وحسبي من دنياي قوت وخرقة ... يبلغني آثار من قد تقدموا
فهذي عزيزات لدي وإنني ... لادعو إلى هذي الخصال وأعزم
فاثر هذا الكلام فيه وتأمل ما تضمنته فحاويه ثم أراد أن يجرب ملازميه ومن بر وجه جسده يفديه فقال يوماً من الأيام وقد اجتمعوا على منادمه المدام اتفق أمر عجيب وشأن غريب وهو أنه كان عندنا هاون في زاوية مخزون زنته ربع قنطار أتى البارحة عليه الفار فقرضه وأكله وعمه بالأكل وشمله فلم يدرك من ذلك النحاس في مكانه من برادة أضراسه وأسنانه فترشفت ثغور آذانهم منطقة واستحلى كؤسها كل منهم وصدقه وقالوا هذا وقع بغير شك لأن الهاون كان فيه ودك والفار أسنانه باضعه وأضراسه لجن حرافيش بغداد قاطعه فلما رأى أنهم وافقوه وصوبوا كلامه وصدقوه ازدادت فيهم محبته وقويت إليهم رغبته حيث رفعوا رتبه وستروا في جيب عيبه وحققوا محالة وصدقوا مقاله فأسرع إلى أمه مسروراً فرحاً محبور منشرحاً وقال يا أماه انظري كلام أصحابي وأخبري مقام أحبابي ذكرت لهم كلاماً باطلاً ومن حلية الصدق والإمكان عاطلاً فحققوا بلا مريه واثبتوا حقيقته من غير فريه وصاغوا من جواهر التوجيه أبهى حلية وذكر ما جرى لهم وله من الجنون والخباط والوله فقالت أمه يا ولدي ومهجة كبدي هذا أمر يضحك منه الجاهل ويبكي على حالك الحالك منه العاقلكما قيل:
أمور تضحك السفهاء منها ... ويخشى من عواقبها اللبيب
أعلم أيها الداهل الغافل أنك لست من أصحابك على طائل وهؤلاء أعداء في صورة أو داء وهم في التمثيل كما قيل:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وتيقن أن هؤلاء في النعمة خداعون وفي النقمة لذاعون وأنت شاب غرير وبأعقاب الأمور لست ببصير لا مارست الخلق ولا فرقت بين الصادق من ذوي الملق لأخبرتهم ولأسبرتهم ولا دخلت مداخلهم ولا ميرت خارجهم وداخلهم إن الصادق والرفيق الفائق من بصرك عيوبك وغفر لك بعد نصيحتك ذنوبك وأطلعك على حقائق الأشياء ونهيك على ما خفي من أمور الدنيا وأرشدك إلى ما يزينك ويصلح به دنياك وأبكاك إذا نصحك لا من أضحك وفضحك وأما الذي يدلس ويلبس ويوسوس ويهوس وبروج الباطل وبحلى العاطل فذاك بصديق على التحقيق وإنما هو عدو فلا يكن لك معه قرار ولا هدو فلم يلتفت الشاب إلى هذا الخطاب حيث كان مصادماً لغرضه غير شاف لعلته ومرضه وقال صديق من نطق وفاه بالكلام الحق من قال إفشاء السر إلى النساء فعل الأحمق ثم تركها ترغوا واستمر هو مع أقرانه بلهو وداوم على تلك الحال حتى إذا دنت لنفادها الأموال وبيع الرخيص والغال فما استفاق من سكرته واستيقظ من رقدته إلا والأموال قد ذهبت والديون قد ركبت وهو ينشد وإلى مذهبه يرشد:
ليذهبوا في ملامي أينما ذهبوا ... في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب
إلى أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة ونفقت البيضاء والصفراء في الحمراء والخضراء وأصبح ملقى على الأرض السوداء وأتعس من فوق الغبراء وأفلس من تحت الزرقاء وتراجع عنه الأصحاب وعاداه الأصدقاء والأحباب ورجعوا عنه بعدما سئموا منه صار ناديه ينادي:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وصارت محبتهم له تكلفاً ورؤيتهم إياه تعسفاً فاتفق له في بعض الأيام أن قال في أثناء الكلام لذلك الجمع بعينه الذين كانوا أجمعوا على صدق منيه الفار الغدار أكل لنا في الدار البارحة رغيفاً كاملاً فاتى على أكله شاملاً فما أبقى منه لبابه ولا غادر من غدير وجوده صبابة فتنادوا للحال بالمحال والكذب في الأقوال الفار الضعيف كيف يأكل كل الرغيف وهو عاجز نحيف وتناولوه بالطعن وتناوشوه بالسنة السب واللعن وزيغوا أقواله وسفهوا أفعاله وإنما ذكرت هذا الكلام يا أيمن غلام وأحسن من البدر التمام لتعلم أن أكثر من يدعي صدق الصحابة من ذوي المعارف والقرابة إنما دعواه كذابة كسحاب صيف لا يديم انسكابه وأن الشخص مع الناس الأوغاد والأكياس بمنزلة الفقاع أن رأوا فيه حلاوة الانتفاع استلموه وبالأيدي رفعوه وقبلوه ورشفوه وإذا مصوا محصوله وفرغوه ورموه تركوه وتحت الأقدام طرحوه ثم قال التاجر لولده راحة روحه وجسده وأن كان من صحبتهم وفي سفرك أكتسبتهم مثل هؤلاء الأصحاب فإياك أن تفتح لهم الباب وترفع بينك وبينهم الحجاب (فقال الولد) معاذ الله الواحد الأحد يا أبت عندي ثبت أنهم يدور كرام وصدور عظام يقومون لقيامي وينصتون لكلامي ويجيبون ندائي ويؤمنون على دعائي وهم أخلاء في السراء والضراء (فقال أبوه) أعلم يا ابني وقرة عيني أني عمرت سبعين وعاينت من الأمور الخشنة والحسنة وبلوت الأصحاب وتلوت الأعداء والأحباب ورأيت الدنيا وأهلها وقلبت وعرها وسهلها ولم أترك من جنس بني آدم في أكنافها الآفاق وأطراف العالم من أمم العرب والعجم نوعاً لم أخبره وصنفاً لم أسيره فلم يصف لي على التحقيق غير صديق ونصف صديق فأنت يا بني العزيز الغالي كيف قدرته بالتوالي في هذه المدة اليسيرة على جمع هذه الطائفة الكثيرة وها أنا يا إمام أريك مصداق هذا الكلام وأطلعك من بين الأصحاب على ما لهم من مقام ثم عمد إلى شاة فذبحها وبدمها في ثياب طرحها ثم دمجهاوفي كفن أدرجها وقال لأبنه قم يا ذا الارتقاء أرني هؤلاء الأصدقاء واحداً بعد واحد لتحقيق غيب عيبهم بالشاهد وتعرف طرائقهم وتتبين حقائقهم ثم وضع الشاة في عدل وأخفى كل هذا الفعل وحمل العدل على ظهر غلام وخرج ليلاً والناس نيام وقصد أحد الأصحاب وطرق عليه الباب فخرج مسرعاً إليه وترامى متواضعاً بين يديه وأظهر البشر والسرور والابتهاج والحبور وبالغ في الاحتشام والإكرام والاحترام وشكر مساعي الأقدام ثم بادر إلى دعوته للدخول وتعاطي إنجاح ما له من سؤل ومأمول فقال له الشاب يا زين الأصحاب وعين الأحباب دع الكلام لضيق المقام فقد دهتني دهيه وعرتني بليه وأعظم بها من قضيه ويا لها من رزية فقال ما هي وقيت الدواهي فقال كان بيني وبين واحد من أهل الشقاوة خصومة قديمة وأسباب عداوة اسمه معروف وذكره موصوف لشخص مفقود لم يكن له حقيقة في الوجود وهو من أكابر الزمان وأحد الرؤساء والأعيان فتلاقينا وتداعينا ما بيننا من جفوه وتنابشنا الأسباب وتناوشنا باللعن والسباب وتناولنا في الشقاق شق الأعراض وتأذت القلوب من الأغراض بالأمراض وتنقلنا من المكالمة إلى المشاتمة ومن المواصمة للملاكمة وترقينا من الكفاح إلى الجراح فثارت النفس المشؤمة إلى إيقاع حركة ذميمة فضربته فجرحته وقتيلاً طرحته ولم يشعر بنا أحد من أهل البادية والبلد وندمت غاية الندم وأني يفيد وقد زلت القدم وجرى قلم القضاء بما حكم ثم أفكرت بمن أستعين على هذا الأمر اللعين وأدرت في خاطري كل مساعد ومعين فلم يمل القلب إلا إليك ولا استقر الخاطر في ركونه إلا عليك وقد قصدت جنابك ويممت بابك إذا أنت أعز مخدوم والسر عندك مكتوم وهاهو مقتولاً أتيتك به محمولاً فاحفر لهذه الجثة حفيره وأخفي عندك أيا ما يسره إلى أن تطفأ هذه النائرة وتسكن الفتنة الثائرة وهذا وقت المروه وزمان الفتوة والقيام بحق الصداقة والأخوة فلما سمع الصاحب اللبق هذا الكلام القلق تضجر وتضرر وتنكد وتضور وقال يا أخي بيتي عتيق مع أنه حجر مضيق لا يسع أولادي ولا زادي وعتادي وإذا ضاق عن الأحياء فكيف بالأموات وهذه بلية من أوحش البليات وأظنها لا تخفى على الناس ويدركها أولو الفراسة والأغبياء فضلاً عن الأكياس لأن قضاياكم قبل اليوم مشهورة وبلغني أن عداوتكم قديمة مذكورة وفي التواريخ وصدور الكتب مسطورة ولكم وقعات ونوازل وله أيتام كأنهم

الزغب الجوازل وأما أنا فلا يمكنني الدخول فيها ولا تعاطيها بوجه من الوجوه ولا تلافيها فاكفني شر ضيرها واندبني إلى غيرها وأني أكتم سرها فلا تخف من جهتي شرها فالح عليه فما أقاد ورده غير ظافر بما أراد فلما أيس منه تركه وانتقل عنه ودار على سائر أصحابه وذكر لهم مثل الأول وخطابه فكان جواب الجميع مثل جوابه إلى أن أتى على الجميع واستوفى شريفهم والوضيع ورأى ما هم عليه من طبع بديع كأنهم كانوا متواردين على شرب هذا الصنيع فعاد إلى دار أبيه ورجع إلى صحة بيسان التنبيه فقال له بمدير الفلك أحققت صدق ما قلت لك وتبيات ما هية أصدقائك وحقيقة أوليائك وأنهم نقش حيطان ورقش غيطان وغمام بلا مطر وأكمام بلا زهر وأجام بلا ثمر (ثم قال) ثم يا زين الأحباب أريك ما قلت لك من حقيقة الأصحاب ثم دخلا الطرق وقصد نصف الصديق وطرقا الباب فخرج وتلقاهما بالترحاب فقال له ذلك المقال وقصد بمعونته الخلاص من ذلك العقال فقال حباً وكرامه حللتما بمنزل السلامة أنابكم نشيط وأجلبكم بي بسيط غير أني أعلمكم أن منزلي غير فسيح حتى أدفن فيه هذا الذبيح وليس لي مخبأة ولا مخدع ولا سكن في مطاويه ولا مصنع وأخاف أن أمركم لا يختفي وبهذا المقدار في أمركم لا أكتفي ويدي لا تملك غيره وقد وقعت بهذا السبب في حيرة وبالجملة والتفصيل أنا أكفيكما شر هذا القتيل فقالا لا نقنع بذلك ولكن سد عنا المسالك فقال توجهاً حيثشئتما فلا أنا سمعت ولا أنتما قلتما فتوجها إلى الصديق الكامل وذكرا له الأمر الحامل وقصدا بتلاقيه كرمه الشامل فقال لهما أو شيء غير ذلك وقاكما الله شر المهالك فقالا لا الادفن هذا المقتول وإخفاء هذا الأمر المهول وأن نكون تحت أذيالك الساترة حتى تسكن هذه الفتنة الثائرة فان أهله يطلبونا فان وجدونا يسلبونا ولا يرضون إلا بالدمار وخراب الديار ولا يقنعون بالمال والعقار وهذه قضية عظيمة وداهية جسيمة فان كنت تنهض بإطفائها وحمل أعبائها وتسعى في إخفائها فقد قصدناك ودون الأصحاب أردناك فان عجزت عن سدها فلا عتب عليك في ردها ولا تتكلف فوق طاقتك ولا تتجشم لا جلنا غير استطاعتك فقال سبحان الله وا سوأتاه هذا يوم المروأة والوفاء وتذكر وسائل إخوان الصفاء فلكم الفضل إذ قصدتموني والجميلة التامة حيث أردتموني أما والله لو كان ألف قتيل لو أريته وكل ما كان من أمر غيره جاريته وداريته لا يسمع أبداً خبره ولا ترى عينه ولا أثره وأما أنتما فأفديكما وبروحي وأولادي وطريقي وتلادي وعندي ديار أنزه من جنان الأبرار وأفيح من كل دار فادخلوها بسلام آمنين فأنها نشرح كل قلب حزين ولو أقمتم بها سنين ما شعر بكم أحد من العالمين فيها أرغب نديم وأقرب خديم وأحسن جليس وأيمن أنيس فلن تملوا مقامها ولا تعدموا إكرامها فانتم عند من لا يمل أبداً أنزليه ولكم في ذلك الفضل والجميلة قال التاجر شكر الله سعيك وحفظ على أصحابك مودتك ورعيك ثم ودعه وانصرف وقد عرف الولد من حقيقة الأمر ما عرف (ثم قال) لولده يا بني وأعز عندي من كل شيء أن اتخذت الصديق فليكن صديقك على هذا الطريق وإلا قالا نفراد أحسن والعزلة أوفق إن أمكن كما قيل:

فاق حبي كل الملاح كمالاً ... هكذا هكذا والافلالا
ولقد أرشد من أنشد حيث قال هذا المقال:
ما في زمانك من ترجو مودته ... ولا صديق إذا جار الزمان وفى
فعض فريداً ولا تركن إلى أحد ... أني نصحتك فيما قد جرى وكفى
(ثم أن الملك) قال لأولاده يا ذوي الأفضال إن غالب أصحابي من الأمراء والرؤساء الكبراء خصوصاً فلان أمير مماليك خراسان هم من هذا القبيل وأنا عودتهم هذا الجميل فكونوا في الحقيقة متمسكين بأسباب هذه الطريقة (فلما) أكمل وصيته أولاده هيا لسفره عتاده وذكراً لله وزاده ثم ودعهم من دار الشرور وأنتقل إلى دار الحبور والسرور وقد عهد إلى أكبر أولاده واستودعهم الله وهو القاهر فوق عباده من لا تضيع الودائع لديه ولا يخيب من توكل عليه فسمعوا الوصية وأطاعوا وتعلقوا بأذيال أهدابها فما ضاعوا واستمروا تحت أمر أخيهم كما كانوا في حياة أبيهم كأن أباهم ما مات ولم يقع بينهم شتات فدام لهم السرور وانحسمت عنهم مواد الشرور وأشرقت بهم ممالكهم وأملاكهم ودارت بالسعود أفلاكهم ثم أن الحكيم حسيب انتقل من كلامه العجيب بعد فراغه من حكم الاعجام إلى فوائد ملك الأتراك الهمام فشنف المسامع وشرف كل راء وسامع وشرع في القافل والقيل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الباب الثالث
في حكم ملك الأتراك مع ختنه الزاهد شيخ النساك
(قال) الشيخ أبو المحاسن حسان صاحب الحسن والمحاسن والإحسان ثم نهض الحكيم حسيب الأديب الأريب ووقف في مقام حده وقبل موطئ أخيه بشفاء خده وقال لقد بلغني أيها السلطان أن في قديم الزمان كان في الترك ملك يسمى خاقان من الملوك العادلين والسلاطين الفاضلين برسم العدل معروف وبقصم الجور موصوف كسر الأكاسره وقصر الأقاصره ونحر الجبابرة وثغر فم الذعار النبالة الفاغرة ملك بلاد الختن والخطأ واستولى على ممالك المغل والحنا وأطلع أوامره الترك والتتار واستسلم لرأيهسكان الدست والقفار وكان ياجوج من جملة خدمه ومأجوج من بعض عبيده وحشمه كأنه وارث لذرية يافث قوى في أخذ الملك من ممالك الصين وأخذ إلى أطرف الشمال باليمن ولم يكن له من البنين والبنات مع كثرة السراري والزوجات سوى بنت واحدة لطلعتها الأقمار شاهده:
شمس ولا كالشمس عند زوالها ... بدر ولا كالبدر في نقصانه

بل بهرت الشمس جمالاً والبدر كمالاً وفاقت سلاح الدنيا شمائل وخصالاً وهي عزيزة في قلب أبيها كريمة على خواصها وذويها فصارت ملوك الأطراف يخطبونها ومن أبيها يطلبونها فكان أبوها يفوض الأمر إليها ويعتمد في تزويجها عليها وهي لا ترغب في طالب ولا تصغي لخطبة خاطب إلى أن عنست وخطابها أيست وكان أبوها كما ذكر ذا فطنة بالغة وهيبة دامغة فخشي حوادث الزمان واختلى بها في مكان وقال أعلمي يا معدن اللطائف أن البنت في منزل أبيها الواقف إن مكثت يأسن وإن لم يستعمل أنتن ولا أقول ذلك ملالاً ولا عجزاً ولا استقلالاً بل لابد للمرأة من زوج فيسترها ويضمها ونعم الختن القبر وأحلى من البنت الصبر فإن رأيت الرغبة في الزواج طلبت لك كفؤاً من الأزواج وكان ذلك أستر لعرضك وأدنى لإقامة سنتك وفرضك وأفرغ لخاطر أبيك وأشرح لخدمك وذويك فقالت أحسن الله الرحمن إلى مولانا الخاقان وكفاه كل جان من الأنس والجان إن البنين من جملة النعم والبنات من أعداد النقم ونعم الدنيا عليها الحساب ونقمها سبب الأجر والثواب رب الأرباب فيما أنزله من الخطاب في محكم الكتاب المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً وقد جاء في بعض التفاسير أن الباقيات الصالحات هي البنات فمولانا الملك يعدو جودي نقمة عليه من معبودي واسأل الصدقات الملوكية والمراحم الوالديه أن لا يعجل في أمر تزويجي وأن لا يبادر كيفما اتفق إلى تزويجي فان التأمل في ذلك أولى وثناء في الدنيا وثواب في الأخرى وذلك لأن الكفاءة في الزواج معتبره وقد قرر ذلك الفقهاء البررة وإن لم يكن الزوج للمرأة كفؤاً فزوجها به يقع سخرية وهزؤا ولا يفيد سوى الغرامة والفضيحة والندامة فقال الملك لا أزوجك إلا بكفء كريم يكون لك أدنى خديم وفي الناس أعلى مقام عظيم قالت يا مولانا الملك وقاك الله شر المنهمك لا تحمل اعتراضي على الإساءة وإنما أسأل عن كيفية الكفاءة فإن كانت بالملك والمال فإن ذلك في معرض الزوال وإن كانت بانشاب الإنسان فإن ذلك خطأ لا صواب قال منزل الكتاب العزيز الوهاب فإذا نفخ الصور فلا انساب وقال من لا يجوز عليه كذبه من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وإنما الفقهاء حكموا بالظاهر والله يتولى السرائر ونحن في قيد الانقياد ولا يسعنا إلا ما أمر به الشرع وأراد وأما أنا فكفئ الكريم إنما هو الكامل الحليم الفاضل الرحيم قال الملك بارك الله في رأيك وعقلك أنا لا أزوجك إلا بملك أو ابن ملك مثل أبيك يرعاك ويكرم خدمك وذويك يعدل بالسوية ويحكم على سائر الرعية قالت أيها الملك الكبير صاحب التاج والسرير أنا ما أعرف الملك إلا من يعرف بملك الحكم على نفسه في سيره ويكون متحكماً متمكناً من الحكم على غيره فيحق أن يقال في ملكه ذي الجلال خلد الله سلطانه وشيد أركان ملكه وبنيانه قال الملك ومن هو ذاك بارك الله فيك وهداك قالت أما الحاكم على نفسه فهو المالك الزمام جوارحه وحسه قد جعل خزائن القلب والسمع معدناً لجواهر العقل والشرع فمهما اقتضاه العقل مضاه وعمل بمقتضاه وما ارتضاه الشرع وقضاه كان فيه انقياد ورضاه قد تحلى بعقود مكارم الأخلاق ولو كان في أسمال أخلاق وشغل نفسه بتهذيبها واجتهد في خلاصها من شرك عيوبها وأهتم بعيوبه عن بعيده وقريبه ويغيضه وحبيبه فذلك الحاكم على نفسه المميز على أبناء جنسه وأما حكمه على غيره فهو أن يكون في سلوكه وسيره منعزلاً عن الناس في زوايا البأس لا يسأل عن أحوالهم وعيوبهم ولا ينظر إلى ما تحتأيديهم وجيوبهم مالكاً لزمام العز له متنعماً بهذه النعمة الجزلة قد اتخذ التقوى والقناعة أحسن حرفة وأربح بضاعه قد سلم الناس من يده ولسانه لا يدري بشأنهم ولا يدرون بشأنه فذلك الحاكم على غيره الفائز من ملك الدارين يخبره فهو الذي خلد ملكه وسلطانه واتضح للعاملين برهانه فان وجد بهذه الصفات موافي فانه لي كفء مكافي وأنه كالبدر جلى تقي الصدر لله ولي فإذا أنعم الزمان بمثل هذا منالاً فنعم نعم والافلالا فجعل ملك الختن يتطلب مثل هذا الختن وأرسل القصاد إلى أطراف البلاد يساون سكان الأكناف وقطان الأطراف عن موصوف بهذه الأوصاف واستمروا على ذلك مده كل باذل جهده حتى أرشدوا بعد زمان أن المكان الفلاني فيه فلان رجل أعرض عن العرض فلم يكن له في الدنيا غرض وهو بحسن الصفات موصوف وفي

كرخ العبادة والاجتهاد معروف جامع لهذه الصفات ليس له إلى الدنيا وأهلها التفات مشغول باكتساب الآخرة وطلب نعمتها الفاخرة وهو من نسل الملوك وقد ترك وراءهم السلوك وسلك في العلم والعمل السبيل الأقوم حتى كأنه محمد بن الحسن أو إبراهيم بن أدهم ولشدة ما هو لنفسه مجاهد سماه الناس الملك الزاهد فأجمع الخاقان على مصاهرته وجعل التقرب إليه قربة لآخرته فاخبر ابنته به وكان حبل مطلوبها ومطلوبه وعقد بينهم النكاح وحصل الفلاح والصلاح فوافق شن طبقة وصار لعين مرامها كالحدقة ومضى على ذلك برهه وهما في طيب عيش ونزهه فاشتاق الخاقان في بعض الأزمان إلى رؤية ابنته وسرور مهجته فقام لدارها بقصد مزارها لينظر حالها وما عليها وما لها فوجدها في عيش هني وأمر سنى فسألها عن أحوال زوجها الزاهد وكيف صبرها على حالها الجاهد فاتت خيراً وكفت ضراً وضيراً وقالت جميع ما يبرزه ويأتيه على حسب ما أريده وأرتضيه وارتفاعات أحوالنا بسعادة مولانا في دفاتر إلا من منضبطة وعقود حياتنا بميين صدقاته في نحور الرفاهية غير منفرطة غير أن بيتنا واحد وبسبب ذلك يتضرر هذا العابد فيه نبيت وفيه نقيل وبجوانبه مالنا من خفيف وثقيل وقوت ونقود وخادم ومولود فلا يتفرع من الغوغاء للعبادة لأنها تستدعي عزلة العابد وانفراد، وتخيله لمناجاة معبوده ليظفر من حلاوة الطاعة بمقصود فاسأل مولانا الخاقان ذا الفضل والإحسان بيتاً يتخلى فيه للعبادة ومكاناً يضع فيه خرثي البيت وعتاده فقال حباً وكرامة وقرباً وسلامه (ثم) اجتمع الملك بصهره الذي به فاخر وذكر له أنه إعطاء بيتاً آخر أحدهما يكون لخلوته ومبيته والآخر يضع فيه ما يحتاجه من عتاده وقوته فقال الزاهد أيها الملك الماجد فعلت ذلك لتقسيم خاطري وتوزع فكري ومرائري ولا طاقة لي أن أتعلق بمكانين وما جعل الله لرجل من قلبين وإنما الزاهد من همه في الدنيا واحد فانه على عدد التعليقات يتوزع القلب الشتات وإذا تعددت الأماكن يحتاج كل منها إلى ساكن أو حافظ أو ضابط أو حارس أو رابط وأنا لا اعتماد لي بحفظ نفسي أيها الولي فكيف يكون لي اقتدار على حفظ الأغيار وإذا انقسمت أفكاري وفسد بالي فكيف أقدر على صلاح حالي وأني يصلح مع فسادي أمور معاشي ومعادي ثم أني إذا وزعت نفسي فقد نبهت راقد حرصي والحرص أفعى قاتل وأسد صائل يقتلني بسهمه بل بمجرد شمه فقال أيها الملك الكبير لا تهتم لذلك أيها الزاهد الخطير فإن لي أماكن وقصوراً مشيدة وحواصل مصونة وخزائن مكنونة الكل تحت تصرفك تصرفك واختيارك لا منازل لك فيه ولا مشارك فاجعل لكل جنس من قماشك وأثاثك ورياشك وما يقوم بأودك ومعاشك مكاناً على حده وناحية حفظ منفردة واتخذ لنفسك مقاماً خاصاً بك لا عاماً وأنا أقيم على كل مكان حارساً إن شئت راجلاً وإن شئت فارساً فعند احتياجك إلى شيء أتاك هنا مبسراً من غير كد ولا عي وتفرغ أنت لعبادتك واشتغالك بأمور آخرتك (قال) الزاهد أيها الملك المجاهد الاغترار بالقصور من جملة القصور والاعتماد على الحصون من دواعي الجنون وإذا ورد من الملك الغفور طلب على يد القبور فإذا تجدي الدور والقصور وماذا تنفع الحصونأو يدفع كل مكان مصون وإذا آذن بالجلول ذلك الخطب الهول تود النفس لو كانت القصور الممهدة والبروج المشيدة أذل من أفحوض قطاه وأقل من عطش بزاه وقد قيل:

قميص من القطن أو حلة ... وشربة ماء قراح وقوت
ينال بها المرء ما يرتجي ... وهذا كثير على من يموت
وأعلم أيها الخاقان أن النفس لها خادمان مطيعان مجببان ولما تأمر به سميعان وهما الشهوة والحرص الشديد الدعوه أما الشهوة فرائد الأكل الكثير والشرب وأما الحرص فعايد الرعونة والعجب وقد قيل:
فهذا يقود إلى طبعه ... وهذا يسوق إلى ربعه
فهما ليلا ونهارا وسرا وجهارا يزينان لها ما طبعا عليه ويجذبانها إلى ما جبلا إليه وينقاضيانهما حقهما ويطالبانها مستحقهما ولا بد للمخدوم من إقامة أود خادمه واسترضاء أنيسه ومنادمه وقد قال من أتقن المقال:
أن اللبيب أخا اللبيب هو الذي ... مع تيهه يحنو على عشاقه
وكذا الرئيس وأنت أكبر جنسه ... من فاض في الخدم من أرزاقه
يهتم إن حضروا له بنوا له ... يغتم إن غابوا على أشواقه
مع إن حشمته وفائض عمله ... ترقى بكل متنهى استحقاقه
ولكن رضا هذين الخادمين غاية لا تدرك وفقد مقصود يهما نهاية عميقة المسالك وقد قال سيد الأنام عليه الصلاة والسلام يوما وهو بين الأصحاب كالشمس ليس دونها حجاب والبدر لا يحجبه سحاب لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب والحرض مهلك والشهوة قاتلة وكل منهما في الدمار والبوار علة كاملة وناهيك يا ذخر الحق وغياثه أخبار اللصوص الثلاثة فطلب الملك من الزاهد إيضاح هذا الشاهد (فقال): ذكر أهل الوراثة أن لصوصا ثلاثة كانوا على سبيل الاشتراك متعاطين أسباب التحرم والهلاك واستمروا على ذلك مده حتى استولوا من الأموال على عده ففي بعض الليال ظفروا بجملة من الأموال ودخلوا إلى مكان داثر خال بنية الاقتسام وكانوا محتاجين إلى الطعام فوجدوا في ذلك المكان الدائر صندوقا مملوءا من الجواهر ففرحوا وانشرحوا وتصوروا لأولئك الخاسرين أنهم ربحوا فقالوا إن اشتغلنا بقسمة هذا المجموع كلبنا وأهلكنا كلب الجوع فأولى طلب الطعام قبل الاقتسام ولو بأدنى التهام ويسير التقام ثم أرسلوا مع أحدهم إلى المدينة ورقهم ليأتيهم بما يسد رمقهم فلما انفصل عن مكانهما وغاب عن أعينهما تحركت نفسه الخبيثة بشهوة أحجبت تاريثه وقواها الحرص المشوم لشدة الشره الملوم ودعاه داعي الفساد إلى الاستيلاء على المال بالانفراد فعزم على ختلهما فوضع في الطعام سما لقتلهما وأما هما فعلى قلته عزما واستعدا لذلك بعد ما حزما ليصير المال بينهما نصفين ويصيرا في ذلك كالأخوين الألفين ويكون ذلك كأنه وراثة لأن شر الرفقاء ثلاثة ولم يدعهما إلى ذلك غير داعي الشهوة وأكد ذلك داعي الحرص وأبخس بها من دعوه فلما فصل ذلك بالأكل بادرا إليه بالقتل ثم بعدما قتلاه عمدا إلى الطعام فأكلاه، فبردا في الحال وتركا ذلك المال، ولحقا بصاحبهما التالف وسيبا تليد المال والطارف وإنما أوردت هذه الموعظة لأنها على أحوال الدهر موقظة، وإن كان مولانا الخاقان في أموره يقظان لكن قد قال رب العالمين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
واعلم يا مولانا الخاقان كفاك الله مكايد الشيطان وأنجح مقاصدك على ممر الزمان أن الدرجة العلية والمرتبة السنية لا تنال بقوة ولا عزمه ولا شجاعة ولا همه وإنما هي عناية ربانية وأسرار رحمانية لأقوام سبقت لهم من الله وزيادة وانتظموا في سلك أهل السعادة فهم أهل الفضل والسيادة أسبغ الله عليهم سواطع الأنوار وقطعهم عن قواطع الأشرار فهم السادة الأخيار والقادة الأبرار قاموا بأداء ما وجب عليهم وتركوا ما خلفهم واستبشروا بما لديهم فأنوارهم ساطعة وأسرارهم لجميع الأوهام قاطعة تركوا زخارف هذه الداروأرادوا دار القرار وجوار الملك الغفار فهم الهداة إلى الله الدالون على الله لا يعتريهم كدر الأوهام ولا يشتغلون عن خدمة خالقهم مدى الأيام هم العباد المكرمون، العباد المقربون، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين في كتابه المكنون:

ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون. وأعلم أن أعدى عدوك بين جنبيك وهي نفسك التي قط ما ركنت إليك فاعص هواها ولا تعطها مناها فإن في اتباعها الندم عاجلا والحسرة آجلا لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع ولا تظن أنها إذا أعطيت مناها شكرت أو إذا ذكرتها من برأها ذكرت بل متى أمنتها كفرت أو آنستها نفرت أو أرخيت عنانها بطرت وأشرت وإن نالت مطلبا أو تناولت مأربا انتقلت عنه وطلبت أعلى منه فليس لها دوا إلا القمع عن دواعي الهوى كما قيل:
النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وكما قيل أيضا:
وما النفس إلا حيث يكعلها الفتى ... فإن أهملت تاقت وإلا تسلت
وكما قيل أيضا:
قنع النفس بالقليل وإلا ... طلبت منك فوق ما يرضيها
وإياك وطول الأمل فإنه مفسدة للعلم والعمل قال الحكماء وعقلاء العلماء الأمل شبكة الشيطان وموجب الحرمان فاجهد ما دام لك على النفس ملكه أن تخلص نفسك من هذه الشبكة ولا تهتم للأوقات فكل ما قسم ما فيه فوات وكل ما هو آت آت وكل ما رقمه القلم في القدم وأثبته قضاء الله تعالى عليك وأنت في العدم سواء كان خيرا أم شرا نفعا أم ضرا فأنت ملاقيه وعلى كل حال موافيه فاقطع دواعي الطمع عمن لا يضر ولا ينفع لا عمن إن شاء نفع. ولا تجتمع إلا بمثلك في الجماعات والجمع ولا تتعب لجوع وعرى واكتساء وشبع فقد قيل إذا شبعت فلا تهتم للجوع فكم من شبعان مات قبل أن يجوع وإذا اكتسيت فلا تهتم للعرية فكم من مكتس مات وثيابه جديدة مطوية واعلم أن طبع الدنيا بالمخالفة كأنها على المخالفة محالفة فإذا ضممت عنها يدك إليك أقبلت عليك وجاءت تهوى تحت قدميك وإذا طلبتها هربت منك وكلما ارتبطت إليها انحلت عنك وقد قيل أيها الملك الجليل:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه مستعجلا ... وإذا وليت عنه تبعك
ثم اعلم أيها الخاقان إنك وإن كنت ذا التصرف والسلطان وأن هذه الخلائق رعيتك نافذة فيها بمراسيمها منيتك إلا أنك في الحقيقة واحد منهم لا تزيد عنهم بشيء في الذات والصفات عنهم ولكن الله القديم العالم الحكيم سلطان السلاطين بل خلق الأولين والآخرين رفعك عليهم وتقدم بأمره أن يطيعوك إليهم فقال من له الخلق والأمر: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
فهم قد أذعنوا لك وأطاعوك فراعهم كما هم مراعوك واطلب لهم أسنى المراعي وأبهاها وأوردهم أعذب المشارب وأصفاها فإن الملك الذي سلمهم إليك سوف يتقدم بالسؤال عنهم إليك وقد قال من أنت خليفته على أمته: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
فكن لهم كما تريد أن يكون نوالك ودن لهم كما تحب أن يدينوا لك واعلم أيها الملك الودود أن هذه النقود إن لم تصرف في مصارفها وترفل في وجوه الطاعة في مطارفها فإنها جمر يضرم في نار جهنم كما قال من يقول للشيء كن فيكون. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون. فاسمع أيها الملك الصالح نصيحة مشفق ناصح ولا تغتر بالدنيا وزهرتها ولا تنظر إلى حلاوتها وخضرتها وإياك والميل إلى نزهتها ونضرتها فإنك إن ملت إليها أسرتك أو جبرت على الركون إليها كسرتك وحسبك من كلام الرب الغفور ومن بيده مقاليد الأمور: إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
(قال) الراوي لهذه الحكم والفتاوي فلما وعى ما قال هذه النصائح الصادقة من الخنن أمر بها فسطرت ثم نشرت وشهرتوعلى المنابر قرئت وعلى رؤوس الأشهاد ذكرت وأبلغها ابنته وقرر لها مقدار زوجها وحكمته وميله عن الدنيا ورغبته فقالت هذا الذي كنت أردته وعلى مسامع مولانا الخاقان سردته ثم إنها أقبلت على طاعة ربها وبعلها وإصلاح أحوالها في قولها وفعلها وقضايا عمرهما في أنواع العبادة واكتسبا بطاعتهما في الدارين الحسنى وزيادة ثم اقتدى بهما الملك وعسكره حتى انتشر في آفاق المملكة بالعدل بالعدل والصلاح خبره إلى أن اندرج إلى رحمة الله تعالى ذلك الرعيل وبقي ذكره مخلدا على صفحات الأيام جيلا بعد جيل وقد قيل في ذلك ممن أحسن القيل:
كانوا شموسا تضيء الدهر طلعتهم ... وفي طريق المعالي يقتدى بهم

غابت فلولا سناهم كالبدور اضا ... من بعدهم أهل الفضل في الظلم
هكذا يكون طالب السعادة الأبدية والكرامة السرمدية إذا ملكه الله زمام الرعية يحسن سيره في الدنيا ويتيقظ لتحصيل السعادة الكبرى ويشتغل بما يرضي عنه المولى وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(تمت بحمد الله تعالى) نوادر ملوك العرب والعجم والأتراك ويلي ذلك مباحث زاهد الإنس العالم مع شيطان الجن الآثم الأفاك ونسأل الله المسؤول أن يحقق لنا من كرمه وإحسانه المأمول ويعصمنا بفضله من عثرات الفضول والصلاة والسلام على أعظم بني وأكرم رسول وعلى آله وأصحابه وأكرم بالصديق والفاروق وذي النورين وزوج البتول واخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلاما يشتملان العفو هنا والقبول ويمن بالكرم والفضل على قطوعنا بالوصول آمين والحمد لله رب العالمين.

الباب الرابع
في مباحث عالم الإنسان مع العفريت جان الجان
(قال) الشيخ أبو المحاسن من ماء ينابيع عمله بدن الفضل غير آسن فلما أنهى الحكيم حسيب ذو الفضل النسيب حكاية ما طرزه مما نسحبه وحاك وفصله خياط تقديره على قامة المجد من خلع حكم العرب والعجم والأتراك شكره أخوه القيل على هذا القيل وأفاض عليه من نيل نواله جزيل النيل وأدرك من ذلك الأنموذج علو علمه وسمو حلمه وجميل حكمه وجليل حكمه، ثم قال يا أستاذ بلغني أن بغداد خرج منها خارج من نار من مارج وهبط إلى مدارك الخزي عن المعارج وأصل ذلك المشوم من عفريت خلق من نار السموم وأن شخص ذلك الشيطان جبل من سخام الدخان فلهذا ركب وجهه السواد وتركب سائر جسده من الرماد فهو جني ذميم وشيطان رجيم وقد شرع ذلك الخناس في الإفساد والوسواس وتعاطى إيذاء أكابر الناس وأنه في هذه الأيام نفي إلى بلاد الشام فلم يوافقه ذلك المقام لأنه مهاجر الأنبياء الكرام وهذا مخبول على سجايا اللئام وطباع أهل الفساد والإجرام، فأقام فيها بالاضطرار والاضطرام مدة أشهر وعدة أعوام وأخذ في الإضلال والتضليل فأضل خلقا كثيرا عن سواء السبيل وتستر ذلك الجان بحجاب الانتساب إلى جنس الإنسان ولبس بشق العصا ثوب العصيان فكمن كمون الشوك تحت ورق الورد والريحان واحتمى في حمى الشقاق والنفاق بشقائق النعمان والحق أنه من نسل العفاريت وكان عند الجن مقيلة والمبيت ومن ألبانهم له غذاء تربيت فقال له الملك هديت ووقيت فإن يكن عندك من ذلك شيء فشنف من جواهر حكمه أذني فإنك حكيم الجن والإنس وكريم النوع والجنس. (قال الحكيم): نعم أيها الملك العظيم أنا جهينة الأخبا ومزينة الأخيار وحكم الحكم ولي في البيان أعلى علم أما هذا الشخص المذكور فإنه بالفسق والفساد مشهور ورق شره في البلاد منشور وكتاب عناده بين العباد مسطور وبيت جسده لنعم الله تعالى على خلص أوليائه بالفجور معمور وله صفات تعيسة وأخلاق خسيسة تأنف مردة الشيطان منها وتستنكف العفاريت عنها وكم له من دواهي شرها غير متناهي لا يفي بذكرها هذا الخطاب ولا يتسع سردها هذا الكتاب يل ولا يقوم بذلك دفتر ولا حسابولكن البعرة تدل على البعير فقس من هذا التقدير الكثير على اليسير وقد كان أراد نشر الفساد ببلاد العراق وبغداد فعاكسه القدر وأحاد فنفي من تلك البلاد فوصل إرم ذات العماد وتعاطى أسباب ما هو عليه من الزندقة والإلحاد أصناف الفتن وأنواع العناد وابتدع من الشر والبدع ما يخرج عن حصر التعداد وهو على ما هو عليه من المناكدة والمجاحدة وقصده الأعوج من تعديل أقوال الرافضة والملاحدة وسيوضع لذلك مصنف متسع على حده ولقد بلغني أيها الملك الهمام أنه حصل له في ذلك المقام مع عالم من علمائها الأغلام قضايا كبته على خيشومه وأظهر بها ذلك العالم دسائس خبثه وشومه مثل ما اتفق لعالم الإنسان مع شيطان العفاريت وجان الجان في غابر الدهر وماضي الزمان فقال القيل العظيم أخبرنا بذلك أيها الحسيب الكريم فقال ذكر أن في الأزمان الغابرة كانت صنوف الجن للإنس ظاهرة تتراءى بأشكال مختلفة وتنزيا بأمثال غير مؤتلفة وتظهر لهم الخيالات العجيبة والصور المموهة الغريبة فتضلهم ضلالا مبينا وتأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم شمالا ويمينا وتخاطبهم مشافهة وتوفيهم مواجهة.

ففي بعض الأيام ظهر ببلاد الشام مهبط الوحي ومهاجر الأنبياء الكرام ومحط رحال الرجال من أهل الفضل والأفضال رجل من العباد وأفراد الزهاد فاق الأقران بالصلاح وساد أهل الزمان بالورع والفلاح وحاز طرفي العلم والعمل فكمل كثيرا منهم بعدما كمل واستمر يدعو الخلق إلى خالقهم ويحثهم في الإنابة والتوكل على رازقهم ويرضونه ويرضيهم في الطاعة واتباع السنة والجماعة ويقبح الدنيا في أعينهم ويحذرهم غدراتها في مكمنها عند مأمنهم وكان لنفسه المبارك نقوش في النفوس يجذبها إلى ما يريد جذب الحديد المغناطيس ففي مدة يسيرة تبعه طوائف كثيرة وانتشر صيته إلى الآفاق وصفا للعباد وقت الطاعة وراق وضربت إليه أكباد الإبل وامتلأت به الدنيا من العلم والعمل واضطرب أمر المردة والشياطين الغندة وتعطلت أسواق الفسوق وخرج عرق المعاصي من العروق وتخملت العفاريت وتنكست أعلام الجن المصاليت وضل سبيل الضلال كل مارد خربت وبطلت زخارفهم وتموياتهم وعطلت وساوسهم وتشويهاتهم وأهانهم الناس وكسد الوسواس وفسد فعل الخناس فلما ضل سعيهم وكاد يقع نعيهم اجتمع العفاريت العتاة والشياطين الطغاة والمردة العصاة إلى إبليسهم العنيد وهو شيطان مريد صورته من أقبح الصور له أظلاف كأظلاف البقر ووجه كالتمساح وشكل كالرماح وخرطوم طويل ورأس كالفيل وعيون مشققة بالطول وأنياب كأنياب الغول وشعر كالشهيم وجلد كالأرقم وهو يلهث كالكلاب ومن ورائه عدة ذئاب فشكوا إليه حالهم وأطالوا في الشكوى قالهم وقالوا يا شيخ التلبيس وابن عم إبليس لقد عرت المدارس وبطلت منها الوساوس وتعمرت المساجد بكل راكع وساجد وقائم وقاعد وقارئ وجاهد فطرد كل شيطان مارد وتمشي سنن الحلال فوقف منا الاحتيال وأمر بالمعروف فوقعنا على الأمر المخوف وكثرت الحجاج فتقطعت منا الأوداج وأديت الزكوات والحقوق فطرد منا كل عقوق وقام الحق فنام الفسق وعبد الله في المغارات والكهوف واشتد علينا السبيل فعلى من نطوف ولم يبق لنا على بني آدم سلطة وصرنا في بحارهم أقل من نقطة وعند جهرهم بأذكارهم أذل من ضرطة لا وساوسنا تؤثر في أفكارهم ولا مجالسنا تعطل من أذكارهم ولا تخيلاتنا تتراءى لأبصار أسرارهم فإن استمر الحال على هذا المنوال لا يبقى لنا في الدنيا مقام ولا بين الجن والإنس كلام (فلما وعى) العفريت فحوى هذه الشكوى وتأمل ما في مطاويها من نازلة أحاطت بهم وبلوى اشتعلت نيران غضبه وتأججت شواظات لهبه ثم قال أمهلوني أتلوى واتركوني أتلوم وأتروى وأفتكر في هذه البلية وأكشفها عن جلية فإن الأمور لا تنتج لمعانيها ما لم يتأمل من فراغها في جوانبها ونواحيها وتحقيق المسائل إنما يوجد من محكميها وحاكميها. وكان هذاالغفريت العاتي المارد الغير المواتي تحت يده وأمره من مقتبسي تلبيسه ومكره والشياطين المرده وأغوال العفاريت العنده طوائف شتى وأمم لا تحصى وممن فاقهم في المكر والمراء أربعة أشخاص كبراء زراء كل منهم في الشيطنة والموالسة ومعرفة طقوس الوسوسة كأبي علي بن سينا في علم الهندسة غاية لا تدرك ونهاية لا تستدرك فاجتمع هذا الغول بوزراءه ورؤساء أشياعه وكبرائه ثم قال لهم أفتوني في أمري وساعدوني على فكري وسكري. ووجه الخطاب لكبيرهم الذي علمهم السحر المشار إليه في الدهاء والمكر وقال له ما رأيك في هذه القضية والمواقف الردية والداهية الدهية فقال الوزير يا مولانا الأمير وصاحب المكر والتدبير إن العقلاء وذوي التجارب من الحكماء تفرسوا بأمر قاطع من الوقائع القواطع فقالوا شيئان لا بقاه لهما الروح في الجسد والسعد في الطالع وهذا هو الصواب ولكل أجل كتاب وما دام الأجل باقيا والسعد راقيا ومنادم السلامة ساقيا وحافظ العوارض واقيا لا ينفع الجد ولا يدفع الجد ولا يرفع الجهد ما أثبت السعد فإذا تم الأجل وبطل من السعد العمل انتكس السعد وانقلب وفارقت الروح بلا سبب وإذا كان كذلك فهذا الرجل الناسك سعده عمال وطالعه في إقبال فكل سهم مكر فوقناه إلى نحو حياته يعود علينا وكل رمح فكر صوبنا سنانه إلى شاكلة بقائه يرجع إلينا فالرأي عندي أن نتربص حين تدور به الدوائر ولا نهتم باحتيال محتال ولا مكر ماكر إلى أن تنقضي مدته ويسقط من سعد طالعه قوته فعند ذلك يفيد سعينا ولا يضيع كدنا.

(فقال) العفريت للوزير الثاني يا أفضل جاني أنت ماذا تقول وكيف تشير أن نصول في ميدان هذا الأمر ونجول فقال رأي مولانا الوزير سديد وكل ما أشار به فهو أمر مجيد ولكن كيف يهمل أمر يهمل أمر العدو ويركن مع وجوده إلى قرار وهدو وإذا كان طالعه في قوة فاهماله يزيد في قوته والتهاون في أمره مساعدة في معاونته ومعاونة في مساعدته وهذا من سلامات العجز والانكسار ومن أقوى الأدلة في الانحطاط والصغار وأن رب الأرباب وضع عالم الكون والفساد على الأسباب فلا بد من تعاطيها في هذا الباب وبذل المجهود في معاملات الأعداء والأحباب ولم يقتصر الشارع على التقدير والطالع إذ فيه حسم مادة الشرائع والتعرض لأبطال حكم الصانع فعندي أن نبذل الجهد في حسم مادتهم وتعاطي كسر شوكتهم وبذل الجهد والجد بما تصل إليه اليد وثبات الأقدام في إثبات الأقدام كما قال الشاعر وهو سلم الخاسر في ثبت الجاسر:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
وهذا الشاعر المسمى أخذه من أخينا بشار الأعمى من لنا بوجوده أنس وهو شيطان الأنس حيث يقول ذلك الغول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فاعزموا على هدم ما يبنون وصدم ما يعنون والأخذ في تمزيق جلدتهم وتفريق كلمتهم إذ لا اطلاع لنا على مساعدة الطالع ولا حد لبقاء الأجل فضلاً عن أن نقول هذا الحد جامع مع أو مانع وهذا الرأي عندي أولى ورأيك يا رئيس التلبيس يا غول هذا القول:
إذا كانت الأعداء نملاً فآتهم ... إذا لم تطأهم وأصبحوا مثل ثعبان
ومن هذا المقال يا أبا الأغوال:
واللص ليس له دليل ساتر ... نحو الذي يبغي كنوم الحارس
(والأصل) في هذا كله حسم مادتهم ورد جادّتهم وذلك بإهلاك مرشدهم وإفساد زاهدهم فان قدرنا على إهلاكه وتمزيق حبائله واشراكه تشتت شمائلهم وثبتت جلهم وقلهم (فقال) العفريت للوزير الثالث وكان أمحس عابس قل لي أيها الوزير ما سنح لك من التدبير في هذا الأمر المبير والخطب الخطير وماذا ترى فيه وتشير فقال لا شك أن الطباع تميل إلى ما تسمعه وما يلقى إلى النفس لا بد أن يؤثر موقعه وما أشار به ودبره الوزيران وهما نعم المشيران فهو لا يخلو عن فوائد بل هو متحل بعقود الفرائد وأني لاعلم أنهأثر في الخواطر كما يؤثر في الرياض السحب المواطر وبالجملة فللكلام تأثير في النفس كما تظهر آثاره الحس ولهذا ترى رقيق الشعر يفعل مالا يفعله دقيق السحر وجليل العبارة فيه من الإثارة ما يشجع الجبان وينشط الكسلان ويسخي البخيل وينجي الذليل ويسحر الأرواح ويسخر الأشباج ويعطف القلوب ويؤلف بين المحب والمحبوب ويصير العدو وصديقاً وغليظ الأحرار رقيقاً وتأمل يا بنيه ما قيل في البديه:
حديث إذا نادمت دهري انتخى ... وكف عن الايذا وعاد إلى الأخا
أذكره أخلاق مالكه الذي ... تعلم منه العلم والحلم والسخا
أنال به مالا ينال بقوة ... وأرواح أشباح أنت بعدما شمخا

وهذه قضية تحتاج إلى أعمال الرويه وإمعان النظر وتدقيق الفكر وعندي الرأي السعيد السديد والفكر الحميد المجيد أن التعرض إلى هذا الرجل الدين الداعي إلى طريق الحق البين ليس بمحمود ولا طالع قاصده بمسعود فانه على الحق متشبث بأذيال الصدق ومن قصد مصادمة الحق اصطدم وفي مهاوي الهلاك ارتدم وقد كان في بني إسرائيل من أهل التسجيل عاملاً بالتوراة والإنجيل مشغولاً بالعبادة باذلاً في إقامة الحق اجتهاده فتعرض له جماعة من أهل الفسق والخلاعة فتعاطوا إهلاكه وفجعوا به نساكه فقتلوه بغير حق فغار له الدين ورق فاخبرني من لا يتهم بكذبه أنه قتل سبعمائة ألف نفس بسببه فذهب بسبب ذلك الصالح من بني إسرائيل الصالح بالطالح ومن كان مع الحق هادياً إلى الصدق فان الله تعالى معه ومن كان معه منعه وحرسه وما ضيعه ومن تصدى لضياع ما حفظ الله وعزم على ابتذال من أعزه مولاه وكلاه فقد قصد خراب عمره وعمارته وباع رأس مال تجارته وربحه بخسارة وجنى بيده على نفسه وحفر بيد تدبيره مهواة رمسه واسمع يا نعم العون ما جرى لمؤمن آل فرعون حيث كان على السداد داعياً إلى سبيل الرشاد وقصدا هلاكه أهل الفساد فقال وأفوض أمري إلى الله أن الله بصير بالعباد فغلبوا هنالك وانكسروا ووقاه الله سيآت ما مكروا وأيضاً لو قتلنا هذا الرجل وكان على أيدينا له حمام الأجل فلا شك أنه يقوم مقامه من يلم عظامه ويزم زمامه ويحيي بعده أيامه فيقيم شعاره ويكتب ما قدم وآثاره فإن تلامذته كثيرة وطوائف جماعاته غزيرة فينتظم لهم بعده الأمر ولا يضرم لنا من كيدنا الجمر وإذا علموا أن ذلك منا واشتهر ذلك الكيد عنا أخذوا منا حذرهم وصوبوا إلينا عداوتهم ومكرهم ثم عملوا على استئصالنا واستعدوا لقتالنا لأنا أهلكنا معتقدهم وهدمنا عمادهم ومعتمدهم ولا يمكننا بعد ذلك طلب الملامة والسلامة وتستمر العداوة بيننا وبينهم إلى يوم القيامة، مع إن عداوتنا قديمة وبالجملة فعاقبة من عادى أولياء الله وخيمة إذا تقرر هذا القول وثبت بطرق المعقول فاعلم أيها الغول والشيطان المهول أن الرأي الصواب في هذا المصاب أن نبادر إلى هذا الرجل وجماعته بإفساد طاعتهم وطاعته وحيث لا يتيسر لنا المواجهة ولا الخطاب والمشافهة ولا الإضلال في الظاهر بصورة المتجاهر فنزين لهم حب الدنيا وشهوائها والميل إلى زينتها ولذاتها والركون إليها والاعتماد عليها ونلقي إليهم طول الأمل وبعد الأجل فنثبطهم بذلك العمل وندعوهم إلى التهاون والكسل ثم بعد ذلك نجلو خدود عرائس الحرص على أبصار أفكارهم وقدود موائس الشج وحب المال على أعين خيالاتهم وبصائر أسرارهم فإذا ذاقت ألسنة عقولهم حب الدنيا وتمكنت في أدمغة سويدائهم الرغبة في الآباء والأبناء سلبوا حب الطاعة وتفرقت منهم الجماعة وزاغوا عن الطريق الأقوم وراغوا عن السبيل الأمم فنتوصل إذ ذاك منهم إلى مقاصدنا ونوقعهم كيفما اخترنا في مصايد مراصدنا لأنهم هبطوا من سماء المنازعة إلى الأرض وأهلكوا بأيديهم أنفسهم إذ بغى بعضهم على بعض فتحاسدوا وتحاشدوا وتدابروا وتفاخروا وتضاربوا وتناهبوا وتلاسبوا وتقابلواوتقاتلوا وتفرقوا وتمزقوا وتحرقوا وانحاز كل منهم إلى ناحية وأعجب كل برأيه فلا تعرف منهم الفرقة الناجية إذ تفرقت أهوائهم وتصادمت آراؤهم وجذبت أغراضهم إلى الانحناء وجلبتهم أمراضهم مع الأهواء ومال كل منهم إلى صوب وأيس منهم الصواب الاوب وتعدد الخلق الذمر ولبس كل لصاحبه جلد النمر ثم بعد ذلك زلوا وأزلوا وضلوا وأضلوا فتمكنا فيهم كما نريد وتصرفنا فيهم تصرف السادات في العبيد وسلطنا عليهم دواعي الغضب والشره ولعبنا بشيوخهم لعب الصبيان بالكره فنصوب لهم أقوالهم ونزخرف أفعالهم كما قال من خلقهم وأحوالهم: وزين لهم الشيطان أعمالهم ولا نقصد بذلك إلا كبراءهم وفضلاءهم وعلماءهم وزهادهم ورؤساءهم وحكامهم وحكماءهم ولا نفتر عن مكابدتهم ولا نميل عن مكايدتهم ونجري في عروقهم ونسكن في فروقهم ونحركهم في رعودهم وبروقهم فإن تحركوا إلى خير سكناهم وإن سكنوا عن شر حركناهم وإن عزموا على الآخرة صددناهم وإن حزموا إلى مواطن رددناهم وإن أموا مفسدة قدناهم أو هموا إلى معصية سقناهم ولا بد لهذا العمل الكثير من تأثير ولبيدق جد في المسير أن يصير وبالجملة فنبذل في كل عامة جهدنا وجدنا ولا غضاضة في ذلك علينا لأنه صنعة أبينا

وجدنا وقد أخبر بذلك جدنا اللعين لما خالف رب العالمين كما أخبرنا في الكتاب المبين قوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. فإذا رآهم الناس وقع بينهم البأس وحصل لهم منهم اليأس وتراجعوا عنهم وهبروا منهم وفسد اعتقادهم فهم بل قتلوهم بأيديهم فإذا ظهر فسوقهم وكسد سوقهم فإن شئنا أوقفنا حالهم وإن رمنا إلى الهلاك نسوقهم وأوثق ما يتصل به إليهم من الأسباب هي حالة الانفراد والإعجاب وحالة الاجتماع للكذاب فإن الإعجاب يهوي في النار والكذب يخرب الديار. وناهيك قضية التاجر مع عبده الكذاب الفاجر فسأله شيخ الجن عن بلية ذلك القن (فقال): ورد في الخبر عن شخص معتبر قال كان بمكان تاجر ذو مال وزوجة ذات جمال كل يهوى صاحبه ويرعى جانبه ويفديه بروحه ويترشف رضابه في غبوته وصبوحه كأنهما زوج حمام وفي بذمام ففي بعض الأيام قال أحدهما لرفيقه وهو يرشف من كأس عقيقه شهد رضابه بخمرة ريقه لو كان لنا عبد يتعاطى مالنا من حاجة ويخلصنا من جميلة عمر وزيد فذهب التاجر إلى سوق الرقيق فوجد مع النخاس عبدا ذا قد رشيق ينادي عليه أبيعه بكذا على ما فيه من أذى فقال وما عيبه قال كذبه لا على الدوام وإنما هو مرة في عام فقال عيب هين وشين لين فاشتراه وأتى إلى داره وارتضاه فاستمر في خدمة حسنة حتى أتى عليه سنة ونسى سيده عيبه وأمن ريبه بالأمانة وجرب بالأمانة يده وبالطهارة جيبه فلما مضى عليه عام كان سيده في الحمام فأتى البيت في بعض الحوائج في صورة الجمل الهائج شاهقا باشرا صائحا ثائرا صارخا واويلاه واسيداه وامولاه فسئل مالك لا أحسن الله حالك ولا أنعش بالك فقال رمح البغل بسيدي فما تمالك أن تهالك وسلم الروح لخالقها وقال لوارثه تسلم مالك فأقيم العزاء والسخام وتركهم وأتى للحمام وهو يبكي وينوح ويصرخ ويصيح فسأله مولاه ما دهاه فقال وقع البيت على كل من أويت ولم يبق في الدار نافخ نار فهلك الكبير والصغير ونهب ما فيها من جليل وحقير فخرج وهو يستغيث من حديث ذلك الخبيث فوجد أهل البيت سالمين ورأوه من الناجين فعزم على خباطه فذكر له ما سلف من اشتراطه ثم أنه استقام ونسي هذا الكلام ومضى عليه عام فاستأنف ذلك الخبيث أمره العبيث وقال لامرأة مولاه يا هنتاه إن كنت نائمة فاستيقظي وخذي حذرك وتيقظي واعلمي أن نية صاحبك أن يلقي حبلك على غاربك لأنه قد عشق عليك ونبذ حبل حلك إليك وتعلق قلبه ببنت رجل كبير ولا ينبئك مثل خبير وقد حملني على نصيحتك الشفقة وما أسديت إلي من إحسان وصدقة فبادري قبل حلول البأس ونزول الفأس في الرأس فأثر فيها هذا الحديث فاستشارت ما تفعله ذلكالخبيث فقال لو ظفرت بشيء من شعره لكفيتك مؤنة مكره وفكره فإن لي صاحبا منجما وأستاذا معلما يرقي الشعور ويجعلها في النحور وإذا وجد لي خيشومه مساغه ودخل البخور دماغه صار عبدا لك على الدوام وحظيت عنده بالمراد وارتقيت إلى أعلى مقام ولكن ينبغي أن يكون من شعر لحيته النابت على ترقوته قالت وأنى لي أن أصل إلى ذاك وقاك الله شر أذاك فقال إذا نام وغرق في المنام فاحلقي منه بموسي لتكفي الضرر والبوسي وأنا آتيك بموسي يحلق الشعور فافعلي ذلك من غير أن يكون له شعور فاتفقا على ذلك الاتفاق وأتاها بموسي حلاق ثم توجه إلى مولاه وقد أضمر له ما دهاه وقال أشعرت يا ذا الفضائل أن زوجتك البديعة الشمائل تغير خاطرها عليك وتقدمت بالإساءة إليك ولولا أنك شفيق علي وعزيز ومكرم لدي ما أنبأتك من أخبارها بشيء فإني أريد أن يكون ما أنهيته إليك مكتوما إلى أن يصير عندك محققا معلوما وقد أرسل إليها من يخطبها وأمالها عنك بما يرغبها واتفق معها أنها تقتلك وتستريح وتصبح في فراشك وأنت ذبيح وذلك يقوم بديتك وقد أرسل إليها من الجواهر والأموال أضعاف قيمتك فإن أردت مصداق هذا الكلام فتثاقل عندها في المنام ليزول الشك باليقين وتتحقق من الصادقين فأثر هذا الكلام فيه وخاف من مكر النساء ودواهيه فلما أقبل العشاء وأحضروا العشاء تناول من ذلك الطعام ونهض إلى الفراش لينام وأظهر بين القوم أنه غرق في النوم وغمض عينه وانط وسال لعابه فنهضت الزوجة إليه وفتحت الموسي ودخلت عليه ومدت يدها إلى لحيته ووضعتها على ترقوته ففتح عينيه فرأى آلة الموت متوجهة إليه فما تمالك أن وثب عليها وجثم إليها وخرج زمام تفكره عن يد تأمله وتدبره وخطف الموسي من كفها وسقاها كأس حتفها

فلما فوران الدم أدركه لاحق الندم وقد تبدل الوجود بالعدم ووقع القال والقيل واشتهر أمر القتيل وعلق في شر الاقتناص وعومل في صاحبه بالقصاص. وإنما أوردت هذا الكلام لتعلم أن ما أهلك الأنام وأوقعهم في شرك الآثام والكفر والفسوق والحرام مثل الكذب في الكلام وهولنا أوثق زمام ولجذبهم إلى ما قصدنا من المرام أحكم خطام وأعظم حزام فاستحسن العفريت هذا الرأي واستصوبه وأعجبه ما تضمنه من معان واستغربه ثم قال رأيت يا أصحاب من الرأي الصواب أن أجتمع بهذا العالم الزاهد العامل العابد في محافل غاصة وأسأله عن مسائل عامة وخاصة وعن أسرار رقيقة أطالبه فيها بمجازها والحقيقة وأنا أعرف أنه يفحم عن جوابي ويلجم عند أول خطابي فإذا عجز عن جواب المسائل في تلك الجموع والمحافل تحقق الحاضرون جهله فنبذوه من أول وهلة واعترفوا لنا بالفضل الوافر والعلم الغزير المتكاثر فصاروا لنا أوداء والفضل ما شهدت به الأعداء ورجعوا عن اعتقاده ونفضوا أيديهم من محبته ووداده وربما سعوا في دماره وخراب دياره فيكفونا أمره ويزيحون عنا شره وأقل الأقسام أن جماعة ذلك الإمام إذا رأوا ما لنا في الفضل من تجارة وعلموا أن رأس مال إمامهم الخسارة التهوا بالسهو وسهو باللهو وانفضوا عنه وتركوه وهذا إن لم يكونوا سفكوه وسكبوه كما فعل صاحب البستان بالمزرعة من الغدر والتفتخيذ مع غرمائه الأربعة فسأل الوزراء عن غدير ذلك الغدر كيف جرى (قال العفريت): كان من تكريت رجل مسكين ينظر البساتين ففي بعض السنين قدم قرية منين وسكن في بستان كان قطعة من الجنان فاكهة ونخل ورمان ففي بعض الأعوام أقبلت الفواكه بالأنعام ونثرت للثمار ملابس الأشجار من الأذيال والأكمام فألجأت الضرورة ذلك الإنسان أن خرج من البستان ثم رجع في الحال فرأى فيه أربعة رجال أحدهم جندي والآخر شريف والثالث فقيه والرابع تاجر ظريف قد أكلوا وسقوا وناموا واتفقوا وتصرفوا في ذلك تصرف الملاك وأفسدوا فسادا فاحشا خادشا وما رشا وناوشا وناكشافأضر ذلك بحاله ورأى العجز في أفعاله، إذ هو وحيد وهم أربعة وكل عتيد فسارع إلى التأخيذ وعزم على التفخيذ فابتدأ بالترحيب والبشاشة والإكرام والهشاشة وأحضر لهم من أطايب الفاكهة وطايبهم بالمفاكهة وسامح بالممازحة ومازح بالمسامحة إلى أن اطمأنوا واستكانوا واستكنوا ودخلوا في اللعب ولاعبوه بما يجب فقال في أثناء الكلام أيها السادة الكرام لقد حزتم أطراف المعارف والطرف فأي شيء تعانون من الحرف فقال أحدهم أنا جندي وقال الآخر وأنا رسول الله حدي وقال الثالث أنا فقيه وقال الرابع أنا تاجر نبيه فقال والله لست بنبيه ولكن تاجر سفيه وقبيح الشكل كريه أما الجندي فإنه مالك رقابنا وحارس حجابنا يحفظنا بصولته ويصون أنفسنا وأموالنا وأولادنا بسيف دولته ويجعل نفسه لنا وقاية وينكي في أعدائنا أشد نكاية فلو مد يده إلى كل منا ورزقه فهو بعض استحقاقه ودون حقه وأما الشريف فإن جده هدانا ومن النار أنجانا وقد ملكنا كرامة وحبا لقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. وقد تشرف به اليوم مكاني وحلت به البركة علي وعلى بستاني وأما سيد العالم فهو مرشد العالم وهو سراج ديننا الهادي إلى يقيننا فإذا شرفونا بإقدامهم ورضوا أن نكون من خدامهم فلهم الفضل علينا والمنة الواصلة إلينا وأما أنت يا رابعهم وشر جان تابعهم بأي طريق تدخل إلى بستاني وتتناول سفرجلي ورماني هل بايعتني بمسامحة وتركت لي المرابحة أو لك على دين أو عاملتني نسيئة دون عين ألك علي جميلة وهل بيني وبينك وسيلة تقتضي وسيلة، تقتضي تناول مالي والهجوم على ملكي ومنالي، ثم مد يده إليه فلم يعترض من رفقائه أحد عليه لأنه أرضاهم بالكلام واعتذر عما يتطرق إليه من ملام فأوثقه وثاقا محكما وتركه مغرما ثم مكث ساعة وهو على الخلاعة مع الجماعة وغامز الجندي والشريف على الفقيه الظريف فقال يا أيها العالم الفقيه والفاضل النبيه أنت مفتي المسلمين وعالم بمنهاج الدين على فتواك مدار الإسلام وكلمتك الفارقة بين الحلال والحرام بفتواك تستباح الدماء والفروج فمن أتاك بالدخول في هذا والخروج أفتني يا عالم الزمان محمد بن إدريس أفتاك بهذا النعمان أم أحمد بن حنبل أم مالك فسح لك بذلك أما سمعت قول معز العلماء ومجلها ومذل الجهلاء لجهلها: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا

بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها. وإذا ارتكب مثلك هذا المحظور وتعاطى العلماء والمفتون أقبح الأمور فلا عتب على الأجناد والأشراف ولا على الجهلاء الأجلاف ثم مد يده إلى جلابيبه وأوثقه بتلابيبه فأحكمه وثاقا وآلمه رباقا فاستنجد بصاحبيه إلى جانبيه فما أنجده ولا رفداه ثم جلس يلاهي الجندي الساهي وغامزه على الشريف ذي النسب الظريف ثم قال أيها السيد الأصيل النجيب الجيد الحسيب لا تعتب كلامي ولا تستثقل ملامي أما الأمير فإنه رجل كبير ذو قدر خطير له الجميلة التامة والفضيلة اللامة وأنت يا ذا النسب الطاهر والأصل الباهر والفضل الزاهر سلفك الطيب أذن لك في الدخول إلى ما لايحل لك أم جدك الرسول أفتاك باستباحة الأموال أم زوج البتول أنباك أن أموالنا لآل البيت حلال وإذا كنت يا طاهر الأسلاف لا تتبع سنة آبائك الأشراف من الزهد والعفاف فلا عتب على الأوباش والأطراف ثم وثب إليه وكتف يديه ولم يعطف الجندي عليه ولم يبق إلا الجندي وهو وحيد فانتصف منه البستاني كما يريد وأوثقه رباطا وزاد لنفسه احتياطا ثم أوجعهم ضربا وأشبعهم لعنا وسبا وجمع عليهم الجيران واستعان بالجلاوذة وأصحاب الديوان وحملهم برباطهم وعملتهم تحت آباطهم إلى باب الوالي وأخذ منهم ثمن ما أخذوه ومن رخيص وغالي وإنما أوردت ما جرى لتعلموا أيها الوزرا أن التفخيذ بين الأعداء بالتأخيذ أمر من السهام في تنفيذ الأحكام وأحكام التنفيذ وهذا قبل تعاطي أسباب البيلسة وفتح أبواب الوسوسةفانه يقال في الأمثال عقدة تنحل باللسان لا يؤخر حلها إلى الأسنان ما أرشد من أنشد:
فكم عقدة أغنى اللسان بحلها ... تراخت وقد أعيت نواجذ أسنان

(ثم قال العفريت) للوزير الرابع ما ترى في هذا الأمر الواقع فقال حيث تردد الأمرين آراء مختلفة وأقوال متفاوتة غير مؤتلفة وأقيم على كل قتيل برهان ودليل فنعدد النقل وتبلد العقل وعميت وجوه الترجيح ودرست طرق التصحيح فلا يمكن القول بأحدها ولا الميل إلى مفردها فإن ذلك ترجيح بلا مرجح وتصحيح بلا مصحح فربما يتصور الشيء خيراً وتكون عقباه شراً ويتوهم شراً فتظهر قصاراه خيراً وقد قال منزل الفرقان على أشرف جنس الإنسان وعسى أن تكرهوا شيءً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم وكم من قضية يتصورها الفكر صواباً ويذهل عما تتضمنه من خطا مآبا وكذلك النفس تتصور شيء بصفة وهو بالعكس ولذلك شاهد من وقائع الحس فليس على ذلك معول وشاهده قضية المضيف وع ولده الأحوال فقال العفريت وكيف ذلك أيها الخريت (قال الوزير) أخبرني شخص فاضل أنه كان رجل كامل كريم الشمائل محبوب الخصائل مرغوب الفضائل غزير الثراء يحب الفقراء عذب الموارد مترصد للصادر والوارد لا يسال الضيف من أين ولا كيف وهو كما قيل للضيف والسيف ورحلة الرجال في الشتاء والصيف فنزل في بعض الأيام ضيف من أصحابه الكرام فزاد في إكرامه وأحضر ما طاب من طعامه فلما رفع السماط ووضع للبسط بساط قال لضيفه الصديق عندنا قارورة من الشراب العتيق كنت ادخرته لنزلك وأعددته لمثلك وما عندي سواها فإن رأيت أحضرناها وتعاطينا الراح لطلب الانشراح فإنها مادة الأفراح كما قيل:
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام

فسمع الضيف مقاله وتحمل جميلته ودعا له وأجاب سؤاله فأشار المضيف المفضل إلى ولده الأحوال وقال اذهب إلى المقصورة فإن هناك قارورة وإياك أن تنكسر فإن صدع الزجاج لا يجبر وما بناها ضيرها ولكن ما عندنا غيرها فتوجه إلى ذلك المكان فتراءى له قارورتان فرجع من وقته ونادى لمقته أيها الأب المفيد هناك قارورتان فإليهما تريد فخجل من ضيفه وغضب لئلا ينسب إلى اللؤم والكذب فقال لابنه يا ابن البظرا اكسرا حداهما وهات الأخرى فاخذا العصا وعبر وضرب أحد ما كان تراء للبصر فلم يكن غير وعاء واحد وقد انكسر فخرج إلى أبيه وهو من الفكر في تيه وقال امتثلت ما أمرت وأخذت العصا وضربت فانكسرت إحدى القارورتين ولا أدري الأخرى ذهبت إلى أين فقال يا بني إن الخطأ منك واليك والخطأ في ذلك كان من نظر عينيك وإنما أوردت هذا المقول لتعلم أيها الغول المهول أن أقوى طرق العلم العين وإذا حصل في إدراكها الخلل والشين تراءى الصدق بصورة المين والشيء الواحد بشكل اثنين وهذا أمر محسوس لا تنكره النفوس فكيف ترى تكون عين الفكر المصون وهي بأنواع الحجب محجوبة وبتخيلات الوهم وقضاياه مشوبة ومرآتها إنما هي المعاني دون المحسوسة المشاهدة المباني (فعلى هذا) ينبغي التأمل في عقبى هذه الحوادث والتدبر في قصارى هذه الأمور الكوارث ثم الأخذ في تعاطيها والشروع في أسباب تلافيها إنما يكون بعد إمعان الأنظار وأنعام التدبر والأفكار (ثم اعلم) أيها الرئيس الداهي النفيس شيخ المكر والتلبيس والبيلسة والتدليس إن الله القديم القادر الحكيم لم يخلق في الموجودات ولم يوجد في المخلوقات أعز جوهراً من الإنسان فانه فضله على جنسي الملك والجان واختصه بدقيق النظر وعميق الفكر وسرعة الإدراك فهو مع عدم الحراك بحكم وهو ساكن على ما تحت الثرى وفوق الأفلاك وشمله بعوائد وعوده بفوائده ولطف به في مصادره وموارده فهو أرحم به من والدته لمشفقة ووالده ووكل بحفظه الكرام الكاتبين وملائكته المقربين ورباه في حجر نعمته علىموائد لطفه وكرمه ورحمته كما ترى بي الوالدة الشفيقة والظئر الرقيقة الرفيقة وألهمهم العلم الغزير والقدر الخطير والرأي والتدابير وأطلعهم على غامض الأسرار ودقائق الأفكار وأن علمنا بالنسبة إلى علمهم وحلمنا في القياس إلى ثباتهم وحملهم كنيسة علم الفلاح المغتر إلى علم الطبيب المعبر بحسن النظر قال العفريت أخبرني بذلك يا شيخ المصاليث (قال الوزير) أخبرني شيخ كبير انه رأى في منامه فلاح كأنه خرج من بطنه مفتاح فلما أصبح الصباح جاء إلى رجل من أهل الصلاح يعبر المنامات وكان ذا كرامات فقص عليه رؤياه وطلب منه تعبير ما رآه فقال له يا رئيس هذا منام نفيس لا أذكر ما فيه من تعبير إلا بدينار كبير فحصل له بشارة فناوله ديناره فقال بولد لك ولد ذكر يكون سبباً للفتوح والظفر وكان له زوجة حامل بقي لها أيام قلائل فولدت أيمن غلام بعد ثلاثة أيام فاستبشر الفلاح بالظفر والنجاح ثم بعد مده حصل الفلاح شده من مرض آلمه وأصاب قدمه فجاء إلى معبر المنام وشكا إليه الآلام وقال ألمي في قدمي ضاعف همي وأضعف هممي فقال له الطبيب لا بأس يا حبيب هذا داء هين وعلاجه بين أعطني ديناراً ثانياً أصف لك دواء شافياً فأعطاه ما اشتهى واستوصفه الدواء فقال ضمده بعجة بيض كثيرة الإبراز وضع عليه عسلاً مسخناً على النار ففعل ذلك فبرئت قدمه وزال بالكلية ألمه ففكر الفلاح في فعل المعبر الطبيب وقوله المصيب وأمره العجيب فأنه بأدنى عبارة عير المنام وبأوهى إشارة أزال الآلام فرأى الراحة في ترك الفلاحة والاشتغال بعلم الطب والتعبير فانه أمر هين يسير وبأدنى أمر حقير يحصل المال الكثير فباع آلات الزراعة وعزم على تعاطي ما في الطب والتعبير من صناعه وجمع كتباً ودفاتر وكراريس محزمة مناثر ووسع أكمامه ووضع على رأسه عمامة كغمامة وجميع عقاقير وأوراق وبسط بسطه في بعض الأسواق وأشار على لسان مخبر أن المكان الفلاني فيه طبيب معبر وهو أستاذ الزمان وعلامة الأوان وتلامذة في الطب حكماء اليونان وفي التعبير ابن سيرين وكرمان وتصدر كابي زيد وساسان عاملاً بما قاله شيخ البيان وهو:
الطب أهون علم يستفاد فطر ... بين الأنام به طير الزنابير
واجمع لذاك كراريساً منثرة ... وجملة من حشيش من عقاقير

رضع على الرأس بقياراً تدوره ... كقبة النسر في وزن القناطير
واجمع معاجين من رب تخلطها ... واسحق سفوفاً واكحال العواوير
وسم ما شئت من أسماء مغربة ... كالسند والهند والسرحا وخنفور
وقل من الهند جا هذا ومن عدن هذا وهذا أتى من ملك فغفور
وذا من البحر بحر الصين معدنه ... وذا من البربر المدعو وبيربور
فإن رأيت بالاستسقاء ذا ورم ... فقل تورم من لسع الزنابير
إن أقشعر فقل برد عراه وأن يحم قل حره وهج التنانير
وإن أتاك مريض لا تخف وأشر ... بما ترى من دواء دونه البوري
فأن يعش قل دوائي كان منعشه ... وإن يمت قل أتاه حكم مقدور
كذلك الرمل والتنجيم خذه على ... هذا المثال وخض في علم تعبير
فإن أصبت فقل علمي ومعرفتي ... وفي التخالف قل ذد المقادير
وإن رأيت فقيها فر منه ولا ... تنطق يخطئك في فسق وتكفير
وأنت تحتاج في هذا وذاك إلى ... ذوق ومعرفة مع حسن تدبير

فاتفق أن زمام خليفة الأنام رأى في المنام شيأ هاله وغير حاله فحصل له في رأسه صداع وفي فؤاده أوجاع فسمع بهذا الربع الجديد وأنه أستاذ مفيد فأرسل إليه وعرض ما رآه عليه فقال هذا منام يدل على خير وأنعام وبقاء ذكر الزمام على الدهر والأعوام ولكن لا أعير هذه الأحلام إلا بدينار تمام فناوله ديناراً وأظهر استشاراً فقال له يولد لك غلام بعد ثلاثة أيام فضحك الزمام من هذا الكلام وقال يا أمام أنا رئيس الخدام ظواشي بلا شي لا زوجة ولا سرية ولا آلة ولا شهية فمن أين لي هذه السعادة ولا فرحت بحسن الحسنى فأنى تحصل هذه الزيادة فلا تسخر مني وكف كلامك عني وأخبرنيبتعبير هذا المنام ودع عنك الملام فقال حقاً أقول وأنا جربت هذا المقول وقد عبرت لك هذا التعبير ولا ينبئك مثل خبير فقال الزمام يا أخي دع هذا المقال فإن وجود الولد مني محال وأنا رجل بي وجع وما بقي في منتجع فقال وماذا تشكو وألمك في أي مكان هو فقال في فؤادي أوجاع وفي رأسي صداع فقال يا زين من فاخر أعطني ديناراً آخر أصف لك أيسر دواء يحصل لك منه العافية والشفاء فدفع إليه الدينار وطلب منه دواء الدوار وما بفؤاده من ألم أورثه الوهج والضرم فقال يا أبا الفيض ضمد رجلك بعجة بيض مضافاً إليها عسل مشتار وليكن ذلك كشتار وليكن ذلك مسخناً بالنار فاستشاط الطواشي غضباً وفار كالنار شواظاً ولهباً وعرف أنه جاهل وعن طرق العلم غافل فأدبه التأديب البالغ ورده إلى ما كان عليه مكن منادمة السالغ واستمر على كلاحته بعد رجوعه إلى فلاحته (وإنما أوردت) هذا المثال يا غول الأغوال لتعلم أننا إذا اشتغلنا بمناظرتهم اشتظنا في محاورتهم لأنه في دقيق الأسرار وعميق الأفكار وتحقيق الأنظار لا يقاوم أحد جنس الإنسان فكيف يستطيع الجان معارضة من أيده الله تعالى برفيع المعاني وبديع البيان فإذا فقابلناهم في المباحث بالمعارضة تعود مسئلتنا علينا بالمنقضة فلما رأى العفريت خور ذلك الصفريت وأنه نكل عن المقاومة ونكص عن المصادمة خاف أن تكون آراء الوزراء تبعاً لرأيه في عدم لقائه وظنهم مستحسنين لدهائه مستصوبين لآرائه فأرخى عنان الكلام ليقف على ما عندهم من مرام وكان عزمه المباحثه والمعابثة والتصدي للأقدام وإلقاء المسائل بحضرة الخاص والعام لكن مشى مع إمام الوزراء ليرى ما هم عليه من الآراء (فقال للوزير) نعم ما قلت أيها الوزير والرأي ما سرت من الرأي والتدبير فإن الله تعالى خلقنا من النار وطبعها الإهلاك والدمار وإحراق كل رطب ويابس وبارد وحار والظلم والخسار والإفناء والجهل والبوار وطلب الرفعة وعدم القرار وافساد ما تجده من غير فرق بين نفاع وضرار وخلقهم من تراب وإليه الأياب وطبعه الحلم والسكون والترابية والركون والعلم والعدل والإحسان والفضل ومع هذا فلو خرجوا عن مادة ما جبلوا عليه وتلبسوا بغير ما ندبوا إليه ولو أدنى الخروج ورعوا ما للمارج من مروج لتحكمنا فيهم كما نختار وللعبنا بهم كما يلعب بالكرة الصغار ونحن إذا خرجنا عن دائرة طبعنا وتخالفت أوصاف أصلنا وفرعنا ونقلنا إلى دائرة الخبر عن جادة الشر أقدام صنعنا لا يقع لنا منهم صيد ولا يؤثر لنا فيهم سيف كيد فإذ عجزنا عن الإيذاء في الظاهر لم يبق إلا الأغواء من باطن الضمائر والتعلق بأسباب ما نصل إليه من الحيل البواطن والظواهر فقد قال الحكماء وأهل التجارب ومن ابتلى من مكايد الدهر بالنواثب ومنى من ذلك بالعجائب والغرائب إذا تصدى الإنسان وقصد غريمه وعجز عن مقاومته في الحكومة والخصوصه فعليه يهدم ذلك الجبل بمغناطيس الخداع ومعاويل الحيل ويستعين في ذلك بأهل النجدة وذوي البطش الشديد لشدة فيتوصل بهم إلى حسم ذلك الداء ولو كانوا أعداء غير أو داء فتسلط بعض الأعداء على بعض من أيمن سنة بل من أحسن فرض ولقد أحسن من قال:
تغرقت غنمي يوماً فقلت لها ... يا رب عليها الذئب والضبعا

ولا يوجد في هذا الباب لجمع شمل الأعداء أوثق من تفريق الأحباب ومصداقه قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً وما قويت أعضاد الإسلام إلا باجتماع كلمة الأنصار والالتئام ولهذا قصد من نافقوا لما ترافق الأنصار وتوافقوا أن يتشاققوا ويتفارقوا فأنزل عليهم واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وهذا الفن يحتاج إلى فكر عميق ومكر دقيق وعقل كبير وفعل كثير ومصيب رأي وتدبير وسلوك في طريق اصطناع كما فعلت الفأرة من الخداع فقال الوزير ينعم مولانا الباقعة بتحقيق هذه الواقعة (فقال) سمعت أن بعض التجار كان له بستان في دار وإلى جانبه حاصل فيه المغل المتواصل وفي ذلكالحاصل وكر لشاطر من شطار الفار له عدة منافذ وإلى الجهات طرق ومآخذ أحدها إلى جهة البستان والبستان كأنه جنة رضوان فكانت الفاره ذات الشطارة والمهارة تأخذ من الغلات وأطايب الطعامات ما يكفيها غداء وعشاء صيفاً وشتاء وفي وقت المصيف تخرج من ذلك المنزل اللطيف إلى جهة البستان فتتمشى بين الغدران وتترقى إلى أعلى الأغصان وتتمرغ في المروج والرياض وتتبخر في ظلال الدوح والغياض ثم تعود إلى وكرها وتأرز إلى حجرها وكان عيشها هيناً وأمرها رضياً ومضى على ذلك دهرها وانقضى في أرغده عيش أمرها ففي بعض الأحيان خرجت على العادة للتنزه في البستان فمر بسكنها أفعوان فرأى مكاناً مكيناً وسكنا حصيناً بالأطعمة محفوفاً وبطيب الأغذية مكنوفاً فدخله واستوطنه وترك ما سواه من الأمكنة فلما رجعت الفارة إلى مكانها المألوف وجدت به العدو الظالم العسوف فأحاط بها من الأمر المخوف مما يحصل من الذئب إذا عانق الخروف فأسرعت إلى أمها وشكت إليها نوائب غمها وما دهمها من نوازل همها فقالت أمها لا شك أنك ظلمت أحداً أو وضعت على ما ليس لك يداً أو تعديت الحدود أو عاملت مغرماً بالصدود فجوزيت بإخراجك من وطنك وإبعادك عن مقرك وسكنك ومن ظلم ضعيفاً عاجزاً سلط الله عليه قوياً لاكزا وقد رأيت يا أنسي في حديث قدسي اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصر أغيري فلا تطيلي الكلام ولا تتصوري أنك ترجعين إلى مالك من مقام ولا طاقة لك على مقاومة الثعبان فدعى تعب الخاطر واطلبي لك مأوى غير هذا المكان فتوجهت إلى ملك الفار والجرذان وشكت ما بها من ذلك الشيطان وقالت أنا في خدمتك ومعدودة من رعيتك عمري على ذلك مضى وزماني في إخلاص العبودية انقضى وأبي كان في خدمة أبيك وجدي عبد جدك وذويك لم نزل في رق الطاعة متمسكين بحبل سنة الولاء مع الجماعة كل ذلك لأمر يدهم أو نازلة تقدم فنستدفع ذلك الخطيب بخطابكم ونستكفي هول ذلك النازل بجنابكم والآن لقد وقعت حادثه بالباب عابثة وبالأفكار عائثة وللأرواح كارثة وذلك أني خرجت من مسكني لطلب قوتي ثم رجعت إلى مبيتي ذو فوجدت ظالماً قد استحوذ عليه وغاصباً قد دخل إليه وهو ثعبان مالي به يدان وقد تراميت على جنابك أستدفع هذا البلاء بك فقال ملك الفار يا سائبة الأشفار من ترك ماله سائباً فقد جعله ذاهباً وقال ذوو الأعتبار وأولو الأبصار ينبغي بل يجب على الدزدار وحافظ القلعة والحصار أن تكون رجله ذات عرج وانكسار لئلا يكون دينار وجوده خارج الدار وأنت أيتها الفارة فرطت في أمرك والمفرط أولى بالخسارة وقد خاب منك المسعى لأنهم قالوا ظلم من أفعى ومن ظلم الأفعوان أنه لا يكد نفسه في حفر مكان وتهيئة مبان ومغان ولكنه حيث وجد مسكناً اتخذه لنفسه مقاماً وطناً وهذا قد عرف مكانك النزه وهو جبار شره فلا يزايله ولا يقابله ومن أين يلتقي مثل هذا المأوى وفي المثل عرف الكلب بيت العميا فالأولى أن ترتادي لك موضعاً فتتخذ به مقاماً ومرتعاً فقالت الفارة وقد تأثرت لهذه العبارة يا أيها السلطان وملك الفار والجرذان فما فائدة خدمتي وانقياد أبي وطاعة جدي الكبير الأبي وإذا كنتم في الدنيا لا تنفعونهنا وفي الآخرة لا تشفعون لنا ولا تدفعون في الأولى صدامات الدواهي والبلا ولا تحمون الأوداء عن مواطئ أقدام الأعداء ولا تدفعون في الأخرى نوائب الطامة الكبرى ولا تحلونا بما لكم من الاستيلاء غرف الدرجات العلى فأي فائدة لكم علينا ونعمة منكم تسدي إلينا وهل أنتم إلا كما قيل في الأقاويل:
إذا لم يكن لي منك عز ولا غنى ... ولا عندما يغتالني الدهر موئل
فكل التفات لي إليك تكرم ... وكل سلام لي عليك تفضل

فقال ملك الفار يا قليلة الاستبصار العديمة العقل والأفتكار إذا اجتهدنا في ردك إلى مكانك وكنا على الثعبان كجندك وأعوانك فهل تشكين يا مسكينة وبنت مسكين في أن الأفعى تتوجه إلى سلطانهموتخبره بشأنها وأنها أخرجت من مكانها وتستنصر بأعوانه وتنتصر على سلطاننا بقوة سلطانه وتستجيش وتستغيث وتغري علينا ذلك الخبيث كما فعل الرافضي العادي العلقمي البغدادي حين دعا التتار الطغام لخراب مدينة السلام ومن بعده الذميم نابذة الإمام وقصد دمار ديار الشام ولا طاقة لنا بعساكر الحيات ونحن في أحيائهم كعساكر الأموات فتذهب الأموال والأرواح وتتعب القلوب والأشباح ومع هذا الأمر المعلوم حصول القصد والظفر موهوم فبالله اتركيني واذهبي واطلبي لك مسكناً غيره ولا تتعبي فقالت هذا منزلي القديم وميراثي عن سلفي الكريم وأين أذهب وفيمن أرغب أن لم تغثني هلكت وانذهلت وانسلبت فقال لا تطيلي القول فلا قوة لنا ولا حول فلما أيست الفارة الغدارة تركت سلطانها وذهبت وسلكت طريقها وانقلبت وأنشدت فأرشدت:
أبعين مقتفر إليك نظرتني ... فحقرتني وقد فتني من خالق
لست الملوك أنا الملوك لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق

ثم غاصت في بحر الفكر وتشبثت بأذيال المكر واستعرضت على مرآة أفكارها وجوه الحيل واستورت من زناد آرائها سرر النظر في الجدل وأخذت تطوف في أكناف البستان فعثرت في طوافها على ذلك الأفعوان نائماً تحت ورده متطوقاً في أهنى رقدة فرقت غصناً من الأغصان فلاح لها الباغيان قد سقى البستان وهو تعبان متكئاً في الرياض على مسكبة ريحان فاغتنمت الفرصة ونزلت إليه وقربت منه ودارت حواليه ثم وثبت على وجهه وكان نائماً فانتهض مرعوباً قائماً فذهبت واختفت وبذا القدر اكتفت فرجع ونام وغرق في المنام فدخلت في قميصه ورقصت فاستيقظ متعجباً منزعجاً فرآها فهربت ونكصت ثم عاد وأتكا بعدما وغضب وانتكى فوثبت على وجهه وأدخلت ذنبها في أنفه فنهض مستيقظاً مجداً فرآها واقفة لا تتعدى فقصدها فهربت ثم رجع فآبت وأتت فنام في مسنده فقربت منه وعضته في يده فانكته وآلمته وهجته بما أضرمته فطفر من مرقده وأخذ غصناً بيده وقصدها وقد ذاق نكدها فهربت غير بعيد فرأى وجهها من حديد فتبعها فمشت ثم وقفت وارتعشت تطمعه في صيدها وهو غافل عن كيدها فتبعها وهي قائده حتى انتهت به إلى الحية الراقدة فعندما رأى الثعبان نسي أفعال بنت الجرذان فقتل تلك الأفعى ولم يخب للفأرة مسعى (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتقفوا منها على طريق النكاية وليعلم الضعيف إذا كان له أعدا كيف يوقعهم في مصايد الردى وإذا استعمل اللبيب العقل المصيب والفكر النجيب وساعده في ذلك قضاء وقدر نال ما أمل وأمن ما حذر وأفلح أمره ونجح فكره وهذا إذا كان الضعيف مظلوماً والقوى ظالماً غشوماً كما أنتم عليه مما توجهتهم إليه من معاداة شيخ الشام المستحق للتجبيل والإكرام والتعظيم والاحترام فانه على الحق وأنتم ظالمون وقاصد الصدق وأنتم كاذبون يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون فهذا أمر مشكل وداء معضل فأني تصح أبدانكم وقلوبكم مرضى ومن يحبكم وأنتم محسوبون من البغضا وكيف تقتفون وأنتم على الباطل وفي أي ذوق يحلى ما منكم من عاطل وأنا أخاف أي أجلاف أن تسفر هذه القضايا بعد ارتكاب البلايا وتحمل المشاق والتعب باقتحام موارد الهلاك والنصب عما هو وأشد وأنكى وأحر لعينكم وأبكى كما أصاب مضيف العراق مر زوجته بيدة ذات النطاق حين بدا منها الزنبور على حافة التنور فقال الوزير للعفريت أفدنا هذا الصوت يا ذا الصيت (قال) نزل في بعض الرستاق من بلاد العراق فقير نحيف على مسكن ضعيف وكان بعض أيام الخريف والبرد الشديد يقطع الحديد فبعدما طبخوا وتعشوا سجروا النار ليتدفوا فبقي كل من الحضور يتدفأ على جانب التنور فقعد الضيف مقابل زوجة المضيففظهر من تحت نطاقها وجه ذلك الحر الظريف ولاح من تحت السجيف كأنه قرص أو رغيف أو قند عسلي نظيف أو خد جندي نتيف أو القمر شق نصفين أو بدر لاح من تحت ذيل حنين فلما أحس بحرارة النار وظهر على وجهه الاحمرار صار يتلمظ ويتحلى ولسانه من الحر والدف تدلى فلمحه الضيف وهو يتثائب فتمطى قائم رمحه ونحوه قام وتصاوب وقد قيل في الأقاويل عضوان متعاونان وهما اليدان وعضوان مختلفان وهما الرجلان وعضوان متتابعان وهما العينان وعضوان متصاحبان وهما اليد والفم وعضوان متباغضان وهما الأست والأنف وعضوان متوافقان وهما العين والأبر وكان الضيف يسارقه النظر وبترشف شفاهه بلسان الفكر ويود في مطالعة جبينه لو أتبع العين بالأثر وجعل يتغنى ويترنم ويهيم بما يتكلم:
ليس في العاشقين أقنع مني ... أنا أرضى بنظرة من بعيد
فتنبه أمام هواء الهاجد وجعل يقوم ويقع وهو راكع ساجد ويسلم على محرابه أحسن التحيات ويتشهد رافعاً إصبعه بالسلام والصلوات ثم غلبته الحيرة فاخذ يجلد عميره فنظر صاحب البيت فرأى الضيف غارقا في ذيت وذيت مشغولاً بكيت وكيت متأملاً معنى هذا البيت:
وعند الملتقى انكشف المغطى ... تثاءب كسها أيرى تمطى

فأراد أن ينبه ربة البيدار على هذا العثار لتستر حالها وتغطي مالها بطريقة لا يؤبه إليها ولا يقف ضيفها عليها فمد يده إلى سفود وحرك به النار ذات الوقود فعلق من النار به في الطرف وما شعر بذلك أحد وما عرف ثم لعب ساعة بذلك العود وأوصل في خفية طرفه إلى ذلك الشق المعهود لتيقظ فتتحفظ فشوظها وأجرها وأحرق رأس السفود بظرها فالتأمت وانضبطت واحترقت واختبطت وتحركت بزعجة فضرطت فزادت فضيحة الأنف والأذن ولم يحصل من تلك الحركة إلا الخجالة والغبن (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتتأملوا في الغايات والنهايات فإن من لا يراقب ما يأتي في العواقب ما الدهر له بصاحب وهذا الرجل الصالح القيم الراجح ما فاق أقرانه وساد أصحابه وإخوانه إلا بشيء تقدم به عليهم وتحقق موجب تقدمه لديهم وذلك درجات العلم والعمل فبذاك ساد الرجل وكمل وقال منزل الآيات وخالق البريات يرفع الله الذين آمنوا ومنكم والذين أوتوا العلم درجات وقد برع في أنواع العلوم وأطلع على حقيقتها من طريقي المنطوق والمفهوم وأنتم عن طريقه غافلون وعن حقيقة ما هو عليه ذاهلون واعلموا أن طريقه واحدة وهي الحق وطرقكم متعددة وكلها فسق وأتباعه على اتباعه متحالفون وأنتم في طرائقكم القدد متخالفون فقد قال الله تعالى في محكم تنزيله وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال بعض أهل الفضل وكلامه في بيان الحق فصل ما ناظرت ذا فنون إلا غلبته وما ناظرني وذو فن إلا غلبني وإنما أخشى أن ناظرت هذا الرجل الكامل الفاضل أن لا أحصل منه على طائل ويظهر فضله قصوري فينهدم بنيان قصوري فقال الوزراء بعد أن اتفقت الآراء كلمة واحدة متفقة متعاضدة نعم ما رأى مولانا الرئيس صاحب التدليس وإسناداً التلبيس وأنجب أولاد إبليس ونحن أيضاً يا باقعه نخشى عاقبة هذه الواقعة ولقد جرى مثل هذا المجرى بين بزر جمهر ومخدومه كسرى في قضية فاق فيها الوزير مخدومه الكبير فسأل العفريت وزراء عن بيان ذلك الشبان كيف كان (فقالوا) بلغنا أيها الخنس الملقى الوسواس في صدور الناس أن بزر جمهر الوزير كان ذا علم غزير ورأى وتدبير وبديهة جواب تفحم الكد والتفكير وكان حكيم زمانه وعليم أوانه وممن فاق في الفضل والحكم سائراً أترابه وأقرانه وكان مقرباً عند مخدومه يزيد في كل وقت في تكريمه وتعظيمه وتوقيره وتفخيمه ويصغي إلى نصائحه ويعد قربه من أعظم مناجحه ويصبر على كلامه الصادعووعظه القارع ونصحه القارع لما فيه من الفوائد والمنافع والحكم والبدائع وقد قيل من أحبك نهاك ومن أبغضك أغواك فكان الوزير يبادر قبل سائر الخدم في وظائف الخدم ويعجل من الليل والظلم حتى كأنه يوافق النجم أو يسابقه في الرجم ومع ذلك كل يوم يجد مخدومه راقداً في النوم فيقرعه بالغفلة وينقم عليه هذه الفعلة ويعلن بالندا وينادي في الملا فيقول أفق يا محجوب وتيقظ حتى تظفر بالمطلوب فمن باكر نجح ومن فلس المطلوب أفلح ومن تخلف في النوم سبقه إلى المنزل القوم وفاته المطلوب ولا يدرك المحبوب واترك لذة الكرى فعند الصباح بحمد القوم السرى وكان كسرى يجد لهذا الكلام أنواعاً من الآلام لأنه كان يطيل السهر إلى وقت السحر عاكفاً على المدام وسماع الأنغام ومغازلة الغزلان ومعاقرة الندمان وإحياء الليل عمر ثان فإذا نام واستراح امتد نومه إلى الصباح فلا يوقظه إلا عياط الوزير وصراخ ذلك الصائح النذير فلما طال عليه المطال وغلب عليه من ذلك الملال أرصد للوزير في الطريق من منعه عن التبكير بالتعويق فتصدى له الرصد وأعروا رأسه والجسد وأخذوا قماشه وسلبوا رياشه فرجع إلى بيته مكرهاً ولبس ثياباً غيرها فأبطأ في ذلك اليوم وتخلف في الخدمة عن القوم ولم يجيء إلا وقد استيقظ كسرى من النوم وهو جالس في صدر الإيوان وحواليه مباشر والديوان وسائر الوزراء والأركان وعامة الجند والأعوان كل في مقامه ضابط زمامه فأدى بزر جمهر وظائف الخدمة على عادته ووقف في مكانه مع جماعته فقال كسرى ما دعا مولانا الوزير في هذا اليوم المنير إلى التخلف والتأخير وترك التبكير وإنشاده بالتبكير قول الشاعر الكبير:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير

فقال إن الحرامي عارضني أمامي وقصدني في ظلامي فأخذ شاشي وسلبني قماشي ورياشي فرجعت إلى كناسي وجددت زينتي ولباسي فهذا سبب تأخيري وعدم تبكيري وموجب تخلفي عن وعظي وتذكيري فقال كسرى ما أفادك التذكير إلا الغرامة في التبكير ولولاه ما سلب القماش ولا ذهب الرياش ولا قام الحرامي بالمعاش فأين الفلاح في القيام قبل الصباح فقال بزرجمهر في الحال وقد أصاب في الجواب ليس ذلك كذلك يا إمامي وإنما بكر قبلي الحرامي ولم أباكر أنا بالنسبة إليه فرجع فائدة تبكيره مني عليه فعجب كسرى من خطابه وسرعة بديهته في جوابه (وإنما أوردت) هذا القول بين يدي إمامنا الغول أو شيخ المردة الهول ليعلم أن كسرى وإن كان عالماً وفاضلاً وحاكماً كما أذعن لكلام وزيره واتبع رأي مشيره وانصف من نفسه إذ أدرك الوزير بفهمه ما لم يدركه هو بحسه فاسترسل معهم العفريت فيما هم عليه والتخلف عما ندبهم إليه وقال فبأي الحبائل نصيدهم وبماذا نكيدهم فقال أحد الوزراء بالنساء فإنهن زمارة المحن وطبل الفتن والطبل لا يضرب تحت الكساء هن أعظم وسائلنا وأحكم أوهاقنا وحبائلنا وناهيك ما قاله العزيز العليم الذي جبلهن على غير تقويم وفطرهن على الكيدان كيدكن عظيم وجعل كيدنا بالنسبة إلى كيدهن سخيفاً فقال أن كيد الشيطان كن ضعيفا وقال سيد السادات ورئيس الرؤساء ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال الولي ومن قدره الرفيع على:
إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شر الشياطين
وقال من أجاد في المقال المسامع بالأقوال حيث قال:
وما حز أعناق الرجال سوى النسا ... وأي بلاء جاء لسن له أهلا
فكم نار شر أحرقت كبد الورى ... ولم يك إلا مكرهن لها أصلا
وإنهن أشرك الأشراك وأوهاق الأزهاق واسواق الغساق ومصائد المصائب ومراصد النوائب وحسبك يا ذا الدها مأوى ذلك الحكيم حين سها وأعن لزوجة لرئيس إذ نبهته على ما عنه لها فسألالعفريت عن تلك الحالة وبيان ما فيها من المقالة (فقال) ذكر أن حكيماً من العلماء وعالماً من الحكماء أولع بضبط مكر النساء وشرع في تدوينه صباحاً ومساءً وصار يجول البلدان ويطالع لذلك على كل ديوان ويكتب ما يكون وما كان ويحرر من ذلك الأوزان بالمكيال والميزان فنزل في بعض الآناء على حي من الأحياء فصادف ذلك التعس بنت الرئيس فتلقته امرأة ظريفة ذات شمائل لطيفة وحركات رشيقة خفيفة وقابلته بالترحاب وفتحت للدخول الباب فاقبل عليها وترامي لديها فأنزلته في صدر البيت وأخذت معه في كيت وكيت كأنها معرفة قديمة وحديثة كريمة وكان زوجها غائباً قد قصد جانباً فشرعت في نزل الضيف لئلا تنسب إلى بخل وحيف فأخذ يطالع في ديوانه ويسرح سوائم طرفه في ظرف بستانه يشغل أوقاته ويتفكر ما فاته ليتعاطى إثباته فقالت له ضرة الريم ما هذا الكتاب العظيم أيها الفاضل الحكيم فقال شيء صنعته وكتاب ألفته وهو في الغربة أنيسي وفي الوحدة جليسي فقالت يا ذا الحكم والحلم ما فيه من فنون العلم فقال سر مصون وأمر مخزون ودر مكنون لا يجوز إبداؤه ولا يحل إفشاؤه فقالت يا ذا الشكل الظريف والصوف اللطيف والعلم المنيف هذا التعريف لا يليق بالتصنيف فإن فائدة التصنيف الاشتهار وثمرة العلم الانتشار ودونك ما قاله الكئيب في مخاطبة الحبيب:
أذقني من رضابك يا حبيبي ... فما للشهد دون الذوق لذة

وما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن أن يعلموا فقال الأمر كذلك يا زين الأمور ولكن هذا علم يصان عن ربات الخدور فقالت إن الله الجليل الذات الجميل الصفات ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وما منع نساء الأنصار الخيرات الأطهار أن يسألن المصطفى المختار عليه أفضل الصلاة والسلام عن غسل المرأة في الاحتلام ولا أن يلجن معه المخاضة في السؤال عن الحائض والمستحاضة فجمع في ميدان الامتناع وأصر على الممانعة والدفاع وقال يا حصان هذا سر يصان لا سيما عمن في دينه وعقله نقصان فأغراها هذا المقال على الإلحاح في السؤال وزادت في اللجاج ومارت في الاحتجاج وترامت لديه وأقسمت بدلالة الدال عليه فقال هذا علم ما أسبق إليه جمعت فيه مكر النساء ومن أجاد منهم ومن أساء ومن تعاطت لطائف الحيل وخفي الفعل وخفيف العمل ومن دعت بدعاها حتى بلغت مناها ومن وقعت في الشدائد فاحتالت بدقيق فكرها لتلك المكايد وتخلصت من شرك المصايد فلما سمعت ما قال ووعت سكت وجهها وأعربت تقهقها وتمايلت تمايل القضيب وقالت سر غريب وأمر عجيب وضيعة عمر حاصل فيما لا تحته طائل وشغل سر وبال في جمع أمر محال لقد ركبت المشاق وكلفت نفسك ما لا يطاق ونسفت الرمل بالكربال وغرفت البحر بالغربال فإن مكر ربات الخدور لا يدخل ضبطه بسفر تحت مقدور فقال لها أنت غبية وعن هذا الكلام غنية وإن كنت فاضلة ذكية أنا قد بلغت في ذلك الغاية وأحطت به بداية ونهاية ووقفت على نجمله ومفصله فلم يشذ عني شيء من آخره وأوله فسلمت وما تكلمت وغالطت وما بالطت في هذا المقام شيءً فريا ونسياً منسيا ثم نزلت من برج المنازلة وأخذت تلك الغزالة في المغازلة وانتهى بها المقال إلى هذا السؤال فقال أيها اللبيب الماهر ما معنى قول الشاعر:
يهددني بالرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالثفالرمح الواحد قامته والرمح الثاني ما حوته راحته. وقل يا أبا الحارث ما هو الرمح الثالث فقال: ذلك النبيه قبل ما يظهر من تثنيه فإن هزلين أعطافه وسرعة انعطافه تراه العينان كأنه رمحان وقيل ما يظهر ذلك المهفهف عند هزه الرمح المثقف فإنه يتراءى للعين الشكل الواحد اثنين ولهذا نظير في اليوم المطير وأحسن مثال عند رشق النبال وفي تدوير المحجن وفتل الصولجان عند سرعة الدوران. وقيل كأن معه رمحان فعده واحداً وهما اثنان وعندي يا دمية القصر أنه ليس المراد الحصر وإنما المراد التكثير يا ضرة البدر المنير لأن عطفه كلما انهز هزه حصل في صدر المتيم وخزه ورمح قامته يثنى ويتقصف فتارة يميل وأخرى في بتثقيف ولطعن العشاق يخطر ويتهفهف فالمتيم لا يبرح من قده في طعنات كما لم يزل من سهام جفنه في محزات ووخزات وهو من المجاز المرسل إذ المراد الطعن من ذلك الاسل وكأن قصده أن يسرد الأعداء إلى غاية ويبلغ ما لا نهاية فيقول ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع فلم تسع القافية:
يا من بوصلها شافيه ... ورضابها عافيه
ونظير هذا يأجره إن تستغفر لهم سبعين مرة، وليس المراد الحصر يا رقيقة الخصر ويا عين العين في السبعين حتى لو زاد على هذا العدد لغفر لهم الواحد الصمد بل المراد أنه لا يغفر لهم ولو زاد فقالت: يا صاحب البيان وربه إنما عنى بالرمح الواحد زبه فأفصحت له بالكلام عما لها من مرام كأنها ثالثة بنات همام فخجلت عين الرجل واستحت لما أفصحت عن مقصودها وأوضحت فقالت: حبيت وحييت لا تستح واصنع ما شئت فحركت بهذا الكلام العابث من الشيخ الحكيم الرمح الثالث فمد إليها يد الفاجر العائث وذهب لب ذلك الرجل الحازم، وراودها مراودة العازم الجازم، وصارت تلك اللاعة بين الأطماع والمناعة تنثني وتنقصف فتارة تتثقف وأخرى تتخسف وبينما هما في المجاذبة جاء زوجي وهو عنيف عنيد فسلب الفرار وطلب الغرار ووقع ذلك الحكيم النبيه في فتنة فيها الحليم سفيه ودهمه ما هو أهم مما هو فيه من دواهي العشق ودواعيه ونسى العشق والعشيق وطلب الخلاص من المضيق وأظهر صورة حاله ما عناه الشاعر في قاله:
سألت مجربا طبا عليما ... خبير بالوقائع مستعاذا
وقلت الشهد أحلى أم رضاب ... أم النيك الذي للروح حاذي

فقال وحق ربي النفس أولى ... إذا جر الجزا هذا وهذا
واشتغل الحكيم بنفسه وخاف حلول رمسه وكان في طرف البيت صندوق مقفل عليه ستر مسبل ففتحت له الصندوق ورعت له بإخفائه عن زوجها الحفوق وأمرته بولوجه ليكفي من زوجها شر خروجه فشكر لها صنعها وامتثل وانسل إلى ذلك اللحد الضيق فأقفلت عليه أغلاقه وأحكمت وثاقه ثم تلقت زوجها بالترحاب ودخلت معه في الأطعمة من كل باب وقدمت له ما أكل وانسدحت له فركب ووكل ثم قالت أخبرك يا حبيب بوقوع أمر غريب وحادث بديع عجيب وهو أنه قدم حكيم فاضل حليم عالم عظيم فأكرمت نزله، وبوأت منزله، وكان معه كتاب فيه العجب العجاب فسألته عما حوى فقال مكر النسا فقلت له هذا شيء لا يحصى ولا يحصر ولا يجمعه ديوان ولا دفتر فلم يسلم إليّ ولم يعول علي وذكر أنه أنهاه ولم يدع من مكر النسا فنا لا أوعه إياه فما وسعني إلى أني غازلته وداعبته وهازلته فطمع من لين محاورتي في حسن مزاورتي وطلب مني ذلك العقوق ما هو أعز من بيض الأنوق، وبينما نحن في العيش الرغيد وإذا بك أقبلت من بعيد كل ذلك والحكيم يسمع قولها وما تخبر به بعلها فلما سمع الزوج هذا الكلام اضطرب وزمجر فلم يبق الحكيم مفصل إلا ارتجف فقال هاهو في الصندوق مختفي فخذ ثارك منه واشتفي فنهض وصاح هاتي المفتاح فعلم الحكيم أن عمره ذهب وراح، وكان سبق من زمان، بين الزوجينعقد رهان أنه من فتح منهما الصندوق غلب وأقام لصاحبه بما طلب فلما ذكرت له حكاية الحكيم تذعنه عقد الرهن القديم وذهل لشدة الغيرة ووفور الحيرة وتوجه إلى الصندوق فبمجرد ما فتح القفل المغلوق صاحب عليه غلبتك يا معشوق فأد ما ثبت لي عليك من الحقوق فتذكر عقد المراهنة ولم يشك أن كلامها كان مداهنة فضحك بعد ما كان عبس وألقى المفتاح من يده وجلس ولعنها ومكرها ولعبها وفكرها ثم اصطلحا وانشرحا وزاد انشاطاً ومرحاً ثم خرج في ضروراته وتوجه إلى حاجاته فأقبلت تلك العروس إلى الحكيم المحبوس وأفرجته من الاعتقال وذكرت له هذه المناقلة والانتقال وقالت أيها الحكيم العظيم هل كتبت هذه المناقلة كتابك الكريم فقال لا والله الرحمن الرحيم وإني قد سلمت إليك وتبت إلى الله علي يديك (وإنما أوردت) هذا المثال لأعرض على شيخ السعالى وإمام الأغوال أن النساء في هذه الحركة أعظم متشبث وأقوى شبكة وهن لسلب اللب من الرجال أضعاف فتنة المسيح الدجال خلقهن أعوج وخلقهن أهوج ورأيهن غير سديد والرجال لهن أذل عبيد وإن كن ناقصات عقل ودين، فهن الكاملات في سلب العقل المتين والفكر الرزين وأذهب للب الرجل الحازم والعقل السديد الجازم وهل أخرج آدم من جنة المأوى إلا قصة صدمته من قبل حوا وما قتل هبيل قابيل إلا بفتنة الزوجة كما قيل وكذلك قصة من أوئى الآيات فانسلخ منها وقد عرف كل ذلك إبداء وإنها وغالب من عصى الله وأسا إنما كان سبب كفره واخزائه النسا فلا تعترضوا على هذا الرأي المتين ولا تتعرضوا لهذا الرجل فإنه على الحق المبين ولا تقصدوا لمعارضته وسؤاله فربما يكون مجالكم أضيق من مجاله وإنا لا نقدر على مناقشته ويظهر جهلنا وعجزنا عند مباحثته فقال سائر الوزراء هذا الرأي أصوب الآراء فإنا إلى الآن ما بارزناهم بالمخاشنة وإنما كنا نأتيهم بالمخادعة والمحاسنة فنزين لهم الباطل ونجلي لهم العاطل ونشوه وجه الحق ونسود طلعة الصدق إلى أن ظهر هذا الرجل ونحن على ذلك فوقف في طريقنا وأراهم الدرب السالك وعلا شأنه ووضح برهانه ونحن على ما نحن عليه من الإغواء وإلقائهم في مهاوي الأهواء والحرب بيننا وبينهم سجال فلو كاشفناهم بسوء الفعال انكشف لهم زيف نقدنا وبطل ما كنا نسوله بجهدنا فإذا ظهر الحق من الباطل وتميز الحالي من العاطل أخذوا حذرهم وضبطوا أمرهم وداروا بالعداوة ومروا بالملوحة من الحلاوة ثم ظفرنا بهم موهوم ونصرنا عليهم غير معلوم فما نظفر إلا بالندامة ونرضى إذ ذاك بغنيمة السلامة ويستمر هذا العار علينا إلى يوم القيامة وقد قيل:
لا تسع في الأمر حتى تستعد له ... سعي بلا عدة قوس بلا وبر

فعند ذلك استشاط العفريت غضباً وطار شراراً لهذا الاشتعال ولهباً، وقال: لقد عظمتم من شأن الإنسان وأوهنتم بل أهنتم جانب إخوانكم الجان وضيعتم حقوق الإخوان وأبطلتم حكاية السعالى والغيلان ونسيتم فتن جدكم الأعلى الباقية على ممر الزمان ونحن أدق حيلة، وأجل جماعة وقبيلة، وأوسع ذكراً وأسرع مكراً وأقدم وجوداً، وأعظم جنوداً، وأغزر علماً، وإدراكاً وفهماً، ولا أرى لكم همة صادقة ولا عزيمة موافقة وأنا ما قلت لكم ما تقدم من القول إلا لأخبر ما في فرائض علمكم من الرد والعول فلا أقوالكم سديدة ولا أفعالكم رشيدة، ولقد حل بكم الصغار وسطا بكم من الأنس الصغار وأما أنا فلا بد لي من المباحثة والمناقشة والمنابثة والإلقاء للمسائل والأبحاث في الرسائل من غير وسائط ولا وسائل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينه فأعلموا ذلك وتحققوه ثم أمعنوا النظر فيه ودققوه وهذا هو الرأي الذي الذي صممت عليه فليتوجه كل منكم بقلبه وقالبه إليه ويقل في ذلك غثه وسمينه ويلق هجان قوله وهجينه ولا يدخر شيئاً من آرائه فلا بد لي من إلقائه وأعلموا أن الولي الخرار الذي هو إلى جهة جار لو اتفقت الآراء على صرف جريانه إلى جهة أخرى وأن يسد عن هذه الجهة المجرى فإنهم لو قصدوا ذلك من أسفل الواديلسخر منهم الحاضر والبادي، ولا يتهيأ لفاعله ما يتمناه حتى يسد طريق الماء من أعلاه. وأنتم إن قصدتم معالي الأمور وإهلاك رؤوس الجمهور ثم تعمدتم الأراذل وتبدلتم الأكابر بالأوغاد والأسافل فإنكم إذاً أغمار وقد ضيعتم في غير حاصل الأعمار وقد قيل:
إذا كنت لابد مستتربا ... فمن أعظم التل فاستترب
وما اللجين كالرصاص والجروح قصاص ولا يكافأ الربيس إلا بالربيس ولا يقابل النفيس بالخسيس وأي فخر للملوك إذا نازلوا السوقة والصعلوك وقد قيل:
ألم تر أن السيف بقدره ... إذا قلت هذا السيف أمضى من العصا

وما أكتفى صناديد قريش يوم بدر بدون اكفائهم في النسب والقدر وماذا تفيد بيلستكم وتجدي شيطنتكم ووسوستكم وأنتم أولوا الزعاره وذوو الشطارة والدعارة إذا قهرتم من الأنس وعلاكم أضعف جنس وهم أقصر أعماراً ونحن أطواراً لم نزل نصادم الجبال ونقتحم الأهوال ونظهر كما شئنا في باب الخيال ومن قبل جدنا اللعين جادل رب العامين فقال في حق جدهم أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وقال لأغوينهم أجمعني. وقال ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثر شاكرين. وهم يموتون وهو من امنظرين وعلى كل جال نحن أقوى منهم وأجرأ وأعرف بطريق الخبث والمكر وأدرى بالجملة الحكم على الشيء فرع عن تصوره والشخص لا يحكم على شيء إلا بعد تصوره وتقرره وهذا الإنسان إلى الآن لا سبرناه ولا خبرناه ولا عرفناه ولا عرفناه فكيف فكيف تقطعون له بالغلبة وتفضلون علينا مسيره ومنقلبه، وإن لم تفصحوا بالعبارة فقد دللتم على ذلك بالإشارة وكنيتم عنه بالتلميح والكناية أبلغ من التصريح هذا ونحن كم قد أضللنا من حكيم وأذللنا من عليم وأفسدنا من عقائد وعقدنا من فسائد ونصبنا لهم من مصايد وأرصدنا عليهم من مراصد وأبطلنا من طاعات وعطلنا من خيرات وأخللنا من صلوات وأحبطنا من زكوات ومنعنا من حجات وصدقات وضيعنا من ميراث ونفقات وأسقطنا من أعمال الصالحات وكم لنا في الشر من سوق ومن سوق إلى فسوق وإلقاء في حرام وتسربل بمظالم وآثام وكم لنا من إحكام أحكام على القضاة والحكام يستحلون بها السحت والحرام ويأكلون بها أموال الأيتام ويستبيحون بها الدماء والفروج وكم دخلنا فيهم فأخرجنا منهم الإسلام أخفى خروج وكم لنا فيهم من مصائب لعصائب وحواصب مناصب وكتائب نوائب وعجائب نواهب وغرائب نوادب نسلبهم بها دينهم ونمنعهم اعتقادهم الحق ويقينهم وكم لنا في سكونهم إلى الطاعات من حركات وفي ركونهم إلى الخيرات من سقطات وكم لهم إلى الطاعات من همم فبردتها وساوسنا فحصل منها في أحشائهم الضرم وفي وجود خيرهم العدم وفي صحة إيمانهم السقم وفي شباب صدقهم الهرم وفي سكون أمانهم الضر بان والآلم في دائرة حلالهم الحرام وكم وكم وكم وكم ونحن الآن على ما كنا عليه وهو الذي طبعنا عليه وندبنا إليه دأبنا عن الحق أضلالهم وعن الصراط المستقيم إزلالهم وإلى الباطل دلالتهم وإطلالهم نزين لملوكهم الاجتراء ولكبرائهم الافتراء ولرؤسائهم الازدراء ولعلمائهم المراء ولزهادهم الرياء ولتجارهم الربا ولأمرائهم سفك الدما ولنسائهم السلاطة والزنا ولخواصهم الغيبة والغميمة وعوامهم الخوض في كل جريمة وللمشايخ قول الزور ولنسائهم الوقاحة والفجور وهذا دأبنا ودأبهم. ولم نزل أوهاقنا ورقابهم فإن قلنا نصل هذا الواصل فإن هذا تحصيل الحاصل وإن قلنا نستأنف عملاً جديداً فإنا لم نترك في ذلك ما يبقى مزيداً وقد بلغنا في ذلك كله الغاية وهانحن ملابسون منه ما ليس وراءه نهاية ولم يبق إلا المقابلة في المقاتلة والمباشرة بالمكاثرة والمفاتحة في المقابحة والمكالحة في المناكحة فلما سمع الوزراء هذا الكلام عرفوا أن أسباب دولتهم آذنت بانصرام غير أنهم لم يقدروا على المخالفة فما وسعهم إلا المطاوعة والمؤالفة لئلاينسبهم إلى غرض فيصيبهم منه عرض أو مرض. فحسنوا له رأى المصادمة ومباحثة العالم والمقاومة واتفقت الآراء أن يرسلوا للعالم أولاً وانتخبوا من يصلح أن يكون مرسلاً فيحمله العفريت في الرسالة ما تتضمنه من الحماسة والبسالة حسب ما يراه رأيه التعيس وفكره المدبر الخسيس. وكان في سياطينه المردة وغيلانه العتاة العندة عفريت من الجن مارد مسن اسمه صن بن مصن، قد أضل عقائد وأزل قواعد وأشرب بغض بني آدم وغمس طائفة منهم في نار جهنم بعدما غهم من المعاصي في يم لا يمنعه وجوم عن الهجوم ولا يخاف الرجوم من النجوم طالما أطال العوائق في المغارب والمشارق. وأضرم نيران الإفساد بين الخلائق وملأ ما بين الخافقين من مواقع الصواعق وفوح نتانة النوساوس وفساء الظربان في المجالس وانقض للشر والفتن على كل قائم وجالس فكم له توفيق بين الحرامين وتغريق بين الحلالين وسفك دماء بين الأخوين وإلقاء للبغضة بين المحبين والعداوة بين الألفين والعربدة بين السكارى والحروب بين المسلمين والنصارى. وبالجملة فقد أوتي من الوسوسة والتلبيس صنوفاً كثيرة

فاق بها على ذرية أبليس فانتدبه العفريت الملم إلى هذا الأمر المهم، وأمهلاه إلى أن انسلخ أهاب الضو ثم طار في عنان الجو حتى وصلا إلى سفح الجبل، متعبد ذلك العالم البطل الذي ملأ الدنيا بالعلم والعمل ثم كمن العفريت في مغارة وأرسل رسوله بالسفارة يقول أبلغ عالم الأنس صاحب الكرامات والأنس ومقرب حظيرة القدس، عن شيخ العفاريت الطغاة المصاليت أني من قديم الزمان وبعيد الحدثان أضللت كثيراً من الناس، بالمكر والخداع والوسواس وفي أمثالي نزلت قل أعوذ برب الناس، وابن عمي هو الوسواس الخناس، وكان من جنس بني آدم كذا كذا ألف عالم خدامي ومعي وجندي وتبعي منهم رؤس الزهاد وعلماء العباد، وعلى محبتي مضوا، وباتباع أوامري قضوا فأنا فتنة العالم وأعدى أعداء بني آدم الشيطان الرجيم، وأبليس الذميم اسم ذاتي ووصف صفاتي، أنا مقتدى الشياطين ورأس العفاريت المتمردين ومحل غضب رب العالمين خلقت من مارج من نار، وطبعت على إلقاء البوار والدمار رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي، وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب آية منعتي، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم طراز خلعتي، أأسجد لمن خلقت طيناً مقام مقالي لاحتنكن ذريته إلا قليلاً مجال جدلي، لعنه الله، وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضا منشوري القديم يعدهم ويمنهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، مرسومي الكريم، الشياطين تستمد من زواخر مكري والأعور اللعين يقتبس من ضمائر فكري، لم تمر قضية في الزمان الغابر إلا ولي الشركة فيها ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها، جدي إبليس، نهض لجدي التعيس، وغلى نحو آدم هوى، فعصى ربه فغرى، وأنا قضيت بالتسويل، حتى قتل قابيل هابيل، وحلت بقوم نوح عن النصوح وأرشدت المجوس إلى عبادة النار ووضعت الناقوس، وأضللت عاداً وثمود، وشداداً ونمرود، وبعثت على عبادة الأصنام في البيت الحرام، وعلى كيفية إلقاء إبراهيم في نار الجحيم، وهديت قوم لوط إلى الخوض في التلوط ومحافر القلوط، وسولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية ايوب، وتصديت لابن إسماعيل وعارضت ابنها وهو مع الخليل، وأنسيت يوشع قصة الحوت، وساعدت على صاحب الحوت، وجلست بالعصيان على تحت سليمان، وحضرت وقعة طالوت، وساعدت عليه جالوت، وأنا كنت العون لهامان وفرعون، وبحسن ضبطي قتل موسى القبطي، وأنا فتنت داود، وأغويت قارون اليهود، وسلطانهم على الوالدة والمولود، ودللت على نشر زكريا، وذبح يحيى، وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء، وتوصلت بتزيين الوسواس لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس، ودعوت على عبادة العجل قوم موسى، وساعدت في التفريق، والإظلال بين أمة عيسى، وكم أغويت من رهبان، بما زخرفت من صلبان، وقد بلغني من جميع مسترقي السمع وطن على أذني، ووعاه خاطري ووقر في ذهني، وأنا أشارفالتخوم واسارق النجوم وأسابق الرجوم، إن لي أسماء تذكر في السماء منها الغيظ الرقبة، وشيخ نجد وأزب العقبة، والمقيم في الدست البيضة، والغوي على نقض عهد بني قريظة، والمحرض على أحد وبدر من الصناديد كل جليل القدر والمشهور في أحد بالندا، والملقي العرب بالردة إلى الردى، وأنا المتسبب في قتل عمر وعثمان، وإهلاك على أمير الشجعان، والغوي في وقعتي الجمل وصفين، والملقي الفتن بين جنود المسلمين، وإن شري سرى إلى يزيد وفاض للحجاج والوليد، وبي تكثر البدع بين الجماعات والجمع، ويظهر من الفتن ما يطن، ويغلب من التتار وأهل البوار والخسار أنواع الشرور والجدال إلى حين يظهر الدجال، وتستمر هذه الأمور إلى يوم البعث والنشور، وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل، وتلك صنعتي من الابتداء، وحرفتي إلى الانتهاء، ثم إنك نبعت في هذا الزمان، وظهرت في هذا المكان، تريد أن تهدم ما بنيته، وتعوج بصلاحك ما بفسادي سويته، وترد كلامي وتعاكسني في مرامي، وأنا كنت في قديم الزمان، من قبل أن توجد أنت في هذا المكان ناديت بين بنيه وشهرت في ذوقه قولي:

كلوا واشربوا وازنوا ولوطوا وقامروا ... وهيا اسرقوا وخوضوا والدما جهرا
ولا تتركوا شيئاً من الفسق مهملا ... مصيركم عندي إلى الجنة الحمرا
وكانوا قد سمعوا وأجابوا وأطاعوا وأنابوا وشملي بهم منتظم، وأمري بتفريق كلمتهم ملتئم، وأسهم مرامي المشومة نافذة في المشارق والمغارب، وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب، كم لي في الأطراف والآفاق والاكناف من قاض ونائب ومانع من الخير حاجب وأمير وصاحب، ووزير وكاتب، ومشير وحاسب، وجليس ونديم، وتابع وخديم، وناظر وعامل، وناقص وكامل، وكم لي من جابي منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي، وكم لي في المدارس ذو وساوس، وفي الجوامع والبيع والصوامع من مذكر وواعظ وإمام وحافظ، ومقرئ وعابد، وشيخ وزاهد، وكم لي في الزوايا من خبايا، وفي أصحاب الروايات من درايات، وفقيه في النادي فاق الحاضر والبادي، يعلم في الشيطنة أولادي، وفي البيلسة حفدتي وأجنادي، وأما سائر الفساق في الآفاق، وسكان الأسواق، وقطان الجبال والرستاق، ورجال الحاري والأوراق، فكلهم لي عشاق وإلى ديني مشتاق، وسل عني أرباب الحانات، وسكان الخانات، وبالجملة غالب الطوائف وأرباب الوظائف على باب خدمتي واقف، وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف، مناي مناهم، ورضاي رضاهم، وأن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وأنت الآن جئت برايتك وسالوسك، وطامتك وناموسك تبدد عني عساكري، وتشرد من بني الأنس عشائري، وتشتت جموعي، وتخلي من الفسق والفساق ربوعي، من غير أن تشاورني، ولا تخبرني ولا تحاورني، ولا تبحث معي، ولا تناظرني، وهاأنا قد جئت إليك، ونزلت كالقضاء المبرم عليك، أريد أن أناظرك في أنواع من العلوم، وأسألك عن حقائقها من طريق المنطوق والمفهوم بحضرة من الجن والأنس، وسائر نوع الحيوان والجنس، فيظهر إذ ذاك جهلك فينبذك قومك وأهلك، ويتركك معتقدوك، ويتراجع عنك مريدوك، وأفسد بين العالم صيتك وأتلفه فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه.

فلما وصل رسول العفريت الكافر الصفريت إلى الشيخ العاد والعالم الزاهد الجاهد المجاهد فعندما وقع نظر الشيخ عليه ووصلت سهام لحظاته إليه، كاد أن يذوب مالملح، وأن لا يقوم الفساد للصلح، فبهت الذي كفر، وأخذته الدهشة والخور، وغلب عليه الانبهار وكاد يحترق من الأنوار، واستولى عليه الرجيف، وسقط من الوجيف، فما أبدى ولا أعاد ولا قام للصلاح ذلك الفساد. فقال له الشيخ مالك: وما أحالك وغير حالك؟ وما موجب دخولك علي وأنت غير منسوب إليّ؟ فقال: كف عني أنوارك واطوعني أسرارك حتى أقول فإني رسول فمالي طاقة برؤيتك ولا سواغوما على الرسول إلا البلاغ. فقال: رسول أي طغين وسيطان لعين. فقال: أنا رسول محبك العفريت المشقوق الحوافر، الواسع المناخر، المسلوب المفاخر، أبي السعالى الكافر العالي، قد أقبل إليك في جمع كثير، وعدد من الجن غزير، ومعه رؤوس العفاريت والعتاة المصاليت، والطغاة المفاليت، وقد حملني إليك رسالة، تتضمن من الخبث شجاعة وبسالة، إن شئت أديتها، وإن أبيت رديتها، فقال: قل ما تريد وأبلغ ما معك عن ذلك العنيد وأوجز ما تقول، ولعن الله المرسل والرسول. فأبلغ الرسالة وأداها وأسال في أوديتها مؤداها. فقال الزاهد وكان بالأحوال خبيراً: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. والله ما لكم شبه في هذا الكيد إلا الحمار في الوحل والحمام في شبكة الصيد. قل لمرسلك أرى قدمك أراق دمك وهواك أهواك وأفعالك أفعالك لم وسؤالك أسوا لك وخيالك أخبى لك فأولى لك أولى لك، ولعن الله أولى لك لا شك أن الله تعالى أراد دماركم وأن يمحوا آثاركم ويخلي دياركم فتستريح البلاد من فسادكم والعباد من عنادكم أما أنا فأذل الخلق وأحقر الداعين إلى الحق، ولكن بعون الله وقدرته وإلهامه وقوته لي من اعلم والفضل ما أجيبه ويقتله من خوفه به وجيبه وسيظهر في الجمع على رؤوس الأشهاد عويله ونحيبه وسيبين اللع في سنن الخلق فروضه، ويكشف صحيح الحق ومريضه، وإذا أدعى بدعاوى طويلة عريضة فإن الله تعالى قتل نمرود العاتي ببعوضة، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. أما سمع ذلك الملعون، وعلم الشقي المغبون، أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. فمتى أراد يحضر ويسير نفسه وخصمه ويخبر ويصحب معه من يريد من كل جني عنيد وشيطان مريد فإن الحق يحق فيبطل الباطل، ويتميز في حلبة السباق الحالي من العاطل، فرد هذا الجواب الرسول، وكشف حقيقة المقول. ثم إن العفريت المخذول سأل الرسول عن أوضاع الشيخ الزاهد وأحواله في المساجد والمشاهد وما شاهده من أموره وحكاياته وحركاته وسكناته وأخلاقه ومعاملاته وكيف هيئته وصورته وما شاع عنه في قومه من سيرته. فقال: رأيت رجلاً سعيد الحركات كامل البركات صورته جميلة وأوصافه نبيلة، وهيئته جليلة، بدنه نحيل وفضله عريض طويل، وكلامه الصادع في أمثالنا ثقيل قاطع. فقذف الله في قلبه الفزع، وأخذته نوافض الرعب والهلع. فقال: أما والله إن هذه الأوصاف لصعبة الأعراق والأعراف، وستطرحنا وراء جبل قاف وإنها لسيمة الصلاح وعلامة الفوز والنجاح، وإنهم لهم المنصورون، وحزب الله هم الغالبون، ولقد ندمت على مراسلته، وكان الأولى سلوك طريق مجاملته ولكن الشروع ملزم ولابد أن أتم ما عليه أعزم، فواعده إلى وقت معلوم، ثم إنه أحضر وأحضر معه من جنده كل جني ظلوم وعفريت غشوم، ومتمرد مشوم ومخلوق من قبل من نار السموم. واجتمع من بني آدم عند الشيخ تلامذته وأصحابه الصالحون وجماعته وكانوا الجم الغفير والجمع العزيز، واشترطوا بعدما خبطوا واختبطوا وحلوا وارتبطوا أنه أن أجاب الشيخ سؤالات العفريت، وسرى في نارهم سريان النار في الكبريت، لا يظهر بعد ذلك اليوم لبني آدم أحد من أولئك القوم بل يكونون عن الأبصار مختفين وتحت الأرض في الجزائر والخرائب كزنادقة بغداد منتفين. وإن عجز الشيخ عن جواب سؤاله يهلكه العفريت مع خيله ورجاله ثم شرع العفريت في الرسائل، وإلقاء المسائل فقال العالم: على كم بالعرض والجسم وهل للعالم موجد وهل هو واحد أو متعدد؟ فقال الزاهد الإمام العالم على ثلاثة أقسام (الأول) مفردات العناصر كالتراب والماء والنار والهواء، وتسمى الإستقصاآت

وأصول الكائنات والمركبات من هذه الأجزاء المفردة لا تستمر على حالة واحدة ولا تخلو من حركة وانتقال ودأبها التغير من حال إلى حال(الثاني) الأجرام العلوية كالسماوات وكواكبها المضية، وهي متحركة بالبروج ولحركتها دائرة ما لها من مركزها خروج فهي متحركة من بعض الجهات ساكنة كالفصوص في المرصعات وتوصف في حركتها بالصعود والهبوط والارتفاع والسقوط والرجوع والإقبال واستقامة الحال والاحتراق والانصراف والانحطاط إلى الحضيض والإشراف ويحكم عليها بالافتراق والاقتران والتربيع والتثليث والتسديس في السيران والمقابلة في الرجعة وبطئ السير والسرعة وينسب إليها ما يحدث في العالم السفلي من جزئي الوقائع والكلي ومن نحوسة وسعادة ونقص وزيادة وخير وشر ونفع وضر وتأثر وتأثير وقليل وكثير وانحراف واعتدال وحدوث وزوال وصحة وسقم وسكون وألم ووجود وعدم فبعض من لم يعرف الطريقة يسند هذه الأشياء على الحقيقة، وذلك لقصور فهمه وقلة العقل كقول الجاهل أنبت الربيع البقل. وبعض من لم يكن له إدراك يزعم أن هذا إشراك ولا يسند هذه الحوادث إليها ولا يعول في ذلك أبداً عليها لا بالحقيقة ولا بالمجاز ولا يسلك في ذلك إلى طريقة المجاز والمحققون من العلماء والراسخون في العلم من حكماء الفقهاء يسندون هذه الحوادث والتأثير إلى قدرة اللطيف الخبير الصانع القدير الفاعل المختار الذي يخلق ما يشاء ويختار فإذا نسبوا هذه الأفعال إلى غير ذي الجلال فإنما يجعلونها في ذلك الباب كالآلات والأسباب كتأثير الخبز في الإشباع والنار في الإحراق والإيجاع وكفعل الماء في الإرواء والدواء في الأدواء وإنما ذلك كله بتقدير صانعها وما أودعه فيها من خواص بدائعها وصفات ودائعها كخاصية الإسهال المودعة في السقمونيا وخواص التصبير وغيره الكامنة في الموميا والإسكار في الخمر والإحراق في الجمر وقد رأينا القوة النامية عقيب الأمطار الهامية والشمس حامية تهيج وتنمو وتموج وتزكو وهذا الصنيع البديع إذا حلت الشمس في برج الحمل وقت الربيع وإذا نقلت إلى برج الأسد احترق ذلك الجسد وعند نقلها إلى الميزان ينقلب هذا الزمان، وكذا إذا تحولت الغزالة إلى برج الجدي فكأنه بلغ إلى محل الهدى فتموت إذ ذاك قوة الزمان، ويضعف لذلك غالب الحيوان وهذا كله مشاهد محسوس لا يمكن أن تنكره النفوس خواص وضعها خالق الكون، يستفاد بعضها من الطعم والريح واللون، وبعضها لا يدرك ما أودع فيه الابارشاد خالقه ومنشيه، هكذا جرت سنة العزيز الوهاب أن الأحكام والوقائع تناط بالأسباب، وقد يختلف منها الأثر عن المؤثر ليعلم من ذلك وجود سنة القاهر المدبر وأنها مقهورة تحت الأمر ومقسورة فسر العقل مع الخمر ولولا أن ذلك من سر جسيم لما تخلفت النار عن إحراق إبراهيم ولما ولدت مريم ولا أغرق البحر القبط وأنجى بني إسرائيل وموسى وكم من آكل وهو جيعان وشارب وهو عطشان ومتدثر يتدفأ بالنار وهو بردان والفلك الأعظم محيط بهذه الأجرام ونسبتها إليه كنقطة للبحر الطام متأثرة بتأثيره دائرة بتدويره يتصرف فيها على حسب ما شاء باريها وصرفه فيها منشيها فاطر السماوات والأرض جامع الخلائق ليوم العرض وكما هي محاطة بالدائرة الفوقانية كذلك هي محيطة بالكرة لتحتانية (القسم الثالث) العقول والنفوس الملكية وهي أشرف من الأجرام العلوية ومقام هذه العقول في مقام عزيز الوصول يسمى أعلى عليين وجواهرها لا توصف بتحريك ولا تسكن ولا بهذه البساطة والتركيب وأمرها بديع وشأنها عجيب وأما العرض فما لا يقوم بذاته، وهو في العالم كالألوان والطعوم وأصواته والروائح والقدر وإراداته وأما الجسم فما تركب من جوهرين فأكثر وما قام بنفسه يسمى الجوهر (وأما) الموجد للعالم فهو واحد لا ينثني واحد لا يتجزأ ولو لم يكن للعالم صانع لكان العالم أضيع ضائع وهل رأيت مصنوعاً بلا صانع وسقفاً مرفوعاً بلا رافع وهل نفي الصانع إلا مكابر. وما يجحده إلا النفوس الكافره فقال العفريت: فما لدليل على وجود الصانع العقل والنقل أم أحدهما متبوع والآخر تابع فقال العالم الزاهد: قد أطبقت العقلاء وأجمعت الحكماءأن العقل دليل على وجود الصانع وبه الدلالة والشرع له تابع وكما هو الدليل على وجود الذات كذلك هو الدليل المستقل على إثبات الصفات وهي صفات الكمال، ونعوت الجلال. فقال العفريت: فما الدليل على وحدانيته

فقال الزاهد كل من العقل والشرع كاف في دلالته. قال العفريت: فما المراد من عالم الكون والفساد؟ فقال العالم: معرفة أمور المبدأ والمعاد. قال العفريت: فما أفضل العقل أم النقل؟ فقال العالم: كل منهما حجة الله قد أسند له من عباد من يراه وذلك إن الله لما أرشدنا إلى الدين القويم، وثبت أقدام توحيدنا على الصراط المستقيم، نبهنا إلى أن المقصود من الدخول في دائرة الوجود معرفة موجودنا المعود، كما قال من يقول للشيء كن فيكون، وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ثم طلب مراضيه بما تبرز به أوامره وتقتضيه وذلك هو الرشاد ياذا المكر والعناد إلى المعارف الإلهية وما به نظام المعاش ونجاة المعاد وليس لنا دليل في العلم والتعريف سوى طريقتين مرشدتين إلى التوقيف على أمور المبدأ والمعاد وما بينهما في دار التكليف إحداهما ما جبلنا عليه وما اكتسبناه من العقل وثانيتهما ما بلغنا من الأخبار الصحيحة والنقل فالعقل لا يدخل في إثبات المعارف الإلهية ولا في هذا الباب المقدم من الأمور المعاشية والمعادية وهو حجة الله القاطعة البالغة وأصل براهينه الساطعة الدامغة وبواسطته استعبد عباده الكملة وإلى من خصه به أرسل رسله ثم العقل جوز إرسال الرسل ولا يرد ما تقوى به لتوضيح السبل والنقل لا يأتي بما يناقض العقل وإنما يرد بما يزكي قضاياه وبصقل مرائي أحكامه أحسن صقل ونظير ما حصل للعقل بالشرع من الاستئناس ما حصل للكتاب من معاضدة السنة والإجماع والقياس ولو ورد المنقول بما يناقض المعقول لأشبه فرعاً يوجد ماله من أصول إذا أقبلت مواكب الأوامر الإلهية على لسان الرسول خضعت جماجم العقول منقادة بزمام الانقياد والقبول سامعة لما يرد منها مطيعة لما يصدر عنها فتارة يظهر للعقل ما للأوامر الشرعية من الحكم كنار على علم وتارة يعجز عن الإطلاع على ما تضمنته الأحكام النقلية من الحكم فإذا ورد الشرع بحكم وكان للعقل في حكمته إدراك آثره وأكده واستمسك به في تصرفاته أقوى استمساك وإن لم يكن له في إدراكه مدخل نادي بلسان العجز والتسليم سبحان من لا يسئل عما يفعل والحاصل أن سلطان العقول في ممالك خليفة الشرع وولايته معزول ومن جملة ما ورد على لسان السمع على لسان عدوك صاحب الشرع الصادق في المقال مما ليس للعقل فيه مجال أحوال المعاد ومبدؤها ما يطرأ على العباد في حد هذا الكون من الفساد فقال العفريت أخبرني يا ذا الإنسان مخلوق مماذا وما الآدمية والنفس الإنسانية وهل هي واحدة أو متعددة ومآلها إلى أين بعد وقوع البين فقال العالم: الإنسان مخلوق يا مصفعه من هذه العناصر الأربعة التي مر ذكرها وتبين أمرها التراب والماء والنار والهواء فإذا تمازجت واعتدلت إذا تزاوجت حصل لها من التركيب أمزجة ثمانية لا على الترتيب والآدمية عبارة عن القوة المميزة بين الحسن والقبيح والفاسد والصحيح والحق والباطل والخالي والعاطل والخير والشر والنفع والضر والمميزة لهذه الأشياء الفارقة، يقال لها النفس الناطقة وهي ثلاثة أنواع يا خارج الطباع إحدها الروح الطبيعة القائمة بالكبد وهي من الأغذية تستمد الثانية الروح الحيوانية ومقامها لقلب أي كلب وللأبد إن منها حراك واستمدادها من حركات الأفلاك الثالثة لروح النفسانية ومقامها في الدماغ ومنها الحركات الذهنية والقوة التامة القوية تطلب غذاءها الروح الطبيعية والقوة المميزة تطلب ما يسعدها في الدارين من الروح النفسانية ويبعدها في المقامين عن الأسباب الشقية واستمدادها وقوتها من الأجرام العلوية وأعلى مقامات هذه النفس الحكمة والحكمة أوفى منحة وأوفر نعمة وقد قال تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقدأوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب ومصير هذه الأرواح إلى عالم الغيب لأجل الثواب والعقاب وقيل حقيقة نفس الإنسان أيها المارد الشيطان لطيفة روحانية ودقيقة ربانية لها تعلق رباني بقلبه وقالبه الجسماني وهي المدركة العالمة العارفة الفاهمة بها يتكلم الإنسان وتبصر العينان وتسمع الإذنان وتبطش اليدان وتمشي الرجلان وهي المخاطبة والمعاتبة والمثابة المعاقبة والمطلوبة والمطالبة ويطلق عليها لفظ القلب تارة ولفظ القلب تارة ولفظ الروح أخرى ويقال لها النفس مرة ولفظ العقل أيضاً وابن آدم هو المخصوص بهذه الكرامات

وبهذه النفس دون سائر الحيوانات وإن كان يطلق على الجميع إن لها نفساً بالاشتراك لكن هذه النفس الناطقة والنطق هو الإدراك واختلف أيضاً وتحيرت الألباب في صنع رب الأرباب وتاهت الأفكار والفطن في كيفية تعلقها بالبدن ولا يحصل لأحد على هذا وقف إلا بطريق الولاية والكشف وهذه النفس لما كثرت صفاتها وتضادت نعوتها تخالفت أوصافها وازداد في صفاتها اختلافها حتى قسموها فقالوا أنواعها ثلاثة ناطقة وشهوانية وغضبية رضية فالناطقة مسكنها الدماغ ولها مساغ والكبد مسكن الشهوانية والقلب مسكن الغضبية الرضية فأية نفس غلبت أختيها جذبت أحوالهما وصفاتهما إليها، وهذه يا أتعس زوبعة كالعناصر الأربعة فإنها إذا فسد مزاجها وعدل عن الاعتدال ازدواجها عسر علاجها واستحال إلى المطلوب الطالب وعجز عن المعالجة الطابب ففسد البيان وانهدمت الأركان وقيل هما روح ونفس بغير لبس وهما ضدان بل ندان لا يجتمعان ولا يرتفعان وطبع النفس باللئيم طبعك طبع الشيطان الرجيم كالنار في جوهرها وخاصة عنصرها تنسب إليها الصفات الذميمة والخلال غير المستقيمة كالجهل والغضب والحدة والصخب واللؤم والسفه والطيش والشره والحمية والشهوة والقسوة المشؤومة والحيانة والفجور وعدم الأمانة والترفع والرياء والمخاصمة والمراء وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف المشؤومة الملومة والملكات الخبيثة الردية والحركات الشيطانية فهي كالنار في إحراقها وحدتها واستشاطتها وشدتها ودخانها ولهيبها وإهلاكها وتعذيبها وإقدامها في إعدامها وأكل ما تجده وما تصل إليه تفسده وطلب العلو والغليان وطبع والغلو وطبع الروح يا أنحس مجروح طبع الماء في النشور والنماء ينسب إليه كل خلق كريم وطبع سليم صافي الجوهر ما لامسه تطهر شيمته الحياء والعلم والصدق والحلم والتفويض والتوكل والتسليم والتجمل والاحتمال والأناة والصبر والموافاة والتودد والإسداء والسكون والإعطاء والركون والبذل والرضا والفضل والحياء والعدل والتواضع والعفة وعدم الترفع والخفة والسلامة والسهولة وسرعة الانقياد واللين والوداد والرقة والصفاء والكرم وعدم الجفاء إلى سائر الأخلاق المحمودة والأوصاف المطلوبة المودودة وأيتهما قويت غلبت وجذبت الأخرى إليها وسلبت وسيرتها على طبعها واستخدمتها على ربعها فكم من شيطان يرى في صورة إنسان ومن إنسان غلبت عليه أخلاق الجان ومن جان في صورة إنسان ونظير هذا الروح والبدن يدركه ذو العقل والفطن فإن الروح من عالم نوراني لطيف سماوي والبدن من عالم ظلماني كثيف أرضي فأيهما غلب على صاحبه جذبه إلى مركزه في جانبه قال الله تعالى وعز كمالاً وجل جلالاً يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وقال جل عليا ورفعناه مكاناً علياً وقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فالأنبياء عليهم السلام صارت أجسادهم أرواحاً والكفار مثلك صارت أنفسهم ظلمانية أشباحاً وقيل يا زوبعة الأنفس أربعة إمارة وهي نفس مثلك الكفار الطغاة ولوامة وهي أنفس العصاة وملهمة وهي أنفس المخلصين ومطمئنة وهي أنفس الأنبياء والمقربين والحق يا جاحده ما عي إلا نفس واحدةلكن لما تجلت في ملابس الصفات وتكثرت لها الأخلاق والسمات نوعوها وبمقتضى التنويع فرعوها تنزيلاً للتنويع بالصفات منزلة التنويع في الذات فيقال كانت نفس هذا شيطانية فتاب فصارت رحمانية وكانت نفس ذاك أبية فصارت دنية قال من براها ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها قال العفريت أخبرني أيها الباصر كيف تركيب هذه العناصر فقال الزاهد بحسب الخفة واللطافة والثقل والكثافة ولما كان عنصر التراب أثقل كان ركد من غيره وأنزل ومن فوقه عنصر الماء وفوق الماء عنصر الهواء ومن فوق هذه الثلاثة عناصر عنصر النار وهو بها محيط دائر وكذلك كل عنصر محيط بما تحته وقد حققت هذا وعلمته قال العفريت أخبرني عن أقرب الأشياء إليك قال العالم الأجل أقرب الأشياء الأجل قال أخبرني عن أبعد الأشياء عنك قال العالم الأكبر ما لم بقسم ولم يقدر قال أخبرني عن الشيء الممكن عوده قال الدولة إن زالت وتغيرن واستحالت يمكن ردها ولا يستحل عودها قال أخبرني عن الشيء المستحيل عوده قال الشباب بغير شك ولا ارتياب قال أخبرني عما لا يمكن بالاكتساب ولا ينال إلا بتوفيق الوهاب قال العقل الغريزي فإنه

أقسام الكتاب
1 2 3 4