كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد

وقوله: "وأشرفهم حليفاً"، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب.
وقوله: "فاذكر حذيف"، أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، وذاك أن يعصر ابن سعد بن قيس، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس. وقد قال عيينة بن حصن يهجو ولد يعصر، وهم غنيّ وباهلة والطّفاوة:
أباهل ما أدري أمن لؤم منصبي ... أحبّكم أم بي جنون وأولق1
أسيّد أخوالي ويعصر إخوتي ... فمن ذا الذي منّي مع اللؤم أحمق!
فقال الباهلي يجيبه:
وكيف تحبّ الدهر قوماً هم الأولى ... نواصيكم في سالف الدهر حلّقوا
ألست فزاريّا عليك غضاضة ... وإن كنت كنديا فإنك ملصق
وتحدّث الرواة بأن الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان ينسب بزينب بنت يوسف، فارتاع من نظر الحجاج [إليه2] فدعا به، فلما عرفه قال مبتدئاً:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوّفت كلّ مكان
ولو كنت بالعنقاء أو بيسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني3
ثم قال: والله إن قلت إلاّ خيراً، إنما قلت:
ولمّا رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من ان يلقينه حذرات
في كم كنت? قال: والله إن كنت إلاّ على حمار هزيل، ومعي رفيقي على أتان مثله.
ـــــــ
1 الأولق: الجنون.
2 تكملة من س.
3 يوم: جبل بعيد.

ومن ذلك ما يحكون في خبر لقمان بن عاد، فإنهم يصفون أن جارية له سئلت عما بقي من بصره، لدخوله في السّنّ? فقالت: والله لقد ضعف بصره، ولقد بقيت منه بقيّة؛ إنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذرّ إذا دبّ على الصّفا؛ في أشياء تشاكل هذا من الكذب.
وحدّثت أنّ امرأة عمران بن حطّان السّدوسي قالت له: أما حلفت أنّك لا تكذب في شعر? فقال لها: أو كان ذاك? قالت: نعم، قلت:
فكذاك مجزأة بن ثو ... رٍ كان أشجع من أسامة
أيكون رجل أشجع من أسد! فقال لها: ما رأيت أسداً فتح مدينة قط، ومجزأة بن ثور قد فتح مدينة1.
ومرّ عمران بن حطّان بالفرزدق وهو ينشد، فوقف عليه فقال:
أيها المادح العباد ليعطى ... أن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسّم العواد
لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسمّ البخيل باسم الجواد
وأنشدني الحسن بن رجاء لرجل من المحدثين لم يسمّه2:
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
وأنشدني آخر لرجل من المحدثين:
إنّي امتدحتك كاذباً فأثبتني ... لمّا امتدحتك ما يثاب الكاذب
قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قط? قال: لو لا أنّي أخاف أن أصدق في هذا لقلت لك: لا.
ـــــــ
1 زيادات ر: "مجزأة بن ثور، جعل له عمر رحمه الله رياسة بكر، فلما أسن مجزأة فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذاك مع ابنه شقيق بن مجزأة، وقتل رحمه الله على شتر، هو والبراء بن مالك، وكانا من أبطال المسلمين".
2 زيادات ر: "وهو بكر بن النطاح في أبى دلف".

وتحدثوا من غير وجه أن عمرو بن معدي كرب كان معروفا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر - وكان شديد التعصب لليمن -: أكان عمرو بن معد كرب يكذب? فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال.
وذكروا من غير وجه أن أهل الكوفة من الأشراف يظهرون بالكناسة فيتحدثون على دوابهم، إلى أن يطردهم حر الشمس، فوقف عمرو بنمعدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي، فأقبل عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهدٍ، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأذريته1، ثم ملت عليه بالصمصامة، فأخذت رأسه، فقال له خالد: حلا أبا ثورٍ، إن قتيلك هو المحدث. فقال: يا هذا، إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لترهب به هذه المعدية2.
قوله: "مسترعفين" يقو: مقدمين له، يقال: جاء فلان يرعف الجيش ويؤمن الجيش، إذا جاء متقدماً لهم، ويقال في الرعاف: رعف يرعف، لا يقال غير رعب، ويجوز يرعف من أجل العين، ليس من الوجه. وسنذكر هذا الباب بعد انقضاء هذه الأخبار؛ إن شاء الله.
وقوله: حلا أبا ثور يقول: استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن.
وخبرت أن قاصا كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان3، فاتفق هرم [مرة]4 معه في مسجد وهو يقول: حدثنا هرم بن حيان، مرة بعد مرة، بأشياء لا يعرفها هرم، فقال له: يا هذا، أترعفني? أنا هرم بن حيان، والله ما حدثتك من هذا بشيء قط، فقال له القاص: وهذا أيضاً من عجائبك، إنه ليصلي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلاً، اسم كل رجل منهم هرم بن حيان، كيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيان غيرك!
ـــــــ
1 أذريته: رميته.
2 المعدية: المنسوبون إلى معد.
3 زيادات ر: "الهرم: الضب، يقال إنه في الشتاء يأكل حسوله ولا يخرج، قال الشاعر:
كما أكب على ذي بطنه الهرم
قيل إن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين: ولذلك سمى هرما".
4 من س.

وكان بالرقة قاص يكنى أبا عقيل، يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل? قال: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا? قال: في كتاب عمرو بن العاص.
وقال القيني: أنا أصدق في صغير ما يضرني، ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني.
وأنشد المازني للأعشى - وليس مما روت الرواة متصلاً بقصيدة:
فصدقتهم وكذبتهم ... والمرء ينفعه كذابه
ويورى أن رجلاً وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله [عن بعض شيء]1، فكذبه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أأسألك فتكذبني? لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافدِ قومٍ".
معنى ومقك أحبك، يقال ومقته أمقه، وهو على فعلت أفعلُ ونظيره من هذا المعتل ورم يرم، وولي يلي. وكذلك وسع يسع، كانت السين مكسورةً، وإنما فتحت للعين، ولو كان أصلها الفتح لظهرت الواو، نحو وجل يوجل، ووحل يوحلُ. والمصدر مقةٌ كقولك: وعد يعد عدةً، ووجد يجد جدةً.
ويروى: أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمِ، ثم قال: يا رسول الله، إني إنما أوخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلالٍ أربع: الزنا والسرق2 وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركت لك سرا، فقال رسول الله: "دع الكذب". فلما تولى من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالزنا، فقال: يسألني رسول الله، فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت. فلم يزن، ثم هم بالسرق2، ثم هم بشرب الخمر، ففكر في مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، قد تركتهن جمع.
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 السرق: السرقة.

وشهد أعرابي عند معاية بشهادة، فقال له معاوية: كذبت، فقال له الأعرابي: الكاذب متزمل في ثيابك، فقال معاوية: هذا جزاء من عجل.
وقال معاوية يوماً للأحنف - وحدثه حديثاً: أتكذبُ? فقال: والله ما كذبتُ مذ علمت أن الكذب يشين أهلهُ.
ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتاً قلتهن - وكان واجداً عليه - فقال معاوية: هات، فأنشده:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران ن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن من شفرة السيف مزحلُ
فقال له معاوية: لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر، ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني، فقال له: أقلت بعدنا شيئاً? قال: نعم، فأنشده:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أولُ
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال له معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا الشعر لك? قال: أنا أصلحت معانيه، وهو ألف الشعر، وهو بعد ظئري، فما قال من شيء فهو لي.
وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة.
وحدثت أن عمرَ بن عبد العزيز [بن مروان1] كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عدي، فقرب أن يمزنه عند الخليفة، فقال: يا أبا وائلة، إن لنا حقاً ورحماً، فقال إياسُ: أعلى الكذب تريدني? والله ما يسرني أني كذبت كذبة يغفرها الله ولا يطلع عليها إلا هذا - وأومأ إلى أبيه - ولي ما طلعت عليه الشمس.
قال أبو الحسن1: التمزين المدح؛ ولم أسمع هذه اللفظة إلا من
ـــــــ
1 تكملة من س.

أبي العباس، وهي عندي مشتقة من المازن وهو بيض1 النمل، وبهذا سميت مازن كأنه أراد منه أن يكبره.
ويروى: يكثره. قال القتبي: المازن: بيض النمل.
قال الشيخ: قوله: أن يمزنه عند الخليفة أي كأنه يجعله سيد مزينة، لأنه كان مزنياً، والصواب: يمزره قال الموصلي.
وإني مع ذا الشيب حلو مزيرُ
ولم يكن في القضاة؛ وإنما كان أميراً على البصرة. . إن مات عمر.
وكتب عمر إلى عدي: اجمع ناساً ممن قبلك وشاورهم في إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، واستقضِ أحدهما؛ فولى عدي إياساً2.
ويروى أن أخا إياس صار إلى ابن هبيرة فقال: طرقني اللصوص فحاربتهم فهزمتهم، وظفرت منهم بهذا المغول3؛ فجعله ابن هبيرة تحت مصلاهُ، ثم بعث إلى الصياقلة فأحضرهم، فقال: أيعرف منكم الرجل عمله? قالوا: نعم، فأخرج المغول فقال: من عملِ أيكم هذا4? فقال قائل منهم: أنا عملت هذا، واشتراه مني هذا أمس.
ـــــــ
1 كلمة "بيض" ساقطة من ر، س، وهي في الأصل.
2 مابين العلامتين زيادة في نسخة ر، وذكر المصحح أنها من إحدى النسخ التي رجع إليها، وموضع النقط مقطوع من الأصل المنقول عنه، وهذه الزيادة ليست في الأصل، وليست في س أيضا.
3 زيادات ر: "المغول سيف صغير".
4 س: "أيكم عمل هذه".

باب ما يجوزُ فيه "يَفْعَلُ" فيما ماضيهِ "فَعَلَ" مفتوح العين
أعلم أن كان فعل على فعلَ فهو عير متعد إلى مفعولٍ، لأنه فعلُ الفاعل في نفسه، وتأويل الانتقال، وذلك قولك: كرمَ عبد الله، وظرف عبد الله.
وتأويل قولي: الانتقالُ، إنماهو انتقال من حالٍ إلى حال، تقولُ: ما كان كريماً ولقد كرم، وما كان شريفاً ولقد شرف، فهذا تأويله، فأما قولهم: كدت أكاد، فإنما كدت معترضة على أكادُ.
وما كان من "فعل" [من]1 الصحيح فإنه يفعل نحو: شرب يشرب، وعلم؛ وفرق، ويكون متعدياً وغير متعد، تقول: حذرت زيداً، وعلمت عبد الله، ويكون فيه مثل سمنتُ، وبخلتُ، غير متعد، وكله على يفعلُ نحو يسمن، ويبخلُ، ويعلمُ، ويطربُ.
فأما قولهم في الأربعة من الأفعال؛ يحسب وييئس، وينعمُ، وييبسُ؛ فهي معترضة على يفعلُ تقولُ في جميعها: يحسبُ. وينعمُ، وييئسُ، وييبسُ.
وما كان على فعل فباب يفعل ويفعِل نحو قتل يقتل. وضرب يضربُ، وقعد يقعد، وجلس يجلس، فقد أنبأتك أنه يكون متعدياً وغير متعد. فأما يأبى، ويقلى؛ فلهما علةٌ تبين عندما أذكره لك ن شاء اللهُ.
ولا يكون فعل يفعلُ إلا أن يكون يعرضُ له حرفٌ من حروف الحلقِ الستة في موضع العين أو موضع اللام، فإن كان ذلك الحرفُ عيناً فتح نفسه، وإن كان لاماً فتح العين.
وحروف الحلق: الهمزة، والهاءُ، والعينُ، والجاءُ، والغين؛ والخاءُ.
وذلك قولهم: قرأ يقرأُ قرأً، يا فتى، قراءةً، وسأل يسألُ، وجبه يجبهُ، وذهبَ يذهبُ، وتقول: صنعَ يصنعُ، وظعنَ يظعنُ، وضبحَ يضبحُ، وكذلك فرغ يفرغُ، وسلخً يسلخُ.
ـــــــ
1 من س.

وقد يجوزُ أن يجيء الحرف على أصله وفيه أحدُ الستةِ، ويجوز: زأر يزئرُ، وفرغ يفرغُ، وصبغَ يصبغُ، إلا أن الفتح لا يكون فيما ماضيه فعل إلا واحدُ هذه الحروف فيه.
وأما يأبى فله علةٌ، وأما يقلى فليس يثبتُ. وسيبويه يذهبُ في يأبى إلى أنه إنما انفتح من أجل أن الهمزة في موضع فائه، والقول عندي على ما شرحت لك، من أنه إذا فتح حدث فيه حرفٌ من حروف الحلق، فإنما انفتح لأنه يصير إلى الألف، وهي من حروف الحلق، ولكن لم نذكرها لأنها لا تكون اصلاً، إنما تكون زائدةً أو بدلاً، ولا تكون مترحكةً، فإنما هي حرفٌ ساكنُ، ولا يعتمد اللسان بهِ على موضع، فهذا الذي ذكرت لك من أن يسع، ويطأ، حدهما فعلَ يفعِل في المعتل، كحسب يحسبُ، من الصحيح، ولكن فتحتهما العين والهمزة، كما تقول: ولغَ الكلب، يلغَ، والأصل يلغُ فحرف الحلق فتحه.

باب

أخبار عبد الله بن العباس وابنه
يروة عن علي بن أبي طالب رحمةُ الله عليه أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله [في وقت صلاة الظهر1] فقال [لأصحابه1]: ما بال أبي العباس لم يحضر? فقالوا: ولدَ له مولود، فلما صلى علي رحمه الله قال: امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ما سميته? قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه! فأمر به فأخرج إليه، فأخذه وحنكه ودعا له، ثم رده إليه، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، قد سميته علياً، وكنيته أبا الحسن، فلما قام معاوية قال لابن عباسٍ: ليس لكم اسمه وكنيته، قد كنيته أبا محمدٍ، فجرت عليه.
وكان علي سيداً شريفاً بليغاً، وكان له خمسمائة أصل زيتون، يصلي في كل يوم إلى كل أصلٍ ركعتين فكان يدعى ذا الثفنات2.
وضرب بالسوط مرتين كلتاهما ضربه الوليد، إحداهما: في تزوجهِ لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها - وكان أبخر - فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به?3 قالت: أميطُ عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منها، لن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منها، فقال علي بن عبد الله: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة، وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها مخرجاً.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية فإنا الثانية فإنا نرويه من غير وجهٍ، ومن أتم ذلك ما حدثني أبو عبد الله محمدُ بن شجاعٍ البلخي4 في إسناد له متصلٍ، لست
ـــــــ
1 من س.
2 الثفنات: جمع ثفنة، وهي من كل ذي أربع ما يصيب الأرض منه.
3 أى بالسكين، والسكين تذكر وتؤنث.
4 زيادات ر، "هو محمد بن شجاع الثلجى، كذا صوابه".

أحفظه، يقولُ في آخر ذلك الإسناد: رايت علياً مضروباً بالسوط يدار ب على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله الكذاب! قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب? قال: بلغهم قولي: إن هذا الأمر سيكون في ولدي. والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغارُ العيونِ، العراضُ الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.
ومع هذا الحديث آخر شبيه بإسناده، أن علي بن عبد الله دخل على سليما بن عبد الملك، ومعه ابنا ابنه، الخليفتان: أبو العباس، وأبو جعفر - قال أبو العباس: وهذا غلط، لما أذكره لك، إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام - فأوسع له على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثن ألف درهم علي دينً، فأمر بقضائها، قال له: وتستوصي بابني هذين خيراً، ففعل فشكره، وقال وصلتك رحمُ، فلما ولى علي قال الخليفة لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط فصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك علي فالتفت إليه فقال: والله ليكونن ذاك؛ وليملكن هذان.
قال ابو العباس: أما قولي: "إن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان"، فلأن محمد بن علي بن عبد الله كان يمنع من تزوج الحارثية، للحديث المروي، فلما قام عمر بن عبد العزيز جاءه محمدٌ، فقال له: إن أردت أن أتزوج بنت خالي من بني الحارث بن كعبٍ، أفتأذن لي [يا أمير المؤمنين1].
فقال عمر: تزوج - رحمك الله - من أحببت، فتزوجها، فأولدها أبا العباس أمير المؤمنين، وعمر بعد سليمان، فلا ينبغي أن يكون تهيأ له أن يدخل على خليفة حتى يترعرع.
ش: كذا وقع في الأم والرواية، والصحيح لهما أن يدخلا على خليفة حتى يترعرعا.
فلا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام.
ـــــــ
1 تكملة من س.

وكان عبد الملك يكرم علياً ويقدمهُ، فحدثني التوزي؛ قال: قال علي بن عبد الله: سايرت يوماً عبد الملك، فما جاوزنا إلا يسيراً حتى لقيه الحجاج قادماً عليه، فلما رآه ترجل ومشى بين يديه، فخب عبد الملك، فأسرع الحجاج، فزاد عبد الملك، فهرول الحجاج، فقلت لعبد الملك، أبك موجدة على هذا? فقال: لا، ولكنه رفع من نفسه، فأحببت أن أغض منه.
وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي، قال: حضر علي عبد الملك وقد أهدي له من خراسان جارية وفص وسيف، فقال: يا أبا محمدٍ، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحداً، فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبي الصغدِ1 من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان وصالحاً ابني عليٍ.
وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف علي من مصلاهُ، فإذا بها على فراشه؛ فقال: مرحباً بك يا أم سليمان، فوقع بها، فأولدها صالحاً، فاجتنبت بعدُ، فسألها عن ذلك? فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآن إذا ولدتُ صالحاً فبالحري إن ذهب أحدهما أن يبقى الآخر، وليس مثلي اليوم من وطئه الرجالُ.
وزعم جعفر أنه كانت فيها رتةُ.
فالرتةُ: تعذرُ الكلام إذا أراده الرجل، فهي الآن معروفةٌ في ولد سليمان وولد صالحٍ.
وكان علي يقول: أكره أو أوصي إلى محمد -وكان سيد ولده - خوفا من أن أشينه بالوصية، فأوصى إلى سليمان، فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى
ـــــــ
1 الصغد: كورة قصبتها سمرقند.

[ليلا1ً] فقال [لها]1: أخرجي إلي وصية أبي، فقالت: إن أباك أجل من أن تخرج وصيته ليلاً، ولكنها تأتيك غداً، فلما أصبح غدا بها عليه سليمان، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك، فقال محمدٌ: جزاك الله من ابن وأخٍ خيراً، ما كنتُ لأثرب على أبي بعد موته، كما لم أثرب عليه في حياته.
قال أبو العباس: التمتمة: التردد في التاء. والفأفأة: التردد في الفاء. والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام. والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته. واللفف: إدخال حرف في حرفٍ. . والرتةُ: كالرتج تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل. والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبين لك تقطيع الحروف. والطمطمة: أن يكون الكلام مشبهاً لكلامِ العجم. واللكنة: أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية. وسنفسر هذا بحججه حرفاً حرفاً، وما قيل فيه، إن شاء الله. واللثغة: أن يعدل بحرفٍ إلى حرف. والغنة: أن يشرب الحرف2 صوت الخيشوم. والخنة: أشد منها. والترخيم: حذف الكلام، يقال: رجل فافاء يا فتى! تقديره فاعالٌ ونظيره من الكلام: ساباطٌ وخاتام.
قال الراجز:
يا مي ذات الجورب المنشق ... أخذت خاتامي بغير حق
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 زيادات ر: كذا ذكره أبو العباس بغير همز الألف الأولى، والصحيح أنه بالهمز على "فعلال" مثل "خضخاض"، و"قمقام"، فالذي حكى أبو العباس غلط؛ لأن سيبوية رحمه الله قال أبو الحسن. يقال: "خاتم" على وزن "دانق" و"خاتم" على وزن ضارب، وخيتام على وزن ديان وخاتام على وزن "ساباط".

لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم
وقال ربيعة الرقي في مدحه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - وربيعة احتج به الأصمعي - وذمه يزيد بن اسيدٍ السلمي:
لشتان ما بين الزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ...
ولكنني فضلت أهل المكارم

وقال آخر أيضاً:
ليس بفأفاءٍ ولا تمتامِ ... ولا محت سقطِ الكلامِ
وقال الشاعر:
وقد تعتريه عقلة في لسانه ... إذا هز نصل السيف غير قريب
وزعم عمرو بن بحر الجاحظ عن محمد بن الجهم قال: أقبلت على الفكر في أيام محاربة الزّطّ، فاعترتني حبسة في لساني. وهذا يكون لأن اللسان يحاتج إلى التمرين على القول، حتى يخفّ له، كما تحتاج اليد إلى التمرين على العمل، والرّجل إلى التمرين على المشي، وكما يعانيه موتر القوس ورافع الحجر ليصلب ويشتدّ، قال الراجز:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
وقال ابن المقفع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت جوانبه ولانت عذبته.
وقال العتّابي: إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدت عليه مخارج الحروف.
وأما الرّتة فإنها تكون غريزة، قال الراجز:
يا أيها المخلّط الأرت
ويقال: إنها تكثر في الأشراف، ولم توجد تختص واحداً دون واحد.
وأما الغمغمة فقد تكون من الكلام وغيره، لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه.

أفصح الناس
وحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة، قال: قال معاوية يوماً: من أفصح الناس? فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. فقال له معاوية: من أولئك? فقال: قومي يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت? قال: أنا رجل من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس.

قوله: "تيامنوا عن كشكشة تميم"، فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيئاً، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وأنها مهموسة مثلها، فأرادوا البيان في الموقف، لأن في الشين تفشياً، فيقولون للمرأة: جعل الله لك البركة في دارش، ويحك مالش، والتي يدرجونها يدعونها كافاً، والتي يقفون عليها يبدلونها شيناً.
وأما بكر فتخلف في الكسكسة، فقوم منهم يبدلون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أعطيتكس.
أما الغمغمة فما ذكرت لك.
وقال الهارب1 لامرأته يوم الخندقة، وذاك أنها نظرت إليه يحد حربة في يوم فتح مكة، فقالت: ما تصنع بهذه? قال: أعددتها لمحمد وأصحابه؛ فقالت: والله إن أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، فقال لها: إني لأرجو أن أخدمك بعضهم؛ وأنشأ يقول:
إن تقبلوا فما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
الألة: الحربة، والغرار ههنا: الحد، يعني "بذي غرارين" السيف.
فلما لقيهم خالد يوم الخندقة انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندقة ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
ولحقتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعد وجمجمه
ضرباً ولا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت2 حولنا وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ـــــــ
1 زيادات ر: "الهارب هو أبو عثمان الهذلي"، ويقال له الرعاش، ويقال إن الرجز المذكور بعد هذا لحماس ابن قيس أخي بنى بكر بن عبد مناة، أنشدة له أبو إسحاق، والخندمة: جبل دخل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح، وقيل: الخندمة مشى فيه إسراع، فأضيف إلى اليوم لما كثر فيه.
2 النهيت: صوت الأسد دون زئيره.

وأما الطمطمانية، ففيها يقول عنترة:
تبري له حول النعام كأنها ... حزق يمانية لأعجم طمطم
وكان صهيب أبو يحيى صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتضخ لكنة رومية، ويذكرون أن نسبه في النمر بن قاسط صحيح.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة".
وقال عمر لصهيب في قوله: إنه من النمر بن قاسط: قد سمعت ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن انتمى إلى غير نسبه، فقال صهيب: أنا من القوم، ولكن وقع علي سباء.
وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنة حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطاب:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال: ما سعرت، يريد: ما شعرت.
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الإسواري.
ويقال: إن علياً عليه السلام عاد زياداً في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوماً لرجل كلمه فظن به رأي الخوارج1: أهروري منذ اليومِ? يريد: أحروري، وهذه الهاء تشترك في قلبها من الحاء أصنافٌ من العجم.
وكان زيادٌ الأعجم - وهو رجلٌ من عبد القيس - يرتضخ لكنةً أعجمية، يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم.
وأنشد المهلب بن أبي صفرة في مدحه إياه:
فتى زاده السلتان في المدح رغبةً ... إذا غير السلتان كل خليلِ
ـــــــ
1 زيادات ر، "الرجل الذي كلمه عبيد الله بن زياد وظن أنه من الخوراج هانىء بن قبيصة".

يريد السلطان، وذلك أن بين التاء والطاء نسباً، فلذلك قلبها تاءً، لأن التاء من مخرج الطاء فقال: السلتان.
أما الغنة، فتستحسن من الجارية الحديثة السن، لأنها ما لم تفرط تميل إلى ضربٍ من النغمة، قال ابن الرقاع العاملي يصف الظبية وولدها:
تزجي أغن كأن إبرةَ روقهِ ... قلمٌ أصاب من الدواةِ مدادها

باب

لمحمد بن عبد الله الثقفي
قال محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثقفي:
لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن من التنعيم معتجرات
مررن بفخ ثم رحن عشيةً ... يلبين للرحمن مؤتجراتِ
تضوع مسكاً بطن نعمانَ أن مشتْ ... به زينب في نسوةٍ عطراتِ
وقامت تراءى يوم جمعٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفاتِ
ولما رأت ركبَ النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذراتِ
دعت نسوةً شمَّ العرانين بدناً ... نواعمَ لاشعثاً ولا غبراتِ1
فأدنين لما قمنَ يحجبن دونها ... حجاباً من القسي والحبراتِ
أحل الذي فوق السمواتِ عرشهُ ... أوانس بالبطحاء معتمراتِ
يخبئن أطراف البنانِ من التقى ... ويخرجن جنح الليل مختمراتِ
قوله: "مثل سربٍ رأيتهُ"، هو القطعة من النساء، أو من الظباءِ، أو من البقرِ، أو من الطير، كما قال:
لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
فهذا يعني نساءً2. ويقالُ: مرت بنا سربةٌ من الطير، في هذا المعنى، قال ذو الرمةِ:
سوى ما أصاب الذئب منه وسربةٌ ... أطافت به من أمهاتِ الجوازلِ
ويقال: فلانٌ واسعٌ السربِ، يعني بذلك الصدرَ، ويقال: خل لفلانٍ سربهُ، أي طريقه الذي يسربُ فيه، ويقال للإبل كذلك بالفتح: لأذعرن سربكَ.
ويقال: حذراتُ، حذراتُ، ويقظٌ، ويقُظٌ؛ قال ابن أحمر:
هل ينسئن يومي إلى غيره ... أني حوالي وأني حذرُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "ولا غفرات"، بالفاء أخت القاف، من الغفر وهو الشعر الذي ينبت في اللحيين؛ يقال: غفرت المرأة إذا نبت لها ذاك الشعر".
2 زيادات ر: "القطيع من السباع يقال له سرب، قاله ابن جنى، وكذا من الماشية كلها".

وقوله:
وكنّ من أن يلقينه حذراتِ
الأصل "من أن يلقينه" ولكن الهمزة إذا خففت وقبلها ساكنٌ ليس من حروف اللين الزوائد، فتخفيفها - متصلة كانت أو منفصلة - أن تلقي حركتها على ما قبلها وتحذفها، تقول: من أبوك?، فتفتح النون وتحذف الهمزة، ومن أخوانك?، ومن أم زيدٍ?؛ فتضم النون وتكسرها وتفتحها، على ما ذكرت لك، وتقول: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} 1 وفلانٌ له هيةٌ، وهذه مرةٌ، إذا خففت الهمزة في الخبء والهيئة والمرأةِ، وعلى هذا قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} 2 لأنها كانت اسأل فلما حركت السين بحركةِ الهمزة سقطت ألف الوصلِ، لتحرك ما بعدها، وإنما كان التخفيف في هذا الموضع بحذف الهمزةِ، لأن الهمزةَ إذا خففت قربت من الساكن، والدليل على ذلك أنها لا تبتدً إلا محققة، كما لا يبتدأ إلا بمتحركٍ، فلما التقى الساكن وحروف تجري مجرى الساكن حذفت المعتل منها، كما تحذف لالتقاء الساكنين.
وقوله: "دعت نسوةٌ شم العرانين"، الشماء السابقة الأنف، والمصدر الشمم.
وقال أحد الشعراء يمدح قثم بن العباس:
نجوت من حلٍّ ومن رحلةٍ ... يا ناق إن قربتني من قثمْ
إنكِ إن قربتنيه غداً ... عاش لنا اليسر وماتَ العدمْ
في باعهِ طولٌ وفي وجههِ ... نورٌ وفي العرنين منه شممْ
لم يدرِ ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعمْ
قال أبو الحسن: أنشدنيه أبي لسليمان بن قتة، وزادني:
أصم عن ذكر الخنا سمعهُ ... وما عن الخير به من صممْ
والعرنين والمرسن والأنف واحدٌ، لما يحيط بالجميع.
والبدن: واحدها بادنٌ كقولك: شاهدٌ وشهدٌ، وضامرٌ وضمرٌ،ن وهو العظيم
ـــــــ
1 سورة النمل 25.
2سورة البقرة 211.

البدنِ، يقالُ: بدن فلانٌ، إذا كثر لحمه، وبدنَ، إذا أسنَّ. وفي الحديثِ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني قد بدنت، فلا تسبقوني بالركوع والسجود1" .
والأشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن، وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل:
من كان حين تمس الشمس جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
قال أبو الحسن، وزادني أبي:
في بطنِ مظلمةٍ غبراءَ مقفرةٍ ... كيما يطيل بها في بطنها اللبثا
تجهزي بجهازٍ تبلغين به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا
ـــــــ
1 زيادات ر: "من رواه: "بدنت"، بضم الدال فقد أخطأ؛ لآن "بدن" بمعنى ضخم، ولم يكن من صفته عليه السلام أنه ضخم الجسم، ولكنه الرجل بين الرجلين، ومعنى "بدن" بالتشديد، أسن.

لعمر بن أبي ربيعة في أم عمر بنت مروان
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة1: ونظر إلى أم عمر بنت مروان بن الحكم، وكانت صارت إليه متنكرة، فرته وقضت من محادثته وطراً، ثم انصرفت، فلما رجعت من منى عرفها، فعلمت ذلك، فبعثت إليه: لا ترفع بي صوتاً، وأهدت له ألف دينار، فاشترى بها عطراً وبزاً وأهداه لها، فأبتْ أن تقبله، فقال: إذاً والله أنهبه فيكون أذيعَ له فقبلته، وفي ذلك يقول:
وكم من قتيلٍ لايباءُ به دمٌ ... ومن غلقٍ رهناً إذا ضمه منى
وكم مالىءٍ عينيه من شيء غيرهِ ... إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى
يجررن أذيال المروط بأسؤقٍ ... خدالٍ إذا ولين أعجازها روى
أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فيا طولَ ما حزنٍ ويا حسنَ مجتلى!
فلم أر كالتجمير منظرَ ناطرٍ ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
وفيها أيضاً يقول:
أيها الرائج المجد ابتكار ... قد قضى من تهمة الأوطارا
ليت ذا الحج كان حتماً علينا ... كل شهرين حجةً واعتمارا
ـــــــ
1 ر: "عمر بن أبي ربيعة" وما أثبته عن الأصل، س.

قوله:
وكم من قتيل لا يباء به دمٌ
يقول: لا يقاد به قاتله، وأصل هذا أنه يقال: أبأت فلاناً بفلانٍ، فباء به، إذا قتلته به، ولا يكاد يتسعمل هذا إلا والثاني كفءٌ للأول، فمن ذلك قولُ مهلهلِ بن ربيعة، حيث قتل بجير بن الحارث بن عبادٍ، فقيل للحارث - ولم يكن دخل في حربم: إن ابنك قتلَ، فقال: إن ابني لأعظم قتيلٍ بركةً، إذ أصلح الله به بين ابني وائلٍ، فقيل له: إنه لما قتلَ قال مهلهلٌ: بؤ بشسعِ نعلِ كليبٍ1؛ فعند ذلك أدخل الحارث يه في الحرب، وقال:
قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حرب وائل عن حيال2
لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلالِ
لم أكن من جناتها علمَ اللهُ ... وإني بحرها اليوم صالي
وقالت ليلى الأخيليةُ:
فإن تكنِ القتلى بواءً فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامرِ
وقال التغلبي3:
ألا تنتهي عنا ملوكٌ وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدمِ
ويقال: باء فلانٌ بذنبهِ، أي. بخع به وأقر، قال الفرزدق لمعاوية:
فلو كان هذا الحكُ في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربهْ
ويقال: باء فلانٌ بالشيء، من قولٍ أو فعلٍ، أي احتمله فصارَ عليه.
وقال المفسرون في قول الله جل وعزَّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} 4، أي يجتمعا5 عليك فتحملهما.
ـــــــ
1 الشسع: الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها.
2 مربط: اسم مكان الربط، والنعامة: اسم فرسه.
3 هو جابر بن حنى؛ وفي ر: "عمر بن حبى"، وهو خطأ صوابه من الأصل، س.
4 سورة المائدة 29.
5 كذا في الأصل، ر وفي س: "يجتمعان".

وأما قوله: "ومن غلقٍ رهنٍ1" فمن جر فهو من قولهم: رهن غلقٌ، فلما قدم النعت اضراراً أبدل منه المنعوتَ، ولو قال: "ومن غلقٍ رهناٌ" فنصب على الحال من المعرفة بقي الاسم المضمر فيغلق.
وقوله: إذا ضمهُ منى فإنما سميت منى لما يمنى فيها من الدم، يقالُ في المني - وهي النطفة - منى الرجلُ وأنى، والقراءةُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} 2 ويقال: مذى الرجلُ وأمذى، وودى وأودى، فقولهم: وذى، يعني البلةَ3 التي تكونُ في عقبِ البولِ كالمذي، وأما المذي فيعتري من الشهوةِ والحركةِ.
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: كل فحلٍ مذاءٌ.
ومن كلام العرب: كل فحلٍ يمذي وكل أنثى تقذي؛ وهو أن يكون منها مثل المذي ولمَنَى موضعٌ آخر، يقال: منى الله لك خيراً، أي قدر لك خيراً، ويقال: منى اللهُ أن ألقى فلاناً، أي قدرَ، والمنيةٌ من ذا، يقال: لقيض فلانٌ منيته، أي ما قدرَ له من الموت، فأما المنيئة بالهمزة فهي المدبغةُ، وهي المكان الذي يدبغ فيه.
وقوله:
إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى
الجمرة إنما سميت لاجتماع الحصى فيها، ومن ثم قيل: لا تجمروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي، والتجمير التجميع. وكذلك قيل في جمراتِ العرب، وهم: بنو نمير بن عامرِ بن صعصعةَ، وبنو الحارث بن كعب بن علةَ بن جلدٍ، وبنو ضبةَ بن أدِّ بن طابخةَ، وبنو عبس بن بغيض بن ريثٍ. لأنهم تجمعوا في أنفسهم ولم يدخلوا معهم غيرهم. وأبو عبيدةَ لميعدد فيهم عبساً في كتاب الديباج ولكنهقال: فطفئت جمرتانِ، وهما بنو ضبةَ - لأنها صارت إلى الرباِ فحالفت - وبنو الحارثِ، لأنها صارت إلىمذحجٍ؛ وبقيت بنو نميرٍ إلى الساعة، لأنهالم تحالف، وقال النميري يجيب جريراً:
نميرٌ جمرةُ العربِ التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذا أسبُ بها كليباً ... فتحت عليهم للخسف بابا
ـــــــ
1 رسمت في ر، وتحتها كسرتان وفوقها فتحتان.
2 سورة الواقعة 58.
3 زيادات ر: "بكسر الباء رواية عاصم، وبفتحها رواية ابن سراج".

وقال في هذا الشعرِ:
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم تسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليبٍ ... وكيف يشتام الناس الكلابا!

لعمر بن أبي ربيعة في الثريا بنت علي
وقال عمرُ بن عبد الله بن أبي ربيعة:
ليت شعري هل أقولن لركبٍ ... بفلاة هم لديها هجوع
طالما عرستم فاستقلوا ... حان من نجم الثريا طلوعُ
إن همي قد نفى النوم عني ... وحديث النفس شيءٌ ولوعُ
قال لي فيها عتيق مقالاً ... فجرت مما يقولُ الدموعُ
قال لي: ودع سليمى، ودعها ... فأجاب القلبُ: لا أستطيعُ
لا تلمني في أشتياقي إليها ... وأبكِ لي مما تجنُّ الضلوعُ
قوله:
حان من نجم الثريا طلوعُ
كنايةٌ، وإنما يريدٌ الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أميةَ الأصغر، وهم العبلات. وكانت الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني، واسمه عبدُ الملك، ويكنى أبا يزيد، ويقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: إنما سمي الغريض بالطلع، لأن الطلع يقالُ له الإغريض، وليس هو عندي ما قال، وإنما سمي الغريض لطرائته، يقال: لحمُ غريضٌ. وكانت الثريا موصوفة بالجمال، وتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوفٍ الزهري، فنقلها إلىمصر، فقال عمرُ، يضربُ لهما المثل بالكوكبين:
أيها المنكحُ الثريا سهيلاً ... عمركَ الله، كيف يلتقيانِ!
هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يماني
وقوله:
قال لي فيها عتيق مقالاً
يزعمُ الرواة أن كل شيء ذكر فيه عتيقاً أو بكراً فإنما يعني ابن أبي عتيقٍ.

طرف من أخبار ابن عتيق
وكان ابن أبي عتيق من نساكِ قريشٍ وظرفائهم، بل كان قد بذهم ظرفاً، وله أخبارٌ كثيرةٌ، سمير بعضها في الكتابِ، إن شاء الله.
فمن طريف أخباره أنه سمعَ وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال: أبنا يعلبُ ابن أبي ربيعة! فأي محرم بقي! فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، فلما دخل أنصاب الحرم، قيل له: أحرم، قال: إن ذا الحاجةِ لا يحرم، فلقي ابن أبي ربيعة فقال: أما زعمت أنك لم تركب حراماً قط! بلى، قال: فما قولك:
كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال له: إذاً أخبركَ! خرجت بعلةِ المسجد، فصرنا إلى بعض الشعابِ، فأخذتنا السماءُ، فأمرتُ بمطرفي فسترنا الغلمانُ به، لئلا يروا بها بلةً فيقولوا: هلا استترت بسقائف المسجد! فقال لهابن أبي عتيقٍ: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنةٍ.
وهو الذي سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ!
فلبس ثيابه وركب بغلته وأتى باب الثريا، فاستأذن عليها، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً، فقال: أجل، ولكني جئت برسالةٍ، يقول لك ابن عمك عمرُ بن أبي ربيعةَ:
ضقت ذرعاً بهجرك والكتابِ
فلامه عمرُ، فقال له ابن أبي عتيق: إنما رأيتك متلدداً تلتمس رسولاَ، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكرَ.

ومن طريف أخباره أن عائشة بنت طلحة عتبت على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعبُ: هذه عشرة آلاف درهم لمن احتال لي أن تكلمني، فقال له ابن أبي عتيق: عدلِ المال، ثم صار إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب، فقالت والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال لها. يا بنتَ عم، إنه قد ضمن لي إن كلمته عشرةَ آلاف درهمٍ، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودكِ اللهُ.
ومن أخباره أن مرون بن الحكم قال يوماً: إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي رحمهما الله، فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك، أتقضي لي ثلاثين حاجةً? قال: نعم، قال: إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش، ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك، فلما أخذالناس مجالسهم أخذ في مآثر قريشن فقال له مروان: ألا تذكر أوليةَ أبي محمد، وله في هذه ما ليس لأحدٍ? فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا ما لأبي محمد! فلما خرج الحسن ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن - وتبسمَ -: ألك حاجةٌ? فقال: ذكرتُ البغلة، فنزل الحسنُ ودفعها إليه.
ومن طريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاءِ، ففعل، وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بكِ قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أو ما تدري ما حدث? وأخبرته الخبر، فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، فقالت: إنا نخاف ألا تغني شيئاً وننكظ1، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فاستأذن عليه، فأخبره أن أحب ما أقدمه عليه حب التسليم عليه، وقال له: إن من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. قال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها
ـــــــ
1 زيادة ر: "تعني تنالنا شدة".

وبين مجاورة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظرُ إليها، فإن كانت ممن يترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت، وأخذت سبحةً في يدها، وصارت إليه، وحدثته عن مآثر آبائه، ففكهَ لها? فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت، فأعجب بذاك. فقال لها: فاحدي للأمير، فحركه حداؤها، ثم قال لها: غيري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمانُ، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها! فقال: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه ... بكل لبانٍ واضحٍ وجبين
فنزل عثمان بن حيان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرجُ عن المدينة! فقال له ابن ابي عتيق: إذن يقول الناس أذنَ لسلامةَ في المقام ومنع غيرها! فقال له عثمان: قد أذنتُ لهم جيمعاً.

لابن نمير الثقفي
وقال ابن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاثِ
ظعائن أسلكت نقب المنقى ... تحث إذا ونت أي احتثاثِ
كأن على الظعائن يوم بانوا ... نعاجاً ترتعي بقل البراثِ
يهيجني الحمامُ إذا تغنى ... كما سجع النوائح بالمراثي
قوله: الظعائن واحداتها ظعينةٌ، وإنما قيل لها: ظعينةٌ، وهم يريدوه مظعوناً بها، كقولك: قتيلٌ، في معنى مقتول، ثم استعمل هذا وكثر حتى قيل للمرأة المقيمة: ظعينةٌ.
وقوله:
بذي الزي الجيمل من الأثايِ
هي الرواية الصحيحة، وقد قيل بذي الري الجميل واستهواهم إليه قول الله جل ثناؤه: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} 1 فالأثاث متاع البيت، ولاري ما ظهر من
ـــــــ
1 سورة مريم 74.

الزينة، وإنما أخذ من قولك: رأيتُ، فالري غير الأثاث والزي من الأثاثِ، فمن ههنا غلطوا.
وقوله: "أسلكت نقب المنقى"، فالمنقى موضع بعينه، والنقب: الطريق في الجبل، والخل: الطريق في الرمل، فإن اتسع الطريق في الجبل وعلا فهو ثنيةٌ، قال ابن الأيهم التغلبي:
وتراهن شزباً كالسعالي ... يتطلعن من ثنايا النقابِ 1
وقوله:
نعاجاً ترتعي بقل البراثِ
فالنعجة عند العرب البقرة الوحشية، وحكم البقرة عندهم حكم الضائنة، وحكم الطبية عندهم حكمُ الماعزة، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وبالشاةِ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2 وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاتِه ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
يريد المرأة. وأما البراث، فهي الأماكن السهلة من الرمل، واحدها برثٌ، مفتوح موضع الفاء من الفعل، وتقديرها: كلب وكلابٌ، والسجع من الكلام: أن تأتلف أواخره على نسقٍ، كما تأتلف القوافي، وهو في البهائم: موالاة الصوتِ، قال ابن الدمينة:
أأن سجعتْ ورقاءُ في رونقِ الضحى ... على فننٍ غض النباتِ من الرند3
ـــــــ
1 الشذب: الضوامر.
2 سورة ص 23.
3 زيادات ر: "الرند": صغار الأس.

لعمر بن أبي ربيعة
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحب القتول أختَ الربابِ?
قلت: وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما منعت برد الشرابِ
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ

سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما تحل اغتصابي1?
أزهتقت أم نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متابِ
حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني? قالت أبو الخطابِ
فاستجابت عند الدعاء كما لبى ... رجالٌ يرجون حسن الثوابِ
أبرزوها مثل المهاةِ تهادى ... بين خمس كواعبٍ أترابِ
وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديم الخدين ماءُ الشبابِ
ثم قالوا: تحبها? قلت: بهراً ... عدد النجم والحصى والترابِ
دميةٌ عند راهبٍ ذي اجتهادٍ ... صوروها في جانب المحرابِ
قوله:
قلت وجدي بها كوجدكَ بالماء
معنى صحيح، وقد اعتوره الشعراءُ، وكلهم أجادَ فيه.
وقوله:
إذا ما منعت برد الشرابِ
يريد: عند الحاجة، وبذلك صح المعنى. ويورى عن علي بن أبي طالب رحمه الله أن سائلاً سأله، فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال: كان واللهِ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وقال آخر - وأحسبه قيس بن ذريحٍ:
حلفت لها بالمعشرين وزمزمِ ... وذو العرش فوق المقسمين رقيبُ2
[قال أبو الحسن: ويروى: والله فوق المقسمين، وهو أحب إليَّ].
لئن كان بردُ الماء حرانَ صادياً ... إلي حبيباً إنها لحبيبُ
وقال القطامي:
يقتلنا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي
فن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلةِ الصادي
والقول فيه كثير.
ـــــــ
1 قال المرصفى: مجاجة المسك: ومجتها التي تنفح رائحة المسك.
2 أراد بالمشعرين، المشعر الحرام فثناه، وهو موضع بالمزدلفة، قاله المرصفى.

وقوله:
ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ1
قوله: "والكتابِ" قسمٌ.
وقوله:
أزهقت أم نوفلٍ إذ دعتها مهجتي
وقوله: تأويله: أبطلت وأذهبت، قال الله جل وعزَّ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 2 الأنبياء؛ 18؛ وللزاهق موضع آخرُ، وهو السمين المفرطُ، قال زهيرٌ:
القائدُ الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنونُ ومنها الزاهقُ الزهِمُ3
وقوله: "ما لقاتلي من متاب" يقول: من توبةٍ، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعلَ يفعلُ فهو على مفعلٍ قال الله جل وعزّ: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} 4 وأما قوله جل ذكره: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} 5 فيكون على ضربين، يكون مصدراً، ويكون جماعاً. فالمصدر قولك: تاب يتوب توباً، كقولك: قال يقولو قولاً، والجمع توبةٌ وتوبٌ، مثل تمرةٍ وتمر، وجمرةٍ وجمرْ.
وقوله:
أبرزوها مثلَ المهاةِ تهادى
المهاةُ، البقرةُ في هذا الموضعِ، وتشبه المرأة بالبقرة من الوحش لحسن عينيها ولمشيتها، والبقرةُ يقال لها: العيناءُ، والجماعُ العينُ، وكذلك يقالُ للمرأةِ. وتكون المهاةُ البلورة في غير هذا الموضعِ.
وقوله: "تهادى" يريدُ: يهدي بعضها بعضاً في مشيتها، ومشية البقرةِ تستحسنُ، قال ابن أبي ربيعةَ:
ـــــــ
1 الذرع: الطاقة.
2 سورة الأنبياء 18.
3 قال المرصفى: منكوبا، من نكبت الحجارة الحافر تنكب أصابته فأمسته.
4 سورة الفرقان 71.
5 سورة غافر 3.

أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقامِ والحجرِ
يمشين في الريط والمروط كما ... تمشي الهويني سواكنُ البقرِ
وقوله: "كواعب" الواحدةُ كاعبٌ، وهي التي قد كعب ثدياها للنهود. أترابٌ: أقرانٌ، ويقال: تربُ فلانٍ.
والممكورة: المكتنزة.
وقوله:
ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً
قال قوم: أراد بقوله: تحبها الستفهام، كما قال امرؤ القيس:
أحارِترى برقاً أريكَ وميضهُ
فحذف ألف الاستفهام، وهو يريد أترى، وقولوا: أراد أتحبها، وهذا خطأ فاحشٌ، إنما يجوز حذف الألفِ إذا كان في الكلامِ دليلٌ عليها، وسنفسرُ هذا ونذكرُ الصوابَ منه، إن شاء الله.
قوله: تحبها إيجاب عليه، غير استفهامٍ؛ إنما قالوا: أنت تحبها، أي قد علمنا ذاك، فهذا معنى صحيحٌ لا ضرورة فيهِ.
وأما قولُ امرىء القيس فإنما جاز لأنه جعل الألف التي تكونُ للاستفهام تنبيهاً للنداءِ، واستغنى بها، ودلت على أن بعدها ألفاً منويةً، فحذفت ضرورةً، لدلالة هذه العليها. ونظير قول امرىء القي: "أحار ترى برقاً" فاكتفى بالألفِ عنِ أن يعيدها في ترى قول ابن هرمة:
ولا أراها تزالُ ظالمةً ... تظهر لي قرحة وتنكؤها
استغنى بلا الأولى عن إعادتها؛ كما قال التميمي. وهو اللعين المنقري:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقرِ
يريد "أشعيث" فدلت "أم" على ألف الاستفهام، وقال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
مثل ذلك: وبيت الأخطل فيه قولان، وهو:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلامَ من الربابِ خيالاَ

قال: أراد: "أكذبتك عينكَ" كما قلنا فيما قبله، وليس هذا بالأجود، ولكنه ابتدأ متيقنا ثم شك، فأدخل "أم" كقولك: "إنها لإبل" ثم تشك فتقول: "أم شاء" يا قوم.
وقوله: "قلت بهراً" يكون على وجهين؛ أحدهما: حباً يبهرني بهراً.
أي يملأني، ويقال للقمر ليلة البدرِ: باهرٌ، أييبره النجوم، يملأها، كما قال ذو الرمة:
كما يبهر البدرُ النجومَ السواريا
وقال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكمُ ... أبلج مثل القمرِ الباهرِ
والوجهُ الآخر: أن يكون أراد "بهراً لكم" أي: تباً لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن ميادة1:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍ بهراً لهم بعدها بهرا
وقوله:
عدد النجم والحصى والترابِ
فيه قولان: أحدهما أنه أراد بالنجم النجوم، ووضع الواحد في موضع الجمع، لأنه للجنس؛ كما تقول: أهلك الناس الدرهم والدينارُ، وقد كثرتِ الشاةَ والبعيرُ، وكما قال الله جل وعزَّ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2 .
وقال الشاعر:
فبات يعدُّ النجمَ في مستجيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودها
يريد النجمَ، ويعني بالمستحيرة إهالة3. والوجهُ الآخرُ أن يكون النجمُ ما نجمَ من النبتِ، وهو ما لم يقم على ساقٍ، والشجرُ ما يقوم على ساقٍ.
ـــــــ
1 في ر، س: "ابن مفرع" وصوابه من الأصل.
2 سورة العصر 3،2.
3 الإهالة: ما أذيب من الشحم.

واليقطين: ما انتشر على وجه الأرض. قال الله عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1، وقال الحارث بن ظالمٍ، للأسودِ بن المنذر بنماء السماء:
أخصيي حمارٍ بات يكدم نجمةً ... أيؤكل جيراني وجارُكَ سالمُ!
ومن طريف شعره قوله:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئت ... مصابيحُ شبت بالعشاءِ وأنؤرُ
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيانٌ ونومَ سمرُ
ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ ... ـحباب وركبي خيفة القوم أزورُ
فحييتُ إذ فاجأتها فتولهت ... وكادت بمكنون التحيةِ تجهرُ
وقالت وعضت بالبنانِ: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسرُ
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف ... رقيباً وحولي من عدوكَ حضرُ
واللهِ ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ ... سرت بك أم قد نامَ من كنت تحذرُ
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عينٌ من الناس تنظرُ
فيا لك من ليلٍ تقاصرَ طولهُ ... وما كان ليلي قبلَ ذلك يقصرُ
ويا لك من ملهى هناك ومجلسٍ ... لنا لم يكدره علينا مكدرُ
يمج ذكيَّ المسكِ منها مفلجٌ ... رقيقُ الحواشي ذو غروبٍ مؤشرُ
يرفُّ إذا يفترُّ عنه كأنهُ ... حسى بردٍ أو أقحوانٌ مغورُ
وترنو بعينيها إلي كما رنا ... إلى ربابٍ وسط الخميلةِ جؤذرُ
فلما تقضي الليلُ إلا أقلهُ ... وكادت توالي نجمه تتغورُ
أشارت بأن الحيَّ قد حان منهمُ ... هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزورُ
فما راعني إلا منادٍ برحلةٍ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصبح أشقرُ
فلما رأت من قدر تثورَ منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشرْ كيف تأمرُ
فقلت: أباديهم فإما أفوتهم ... وإما ينالُ السيفُ ثأراً فيثأرُ
فقالت: أتحقيقاً لِما قال كاشحٌ ... علينا، وتصديقاً لما كان يؤثر!
فإن كان ما لا بد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاءِ وأسترُ
أقص على أختي بدء حديثنا ... ومالى من أن تعلما متأخر
ـــــــ
1 سورة الرحمن 6.

لعلهما أن تبغيا لك مخرجاً ... وأن ترحبا سرباً بما كنتُ أحصرُ
فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تذري عبرةٌ تتحدرُ
فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمر للأمر يقدرُ
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... أقلي عليكِ الهمَّ فالخطبُ أيسرُ
يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرنا يفشو ولا هو يظهرُ
فكان مجني دون من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانٍ ومعصرُ
فلما أجزنا ساحةَ الحي قلن لي: ... ألم تتقِ الأعداءَ والليلُ مقمرُ!
وقلن: أهذا دأبك الدهرَ سادراً ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكرُ!
قوله: "شبت" يقول: أوقدت، يقالُ: شببتُ النارَ والحربَ، أي أوقدتهما.
وقوله: "وأنؤر" إن شئت همزتَ، وإن شئت لم تهمز، وإنما الهمز لانضمام الواو، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "قميرٌ"، إنما صغره لأنه ناقصٌ عن التمام، وهذا في أول الشهر، وكذلك يصغرُ في آخر الشهر، لأن النقصان فيهما واحدٌ، قال عمرُ:
وقميرُ بدا ابن خمسٍ وعشريـ ... ـن له قالتِ الفتاتان قوما
وقوله: رعيانٌ يريد جمع الراعي، ومثله: راكبٌ وركبانٌ، وفارسٌ وفرسانٌ.
والسمرُ: جمع السامرِ، وهم الجماعة يتحدثون ليلاً.
والحباب: حيةٌ بعينها.
وقوله: ونفضت عني العين يقول: احترستُ منها وأمنتها، والنفضة: أمامَ العسكر: القوم يتقدمون فينفضون الطريق.
وقوله: أزورُ، يعني متجافياً، يقال: تزاور فلانٌ؛ إذا ذهب في شقٍّ.
وقوله: ذو غروبٍ؛ غربُ كل شيءٍ: حده، وإنما يعني الأسنانَ.
وقوله: "مؤشرُ" يعني له أشرٌ، وهو تشريرُ الأسنان في قول الناس جميعاً، يقال: لأسنانه أشرٌ، فهذا الشائعُ الذائع، وأما الشنبُ، فهو عندهم جيمعاً بردٌ في الأسنان.

وحدثني الرياشي عن ابن عائشة قال: أخذ أبي حبةَ رمانٍ بين إصبعيه فإذا هي ترفُ، فقال: هذا الشنبُ.
وقوله:
وكادت توالي نجمه تتغورُ
التوالي: التوابعُ، وتتغورُ: تغورُ فتذهب، وهو مأخوذ من الغور.
وقوله: "أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوبٌ" يقول: انبتاهٌ، يقال: هبَّ من نومه يهبُّ، قال عمرو بن كلثومٍ:
ألا هبي بصحنكِ فاصبحينا ... ولا تبقي خمورَ الأندرينا
وقال الاخر:
هبت تلومُ وليست ساعةَ اللاحي ... هلا انتظرت بهذا اللومِ إصباحي
وعزور: موضع بعينه.
وقوله: ويقاظهم جمع يقظ.
وقوله: فقالت أتحقيقاً أي أتفعل هذا تحقيقاً، ومن كلام العرب: أكلُّ هذا بخلاً? وذاك أنه رآه يفعل شيئاً أنكره فقال: أتفعل كل هذا بخلاً! وقوله: أباديهم أظهر لهم، غير مهموزٍ يقال. بدا يبدو، غير مهموزٍ، إذا ظهر، وبدأت بهذا، مهموزٌ، إذا أردت به معنى الأول.
وقوله: بدء حديثنا يريد أول حديثنا.
وقوله: أن ترحبا يريد: أن تتسع، أي تتسع صدروهما، من قولهم: فلانُ رحيب الصدرِ.
وقوله: "أحصرُ" أضيق به ذرعاً، قد مضى تفسيره.
وقوله: "مجني" يريد تُرسي.
وقوله: "ثلاث شخوص" والوجهُ ثلاثةً أشخُصٍ ولكنها لما قصد إلى النساء أنثَ على المعنى، وأبان لما أرادَ بقوله: "كاعبانِ ومعصرُ".

ومثله قولُ الشاعر:
فإن كلابا هذا عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ
فقال: "عشرُ أبطنٍ"، لن البطنَ قبليةٌ، وأبانَ ذلك في قوله: من قبائلها العشرِ، وقال الله جل وعز: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 1 لأن المعنى حسناتٌ.
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبةَ المري إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترسٌ قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشأم، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك! يريد قول ابن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاثَ شخوصٍ كاعبان ومعصرِ
وقوله: أما تستحي، يريد: تستحيي وله تفسير يبعد في العربية قليلاً، وسنذكره بعد هذا، إن شاء الله.
ـــــــ
1 سورة الأنعام 160.

باب

عمر الوادي والعبد الأسود
قال أبو العباس: وحدثتُ أن عمر الوادي قال: أقبلتُ من مكة أريدُ المدينةَ، فجلعتُ أسيرُ في صمدٍ1 من الأرض، فسمعت غناءً من القرار2 لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه ولو بذهاب نفسي، فانحدرتُ إليه، فإذا عبدٌ أسود، فقلت له: أعد علي ما سمعت، فقال لي: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلتُ، ولكني أجعله قراكَ، فإني [والله3] ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم انبرى يغنيني4:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... رى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفراتِ البيضِ ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها5
وبعده:
وتحلل أحقادي إذا ما لقيتها ... وتبقى بلا ذنبٍ علي حقودها
وكيف يحب القلب من لايحبه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها6
قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكر.
ـــــــ
1 الصمد: المكان المرتفع من الجبال، وفي ر: "صرد".
2 القرار: المطمئن من الأرض.
3 تكمله من س.
4 س: "يغنى".
5 ر: "إذا ما قضت أحدوثة".
6 مابين العلامتين من زيادات ر.

خالد صامة والوليد بن يزيد
وتحدث الزبيريون عن خالد صامة أنه كان من أحسن الناس ضرباً بعودٍ1، قال: فقدمت على الوليد بن يزيد، وهو في مجلس ناهيك به مجلساً! فألفيته على سريره، وبين يديه معبدٌ، ومالكُ بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كمال غزيل الدمشقي، فجعلوا يغنون، حتى بلغت النوبة لي فغنيته:
ـــــــ
1 كذا في الأصل، ر، وفي س: "بالعود".

سرى همي وهم المرء يسري ... وغار النجم إلا قيد فترِ
أراقب في المجرةِ كل نجمِ ... تعرض أو على المجراة يجري
لهم ما أزال له قريناً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ
على بكرٍ أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكرِ!
فقال لي: أعد يا صام1؛ ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر? فقلت: هذا يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً، فقال لي الوليد:
وأي العيس يصلح بعد بكرِ
هذا العيش الذي نحن فيه، والله قد تحجر واسعاً على رغم أنفهِ.
وحدثت أن سكينة بن الحسين أنشدت هذا الشعر، فقالت: ومن بكرٌ? فوصف لها، فقالت: أذاك الأسيد الذي يمر بنا? والله لقد طاب كل شيءٍ بعد ذاك، حتى الخبز والزيتُ.
ـــــــ
1 صام، بالترخيم.

من أخبار يزيد بن عبد الملك
وروى أصحابنا أن يزيد بن عبد الملك -وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية وإليها كان ينسب - قال يوماً: يقال: إن الدنيا لم تصف لأحد قط يوماً، فذا خلوت يومي هذا فاطووا عني الأخبار، ودعوني ولذتي وما خلوتُ له، ثم دعا بحبابة، فقال: اسقيني وغنيني، فخلوا في أطيب عيش، فتناولت حبابةُ حبة رمان، فوضعتها في فيها، فغصت بها فماتت، فجزع يزيد جزعاً أذهله ومنه من دفنها، حتى قال له مشايخ بني أمية؛ إن هذا عيب لا يستقال، وإنما هذه جيفة، فأذنَ في دفنها، وتبع جنازتها، فلما واراها قال: أمسيت والله فيك كما قال كثيرٌ:
فإن تسلُ عنك النفس أو تدعِ الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلدِ
وكل خليلٍ راءني فهو قائلٌ ... من اجلك: هذا هامة اليوم أو غدِ
فعد بينهما خمسة عشر يوماً.

وقوله: "راءَني" يريد "رآني"، ولكنه قلب؛ فأخر الهمزة. ونظير هذا من الكلام قسيٌّ وإنما الأصل قؤوسٌ ولما أخرَ الواوين أبدل منهما، ياءين، كما يجب في الجمع، وتقول: دلو ودلويٌّ، وعاتٍ وعتيٌّ، وإن شئت قلت: عتي ودليُّ، من أجدل الياء، فإن كان فعولٌ لواحدٍ قلت: عتو. ويجوز القلبُ، والوجه في الواحد إثبات الواوِ، كما تقولُ: مغزوٌّ ومدعوٌّ ويجوز مغزيٌّ وفي القرآن {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} 1 وقال: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} 2 وقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3 والأصل مرضوةٌ لأنه من الواو، من الرضوان. ومن القلب قولهم طأمن ثم قالوا: اطمأن، فأخروا الهمزة وقدموا الميم، ومثل هذا كثيرٌ جداً.
وقوله: "هذا هامةُ اليوم أو غدِ"، يقول: ميت في يومه أو في غدِهِ، يقال: إنما فلانٌ هامةٌ أي يصير في قبره، وأصل ذلك شيءٌ كانت العربُ تقوله، قد مضى تفسيره.
ـــــــ
1 سورة الفرقان 21.
2 سورة مريم 69.
3 سورة الفجر 28.

إسحاق الموصلي والرشيد
وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعتُ إسحاق بن إبراهيم الموصلي يتحدث قال: حججت من أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا فنزلنا المدينة آخيت بها رجلاً كان له سنٌّ ومعرفةٌ وأدبٌ، فكان يمتعني، فني ذات ليلةٍ في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليَّ، فظننت أمراً قد فدحه ففزع فيه إلي، فأسرعت نحو الباب، فقلتُ: ما جاء بك? فقال: إذن أخبركَ: دعاني صديقٌ لي إلى طعام عتيدٍ1، وشرابٍ قد التقى طرفاهُ، وشواءٍ رشراشٍ، وحديثٍ ممتعٍ، وغناءٍ مطربٍ؛ فأجبته، وأقمتُ معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حمياً الكأسِ مأخذها، ثم غنيتُ بقول نصيبٍ:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملكِ القلبُ
فكدت أطير طرباً، ثم وجدتُ في الطرب نقصاً إذ لم يكن معي من يفهم ذا كما فهمته، ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال، ثم أرجع إلى صاحبي، وضرب نعليه مولياً عني! فقلت: قف أكلمك، فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجةٍ.
ـــــــ
1 عتيد: معتد.

من أخبار حسان بن ثابت
وحدثن غير واحدٍ من أصحابنا عن أبي زيدٍ سعيد بن أوسٍ الأنصاري، يسندهُ، قال: كانت وليمةٌ في أخوالنا، وهم حي يقال لهم بنو نبيطٍ، من الأنصار، قال: فحضر الناس وجاء حسانُ بن ثابتٍ وقد ذهب بصرهُ، ومعه ابنه عبد الرحمن يقودهُ، فلما وضع الطعام وجيء بالثريدِ قال حسان لابنه: يا بني، أطعامُ يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: با طعامُ يدٍ، فأكل ثم جيْ بالشواءِ، فقال: أطعام يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: طعام يديد، فأمسك، وفي المجلس فينتان تغنيان بشعر حسان:
انظر خليلي ببابِ جلقَ هل ... تؤنس دون البلقاءِ من أحد؟1
قال: وحسان يبكي، يذكر ما كان فيه من صحة البصر والشباب، وعبد الرحمن يومىء إليهما: أن زيدا. قال أبو زيد: فلأعجبني ما أعجبه من أن تبكيا أباهُ.
يقول: عجبت ما الذي اشتهى من أن تبكيا أباهُ. فقوله: أعجبني أي تركني أعجبُ. ومثله قول ابن قيس الرقياتِ:
ألا هزئت بنا قرشيـ ... ـةٌ يهتز موكبها
رأت بي شيبةً في الرأ ... سِ عني ما أغيبها
فقالت: أبن قيسٍ ذا؟ ... وبعض الشيبِ يعجبها
أي تعجب منه.
ـــــــ
1 جلق: إحدى قرى دمشق.

خليلانُ الأموي يغني لأمير البصرة
وحدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: كان خليلان1 الأموي يتغنى، ويرى ذاك زائداً في الفتوة. وكان خليلانُ شريفاً وذا نعمةٍ واسعةٍ، فحضر يوماً منزل عقبة بن سلم الهنائي وهو أمر البصرة، وكان عاتياً جباراً، فلما طعما وخلوا نظر خليلانُ إلى عودٍ موضوعس في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به، فأخذه فتغنى:
ـــــــ
1 خليلان، كان يعرف به خليل بن عمرو، مولى بنى عامر بن لؤى، كان يؤدب الصبيان ويعلم الجوارى الغناء في موضع واحد. "رغبة الآمل".

بابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما يؤوب
ولقد لاموا فقلت: دعوني ... إن من تلحون فيه حبيبُ
فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلانُ في سهو عما فيه عقبةُ، يرى أنه محسن، ثم فطن لتغير وجه عقبة، فعلم أنه كارهٌ1 لما تغنى به، فقطع الصوت، وجعل مكانه:
ألا هزئت بنا قرشيةيهتزُّ موكبها
فسري عن عقبة، فلما انقضى الصوت وضع خليلانُ العودَ، ووكد على نفسه الحلف ألا يني عند من يجوز أمره عليه أبداً.
ـــــــ
1 كلمة "كاره" ساقطة من ر، وهي في الأصل، س.

غضب الرشيد لشعر مدح به أخوه
وحدثت أن رجلاً تغنى بحضرة الرشيد بشعر مدح به علي بن ريطة، وهو علي ابن أمير المؤمنين المهدي، وتغناه على جهل، وهو:
قل لعلي: أيا فتى العربِ ... وخير نام وخير منتسبِ
أعلاك جداك يا علي إذا ... قصر جدٌّ في ذروة الحسبِ
ففتش عن المغني فوجده لم يدر فيمن الشعرُ. فبحث عن أول من تغنى فيه، فذا هو عبدُ الرحيم الرقاص، فأمر فضرب أربعمائة سوط.

معاوية وابنه يزيد
وحدثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلةٍ، فسمع من عنده غناءً أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة? فقال له يزيد: ذاك سائب خاثرٍ، قال: إذاً فأخثر له من العطاء.

معاوية عند عبد الله بن جعفر
وحدثت أن معاوية قال لعمرو: امضِ بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته، حتى ننعى عليه، أي نعيب عليه فعله - يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ - فدخلا إليه، وعنده سائبُ خاثر، وهو يلقي على جوارٍ لعبدِ الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائبُ مكانه، وتنحىعبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاويةُ عمراً فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فالقيت، وأخرج الجواري، فتغنى سائبٌ بقول قيس بن الخطيم:
ديارُ التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائبِ
ومثلك قد اصبتُ ليست بكنةٍ ... ولا جارةٍ ولا حليلة صائب1
وردده الجواري عليه، فحرك معاويةُ يديه وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير. فقال له عمروٌ: اتئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت لا أبا لك! فإن كل كريمٍ طروبٌ.
ـــــــ
1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ.

سفيان بن عيينة وجاره السهمي
وحدثت من غير وجه أن سفيان بن عيينة قال لجلسائه يوماً: إني أرى جارنا هذا السهمي قد أثرى وانفسحت له نعمةٌ، وصار ذا جاهٍ عند الأمراء، ووافداً إلى الخلفاء، فمم ذاك? يعني يحيى بن جامعٍ، فقال له جلساؤه: إنه يصير إلى الخليفة فيتغنى له، فقال سفيانُ: فيقول ماذا? فقال أحدُ جلسائه: يقول:
أطوف نهاري مع الطائفني ... وأرفع من مئزري المسبلِ
فقال سفيان: ما أحسن ما قال! فقال الرجلُ:
واسهر ليلي مع العاكفين ... وأتلوا من المحكم المنزلِ
قال: حسن والله جميل، قال: إن بعد هذا شيئاً، قال سفيان: وما هو? قال:
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخرُ لي ربةَ المحملِ
فزوى سفيانُ وجههُ، وأومأ بيده أن كفَّ، وقال: حلالاً حلالاً!

ابن أبجر يغني لعطاء بن رباح
ولقي ابن أبجر عطاء بن أبي رباح وهو يطوف، فقال: اسمع صوتاً للغريض، فقال له عطاءُ: يا خبيث، أفي هذا الموضع! فقال ابن أبجر: ورب هذه البنية لتسمعنه خفيةً، أو لأشيدنَّ به، فوقف له، فتغنَّى:

عوجي علينا ربةَ الهودج ... إنكِ إلا تفعلي تحرجي
أنى أُتيحت لي يمانةٌ ... إحدى بني الحارثِ من مذحجِ
تلبث حولاً كاملاً كلهُ ... لا نلتقي إلا على منهجِ
في الحج إن حجت، وماذا منًى ... وأهله إن حي لم تحججِ!
فقال له عطاء: الكثير الطيب يا خبيث!

سليمان بن عبد الملك في عسكره
وسمع سليمان بن عبد الملك متغنياً في عسكره، فقال: اطلبوه، فجاؤوا به، فقال: أعد ما تغنيت، فتغنى واحتفل، وكان سليمانُ مفرطَ الغيرةَِ، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرةُ الفحلِ في الشولِ1، وما أحسب أنثى تسمعُ هذا إلا صبت. ثم أمر به فخصي.
ـــــــ
1 الجرجرة: هدير الفحل، والشول: جمع شائلة، وهي من الإبل التي أنى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها به.

الفرزدق يسمع الأحوص يغني بشعر جرير
وحدثت أن الفرزدق قدم المدينة فنزل على الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال له الأحوص: ألا أسمعك غناءً من غناءِ القرى? فأتاه بمغنٍّ فجعل يغنيه، فكان ما غناه:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرغ بشامةٍ، سقي البشامُ! 1
ولو وجد الحمامُ كما وجدنا ... بسلمانين لاكتأب الحمامُ2
فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر? فقالوا: لجريرٍ، ثم غناه:
اسرى لخالدةَ الخيالُ ولا أرى ... شيئاً ألذ من الخيالِ الطارقِ
إن البليةَ من تملُّ حديثَه ... فانقع فؤادكَ من حديثِ الوامِقِ3
ـــــــ
1 سلمانين: واديا في جبل لغنى.
2 تكملة من س.
3 الوامق: المحب.

فقال: لمن هذا؟ فقيل: لجرير، ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبكَ غادروا ... وشلا بعينك ما يزالُ معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لجريرٍ، فقال الرزدق: ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقةِ شعره!

الأحوص ومعبد عند عقيلة المغنية
وقال الأحوص يوماً لمعبدٍ: امض بنا إلى عقيلةَ حتى نتحدثَ إليها، ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا، فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري، ثم الرزرقي، وابن صائدٍ النجاري، فاستأذنوا عليها جميعاً؛ فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن غضابٌ على الأحوص، فانصرف الأحوص وهو يلومُ أصحابه على استبدادهم، فقال:
ضنت عقيلةُ لما جئتُ بالزادِ ... وآثرت حاجةَ الثاوي على الغادي
فقلت: والله لولا أن تقول له ... قد باح بالسرِّ أعدائي وحسادي
قلنا لمنزلها: حييتَ من طللٍ ... وللعقيق: ألا حييت َمن وادي!
إني جعلتُ نصيبي من مودتها ... لمعبدٍ ومعاذٍ وابن صيادِ
لابن اللعين الذي يخبا الدخانُ له ... وللمغني رسولِ الزور قوادي
أما معاذٌ فإني لست ذاكرهُ ... كذا أجدادهُ كانوا الأجدادي
قال الزبيري: وكان معاذٌ جلداً، فخاف الأحوص أن يضربه، فحلف معبدٌ ألا يكلم الأحوص ولا يتغنى في شعره، فشق ذلك على الأحوص، فلما طالت هجرته إياه رحل نجيباً له وجعل طلاء1 في مذرعٍ2 في حقيبة رحلهِ، وأعد دنانير، ومضى نحو معبد فاناخ ببابه - ومعبد جالسٌ بفنائه - فنزل إليه الأحوص فكلمه، فلم يكلمه معبدٌ، فقال: يا أبا عبادٍ، أتهجرني! فخرجت إليه امرأته أم كردم، فقالت: أتهجر أبا محمدٍ! واللهِ لتكلمنه، قال: فاحتمله الأحوص فأخله البيت، وقال: والله لا رمت هذا البيت حتى آكل الشواء وأشربَ الطلاءَ وأسمعوا
ـــــــ
1 الطلاء: اسم لما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه.
2 حاشية ر: "والمذرع: فزق سلخ حين سلخ مما يلي الذراع".

الغناء، فقال له معبدٌ: قد أخزى الله الأبعد، هذا الشواءَ أكلتهُ، والغناءَ سمعته، فأنى لك بالطلاء! قال: قم إلى ذلك المذرع ففيه طلاءٌ ومعه دنانيرُ، فأصلح بها ما نريدُ من أمرنا، ففعل كل ما قال: فقالت أم كردم لمعبدٍ: أتهجرُ من ن زرنا أغدرَ1 فينا فضلاً ونيلاً، وإن فارقنا خلف فينا عقلاً ونبلاً! فانصرف الأحوص مع العصر، فمر بين الدارين وهو يميل بين شعبتي رحلهِ.
ـــــــ
1 أغدر: ترك.

هجاء الأحوص لسعد بن مصعب
وحدثت أن سعد بن مصعب بن الزبير تهم بامرأة في ليلة مناحةٍ أو عرسٍ، وكانت تحته ابنةُ حمزة بن عبد الله بن الزبير، فقال الأحوص - وكان بالمدينة رجلٌ يقال له: سعد النار -:
ليس بسعد النار من تذكرونه ... ولكن سعد النار سعد بن مصعبِ
ألم تر أن القوم ليلةَ جمعهم ... بغوهُ فألفوه لدى شرِّ مركبِ
فما يبتغي بالشرِّ لادرَّ درهُ ... وفي بيتهِ مثل الغزال المرببِ!
فأمر سعدُ بن مصعب بطعام فصنعَ، ثم حملَ إلى قبابِ العربِ، وقال للأحوص - وكان له صديقاً -: تعال نمضي فنصيب منه، فلما خلا به أمر به فأوثق، وأراد ضربه، فقال له الأحوصُ: دعني، فلا والله لا أهجو زبيريا أبداً، فحله، ثم قال: إني والله ما لمتك على مزحك، ولكني أنكرتُ قولكَ:
وفي بيته مثل الغزال المرببِ
وحدثت أن ابن عتيق ذكرَ له أن المخنثين بالمدينةِ خصوا، وأنه خُصِيَ الدلال فيهم، فقال: إنا لله! أما والله لئن فعلَ ذلك به لقد كان يحسنُ:
لمن ربعٌ بذات الجيش أمسى دارساً خلقا
ثم أستقبل ابن أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبر سلمَ، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: اللهم إنه كان يحسنُ خفيفه، فأما ثقيله فلا - الله أكبر!

شفاعة
وحدثت أن مدنياً كان يصلي منذ طلعتِ الشمسُ إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجلٌ يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا رجلٌ من الشرط قد قبض على المغني، فقال: أترفعُ عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فأخذه، فانفتل المدني من صلاتهِ، فلم يزل يطلبُ إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك? فقال: لا والله، ولكن إخالك رحمتني؛ قال: إذاً فلا رحمني الله! قال: فأحسبك عرفتَ قرابةٌ بيننا? قال: إذاً فقطعها الله! قال: فليدٍ تقدمت مني إليك? قال: لا والله، ولا عرفتك قبلها، قال: فخبرني، قال: لأني سمعتك غنيت آنفاً، فأقمت واوات معبدٍ، أما والله لو أسأت التأدية لكنتُ أحدَ الأعوان عليك! والصوت الذي ينسب إلى واوات معبدٍ شعرُ الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهرٍ الشيباني، وهو قوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبينِ واجمُ
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتهُ ... تقضى لباناتٌ ويسأم سائمُ
قوله: "هريرةَ ودعها وإن لامَ لائمُ" منصوب بفعل مضمر، تفسيره ودعها كانه قال: ودع هريرة، فلما اختزل الفعل أظهر ما يدل عليه، وكان ذلك أجود من ألا يضمرَ، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فأضمر الفعل إذ كان الأمر أحق به،وكذلك زيداً اضربه وزيداً فأكرمه وإن لمتضمر ورفعت جاز، وليس في حسن الأولِ، ترفعه على الابتداءِ وتصيرُ الأمر في موضع خبره. فأما قول الله جل وعزَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 وكذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 فليس على هذا، والرفعُ الوجه، لأنمعناهُ الجزاءُ، كقوله: الزانيةُ أي التي تزني، فإما وجب القطع للسرق والجلد للزنا، فهذا مجازاة، ومن ثم جاز: الذي يأتيني فله درهمٌ، فدخلت الفاءُ لأنه استحق الدرهم بالإتيان، فإن لم ترد هذا المعنى قلت الذي يأتيني له درهمٌ، ولا يجوزُ:
ـــــــ
1 سورة المائدة 38.
2 سورة النور 2.

زيدٌ فله درهمٌ، أو هذا زيدٌ، فحسن جميلٌ، جازَ، على أن زيداً خبرٌ. وليس بابتداءٍ، للإشارة دخلت الفاءُ، وفي القرآن: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1، ودخلتِ الفاءُ لأن الثواب دخل للإنفاق. وقد قرأت القراءُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} بالنصبِ، على وجه الأمر، والوجه الرفعُ، والنصبُ حسنٌ في هاتين الآيتين، وما لم يكن فيه معنى جزاءِ فالنصبُ الوجهُ.
ـــــــ
1 سورة البقرة 274.

فخر معبد بخمسة أصوات من غنائه
ويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن، فقال: لقد غنيت خمسةَ أصواتٍ، هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصواتُ:
ودع هريرةَ إن الركبَ مرتحِلُ ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ
وقوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجمُ
وقوله:
رأيتُ عرابةً الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرينِ
وقوله:
ودع لبابةَ قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا
وقوله:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليحُ
أما قوله:
ودع هريرة إن الركب مرتحلُ

وقوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ
فللأعشى، يعاتب فيهما يزيد بن مسهر الشيباني، يقول:
أبلغ يزيد بني مألكةً ... أنا ثبيب أما ينفك تأتكلُ1
ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها من أطت الإبلُ2
كناطح صخرةً يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ
ويقولُ في الأخرى يعاتبه أيضاً:
يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيهِ علي المحاجمُ
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفكَ راغمُ
فأقسم إن جد التقاطع بيننا ... لتصطفقن يوماً عليكَ المآتم3
وتلقى حصانٌ تنصف ابنة عمها ... كما كان يلقى الناصعاتُ الخوادمُ4
إذا اتصلت قالت: أبكرَ بن وائلٍ? ... وبكرٌ سبتها والأنوف رواغمُ
فأما الشعر الثالث فللشماخ بن ضرار بن مرة بن عطفان، يقوله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري:
رأيت عرابةَ الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقها عرابةُ باليمين
إذا بلغتني وحملتِ رحلي ... عرابةَ فاشرقي بدمِ الوتينِ
والرابع لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، يقوله في بعض الروايات:
ودع لبابة قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا
أمكث لعمرك ساعةً فتأنها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجةً ... إن بات وظل المطي معقلا
والشعر الخامس لا أعرفه.
ـــــــ
1 المالكة: الرسالة، وتأتلل: تغضب.
2 أثلتنا: أصلنا، واطيط الإبل: أنينها.
3 الاصطفان: الاضطراب.
4 الحصان: العفيفة. وتنصف: تخدم.

ولم يتغن معبد في مدح قط إلا في ثلاثة أشعارٍ، منها ما ذكرنا في عرابةَ، ومنها قول عبد الله بن قيس الرقياتِ في عبد الل بن جعفر بن أبي طالب:
تقدت بي الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
والثالث قول موسى شهواتٍ في حمزةَ بن عبد الله بن الزبيرِ:
حمزة المبتاع بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبن
وهو إن أعطى عطاءً كاملاً ... ذا إخاء لم يكدره بمن
ونحن ذاكرو قصص هذه الأشعار التي جرت فيها عتب ما وصفنا إن شاء الله.
قال أبو العباس: كان عبد الله بن قيس الرقياتِ منقطعاً إلى مصعب بن الزبير، وكان كثير المدح له، وكان يقاتلُ معه، وفيه يقول:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلت عن وجهه الطلماءُ
ملكهُ ملكُ قوةٍ ليس فيهِ ... جبروتٌ منه ولا كبرياءُ
يتقي الله في الأمور وقد أفلحَ ... منكان همهُ الإتقاءُ
قال أبو العباس1: وله فيه أشعار كثيرةٌ، فلما قتل مصعب بن الزبير1 كان عبد الملك على قتل عبد الله بن قيس، فهرب فلحق بعبد الله بن جعفر، فشفع فيه إلى عبد الملك، فشفعه في أن ترك دمه، فقال: ويدخل إليك يا أمير المؤمنين فنسمع منه? فأبى، فلم يزل به حتى أجابه، ففي ذلك يقول لعبد الله بن جعفرٍ:
أتيناك نثني بالذي أنت أهلهُ ... عليك كما أثنى على الأرض جارها
تقدت بين الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
تزور فتى قد يعلم الناسُ أنه ... تجود له كفٌّ قليلٌ غرارها
فوالله لولا أن تزور ابن جعفرٍ ... لكان قليلا في دمشق قرارها
ـــــــ
1 من س.

والشعر الذي مدح به عبد الملك:
عاد له من كثيرةَ الطربُ ... فعينه بالدموع تنسكبُ
وفيها يقول:
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنم يحلمون إن غضبوا
وأنهم سادةُ الملوك فلا ... تصلح إلا عليهم العربُ
إن الفنيق الذي أبوه أبو العا ... صي عليه الوقارُ والحجبُ
خليفة الله في رعيتهِ ... جفت بذاك الأقلامُ والكتبُ
يعتدلُ التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ
فقال له عبد الملك: أتقول لمصعبٍ:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلتْ عن وجههِ الظلماءُ
وتقول لي:
يعتدل التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ!
وأما شعر الشماخ في عرابةَ فقد ذكر في موضعه بحديثهِ.
وأما الشعر في حمزة بن عبد الله بن الزبير فإنه لموسى شهواتٍ، وكان موسى قال لمعبدٍ: أقول شعراً في حمزةَ وتتغنى أنتَ به، فما أعطاك من شيء فهو بيننا! فقال هذا الشعرَ:
حمزةُ المبتاعُ بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبنْ
وو إن أعطى عطاءً كاملاً ... ذا إخاءٍ لم يكدره بمنْ
وإذ ما سنةٌ مجحفةٌ ... برت المالَ كبري بالسفنْ
حسرت عنه نقيا لونهُ ... طاهرَ الأخلاق ما فيه درنْ
فأعطاه مالاً، فقاسمه موسى.

باب

لعتبة بن شماس في عمر بن عبد العزيز
قال أبو العباسِ: قال عتبة بن شماسِ:
إن أولى بالحق في كل حق ... ثم أخرى بأن يكونَ حقيقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جده الفاروقا
رد أموالنا علينا وكانت ... في ذرا شاهقٍ يفوتُ الأنوقا
يقولُ هذا الشعر في عمر بن عبد العزيز: وأم عمرَ أم عاصمٍ بنتُ عاصمِ بن عمر بن الخطاب، رحمه الله.
والأنوق: الرخمةُ، ولا يقالُ: الأنوقُ للرخمةِ الأنثى. ومن أمثال العرب: "هو أعزُّ من بيضِ الأنوقِ"، وتقول العرب لمن يطلب الأمر العسير: "سألتني بيض الأنوقِ" وذاك أنها تبيضُ في رؤوس الجبالِ، فلا يكادُ يوجدُ بيضها، لبعدِ مطلبه وعسرِه. فإن سأله محالاً قال: "سألتني الأبلق العقوقَ"، وإنما هو الذكرُ من الخيل، ويقال: فرسٌ عقوقٌ، إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلقُ العقوق محال.
ويروى أن رجلاً سأل معاويةَ أمراً لا يوجد، فأعلمه ذلك، فسأل أمراً عسراً بعده، فقال معاويةُ:
طلب الأبلقَ العقوقَ فلما ... لم ينلهُ أرادَ بيضَ الأنوقِ
وإنما الأبلقُ الذكر من الخيل، يقال: فرس عقوقٌ إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلق العقوقُ محالٌ.

لجرير في عمر بن عبد العزيز
وقال جرير يمدحُ عمرَ بن عبد العزيز:
ما عدَّ قومٌ كأجدادٍ تعدهمُ ... مروان ذو النور والفاروق، والحكمُ
أشبهت من عمرَ الفاروقِ سيرتهُ ... قاد البريةَ وائتمت به الأممُ
تدعو قريشٌ وأنصارُ النبي له ... أن يمتعوا بأبي حفصٍ وما ظلموا

وفيه يقول جريرٌ أيضاً:
يعودُ الحلمُ منك على قريشٍ ... وتفرج الكربَ الشدادا
وقد آمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناسَ وحشكَ أن يصادا
وتبني المجدَ يا عمرَ ابن ليلى ... وتكفي الممحلَ السنةَ الجمادا
وتدعو الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتكَ المعادا
فما كعبُ بن مامةَ وابنُ سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا1
وقال أيضا - وكان ابن سعد الأزدي قد تولى صدقات الأعرابِ وأعطياتم، فقال جريرٌ يشكوه إلى عمرَ -:
إن عيالي لا فواكهِ عندهم ... وعند ابن سعدٍ سكر وزبيبُ
وقد كان ظني بابنِ سعدٍ سعادة ... وما الظن إلا مخطىءُ ومصيبُ
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاعُ ليالٍ والأداءُ قريبُ
تحنى العظامُ الزاحفاتُ من البلى ... وليس لداءِ الركبتين طبيبُ
وقال يرثيه أيضاً:
نعى النعاةُ أميرَ المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً جسيماً فاصطبرت له ... وقمت فيه بحق اللهِ يا عمرا
فالشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
قوله: يا عمرا ندبةٌ، أراد: يا عمراه! وإنما الألف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الأف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضلِ، فإن وقفت قلت: يا عمراه: فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها.
فأما قوله: "نجوم الليل والقمرا"، ففيه أقاويل كلها جيدٌ، فمنها أن تنصب "نجوم، والقمرَ" بقوله: بكاسفةٍ، يقول: الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ نجومً
ـــــــ
1 مابين العلامتين من زيادة ر.

الليل والقمرَ، يقول: إنما تكسفُ النجومَ والقمرَ بإفراطِ ضيائها، فإذ كانت من الحزن عليه قد ذب ضياؤها ظهرت الكواكبُ. ويقال: إن الغبار يوم حليمة سد عين الشمس فظهرت الكواكب المتباعدةُ عن مطلع الشمسِ. ويوم حليمة هو اليوم الذي سافر فيه المنذرُ بن المنذرِ بعربِ العراق إلى الحارث الأعرج الغساني، وهو الأكبر، والحارث في عربَ الشأم وهو أشهر أيام العرب؛ ومن أمثالهم في الأمر الفاشي: "ما يوم حليمة بسرٍّ"، وفيه يقولُ النابغة:
تخيرن من أزمان يومِ حليمةٍ ... إلى اليوم قد حرثن كل التجاربِ
وأظن قول القائل من العرب: "لأرينك الكواكبَ ظهراً"؛ إنما أخذ من يوم حليمةَ، قال طرفةُ:
إن تنولهُ فقد تنمعه ... وتريه النجمَ يجري بالظهرْ
وقال الفرزدق لخالدِ بن عبد الله القسري:
لعمري لقد سار ابن شبية سيرةٌ ... أرتكَ نجومَ الليل مُظهرةً تجري
ويجوز أن يكون: "نجوم الليل والقمرا" أراد بهما الظرف، يقول: تبكي الشمسُ عليك مدة نجوم الليل والقمرِ، كقولك: تبكي عليك الدهرَ والشهرَ، وتبكي عليك الليل والنهارَ،يا فتى، ويكونُ: تُبكي عليك الشمس النجومَ، كقولك: أبكيت زيداً على فلانٍ لما رأيتُ به.
وقد قال في هذا المعنى أحدُ المحدثين شيئاً مليحاً، وهو أحمد أخو أشجع السلمي، بقوله لنصر بن شبث العقيلي، وكان أوقع بقومٍ من بني تغلبَ بموضعٍ يعرفُ بالسواجيرِ، وهو أشبه بالشعرِ، قال:
للهِ سيفٌ في يدي نصرِ ... في حده ماءُ الردى يجري
أوقعنصر بالسواجير ما ... لم يوقع الجحاف بالبشرِ
أبكي بني بكرٍ على تغلبٍ ... وتغلباً أبكي على بكرِ
ويكون: "تبكي عليك نجوم الليل والقمر"، على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكان قبل الاسم الذي يليه أو بعده فعلٌ انتصب لأنه في المعنى مفعول وصل الفعل إليه فنصبه. ونظيرُ ذلك: استوى الماء والخشبة لأنك

لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة؛ ولو أردت ذلك يم يكن إلا الرفع، ولكن التقدير: ساوى الماءُ الخشبة، وكذلك "ما زلت أسير والنيلَ" يا فتى؛ لأنك لست تخبر عن النيل بسير، وإنما تريدُ أن سيرك بحذائه ومعه، فوصل الفعلُ. وهذا بابٌ يطولُ شرحه. فإن قلتَ: "عبد الله وزيدٌ أخواك" وأنت تريد بالواو معنى مع، لم يكن إلا الرفعُ، لن قبلها اسماً مبتدأ، فهي على موضعِهِ.
وأجود التفسير عندنا في قوله الله جلَّ وعزَّ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 1 أن تكون الواو في معنى مع، لأنك تقولُ: أجمعت رأيي وأمري، وجمعتُ القومَ، فهذا هو الوجهُ. وقومٌ ينصبونه على دخوله بالشركة مع اللام في معنى الأول، والمعنى الاستعدادُ بهما، فيجعلونه كقولِ القائلِ:
يا ليت زوجكِ قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
والرمح لا يتقلد، ولكن أدخل مع ما يتقلد، فتقديره: "متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً"، ويكون تقدير الآية: فأجمعوا أمركم وأعدوا شركاءكم. والمعنى يؤول إلى أمر واحدٍ. ومن ذلك قوله:
شراب ألباٍ وتمرٍ وأقطْ
فأما ما جاء من القرآن على هذا خاصة؛ فقوله جل وعز { َوَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فأدخل من ههنا، لأن الناس مع هذه الأشياء، فجرت على لفظٍ واحدٍ، ولا تكون من إلا لمن يعقل إذا أفردتها.
ـــــــ
1 سورة يونس 71.
2 سورة النور 45.

لرجل يشكو إلى عمر بن عبد العزيز
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه عمالهُ:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابكَ واستحل المحرمُ
واردت أن يلي الأمانة منهمُ ... بر وهيهات الأبرُّ المسلمُ
طلسُ الثياب على منابرِ أرضنا ... كل بنقصِ نصيبنا يتكلمُ
أنشدنيه الرياشي على الأصمعي.
ونظير هذا قول ابن همام السلولي:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعلُ
ودموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعلُ
وقد مر تفسير هذا الشعر. والأطلسُ: الأغبرُ، وربما اشتدت غبرته حتى يخفى في الغبار، وإنما أراد بقوله: طلسُ الثياب أنهم يظهرون تقشفا، ويكون أن يكون جعلهم بمنزلة الذئاب، وهو أحسن.

عمر بن الخطاب مع أحد ولاته
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله ولى رجلاً بلداً، فوفد عليه، فجاءه مدهناً حسن الحالِ في جسمه، عليه بردانِ، فقال له عمرُ: أهكذا وليناك! ثم عزلهُ، ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدةٍ، فرآه بالياً أشعث في ثوبين أطلسين، وذكر عند عمر بخير، فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا، فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه.
ويروى عن الحسن أنه قال: اقربوا من هذه الأعوادِ1، فإنهم إذا رقوها لقنوا الحكمةَ، لتكون عليهم حجةً يوم القيامةِ.
ـــــــ
1 الأعواد هنا: المنابر.

لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه، أنشدنيه الرياشي:
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازينِ1
من لم يكن همه عيناً يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذينِ
أقولُ لما أتاني ثم مهلكه: ... لا يبعدن قوامُ الملكِ والدينِ
يقال: هذا قوام الأمر وملاكه لا غيرُ، وتقول: فلانٌن حسنُ القوامِ؛ مفتوحٌ، تريد بذلك الشطاط2، لا يكون إلا ذاك، وقوام إذا كان اسماً لم تنقلب واوه ياءً
ـــــــ
1 دير سمعان: بلد بنواحي دمشق.
2 الشطاط: حسن القوام.

من أجل الكسرة، لأنها متحركة، إلا أن يكون جمعاً قد كانت الواو في واحده ساكنةً، فتنقلب في الجمع، لأن حركتها لعلةٍ، تقول: سوطٌ وسياطٌ وثوبُ وثيابٌ وحوضٌ وحياضٌ؛ فإن كانت الواو في الواحد متحركةً ثبتت في الجمع، نحو طويل وطوال، وكذلك فعالٌ إذا كان مصدراً صح إذا صح فعله، واعتل إذا اعتل فعله، فما كان مصدراً لفاعلتَ فهو فعالٌ صحيحٌ، تقول: قاولتهُ قوالاً، ولاوذته لواذاً، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} 1، أي ملاوذة، وإذا كان مصدر فَعَلْتُ اعتل لاعتلال الفعل فقلت: قمت قياماً، ونمتُ نياماً، ولذتُ لياذاً، وعذتُ عياذاً.
ـــــــ
1 سورة النور 63.

لعويف القوافي يرثي سليمان بن عبد الملك
وقال عويف القوافي شعراً، يرثي سليمان بن عبد الملك، ويذكر عمرَ بن عبد العزيز، هذا ما اخترنا منه:
لاح سحابٌ فرأينا برقهُ ... ثم تدانى فسمعنا صعقهُ
وراحت الريحتزجي بلقهُ ... ودهمه ثم تزجي ورقهُ
ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ ... قبرَ امرىءٍ أعظم ربي حقهُ
قبر سليمان الذي من عقهُ ... وجحد الخير الذي قد بقهُ
في العالمين جلهُ ودقهُ ... لما ابتلى اللهُ بخيرٍ خلقهُ
وكادتِ النفسُ تساوي خلقهُ ... ألقى إلى خير قريشٍ وسقهُ
يا مرَ الخير الملقى وفقهُ ... سميت بالفاروقِ فافرقْ فرقهُ
وأرزق عيال المسلمين رزقهُ ... واقصد إلى الخير ولا توقهُ
بحرك عذابُ الماء من أعقهُ ... ربكَ، والمحرومُ من لم يسقهُ
يقال: لاح البرق، إذا بدا، وألاح إذا تلألأ، وهذا البيت ينشدُ:
من هاجه الليلة برقٌ ألاحْ
ويقال: شرقتِ الشمسُ، إذا بدتْ، وأشرقت إذا أضاءت وصفت.
ويقال: ساعقةٌ وصاقعةٌ؛ وبنو تميم تقول: صاقعةٌ؛ والصعقُ شدةُ الرعد، ويعنى في أكثر ذلك ما يعتري من يسمعُ صوت الصاعقةِ.

وقوله: تزجي يقول: تسوقه وتستحثهُ.
والأبلق من الساحب: ما فيه سوادُ وبياضٌ، وفي الخيل: كل لونٍ يخالطهُ بياضٌ فهو بلقٌ.
والأورقُ: الذي بين الخضرةِ والسوادِ، وهو ألأم ألوان الإبل، ويقال: إن لحم البعير الأورق أطيبُ لحمانِ الإبلِ.
والودقُ: المطرُ، يقال: ودقتِ السماءُ يا فتى، تدقُ ودقاً، قال الله جل وعزّ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 1، وقال عامرُ بن جوين الطائي:
فلا مزنةٌ ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وأصل العق القطعُ في هذا الموضع، وللعق مواضعُ كثيرة، يقال: عقَّ والديه يعقهما إذا قطعهما، وعققت عن الصبي2 من هذا، وقالوا: بل هو من العقيقة وهي الشعر الذي يولد الصبي به، يقال: فلان بعقيقته إذا كان بشعر الصبا لم يحلقهُ، ويقال: سيف كأنه عقيقة؛ أي كأنه لمعةُ برقٍ، يقال: رأيتُ عقيقة البرق يا فتى، أي اللمعة منه في السحاب، ويقال: فلانٌ عقتْ تميمته ببلد كذا، أي قطعت عنه في ذلك الموضع، قال الشاعر:
ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أخصبت أو كان جدباً جنابها
أحب بلاد الله ما بين مشرفٍ ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشبابُ تميمتي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
وقوله:
وجحد الخير الذي قد بقهُ
يقال: بق فلانٌ في الناس خيراً كثيراً، وبق ولداً كثيراً، وابقَّ كلاماً كثيراً.
وقوله:
ألقى إلى خيرقريشٍ وسقهُ
فهذا مثل، يريد: قلدهُ أمره، والوسق الحمل.
ـــــــ
1 سورة النور43.
2 أى ذبحت عنه عقيقة.

وقوله: الملقى وفقه، يقال: لقي فلانٌ خيراً، أي جعل يلقاهُ، والوسق من الكيل: مقدارُ خمسة أقفزة بقفيز، وهو قفيزان ونصفٌ بقفيز مدينة السلامِ.
وقوله: "ليس في أقل من خمسة أوسقٍ صدقةٍ" إنما مبلغ ذلك خمسة وعشرون قفيزاً بالبصري. والوفقُ: التوفيقُ.
وقوله: "سميت بالفاروقِ" فتأويل الفاروق هو الذي يفرق بين الحقِّ والباطلِ، وكذلك قال المفسرون في الفرقان، وقد أبان ذلك بقوله: فافرق فرقهُ.
وقوله:
وارزق عيالَ المسلمين رزقهُ
يقال: رزقه يرزقه رزقاً، والاسم الرزقُ.
وقوله:
بحرك عذبُ الماءِ ما أعقهُ
مقلوبٌ، إنما هو ما أقعه ربك. يقال: ماء قعاعُ، وماءُ حراقٌ. فالقعاع: الشديد الملوحة، يقول: ما أملحه ربك، والحراقُ: الذي يحرقُ كل شيءٍ بملوحته، والماء العذب يقال له: النفاخُ، وما دون ذلك شيئاً يقال له: المسوسُ. أنشد أبو عبيدة:
لو كنت ماءً كنتَ لا ... عذبَ المذاقِ ولا مسوسا
يقال: ماء عذبٌ،وماءُ فراتٌ، وهو أعذب العذبِ، ويقال: ماءُ ملح، ولا يقال: مالحٌ، وسمكٌ مملوحُ ومليحٌ، ولا يقالُ: مالحٌ، وأشدُ الماء ملوحةً الأجاج، قال الفرزدق:
ولو اسقيتهم عسلاً مصفى ... بماء النيل أو ماء الفراتِ
لقالوا إنه ملحٌ أجاجٌ ... أراد به لنا إحدى الهناتِ
وقوله:
ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ

يقال فيه قولان: أحدهما: فروى الغيم ودقه هذا القبرَ، يريدُ: من ودقه، فلما حذف حرف الجر عملَ الفعل والآخر كقولك: "رويت زيداً ماءً"، وروى أكثرُ من أروى، لأن روى لا يكون إلا مرةً بعد مرةٍ، يقول: فروى الله ودقه أي جعله رواءٌ، فأضمر لعلم المخاطبِ، لأن قوله: لاح سحابٌ، إنما معناه: ألاحه الله، فالفاعل كالمذكور، لأن المعنى عليه، ونظيره قوله جل وعزَّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 1 وكذلك {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} 2ولم يذكر الأرض. وقال قومٌ: ودقه، يريد ودقةً واحدةً، وهذا رديء في المعنى، ليس بمبالغٍ.
ـــــــ
1 سورة ص32.
2 سورة فاطر 45.

لإسحاق بن إبراهيم الموصلي
قال ابن الموصلي:
لعمري لئن حلئت عن منهلِ الصبا ... لقد كنتُ وراداً لمنهله العذبِ
ليالي أمشي بين برديَّ لاهيا ... أميس كغصنِ البانةِ الناعمِ الرطبِ
سلامٌ على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامةِ والشربِ
سلام امرىءٍ لم تبق منه بقيةٌ ... سوى نظرِ العينين أو شهوة القلبِ
قوله: والشرب؛ يريد جمع شاربٍ، يقال: شاربُ وشربٌ، وراكبٌ وركبٌ، وتاجرٌ وتجرٌ، وزائرٌ وزورٌ، قال الطرماحُ:
حب بالزور الذي لا يرى ... منه إلا صفحةٌ عن لِمامِ
وهذا بابٌ متصل كثيرٌ، قال العجاجُ:
بواسطٍ أكرمُ دارٍ دارا ... واللهُ سمى نصرك الأنصارا
يريد أنصارك، فأخرجه على ناصرٍ ونصرٍ.
وقوله: "سلام امرىء" على البدلِ من قوله: "سلامٌ على سيرِ القلاص" وإن شئت نصبت بفعلٍ مضمرٍ، كأنك قلت: اسلمُ سلامَ امرىءٍ، لأنك ذكرت سلاماً

أولاً، ومثل ذلك: له صوتٌ صوت حمارٍ، لأنك لما قلتَ: له صوتٌ دللت على أنه يصوتُ، كأنك قلت: يصوتُ صوتَ حمارٍ،وكذلك: "له حنينٌ حنينَ ثكلى" و:
له صريفٌ صريفَ القعوِ بالمسدِ
أي: يصرف صريفاً، فما كان من هذا نكرةً فنصبه على وجهين: على المصدر،وتقديره: يصرف صريفاً مثل صريف جملٍ، وإن شئتَ جعلتهُ حالاً، وتقديره؛ يخرجه في هذه الحال. وما كان معرفةً لم يكن حالاً ولكن على المصدر، فإن كان الأول في غير معنى الفعلِ لم يكن النصبُ البتة ولم يصلح إلا الرفع على البدل، تقول: له رأسٌ رأسُ ثورٍ، وله كفُّ كفُّ أسدٍ، فالمرتفعُ الثاني إذا كان نكرةً كان بدلاً أو نعتاً، وإذا كان معرفةً كان بدلاً ولم يكن نعتاً، لأن النكرة لا تنعت بالمعرفة، وكذلك إذا كان الأول ابتداء لم يجز إلا الرفعُ، لأن الكلام غير مستغن؛ وإنما يجوز الإضمار بعد الاستغناء، تقول: صوته صوتُ الحمار، وغناؤه غناء المجيدي، وكذلك إن خبرت بأمرٍ مستقر فيه اختيرَ الرفع، تقول: له علمٌ علمُ الفقهاء، وله رأيٌ رأيُ القضاة؛ لأنك إنما تمدحه بأن هذا قد استقر له، وليس الأبلغ في مدحه أن تخبر بأنك رأيته في حال تعلم. ويجوز النصب على أنك رأيته في حال تعلم فاستدللت بذلك على علمه، فهذا يصلحُ. والأجود الرفع. فإذا قتل: "له صوتٌ صوتَ حمارٍ"؛ فإنما خبرت أنه يصوتٌ، فهذا سوى ذلك المعنى.
ومما يختار فيه الرفعُ قولك: عليه نوحٌ نوحُ الحمامِ، وإنما أختير الرفع لأن الهاء في عليه اسم المفعولِ له، والهاءَ في له اسمُ الفاعلِ. ويجوز النصبُ على أنك إذا قلتَ: عليه نوحٌ دل النوحُ على أن معه نائحاً، فكأنك قلت: ينوحون نوح الحمامِ؛ فهذا تفسيرُ جميع هذه الأبواب.

لابن الخياط المديني
وقال ان الخياط المديني، يعني مالكَ بنَ أنسٍ:
يأبى الجواب فما يراجعُ هيبةً ... والسائلون نواكسُ الأذقانِ
هدي التقي وعز سلطانِ النهى ... فهو العزيزُ وليس ذا سلطانِ
أراد: له هديُ التقيِّ، أو معه هيُ التقيِّ.

باب

نبذ من أقوال الحكمية
...
باب
قال أبو العباس: نذكر في هذا الباب من كل شيءٍ، ليكون فيه استراحةٌ للقارىء، وانتقالٌ ينفي الملل، لحسن1 موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجدّ بشيء يسيرٍ من الهزل، ليستريح إليه القلب، وتسكن إليه النفس.
نبذ من الأقوال الحكيمة
قال أبو الدّرداء رحمه الله: إني لأستجمُّ نفسي2 بشيء3 من الباطل ليكون أقوى لها على الحقِّ.
وقال عليُّ بن أبي طالب رحمه الله: القلب إذا أكره عمي.
وقال ابن مسعود4 رحمه الله: القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان فابتغوا لها ططرائف الحكمة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: العلم أكثر من أن يؤتى على آخره، فخذوا5 من كل شيءٍ أحسنه.
وليس هذا الحديث من الباب الذي ذكرنا، ولكن نذكر الشيء بالشيء، إمَّا لاجتماعهما في لفظٍ، وإمَّ لاشتراكهما في معنى.
وقال الحسن -وليس من هذا الباب-: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدُّثور، واقدعوا هذه الأنفس، فإنها طلعةٌ، وإنكم إلاّ تنزعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية. وقد مضى تفسير هذا الكلام.
وقال أردشير بن بابك: إن للآذان مجَّةً، وللقلوب مللاً، ففرّقوا بين الحكمتين يسكن ذلك استجماماً.
وكان أنوشروان يقول: القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كاحتياج الأبدان إلى أقواتها من الغذاء.
ـــــــ
1 س: "بحسن".
2 أستجم نفسى يريد أريحها وأصله في البئر؛ تترك بعد الاستقاء ليتراجع ماؤها.
3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "لشيء".
4 س: "عبد الله بن مسعود".
5 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فخذ".

ويروى أنه أصيب في حكمة آل داود1: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من واحدة من أربع: من عدّةٍ2 لمعادٍ، أو إصلاح3 لمعاش، أو فكرٍ يقف به على ما يصلحه مما يفسده، أو لذّةٍ في غير محرّمٍ يستعين بها على الحالات الثلاث.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً: يا أبة، إنك تنام نوم القائلة، وذو الحاجة على بابك غير نائمٍ? فقال له: يا بنيَّ، إنّ نفسي مطيّتي، فإن حملت عليها في التعب حسرتها.
تأويل قوله: "حسرتها": بلغت بها أقصى غاية الإعياء، قال الله جلَّ وعزَّ: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 4. وأنشد أبو عبيدة:
أنّ العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
قوله: "فشطرها" يريد قصدها ونحوها، قال الله جلَّ وعزَّ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 5 [و]6 قال الشاعر7:
لهنَّ الوجالم كنَّ عوناً على النَّوى ... ولا زال منها ظالعٌ وحسير
يعني الإبل، يقول: هي المفرِّقة، كما قال الآخر:
ما فرَّق الألاّف بعـ ... ـد الله إلاّ الإبل
ولا صاح غرا ... بٌ في الديار احتملوا
وما غراب البين ... إلاّ ناقة أو جمل
قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس:
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س، وفي ر:"داءد" بالهمزة والأوجه ما أثبتناه.
2 ر: "غدو"، وما أثبته عن ر والأصل.
3 س: "صلاح".
4 سورة الملك 4.
5 سورة البقرة: 144.
6 من س.
7 هو جميل بن معمر العذرى، قاله المرصفى.

والناس يلحون غرا ... ب البين لمَّا جهلوا
والبائس المسكين ما ... يطوى عليه الرِّحل
ويقال: إنه لأبي الشّيص.
فمن قال: "آلفٌ" للواحد قال للجميع1 "ألاّفٌ" كعمل وعمّالٍ، وشاربٍ وشرَّابٍ، وجاهلٍ وجهَّالٍ. ومن قال للواحد: إلفٌ، قال للجميع: آلافٌ، وتقديره: عدلٌ وأعدالٌ، وحملٌ وأحمالٌ. وثقلٌ وأثقالٌ.
ـــــــ
1 كذا في س، وفي الأصل، س: "قال آلاف".

في وصف الإبل
وقد أنصف الإبل الذي يقول:
ألا فرعى الله الرَّواحل إنما ... مطايا قلوب العاشقين الرَّواحل
على أنهنَّ الواصلات عرى النَّوى ... إذا ما نأى بالآبقين التَّواصل
وقال الآخر:
أقول والهوجاء تمشي والفضل ... قطعت الأحداج أعناق الإبل
الهوجاء: التي تجدُّ في السَّير وتركب رأسها، كأنَّ بها هوجاً، كما قال:
لله درّ اليعملات الهوج
وكما قال الأعشى:
وفيها إذا ما هجَّرت عجرفيَّةٌ ... إذا خلت حرباء الوديقة أصيدا
والفضل: مشية فيها اختيالٌ، كأنّ مشيتها تخرج عن خطامها فتفضل عليه، والأصل في ذلك أن يمشي الرجل وقد أفضل من إزاره، وتمشي المرأة وقد أفضلت من ذيلها، وإنما يفعل ذلك من الخيلاء، ولذلك جاء في الحديث: "فضل الإزار في النار"، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي تميمة الهجيميِّ: "وإيَّاك والمخيلة" 1، فقال: يا رسول الله، نحن قومٌ عرب، فما الخيلة? فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سبل الإزار".
ـــــــ
1 المخيلة: الكبر والعجب والخيلاء.

وقال الشاعر1:
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاريُّ:
تمشي الهوينى إذا مشت قطفاً2 ... كأنَّها عود بانةٍ قصف
[قال أبو الحسن: هذا وهم من أبي العباس، وما تروى إلاّلقيس بن الخطيم الأنصاري].
وقال الوليد بن يزيد:
أنا الوليد الإمام مفتخراً ... أنعم بالي وأتبع الغزلا3
أنقل رجلي إلى مجالسها ... ولا أبالي مقال من عذلا
غرَّاء فرعاء يستضاء بها ... تمشي الهوينى إذا مشت فضلا
ثم نعود إلى الباب، قال الراجز يصف إبلاً أو نوقاً4:
إنَّ لها لسائقاً خدلَّجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا
الخدلَّج: المدمج السَّاقين، وإنما عنى المرأة التي ساقه حبُّه إليها.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويقال إنه لقيس بن الخطيم".
2 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فضلا".
3 كذا في الأصل، وفي ر،س: قال علي بن سليمان: مانعرف هذا البيت إلا لقيس بن الخطيم الأنصاري يعني: "تمشى الهويني".
4 كذا في الأصل: س، وفي ر: "يعني إبله أو ناقته".

ضروب الكلام
والكلام يجري على ضروب؛ فمنه ما يكون في الأصل لنفسه، ومنه ما يكنى عنه بغيره، ومنه ما يقع مثلاً، فيكون أبلغ في الوصف.

والكناية تقع على ثلاثة أضربٍ:
أحدها: التَّعمية والتَّغطية، كقول النابغة الجعديّ:
أكنِّي بغير اسمها وقد علم الله ... خفيات كلِّ مكتتم1
وقال ذو الرُّمَّة، استراحةً إلى التصريح من الكناية:
أحبُّ المكان من أجل أنَّني ... به أتغنّى باسمها غير معجم
وقال أحد القرشيين2:
وقد أرسلت في السرِّ أن قد فضحتني ... وقد بحت باسمي في النَّسيب وما تكني
ويروى أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة قال شعراً، وكتب به إلى امرأةٍ محرمةٍ3 بحضرة ابن أبي عتيق، وهو:
ألما بذاتِ الخالِ فاستطلعا لنا ... على العهد باقٍ ودها أم تصرما
وقولاَ لها إن النوى أجنبيةٌ ... بنا وبكر قد خفت أن تتيمما
قال: فقال له ابن أبي عتيقٍ: ماذا تريد إلى امرأةٍ مسلمةٍ4 محرمة تكتبُ إليها بمثل هذا الشعر! قال: فلما كان بعد مديدةٍ قال له ابن أبي ربيعة.
أعلمتَ5 أن الجوابَ جاء6 من عندِ ذاك الإنسان? فقال له: ما هو? فقال: كتبت:
أضحى قريضكَ بالهوى نماما ... فاقصد هديتَ وكن له كتاما
واعلم بأن الخال حين ذكرته ... قعد العدو به عليك وقاما
ويكن من الكناية - وذاك أحسنها- الرغبةُ عن اللفظ الخسيس المفحش إلىما يدل على معناه من غيره، قال الله - وله المثل الأعلى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
ـــــــ
1 ر "مكتتم" بفتح التاءين.
2 زيادات ر "هو محمد بن نمير الثقفى".
3 ر: "وكتب به محضرة ابن أبي عتيق إلى امرأة محرمة".
4 كلمة "مسلمة" ساقطة من س.
5 كذا في الأصل، ص، وفي س: "أما علمت".
6 كذا في الأصل، وفي س: "قد جاء"، وفي ر: "جاءنا".

الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1 وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 2 والملامسة في قول أهل المدينة - مالكٍ وأصحابه - غير كنايةٍ، إنما هو اللمسُ بعينه، يقولون في الرجلِ تقع يده على امرأته أو على جاريتهِ بشهوةٍ3: إن وضوءه قد انتقض.
وكذلك قولهم في قضاء الحاجةِ: جاء فلان من الغائطِ، وإنما الغائط الوادي، وكذلك المرأةُ، قال عمروُ بن معدي كرِب الزبيديُّ:
فكم من غائطٍ من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيعُ
وقال الله جل وعزَّ في المسيح ابن مريمَ وأمهِ صلى الله عليهما: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 4 ، وإنما هو كنايةٌ عن قضاء الحاجة. وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 5؛ وإنما هي كنايةق عن الفروج. ومثل هذا كثيرٌ.
والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظمض الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا.
وكان خالدُ بن عبد الله القسري لعنه الله يلعن عليا رضي الله عنه على المنبر فيقول: فعل الله على علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد منافٍ ابن عمّش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج ابنته فاطمة وأبي الحسن والحسين. ثم يُقبلُ على الناسِ ويقول: أكنيتُ! فهذا تأويل هذا.
ـــــــ
1 سورة البقرة: 187.
2 سورة النساء 43.
3 ر: "بشهوة".
4 سورة المائدة 7.
5 سورة فصلت: 31.

لأعرابي
ونرجع إلى الباب الذي قصدنا له:
وقال أعرابي:
وحقهِ مسكٍ من نساءٍ لبستها ... شبابي وكأسٍ باكرتني شمولها1
ـــــــ
1 حقة مسك هنا، كناية عن المرأة.

جيدةِ سربال الشباب كأنها ... أباءةُ برديٍّ سقتها غيولها
محملةٍ باللحم من جون خصرها ... تطولو القصارَ والطوال تطولها
قوله؛ "باكرتني شمولها"، زعم الأصمعي أن الخمر إنما سميت شمولاً لأن لها عصفة كعصفة الريح الشمال.
وقوله: "أباءةُ بردي" الأباءة: القصبةُ، وجمعها الأباءُ، يا فتى1.
قال كعبُ بن مالكٍ الأنصاريُّ:
من سرهُ ضربٌ يرعبلُ بعضهُ ... بعضاً كمعمعة الأباءِ المحرقِ2
المعمعة: صوت إحراقه، يقال: سمعتُ معمعة القصب والقوصرة في النار، أي صوت احتراقها.
وإنما شبهَ المرأة بالبردية والقصبة لبقاء اللون المستتر منها وما والاهُ ورقته.
قال حميدُ بن ثور الهلاليُّ:
لم ألق عمرة بعد إذ هي ناشىء ... خرجت معطفة عليها مئزرُ
برزت عقيلة أربع هادينها ... بيض الوجوه كأنهن العنقرُ
العطاف: الوشاح للناس، والعنقرُ: أصولُ القصبِ، يقال: عنقرٌ وعنقرٌ، وفي هذا الشعر:
ذهبت بعقلك ريطةٌ مطويةٌ ... وهي التي تهدى بها لو تنشرُ3
[قال أبو الحسنِ: أنشدنيه ثعلبٌ في قوله: لو تنشرُ: تشعر].
فهممت أن أغشى إليها محجراً ... ولمثلها يغشى إليه المحجرُ4
وقوله: "سقتها غيولها" الغيل: ههنا: الأجمة، ومن هذا قوله: أسدُ غيل، قال طرفةُ:
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 يرعبل: يمزق.
3 الريطة: الملاءة البيضاء.
4 المحجر: المحرم.

أسدُ غيلٍ فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمونٍ وطمرْ 1
وقد أملينا جميع ما في الغيل والغيلِ.
وقوله:
تطول القصارَ والطوال تطولها
طال: يكون على ضربين: أحدهما تقديره: فعل، وهو ما يقع في نفسه انتقالاً لا يتعدى إلى مفعول، نحو ما كان كريماً فكرمَ، وما كان وضيعاً ولقد وضع، وما كان شريفاً ولقد شرفَ، وكان الشيءُ صغيراً فكبرَ، وكذلك قصيراً فطال، وأصله طولَ.
وقد أخبرنا بقصةِ الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وهما متحركتان، وعلى ذلك يقال في الفاعل: فعيلٌ نحو شريفٍ، وكريم، وطويل. فإذا قلتَ: طاولني فطلتهُ، أي فعلوته طولاً، فتقديره فعل نحو خاصمني فخصمتهُ، وضاربني فضربتهُ، وفاعلُهُ طائلٌ، كقولك ضاربٌ، وخاصمٌ. وفي الحديث: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقَ الربعةِ، وإذا مشى مع الطوالِ طالهمُ".
ـــــــ
1 الأمون: الناقة الوثيقة الخلق.

بين رياح بن سنيح وجرير
وقال رياحُ بن سنيحٍ الزنجي مولى بن تاجية - وكان فصيحاً - يجيب جريراً، لما قال جرير:
لا تطلبن خؤولة في تغلبٍ ... فالزنجُ أكرمث منهمُ أخوالاَ
فتحرك رياحُ فذكر أكثر من ولدته الزندُ من أشراف العربِ في قصدةٍ مشهورةٍ معروفةٍ، يقول فيها:
والزنجُ لو لاقيتهم في صفهم ... لاقيت ثم جحاجحاً أبطالاَ
ما بالُ كلبِ بني كليبٍ سبهم ... إن لم يوازن حاجباً وعقالاَ
إن الفرزدق صخرةٌ عاديةٌ ... طالت فليس تنالها الأجبالاَ
يريد: طالتِ الأجبال وعلت1 فليس تنالها.
ـــــــ
1 ساقطة من ر، وهي في الأصل.

لمروان بن أبي حفصة
ثم نعود إلى ذكر الباب.
وقال مروان بن أبي حفصة، وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يحيى بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة يزيدُ:
إن الغواني طالما قتلننا ... بعيونهن ولا يدين قتيلا
من كل آنسةٍ كأن حجالها ... ضمن أحور في الكناسِ كحيلاَ
أردين عروة والمرقش قبله ... كل أصيب وما أطاق ذهولا
ولقد تركن أبا ذؤيبٍ هائماً ... ولقد تبلنَ كثيراً وجميلا
وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً ... فيهن أصبح سائراً محمولا
إلا أكن ممن قتلن فإنني ... ممن تركن فؤاده مخبولا
قوله: "ولا يدين قتيلا" يقال: ودي يدي، وكل ما كان من فَعَلَ مما فاؤه واوٌ ومضارعُه يَفْعِل فالواوُ ساقطةٌ منه1، لوقوعها بني ياءٍ وكسرةٍ، وكذلك ما كان منه على فَعِلَن يَفْعِلُ، لأن العلةَ في سقو الواو كسرةٌ العين بعدَها. وقد مضى تفسيرُ هذا.
ولكن في يدينَ علة أخرى، وهي أن الياء التي هي لام الفعلِ بعد كسرةٍ، فهي تعتلُّ اعتلال آخر يرمي، وأوله يعتل اعتلال واو يعد، واحتمل علتين لأن بينهما حاجزاً، ومثل ذلك وعى يعي، ووقى يقي، ووفى يفي، ووشى يشي، وونى في أمر1 يني، وما أشبه ذلك. ويقعُ في فَعِلَ، نحو وَلَى الأميرُ الآن يلي.
فإذا أمرتَ كان الفعل على حرفٍ واحدٍ في الوصلِ، لاتصاله بما بعده، تقول: يا زيد ع كلاماً، وشِ ثوباً، وتقولُ: لِ عمراً يا زيدُ، من وليتُ، فإذا وقفت قلت: لهْ، وشِهْ، وقِهْ، لايكون إلا ذلك، لأن الواوَ تسقطُ فتبتدىء بمتحركٍ، فلا تحتاجُ2 إلى ألفِ وصل3، فإذا وقفت احتجت إلى ساكنٍ تقفُ عليه
ـــــــ
1 س: "في أمره".
2 س: "يحتاج".
3 س: "الوصل".

فأدخلت الهاء لبيان الحركةِ1 في الأول، ولم يجز إلا ذلك. ومن قال لك: الفظ لي بحرفٍ واحدٍ غير موصولٍ فقد سألك2 محالا، لأنك لاتبتدىء إلا بمحركٍ. ولا تقفُ إلى على ساكنٍ، فقد قال لك الفظ لي بساكنٍ متحرك في حالٍ.
وقوله؛ ضمن يقالُ: ضمن القبرُ زيداً، وضمنَ القبرَ زيدٌ؛ كلٌّ صحيحٌ. فمن قال: ضمن القبرُ زيداً، فإنما أراد جعل القبر ضمين زيدٍ، ومنقال: ضمنَ زيدٌ القبرَ، فإنما أراد: جعلَ زيدٌ في ضمنِ القبر، وينشد هذا البيت على وجهين:
وما غائبٌ من غابَ يُرجى إيابهُ ... ولكنهُ من ضمنَ اللحدَ غائبُ3
ومن روى "من ضمن اللحدُ غائبُ" يريدُ من ضمنه اللحدُ، وحذفَ الهاءَ من صلةِ من،وهذا من الواضح الذي لا يحتج إلى تفسير.
وقوله: أحور يعني ظبياً، وأهل الغريب يذهبون إلى أن الحوار في العين شدةً سوادِ سوادها وشدةُ بياض بياضها، والذي عليه العرب إنما هو نقاءٌ البياضِ، فعند ذلك يتضح السوادُّ. وقد فسرنا الحورَ والحواري.
والكناسُ: حيث تكنسُ البقرة والظبيةُ، وهو أن تتخذ في الشجرةِ العادية كالبيت تأوي إليه وتبعر فيه، فيقال إن رائحته أطيبُ رائحة، لطيب ما ترتعي، قال ذو الرمةِ:
إذا استهلت عليه غيبةٌ أرجت ... مرابضُ العين حتى يأرجَ الخشبُ
كأنه بيتُ عطارٍ يضمنهُ ... لطائم المسكِ يحويها وتنتهب4
قوله: "غيبة" هي الدفعة من المطرِ، وعند ذلك تتحرك الرائحةُ.
والأرجُ: توهجُ الريحِ، وإنما يستعمل ذلك في الريح الطيبةِ.
والعين: جمعُ عيناءَ، يعني البقرةَ الوحشيةَ، وبها شبهت المرأة، فقيل: حورٌ عينٌ.
واللطيمة: الإبلُ التي تحملُ العطرَ والبزَّ، لا تكون لغير ذلك.
ـــــــ
1 س: "حركة الأول".
2 س: "سأل".
3 زيادات ر: "لأبى حبة النميري".
4 من س.

فيقولُ: ضمنَّ ظبياً أحور العين أحكلَ، وجعلَ الحجالَ كالكناسِ. وقال ابن عباس في قول الله جلَّ وعزَّ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 1 قال: أقسم2 ببقر الوحش لأنها خنسُ الأنوف: والكنسُ: التي تلزمُ الكناسَ. وقال غيره: أقسم بالنجوم التي تجري بالليل وتخنس بالنهار، وهو الأكثر.
وقوله: أردين، يقول3: أهلكنَ، والردى: الهلاكُ والموت من ذا.
والذهولُ الانصراف، يقال: ذهلَ4 عن كذا وكذا: إذا انصرف عنه إلى غيره. قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسلى وتنسى عنه إلى غيره.
قال كثير:
صحا قلبهُ يا عزّ أو كاد يذهلُ ... وأضحى يريدُ الصرمَ أو يتدللُ
وقوله:
ولقد تبلن كثيراً وجميلاً
أصل التبل الترةُ، يقال: تبلي عند فلانٍ؛ قال حسانُ بن ثابتٍ:
تبلت فؤادك في المنامِ خريدةٌ ... تشفي الضجيع بباردٍ بسامِ
والخريدةٌ: الحييةٌ.
وقوله:
ممن تركن فؤاده مخبولا
يريد: الخبل، وهو الجنون، ولو قال: محبولا لكان حسناً يريدُ مصيداً واقعاً في الحبالةِ، كما قال الأعشى:
فلكنا هائم في إثر صاحبهِ ... دانٍ وناءٍ ومحبولٌ ومحتبلُ
ـــــــ
1 سورة التكوير 16،15.
2 كذا في الأصل، وفي ر: "أقسم" على المضارع.
3 كذا س، والأصل: أردين: أهلكن.
4 كذا الأصل، وفي ر. "ذهل"، بكسر الهاء.

من طرائف العشاق
وخبرت أن رجلاً جافياً عشق قينة حضرية، فلكما يوماً على ظهر الطريق فلم تكلمه، فظن أن ذاك حياءٌ منه، فقال: يا خريدة! قد كنتُ أحسبك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا! فقالت: يا ابن الخبيثةِ! أتجمشني بالهمزِ!
الخريدةٌ: الحيية. والعروبُ: الحسنةُ التبعل، وفسرَ في القرآن على ذلك في قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً} 1. فقيل: هن المحباتُ لأزواجهن.
وقال أوسُ بن حجر2:
تصبي الحليم عروبٍ غير مكلاحِ3
وذكر الليثي أن رجلاً كان يحب4 جاريةً لوم يكن يحسن مما يتوصل به إلى النساء شيئاً، إلا أنه كان يحفظ القرآن، فكان يتوصل إليها بالآية بعد الآية، فكان إن وعدته فأخلفته تحين وقت مرورها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} 5 وإن خرجت خرجةً ولم يعلم بها فينتظر تحينها في أخرى، فتلا: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} 6. وإن وشى به إليها واشٍ كتبَ إليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 7.
وذكروا أن أبا القمقام8 بن بحر السقاء عشق جارية مدينية، فبعث إليها: إن أخواناً لي زاروني، فابعثي إلي برؤوسٍ حتى نتغدى9 ونصطبح [اليوم]10 على ذكرك، ففعلت، فلما كان في11 اليوم الثاني بعثَ إليها: إن القوم مقيمون لم
ـــــــ
1 سورة الواقعة 37.
2 زيادات ر: "ويقال عبيد بن الأبرص" وصدره كما في الزيادات.
وقد لهوت بمثل الرئم آنسة
3 أى غير عبوس.
4 ر: "أحب جارية".
5 سورة الصف 2.
6 سورة الأعراف 188.
7 سورة الحجرات 6.
8 كذا في الأصل، س، وفي ر: "القماقم".
9 كذا في الأصل، س، وفي ر: "تأكلها".
10 تكمله من س.
11 ساقطة من ر.

نفترق، فابعثي إلي بقليةٍ جزوريةٍ وبقريةٍ قديةٍ1 حتى نتغداها ونصطبح على ذكركِ، فلما كان في اليوم الثالث بعثَ إليها: إنا لم نفترق، فابعثي إلي بسنبوسكٍ2 حتى نصطبح اليوم على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحب يحل في القلبِ، ويفيض إلى الكبدِ والأحشاء، وإن حب صاحبنا هذا ليس يجاوزُ المعدة.
وخبرت أن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين المهدي في النيروز والمهرجان، فأهدى في أحدهما برنيةً ضخمةً، فيها ثوب ناعمُ مطيب، قد كتب في حواشيه:
نفسي بشيءٍ من الدنيا معلقةٌ ... الله والقائمُ المهدي يكفيها
إني لأيأس منهاثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا بما فيها3
فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت، وقالت: يا أمير المؤمنين، أبعد حرمتي وخدمتي تدفعني4 إلى رجلٍ قبيح المنظر بائع جرار ومكتسبٍ بالعشق! فأعفاها، وقال: املئوا له5 هذه البرنية مالاً، فقال للكاتب: أمر لي بدنانير فقالوا: ما ندفع ذلك، ولكن إن6 شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أراد، فاختلف في ذلك حولاً، فقالت عتبةُ: لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حولٍ في التمييز بين الدراهم والدنانير، وقد أعرض عن ذكري صفحاً.
ودعت أبا الحارث جمين7، واحدةٌ كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر
ـــــــ
1 القلية الجزوردية: مرقة تتخذ من لحوم الجزور وأكبادها: وبقرية: قطيعة من لحم البقر، وقدية: طيبة الطعم، طيبة الريح.
2 سنبوسك، فارسي مغرب وهو من ضروب الأطعمة.
3 ر، س: "ومافيها" وما أثبته من الأصل.
4 ر: "حرمتى وخدمتي أتدفعني"، وما أثبته عن الأصل.
5 ساقطة من ر.
6 كذا في الأصل، س، وفي ر: "إذا".
7 ر، س: "جميز"، وصوابه مافي الأصل، وهو جمين المدنى صاحب النوادر والمزح" وانظر المشتبه 175.

الطعام، فلما طال ذلك به قال: جعلني الله فداكِ! لا أسمع للغداء1، ذكراً. قالت: أما تستحيي! أم في وجهي ما يشغلك عن ذا? فقال لها: جعلني الله فداكِ! لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبزقَ كل واحدٍ منهما في وجهِ صاحبهِ وافترقا.
وأنشدت لأعرابيٍّ:
وقد رابني من زهدمٍ أن زهدماً ... يشد على خبزي ويبكي على جملِ
فلو كنت عذري العلاقةِ لم تكن ... سميناً وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ
وقال أعرابي:
ذكرتك ذكرةً فاصطدت ضبا ... وكنت إذا ذكرتكِ لا أخيبُ
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س، وفي ر: "للغداء".

لذي الرمة في مي
ّ
وقال ذو الرمة:
ألم تعلمي يا ميَّ أنَّا وبيننا ... مهاوًً لطرف العين فيهنَّ مطرح
ذكرتك إن مرّت بنا أمُّ شادنٍ ... أمام المطايا تشرئبُّ وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرَّةٌ ... شعاع الضُّحى في لونها يتوضَّح
هي الشِّبه أعطافاً وجيداً ومقلةً ... وميَّة أبهى بعد منها وأملح
كأنَّ البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ نهيٍ به السَّيل أبطح
بئن كانت الدُّنيا عليَّ كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح
قوله: "مهاوٍ"، واحدتها مهواةٌ، وهو الهواء بين الشيئين.
ويقال: لفلان في داره مطرحٌ إذا وصفها بالسَّعة، يقال: فلان يطرح بصره كذا مرَّرةً وكذا مرةً، وأنشد سيبويه:
نظّارة حين تعلو الشمس راكبها ... طرحاً بعيني لياحٍ فيه تحديد
اللياح من البياض، واللَّوح: العطش، واللُّوح: الهواء.
والشَّادن: الذي قد شدن، أي تحرَّك.

وقوله: "تشرئب"، يقال: إذا وقف ينظر كالمتحيَّر: قد اشرأبَّ نحوي، ويقال: هو يسرح في المرعى.
وقوله: "من المؤلفات"، يقال: "آلفت المكان أولفه إيلافاً"، ويقال: ألفته إلفاً، وفي القآن الكريم: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلاَفِهِمْ} 1 وقرأوا: "إلافهم" على القصر.
وقوله: "الرمل" النصب فيه أجود بالفعل، ويجوز الخفض على شيءٍ نذكره بعد الفراغ من هذا الباب، إن شاء الله.
وأصل الهجان الأبيض.
والعطف: ما انثنى من العنق، قال: تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} 2. ويقال للأردية: العطف؛ لأنها تقع على ذلك الموضع.
وفي الحديث: أنَّ قوما ًيزعمون أنهم من قريشٍ أتوا عمر بن الخطاب رحمه الله، وكان قائفاً3، ليثبِّتهم في قريشٍ، فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع. فنظر إلى أكفِّهم، ثم قال: اطرحوا العطف-واحدها عطاف- ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكفِّ قريشٍ ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه.
والجيد: العنق.
والبرى: الخلاخيل، واحدتها برة، وهي من الناقة التي تقع في مارن الأنف، والذي يقع في العظم يقال له الخشخاش.
والعاج كان يتَّخذ مكان الأسورة، قال جرير:
ترى العبس الحوليَّ جوناً بكوعها ... لها مسكاً من غير عاجولا ذبل
العبس: ما تعلّق4 من الأبعار والبول بأذناب الإبل، والوذح: الذي تعلَّق بأطراف إلاء الشَّء، ويكون العبس في أذناب الإبل من البول إذا خثر.
ـــــــ
1 سورة قريش: 1.
2 سورة الحج: 9.
3 القيافة: تتبع الآثار ومعرفتها.
4 كذا في الأصل، س، وفي ر: "مايتعلق".

والجون ههنا: الأسود وهو الأغلب فيه، والكوع: رأس الزَّند الذي يلي الإبهام، والكرسوع: رأسه الذي يلي الخنصر. والمسكة: السِّوار، والذَّبل: شيئٌ يتَّخذ من القرون كالأسورة، ويقال: سوارٌ وسوارٌ، وإسوارٌ: قالت الخنساء:
كأن تحت طيِّ البرد إسوار
والعشر: شجرٌ بعينه.
والأبطح: ما انبطح من الوادي، يقال: أبطح، وبطحاء يا فتى، وأبرق وبرقاء، وأمعز ومعزاء، وهذا كثيرٌ.
والتَّباريح: الشدائد، يقال: برَّح به، وفي الحديث: "فأين أصحاب النَّهر" ? قال: لقوا برحاً، والعرب لا تعرفه إلاَّ ساكن الراء، قال جرير:
ما كنت أوَّل مشغوفٍ أضرَّ به
برح الهوى وعذابٌ غير تفتير
قال أبو الحسن: وقد سمعنا من غير أبي العباس، يقال: لقيت منك برحاً، بالفتح. ويقال: لقي منه البرحين، أي الدَّواهي الشِّداد التي تبرّح.

ما قيل في السر وكتمانه
قال أبو العباس في المثل السائر: قيل لرجل: ما خفي? قال: ما لم يكن.
وفي تفسير هذه الآية: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1. قال: ما حدَّثت به نفسك. كما قال: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 2، تقديره في العربية: وأخفى منه.
والعرب تحذف مثل هذا، فيقول القائل: مررت بالفيل أو أعظم، وإنه كالبقَّة3 أو أصغر، ولو قال: رأيت زيداً أو شبيهاً لجاز، لأنّ في الكلام دليلاً، ولو قال: رأيت الجمل، أو راكباً، وهو يريد: "عليه": لم يجز لأنه لا دليل فيه، والأول إنما قرّب شيئاً من شيءٍ، وههنا إنما ذكر شيئاً ليس من شكل ما قبله.فأما قوله جل ثناؤه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4 وفيه قولان: أحدهما - وهو
ـــــــ
1 سورة طه 7.
2 سورة البقرة 235.
3 ر: "لكالبقة"، وما أثبته عن الأصل، س.
4 سورة الروم 27.

المرضي عندنا -: إنما هو: وهو عليه هينٌ، لأن الله جلَّ وعزَّ لا يكون عليه شيء أهون من شيءٍ آخرَ. وقد قال معن بن أوسٍ:
لعمركَ من أدري وإني لأؤجل ... على أينا تغدو المنيةُ أولُ
أرد: وني لوجلٌ، وكذلك يتأول من في الأذن? "الله أكبر الله أكبر"، أي الله كبيرٌ، لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد1، يقال: هذا أكبرُ من هذا، إذا شاكله في باب.
فأما "الله أجود من فلان" و"الله أعلم بذلك منك"، فوجه2 بين، لأنه من طريقِ العلم والمعرفةِ والبذلِ والإعطاءِ.
وقوم يقولون: "الله أكبر من كل شيءٍ"، وليس يقع هذا على محض الروية3، لأنه تبارك وتعالى ليس كمثلهِ شيءٌ4، وكذلك قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمه اعز وأطولٌ
جائزٌ أن يكون قال للذي يخاطبه: من بيتكَ،فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة والمفاخرة، وجائز أن تكون دعائمه عزيزةٌ طويلةٌ، كما قال الآخر5:
فبحتم يا آل زيدٍ نفرا ... ألأم أصغراً وأكبرا
يريد: صغاراً وكباراً.
فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحارث بن شهابٍ، وفخر6 بن أسدٍ بذلك، مع كثرة من قتلت بنو يربوع منهم:
فخرت بنو أسدٍ بمقتل واحدٍ ... صدقت بنو أسدٍ عتيبةُ أفضلُ
فإنما معناه أفضل ممن قتلوا، على ذلك يدل الكلامُ. وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله:
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "توجهه"
3 ر: "الرؤية"، وما أتبته عن الأصل، س.
4 ساقطة من ر.
5 ر: "قال الرجز"، وما أثبته عن الأصل، س.
6 ر: "وفخر" بالرفع، وما أثبته عن الأصل.

فخروا بمقتلهِ ولا يوفي به ... مثنى سراتهم الذين نقتل
والقول الثاني في الآية: وهو أهون عليه عندكم، لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيئاً من لا شيء.
ثم نعود إلى الباب.
قال زهيرٌ:
ومهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ... ولو خالها تخفى على الناس تعلمِ
فهذا مثل المثل الذي ذكرناه.
وقال عمرو بن العاص: إذا أنا افشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل: فقيل له: وكيف ذاك? قال: أنا كنت أحق بصيانته.
وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانهُ ... فليس علي شيءٍ سواه بخزانِ
وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقائل يقول: هو له، ويقول آخرون: قاله متمثلا، ولم يختلف في أنه كان يكثرُ إنشاده:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وذكر العتبي أن معاوية بن أبي سفيان أسر إلى عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمانُ: فجئت إلى أبي، فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، أفأحدثك به? قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيارُ إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وابيه? فقال: لا، ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرتُ ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رقِّ الخطإ.
وقال معاوية: أعنت على علي رحمه الله بأربع: كنت رجلاً أكتمُ سري،

وكان رجلاً ظهره1، وكنت في أطوع جند وأصلحه، وكان في أخبث جندٍ وأعصاه، وتركته واصحاب الجمل وقلتُ: إن ظفروا به كانوا أهون علي منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه. ن وكنتُ أحب إلى قريشٍ منه، فيا لك من جامعٍ إلي ومفرق عليه! وعونٍ لي وعونٍ عليه!
وقال أردشير: الداء في كل مكتومٍ.
وقال الأخطل:
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشرُ
وقال جميلٌ:
ولا يسمعن سري وسرك ثالثٌ ... ألا كل سرٍّ جاوز اثنين شائعُ
وقال آخر، وهو مسكينُ الدرامي:
وفتيان صدقٍ لستُ أطلعُ بعضهم2 ... على سر بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرىء شعبٌ من القلب فارغٌ ... وموضوعُ نجوى لا يرام اضطلاعها
وقال آخر:
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريمُ
حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليمٌ
وكان يقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبدهِ لصديقه فيوشك أني صير عدواً فيذيعهُ.
وقال العتبي:
ولي صاحبٌ سري المكتومُ عنده ... مخاريق نيرانٍ بليلٍ تحرقُ3
ـــــــ
1 أى يظهر أمره للناس.
2 ر: "لست مطلع بعضهم"، وما أثبته عن الأصل، س.
3 مخاريق: جمع مخراق، وهو ماتلعب به الصبيان من الخرق المفتولة، يضرب بعضهم بعضا، وكنى بتحريقها عن إذاعة سره. قاله المرصفى.

عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمانٍ لا تتخرق
فمن تكنِ الأسرار تطفو بصدره ... فأسرارُ صدري بالأحاديث تغرقُ
فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمقُ
وحسبكَ في سترِ الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريبُ الموفقُ:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ
وقال كعب بن سعدٍ الغنوي:
ولست بمبدٍ للرجال سريرتي ... ولا أنا1 عن أسرارهم بسئولِ
ولا أنا يوماً للحديث سمعتهُ ... إلى هاهنا من هاهنا بنقولِ2
وقد ذكرنا قول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لابنه عبد الله: ن ذا الرجل قد اختصك دون أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن الرجل عليك كذباً، ولا تفشين له سراً، ولا تغتب عنده أحداً. فقيل لابن عباس: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من ألفِ دينارٍ، فقال: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من عشرةِ آلافٍ.
وقال بعض المحدثين:
لي حيلةٌ فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلهْ
من كان يكذبُ ما يري ... د فحيلتي فيه قليلهْ3
وقال آخر [قال أبو الحسن: هو أبو العباس المبرد]:
إن النموم أغطي دونه خبري ... وليس لي حيلةٌ في مفتري الكذبِ
وقال بعض المحدثين:
كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمعِ يسيل على خدي4
وشاع الذي أضمرت من غير منطقٍ ... كأن ضمير القلب يرشح من جلدي
ـــــــ
1 ر: "وما أنا".
2 حاشية الأصل: "البيت الثاني سقط من الأصل، وثبت عند ش".
3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "من كان يخلق ما يقول".
4 ر: "تسيل على الخد".

وقال جميل بن عبد الله بن معمرِ العذري1:
إذا جاوز الإثنين سرٌ فإنه ... بنث وإفشاءِ الحديث قمينُ
وتأويل قمين، وحقيقٍ، وجدير، وخليق، واحدٌ، أي قريب من ذاك، هذا حقيقتُه، يقال: قمينٌ،وقمنٌ، في معنى. قال الحادرث بن خالدٍ المخزومي:
من كان يسال عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزلٌ قمنُ
وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مالٌ قمنٌ ألا يبارك فيه".
وقال الرقاشي:
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا سرا
فنقضي ولم يعلم بنا كل حاجةٍ ... ولم نكشف النجوى ولم نهتك السترا
وقال معاوية لعباس2 بن صحار العبدي: ما أقرب الاختصار? فقال لمحة دالةٌ.
وقيل: خيرُ الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره.
وقيل: النمام سهم قاتلُ وقال أحد المحدثين:
لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
وإن قليل العقلِ من باتَ ليلةً ... تقلبه الأسرارُ جنباً على جنبِ
وقال آخر:
ومنع جارتي من كل خيرٍ ... وأمشي بالنميمةِ بين صحبي
ويقال للنمام: القتات.
وفي حديثٍ: "لا يراح القتاتُ رائحةَ الجنةِ".
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "لعن الله المثلث" فقيل: يا رسول الله، ومن
ـــــــ
1 المرصفى: هذا غلط، وصوابه: وقال قيس بن الخطيم.
2 ر: "عباس"، وما أثبته عن الأصل، س، وهو الصواب.

المثلث? فقال: "الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه".
وقال معاوية للأحنف في شيءٍ بلغه عنه، فأنكر ذلك الأحنف، فقال له معاوية: بلغني عنك الثقة، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن الثقة لا يبلغُ.
وقال أحد الماضين1:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أُذيعَ، وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمانُ السرِّ وأعلى أخلاق نسينث ما أسر إليه.
ويقال للنكاح: السرُّ؛ على غير وجه وهذا ليس من الباب الذي كنا فيه، ولكني ذكر الشيء بالشيء، وهذا حرف يغلط فيه، لأن قوماً يجعلون السرَّ الزنا، وقومٌ يجعلونه الغشيانَ، وكلا القولين خطأَ، إنما هو الغشيانُ من غير وجهه. قال الله جلَّ وعزّ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} 2، فليس هذا موضع الزنا.
وقال الحطيئة:
ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاعِ
وقال الأعشى لسلامة ذي فائشٍ الحميري:
وقومك إن يضمنوا جارةً ... وكانوا بموضِعِ أنضادها 3
فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها4
في هذا قولان:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو طريح بن اسماعيل الثقلى".
2 سورة البقرة 235.
3 الأنضاد: الأعمار والأخوال المتقدمون إلى الشرف. قاله المرصفى.
4 يقول: لا يتركونها لفلة مالها، وهو الإزهاد، قاله صاحب اللسان-زهد.

أحدهما أنهم لا يطلبون اجترارها إليهم على رغم أوليائها منأجل ماله، غضباً1 للجوار، ولا يسلمونها إذا انقطع رجاؤهم من الثواب والمكافأة.
والآخر أنهم لا يرغبون في ذوات الأموال؛ إنما2 يرغبون في ذواتِ الأحساب؛ اختيارً للأولاد، وصيانةً للأصهار، أن يطمع فيهم من لا حسب له.
وقوله الحطيئة:
ويأكل جارهم أنفَ القصاعِ
إنما يريد المستأنف الذي لم يؤكل قبل منه شيء؛ يقال: روضةٌ أنف؛ إذا لم ترعَ، وكأسٌ أنف، إذا لم يشرب منها شيء قبل، قال لقيط بن زرارة:
إن الشواءَ والنشيلَ والرغفْ3 ... والقينة الحسناءَ والكاس الأنفْ
للطاعنين الخيل والخيل خنفْ4
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س،وفي ر: "غصبا".
2 ر: "وإنما".
3 النشيل: لحم يطبخ بلا توابل.
4 الخنف: جمع خنوف، من خنف الفرس إذا لوى حافره.

المجلد الثالث
تابع
لبكر بن النطاح يمدح مالك بن علي الخزاعي
...
بسم الله الرحمن الرحيم
باب 1
قال أبو العباس: وهذا باب اشترطنا أن نخرج فيه من حزن إلى سهل ومن جد إلى هزل، ليستريح القارئ، ويدفع عن مستمعه الملال. ونحن ذاكرون ذلك إن شاء الله.
بكر بن النظاح يمدح مالك بن علي الخزاعي
قال بكر بن النطاح في كلمة يمدح فيها2 مالك بن علي الخزاعي:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت قم فجئنا بكوكب
فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب3
فلو أنني أصبحت في جود مالك ... وعزته ما نال ذلك مطلبي4
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأسياف تغلب
ـــــــ
1 هذا العنوان ثابت في الاصل. س, وهو ساقط من ر.
2 ر: "مدح". وما أثبته عن الأصل. س.
3 قال في اللسان: "العنقاء: طائر ضخم ليس بالعقاب. وقيل العنقاء المغرب. كلمة لا اصل لها, يقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور. ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربا ومغربة". مادة-عنق.
4 في س. هذا البيت قبل سابقه.

للخليع يمدح عاصماً الغساني
وقال الخليع1 في كلمة له2 يمدح بها عاصماً الغساني:
أقول ونفسي بين شوقي وحسرة ... وقد شخصت عيني ودمعي على خدي3
اريحي بقتل من تركت فؤاده ... بلحظته بين التأسف والجهد
فقالت: عذاب الهوى4 قبل ميتة ... وموت إذا أقرحت قلبك من بعدي5
لقد فطنت للجور فطنة عاصم ... لصنع الأيادي الغر في طلب الحمد
سأشكوك في الأشعار غير مقصر ... إلى عاصم ذي المكرمات وذي المجد
لعل فتى غسان يجمع بيننا ... فتأمن نفسي منكم لوعة الصد
ـــــــ
1 الخليع لقب الحسين بن الضحاك. أحد شعراء الدولة العباسية.
2 كلمة "له" ساقطة من ر.
3 شخصت عيني: ارتفع جفنها من كثرة السهاد
4 ر: "في الهوى". وما أثبته عن الأصل. س.
5 يقال: قرح قلب الرجل من الحزن وأقرحة غيرة

لأبي العتاهية في العتاب
وقال إسماعيل بن القاسم:1
إن السلام وإن البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
هذا زمان ألح الناس فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين
أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيراً يا ابن يقطين
أني أريدك للدنيا وعاجلها ... ولا أريدك يوم الدين للدين
ـــــــ
1 هو المكنى أبا العتاهية.

ليزيد بن محمد يمدح إسحاق بن إبراهيم
وقال يزيد بن محمد بن المهلب1 المهلبي في كلمة يمدح بها إسحاق بن إبراهيم:
إن أكن مهدياً لك الشعر2 إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
غير أني أراك من أهل بيت ... ما على الحر أن يسودوه عار
وقال في كلمة أخرى له :3
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر4
وإذا أتاك مهلبي في الوغى ... والسيف في يده فنعم الناصر
ـــــــ
1 من س.
2 كذا في الاصل.س. وفي ر :"المدح".
3 كلمة له ساقطة من ر. س.
4 حددت: منعت, يقال: حده حدا. منعه عنه خيرا كان أم شرا. وجددت. أي رزقت الجد. وهو الحظ.

في مقتل مصعب بن الزبير
وقال عبد الله بن الزبير لما أتاه قتل مصعب بن الزبير: اشهده المهلب بن أبي صفرة? قالوا: لا. كان المهلب في وجوه الخوارج. قال: أفشهده عباد بن الحصين الحبطي? قالوا: لا. قال: أفشهده عبد الله بن خازم السلمي? قالوا: لا. فمثل عبد الله بن الزبير.
فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلخم امرئ لم يشهد اليوم ناصره1
جعار: اسم من أسماء الضبع. وهي صفة غالبة، لأنه يقال لها: جاعرة، فهذا في بابه كفساق، ولكاع، وحلاق، للمنية. وقد فسرنا هذا الباب مستقصى على وجوهه الأربعة.
ـــــــ
1 من أبيات الكتاب 38: 2وينسب إلى النابغة الجعدي.

ابنة جارية همام بن مرة
ويروى أن ابنة جارية لهمام بن مرة بن ذهب بن شيبان قالت له يوماً:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى اللائي يكن مع الرجال
فقال: يا فساق! أردت صفيحة1 ماضية. فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى صلعاء مشرقة القذال2
فقال: يا فجار! أردت بيضة حصينة3، فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى أير أسد به مبالي
قال: فقتلها.
ـــــــ
1 الصفيحة: واحدة الصفائح, وهي السيوف العريضة.
2 القذال في الاصل: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس.
3 البيضة من الحديد. تلبس على الرأس تقيه السلاح.

من أخبار سعيد بن سلم الباهلي
وما قيل فيه من الشعر
قال أبو العباس: قال أبو الشمقمق - وهو مروان بن محمد، وزعم التوزي عن أبي عبيدة قال: أبو الشمقمق ومنصور بن زياد ويحيى بن سليم الكاتب. من

أهل خراسان، من بخارية عبيد الله بن زياد، وكان أبو الشمقمق ربما لحن، ويهزل كثيراً ويجد، فيكثر صوابه - قال يمدح مالك بن علي الخزاعي ويذم سعيد بن سلم الباهلي:
قد مررنا بمالك فوجدنا ... ه جواداً إلى المكارم ينمي
ما يبالي أتاه ضيف مخف ... أم أتاه يأجوج من خلف دذم
فارتحلنا إلى سعيد بن سلم ... فإذا ضيفه من الجوع يرمي
وإذا خبزه عليه سيكفي ... كهم الله ما بدا ضوء نجم
وإذا خاتم النبي سليما ... ن داود قد علاه بختم
فارتحلنا من عند هذا بحمد ... وارتحلنا من عند هذا بذم
وقال عبد الصمد بن المعذل يرثي سعيد بن سلم:
كم يتيم جبرته بعد يتم ... وفقير بعثته بعد عدم
كلما عضت الحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم
وقال سعيد بن سلم: عرض لي أعرابي فمدحني فبلغ . فقال:
ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد

لنا سيد أرثى على كل سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
قال: فتأخرت عن بره قليلاً. فهجاني فبلغ . فقال:
لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
وقال أبو الشمقمق:
قال لي الناس زر سعيد بن سلم ... قلت للناس لا أزور سعيدا
وأميري فتى خزاعة بالبص ... رة قد عمها سماحاً وجودا
ولنعم الفتى سعيد ولكن ... مالك أكرم البرية عودا
فقال سعيد: لوددت أنه لم يكن ذكرني مع مالك، وأنه أخذ مني أمنيته.
وقال أبو الشمقمق أيضاً:
هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
والله لو ملك البحار بأسرها ... وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهور ... لأبى وقال: تيممن بصعيد
ومثله قول لآخر:
لو أن قصرك يا ابن يوسف كله ... إبر يضيف بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقال مسلم بن الوليد:
ديونك لا يقضى الزمان خريمها ... وبخلك بخل الباهلي سعيد
سعيد بن سلم ألأم الناس كلهم ... وما قومه من لؤمه ببعيد
يزيد له فضل ولكن مزيداً ... تدارك منا مجده بيزيد
خزيمة لا بأس به غير أنه ... لمطبخه قفل وباب حديد
وقال عبد الصمد بن المعذل، يرثي عمرو بن سعيد، وكان عمرو هلك بعيد سعيد بيسير:
رزينا أبا عمرو فقلنا: لنا عمرو ... سيكفيك ضوء البدر غيبوبة البدر
وكان أبو عمرو معاراً حياته ... بعمرو فلما مات أبو عمرو
وقال أمير المؤمنين الرشيد يوماً لسعيد بن سلم: يا سعيد، من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة، قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، الشريف من شرفتموه، قال: صدقت أنت وقومك.
وحدثني علي بن القاسم بن علي بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني رجل من أهل مكة، قال: رأيت في منامي سعيد بن سلم في ، حياته وفي نعمته، وكثرة عدد ولده، وحسن مذهبه، وكمال مروءته، فقلت في نفسي: ما أجل ما أعطيه سعيد بن سلم! فقال لي قائل: وما ذخره الله له في الآخر أكثر.
وكان سعيد إذا استقبل إذا استقبل السنة التي يستقبل فيها عدد سنيه أعتق نسمة وتصدق بعشرة آلاف درهم، فقيل لمديني: إن سعيد بن سلم اشترى نفسه من ربه بعشرة آلاف درهم. فقال: إذاً لا يبيعه.

مما قالته العرب في ذم باهلة
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لولد سعيد:
أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف

قوم لباهلة بن يعصر إن هم ... نسبوا حسبتهم لعبد مناف
قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا ... زاداً لعمر أبيك ليس بكاف
وكأنني لما حططت إليهم ... رحلي نزلت بأبرق العزاف1
ينا كذاك أتاهم كبراؤهم ... يلحون في التبذير والإسراف
وأنشدني المازني:
سل الله ذا المن من فضله ... ولا تسألن أبا وائله
فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله
[قال أبو الحسن: وزادني بعض أصحابنا:
ترى الباهلي على خبزه ... إذا رامه آكل آكله]
وأنشدني رجل2 من عبد القيس:
أباهلي ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب
وحدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو قلابة الجزمي قال: حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد، قال: وكنا في ذراه3، وهو إذ ذاك بهي وضي، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوام4 من بني الحارث بن كعب، لم نر أفصح منهم، فرأوا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله، فقال قائل منهم له: أمن أهل بيت الخليفة أنت? قال: لا، ولكن رجل من العرب، قال: ممن الرجل? قال. رجل5 من مضر، قال: أعرض ثوب الملبس! من أيها عافاك الله? قال: رجل
ـــــــ
1 العزاف. بتشديد الزاي: جبل من جبال الدهناء.
2 ر: "وأنشد أبو العباس لرجل". وما أثبته عن الاصل, س.
3 ذراه: كنفه.
4 ر: "قوم".
5 ساقطة من ر.

من قيس، قال أين يراد بك، صر إلى فصيلتك التي تؤويك! قال: رجل م بني سعد بن قيس، قال. اللهم غفراً! من أيها عافاك الله? قال: رجل من بني يعصر، قال: من أيها? قال: رجل من باهلة، قال: قم عنا! قال أبو قلابة: فأقبلت على الحارثي فقلت: أتعرف هذا? قال: هذا، ذكر أنه باهلي، قال1: فقلت: هذا أمير ابن أمير ابن أمير... قال: حتى عددت خمسة.
هذا أبو جزء أمير، بن عمرو - وكان أميراً - بن سعيد - وكان أميراً - بن سليم - وكان أميراً - بن قتيبة - وكان أميراً.
فقال الحارثي: الأمير أعظم أم الخليفة? فقلت: بل2 الخليفة. قال: أفالخليفة أعظم أم النبي? قلت: بل النبي. قال: والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت في الإمرة3 ثم كان باهلياً ما عبأ الله به شيئاً. قال: فكادت نفس أبي جزء تفيض4، فقلت له5: انهض بنا، فإن هؤلاء أسوأ الناس أدباً6.
[قال أبو الحسن: يقال للرجل إذا سئل عن شيء فأجاب عن غيره أعرض ثوب الملبس أي أبدي غير ما يراد منه].
وحدثت أن أعرابياً لقي رجلاً من الحجاج. فقال له: ممن الرجل? قال: باهلي. قال: أعيذك بالله من ذلك. قال: أي والله، وأنا مع ذلك مولى لهم.
فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، قال له الرجل: ولم تفعل ذاك? قال: لأني أثق بأن الله عز وجل لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت من أهل الجنة.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ساقطة من ر.
3 ر: "الإمارة".
4 ر: "تخرج".
5 ساقطة من ر.
6 ر: "آدابا"

في مجلس قتيبة بن مسلم الباهلي
ويزعم الرواة1: أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى2 إلى أثاث لم
ـــــــ
1 ر: "الرقاشي".
2 يريد اتسع وسار عريضا.

ير مله، وإلى آلات لم ير مثلها1، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور ترتقي بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل. والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير. فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معاتبته. قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذاك - فأقبل على الحضين بن المنذر2 فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان? قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور? قال: هي أعظم من ألا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها! قال: أجل، ولا عيلان، لو كان رآها سمي شعبان، ولم يسم عيلان، قال له عبد الله: يا أبا ساسان، أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
قال:أعرفه, وأعرف الذي يقول:
خيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يعصر والركاب
يريد يا خيبة من يخيب. قال. أفتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل3
قال: نعم4. وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه. فهل5 تقرأ من القرآن شيئاً? قال أقرأ منه الكثر الأطيب: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} 6 [الانسان:1] قال7: فأغضبه. فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى
ـــــــ
1 ر: "لم يسمع بمثلها".
2 من س.
3 ر: "وقد عرقت".
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "أعرف هذا".
5 ر: "ولكن هل تقرأ من القرآن شيئا".
6 سورة الإنسان آية: 1.
7 كلمة "قال" ساقطة من الأصل.

من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى. ثم قال على رسله: وما يكون! تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك.
[قال أبو العباس]1: الحضين2 بن المنذر بن الحارث بن وعلة. وكان الحضين بيده لواء علي بن أبي طالب رحمه الله على ربيعة، وله يقول القائل:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
ـــــــ
1 من س.
2 ر: "هذا الحضين".

للأعشى يمدح هودة بن علي
وللحارث بن وعلة يقول الأعشى - وكان قصده فلم يحمده، فعرج1 عنه إلى هوذة بن علي ذي التاج. وهوذة من بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحارث بن وعلة من بني رقاش، وهي امرأة، وأبوهم مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، فقال الأعشى يذكر الحارث بن وعلة وهوذة بن علي:
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... يرى أسداً في بيته وأساودا
لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه مجالدا
وإن امرأ قد زرته قبل هذه ... بجو لخير منك نفساً ووالدا
تضيفته يوماً فقرب مجلسي ... وأصفدني على الزمانة قائدا
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على جمع الثلاثين واحدا
وهي كلمة.
ـــــــ
1 ر: "وعرج".

قوله: "أتيت حريثاً" يريد الحارث، تصغيره على لفظه1: حويرث.
وهذا التصغير الآخر يقال له تصغير الترخيم، وهو أن تحذف الزوائد من الاسم ثم تصغر حروفه الأصلية، فتقول في تصغير أحمد: حميد لأنه من الحمد، وفي الحارث: حريث، لأنه من الحرث، وفي غضبان: غضيب، لأنه من الغضب، لأن الألف والنون زائدتان. وكذلك ذوات الأربعة، تقول في تصغير قنديل على لفظه قنيديل، فإن صغرته مرخماً حذفت الياء فقلت: قنيدل، فعلى هذا مجرى الباب.
وقوله: عن جنابة، يقول: عن غربة وبعد. يقال: هم نغم الحي لجارهم جار الجنابة، أي الغربة. يقال: رجل جنب، ورجل جانب، أي غريب، قال الله جل وعز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2. وقال الحطيئة:
والله ما مغشر لاموا امرأ جنباً ... في آل لأي بن شماس بأكياس
وقال علقمة بن عبدة:
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
فمن قال للواحد: جنب قال للجميع: أجناب، كقولك: عنق وأعناق، وطنب وأطناب، ومن قال للواحد: جانب، قال للجميع: جناب، كقوله: راكب وركاب، وضارب وضراب. قالت الخنساء:
إبكي أخالك لأيتام وأرملة ... وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا
وإن كان من الجنابة التي تصيب الرجل قلت: رجل جنب، ورجلان جنب وكذلك المرأة والجميع، وقد يجوز، وليس بالوجه، رجلان جنبان، وامرأة جنبة، وقوم أجناب.
وقوله:
يرى أسداً في بيته وأساودا
ـــــــ
1 س: "على اللفظ".
2 سورة النساء: آية 36.

يريد جمع أسود سالخ، وأسود ههنا نعت، ولكنه غالب، فلذلك جرى ههنا مجرى الأسماء، لأنه يدل على الحية، وأفعل، إذا كان نعتاً بنفسه فجمعه: فغل، نحو: أحمر وحمر، وأسود وسود، وإذا كان نعتاً فأجري مجرى الأسماء فجمعه: أفاعل نحو أساود، وأجادل، وأداهم، إذا أردت القيد، لأنه نعت غالب يجري مجرى الأسماء، وإن أردت أدهم - الذي هو نعت محض - قلت: دهم، قال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
فأجراه مجرى الأسماء، نحو: الأصاغر، والأكابر، والأحامد.
وقوله:
لعمرك ما أشبتهت وعلة في الندى ... شمائله.....................
فإنه جعل: شمائله، بدلاً من وعلة، والتقدير: ما أشبهت شمائل وعلة.
والبدل على أربعة أضرب: فواحد منها أن يبدل أحد الاسمين من الآخر إذا رجعا إلى واحد، ولا تبالي أمعرفتين كانا أم معرفة ونكرة، وتقول: مررت بأخيك زيد، لأن زيداً رأسه. لما قلت: ضربت زيداً، أردت أن تبين موضع الضرب منه.
فمثل الأول قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} 2. و{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 3.
ومثل البدل الثاني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4
ـــــــ
1 سورة الفاتحة: 6 – 7.
2 سورة الشورى 52 ,53.
3 سورة العلق 15, 16.
4 سورة آل عمران 97.

من، في موضع خفض، لأنها بدل من الناس، ومثله، إلا أنه أعيد حرف الخفض: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} 1.
والبدل الثالث مثل ما ذكرنا في البيت، أبدل: "شمائله" منه، وهي غيره، لاشتمال المعنى عليها، ونظير ذلك: أسألك عن زيد أمره. لأن السؤال عن الأمر وتقول على هذا: سلب زيد ثوبه، فالثوب غيره، ولكن به وقع السلب، كما وقعت المسألة عن خبر زيد، ونظير ذلك من القرآن: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 2. لأن المسألة إنما كانت عن القتال: هل يكون في الشهر الحرام? وقال الشاعر وهو الأخطل3:
إن السيوف غدوها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب4
وبدل رابع، لا يكون مثله في القرآن ولا في الشعر، وهو أن يغلط المتكلم فيستدرك5 غلطه، أو ينسى فيذكر فيرجع إلى حقيقة ما يقصد له، وذلك قوله: مررت بالمسجد دار زيد، أراد أن يقول: مررت بدار زيد، فإما نسي، وإم غلط، فاستدرك فوضع الذي قصد له في موضع الذي غلط فيه.
وقوله: بجو فهي قصبة اليمامة.
وقوله: تضيفته يوماً: إنما هو تفعلته، من الضيافة، يقال: ضفت الرجل، أي نزلت به، وأضافي، أي أنزلني.
وقوله: وأصفدني: يقول: أعطاني، وهو الإصفاد، والصفد الاسم، والإصفاد المصدر، قال النابغة:
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
ويقال: صفدت الرجل فو مصفود، من القيد، ولا يقال في القيد: أصفدت، ولكن صفدته صفداً، واسم القيد الصفد، قال الله جل وعز: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 6. كقولك: جمل وأجمال، وصنم وأصنام.
ـــــــ
1 سورة الأعراف 75.
2 سورة البقرة 217.
3 من س.
4 الأغضب: الكبش المكسور القرن.
5 ر: "فيدرك".
6 سورة ص 38.

وقوله: فتى لو يباري الشمس، يقول: يعارض، يقال: انبرى لي فلان، أي اعترض [لي1] في المعنى، وفلان يباري الريح، من هذا أي يعارض الريح بجوده، فهذا غير مهموز. فأما: بارأت الكري فهو مهموز، لأنه من أبرأني وأبرأته. ويقال: برأ فلان من مرضه، برئ يا فتى؛ والمصدر منهما البرء فاعلم، وبريت القلم غير مهموز، الله البارئ المصور. ويقال: ما برأ الله مثل فلان، مهموز، وقولك: البرية، أصله من الهمز، ويختار فيه تخفيف الهمز، ولفظ التخفيف والبدل واحد، وكذلك يختار في النبي التخفيف، ومن جعل التخفيف لازماً قال في جمعه: أنبياء، كما يفعل بذوات الياء والواو، وتقول: وصي وأوصياء، وتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء، ومن همز الواحد قال في الجميع: نباء، لأنه غير معتل، كما تقول: حكيم وحكماء، وعليم وعلماء وأنبياء لغة القرآن والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال العباس بن مرداس السلمي:
يا خاتم النباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكاً 2
وقوله:
أو القمر الساري لألقى المقالدا
إنما سكن3 الياء ضرورة، وإنما جاز ذلك لأن هذه الياء تسكن في الرفع والخفض، فإذا احتاج الشاعر إلى إسكانها في النصب قاس هذه الحركة على الحركتين: الضمة والكسرة الساقطتين، فشبهها بهما، فجعلها كالألف التي في: مثنى التي هي على هيئة واحدة في جميع الإعراب، قال النابغة:
ردت عله أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة يا مسحاة في الثأد4
فأسكن الياء في: أقاصيه. وقال رؤبة:
كأن أيديهن بالقاع القرق5 ... أيدي جوار يتعاطين الورق 6
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 س: "كل هدى السماء".
3 ر: "فأسكن".
4 الثأد: الثرى.
5 القاع والقاعة ما انبسط من الأرض. والقرق: القاع لا حجارة فيه.
6 من زيادات ر: "والورق هو ورق الشجر, يضرب بالعصا فيتناثر فتلتقطه الجواري بسرعة لعطف الإبل وغيرها".

وقال:
سوى مساحيهن تقطيط الحقق1
[ويروى: تقطيط، بالنصب، وهو أجود، لأن بعده:
تفليل ما قارعن من سمر الطرق
والطرق: جمع طرقة2].
وقال آخر:
كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف
وأما قوله:
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
فإنه كان يتحدث عنه، ثم أقبل عليه يخاطبه، وترك تلك المخاطبة.
والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد، ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب. قال الله جل وعز: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 3. كانت المخاطبة للأمة، ثم صرفت4 إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عنهم. وقال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة محرم
فكان يحدث5 عنها ثم خاطبها. ومثل ذلك قول جرير:
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... فإذا أردن سوى هواك عصينا
وقال الآخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
وهذا كثير جداً.
وقوله:
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة
أي قليلاً، من الاقتصار. ويروى: ويغدو، ويعدو جميعاً.
ـــــــ
1 المساحي هنا: الحوافر, على التشبيه.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر. وتفليل: تكسير. ما قارعن. ما ضربن بها. والطرق: حجارة طارقة بعضها فوق بعض.
3 سورة يونس22.
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "انصرفت"
5 ر: "يتحدث".

من أخبار هوذة بن علي
وكان هوذة بن علي ذا قدر علي، وكان1 له خرزات فتجعل على رأسه، تشبهاً بالملوك.
وحدثني التوزي عن أبي عبيدة، قال: ما تتوج معدي قط، إنما كانت التيجان لليمن، قال: فسألته عن قول الأعشى لهوذة2:
من ير هوذة يسجد غير متب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا
قال: إنما كانت خرزات تنظم له3.
وكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلى هوذة، كما كتب إلى الملوك.
وكانت بنو حنيفة بن لجيم أصحاب اليمامة، ويقول بعض النسابين:
إن عبيد بن حنيفة كان أتى اليمامة وهي صحراء، فاختطها، فجعل يركض حواليها برمحه في الأرض على ما أصاب من النخل، وأنهم أكلوا ما أصابوا تحته من التمر، فلما طلع لهم التمر لم يهتدوا لصعود النخل، فأقبلوا يجدونه، حتى فكروا فأعدوا له السلالم، فلما عمرت اليمامة جعلت العرب تنجعهم لموضع التمر فيجاورون العزيز منهم، وكان يقال لمن دخلها من هؤلاء: السواقط؛ ممن كانوا.
ويقال إن اليمامة والبحرين والقريتين ومواضع هناك كانت لطسم وجديس، والخبر في ذلك مشهور بزرقاء اليمامة، وقد ذكر ذلك الأعشى في قوله:
ـــــــ
1 ر: "وكانت".
2 ساقطة من ر.
3 ذكر ابن الأثير أن كسرى أنو شروان لما دخل علية هوذة بن على أعجب به. فدعا بعقد من در فعقد على رأسه, ومن ثم سمى هوذة ذا التاج. نقله الموصفى.

[ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقاً كما نطق الذئبي إذ سجعا]1
قالت أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أية صنعا
وكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل غسان يزجي الموت والشرعا2
وحدثني التوزي عن أبي عبيدة والأصمعي عن أبي عمرو قال: قال لي رجل من أهل القريتين: أصبت ههنا دراهم، وزن الدرهم ستة دراهم وأربعة دوانيق، من بقايا طسم وجديس، فخفت السلطان فأخفيتها.
وقد ذكر ذلك زهير في قوله:
عهدي بهم يوم باب القريتين وقد ... زال الهماليج بالفرسان واللجم3
فاستبدلت بعدنا داراً يمانية ... ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم4
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر. والذئبي هو سطيح الكاهن, وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي, وكان ضعيفا منبسطا لا يقدر أن يقعد "من شرح ديوان الأعشى 74".
2 الشرع: الأوتار. واحده شرعة.
3 ر: "عهد بها", وما أثبته رواية الديوان 150, والأصل, س. وباب القريتين, التي في طريق مكة, وهي قرية كانت لطسم وجديس, والهماليج: جمع الهملاج, وهي الدالة في سيرها سرعة ويخترة, يريد بها هنا الأبل.
4 يمانية: ناحية اليمن, وظلم: اسم جبل.

لجرير يهجو بني حنيفة
وقال جرير يهجو بن حنيفة:
هجاني الناس م الأحياء كلهم ... حتى حنيفة تفسو في مناحيها1
أصحاب بخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها
دلت وأعطت يداً للسلم صاغرة ... من بعد ما كاد سيف الله يفنيها
صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... أضحوا عبيداً وثلث من مواليها
قوله: مناحيها، المنحاة: مقام السانية على الحوض، والحائط: البستان.
وقوله:
ـــــــ
1 زيادات ر: "تعبر بنو حنيفة بالفسو, لأن بلادهم بلاد نخل, فيأكلون ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير".

من بعدما كاد سيف الله يفنيها
يعني خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في وقعته بسلمة الكذاب. وللنسابين بعد هذا قول منكر.
وقال جرير:
ابني حنيفة نهنهوا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا 1
أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تواري أرنبا
ـــــــ
1 نهنهوا سفهاءكم: كفوهم وازجروهم.

لعمارة بن عقيل يهجو بني حنيفة
وقال عمارة بن عقيل:
بل أيها الراكب الماضي لطيته ... بلغ حنيفة وانشر فيهم الخبرا
أكان مسلمة الكذاب قال لكم ... لن تدركوا المجد حتى تغضبوا مضرا
مهلاً حنيفة إن الحرب إن طرحت ... عليكم بركها أسرعتم الضجرا
البرك: الصدر، إذا فتحت الباء ذكرت، وإن أردت التأنيث كسرت الباء، قلت: بركة، قال الجعدي:
ولوحا ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب1
وزعم الأصمعي أن زياداً كان يقال له: أشعر بركا لأنه كان أشعر الصدر.
وغير الأصمعي زعم2 أن هذا كان يقال للوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية.
ـــــــ
1 الجؤجؤ: الصدر. أو مجتمع رءوس عظام الصدر, والمنكب: مجتمع العضد والكتف. ورهله: استرخاؤه من السمن.
2 كذا في الأصل. س. وفي ر: "يزعم".

من أخبار الوليد بن عقبة وشعره
وذكروا أن عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي قال يوماً: ألا تعجبون لهذا، أشعر بركاً! يولي مثل هذا المصر! والله ما يحسن أن يقضي في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلاً سماني أشعر بركاً إلا قام! فقام عدي بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن لذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركاً لجريء، فقال: إجلس يا أبا طريف? فقد برأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برأني الله منها.
وكانت أم الوليد بن عقبة أم عثمان بن عفان رحمهما الله، وهي أروى بنت كريز بن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، ومن ثم قال الوليد لعلي بن أبي طالب رحمه الله: أنا ألقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمي من حيث تلقاه بأبيك.
وكان يقال للبيضاء بنت عبد المطلب: قبة الديباج. واسمها أم حكيم وذلك قيل لعثمان وللوليد1: يا ابن أروى، ويا ابن أم حكيم.
وقال الوليد لبني هاشم لهذا النسب2 حين قتل عثمان رحمه الله:
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا ... وعند علي درعه ونجائبه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
وهذا القول باطل. وكان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان علي أتقى لله من أن يقتل عثمان3 وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي4.
ـــــــ
1 كذا في الأصل: س. وفي ر: "أو للوليد".
2 كذا في الأصل س. وفي ر: "السبب".
3 ر: "من أن يعين في قتل عثمان".
4 ر: "من أن يعين في قتل".

وقال الوليد بن عقبة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر1
ومالي لا أبكي وتبكي أقاربي ... وقد حجبت عنا فصول أبي عمرو!
ـــــــ
1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة.

لليلى الأخيلية ترثي عثمان بن عفان
وقال ليلى الأخيلية، أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي:
أبعد عثمان ترجو الخير أمته ... وكان آمن من يمشي على ساق
خليفة الله أعطاهم وخولهم ... ما كان من ذهب جم وأوراق
فلا تكذب بوعد الله وارض به ... ولا توكل على شيء بإشفاق
ولا تقولن لشيء: سوف أفعله ... قد قدر الله ما كل امرئ لاق
لآخر يرثيه أيضاً
وقال آخر:
ألا قل لقوم شاربي كأس علقم ... بقتل إمام بالمدينة محرم
قتلتم أمين الله في غير ردة ... ولا حد إحصان ولا قتل مسلم
تعالوا ففاتونا فإن كن قتله ... لواحدة منها يحل لكم دمي2
وإلا فأعظم الشامتين قد أتيتم ... ومن يأت ما لم يرضه الله بظلم
فلا يهنين الشامتين مصابه ... فحظهم من قتله حرب جرهم3
وأنشدني الرياشي عن الأصمعي:
[قال أبو الحسن: هذا الشعر لابن الغريرة الضبي:]
لعمر أبيك فلا تذهلن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان سرا طويلا
ـــــــ
1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة.
2 ففاتونا, فحاكمونا, وفي ر: "فحل", على الفعل الماضي, وما أثبته عن الأصل.
3 نقل المرصفى عن الطبري أن الشعر لحنات بن يزيد المجاشعى عم الفرزدق.

ومثله قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
فتفرقت من بعد ذاك عصاهم ... شققاً وأصبح سيفهم مسلولا1
قوله: محرماً يريد في الشهر الحرام، وكان قتل في أيام التشريق. رحمه الله.
ـــــــ
1 شققا: جمع شقة: بالكسر, وهي الشطبة.

لأيمن بن خريم يرثيه أيضا
ً
وقال أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي. وكانت له صحبة:
تفاقد الذابحو عثمان ضاحية1 ... أي قتيل حرام ذبحوا ذبحوا
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ولم ... يخشوا على مطمح الكف الذي طمحوا
فأي سنة جور سن أولهم ... وباب جور على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
فاستوردتهم سيوف المسلمين على ... تمام ظمء كما يستورد النضح2
إن الذين تولوا قتله سفهاً ... لقوا3 أثاماً وخسراناً فما ربحوا
الظمء: ما بين الشربتين وقوله: ضحوا بعثمان: إنما أصله فعل في الضحى، قال زهير:
ضحوا قليلاً على كثبان أسنمة ... ومنهم بالقسوميات معترك4
أي نزلوه ضحى. ويقال: بيتوا ذاك. أي فعلوه ليلاً. قال الله جل وعز: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 5. وأنشد أبو عبيدة:
ـــــــ
1 ضاحية: علانية.
2 استوردتم: من استورد الماء, أى ورده, يريد درات سيوفهم دم عثمان على عطشها.
3 رواية الديوان 165:
وعرسوا ساعة في كثب أسمنة.
4 وما أورده المبرد, هي رواية الاصمعي أسمنة: موضع بعينه.. كذلك القسوميات, مواضع, والمعترك المزدحم.
5 النساء: 108.

أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر!
وقوله:
من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
أي من صب ذاك الدم، يقال: سفحت دمه وسفكت دمه. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 1.
وقوله: على تمام ظمء فهذا مثل، وأصل الظمء: أن تشرب الإبل يوماً ثم تغب يوماً لا ترد الماء، فما بين الشربتين ظمء، فيكون الظمء يومين، فيقال له: الربع، كما يقال في الحمى، لأنهم يعتدون بيومي شربها. والخمس: أن تظمأ ثلاثة أيام، والنضح: الحوض.
والأثام: الهلاك، قال الله عز ذكره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، ثم فسر فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} 2. فجزم "يضاعف" لأنه بدل من قوله: "يلق أثاما" إذا كان إياه في المعنى، وأنشدني أبو عبيدة:
جزى الله آبن عروة إذ لحقنا ... عقوقاً والعقوق من الأثام
وقوله: على مَطْمَح الكف يقول: على رفعها وإبعادها، يقال: طمح بصره، إذا ارتفع فأبعد النظر، قال امروء القيس:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
ـــــــ
1 سورة الأنعام: 145.
2 سورة الفرقان 68, 69.

باب في التشبيه
مدخل
...
قال أبو العباس: وهذا باب طريف نصل به هذا الباب الجامع الذي ذكرناه وهو بعض ما مر للعرب من التشبه المصيب, وللمحدثين1 بعدهم.
فأحسن ما جاء بإجماع الرواة-: ما مر لامرئ القيس في كلام مختصر, أي بيت واحد، من تشبيه شيء في حالتين مختلفتين2 بشيئين مختلفين، وهو قوله:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي3
فهذا مفهوم المعنى، فإن اعترض معترض فقال: فهلا فصل فقال: كأنه رطباً العناب وكأنه يابساً الحشف! قيل له: العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوماً، ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيا، قال الله جل وعز، وله المثل الأعلى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 4، علماً بأن المخاطبين يعلمون5 وقت السكون ووقت الاكتساب.
ومن تمثيل امرئ القيس العجيب قوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب6
ومن ذلك قوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل7
ـــــــ
1 ر: "والمحدثين": وما أثبته في الأصل, س.
2 ساقطة من ر.
3 الحشف البالي: ردئ النمر, قال شارح الديوان 38: "وإنما خص قلوب الطير جاءت بقلوبها إلى أفراخها".
4 سورة القصص.
5 ر: "يعرفون".
6 الجزع: خرز فيه بياض وسواد. شبه عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالخرز. وجعله غير مثقب, لأن ذلك أصفى له وأتم لحسنه.
7 تعرضت: أي أرتك عرضها. أي ناحيتها, والوشاح المفصل: الذي جعل بين كل خرزتين فيه لؤلؤة. والأثناء: جمع ثنى.

وقد أكثروا في الثريا1 فلم يأتوا بمن يقارب هذا المعنى. ولا بما يقارب سهولة هذه الألفاظ.
ومن أعجب التشبيه قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقوله:
خطاطيف جحن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع2
وقوله:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومن عجيب التشبيه قول ذي الرمة:
وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق 3
وقوله:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه ... على عصويها سابري مشبرق4
وتأويله5 أنه يصف ماء قديماً لا عهد له بالوراد6، فقد اصفر واسود فقال:
وماء قديم العهد بالناس7 آجن ... كأن الدبا ماء الغضا فيه تبصق 8
ـــــــ
1 ر: "وقد أكثر الناس في الثريا".
2 الخطاطيف: جمع خطاف, وهو حديدة معقوفة الراس. ونوازع: جواذب, يقول: ولك خطاطيف أجر بها إليك. فليس عنك مهرب.
3 الاعتساف: السير على غير هدى, وابن الماء: طير من الطيور محلق على مرتفع "من شرح ديوانه 401"
4 العصوان: عرقوبا الدلو, والعرقويان: خشبتان.
5 ر: "وتأويل هذا".
6 ر: "بالواردة".
7 ر: قديم العهد بالإنس", وما أثبته هو رواية الديوان والأصل: س.
8 آجن, متغير الطعم واللون. والدبا. الجراد. والغضا: شجر له هدب إذا أكلته الإبل اشتكت بطونها.

وقد أجاد علقمة بن عبدة الفحل في وصف الماء الآجن. حيث يقول:
إذا وردت ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معاً وصبيب
فقال ذو الرمة في وصف هذا الماء، فقرن بتغيره بعد مطلبه، فقال:
فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها ... شفاء الصدى والليل أدهم أبلق
يريد أن الفجر قد نجم فيه. فجاءت - يعني الدلو - بنسج العنكبوت، كأنه على عصويها سابري مشبرق. والسابري: الرقيق من الثياب والدروع1 والمشبرق: الممزق. وأنشد أبو زيد:
لهونا بسربال الشباب ملاوة2 ... فأصبح سربال الشباب شبارقا
ومن التشبيه العجيب قول ذي الرمة في صفة الظليم:
شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدب شوقب خشب
الشخت: الضئيل اليابس الضعيف. والجزارة القوام. وقوله: مثل البيت سائره من المسح: يعني إذا مد جناحيه. وإنما أخذه من قول علقمة بن عبدة:
صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم
الصعل: الصغير الرأس. الخرقاء: التي لا تحسن شيئاً، فهي تفسد ما عرضت له. قال الحطيئة:
هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
والمهجوم: المهدوم. وفي الخبر أنه لما قتل بسطام بن قيس لم يبق بيت في بكر بن وائل إلا هجم، أي هدم. والخدب: الضخم. والشوقب الطويل. والخشب: الذي ليس بلين على من نزل به.
ومن التشبيه المصيب قوله في صفة روضة:
ـــــــ
1 قال صاحب اللسان: "الدروع السابرية منسوبة إلى سابور". واستشهد ببيت ذي الرمة.
2 الملاوة: الحين من الدهر.

قرحاء حواء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم
قرحاء. يريد الأنوار. وقوله: حواء يقول: تضرب إلى السواد لشدة ريها وخضرتها، وكذلك قال المفسرون1 في قوله الله جل وعز: {مُدْهَامَّتَانِ} 2. تضربان إلى الدهمة، لشدة خضرتهما وريهما.
وقوله: أشراطية ليس مما قصدنا له. ولكنه مما يجري فنفسره، ومعناه أنها مطرت بنوء الشرطين3.
وحدثني الزيادي: قال: سمعت الأصمعي - وسئل بحضرتي، أو سألته عن قوله: أشراطية - فقال: باستة واست عرسه! وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا". لأن الخبر في هذا بعينه. "مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا ينشد شعراً فيه هجاء، وكان لا يفسر شعراً يوافق تفسيره شيئاً من القرآن، هكذا يقول أصحابه، وسئل عن قول الشماخ:
طوى ظمأها في بيضة القيظ4 بعدما ... جرى في عنان الشعر بين الأماعز5
فأبى أن يفسر في عنان الشعربين.
وقوله6: الذهاب7 فهي الأمطار اللينة الدائمة، ويقال: إنها أنجع المطر في النبت، وكذلك العهاد، وأنشد الأصمعي:
أمير عم بالنعماء حتى ... كأن الأرض جللها العهاد8
والبراعين، واحدها9 برعومة، وهي أكمة الروض قبل أن تتفتق، يقال
ـــــــ
1 ر: "وكذا المفسرون يقولون".
2 سورة الرحمن 64.
3 الشرطان: مثنى شرط بالتحريك وهي من الحمل قرناه.
4 ر: "بيضة الصيف".
5 طوى ظمأها: فقطع بها مقدار ظمأها في السير. والظمء: ما بين الشربتين, يريد أنه سار بها فلم يوردها الماء, وبيضة اليقظ: شدته. وقوله: "جرى فى عنلن الشعريين الاماعز" جعل للشعريين الصور والغميصاء- وهما كوكبان يطلعان في القيظ- عناناه طرفاه محيطان براس الأماعز, وهى الأمكنة الغليظة "من رغبة الآمل".
6 ر: "وأما قوله".
7 الذهاب: جمع ذهبة.
8 جمع عهدة.
9 ر: "واحدتها".

لواحدها: كم1، وكمام، فمن قال: كمام، فمن قال: كمام، فجمعه أكمة، مثل صمام وأصمة، وزمام وأزمة، ومن قال: كم، فالجماع أكمام، قال الله عز وجل {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} 2.
ومن ذلك قول الآخر، أحسبه توبة بن الحمير.
[قال أبو الحسن: يقال إنه لمجنون بني عامر، وهو الصواب]:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح3
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
[لها فرخان قد غلقا بكر ... فعشهما تصفقه الرياح]4
فلا بالليل نالت ما ترجي ... ولا بالصبح كان لها براح5
وقد قال الشعراء قبله فلم يبلغوا هذا المقدار.
وقال الشيباني6 للحجاج:
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
فهذا يجوز أن يكون في الخفقان وفي الذهاب البتة.
ومن التشبيه المحمود قول الشاعر:
طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كثير
ولا الحجاج عيني بنت ماء7 ... تقلب طرفها حذر الصقور
وهذا غاية في صفة الجبان.
ـــــــ
1 الكم: وعاء الطلع وغطاء النور.
2 سورة الرحمن 11.
3 ر: "تعالحه", وفى نهاية الأبيات. و"يروى: "تجاذبه", فهذا غاية الاضطراب".
4 غلقا: من الغلق. وهو الحبس.
5 البيتان الواقعان بين العلامتين من زيادات ر.
6 هو عمران بن حطان
7 بنت الماء: ما يصاد من طير الماء إذا نظرت إلى صقر قلبت عينها حذرا منه.

ونصب عيني بنت ماء على الذم، وتأويله: إنه إذا قال: جاءني عبد الله الفاسق الخبيث فليس يقوله1 إلا وقد عرفه بالفسق والخبث2 فنصبه أعني وما أشبهه من الأفعال، نحو أذكر، وهذا أبلغ في الذم، أن يقيم الصفة مقام الإسم، وكذلك المدح. وقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} 3. إنما هو على هذا. ومن زعم أنه أراد: "ومن المقيمين الصلاة" فمخطئ في قول البصريين، لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح، كالضرورة. والقرآن إنما يحمل على أشرف المذاهب. وقرأ حمزة: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 4، وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه شاعر، كما قال:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 5. أراد: وامرأته في جيدها حبل من مسد، فنصب حمالة على الذم. ومن قال إن امرأته مرتفعة بقوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}: فهو يجوز. وليس بالوجه أن يعطف المظهر المرفوع على المضمر حتى يؤكد، نحو: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 6 [المائدة: 24] و: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 7، فأما قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 8.فإنه لما طال الكلام وزيدت9 فيه لا احتمل الحذف وهذا على قبحه جائز في الكلام10، أعني: ذهبت وزيد، وأذهب وعمرو، قال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا
وقال ابن أبي ربيعة:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا11
ـــــــ
1 ر: "يقول".
2 ر: "بالخبث والفسق".
3 سورة النساء 162.
4 سورة النساء 1
5 سورة المسد 4.
6 سورة المائدة 21.
7 سورة البقرة 35.
8 سورة الأنعام 148.
9 ر: "وزادت", وما أثبته عن الأصل, س.
10 لفظ "في الكلام" ساقط من ر.
11 الملا: الفلاة.

ومما ينصب على الذم قول النابغة الذبياني1:
لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلا علي الأقارع2
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع3
وقال عروة بن الورد العبسي:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
والعرب تنشد قول حاتم الطائي رفعاً ونصباً:
إن كنت كارهة معيشتنا ... هاتا فحلي في بني بدر
الضربين، لدى أعنتهم ... والطاعنين وخيلهم تجري
وإنما خفضوهما على النعت، وربما رفعوهما على القطع والابتداء.
وكذلك قول الخرنق بنت هفان القيسي، من بني قيس بن ثعلب:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
وكل ما كان من هذا فعلى هذا الوجه4.
وإن لم يرد مدحاً ولا ذماً قد استقر له فوجهه النعت. وقرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5.
وأكثر ما تنشد العرب بيت ذي الرمة نصباً، لأنه لما ذكر ما يحن إليه ويصبو إلى قربه أشاد بذكر ما قد كان يبغي، فقال:
ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
وفي هذه القصيدة من التشبيه المصيب قوله:
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 البطل: ضد الحق. والأقارع: هم بنو قريع بن عوف بن كعب.
3 تجادع: تشاتم, وفى ر: "تخادع".
4 كذا فى الأصل. س, وفى ر: "فعلى هذا أكثر إنشاده".
5 سورة المؤمنون 14.

بيضاء في دعج، صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب1
وفيها من التشبيه المصيب قوله2:
تشكو الخشاش ومجرى النسعتين كما ... أن المريض إلى عاده الوصب3
والخشاش4: ما كان في عظم الأنف، وما كان في المارن فهو برة، يقال: أبريت الناقة، فهي مبراة، قال الشماخ - وهذا من التشبيه العجيب:
فقربت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيات القسي المؤطرا 5
وماسخة، من نصر6 بن الأزد، وإليهم تنسب7 القسي الماسخية. وأحسن ما قيل في صفة الضلوع واشتباكها قول الراعي:
وكأنما انتطحت على أثباجها ... فدر بشابة قد يممن وعولا8
الفادر: المسن من الوعل.
وذو الرمة أخذ ذلك من المثقب العبدي، قال المثقب9:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
ومن التشبيه المستحسن قول علقمة بن عبدة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم10
فهذا حسن جداً.
وقال أبو الهندي، وهو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي الرياحي، من بني رياح بن يربوع. وكان شبث سيد بني يربوع بالكوفة:
مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
ـــــــ
1 الدعج: سواد العين. والنعج: البياض الخالص. ورواية الديوان 5: "كحلاء فى برج", والبرج: سعة فى بياض العين.
2 ساقطة من ر.
3 النسعة والنسع: سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره, وأن من الأنين.
4 ر: "الخشاش" بحذف الواو.
5 أصل الإطر: عطف الشئ تقبض على أحد طرفيه فتعوجه. وفى ر: "الموترا", والموتر: المشدود.
6 ر: "نصر من الأزد".
7 ر: "نسبت".
8 الأثباج: جمع ثبج, وهو معظم الظهلر. وفيه محانى الضلوع. وشابة: جبل بعينه. يممن: قصدن, وخفف في البيت للشعر.
9 ر: "أخذ ذلك المعنى من قول المثقب العبدي".
10 الشرف: ما ارتفع من الأرض وأشرف على ما حوله. مفدم: مغطى بالفدام, وهو من وصف الإبريق.وسب الكتان, يريدسبائب الكتان, والسبائب: جمع سبيبة, وهي شقة بيضاء. ملثوم, من اللثام, وهو ما يوضع على الفم, واستعاره للإبريق.

من أخبار أبي الهندي
وكان أبو الهندي قد غلب عليه الشراب، على كرم منصبه، وشرف أسرته حتى كاد يبطله.
وكان عجيب الجواب، فجلس إليه رجل مرة يعرف ببرزين المناقير، وكان أبوه صلب في خرابة، والخرابة عندهم: سوق الإبل خاصة. فأقبل يعرض لأبي الهندي بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي: أحدهم يرى الذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في أست أبيه.
وفي الخرابة يقول الراجز:
والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا
أن تشبه الضارئب الضرائبا1
وقال الآخر:
إيت الطريق واجتنب أرماما ... إن بها أكتل أو رزاما2
خويربين ينقفان الهاما3
[زاد أبو الحسن: * لم يتركا لمسلم طعاما ]
نصب "خُوَيْرِبَيْن" على أعني لا يكون غير ذلك، لأنه إنما أثبت أحدهما بقوله: أو.
ـــــــ
1 الضرائب: جمع ضريبة, وهى السجية والطبيعة.
2 أرمام جبل بعينه, وأكتل ورزام: لصان من لصوص البادية.
3 نقف الهامة: شجها حتى يخرج الدماغ.

ومر نصر بن سيار الليثي بأبي الهندي وهو يميل سكراً، فقال له: أفسدت شرفك! فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
وحج به نصر بن سيار مرة، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله ومحل حرمه1، فدع لي الشراب حتى ينفر الناس، واحتكم علي، ففعل. فلما كان يوم النفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه، وأقبل يشرب ويبكي، ويقول:
رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهربا منه، فهربا منه، وقال أبو الهندي:
قل للسري أبي قيس: أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا2
أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
ثم نرجع إلى التشبيه، وربما عرض الشيء المقصود غيره، فيذكر للفائدة تقع فيه، ثم يعاد إلى أصل الباب.
قال أبو العباس: وقال عروة بن حزام العذري:
كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فآية ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة النظر عنه كأنما تنظر إلى إنسان وراء3، وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه، وإذا نهض نظرت من ورائه إلى شخصه حتى يزول عنها، فقال رجل: أردت أن أعلم كيف حالي عند امرأتي، فالتفت وقد نهضت من بين يديها فإذا هي تكلح4 في قفاي.
ـــــــ
1 ر: "ومحمل "وفوده"".
2 داركم صددا, منصوب على الظرفية, أي القريبة.
3 ر: "من ورائه", وما أثبته عن الأصل.
4 التكليح: التكشير في عبوس.

وقال الفرزدق في هذا المعنى، والنوار تخاصمه عند عبد الله بن الزبير بن العوام:
فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولعة يوهي الحجارة قيلها
إذا جلست عند الإمام كأنما1 ... ترى رفقة من خلفها تستحيلها
قوله: مولعة. يقول: كأنها2 مولعة بالنظر مرة ههنا ومرة ههنا. وقوله: ترى رفقة يقال: رفقة ورفقة. ومعنى تستحيلها: تتبين حالاتها.
قال حميد بن ثور:
إذا خرجت تستحيل الشخوص3 ... من الخوف تسمع ما لا ترى4
ومن عجيب التشبيه قول جرير فيما يكنى ذكره:
ترى الصبيان عاكفة عليها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا5
ويقال: إن الفرزدق حين أنشد النصف الأول ضرب بيده إلى عنفقته توقعا لعجز البيت.
ومن التشبيه الحسن قول جرير في صفة6 الخيل:
يشتفن للنظر البعيد كأنما ... إرنانها ببوائن الأشطان
قوله: يشتفن ويتشوفن في معنى واحد. وقوله: كأنما إرنانها ببوائن الأشطان، أراد شدة صهيلها. يقول: كأنما يصهلن في آبار واسعة تبين أشطانها عن نواحيها.
ونظر ذلك قول النابغة الجعدي:
ويصهل في مثل جوف الطوي ... صهيلاً يبين للمعرب
ـــــــ
1 ر: "كأنها", وما أثبته عن الأصل: س.
2 ساقطة من ر.
3 كذ1ا في الأصل س, وفى ر: "مروعة تستحيل الشخوص" وهي رواية الديوان 47.
4 وفى زبادات طبعة المرصفى: قوله: مروعة" يقول: كل شئ يدنينى من الظفر بها يروعها وبنفها.
5 العنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى من الشعر.
6 قال المرصفى: "هذا خطأ, صوابه قول الفرزدق يهجو جريرا ويمدح بنى تغلب, وهو فى ديوانه 882.

المعرب: العالم بالخيل العراب.
ومن حشن التشبيه قول عنترة:
غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب1
يقول: طعن وغودرت الرماح فيه، فظل يجرها، كأنه حامل حطب.
ومن التشبيه المتجاوز المفرط، قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فجعلت المهتدي يأتم به، وجعلته كنار في رأس علم، والعلم: الجبل، قال جرير:
إذا قطعن علماً بدا علم
وقال الله جل ثناؤه: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 2.
ومن هذا الضرب من التشبيه قول العجاج:
تقضي البازي إذا البازي كسر
والتقضي: الإنقاض، وإنما أراد سرعتها، والعرب تبدل كثيراً الياء من أحد التضعيفين، فيقولون: تظنيت والأصل: تظننت، لأنه تفعلت من الظن، وكذلك: تقضيت؛ من الإنقضاض، أي تقضضت، وكذلك تسريت، ومثل هذا كثير.
ـــــــ
1 الضمير فى "غادرن" يعود إلى الخيل ولم يجر لها ذكر. ونضلة بن الأشتر قتله ورد بن حابس العبسي, قال المرصفى.
2 سورة الرحمن 24.

ومن تشبيه المحدثين

ومن تشبيه المحدثين المستطرف قول بشار
:
كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار

[يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار]1
وفي هذه القصيدة:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولاً! ... أما لليل بعدهم نهار
وقال الحسن بن هانئ في صفة الخمر:
فإذا ما لمستها فهباء ... تمنع اللمس ما يبيح العيونا
درس الدهر ما تحسم منها ... وتبقى لبابها المكنونا
فهي بكر كأنها كل شيء ... يتمنى مخير أن يكونا
في كؤوس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا
طالعات مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا
فهذه قطعة من التشبيه غاية، على سخف كلام المحدثين.
وقال الحنفي: وهو إسحاق بن خلف في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح2
وكأنما در الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري في مدحه يزيد بن مزيد:
يمضى المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرجه بدرا وضرغاما3
ـــــــ
1 مابين العلامتين من زيادات ر: والسرار: آخر ليلة من الشهر. وهى التى يستتر فيها القمر ويختفي.
2 ر: "فكأنما" وما أثبته عن الأصل.
3 ر: "تمضى", وما أثبته عن الأصل.

وقال دعبل بن علي في صفة المصلوب1:
لم أر صفاً مثل صف الزط ... تسعين منهم صلبوا في خط2
من كل عال جذعه بالشط ... كأن في جذعه المشتط3
أخو نعاس جد في التمطي ... قد خامر النوم ولم يغط4
وقال يزيد المهلبي في مثله5:
قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه
كأنما يضحك في أشداقه
أراد بياض الشريط في فيه.
وقال أعرابي في صفة مصلوب، وهو الأخطل:
[قال أبو الحسن: الأخطل الذي يعني رجل محدث من أهل البصرة، ويعرف بالأخيطل، ويلقب ببرقوقا، وذكر أبو الحسن أن أبا العباس كان يدلس به].
كأنه عاشق قد مد سفحته ... يوم الفراق إلى توديعه مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتميه من الكسل6
[وقال مسلم بن الوليد:
وضعت حيث ترتاب الرياح به ... وتحسد الطير فيه أضبع البلد]7
وقال حبيب بن أوس [قال أبو الحسن: يعني به إسحاق بن إبراهيم الطاهري]:
ـــــــ
1 ر: "مصلوب".
2 الزط: جيل أسود من السند أو الهند.
3 كذا في الأصل, ويريد بالمشتط الطويل, وفي ر: "المشتط".
4 الغطيط: صوت نفس النائم.
5 في زيادات ر: "وقال آخر في صفة مصلوب, وهو يزيد المهلبي", وما أثبته من الأصل.
6 اللوثة: الاسترخاء والبطء.
7 ما بين العلامتين من زيادات.

قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التقليص مبتسما1
وقال أيضاً في رجل ينسبه إلى الدعوة2:
وتنقل من معشر في معشر ... فكأن أمك أو أباك الزئبق
يقال: زئبق، وزئبر، مهموزان، ودرهم مزأبق، وثوب مزأبر3.
ومن إفراط التشبيه قول أبي خراش الهذالي يصف سرعة أبيه في العدو:
كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض
يبادر جنح الليل فهو مهابد ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
وقال أوس بن حجر [قال أبو الحسن: أهل الكوفة يرونها لعبيد بن الأبرص]:
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت نضاح
أو من معتقة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب رمان وتفاح4
وقال ابن عبدل يهجو رجلاً بالبخر:
نكهت علي نكهة أخدري ... شتيم شابك الأنياب ورد5
وفي هذا الشعر:
فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند6
يرين حلاوة ويخفن موتاً ... وشيكاً إن هممن له بورد
ـــــــ
1 التقليص: التقبض. وفي ر: "من شدة التعبس".
2 في زيادات ر: "وهو إسحاق بن إبراهيم الطاهري" ودفعها المرصفي, وقال: هو عتبة بن أبي عاصم, وكان قد ضمها مجلس لم يتكلم فيه حتى انصرف أبو تمتم, فأخذ يتشدق بهجائه, فبلغ أبا تمام, فقال كلمة منها هذا البيت.
3 الزئير: ما يعلو الثوب الجديد مثل ما يعلو الخز.
4 الاغتباق: شرب العشى. والأدكن: ما تعلوه الدكنة, وهي لون بين الحمرة والسواد أراد به الزق. والورهاء: الريح التي في هبوبها خرق وعجرفة. والنشوة: الرائحة الطيبة.
5 النكهة: ريح الفم. والأخدري من وصف الحمار الوحشى.
6 القند: عسل قصب السكر.

الذباب: الواحد من الذبان، وأدنى العدد فيه أذبة، والكثير الذبان؛ ولكنه ذكر واحداً ثم خبر عن سائر الجنس، والأسد أنتن السباع فماً، كما أن الصقر أنتن الطير فماً.
قال بعض المحدثين في رجل يهجوه، والمهجو داود بن بكر، وكان ولي الأهواز وفارس، والشعر لأبي الشمقمق:
وله لحية تيس ... وله منقار نسر
وله نكهة ليث ... خالطت نحهة صقر
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة:
من يكن إبطه كآباط ... ذا الخلق فإبطاي في عداد الفقاح1
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السلاح2 أو بالسلاح
فكأني من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله الزبيري، وصباح بن خاقان المنقري - وكانا جليسين - لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين، لا يكادان يتصارمان.
فحدثت أن أحمد بن هشام لقيهما يوماً، فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا? يعني إسحاق بن الموصلي، فقالا: ما قال فينا إلا خيراً، قال: قال:
لام فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحا
وأبينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا
قال: ما قال إلا خيراً، ولكن3 المكروة ما قال فيك، إذ يقول:
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى انجاب كل ظلام4
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
ـــــــ
1 الفقاح: جمع فقحة. وهي حلقة الدبر.
2 السلاح: العذرة.
3 ساقطة من ر.
4 الموهن نحو نصف الليل.

واعمل أن للتشبيه حداً؛ لأن الأشياء1 تشابه من وجوه، وتباين من وجوه؛ فإنما ينظر إلى التشبيه من أين وقع2، فإذا شبه الوجه بالشمس والقمر فإنما يراد به الضياء والرونق، ولا يراد به3 العظم والإحراق. قال الله جل وعز: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 4، والعرب تشبه النساء ببيض النعام، تريد نقاءه ورقة لونه5، قال الراعي:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد6
وقيل للأوسية - وهي امرأة حكيمة في7 العرب - بحضرة عمر بن الخطاب رحمه الله: أي منظر أحسن? فقالت: قصور بيض، في حدائق خضر، فأنشد عمر بن الخطاب لعدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب ... أو كالبيض في الروض زهره مستنير
وقال آخر:
كالبيض في الأدحي يلمع بالضحى8 ... فالحسن حسن والنعيم نعيم
وقال جرير:
ما استوصف الناس من شيء يروقهم9 ... إلا رأوا أم نوح فوق ما وصفوا
كأنها مزنة غراء رائحة ... أو درة ما يواري ضوءها الصدف10
المزنة: السحابة البيضاء خاصة، وجمعها مزن، قال الله جل وعز: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} 11, فالمرأة تشبه بالسحابة لتهاديها وسهولة مرها، قال الأعشى:
ـــــــ
1 ر: "فالأشياء", وما أثبته عن الأصل.
2 ر: "من حيث وقع".
3 ساقطه من ر.
4 سورة الصافات 49.
5 ر: "ونعمة لونه".
6 الملاحف: الأغطية, والومد: ندى يجئ في صميم الحر, من قبل البحر مع سكون الريح.
7 كذا في الأصل, وفي ر, س: "من العرب".
8 الأدحى: مبيض النعام تدحوه برجلها, ثم تبيض فيه.
9 ر: "عن شئ بروقهم", وما أثبته عن الاصل, س.
10 ر: "لا يوارى لونها".
11 سورة الواقعة 69.

كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
الريث: الإبطاء، فهذا ما تلحقه العين منها، فأما الخفة فهي كأسرع مار، وإن خفي ذلك على البصر، قال الله جل وعز: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 1.
والعرب تشبه المرأة بالشمس، والقمر، والغصن، والكثيب2، والغزال، والبقرة الوحشية، والسحابة البيضاء، والدرة، والبيضة؛ وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء.
قال ذو الرمة:
ومية أحسن الثقلين جيداً3 ... وسالفة وأحسنهم قذالا4
فلم أر مثلها نظراً وعيناً ... ولا أم الغزال ولا الغزالا
تريك بياض غرتها ووجهاً ... كقرن الشمس أفتق ثم زالا5
أصاب خصاصة فبدا كليلاً ... كلا وانغل سائره انغلالا6
الجيد: العنق، والسالفة: ناحية العنق، والقذالان: ناحيتا القفا من الرأس.
وقوله: أفتق ثم زالا، يقال: أفتق السحاب، إذا انكشف انكشافة فكانت منه7 فرجة يسيرة بين السحابتين. تقول العرب: دام علينا الغيم ثم أفتقنا، وإذا نظر إلى الشمس والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشده استنارة.
وقوله: كلا يريد في سرعة ما بدا ثم غاب.
ـــــــ
1 سورة النمل 88.
2 كلمة "الكثيب", ساقطة من ر, وهي في الأصل, س.
3 الديوان: "خدا".
4 الديوان: "أحسنه".
5 الديوان: "تريك بياض لبتها".
6 أصاب قرن الشمس خصاصة, أي تقف السحاب فبدا منها كليلا, أي ضعيفا, ليس مبين الضوء, وانغل: دخل, والانغلال: الدخول, يقول: دخل في الحساب. "من شرح الديوان".
7 ر. "صفه" وما أثبته عن الأصل, س.

وقال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} 1، وقال تبارك وتعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 2.
والمكنون: المصون، يقال: كننت الشي، إذا صنته. وأكننته، إذا أخفيته، فهذا المعروف، قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 3 [البقرة: 235] وقد يقال: كننته، أخفيته.
وقد قال جرير في يزيد بن عبد الملك، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن سفيان:
الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاحتلفوا4
ضخم الدسيعة والإيمان، غرته ... كالبدر ليلة كاد الشهر ينتصف5
وقال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم6
وقال ابن أبي ربيعة:
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
يرفلن في الريط والمروط كما ... تمشي الهوينى سواكن البقر7
فهذه تشبيهات غريبات مفهومة.
وقال أبو عبد الرحمن العطوي8:
قد رأينا الغزال والغصن النجمين ... شمس الضحى وبدر الظلام
فوحق البيان يعضده البر ... هان ماقط ألد الخصام
ـــــــ
1 سورة الرحمن 58.
2 سورة الواقعة 23.
3 سورة البقرة 235.
4 احتلفوا, بالحاء المهملة, من الحلف, أي تحالفوا, وفي س: "اختلفوا" تصحيف.
5 الدسعبة: العطية. سميت دسيعة لدفع المعطى إياها مرة واحدة كما يدفع البعير جربه دفعة واحدة.
6 الوعساء: الأرض اللينة, وجلاجل: جبل بعينه.
7 الريط: جمع ريطة, وهي الملاءة غير ذات لعفين كلها نسيج واحد. والمروط: جمع مرط, وهو كساء من صوف أو كتان.
8 س: وقال أحد الشعراء المكلمين المحدثين.

ما رأينا سوى الحبيبة شيئاً1 ... جمع الحسن كله في نظام
فهي تجري مجرى الأصالة في الرأ ... ي ومجرى الأرواح في الأجسام
البرهان: الحجة، قال الله عز وجل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 أي حججكم. والماقط: موضع الحرب، فضربه مثلاً لموضع المناظرة والمحاجة. والألد: الشديد الخصومة، قال الله تبارك وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 3، وقال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 4.
وقالت ليلى الأخيلية5:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور
ولم يقدع الخصم الألد ويملأ ال ... جفان سديفاً يوم نكباء صرصر6
السديف: شقق السنام.
ـــــــ
1 ر: "سوى المليحة".
2 سورة البقرة 111.
3 سورة مريم 97.
4 سورة البقرة 204.
5 من كلمة ترثى بها توبة بن الحمير.
6 لم يقدع: لم يكف.

الرياح ومواقعها
والنكباء: الريح بين الريحين، لأن الرياح أربع، وما بين كل ريحين نكباء، فهي ثمان في المعنى.
فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب، وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن، قال جرير:
وحبذا نفحات من يمانية ... تأتيك من جبل الريان أحيانا1
وإذا هبت من تلقاء الفجر فهي الصبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول، قال الشاعر2:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
ـــــــ
1 الريان: جبل من بلاد طيئ, وفى ر: "من قبل الريان".
2 هو أبو صخر الهذلي.

وإذا أتت من قبل الشأم فهي شمال، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشأم تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
وهي تقابل الجنوب، وكذلك قال امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور، وهي تهب بشدة، والعرب تسميها محوة، عن أبي زيد، لأنها تمحو السحاب. ومحوة معرفة لا تنصرف، فأما الأصمعي فزعم أن محوة من أسماء الشمال. وأنشدا جميعاً:
قد بكرت محوة بالعجاج ... فدمرت بقية الرجاج
الرجاج: حاشية الإبل وضعافها. وقال الأعشى:
لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا
ولهذه الرياح أسماء كثيرة، وأحكام في العربية، لأن بعضهم يجعلها نعوتاً، وبعضهم يجعلها أسماء، وكذلك مصادرها تحتاج إلى الشرح والتفسير، ونحن ذاكرون ذلك في عقب هذا الباب، إن شاء الله.
يقال: جنبت الريح جنوباً، وشملت شمولاً، ودبرت دبوراً، وصبت صبواً، وسمت سموماً، وحرت حروراً، مضمومات الأوائل.
فإذا أردت الأسماء فتحت أوائلها، فقلت: جنوب، وشمول، وسموم، ودبور، وحرور.
ولم يأت من المصادر شيء مفتوح الأول، إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً، وتطهرت طهوراً، وأولعت بالشيء ولوعاً، وإن عليه لقبولا، ووقدت النار وقوداً، وأكثرهم يجعل الوقود الحطب، والوقود المصدر.
ويقال: الشمال، على لغات ست، يقال: شمال، وشمأل، وشمال، وشمل وشمل، وشامل، غير مهموز.

ويقال للشمال: الجربياء، قال ابن أحمر:
بجو من قساً ذفر الخزامى ... تداعى الجربياء به بالحنينا1
ويقال للجنوب: الأزيب.
ويقال للصبا: القبول، وبعضهم يجعله للجنوب، وهو في الصبا أشهر، بل هو القول الصحيح. والإير، والهير، والأير، والهير، قال الشاعر:
مطاعيم أيسار إلى الهير هبت
فهذا يدل على أنه الصبا، وذاك أنهم إنما يتمدحون بالإطعام في المشتاة2. وشدة الزمان، كما قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتفر
الجفلى: العامة، والنقرى: الخاصة، والآدب: صاحبة المأدبة. يقال: مأدبة ومأدبة للدعوة. وفي الحديث: "إن القرآن مأدبة الله".
قال أهل العلم: معناه مدعاة الله، وليس من الأدب. وأكثر المفسرين قالوا القول الأول، وكلاهما في العربية جائز ويدل على القول الأول قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا الجفنة الغراء"، أي التي يجتمع الناس عليها ويدعون إليه، ويقال في الدعوة: أدبه يأدبه أدباً، إذا دعاه، قال الشاعر:
وما أصبح الضحاك إلا كخالع ... عصانا فأرسلنا المنية تأدبه
وقولنا في الرياح: إنها تكو أسماء ونعوتاً نفسره إن شاء الله.
يقول أكثر العرب: هذه ريح جنوب، وريح شمال، وريح دبور، فتجعل جنوباً، وشمالاً، ودبوراً، وسائر الرياح نعوتاً. قال الأعشى:
لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا
ـــــــ
1 قسا: موضع بالعالية, وذفر, من ذفر الطيب, وهو اشتداد رائحته, والخزامي: نوع من العشب, طويل العيدان, صغير الورق.
2 ر: "المشتى".

وقال زهير:
مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح شمال لضاحي مائه حبك1
وقال جرير:
ريح خريق شمال أو يمانية
فهذا يكون على النعت أجود، لأنه أوضحه بيمانية، ولا تكون اليمانية إلا نعتاً، لأنها منسوبة؛ فأما الخريق فهي الشديدة من كل ريح، قال حميد بن ثور:
بمثوى حرام والمطي كأنه ... قناً مسند هبت لهن خريق
والبليل: الباردة من كل ريح2. وأصل ذلك الشمال.
ـــــــ
1 مكلل: محاط, وضاحى مائه: ظاهره, وحبك: جمع حبيكة, وهي الطريقة, يصف ما أحاط به النبت, وقد ضربته الريح فأظهرت فيه تكسرا.
2 ر: "الرياح".

لجرير في بني مجاشع
قل جرير يعير بني مجاشع لخذلانهم الزبير بن العوام، في كلمة يقول فيها:
إني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو بأعلى الأيكتين هديلا
يا لهف نفسي إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا
قالت قريش ما أذل مجاشعاً ... جاراً وأكرم ذا القتيل قتيلا!
أفبعد مترككم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا!
أفتى الندى وفتى الطعان غررتم ... وأخا الشمال إذا تهت بليلا
ويرى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري - وكان يبخل - كان3 إذا هبت الصبا طلع من أطمه4 فنظر إلى احية هبوبها. ثم يقول لها هبي هبوبك. فقد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعاً من عجوة. أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثاً، أي لصلابتها، بعد جهد ما يلوك منها اثنتين.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الأطم: الحصن ببنى الحجارة.

من أخبار لبيد بن ربيعة
وكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب شريفاً في الجاهلية والإسلام. قد نذر ألا تهب الصبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي. فهبت في الإسلام1، وهو بالكوفة مقتر مملق، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان واليها لعثمان بن عفان، وكان أخاه لأمه. وأمهما أروى بنت2 كريز بن حبيب بن ربيعة بن شمس3. وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب - فخطب الناس وقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، وما وكد على نفسه. فأعينوا أخاكم. ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة4 وبعث الناس، فقضى نذره. ففي ذلك تقول ابنة لبيد:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا5
ـــــــ
1 ر: "بالإسلام".
2 ر: "ابنة".
3 حاشية الأصل: "غلط أبو العباس بتقديم حبيب وتأخير ربيعة".
4 زيادات ر: "وأبيات يقول فيها:
أرى الجزار تشحذ مديتاه ... إذا هبت رياح أبي عقيل
طويل الباع ابيض جعفري ... كريم المجد كالسيف الصقيل
وفي أبن الجعفري بما لديه ... على العلآت والمال القليل
فلما أتته قال: جزى الله الأمير خيرا. قد عرف الأمير أني لا أقول شعرا, ولكن اخرجي يابنية. فخرجت خمايبة, فقال لها: أجيبي الأمير, فأقبلت وأدبرت.
5 بعده في زيادات ر:
طويل الباع أبيض عبشميا ... اعان على مووءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا
فقال لها لبيد: أحسنت يابنية. لولا أنك سألت. فقالت: إن الملوك لا يستحى من منسألتهم. فقال لها: يابنية, وأنت في هذا أشعر"

ومن جعل الشمال، والجنوب أسماء لم يصرفها إذا سمي بشيء منها رجل، لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً لا علامة للتأنيث فيه لم تصرفه في المعرفة، وصرفته في النكرة، نحو عناق، وأتان، وعقرب، وإن كان نعتاً انصرف. لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً بنعت مؤنث لا علامة فيه صرفته. لأنه مذكر نعت به المؤنث. نحو حائض، وطالق، ومتئم، ومرضع.
وإذا ذكرنا من الباب شيئاً فما لم نذكره منه فعلى مجراه ومنهاجه. قال الشاعر. فجعل ما وصفنا أسماء:
حالت وحيل بها وغير آيها ... طول البلى تجري به الريحان 1
ريح الشمال مع الجنوب وتارة ... رهم الربيع وصائب التهتان2
وقد أنشدوا بيت زهير:
ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
وقولنا: لا علامة فيه للتأنيث، لتعرف كيف حكم علامات التأنيث، لأن ذلك إنما يكون على ضربين: فما كانت فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة فغير منصرف في معرفة ولا نكرة لمذكر كان أو مؤنث. فالمقصور نحو حبلى، وسكرى، وما أشبه ذلك. والممدود نحو حمراء، وصفراء، وصحراء، وما أشبه ذلك.
فإن كانت مدودة لغير التأنيث انصرف إذا كان لمذكر في المعرفة والنكرة، زائداً كان أو أصلياً. فالأصلي نحو سقاء، وغذاء، وحذاء، ورداء - والزائدة، نحو علباء، وحرباء، وقوباء يا فتى. ومن قال: قوباء يا فتى - أنث ولم يصرف، لأن الأولى ملحقة، وهذه للتأنيث، فأما الألف المقصورة التي لغير التأنيث، فإن كانت أصلية انصرفت في المذكر. نحو ملهى، ومغزى، ومشترى.
وإن كانت زائدة لغير التأنيث انصرفت في النكرة، ولم تنصرف في المعرفة، نحو أرطى، وعلقى، فيمن جعل الواحدة علقاة.
ـــــــ
1 حالت: أتى عليها حول. حيل بها: أي أحيلت عما كانت عليه. والآى: جمع أية.
2 الرهم: جمع رهمة. وهو المطر الضعيف.

وأما ما كانت فيه هاء التأنيث فهو منصرف في النكرة، وغير منصرف في المعرفة، لمذكر كان أو مؤنث، عربياً كان أو أعجمياً.
فهذه جملة هذا الباب، فأما قياسه وشرحه فقد أتينا عليه في الكتاب المقتضب.
ويقال1 في أكثر الكلام: هبت جنوباً، وهبت شمالاً، فيستغنى2 عن ذكر الريح، وهذا مما يؤكد أنها نعوت، لأن الحال إنما بابها أن تقع فيما يكون وصفاً3 قال جرير:
هبت شمالاً فذكر ما ذكرتكم ... عند الصفاة إلى شرقي حورانا
وقال الآخر:
فأي حي إذا هبت شآمية ... واستدفأ الكلب بالمأسور ذي الذئب
المأسور، يعني قتباً4. وإنما الأسر الشد بالقد5 حتى يحكم، وإنما قيل الأسير من ذا، لأنه كان يشد بالقد، ثم قالت العرب لكل محكم شديد أسير6 قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 7.
وقوله: ذي الذئب. يعني الفضول التي وسعته وأسبغته. يقال: غبيط مذأب أي ذو ذئب، أي موسع، والغبيط: مركب من مراكب النساء.
ـــــــ
1 ر: "تقول".
2 ر: "فتستغنى".
3 ر: "تعتا".
4 القتب: رحل على قدر السنام.
5 القد: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
6 ر: "شديد الأسر".
7 سورة الإنسان 28.

لأوس بن حجر
قال أوس بن حجر: في شدة البرد وغلبة الشمال، يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
والحافظ الناس في قحوط إذا ... لم يرسلوا تحت عائذ ربعا
وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعا1
ـــــــ
1 الكميع: الضجيج.

وكانت الكاعب الممنعة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا
تحوط، وقحوط، وكحل، وحجرة، أسماء للسنة المجدبة. والعائذ: الحديثة النتاج، فتنحر أولادها في السنة المجدبة إبقاء على ألبانها وشحومها. والربع الذي ينتج في الربيع، والهبع: الذي ينتج في الصيف. يقال: ما له هبع ولا ربع. وإنما سمي: هبعاً، لأن الربع أسن منه فيمشي مع أمهاته1، ولا يلحقهن الهبع إلا باجتهاد فيستعين بعنقه في المشي، يقال إذا فعل ذلك: هبع يهبع.
ويقال للريح الشمال: نسع، ومسع، قال الهذلي:
قد حال دون دريسيه مؤوبة ... نسع لها بعضاه الأرض تهزير2
الدريسان: ثوبان خلقان. ومؤوبة، مفعلة، من التأويب، وهو سير النهار لا تعريج فيه. قال أبو عبيدة: هو سير النهار، والإسناد: سير الليل لا تغريس فيه، وأنشد لسلامة بن جندل:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وإنما يعني ريحاً. وقوله: نسع: أي شمال. والعضاه: شجر ضخام3 فبعض العرب يقول للواحدة: عضاهة، وللجميع: عضاة. على وزن دجاجة ودجاج، وبعضهم يقول للواحدة: عضة، فيقول في الجمع عضوات. وعضهات. فتكون من الواو ومن الهاء قال الشاعر:
هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللهازما4
ونظير عضة، سنة؛ على أن الساقط الهاء في قول بعض العرب، والواو في قول بعضهم، تقول في جمعها سنوات. وسانيت الرجل. وبعضهم يقول: سهات. وأكريته مسانهة.
ـــــــ
1 كذا في الأصل. س.وفي ر: "أمهاتها".
2 للمنتخل. دبوان الهذليين: 16.
3 ر: "شجرة ضخمة".
4 المآزم: جمع مأزم, وهو الطريق بين جبلين, واللهازم: جمع لهزمة وهي ماتحت الأذن من أعلى اللحيين.

وهذا الحرف في القرآن يقرأ على ضروب. فمن قرأ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ} 1 فوصل بالهاء - هو مأخوذ من: سانهت، التي هي سنيهة. ومن جعله من الواو قال في الوصل: لم يتسن وانظر2. فإذا وقف قال: {لَمْ يَتَسَنَّه} فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة. بمنزلة الهاء في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 3. و{كِتَابِيَهْ} 4. و{حِسَابِيَهْ} 5. والمعنى واحد. وتأويله: لم تغيره السنون. ومن لم يقصد إلى السنة، قال: لم يتأسن. والآسن: المتغير، قال الله جل وعز: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} 6، ويقال: أسن في هذا المعنى، كما يقال: رجل حاذر وحذر.
ويقال للريح الجنوب: النعامى. قال أبو ذؤيب:
مرته النعامى فلم يعترف ... خلاف النعامى من الشأم ريحا
ومعنى مرته استرته. وفي الحديث: "ما هبت الريح الجنوب إلا أسال الله بها وادياً".
وقال رجل يمدح رجلاً:
فتى خلقت أخلاقه مطمئنة ... له نفحات ريحهن جنوب
يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والندى.
والعرب تكره الدبور، وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
وقلما يكون بالدبور المطر، لأنها تجفل السحاب، ويكون فيها الرهج والغبرة.
ولا تهب إلا أقل ذاك بشدة، فتكاد تقلع البيوت وتأتي على الزروع.
ـــــــ
1 ر: "في قول بعضهم".
2 سورة البقرة 259.
3 سورة الأنعام 90.
4 سورة الحاقة 19.
5 سورة الحاقة 20.
6 سورة محمد 15.

لرجل في الهداء
وقال رجل يهجو رجلاً:

لو كنت ريحاً كانت الدبورا ... أو كنت غيماً لم تكن مطيرا
أو كنت ماء لم تكن طهوراً ... أو كنت مخاً كنت ريرا
أو كنت برداً كنت زمهريرا
الرير: المخ الرقيق، يقال: مخ رير ورار، في معنى واحد، وقال السليك:
يصيدك قافلاً والمخ رار
وقال آخر:
لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت سيفاً كنت غير عضب
أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب1
ـــــــ
1 الندب: الخفيف السريع.

للسليك يرثي فرسه
فأما قول السليك فإنه يرثي فرسه، وكان يقال له النحام، فقال:
كأن قوائم النحام لما ... تحمل صحبتي أصلاً محار
على قرماء عالية شواه ... كأن بياض غرته خمار
وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما القوم ولوا أو أغاروا
ويحضر فوق جهد الحضر نصاً ... يصيدك قافلاً والمخ رار
قوله:
كأن قوائم النحام محار
المحارة: الصدفة، يريد الملاسة، وأنه قد ارتفعت قوائمه للموت. والأصل: جمع أصيل، والأصيل، والأصيل العشي، يقال: أصيل وأصل، مثل قضيب وقضب، وجمع أصل آصال، وهو جمع الجمع، وتقديره: عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ويقال في جمع أصيلة أصائل، مثل خليفة وخلائف، قال الأعشى:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل1
ـــــــ
1 وصدره.
يوما بأطيب منها نشر رائحتة

وقال أبو ذؤيب:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقرماء، ممدودة: اسم موضع. وشواه: قوائمه. وقد فسرناه قبل هذا. وقوله: ولوا أو أغاروا إذا طلبوا أو هربوا. وقوله: يصيدك أي يصيد لك، يقال: صدتك ظبياً، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. أي كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك ووزنتك، لأنه قد قال تعالى أولاً: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 2.
فأما ما جاء في الحديث من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الهبوب: "اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً"، فإن العرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح. وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} 3. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا هبت بحرية ثم تذاءبت" قال الشاعر:
تسح إذا تذاءبت الرياح
يقول: إذا تقابلت، يقال: تذاءبت الرياح، وتناوحت، أي تقابلت، وتناوح الشجر، إذا قابل بعضه بعضاً، وإنما سميت النائحة نائحة، لأنها تقابل صاحبتها.
فإذا خلصت الريح عندهم دبوراً فهي من جنس البوار، وإذا خلصت شمالاً شتوية فهي من آيات الجدب، ومن ثم تقول العرب: فلا يطعم في الشمال، كما تقول: يطعم في المحل. قال أوس بن حجر: وعزت الشمأل الرياح أي غلبتها، فكانت أقوى منها، فلم تدع لها موضعاً وقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 4 أي غلبني في المخاطبة والخصومة، ومن أمثال العرب: من عز بر وتأويله: من غلب استلب5، قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذا الناس إذ ذاك م عز بز
ـــــــ
1 سورة المطففين 3.
2 سورة المطففين 2
3 سورة الروم 48.
4 سورة ص 23.
5 ر: "سلب".

بين غنوي وفزاري
قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: رأيت رجلاً من غنى يفاخر رجلاً نم بني فزارة، ثم أحد بني بدر بن عمرو، وكان الغنوي متمكناً

من لسانه؛ وكان الفزاري بكيئاً1 فقال2 الغنوي: ماؤنا من بين الرقم إلى كذا، وهم جيراننا فيه، فنحن أقصر منهم رشاء، وأعذب منهم ماء، لنا ريف السهور ومعاقل الجبال. وأرضهم سبخة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب3 من عز بز، فبعزنا ما تخيرنا عليهم، وبذلهم ما رضوا منا4 بالضيم.
وقوله: كان الفزاري بكيئاً يقول: غير قادر على الكلام، وأصل ذلك في الحلب، يقال ناقة غزيرة وناقة بكيء، وهي ضد الغزيرة، أي قليلة اللبن، ودهين وصمرد، في معنى، يقال: بكأت الشاة والناقة، وبكؤت، قال الشاعر:
فإذا ما حاردت أو بكؤت ... فض عن خاتم أخرى طينها5
وقال سلامة بن جندل:
يقول محبسها أدنى لمرتعها ... ولو تداعى ببكء كل محلوب6
يقول: إن نحبس الإبل على ضر ونقاتل عنها فهو أدنى بأن تعز فترتع فيما تستقبل، وإن ذهبت ألبانها، لأنا إن أطردناها7 وهربنا طمع فينا واستذللنا، ويقال في الكلام: رجل عيي بكي.
قال أبو العباس: وهذا لغنوي: إذا قابل8 بقبيلته آل بدر فقد أعظم الفرية، وبلغ في البهت، وأشمت العدو بجمهور قيس، وصار بهم إلى قول9 الأخطل:
وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
ـــــــ
1 ر: "بكيا". وما أثبته عن الأصل.
2 ر: "قال" وما أثبته عن الأصل.
3 ر: "والعرب عن عز بز", س: "والعرب إذا ذاك من عز بز", وما أثبته عن الأصل.
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "عنا".
5 هو عدى بن زيد, وقيله:
ولنا باطية مملوءة ... جونة يتبعها برزينها
البرزين: إناء يتخذ من قشر الطلع, والحد داء في القوائم, إذا مشى البعير نفض قوائمه, فضرب بهن الأرض كثيرا, وانظر اللسان 4: 123. 18:196.
6 ر: "وإن تداعى".
7 أطردناها: أمرنا بطردها. وفي ر: "طردناها".
8 ر: "حاول".
9 ر: "إلى ما قال".

وكان زياد يقول - وهو الغاية في السياسة - أوصيكم بثلاثة: العالم1 والشريف، والشيخ، فوالله لا أوتى بوضيع سب شريفاً، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن2 عالماً إلا عاقبت وبالغت.
ـــــــ
1 ر: "بالعالم".
2 ر: "امتحن".

لعمارة بن عقيل يهجو بني أسد
وقال عمارة لبني أسد بن خزيمة:
يا أيها السائلي عمداً لأخبره ... بذات نفسي وأيدي الله فوق يدي
إن تستقم أسد ترشد وإن شغبت ... فلا يلم لائم إلا بني أسد
إني رأيتكم يعصى كبيركم ... وتكنعون إلى ذي الفجرة النكد1
فباعد الله كل البعد داركم ... ولا شفاكم من الأضغان والحسد
فرأى عصيانهم الكبير من إقبح العيب، وأدله على ضغن بعضهم لبعض، وحسد2 بعضهم بعضاً، والوضيع ينقلب إلى الشريف، لأنه يرى مقاولته فخراً، والاجتراء عليه ربحاً، كما أن مقاولة الشريف للئيم ذل وضعة. قال الشاعر:
إذا أنت قاولت اللئيم فإنما ... يكون عليك الفضل حين تقاوله3
ولست كمي يرضى بما غيره الرضا ... ويمسح رأس الذئب والذئب آكله
وسنشبع هذا المعنى إن شاء الله.
وفي هذا الشعر بيت يقدم في باب الفتك، وهو:
فلا تقربن أمر الصريمة بامرئ ... إذا رام أمراً عوقته عواذله
[وقل للفؤاد إن ترى بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله]4
الصريمة: العزيمة.
ـــــــ
1 تكنعون: تخضعون, والفجرة: الفجور, والنكد: اللثيم.
2 ر: "وحسد" بسكون السين, والصحح ما أثبته عن الأصل.
4 ر: "يكون عليك العتب".
4 ما بين العلامتين من زيادات ر. وأفرخ: أي أخرج روعك وفزعك.

وقد امتنع قوم من الجواب تنبلاً، ومواضعهم تنبئ عن ذلك، وامتنع قوم عياً بلا اعتلال، وامتنع قوم عجزاً1، واعتلوا بكرهة السفه، وبعضهم معتل برفعة نفسه2 عن خصمه، وبعضهم كان يسبه الرجل الركيك من العشيرة فيعرض عنه3 ويسب سيد قومه، وكانت الجاهلية ربما فعلته بقى الذحول4، قال الراجز:
إن بجيلاً كلما هجاني ... ملت على الأغطش أو أبان
أو طلحة الخير فتى الفتيان ... أولاك قوم شأنهم كشاني
ما بلت من أعراضهم كفاني ... وإن سكت عرفوا إحساني
وقال أحد المحدثين:
إني إذا هو كلب الحي قلت له ... إسلم، وربك مخنوق على الجرر
قوله: إسلم فاستأنف بألف الوصل، لأن النصف الأول موقوف عليه.
قال الشاعر:
ولا يبادر في الشتاء وليدنا5 ... القدر ينزلها بغير جعال
الجعال: الذي تنزل6 به البرمة، وربما توقيت به حرارتها.
قال الراجز:
لا نسب اليوم ولا خلة ... إتسع الخرق على الراقع
وهذا كثير غير معيب.
وفي مثل اختيار النبيل لتكافؤ الأغراض7 قول الأخطل:
ـــــــ
1 ر: "عجزوا". وما أثبته عن الأصل. س.
2 ر. س: "برفعة نفسه",وهذه رواية الأصل.
3 كلمة "عنه" ساقطة من ر.
4 الذحول: "جمع ذحل" وهو الثأر.
5 ر: "وليدها".
6 ر: "الذى بوضع فيه البرمة". وما أثبته عن الأصل. س.
7 ر: "لتتكافأ". وما أثبته عن الأصل. س.

شفى النفس قتلى من سليم وعامر ... ولم يشفها قتلى غني ولا جسر
ولا جشم شر القبائل إنها ... كبيض القطا ليسوا بسود ولا حمر
ولو ببني ذبيان بلت رماحنا ... لقرت بهم عيني وباء بهم وتري
وقال رجل من المحدثين، وهو حمدان بن بان اللاحقي:
أليس من الكبائر أن وغداً ... لآل معذل يهجو سدوسا
هجا عرضاً لهم غضاً جديداً ... وأهدف عرض والده اللبيسا
وقال آخر:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
اللؤم داء لوبر يقتلون به ... لا يقتلون بداء غيره أبدا1
وقال رجل من المحدثين2:
أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق3 عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وقال آخر:
نبئت كلباً هاب رميي له ... ينبحني من موضع نائي
لو كنت من شيء هجوناك أو ... لو بنت للسامع والرائي
فعد عن شتمي فإني امرؤ ... حلمني قلة أكفائي
ـــــــ
1 ر: "اللؤم".
2 ر: "وقال أحد المحدثين", وفي الزيادات: "هو دعبل".
3 ز: "عقيق عرضك".

وقال آخر1:
فلو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عداوته ولكن ... تعالي فانظري بمن ابتلاني
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو دعيل".

من أخبار ذوي الحلم
ووقف رجل عليه مقطعات على الأحنف بن قيس يسبه - وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف - فجعل لا يألوا أن يسبه سباً يغضب، والأحنف مطرق لا يكلمه1، فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه2، ويقول: يا سوأتاه! والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه!.
وفعل ذلك آخر، فأمسك عنه الأحنف، فأكثر الرجل، إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء؛ فأقبل على الرجل، فقال له: يا هذا! إن غداءنا قد حضر، فانهض بنا إليه إن شئت، فإنك مذ اليوم تحدر بجمل ثفال.
والثفال من الإبل: البطيء الثقي الذي لا يكاد ينبعث.
وعدت على الأحنف سقطة في هذا الباب، وهو أن عمرو بن الأهم دس عليه رجلاً ليسفهه. فقال له: يا أبا بحر3، ما كان أبوك في قومه? قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم، ولم يتخلف عنهم، فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك? فقال: كانت له صرمة4 يمنح منها ويقري، ولم يك أهتم سلاحاً5.
ـــــــ
1 لفظ "لا يكلمه" ساقط من ر.
2 ر: "إيهامه".
3 ر: "أبا بحر".
4 الصرمه: القطعة من الإبل لم تبلغ السنين.
5 السلاح: كثير السلح. يعرض بأبي عمرو.

وجعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه - ولم تكن في موضع مرضي إنما كانت من عنزة، ثم من بني جلان1 - فأتاه الرجل، وهو بمصر أميراً عليهم، فقال: أردت أن أعرف أم الأمير. فقال: نعم، كان امرأة2، من عنزة، ثم من بني جلان، تسمى ليلى، وتلقت النابغة، إذهب فخذ ما جعل لك.
وقال له مرة المنذر بن الجارود: أي رجل أنت لولا أمك! قال: فإني أحمد الله إليك، إني فكرت فيها3 البارحة، فأقبلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطرت لي عبد القيس ببال4.
ودخل عمرو مكة فرأى قوماً من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري! قالوا: أجل، كنا نمثل5 بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل? فقال عمرو: إن لهشام علي أربعة: أمه ابنة هشام بن الغميرة، وأمي من قد عرفتم، وكان أحب إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت.
قال أبو العباس: وقد أكثر الناس في الباب الذي ذكرناه، وإنما نذكر من الشيء وجوهه ونوادره.
قال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع له فيه، فأعرض الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيري علي بن الحسين، فأعرض عنه، فقال له الرجل الزبيري: ما يمنعك من جوابي? فقال علي: ما منعك من جواب الرجل!.
ـــــــ
1 تكملة من الأصل. س.
2 ر: "وخذ".
3 ر: "في هذا".
4 ر: "على بال".
5 ر: "نميل".

وقد روي قول القائل: لو قلت واحدة لسمعت عشراً، فقال له: ولكنك لو عقلت عشراً ما سمعت واحدة.
وقال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني
وقال رجل لرجل - وسبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض.
فأما قول الشعبي للرجل ما قال فمن غير هذا الباب، وإنما مخرجه الديانة، وذاك أن رجلاً سب الشعبي بأمور قبيحة نسبه إليها، فقال له1 الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي.
وقال أبو العباس: قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله: لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، فقال: معك والله يدخل لا معي.
[ويحدث ابن عائشة عن أبيه: أن رجلاً من أهل الشأم دخل المدينة، فقال: رأيت رجلاً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا أحسن لباساً ولا أفره مركباً منه، فسألت عنه، فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال: أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك، أسبهما. فقال: أحسبك غريباً! قلت: أجل. فقال: إن لنا منزلاً واسعاً ومعونة على الحاجة ومالا نواسي منه. فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب إلي منه]2.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.

قال أبو العباس: ويتصل بهذا الباب ذكر من رغب برجل عن إرث رجل لا يشاكله، وولاية رجل لا يشابهه. قال الشاعر1:
بكت دار بشر شجوها أن تبدلت ... هلال بن قعقاع ببشر بن غالب
وما هي إلا كالعروس تنقلت ... على رغمها من هاشم في محارب2
ـــــــ
1 هو إسماعيل بن عمار بن عيينة الأسدى, نسبه أبو تمام إليه في الحماسة ص 1513- بشرح المرزوقي.
2 قال المرزوقي: شجوها. انتصب على أنه مفعول به. والشاعر يفضل بشرا على هلال, يقول: إن الدار التي كان يستوطنها بشر لما رحل عنها وصار فيها بدلا منه هلال – بكت وتحسر. وحق لها ذلك, فما هي فى استبدالها إلا كعروس زوجت من بنى هاشم ثم انتقلت إلى محارب. ومحارب: قبيلة فيها ضعة وخمول.

للفرزدق حين ولي ابن هبيرة العراق
وقال الفرزدق حين ولي العراق عمر بن هبيرة الغزاري بعقب مسلمة بن عبد الملك1:
راحت بمسلمة البغال عشية2 ... فارعي فزارة لا هناك المرتع!
ولقد علمت إذا فزارة أمرت3 ... أن سوف يطمع في الإمارة أشجع4
فأرى الأمور تنكرت أعلامها5 ... حتى أمية عن عزارة تنزع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هبيرة. قال رجل6 من بني أسد يجيب الفرزدق:
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى ... عنها أمية بالمشارق تنزع
ـــــــ
1 ديوانه 508: "حين عزل عبد الملك بن بشر بن مروان عن البصرة وسعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم ابن ابي العاص عن الكوفة. وسار مسلمة من العراق إلى الشام, وولى العراق عمر بن هبيرة الفزاري". مع اختلاف في ترتيب الأبيات.
2 الديوان:
ومضت لمسلمة الركاب مودعا
3 الديوان: "لئن فزارة أمرت".
4 ر: "يطمع".
5 الديوان:
إن القيامة قد دنت أشراطها
6 نسبها الموفى إلى إسماعيل بن عمار الأسدى.

فلقد رأى عجباً وأحدث بعده ... أمر تضج له القلوب وتفرع
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فاليوم من قسر تذوب وتجزع
وملوك خندف أسلمونا للعدى1 ... لله در ملوكنا ما تصنع!
كانوا كتاركة بنيها جانباً ... سفها وغيرهم تصون وترضع
ـــــــ
1 ر: "ذللتنا للعدى".

للفرزدق أيضاً في هجاء عمرو بن هبيرة
قال أبو العباس: وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق. وفي ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك:
أمير المؤمنين وأنت بر ... أمين لست بالطبع الحريص
أأطعمت العرقا ورافديه ... فزارياً أحذ يد القميص1
تفهق بالعراق أبو المثنى ... وعلم قومه أكل الخبيص
ولم يكن قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
قوله: لست بالطبع الحريص. فالطبع: الشديد الطمع الذي لا يفهم لشدة طمعه. وإنما أخذ هذا من طبع السيف، يقال: طبع السيف. يا فتى! وهو سيف طبع، إذا ركبه الصدأ حتى يغطي عليه. والمثل من هذا في الذي طبع على قلبه وإنما هو تغطية وحجاب. يقال: طبع الله على قلب فلان. كما قال جل وعز: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. هذا الوقف. ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 2 وكذلك: رين على قلبه. وغين على قلبه؛ فالرين يكون من أشياء تألف عليه فتغطيه. قال الله جل وعز: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. وأما غين على قلبه. فهي غشاوة تعتريه، والغينة: القطعة من الشجر الملتف تغطي ما تحتها، قال الشاعر:
كأني بين خافيتي عقاب ... أصاب حمامة في يوم غين4
ـــــــ
1 ر: "أأطعمت". وما أثبته عن الأصل. س.
2 سورة البقرة 7. وفي ر: "طبع الله على قلوبهم". وهو مخالف للتلاوة.
3 سورة المطففين 14.
4 نسبه المرصفى إلى رجل من تغلب يصف فرسا. وذكر قبله:
فداء خالتي وفدا صديقي ... وأهلي كلهم لبني قعين
فأنت حبوتني بعنان طرف ... شديد الشد ذي بذل وصون

وقال بعضهم: أراد في التفاف من الظلمة. وقال آخرون: أراد في يوم غيم، فأبدل من الميم نوناً، لاجتماع الميم والنون في الغنة. كما يقال للحية: أيم، وأين، واستجازت الشعراء أن تجمع الميم والنون في القوافي، لما ذكرت لك من اجتماعهما في الغنة. قال الراجز:
بني إن البر شيء هين ... ألمنطق اللين والطعيم
وقال آخر1:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني2
لمثل هذا ولدتني أمي
والعراقان: البصرة والكوفة. والرافدان: دجلة والفرات.
وقوله: أحذ يد القميص، الأحد: الخفيف. قال طرقة:
وأتلع نهاض أحد ململم3
وإنما نسبه بالخفة في يده إلى السرقة4.
وقوله: تفهق أي امتلأ مالاً5. يقال: بئر تفهق وغدير يفهق إذا امتلأ ماء. قال الراجز:
لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا ... والقوم في عرض غدير يفهق
وقال الأعشى فيمدحه المحلق بن حنتم. أحد بني أبي بكر بن كلاب:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
ـــــــ
1 نقل المرصفى عن ابن سيده. أنه أبو جهل بن هشام.
2 البازل من لاأبل: ما استكمل السنه الثامنة. وطعن في التاسعة. فإذا جاوز البزول قيل بازل عام أو عامين, وكذلك ما زاد, فإذا قيل ذلك للرجل فإنه يراد استكمال شبابه, قالة المرصفي.
3 رواية البيت بتمامه. كما في ديوانه 56 – مجموعة العقد الثمين.
وأروع نباض أحد ململم ... كمرداة صخر من صفيح مصمد
4 ر: "السرق".
5 ر: "ماء".

هكذا في رواية أبي عبيدة.
وقوله:
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
كانت بنو فزارة ترمى بغشيان الإبل. ولذلك قال ابن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار

للفرزدق أيضاً في حبس عمر بن هبيرة
فلما عزل ابن هبيرة وحبسه خالد بن عبد الله القسري. قال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة ... لمن حدث الأيام تحسبها قسر
لقد حبس القسري في سجن واسط ... فتى شيظميا ما ينهنهه الزجر
فتى لم ترببه النصارى لم يكن ... غذاء له لحم الخنازير والخمر
قوله: فتى 1شيظيما"1، الشيظمي: الطويل. قال ذو الرمة:
إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظمي المواشك2
يريد حادياً يسوقها وقوله: ما ينهنهه الزجر. يقول: ما يحركه.
وقوله: فتى لم ترببه النصارى ينبه به على أم خالد، وكانت نصرانية رومية، وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم، فأولادها خالداً وأسداً. ولذلك يقول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد
وكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد!
بنى بيعة فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفر منار المساجد
وقال:
عليك أمير المؤمنين بخالد ... وأصحابه لا طهر الله خالدا
بنى بيعة فيها الصليب لأمه ... ويهدم من بغض الصلاة المساجدا
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 ديوانه 426. والمواشك: السريع.

وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغه شعر لرجل من الموالي، موالي الأنصار، وهو:
ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح
فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح
فحطها عن دور الناس. ويروى عنه فيما روي من عتوه أنه استعفي من بيعة بناها لأمه. فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم، إن كان شراً من دينكم!.

للفرزدق عند هروبه من سجن ابن هبيرة
وقال الفرزدق لابن هبيرة حين1 نقب له السجن وهرب، فسار2 تحت الأرض هو وابنه حتى نفذا3:
لما رأيت الأرض قد سد ظهرها ... ولم يبق إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت سيرة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا4
خرجت ولم يمنن عليك طلاقة ... سوى ربد التقريب من نسل أعوجا5
فقال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق! هجاني أميراً، ومدحني أسيراً.
قوله: حيث أدلجا. تقول: أدلجت، إذا سرت6 في أول الليل. وادلجت، إذا سرت من آخره في السحر. قال زهير:
ـــــــ
1 ر: "حيث".
2 ر: "وسار".
3 وانظر أيضا خبر هذه الأبيات بتفصيل أوسع في الديوان 141.
4 ر: "حيث أدلجا". وهذه رواية الاصل والديوان.
5 ر: الديوان: "من آل أعوجا".
6 ر: "من".

بكرن بكوراً وادلجن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
وأعوج: فرس كان لغني، وقالوا، كان لبني كلاب. ولا ينكر هذا، لأن خبيبة1 بنت رياح الغنوية، ولدت بني جعفر بن كلاب. فلعله أن يكون صار إلى بني جعفر بن كلاب من غني.
والعرب تنسب الخيل الجياد إلى أعوج، وإلى الوجيه، ولاحق، والغراب، واليحموم، وما أشبه هذه الخيل من المتقدمات. قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخب نزائعاً خبب الذئاب2
جلبنا كل طف أعوجي ... وسلهبة كخافية العقاب3
ثم نرجع إلى التشبيه المصيب؛ قال امرؤ القيس في طول الليل:
كأن الثرا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
فهذا في ثبات الليل وإقامته. والمصام: المقام. وقيل للممسك عن الطعام: صائم، لثباته على ذلك، ويقال: صام النهار: إذا قامت الشمس. قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
والأمراس: جمع مرس، وهو الحبل. قال أبو زبيد يرثي غلامه ويذكر تعرضه للحرب4:
إما تقارن بك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس5
ـــــــ
1 ر: "حبيبة". وما أثبته عن الاصل.
2 النزائع: جمع نزيعة, وهي التي تنزع إلى وطنها وتحن إليه.
3 السلهية, والسهلب ايضا الفرس الطويل.
4 ر: "وتعرض للحرب فقتل".
5 ر: "إما تعلق". وما أثبته رواية الأصل. س.

وقال في ثبات الليل:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
المغار: الشديد الفتل. يقال: أغرت الحبل: إذا شددت فتله. ويذبل: جبل بعينه.
وقال أيضاً:
كأن أباناً في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
أبان جبل. وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض. قال المهلهل1 - وكان نزل في آخر حربهم، حرب البسوس، في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. وجنب حي من أحيائهم وضيع - فخطبت ابنته ومهرت أدما. فلم يقدر على الامتناع، فزوجها، وقال:
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم2
لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرج من أنف خاطب بدم
وقوله: في أفانين ودقه يريد ضروباً من ودقه. والودق: المطر. قال الله تبارك وتعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3.
وقال عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:
كبير أناس في بجاز مزمل
يريد مزملاً بثيابه. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} 4. وهو المتزمل بثيابه5. والتاء مدغمة في الزاي. وإنما وصف
ـــــــ
1 ر: "مهلهل".
2 الأراقم: قبائل من تغلب: ويريد بالحباء هنا المهر. والادم: الجلد.
3 سورة النور 43.
4 سورة المزمل 1/2
5 ساقطة من ر.

امرؤ القيس الغيث. فقال قوم: أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل. وقال آخرون: إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت. وكلاهما حسن. وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله.
وقال الراجز يصف غيماً:
أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآمال في سحابه
أراد أن ذلك السحاب، ينبت ما تأكله الإبل، فتصير شحومها في أسنمتها.
والرباب سحاب دوين المعظم من السحاب، قال المازني1:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام يعلق بالأرجل
وقوله جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 2. أي أعصر عنباً فيصير إلى هذه الحال.
وقال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
الفنا: شجر بعينه، يثمر ثمراً أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه. وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا نزلن.
والعهن: الصوف الملون في قول أكثر أهل اللغة. وأما الأصمعي فقال: كل صوف عهن. وكذلك قال أهل اللغة: الحنتم الخزف الأخضر. وقال الأصمعي: كل خزف حنتم. قال القرشي3:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
ـــــــ
1 نقل المرصفي من الأغاني أنه زهير بن عروة بن جلهمة.
2 سورة يوسف 36.
3 نسبة المرصفي إلى النعمان بن عدي بن نضلة.

وقال جرير:
ما في مقام ديار تغلب مسجد ... وبها كنائس حنتم ودنان
والتشبيه جار كثيراً في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم، لم يبعد.
قال الله عز وجل وله المثل الأعلى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 1. وقال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} 2. وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين، في هذه الآية. فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها، فكيف يقع التمثيل بها! وهؤلاء في هذا القول كما قال الله جل وعز: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 3. وهذه الآية قد جاء تفسيرها على ضربين4: أحدهما، أن شجراً يقال له الأستن5، منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وهو الذي ذكره النابغة في قوله:
تحيد عن أستن سود أسافله6
وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم.
والقولم الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب - أن الله جل ذكره شنع صورة الشياطين في قلوب العباد. فكان7 ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة مما تنفر منه كل نفس.
ـــــــ
1 سورة النور 35.
2 سورة الصافات 65.
3 سورة يونس 39.
4 ر: "في ضربين". وما أثبته عن الأصل. س.
5 نقل المرصفي عن أبي حنيفة الدينوري أنالأستن شجر يفشو في منابته ويكثر, إذا نظر إليه الناظر من بعيد شبهه بشخوص الناس.
6 بقيته:
مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
7 ر: "وكان".

حديث أبي النجم العجلي مع هشام بن عبد الملك
قال أبو العباس: وحدثت في إسناد متصل أن أبا النجم العجلي أنشد هشاماً1:
والشمس قد صارت كعين الأحول
لما ذهب به الروي عن الفكر في عين هشام، فأغضبه، فأمر بطرده، فطرد2. فأمل أبو النجم رجعته. فكان3 يأوي المسجد4، فأرق هشام5 ذات ليلة، فقال لحاجبه: ابغني رجلاً عربياً فصيحاً يحادثني وينشدني. فطلب له ما طلب، فوقف على أبي النجم، فأتى. فلما دخل به إليه قال: أين تكون منذ أقصيناك? قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك? قال: رجلين. كلبياً وتغلبياً. أتغدى عند أحدهما، وأتعشى عند الآخر، فقال له: مالك من الولد? قال: ابنتان. قال: أزوجتهما? قال: زوجت إحداهما. قال: فيم أوصيتها? قال قلت لها ليلة أهديتها:
سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن أبت فازدلفي إليها
ثم اقترعي بالود مرفقيها6 ... وجددي الحلف به عليها
لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
قال: أفأوصيتها بغير هذا? قال: نعم، قالت:
أوصيت من برة قلباً حمرا ... بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي نهكاً لها وضرا ... والحي عميهم بشر طرا
وإن كسوك ذهباً ودرا ... حتى يروا حلو الحياة مرا
ـــــــ
1 ر: "هشام بن عبد الملك". من أرجوزيته التي مطلعها.
الحمد لله العلى الأجلل
2 ساقطة من ر.
3 ر: "وكان".
4 ر: "المساجد".
5 ر: "أرق هشام ليلة".
6 الد: الوتد.

قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بنتي كولده، قال: فما حال الأخرى? قال: قد درجت بين بيوت الحي، وتنفعنا1 في الرسالة والحاجة، قال: فما قلت فيها? قال: قلت:
كأن ظلامة أخت شيبان ... يتيمة ووالداها حيان
الرأس قمل كله وصئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي يذعر منها الشيطان
قال: فقال هشام: يا غلام2، ما فعلت بالدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها? قال: ها هي عندي، ووزنها خمسمائة، قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين، أفلا تراه قال:
فهث التي يذعر منها الشيطان
وإن لم يره، لما قرر فيالقلوب من نكارته وشناعته! وقال آخر:
وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين يعدو بعضهن على بعض
وزعم أهل اللغة أن كل متمرد من جن أو إنس أو سبع3 أو حية4 يقال له شيطان، وأن قولهم: تشيطن إنما معناه تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} 5 قال الراجز:
أبصرتها تلتهم الثعبانا ... شيطانة تزوجت شيطانا
وقال امرؤ القيس:
أتوعدني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال!
والغول: لم يخبر صادق قط أنه رآها.
ثم نرجع إلى تفسير شعر أبي النجم6:
ـــــــ
1 ر: "ونعتنا".
2 ر: "لحالجيه".
3 ر: "رجل".
4 ساقطة من ر.
5 سورة الأنعام
6 ر: "وأول أبي النجم".

قوله:
سبي الحماة وابهتي عليها
إنما يريد: ابهتيها، فوضع ابهتي في موضع اكذبي فمن ثم وصلها بعلى.
والذي يستعمل في صلة الفعل اللام، لأنها لام الإضافة، تقول: لزيد ضربت ولعمرو أكرمت والمعنى: عمراً أكرمت، وإنما1 تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد، فأجرى الفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول، لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام. كما قال الله جل وعز: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 2. وإن أخر المفعول فهو عربي3 حسن، والقرآن محيط بجميع4 اللغات الفصيحة، قال الله جل وعز: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 5 والنحويون يقولون في قوله جل ثناؤه: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} 6: إنما هو: ردفكم. وقال كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض، إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع، قال الله جل ذكره: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 7، أي على ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت في، لأنها للوعاء، يقال: فلان في النخل. أي قد أحاط به. قال الشاعر8:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وقال الله جل وعز: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} 9 أي عليه. وقال تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 10 أي: بأمر الله. وقال ابن الطثرية:
ـــــــ
1 ر: "فإنما".
2 سورة يوسف 43.
3 ر: "فعربي".
4 ر: "بكل".
5 سورة الزمر 12.
6 سورة النحل 72.
7 [طه: 71]
8 هو سويد بن أبي كاهل. اللسان:4:267. وبأجدع. أي بأنف أجدع.
9 سورة الطور 38.
10 سورة الرعد 11.

غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفعا
وقال الآخر:
غدت من عليه بعدما تم خمسها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل1
أي من عنده.
وقال العامري2:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وهذا كثير جداً.
وقوله:
وإن أبت فازدلفي إليها
يقول: تقربي، ومن ذا سميت المزدلفة، قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفاً فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
يقال3: زلفة وزلف، كقولك: غرفة وغرف.
وقوله:
بالكلب خيراً والحماة شرا
كلام معيب عند النحويين، وبعضهم لا يجيزه، وذلك لأنه4 عطف على عاملين: على الباء5 وعلى الفعل. ومن قال هذا قال: ضربت زيداً في الدار، والحجرة عمراً.
قال أبو العباس: وكان أبو الحسن الأخفش يراه ويقرأ: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ
ـــــــ
1 لمزاحم العقيلي في وصف القطا, اللسلن 13:406. وقال في شرحة: "قال ابن السكيت في قولة: "من عليه": من فوقه. يعني من فوق الفرخ. ومعنى: "تصل" ,أي هي يابسة من العطش".
2 حاشية الأصل: "هو القحيف العقيلي".
3 ر: "تقول".
4 ر: "وذاك أنه".
5 ر: "بالباء".

الرِّيَاحِ آيَاتٌ} 1. فعطف على إن وعلى في. وقال عدي بن زيد:
أكل امرئ تحسبين أمرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فعطف على كل وعلى الفعل.
وأما قوله:
غدت من عليه بعد ما تم خمسها
فالخمس: ظمء من أظمائها، وهو أن ترد ثم تغب ثلاثاً، ثم ترد، فيبتدأ بيومي وردها مع ظمئها، فيقال: خمس، والربع كحمى الربع.
وقوله: تصل أي تسمع لأجوافها صليلاً من يبس العطش، يقال: المسمار يصل في الباب، إذا أكره فيه، قال جرير يخاطب الزبير بمرثيته في هجائه الفرزدق:
لو كنت حين غررت بين بيوتنا ... لسمعت من وقع الحديد صليلا
ويقال للحمار: المصلصل، إذا أخرج صوته من جوفه حاداً خفياً.
قال الأعشى:
عنتريس تعدو إذا حرك السو ... ط كعدو المصلصل الجوال2
وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 3 [الحجر: 26]، قالوا4: هو الطين الذي قد جف، فإذا قرعه شيء كان له صليل. وتفسير ذلك عند العرب التقن5 الذي يذهب عنه الماء في الغدران فيتشقق ثم ييبس.
والقيض: قشر البيضة6 الأعلى؛ والذي يلبس البيضة فيكون ما بينها وبين قشرها الأعلى، يقال له: الغرقئ، يقال: ثوب كأنه غرقئ البيض7.
والزيزاء: ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة، إذا كان لمذكر، كالعلباء والحرباء، وسنذكر هذا في غير هذا الموضع مفسراً، على أنا قد استقصيناه في الكتاب المقتضب.
ـــــــ
1 سورة الجاثية 5. بنصب "آيات". وهي قراءة حمزة والكسائي والباقون بالرفع وانظر الكشاف 4: 225.
2 ديوانه 8 قال في شرحه: "عنتريس: صلبة قوية, أخذه بالعرندسة. إذا أخذه بالجفاء والغلط, والمصلصل: الصافي الصوت: قال: وليس هذا بالوصف الجيد".
3 سورة الحجر 26.
4 ر: "قال".
5 التقن: اسم للطين الذي يذهب عنه الماء.
6 ر: "البيض".
7 ر: "بيض".

والمجهل: الصحراء التي يجهل فيها، فلا يهتدى لسبيلها.
ويقال للشيء إذا غب وتغيرت رائحته، صل واصل، فهو صال ومصل، ويقال: نتن وأنتن. ويقال: خم وأخم، وذاك إذا كان مستوراً حتى يفسد. ويقال إذا عتق اللحم فتغير: خنز وخزن، وبيت طرفة أحسن ما ينشد:
ثم لا يخنز فينا لحمها ... إنما يخنز لحم المدخر
ويقال لرب البيت وربة البيت اللذين ينزل بهما الضيف: هي أم مثواه، وهو أبو مثواه، وأنشد أبو عبيدة:
من أم مثوى كريم قد نزلت بها ... إن الكريم على علاته يسع
وفي كتاب الله جل وعز: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، معناه عند العرب إضافته.
ومن التشبيه المطرد على ألسنة العرب ما ذكروا في سير الناقة وحركة قوائمها، قال الراجز:
كأنها ليلة غب الأزرق ... وقد مددنا باعها للسوق
خرقاء بين السلمين ترتقي
قوله: ليلة غب الأزرق، إنما يعني موضعاً، وأحسبه ماء، لأنهم يقولون: نطفة زرقاء، وهي الصافية، قال زهير:
فلما وردنا الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم1
وقال آخر:
فألقت عصا التسيار عنها وخيمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافر
وقوله:
وقد مددنا باعها للسوق
ـــــــ
1 ديوانه 13: الجمام: ما أجتمع من الماء الواحدة جم وجمة, وضعن. أي أقمن, والحاضر. الذين حضروا الماء. والمتخيم. المقيم من شرح الديوان.

يقول: استفرغنا ما عندها في1 السير، يقال: تبوعت وانباعت، إذا مدت باعها.
وقوله:
خرقاء بين السلمين ترتقي
يقول: لكثرة حركة الخرقاء وقلة حذقها بالصعود.
وقال الآخر:
كأنها نائحة تفجع ... تبكي بشجو وسواها الموجع2
وقال الشماخ:
كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد السباب حاولت أن تعذرا3
من البيض أعطافاً إذا اتصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا4
بها شرق من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرداء المحبرا5
تقول وقد بل الدموع خمارها ... أبى عفتي ومنصبي أن أعيرا
كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا
شبه يديها بيدي مدلة بجمال ومنصب قد سابت وأقبلت تعتذر وتشير بيديها، فوصف جمالها الذي به تدل؛ ومنصبها المتصل بمن ذكرته.
وقوله:
أطارت من الحسن الرداء المحبرا
ـــــــ
1 ر: "من السير".
2 ر: "لشجو".
3 ديوانه 29. قال في شرح الديوان: شبه ذراعيها وهيي تتذرع في سيرها بذراعي امرأة مدلة أهلها ببراءة ساحتها وقوله: "بعيد السباب". أي في عقب المسابة قامت تعتذر إلى الناس".
4 قال في شرح الديوان: "البيض: جمع بيضاء. وهي نقية العرض من الدنس. والأعطاف: الجوانب واتصلت: انتسبت, وفراس: رجل عزيز. بالفتح. وهو ابن تغلب. ولقيط بن يعمر رجل أيضا عزيز. و:أو" بمعنى الواو. أي أنها شريفة النسب. فهي لا تقصر عن نفي ما رميت به".
5 الديوان: "لها شرق". والشرق: الضمح. وأطارت: رميت. والمحبر: المزين. أي أنها مدلة بجمالها فلا تختمر فتستر شيئا عن الناظر, لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها. "من شرح الديوان".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7