كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد

لإسماعيل بن القاسم أبي العتاهية
وقال إسماعيل بن القاسم:
اطلع الله بجهدك ... عامداً أودون جهدك
أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك

لمحمود الوراق
وقال محمود:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعمته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وقال أيضاً:
إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيت أسدى إلي يداً ... لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه وإح ... ساني مضاعف الجرم
وغدوت ذا اجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم
فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
مازال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم
اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش لرجل قال له: إني مررت بقوم من قريش من آل الزبير أو غيرهم يشتمونك شتماً رحمتك منه، قال: فسمعتني أقول إلا خيراً! قال: إياهم فارحم.
وقال الصديق1: رحمه الله لرجل قال له: لأشتمنك شتماً يدخل معك في قبرك،قال: معك والله يدخل، لامعي.
وقال ابن مسعود: إن الرجل ليظلمني فأرحمه.
ـــــــ
1 ر: "أبو بكر الصديق"، س: "الصديق رضي الله عنه".

وقال رجل للشعبي كلاماً اقذع له فيه، فقال الشعبي: إن كنت صادقاٌ فغفر الله لي، وإن كنت كاذباٌ فغفر الله لك.
ويروى انه أتى مسجداً فصادف فيه قوماً يغتابونه فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال:
هنيئاً مريئاً غير داء مخاطر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
وذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلاً ركباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولاثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فامتلأ قلبي له بغضاً، وحسدت علياً أن يكون له أبن مثله، فصرت إليه، فقلت له: أنت ابن أبي طالب? فقال: أنا ابن ابنه فقلت: فبك وبأبيك أسبهما. فما انقضى كلامي قال لي: أحسبك غريباً. فقلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال: فانصرفت عنه، ووالله ما على الأرض أحد احب إلي منه.
لمحمود الوراق أيضاً
وقال محمود الوراق:
ياناظراً يرنو بعيني راقدٍ ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
منيت نفسك ضلةً وأبحتها ... طرق الرجاء وهن غير قراصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفور العابد
ونسيت ان الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد

للحسن بن هانئ الحكمى المعروف بأبى نواس
وقال الحكم للفضل بن الربيع1:
ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... كيدٍ أبو العباس مولاها
نام الكرام على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر ... حلت له نقم فألفاها
ـــــــ
1 زيادات ر: هو أبو نواس الحسن بن هانىء، وهو منسوب إلى حكم، قبيله من مذحج".

لعبد الله بن محمد بن أبى عيينة
وقال عبد الله بن أبي عيينه لذي اليمينين1:
لما رأيتك قاعداً مستقبلاً ... أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعر من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين
مالا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائن سيكون
يسعى الذكي فلا ينال بسعيه ... حظاً ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون
الله يعلم أن فرقة بيننا ... فيما أرى شيء علي يهون
ـــــــ
1 هو طاهر بن الحسين، وكان من أكبر أعوان المأمون، وفي زيادات ر: "سمى ذا اليمينين؛ لأنه ضرب إنسانا فجعله قسمين".

لصالح بن عبد القدوس
وقال صالح بن عبد القدوس2:
إن يكن مابه أصبت جليلاً ... فذهاب العراء فيه أجل
كل آتٍ لاشك آتٍ وذو الجه ... ل معنى والغم والحزن فضل
ـــــــ
1 زيادات ر: "صلبه عبد الملك بن مروان على الزندقة- أعنى صالحا". وفي معجم الأدباء 7: 12 أن الذي قتله هو المهدي العباسي، ضربه بالسيف فشطره شطرين، وعلق بضعة أيام للناس، ثم دفن".

من الأبيات المنفردة
وأنشد منشد من الأبيات المنفردة القائمة بأنفسها:
إذا أنت لم تعطي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال1
ومنها قول ابن وهيب الحميري2:
وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
ـــــــ
1 حواشي الأصل: "هذا البيت قاله هشام بن عبد الملك ولم يقل شعرا غيره".
2 في ر، س: "ابن أبى وهيب" وصوابه ما في الأصل. وانظر معجم الشعراء 420.

وقال آخر:
ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبه
وقال أشجع السلمي:
رأي سرى وعيون الناس راقدة ... ما أخر الحزم رأي قدم الحذرا
وقال آخر: فلله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب وقال آخر:
يرى فلتات الرأي مقبل ... كأن في اليوم عيناً على غد

لعبد الصمد بن المعذل أيضا
ً
...
وقال عبد الصمد بن المعذل:
أمن على المجتدي ... وما أتبع المن من
كان لم يزل ما أتى ... وما قد مضى لم يكن
أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثاً حسن
وقال أيضاً:
زعمت عاذلتي أني لما ... حفظ البخل من المال مضيع
كلفتني عذرة الباخل إذا ... طرق الطارق والناس هجوع
ليس لي عذر وعندي بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع

للحسن بن هانئ أيضا
وقال الحسن بن هانىء الحكمى:
إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... اختف عليها شامتاً فأداري
فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما على عواري

وقال أيضاً:
قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفاً
أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك بعد اليوم تقدمة ... لاقتك بالتصريح منكشفاً
لاتحدثن إلي عارفة ... حسبي أقوم بشكر ما سلفا

لدعبل بن علي الخزاعي
وقال دعبل بن على الخزاعي:
أحببت قومي ولم أعدل بحبهم ... قالوا تعصبت جهل قول ذي بهت
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لا بد للرحم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الأدنين إن لهم ... حقاً يفرق بين الزوج والمرة1
قومي بنوا مذحج والأزد أخوتهم ... وآل كندة والأحياء من علةٍ2
ثبت الحلوم فإن سلت حفائظهم ... سلوا السيوف فأرادوا كل ذي عنت
لاتعرضن بمزح لامرئٍ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... مشؤومة لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيت مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
وقال أيضاً:
نعوني ولما ينعني غير شامت ... وغير عدو قد أصيبت مقاتله
يقولون إن ذاق الردى مات شعره ... وهيهات عمر الشعر طالت طوائله
سأقضي ببيتٍ يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله3
ـــــــ
1 المرة: لغة في المرأة "رغبة الآمل".
2 علة: قبيلة.
3 زيادات ر: "البيت الأخير ليس لدعبل، وإنما هو مضمن".

لإسماعيل بن القاسم أيضا
ً
وقال إسماعيل بن القاسم:
يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب!
لله درك كيف أنت وغايةٌ ... يدعوك ربك عندها فتجيب
وقال أيضاً:
يا علي بن ثابت بأمن مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا
يا علي بن ثابت أي أنت ... أين أنت أنت بين القبور حيث دفنتا
قد لعمري حكيت لفي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
وقال أيضاً:
صاحب كان لي هلك ... والسبيل التي سلك1
يا علي بن ثابت ... غفر الله لي ولك
كل حي مملك ... سوف يفنى ومالك
وقال أيضاُ:
طوتك خطوب دهرك كبعد نشرٍ ... كذاك خطوبه نشراً وطيا
فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا أُخي بدمع عيني ... فلم يغني البكاء عليك شيا
كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك عن يديا
وكانت في حياتك لي عضات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وكان إسماعيل بن القاسم لا يكاد يخلي شعر من تقدم من الأخبار والآثار فينظم ذلك الكلام المشهود،ويناوله أقرب متناول، ويسرقه أخفى سرقة.
فقوله: وأنت اليوم أوعظ منك حيا، إنما أخذه من قول الموبذ لقباد الملك حيث مات، فإنه قال في ذلك الوقت: كان الملك أمسى أن انطق منه اليوم. وهو اليوم أوعظ منه أمس.
ـــــــ
1 زيادات ر: "والسبيل التي سلك: ابتداء وخبر، ومن قال غير هذا فقد أخطأ".

واحذ قوله:
قد لعمري حكيت لي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
من قول نادب الإسكندر فإنه لما مات بكى من بحضرته فقال نادبه حركنا بسكونه.
لإسماعيل بن القاسم أيضا
وقال إسماعيل بن القاسم1:
ياعجباً للناس لو فكرروا، ... حاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر2
الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر
والموعد الموت وما بعده الـ ... ـحشر الموعد الأكبر
لافخر إلا فخر أهل التقى ... غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمنّ الناس ان التّقى ... البر كانا خير ما يذخر
عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر
ما بال من أوّله نطفة ... وجيفة آخره يفخر!
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يقدر
أما قوله:
ياعجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا
فمأخوذ من قولهم: الفكرة مرآة تريك حسنك من قبيحك. ومن قول لقمان لابنه: يا بنيّ لعاقل أن يخلي نفسه من أربعة أوقات: فوقت منها يناجي فيه ربّه، وقت يحاسب فيه نفسه، ووقت يكسب فيه لمعاشه، ووقت يخلي فيه بين نفسه وبين ذاتها، ليستعين بذلك على سائر الأوقات.
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو أبو العتاهية".
2 زيادات ر: "معبر بفتح الميم وكسرها لابن سراج، وبفتح الميم لا غير، رواية عاصم".

وقوله:
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر
مأخوذ من قول الحسن: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها.
وقوله:
الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر
مأخوذ من حديث عبد الله بن عمر بن العاص، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم، وصار الناس هكذا". وشبه بين أصابعه، فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: "خذ ما عرفت ودع ما أنكرت، وعليك بخويصّة نفسك، وإياك وعوامّها".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في حثالة الناس" أما الحثالة فهو ما يبقى في الإناء من ردي الطعام، وضربه مثلاً. وقوله: "مرجت عهودهم". يقول: اختلطت وذهبن بهم كل مذهب، يقال: مرج الماء إذا سال ولم يكن له مانع، قال الله عز وجل: {مرج البحرين يلتقيان} 1.
وقوله:
ليعلمن الناس إن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
مأخوذ من قول أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا حشر الناس في صعيد واحد نادى منادٍ من قبل العرش: ليعلمن أهل لا لموقف، من أهل الكرم اليوم? ليقم المتقون!" ثم تلا رسول الله صلى الله وعليه وسلم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 وقوله:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر
مأخوذ منقول علي بن أبي طالب رشي الله عنه: وما ابن آدم والفخر إنما أوله نطفة،آخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه.
ـــــــ
1 سورة الرحمن 19.
2 سورة الحجرات 13.

لابن أبي عيينة
وقال ابن أبي عيينة:
ما راح يوم على حي ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
ولا أنت ساعة في الدهر فانصرمت1 ... حتى تؤثر في في قوم لها أثرا
إن الليالي والأيام أنفسها ... عن غير أنفسها لم تكتم الخيرا
فأخذ هذا المعنى حبيب بن أوس الطائي وجمعه في ألفاظ يسيرة فقال:
عمري لقد نصح الزمان إنه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق
فزاد بقوله: ناصح لا يشفق على قول ابن أبي عيينة شيئاً طريفاً، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام. ولو قال قائل: إن أقرب ما تأخذ منه أبو العتاهية:
ليعلمن الناس أن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
من قول خليل بن أحمد:
قال أبو الحسن: زعم النسابون أنهم لا يعرفون أنهم منذ وقت النبي صلى الله وعليه وسلم إلى الوقت الذي ولد فيه احمد أبو الخليل أحداً سمي بأحمد غيره.
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح إلى الأعمال2
لكان قد قال قولاً.
وقال العباس بن الفرح:
أملي من دونه أجلي ... فمتى أفضي إلى إملي
ـــــــ
1 زيادات ر: "فانصرفت" أشبه للمطابقة، والمشهور "انصرفت".
2 كذا نسبته في الأصول والمشهور أن البيت للأخطل، وهو في ديوانه 158.

للخليل بن أحمد
وقال الخليل بن أحمد، وكان مظر في النجوم فابعد ثم لم يرضها فقال:
أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
عالم،أن ما يكون وما كا ... ن بحتم من المهيمن واجب

لمحمد بن بشير يعيب المتكلمين
قال محمد بن بشير يعيب المتكلمين، أنشدنيه الرياشي:
يا سائلي عن مقالة الشيع ... وعن صنوف الأهواء والبدع
دع من يقود الكلام ناحيةً ... فما يقود الكلام ذو وزع
كل أناس بد يّهم حسن ... ثم يصيرون بعد للشّنع
أكثر ما فيه أن يقال له ... لم يك في قوله بمنقطع
وأنشد الرياشي لغيره:
قد نقّر الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرّسل
حتى استخف بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل
وقال محمد بن بشير:
ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
يا حسرتا في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره ... وعاش فالموت قصاره
كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه
صار البشيري إلى ربه ... يرحمنا الله وإيّاه
وقال أيضاُ:
أي صفو إلا إلى تكدير ... ونعيم إلا إلى تغيير
وسرورٍ ولذّةٍ وحبورٍ ... ليس رهناً لنا بيوم عسير
عجباً لي ومن رضاي بدنيا ... أنا فيها على شفا تغرير!
عالم لا أشك أني إلى اللـ ... ـه إذا متّ أو عذاب السعير
ثم ألهو ولست أدري إلى أيـ ... ـهما بعدة يصير مصيري
أي يوم عليّ أفظع من يو ... م به تبرز النّعاة سريري
كلما مرّ بي على أهل نادٍ ... كنت حسناً بهمم كثير المرور
قيل: من ذا على سرير المنايا ... قيل هذا محمد بن بشير

للحكمي أبي نواس أيضا
ُ
وقال الحكمي أبو نواس:
أخي ما بال قلبك ليس ينفي ... كأنك لاتظن الموت حقاً
ألا يا أبن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما أحد بزادك منك أحظى ... وما أحد بزادك منك أشقى
ولا لك غير تقوى الله زادٌ ... إذا جعلت إلى اللّهوات ترقى
ومما يستحسن من شعره قوله:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمرة
فمثل هذا لو تقدم لكان في صدور الأمثال، كذالك قوله أيضاً:
فامض لاتمنن عليّ يداً ... منك المعروف من كدرة
وكان يقول: ذكر المعروف من المنعم إفساد له، وكتمانه من النعم عليه كفر له، وفي الشعر أبيات مختارة، فمنها:
وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت في صورة
راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأبّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
فاسل عن نوء تؤمله ... حسبك العباس من مطره
لا تعطّى عنه مكرمة ... بربا واد ولا خمره
ذللت تلك الفجاج له ... فهو مجتاز على بصره
وقد عابوا عليه قوله:
كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره
وهو لعمري كلام مستهجن موضوع في غير موضعه، لأن حق رسول الله صلى الله وعليه وسلم أن يضاف إليه، ولا يضاف إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجراه في باب الحيلة لخرج على الاحتيال، ولكنه عسر موضوع في غير موضعه، وباب الاحتيال فيه أن، تقول: قد يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قريش: منا رسول الله صلى الله وعليه وسلم،

وحق هذا أنه من القبيل الذي أنا منه. فقد أضاف إلى نفسه، وكذلك يقول القرشي لسائر العرب، كما قال حسان بن ثابت:
مازال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لاترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فقال: منهم كما قال من نفره، من النفر الذين العباس هذا الممدوح منهم.
وأما قول حسّان: منهم جعفر وابن أبن أمه عليّ ومنهم أحمد المتحيز فإن، العرب إذا كان العطف بالواو قدمت وأخرت، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 1، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 2، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3، ولو كان بثم أو بالفاء لم يصلح إلا تقديم المقدم، ثم الذي يليه واحداً: أحدا.
وأما قوله في هذا الشعر:
وكريم الخال من يمنٍ ... وكريم العم من مضره
فأضاف مضر إليه، فهو كلام لا يمنع منه ممتنع، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم الحمل للأشتر وهو مالك بن الحارث أخذ النخع ابن مرو بن علة بن جلد وكان على الميمنة: احمل. في أصحابه فكشف من بإزائه، ثم قال لهاشم بن عتبة بن مالك أحد بني زهرة بن كلاب وكان على المسيرة احمل. فحمل في المضرية فكشف من بإزائه. فقال عليّ رضي الله عنه لأصحابه: كيف رأيتم مضري ويمني! فأضاف القبيلتين إلى نفسه، قال جرير:
إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً ... تلكم قريشي والأنصار أنصاري
ـــــــ
1 سورة التغابن 2.
2 سورة الرحمن 33.
3 سورة آل عمران 43.

لإسحاق بن خلف البهراتي يمدح علي بن عيسى القمى
ومما يستحسن من أشعار المحدثين قول إسحاق بن خلف البهراتي، ونسبه في بني حنيفة لسباء وقع عليه، يقول لعلي بن عيسى بن مريم بن موسى بن طلحة الأشعري المعروف بالقمي1:
وللكرد منك إذا زرتهم ... بكيدك يوم كيوم الحمل
ومازال عيسى بن موسى له ... مواهب غير النطاف المكل2
لسل السيوف وشق الصفوف ... لنقض الترات وضرب القلل
ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
وقد كشرت عن شبا نابها ... عروس المنية بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها ... كأن عليهم شروق الطفل
خروسٌ نطوق إذا استنطقت ... جهول تطيش على من جهل
إذا خطبت أخذت مهرها ... رؤوساً تحادر قبل النقل
ألد إليه من المسمعات ... وحث الكؤوسه في يوم طل
وشرب المدام ومن يشتهيه ... معاط له بمزاح القبل
بعثنا النّواعج تحت الرحال ... تسافه أشدقها في الجدل
إذا ما حدين بمدح الأمير ... سبقن لحاظ المحثّ3 العجل
قوله: "تريك المنا" يريد المنايا وهذه كلمة تخف على ألسنتهم فيحذفونها، وزعم الأصمعي أنه سمع العرب تقول: درس المنا، يريدون المنازل، وجاء في التخفيف أعجب من هذا، حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي وذكره سيبويه في كتابه ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي. فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا? فيقول الآخر: بلى فا، يريد: ألا تنهض? فيقول الآخر، فأنهض. وحكى سيبويه في هذا الباب:
ـــــــ
1 زيادات ر: "منسوب إلى قمة وهي بلدة أو قرية من خراسان".
2 المكل: جمع مكول، وهي البئر.
3 زيادات ر: "من كسر الميم من حث، ومن ضم الميم جعله من أحث؛ يقال: حث وأحث على فعل وأفعل، لغتان".

بالخير خيراتٍ وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
يريد: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تريد1.
وهذا خلاف ما تستعمله الحكماء، فإنه يقال: إن اللسان إذا كثرت حركته، رقت عذبته.
وحدثني أبو عثمان الجاحظ قال: قال لي محمد الجهم: لما كانت أيام الزّط أدمنت الفكر، وأمسكت عن القول، فأصابتني حبسةً في لساني.
وقال رجل من الأعراب يذكر آخر منهم:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طوال تحبيسٍ وهم وأرق
وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر، فقال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لاتغني فيه القلّة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العقلة.
وكان خالد يقول: لا تكون بليغاً حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء، في الحاجة المهمة، بما تكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضوٌ إذا مرنته، مرن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبه، والرّجل إذا عودته المشي مشت.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. فتزعم في القسي، نزوتم على طهور الخيل.
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل إن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه، وكان ابن الزبير رحمه الله يواصل فيما ذكروا بين خمس عشرة من يوم وليلة،ثم يفطر على سمن وصبر ليفتق أمعاءه. قال أبو العباس: قال الأول: والمشي، إن لم تتعهده أوشكت ان تطلبه فلا تجده، والجماع كالبئر إن نزحت جمّت، وإن تركت تحيّر ماؤها، وحق هذا كله القصد.
وقوله:
كأن عليهم شروق الطّفل
ـــــــ
1 زيادات ر: قال ش: قول أبي العباس: "إلا أن تريد" إنما هو إلا أن تشاء، ولو كان كما قال أبو العباس: كانت التاء مضمومة".

يريد: تألق الحديد، كأنه شمس طالعة عليهم، وإن لم تكن شمس وأحسن من هذا قوله سلامه بن جندل:
كأن النّعام باض فوق رؤوسهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحم1
فهذا التشبيه المصيب.
وأما قوله:
أحب إليه من المسمعات
فقد قال مثله القاسم بن عيسى بن إدريس أبو ذلف العجلي:
يوماي يوم في أويس كالدمى ... لهوي، ويوم في قتال الديلم
هذا حليف غلائل مكسوة ... مسكاً وصافية كنضح العندم
ولذاك خالصة الدروع وضمّرٌ ... يكسوننا رهج الغبار الأقتم
وليومهن الفضل لولا لذّة ... سبقت بطعن الدّيلميّ المعلم
وأول هذه القصيدة طريق مستملح، وهو:
طواه الهوى فطوى من عدل ... وحالف ذا الصبوة المختبل
وأما قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
فتسافه من السفه، وإنما يصفها بالمرح،وانها تميل ذا كذا مرة، كما
قال رؤبة:
يمشي العرضنى في الحديد المتقن
وكما قال الآخر:
إذا رأى السوط مشى الهيدبى ... ويتقى الأرض بمعج رقاق2
وكما قال الحطيئة:
وإن آنست حسا من السوط عارضت ... بي الجور حتى تستقيم ضحى الغد
ـــــــ
1 زيادات ر: "جواحم، أى متقدة".
2 زيادات ر: "الهيدبى، بالدال مهملة ومعجمة". وقوله: "بمعج رقاق، يريد قليلة اللحم".

والجدل: جمع جديل وهو الزمام المجدول، كما تقول: قتيل ومقتول، وأدنى العدد أجدلة، كقولك: قضيب وقضب وأقضبة، وكذلك كثيب ورغيف وجريت، وفعلان في المثير، يقال قضبان ورغيفان وجربان، ومثل قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
قول حبيب بن أوس الطائي:
سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدا فضل السفيه على الحليم
لإسحاق أيضاُ يمدح الحسن بن سهل
ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا قوله في الحسن بن سهل:
باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفا على ذقن
قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن
كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب ... بفيء دارك يستعدي على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى كفه خلفٌ ... ليس السدى والندى في راحة الحسن
وإسحاق هذا هو الذي يقول في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وإسحاق هذا هو الذي يقول في مدح العربية:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرة تكرمه إذا يلحن
وإذا طلبت من العلوم اجلها ... فاجلها منها مقيم الألسن
قال أبو العباس: واحسبه أخذ قوله:
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
من حديث حدثناه أبو عثمان الخز اعي عن الأصمعي قال: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يعرب،

أو شممت منه طيباً. وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدري من هم. وهم: بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر.

لشاعر في عبد الله بن طاهر
قال أبو العباس: أنشدني أحد الأمراء لشاعر من أهل الري يكنى أبا يزيد، شيئاً يقوله لعبد الله بن طاهر أحسن فيه وأصاب الفص، وقصد بالمدح إلى معدنه،واختاره لأهله:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في شاذ مهر ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن
فأحسن الترتيب جداً، وإن كانت الملوك كلها تلبس التاج في ذلك الدهر.
وإنما ذكر ابن ذي يزن لقول أمية بن أبي الصلت الثقفي حيث يقول:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً
وقال الأعشى في هوذة بن علي، وإن لم يكن هوذة ملكاً:
من ير هوذة يسجد غير متئب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا
له أكاليل بالياقوت فصلها ... صواغها لاترى عيباً ولاطبعاً
وقال أبو العباس: وحدثني التّوّزي قال: سمعت أبا عبيدة يقول عن أبي عمرو، قال: لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن، فسأليه عن هوذة بن علي الحنفي، إنما خرزات تنظم له.
قال أبو العباس: وقد كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هوذة بن علي يدعوه كما كتب إلى الملوك، وكان يجيز لطيمة كسرى في البر بجنبات اليمامة. واللطيمة: الإبل تحمل الطيب والبر. ووفد هوذة بن علي على كسرى بهذا السبب فسأله عن بنيه، فذكر منهم عدداً فقال: أيهم أحب إليك? فقال: الصغير حتى يكبر،والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح. فقال له كسرى: ماغذاؤك في بلدك? فقال: الخبز، فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخيز، يفضله على عقول أهل البوادي الذين يغتذون اللبن والتمر.

وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لقد هممت ألا أقبل هدية" ويروى: "أن لا أتهب هبةً إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي". وروى بعضهم: أو دوسي وذلك أن أعرابياً أهدى إليه هدية فمن بها، فذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الأمصار تفضيلاً على أهل البوادي.

لعبد الله بن محمد بن أبي عيينه
وقال عبد الله بن محمد بن أبي عيينه يعاتب رجلاً من الأشراف:
أتيتك زائراً لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب
وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب
ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كل ناء ... بجانبه إذا عز الذهاب
وقال أيضاً:
كنا ملوكاً إذا كان أولنا ... للجود والبأس والعلا خلقوا
كانوا جبالاً عزا يلاذ بها ... ورائحاتٍ بالوبل تنبعق1
كانوا بهم ترسل السماء على الـ ... أرض غياثاً ويشرق الأفق
لا يرتق الراتقون إن فتقوا ... فتقاً ولا يفتقون مارتقوا
ليسوا كمعزى مطيرةٍ بقيت ... فما بها من سحابةٍ لثق2
والضعف والجبن عند نائبةٍ ... تنوبهم والحذار والفرق
لهذا زمانٌ بالناس منقلبٌ ... ظهراً لبطنٍ جديده خلق
الأسد فيه على براثنها ... مستأخراتٌ تكاد تمزق
وكان سبب قوله هذا الشعر أن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كان له صديقاً، وكان عبد الله بن محمد بن أبي عيينه من رؤساء من اخذ البصرة للمأمون في أيام المخلوع، وكان معاضداً لطاهر بن الحسين في حروبه، وكان إسماعيل بن جعفر جليل القدر، مطاعاً في مواليه وأهله،
ـــــــ
1 الرائحات: السحب، وتنبعق: تتخرق فينزل منها الماء.
2 اللثق: البلل.

وكانت الحال بينهما ألطف حال، فوصله ابن أبي عيينه بذي اليمينين فولاه البصرة وولى ابن أبي عيينه اليمامة والبحرين وغوص البحر فلما رجعا إلى البصرة تنكر إسماعيل لابن أبي عيينه، فهاج بينهما من التباعد على مثال ما كان بينهما من المقاربة،ثم عزل ابن أبي عيينه فلم يزل يهجو من أهله من يواصل إسماعيل، وكان أكبر أهله قدراً في ذلك الوقت يزيد بن المنجاب، وكان أعود قائم العين لم يطاع على علته إلا بشعر ابن أبي عيينه، وكان منهم. وكان سيد أهل البصرة محمد بن عباد بن حبيب بن الملهب، ومنهم سعيد بن المهلب بن المغيرة بن حرب بن محمد بن ملهب بن أبي صفرة، وكان قصيراً، وكان ابن عباد احول، فذلك حيث يقول ابن أبي عيينه في هذا الشعر الذي أمليناه:
تستقدم النعجتان والبرق1 ... في زمن سرو أهله الملق
عور وحول ثالث لهم ... كأنه بين أسطرٍ لحق2
ولهم يقول ولاثنين ظن أنهما معهم، وقد مروا به يريدون إسماعيل بن جعفر:
ألا قل لرهطٍ خمسةٍ أو ثلاثة ... يعدون من أبناء آل الملهب
على باب إسماعيل روحوا وبكروا ... دجاج القرى مبثوثة حول ثعلب
وأثنوا عليه بالجميل فإنه ... يسر لكم حبا هو الحب واقلب
يلين لكم عند اللقاء موارباً ... يخالفكم منه بناتٍ ومخلب
ولولا الذي تولونه لتكشفت ... سريرته عن بغضةٍ وتعصب
أبعد بلائي عنده إذا وجدته ... طريحاً كنصل القدح لما يركب
به صدأ قد عابه فجلوته ... بكفي حتى ضوؤه ضوء كوكب
وركبته في خوط نبع وريشة ... بقادمتي نسر ومتن معقب3
فما إن أتاني منه إلا مبوأ ... إلي بنصل كالحريق مذرب
ـــــــ
1 البرق: الخروف والجمع أبراق.
2 اللحق: اسم لما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه.
3 الخوط: الغض الناعم. راشه: ألزق فيه الريش. والمتن: الوتر.

ففللت منه حده وتركته ... كهدية ثوب الخز لما يهدب1
رضيتم بأخلاق الدّني وعفتم ... خلائق ماضيكم من العم والأب
وفي هذا يقول لطاهر بن الحسين:
مالي رأيتك تدني منتكثٍ ... إذا تغيب ملتاثٍ إذا حضرا2
إذا تنسم ريح الغدر قابلها ... حتى إذا نفخت في انفه غدراً
ومن يجيء على التقرب منك له ... وأنت تعرف فيه الميل والصعرا
أحلك الله من قحطان منزلةً ... في ا لرأس حيث احل السمع والبصرا
فلا تضع حق قحطان فتغضبها ... ولاربيعة كلا لا ولا مضرا
أعط الرجال على مقدار أنفسهم ... وأول كلا بما أولى وما صبرا
ولا تقولن وإني لست من أحد ... لا تمحق النيرين الشمس والقمرا
ويقول له في أخرى:
هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
هي الأنفس الكبر التي إن تقدمت ... أو استأخرت فالقتل بالسيف داؤها
سيعلم إسماعيل انه عداوتي ... له ريق أفعى لايصاب دواؤها
ولما حمل إسماعيل مقيداً ومعه أبناه أحدهما في سلسلة مقروناً معه، وكان الذي تولى ذلك أحمد بن أبي خالد في قصة كانت لإسماعيل أيام الخضرة3 فقال ابن أبي عيينه في ذلك:
مرّ إسماعيل وابنا ... ه معاً في الأسراء
جالساً في محملٍ ضن ... كٍ على غير وطاء
يتغنى القيد في رجـ ... ـليه ألوان الغناء
ـــــــ
1 يهدب: يقطع.
2 المنتكث: الهزيل، والملتاث: البطىء.
3 قال المر صفى: "أيام الخضرة هي الأيام التي أمر المأمون في جنده وقواده وبنى هاشم أن تطرح شعار السواد، وأن تلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم يوم أن جعل على بن موسى بن جعفر ولى عهد المسلمين من بعده وسماه الرضا". رغبة الآمل 141: 4.

باكياً لا رقأت عيـ ... ـناه من طول البكاء
يا عقاب الدّجن في الأمـ ... ـن وفي الخوف ابن ماء 1
وقد كان تطير عليه بمثل ما نزل به، فمن ذلك قوله:
لا تعدم العزل يا أبا الحسن ... ولا هزالاً في دولة السمن
ولا انتقالاً من دار عافيةٍ ... إلى ديار البلاء والفتن
ولا خروجاً إلى القفار من الـ ... أرض وترك الأحباب والوطن
كم روحه فيك لي مهجرةٍ ... ودلجةٍ في بقية الو سن
في الحر والقرّ كي تولى على الـ ... بصرة عين الأمصار والمدن
إني أحاجيك يا أبا حسنٍ ... ما صورةٌ صورت فلم تكن?
وما بهيّ في العين منظره ... لو وزنوه با لزّفّ لم يزن?2
ظاهره رائعٌ وباطنه ... ملآن من سوءٍ ومن درن3
وهذا الشعر اعترض له فيه عمر بن زعبل، مولى بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وكان منقطعاً إلى إسماعيل وولده، وكان لا يبلغ ابن أبي عيينه في الشعر ولا يدانيه، ومن أمثل شعره وما اعترض له به قوله:
إني أحاجيك ما حنيفٌ على الـ ... فطرة باع الرباح بالغبن
وما شييخٌ من تحت سدرته ... معلقٌ نعله على غصن?
ما سيوفٌ حمرٌ مصقلةٌ ... قد عرّيت من مقابض السفن4?
وما سهامٌ صفرٌ مجوّفةٌ ... تخشى خيوط الكتان والقطن?
وما ابن ماءٍ إن يخرجوه إلى الأر ... ض تسل نفسه من الأذن?
وما عقاب زوراء تلحم من ... خلف فتهوي قصداً على سنن?5
لها جناحان يحفزان بها ... نيطاً إليها بجذوتي وسن
يا ذا اليمينين اضرب علاوته6 ... يدفع وماني في النار في قرن7
ـــــــ
1 طائر بألف الماء.
2 الزف: ريش النعام.
3 الدرن هنا: الدنس.
4 السفن بالتحريك: جلد خشن غليظ يكون على قوائم السيوف.
5 زيادات ر: "قيل السفينة، وقيل الراية، وهو أصح؛ لأن جده حبس راية طاهر بن الحسين ثلاثة أعوام".
6 العلاوة: الرأس.
7 زيادات ر: قوله: "ومانى في النار في قرن" مانى: اسم علم، وكان رأسا من رءوس الزنادقة".

فأجاب إبراهيم السواق مولى آل المهلب وكان مقدماً في الشعر بأبيات لا أحفظ اكثرها، منها:
قد قبل ما قيل في أبي حسن ... فانتحروا في تطاول الزمن
وهذا السواق هو الذي يقول لبسر بن داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب:
سماؤك تمطر الذهبا ... وحربك تلتظي لهبا
وأي كتيبةٍ لاقتـ ... ـك لم تستحسن الهربا
ومن شعره السائر:
هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت!
ولابن أبي عيينه في هذا المعنى أشعار كثيرة في معاتبات ذي اليمينين وهجاء إسماعيل وغيره، سنذكرها بعد في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومن شعره المستحسن قوله في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج امرأة منهم يقال لها فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد1، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة، ولم يلده المهلب، وكان يقال لأبي صفرة ظالم ين سرّاق:
أفاطم قد زوجت عيسى فأيقني ... بذل لديه عاجلٍ غير آجل
فإنك قد زوجت من غير خبرةٍ ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفاه منك بطائل ... وما ظفرت كفاك منه بطائل
وقد قال فيه جعفر ومحمدٌ ... أقاويل حتى قالها كل قائل
وما قلت ما قالا لأنك أختنا ... وفي السر منا والذرا والكواهل
لعمري لقد أثبته في نصابه ... بأن صررت منه في محلل الحلائل
إذا ما بنو العباس يوماً تبادروا ... عرا المجد وابتاعوا كرام الفضائل
ـــــــ
1 زيادات ر: وقعت الرواية كما في الأصل، وصوابه: "هزاذ مرد" بالزاى والذال معجمة، ولا خلاف في الزاى".

رأيت أبا العباس يسمو بنفسه ... إلى بيع بياحاته والمباقل1
يرخم بيض العام تحت دجاجه ... ليخرج بيضاً من فراريج قابل
وقال أبو العباس: وولد عيسى من فاطمة هذه لهم شجاعةٌ ونجدةٌ وشدة أبدان، وفاطمة التي ذكرها هي التي كان ينسب بها أبو عيينه أخو عبد الله ويكني عنها بدنيا، ومن ذلك قوله لها:
دعوتك بالقرابة والجوار ... دعاء مصرحٍ بادي السرار
لأني عنك مشتغل بنفسي ... ومحترقٌ عليك بغير نار
وأنت توفرين وليس عندي ... على نار الصبابة من وقار
فأنت لأن ما بك دون ما بي ... تدارين العيون ولا أدري
ولو والله تشتاقين شوقي ... جمحت إلي خالعة العذار
وقال عبد الله يعاتب ذا اليمينين:
من مبلغ عني الأمير رسالةً ... محصورةً عندي عن الإنشاد
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحساد
وأظن لي منها لديك خبيثةً ... ستكون عند الزاد آخر زاد
مالي أرى أمري لديك كأنه ... من ثقله طود من الأطواد!
وأراك ترجيه وتمضي غيره ... في ساعة الإصدار والإيراد
الله يعلم ما أتيتك زائراً ... من ضيق ذات يد وضيق بلاد
لكن أتيتك زائراً لك راجياً ... بك رتبة الآباء والأجداد
قد كان لي بالمصر يومٌ جامعٌ ... لك مصلحٌ فيه لكل فساد
ودعوت منصوراً فأعلن بيعةً ... في جمع أهل المصر والأجناد
في الأرض منفسحٌ ورزق واسع ... لي عنك في غوري وفي إنجادي
وقال أيضاً يعاتبه:
أيا ذا اليمينين إن العتا ... ب يغري صدوراً ويشفي صدوراً
وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر ألا يضيرا
ـــــــ
1 البياحة: شبكة تحبس البياح، وهو نوع من السمك، والمباقل: مواضع بيع البقل.

إلى أن ظننت بأن قد ظننت ... بأني لنفسي أرضى ألا الحقيرا
فأضمرت النفس في وهمها ... من الهم هما يكد الضميرا
ولابد للماء في مرجل ... على النار موقدة أن يفورا
ومن أشرب اليأس كان الغني ... ومن أشرب الحرص كان الفقيرا
علام وفيم أرى طاعتي ... لديك ونصري لك الدهر بورا
ألم أك بالمصير أدعو البعيد ... إليك وأدعو القريب العشيرا
ألم اك أول آتٍ أتاك ... بطاعة من كان خلفي بشيرا
وألزم غرزك في ماقط الـ ... ـحروب عليها مقيماُ صبوراً1
ففيم تقدم جفالةً ... إليك أمامي وأدعي أخيرا2
كأنك لم تر أن الفتى الـ ... حمي إذا زار يوماً أميرا
فقدم من دونه قبله ... ألست تراه يسخطٍ جديراً!
ألست ترى أن سف التراب ... به كان أكرم من أن يزورا
ولست ضعيف الهوى والمدى ... أكون الصبا وأكون الدبورا
ولكن شهاب فإن ترم بي ... مهما تجد كوكبي مستنيراً
فهل لك في الإذن لي راضياً ... فإني أرى الإذن غنماً كبيرا
وكان لك الله فيما ابتعثت ... له من جهاد ونصر نصيراً
ولاجعل الله في دولةٍ ... سبقت إليها وريح فتورا
فإن ورائي لي مذهباً ... بعيداً من الأرض قاعاً وقورا3
به الضب تحسبه بالفلاة ... إذا خفق الآل فيها بعيرا
ومالاً ومصراً على أهله ... يد الله من جائر أن يجورا
وإني لمن خير سكانه ... وأكثرهم بنفيري نفيراً
وقال عبد الله لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان دعاه إلى نصرته حين ظهرت المبيضة4 فم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد الله:
ـــــــ
1 الغرز: مساك رجل الركب. والمأقط: المضيق في الحرب.
2 الجفالة: كثير الجفول.
3 القاع: الأرض المستوية لانبات فيها. والقور: جمع قارة، وهي قمة الجبل.
4 قال المرصفى: "المبيضة قوم من أعداء الدولة العباسية، جعلوا شعارهم بيض الثياب يخالفون به شعار بنى العباس من لبس السواد".

أعلي إنك جاهل مغرور ... لاظلمةٌ لك، لا ولا لك نود
أكتبت توعدني إذا استبطأتني ... إني بحربك ما حييت جدير
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطين أجنحة البعوض يضير
وإذا ارتحلت فإن نصري للألى ... أبوهم المهدي والمنصور
نبتت عليه لحومنا ودماؤنا ... وعليه قدر سعينا المشكور
وقال عبد الله قتل داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب من قتل بأرض السند بدم أخيه المغيرة بن يزيد:
أفنى تميماً سعدها وربابها ... بالسند قتل مغيرة بن يزيد
صعقت عليهم صعقةٌ عتكيةٌ1 ... جعلت لهم يوماً كيوم ثمود
ذاقت تميمٌ عركتين عذابنا ... بالسند من عمر ومن داود
قدنا الجياد من العراق إليهم ... مثل القطا مستنةً لورود2
يحملن من ولد المهلب عصبةً ... خلقت قلوبهم قلوب أسود
وفي المغيرة يقول في قصيدة مطولة:
إذا كر فيهم كرةً أفر جواله ... فرار بغاث الطير صادفن أجدلا
وما نيل إلا من بعيد بحاصبٍ ... من النيل والنشاب حتى تجدلا
وإني لمثن بالذي كان أهله ... أبو حاتم إن ناب دهر فأعضلا
فتى كان يستحيي من الذم أن يرى ... له مخرجاً يوماً عليه ومدخلاً
وكان يظن الموت عاراً على الفتى ... يد الدهر إلا أ، يصاب فيقتلا
منيّة أبناء المهلب أنهم ... يرون بها حتماً كتاباً معجلاً
وقد أطلق الله اللسان بقتل من ... قتلنا به منهم ومنّ وأفضلا
أناخ بهم داود يصرف نابه ... ويلقي عليهم كللاً ثمّ كللاً
يقتلهم جوعاً إذا ما تحصنوا ... وتقربهم هوج المجانيق جندلا
وهذا الشعر عجيب من شعره.
ـــــــ
1 عتكية: منسوبة إلى جده الأكبر عتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن ماء السماء. رغبة الآمل 151: 4.
2 مستنة: مسرعة في طيرانها.

وفي هذه القصة يقول:
أبت إلا بكاءً وانتحابا ... وذكرا للمغيرة واكتئاباً
ألم تعلم بأن القتل ورد ... لنا كالماء حين صفا وطابا
وقلت لها: قري وثقي بقولي ... كأنك قد قرأت به كتابا
فقد جاء الكتاب به فقولي ... ألا لا تعدم الرّأي الصّوابا
جلبنا الخيل من بغداد شعثاً ... عوا بس تحمل الأسد الغضابا
بكل فتى أعزّ مهلّبيّ ... تخال بضوء صورته شهاباً
ومن قحطان كل أخي حفاظٍ ... إذا يدعى لنائبه أجايا
فما بلغت قرى كرمان حتى ... تخدّد لحمها عنها فذابا
وكان لهنّ في كرمان يوم ... أمر على الشراة بها الشرابا1
وإنّا تاركون غداً حديثاً ... بأرض السّند سعداً والرّبابا
تفاخر بابن أحورها تميمٌ ... لقد حان المفاخر لي وخابا
وفي مثل هذا البيت الأخير يقول أبو عيينه:
أعاذل صه لست من شيمتي ... وإن كنت لي ناصحاً مشفقا
أراك تفرقني دائباً ... وما ينبغي لي أن أفرقا2
أنا ابن الذي شاد لي منصباً ... وكان السّماك إذا حلقا
قريع العراق وبطريقهم ... وعزهم المرتجى المتّقى
فمن يستطيع إذا ما ذهبـ ... ـت أنطق في المجد أن ينطقا
أنا ابن المهلب ما فوق ذا ... لعالٍ إلى شرفٍ مرتقى
فدعني أغلب ثياب الصبا ... بجدّتها قبل أن تخلقا
قال أبو الحسن: وهذا شعر حسنٌ، أوله:
ألم تنه نفسك أن تعشقا ... وما أنت والعشق لولا الشّقا
أمن بعد شربك كأس النّهى ... وشمك ريحان أهل النّقا
عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقّا
ـــــــ
1 الشراة: جماعة من الخوارج.
2 تفرقنى: تخوفنى.

ثم قال:
أعاذل صه لست من شيمتي
ثم قال بعد قوله:
فدعني أغلي ثياب الصّبا
أدنياي من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا لك عبدٌ فكوني كمن ... إذا سره عبده أعتقا
وقال أبو الحسن: قوله "أنا لك عبدٌ" فوصل بالألف، فهذا إنما يجوز في الضرورة، والألف تثبت في الوقف لبيان الحركة، فلم يحتج إلى الألف، زمن أثبتها في الوصل قاسه على الوقف للضرورة، ظن كقوله:
فإن يك غثّاً أو سميناً فإنّني ... سأجعل عيينة لنفسه مقنعا
لأنه إذا وقف على الهاء وحدها، فأجرى الوصل على الوقف، وأنشدوا قول الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عاراً
والرواية الجيدة:
فكيف يكون انتحالي القواف بعد المشيب
سقى الله دنيا على نأيها ... من القطر منبعقاً ريّقاً
ألم أخدع النّاس عن حبّها ... وقد يخدع الكيس الأحمقا
بلى وسبقتهم إنّني ... أحب إلى المجد أن اسبقا
ويوم الجنازة إذا أرسلت ... على رقبةٍ أن جيء الخندقا
إلى السال فاختر لنا مجلساً ... قريباً وإياك أن تخرقا
هذا مما يغلط فيه عامة أهل البصرة، يقولون: السال بالخفيف، وإنما هو السال يا هذا، وجمعه سلاّن، وهو الغالّ وجمعه غلاّنٌ، وهو الشّقّ الخفيّ في الوادي:
فكنّا كغصنين من بانةٍ ... رطيبين حدثان ما أورقا
فقالت لترب لها استنشديـ ... ـه من شعره الحسن المنتقى

فقلت أمرت بكتمانه ... وحذرت إن شاع أن يسرقا
فقالت بعيشك! قولي له ... تمتّع لعلّك إن تنفقا
قوله: "لعلك أن تنفقا" اضطرار، وحقه "لعلك تنفق". لأن لعلّ من أخوات إن فأجريت مجراها، ومن أتى بأن فلمضارعتها عسى، كما قال متمم بن نويرة:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الللاّئي يدعنك أجدعا
وهو كثير.
قال أبو العباس: وزعم أبو معاذ النميري أنه يعتاد عبد الله بن محمد بن أبي عيينة، ويكثر المقام عنده، وكان راوية للشعره، وأم أبن أبي عيينة بن المهلب يقول لها: خيرة وهي من بني سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، فأبطأت عليه أياماً فكتب إلي:
تمادى في الجفاء أبو معاذ ... وراوغني ولاذ بلا ملاذ
ولولا حق أخوالي قشير ... أتته قصائد غير اللّذاذ
كما راح الهلال بن حرب ... به سمة على عنق وحاذ1
يعني محمد بن حرب بن قبيصة بن مخارق الهلالي، وكان من أقعد الناس.
ولقبيصة بن المخارق صحبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد سار إليه فأكرمه وبسط له رداءه وقال: "مرحباً بخالي"!، فقال: يا رسول الله، رق جلدي، ودق عظمي، وقلي مالي، وهنت على أهلي! فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد أبكيت بما ذكرت ملائكة المساء".
ومحمد بن حرب هذا ولي شرطة البصرة سبع مرات، وكان على شرطة جعفر بن سليمان على المدينة، وكان كثير الأدب فأغضب، ابن أبي عيينة
ـــــــ
1 الحاذ: الظهر.

في حكم جرى عليه بحضرة إسحاق بن عيسى - وكان على شرطته إذا ذاك - ففي ذلك يقول عبد الله بم أبي عيينة:
بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريشٌ ملكها وبها تهاب
متى ما أدع أخوالي لحرب ... وأعمامي لنائبه أجابوا
أنا أبن أبي عيينة فرع قومي ... وكعب والدي وأبي كلاب
خلا ابن عكابة الظربان سهل ... له فسو تصاد به الضّباب
وآخر من هلال قد تداعى ... فصار كأنه الشّيء الخراب

باب نبذ من أقوال الحكماء
...
قال أبو العباس: كان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلةٌ قال: سحابة ثم تنقشع.
وكان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الوجع.
قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت.
للعتبي يذكر ابناً له مات
وقال العتبّي محمد بن عبد الله، يذكر ابناً له مات:
أضحت بخدّي للدّموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد فيا لمصائب كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وقال أبو العباس: وأحسب أنّ حبيباً الطائي سمع هذا فاسترقه في بيتين: أحدهما قوله في إدريس بن بدر الشامي:
دموع أجابت داعي الحزن همّع ... توصل منّا عن قلوب تقطّع
وقد كان يدعى لابس الصّبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجذع
والآخر قوله:
قالوا الرّحيل! فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلاً
الصّبر اجمل غير أن تلذّذاً ... في الحب أحرى أن يكون جميلاً
وقال سابق البربري:
وإن جاء ما لا تستطيعان دفعه ... فلا تجرعا مما قضى الله واصبرا
وقال آخر أيضاً:
اصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئٍ عيشٌ يسرّ به ... إلاّ سيتبع يوماً صفوة كدر

خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة
وكان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقّاءات!وقال التّوّزيّ: فكان خالد بن صفوان بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب، وكفّ بصره فكان إذا مرّ به موكب بلال يقول: ما هذا? فيقال له: الأمير، فيقول خالد:
سحابة صيفٍ عن قليل تقشّع
فقيل ذلك لبلال،فاجلس معه من يأتيه بخبرة، ثم مرّ به بلال، فقال خالد كما كان يقول، فقيل ذلك لبلال،فأقبل على خالد فقال: لا تقشّع والله حتى تصبيك منها بشؤبوب بردٍ! فضربه مائتي سوط. وقال بعضهم: بل أمر به فديس بطنه.
قوله: "بشؤبوب" مهزوم، وهو الدّفعة من المطر بشدة، وجمعه شآبيب. وقال النابغة يخاطب القبيلة:
ولا تلاقي كما لاقت بنو أسدٍ ... فقد أصابهم منها بشؤبوب
يريد ما نال بني أسد من غارة النعمان عليهم، وضرب الشؤبوب مثلاً للغارة، والغارة تضرب لذلك مثلاً، كما يقال شنّ عليهم الغارة، أي صبها عليهم، قال ابن هرمة:
كم بازلٍ قد وجأت لبّتها ... بمستقبلّ الشؤبوب أو جمل
يريد ما وجأها به من جديدة، يقول: لمّا وجأتها دفعت بشؤبوب من الدم، فكأنه قال: بسنان مستهل الشؤيوب، أما ما أشبه بذلك.

خالد بن صفوان وسليمان بن علي
وكان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول قال، فيقال: إن سليمان بن علي سأله عن ابنيه جعفر ومحمدٍ، فقال: كيف إحمادك جوار همايا أبا صفوان?فقال:
أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيا لك جاري ذلّة وصغار!

ش قوله: أبو مالك، صوابه أبو نافع وهو مولى لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فأعرض عنه سليمان، من أحلم الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعم الخليفة المنصور، والشعر الذي تمثل به خالد ليزيد بن مفرّغ الحميري، قال:
سقى الله داراً لي وأرضاً تركتها ... إلى جنب داري معقل بن يسار
أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيالك جاري ذلّة وصغار!
وكان الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه: فإن عرض له القول نظر، فإن كان له أن يقول قال، وإن كان عليه القول أمسك،ولسان الأحمق أمام قلبه،فإذا عرض له القول قال، كان عليه، أو له.
وخالدٌ لم يكن يقول الشّعر. ويروى أنه وعد الفرزدق شيئاً فأخّره عنه، وكان خالد أحد البخلاء، فمر به الفرزدق فهدّده،فامسك عنه حتى جاز الفرزدق، ثم أقبل على أصحابه فقال: عن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى ثم أقبل على أصحابه فقال: إن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى سلحاً، وقال: إن عمرتم سطحي، وإلا نضحتكم بسلحي!

من أخبار إياس بن معاوية
وقال إياس بن معاوية المزنّي أبو واثلة - وكان أحد العقلاء الدّهاة الفضلاء - لخالد: لا ينبغي أن نجتمع في مجلس، فقال له خالد: وكيف يا أبا واثلة? فقال: لأنك لا تحب أن تسكت، وأنا لا أحب أن أسمع!
وخاصم إلى إياس رجلٌ رجلاً في دينٍ وهو قاضي البصرة، فطلب منه البينة، فم يأته بمقنع، فقيل للطالب: استجر وكيع بن أبي سودٍ حتى يشهد لك، فإن إياساً لا يجترئ على رد شهادته، ففعل، فقال وكيعٌ: فهم إياسٌ عنه فأقعده إلى جانبه، ثم سأله عن حاجته، فقال: جئت شاهداً، فقال له: يا أبا المطرف، أتشهد

كما تفعل الموالي والعجم? أنت تجل عن هذا? فقال: إذن والله لاأشهد، فقيل لوكيع بعد: إنما خدعك، فقال أولى لابن اللّخناء!
وشهد رجل من جلساء الحسن بشهادة عند إياس فرده، فشكا الرجل ذلك إلى الحسن فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة فلان? فقال: يا أبا سعيد، إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1 وليس فلان ممن أرضى.
ـــــــ
1 سورة البقرة 282.

من أخبار أبي دلامة
واختلف نصرانيّ إلى أبي دلامة مولى بني أسد يتطبّب لابنٍ له، فوعده إن برأ على يديه أن يعطيه ألف درهم، فبرأ ابنه، فقال للمتطبّب: إن الدراهم ليست عندي، ولكن والله لوصّلنّها إليك، ادّع على جاري فلان هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس د ون أخذها شيء، فصار النصرانيّ بالجار إلى ابن شبرمة، فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فلمال جلس بين يديه قال أبو دلامة:
إن النّاس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن يحثوني كان فيهم مباحث
وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ... ليعلم قومٌ كيف تلك النّبائث
فقال ابن شبرمة: من ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة? ثم قال للمدّعي: قد عرفت شاهديك! فخل عن خصمك، ورح العشيّة إليّ، فراح إليه فغرمها من ماله.

من أخبار عبيد الله بن الحسن العنبري
وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبري على شهادة، ورجل عدل. فقال عبيد الله للمدّعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شاهداً.
وكان عبيد الله أحد الأدباء الفقهاء الصّلحاء. وزعم ابن عائشة قال: عتبت عليه مرة في شيء، قال: فلقيني يدخل من باب المسجد يريد مجلس الحكم، وأخرج فقلت معرضاً به:

طمعت بليلى ان تريع وإنّما ... تقطع أعناق الرجال المطامع
فأنشدني معرّضاً تاركاً لما قصدت له:
وباينت ليلى في خلاءٍ ولم يكن ... شهود على ليلى عدولٌ مقانع
وكان ابن عائشة يتحدث عنه حديثاً عجيباً، ثم عرف مخرج ذلك الحديث.وذكر ابن عائشة ، وحدثني عنه جماعة لا أحصيهم كثرة: أن عبيد الله بن الحسن شهد عنده رجل من بني نهشل على أمر أحسبه ديناً فقال له: أتروي قول الأسود بن يعفر: نام الخلي فما أحسن رقادي.
فقال له الرجل : لا! فردّ شهادته وقال: لو كان في هذا خير روى شرف.

من أخبار سوار بن عبد الله
فحدثني شيخ من الأزد حديثاً ظننت أن عبيد الله إياه قصد، قال: تقدم رجل إلى سوّار بن عبد الله وسوّار ابن عم عبيد الله بن الحسن-يدّعي داراً، وامرأةٌ تدافعه وتقول لسوّار: إنها والله خطّةٌ ما وقع فيها كتاب قط. فأتى المدعي بشاهدين يعرفهما سوّار، فشهدا له بالدار، وجعلت المرأة تنكر إنكاراً يعضده التصديق، ثم قالت: سل عن الشهود، فإن الناس يتغيرون، فردّ المسألة، فحمد الشاهدان. فلم يزل يريّث أمولاهم، ويسأل الجيران، فكلّ يصدّق المرأة، والشاهدان قد ثبتا، فشكا ذلك إلى عبيد الله. فقال له عبيد الله: أنا أحضر مجلس الحكم معك فآتيك بالجليّة إن شاء الله تعالى، فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما، ولكن أنا أسألكما. قال: فقالا: أراد هذا أن يحجّ فأدارنا على حدود الدار من خارج، وقال: هذه داري، فإن حدث بي حادث فلتبع ولتقسم على سبيل كذا، قال: أفعندكما غير هذه الشهادة? قالا: لا، فقال: الله أكبر!وكذا ولو أدرتكما دارعلى سوّار، وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي? ففهما أنهما قد اغترّا، فكان سوّار إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز العدالة هو؟ فظننت أن عبيد الله رأى في الشاهد غفلة فاختبره بهذا وما أشبهه.

وحدثني أحد أصحابنا أن رجلاً من الأعراب تقدم إلى سوّار في أمر فلم يصادف عنده ما يحبّ، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي، وكانت في يده عصاً:
رأيت رؤيا ثمّ عبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا
بأنّني أخيط في ليلتي ... كلباً فكان الكلب سوّار
ثم انحنى على سوّار بالعصا فضربه حتى منع منه، قال: فما عاقبه سوّار بشيء.
قال: وحدّثت أن أعرابياً من بني العنبر سار إلى سوّار فقال: عن أبي مات وتركني وأخاً لي- خطين في الأرض- ثم قال: وهجينا- وخط خطّا ناحية- فكيف نقسم المال? فقال: أههنا وراثٌ غيركم? قال: لا، قال: المال بينكم أثلاثاً، فقال: لا أحسبك فهمت عني! إنه تركني وأخي وهجيناً لنا، فقال سوّار: المال بينكم اثلاثاً، قال: فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ، وكما يأخذ أخي! قال: أجل! فغضب الأعرابي، قال: صم أقبل على سوّار فقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدّهناء، فقال سوّار: إذا لا يضيرني ذلك عند الله شيئاً1.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قيل إنه ليس بالدهناء أمة، وإنما كان فيها الحرائر".

أنفة عقيل بن علفة
وكان عقيل بن علّفة من المغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحدٌ علمناه، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات فقال: أما إذ كنت فاعلاً فجنّبني هجاءك. وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة-وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة، وكان أبيض شديد البياض- فردّه عقيلّ وقال:
رددت صحيفة القرشيّ لما ... أبت أعراقه إلاّ احمرارا
وكانت حفصة بنت عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله قد ميت عنها، فخطبها جماعة من قريش، أحدهم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأحدهم إبراهيم بن هشام، فكان أخوها محمد بن عمران، إذا دخل إلى إبراهيم بن هشام أوسع له وأنشده:
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
أحبك أن نزلت جبال حسمى ... وأن ناسبت بثينة من قريب
وهذا الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر الذري، فأما جميل بن معمرٍ الجمحيّ فلا نسب بينه وبين معمر، أي ليس بينه وبين أبٌ آخر، وكانت له صحبةٌ، وكان خالصاٌ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب
ويروى عن عبد الرحمن عوف أنه قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رحمه الله، فسمعه ينشد بالرّكبانيّة1:
وكيف ثواني بالمدينة بعدما ... قضى وطرأ منها جميل بن معمر
فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ماقلت? فقلت: نعم! فقال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
قال ش: وهم أبو العباس رحمه الله في هذا، وإنما القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي سمععبد الرحمن بن عوف ينشد.
ـــــــ
1 الركبانية: غناء للعرب فيه مد وتمطيط. "رغبة الآمل".

لأبي خراش وكان قد قتل أخاه جميل بن معمر
وكان جميل بن معمر الجمحيّ قتل أخا لبي خراش الهذلي يوم فتح مكة وأتاه من ورائه وهو موثق، فضربه، ففي ذلك يقول أبو خراش:
فأقسم لو لاقيته غير موثقٍ ... لآ بك بالعرج الضّباع النّواهل
لكان جميل أسوأ النّاس صرعةً ... ولكنّ أقران الظهور مقاتل
فليس كعهد الدّار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالزقاق السّلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل

قوله: "أسوء الناس صرعة"، أي الهيئة التي يصرع عليها كما تقول: جلست جلسة وركبت ركبة، وهو حسن الجلسة والرّكبة، أي الهيئة التي يجلس عليها ويركب عليها، وكذلك القعدة والنّيمة. وقوله لآبك، أي لعادك، وأصل هذا من الإياب والرّجوع، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} 1،وقال عبيد بن الأبرص2:
وكلّ ذي غيبةٍ يؤوب
وقوله: بالعرج، فهو ناحية من مكة، به ولد عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفّان، فسمّي العرجيّ، ويقال: بل كان له مال بذلك الموضع، فكان يقيم فيه.
وقال ش: هذا وهم من أبي العباس رحمه الله، وأما صوابه فعبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
والنّواهل فيه قولان: أحدهما العطاش وليس بشيء والآخر الذي قد شرب شربةً فلم يرو، فاحتاج إلى ان يعلّ، كما قال امرؤ القيس:
إذا هنّ أقساطٌ كرجل الدّبى ... أو كقطا كاظمة النّاهل3
وقوله: "احاطت بالرقاب السلاسل"، يقول: جاء الإسلام فمنع من الطلب بالأوتار إلا على وجهها. وكان يقال: إن اول من أظهر الجور من القضاة في الحكم بلال بن أبي بردة وكان أمير البصرة وقاضيها، وفي ذلك يقول رؤبه4:
وأنت يا ابن القاضيين قاض
وكان بلال يقول: عن الرجلين ليقدّمان إليّ فأجد أحدهما على قلبي أخفّ فاقضي له.
ـــــــ
1 سورة الغاشية 25.
2 بقيته كما في زيادات ر:
وغائب الموت لا يئوب
3 أقساط: قطع. الدبى: جماعة الجراد.
4 بعده كما في زيادات ر:
معتزم على الطريق ماض

بلال بن أبي بردة وعمر بن عبد العزيز
ويروى أن بلالاً وفد على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فسدك" ش: معناه لصق" بساريةٍ من المسجد، فجعل يصلّي إليها ويديم الصلاة، فقال عمر بن عبد العزيز للعلاء بن المغيرة بن البندار: ان يكن سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع، فقال العلاء: أنا آتيك بخبره، فاتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجةً، ففعل، فقال العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي? قال: لك عمالتي1 سنة، وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارقدّ2 بلال إلى منزله، فأتى بداوة وصحيفة فكتب له بذلك.
فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه، كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وكان والي الكوفة أما بعد: فإن بلالاً غرّنا بالله، فكدنا نغترّ، فكسبناه فوجدناه خبثاً كلّه، والسلام.
ويروى أنه كتب إلي عبد الحميد: إذا ورد عليك كتابي هذا فلا تستعن على عملك بأحد من آل أبي موسى.

شعر ذي الرمة في بلال
قال أبو العباس: وكان بلال داهيةً لقناً أدبياً، ويقال: إن ذا الرّمة لمّا أنشده:
سمعت، النّاس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
تناخي عند خير فتى يمانٍ ... إذا النّكباء ناوحت الشّمالاً
فلما سمع قوله:
فقلت لصيدح انتجعي بلالا
قال: يا غلام، مر لها بقتّ ونوىّ، أراد أن ذا الرّمّة لايحسن المدح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "العمالة؛ بضم العين: أجره العامل".
2 زيادات ر: "معناه: أسرع".

قوله: "سمعت الناس ينتجعون" حكاية، والمعنى إذا حقّق إنما هو سمعت هذه اللفظة، أي قائلاً يقول: "الناس ينتجعون غيثاً"، ومثل هذا قوله:
وجدنا في كتاب بني تميمٍ ... أحقّ الخيل بالرّكض المعار
فمعناه: وجدناه هذه اللفظة مكتوبة، فقوله: "أحق الخيل" ابتداء، "والمعار" خبره، وكذلك "الناس" ابتداء، و"ينتجعون" خبره. ومثل هذا في الكلام: قرأت "الحمد لله رب العالمين"، إنما حكيت ما قرأت، وكذلك قرأت على خاتمه "الله أكبر" يا فتى، فهذا لا يجوز سواه.
وقوله: "إذا النكباء ناحت الشّمالا" فإن الرياح أربع، ونكباواتها أربع، وهي الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الّمال والصّبا، أو الشّمال والدّبور، أو الجنوب والدّبور،أو الجنوب والصّبا، فإذا كانت النّكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء. ومعنى "تناوح" تقابل، يقال: تناوح الشّجر إذا قابل بعضه بعضاً، وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها.
وقال يحيى بن نوفل الحميري - ويقال إنه لم يمدح أحدا قط:
فلو كنت ممتدحاً للنّوال ... فتى لامتدحت عليه بلالاً
ولكنّني لست ممّن يريد ... بمدح الرّجال الكرام السّؤالا
سيكفي الكريم إخاء الكريم ... ويقنع بالود منه نوالا
ومن احسن ما امتدح به ذو الرّمة بلالا، قوله:
تقول عجوزٌ مدرجي متروّحاً ... على بيتها من عند أهلي وغاديا
أذو زوجةٍ بالمصر أم ذو خصومةٍ ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها: لا عن أهلي لجيرةٌ ... لأكثبة الدّهنا جميعاً وماليا1
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أرجع فيها يا ابنة الخير قاضي
ولكنّني أقبلت من جانبي قساٌ ... أزور فتى نجداً كريماً يمانيا
من آل أبي موسى عليه مهابةٌ ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا
مرمّين من ليثٍ عليه مهابة ... تفادى أسود الغاب منه تفاديا
ـــــــ
1 زيادات ر: قوله "لا" لحن، وهذا اللحن راجع على المرأة؛ لأن "لا" لا تقع إلا في جواب "أو" وإنما سألته بأم، وهي لم يستقر عندها علم.

وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبةٌ هي ماهيا
وقوله: "مدرجي" يقول: مروري، فأما قولهم في المثل: خير من دبّ ومن درج، فمعناه: منحيي ومن مات، يريدون: من دب على وجه الأرض ومن درج منها فذهب.
وقوله:
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فإنه في هذا المعنى: ثوى الرجل فهو ثاوٍ،يا فتى، إذا أقام، وهي أكثر، ويقال: أثوى فهو فهو مثوٍ يا فتى، وهي أقل من تلك، قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلةً ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيله موعداً
وقوله: "قسا" فهو موضع من بلاد بني تميم. وقوله: "لأكثبة الدهنا"، فأكثبةٌ جمع كثب، وهو أقل العدد، والكثير كثبانٌ والدّهنا من بلادي بني تميم، ولم أسمع إلا القصر من أهل ا لعلم والعرب، وسمعت بعد من يروي مدّها ولا أعلافه, قال ذو الرمة:
حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها ... أمي هلالاً على التوفيق والرّشد
يعني هلال بن أحوز المازني، وقال جرير:
بازٍ يصعصع بالدّهنا قطاً جونا
وقوله:
كأنهم الكروان أبصرن بازيا.
فالكروان جماعة كروانٍ، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله، ولكنه على حذف الزيادة، فالتقدير: كراً وكروانٌ، كما تقول: أخٌ وإخوانٌ وورلٌ وورلانٌ، وبرق وبرقانٌ، والبرق أعجمي ولكنه قد أعرب وجمع كما تجمع العربية، واستعمل الكروان جمعاً على حذف الزيادة، واستعمل في الواحد كذلك، تقول العرب في مثلٍ من أمثالها:
أطرق كرا أطرق كرا ... إنّ النّعام في القرى

يريدون الكروان.
وقوله:
من آل أبي موسى ترى القوم حوله
فقال: ترى، ولم يقل ترين، وكانت المخاطبة أولاً لامرأة، ألا تراه يقول:
ومما كنت مذ أبصرتني في خصومةٍ ... أراجع فيهالا يا ابنة الخير قاضياً
ثم حوّل المخاطبة إلى رجل، والعرب تفعل ذلك، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 1، فكأن التقدير والله اعلم كان للناس، ثم حولت المخاطبة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عنترة بن شدّاد:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً عليّ طلابك ابنة مخرم
وقال جرير:
ما للمنازل لا تجيب حزننا ... أصممن قدم المدى قبلينا
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... وإذا اردن هواك عصينا
قال أولاً لرجل، ثم قال: سوى هوالك. وقال آخر:
فدىً لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
على تحويل المخاطبة.
وقوله: "مرمّين"، يريد سكوتاً مطرقين، بقال: أرم إذا أطرق ساكتاً.
وقوله: "تفادى أسود الغاب" معناه تفتدي منه بعضها ببعض. الخبر أن سليمان بن عبد الملك أمر بدفع عيال الحجاج ولحمته إلى يزيد بن المهلب فتفادى منهم، تأويله: فدى نفسه من ذلك المقام بغيره. وقوله:
وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا
إذا رفعت "هيبة" فالمعنى: ولكن أمره هيبةٌ، كما قال الله عز وجل: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} 2 ، أي ذلك بلاغ، ومثله قوله عزّ وجل:
ـــــــ
1 سورة يونس 22.
2 سورة الأحقاف 35.

{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} 1، يكون رفعة على ضربين، أحدهما أمرنا طاعة وقول معروف، والوجه الآخر طاعةٌ وقولٌ معروف أمثل. ومن نصب هيبة أراد المصدر،أي ولكن يهاب هيبةً.
وأحسن ما قيل في هذا المعنى:
يغضي حياءً ويغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وقال الفرزدق، يعني يزيد بن المهلب:
وإذا الرّجال رأوا بزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار
وفي هذا البيت شيء من يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فواعل،لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضارب وضوارب، وقاتل وقواتل،لأنهم يقولون في جمع ضاربة: ضوارب،وقاتلة: قواتل، ولم يأت ذلك إلا في حرفين: إحداهما في جمع فارس: فوارس، لأن هذا مما لا يستعمل في النساء فأمنوا الالتباس، ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك، فاجروه على اصله فقال: "نواكس الأبصار"، ولا يكون مثل هذا أبداً إلا في ضرورة.
ـــــــ
1 سورة محمد 21.

باب

لجرير وقد نزل بقوم من بني العنبر فلم يقروه
قال جرير ونزل بقوم من بني العنبر بن تميم فلم يقروه حتى اشترى منهم القرى فانصرف وهو يقول:
يا مالك بن طريفٍ إنّ بيعتكم ... رفد القرى مفسدّ للديّن والحسب
قالوا نبيعكه بيعاً فقلت لهم ... بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
لولا كرام طريفٍ ما غفرت لكم ... بيعي قراي ولا أنسأتكم غضبي
هل أنتم غير أو شابٍ زعانفهٍ ... ريش الذّنابى وليس الرأس كالذّنب
وقوله: "يا مالك بن طريف" فمن نصب، فإنما هو على انه جعل "ابناً" تابعاً لما قبل، كالشيء الواحد، وهو اكثر في الكلام إذا كان اسماً علماً منسوباً إلى اسم علم،ابن مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد، ومثل ذلك:
يا حكم بن المنذر بن الجارود،1
ومن وقف على الاسم الأول، ثم جعل الثاني نعتاً لم يكن في الأول2 إلا الرفع، لنه مفرد نعت بمضاف، فصار كقولك: يا زيد ذا الجمة.
وقوله: "ولا أنساكم غضبي"، يقول: لم أؤخره عنكم، يقال: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، والنّسيء من هذا، ومعناه تأخير شهر عن شهر، وكانت النّسأة من بني مدلج بن كنانة، فأنزل الله عز وجلّ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 3 لأنهم كانوا يؤخرون الشهور، فيحرمون غير الحرام، ويحلّون غير الحلال، لما يقدّرونه من حروبهم وتصرّفهم، فاستوت الشهور لمّا جاء الإسلام، وأبان ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن الزّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السّموات والأرض".
وقوله:
هل انتم غير أو شابٍ زعانفةٍ
ـــــــ
1 الرجز لأعشى بن الحرماز، وبعده:
سرادق المجد عليك ممدود
2 تكمله من س.
3 سورة التوبة 37.

فالأشابة جماعة تدخل في قوم وليست منهم، وإنما هو مأخوذ من المر الأشب، أي المختلط، ويزعم بعض الرواة ان اصله فارسي أعرب، يقال بالفارسية: وقع القوم في آشوب [أي]1 في اختلاط، ثم تصرّفت فقيل: تأشّب النبت، فصنع منه فعل2.
وأما الزّعانف فأصلها أجنحة السّمك، قال أوس بن حجر:
ومازال يفرى الشد حتى كأنما ... قوائمه في جانبيه زعانف3
وتزعم الرّواة أن ما أنفت منه جلّة الموالي هذا البيت، يعني قول جرير:
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
لأنه حطّهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيباً. ومثل ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك علم الموالي لا أبالك! علمهم الرجز، فإنه يهرّث أشداقهم4. ومن ذلك قول الشّعبيّ ومر بقوم من الموالي يتذكرون النحو فقال، لئن أصلحتموه إنكم لأوّل أفسده! ومن ذلك قول عنترة:
فما وجدنا بالفروق أشابةً ... ولا كشفا ولا دعينا مواليا5
ومن ذلك قول الآخر:
يسمّوننا الأعراب العرب اسمنا ... وأسماؤهم فينا رقاب المزاود
يريد أسماؤهم عندنا الحمراء، وقول العرب: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر. يريد العربيّ والعجميّ. وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر6 وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد: إن عامّة جندك هؤلاء الحمراء، وإن الحرب إن ضرّستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم.
ـــــــ
1 من ر.
2 زيادات ر: "هذا وهم من أبى العباس، ليس الأشابة ولا الأشب من الأوشاب؛ لأن فاء الفعل من الأشابه همزة، ومن أوشاب واو ، ولكنه مثله في المعنى يحتمل أن يكون أصله وشابة، وأبدلت الواو المضمومة همزة".
3 يفرى الشد: يأتى بالعجب في عدوه.
4 يهرث أشداقهم: يوسعها.
5 الفروق: اسم موضع. والكشف: الذين لا يصدقون في القتال.
6 زيادات ر: "وقعت الرواية كما في الأصل، ووجد بخط يد أبى على البغدادي رحمه الله: "جازر، بالجيم".

ومن ذلك قول الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رحمه الله، وأتاه يتخطى رقاب الناس، وعليّ على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين، غلبتنا هذه الحمراء على قربك، قال: فركض عليّ المنبرٌ برجله، فقال صعصعة بن صوجان العبديّ: مالنا ولهذا? يعني الشعث، ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر، فقال عليٌّ من يعذرني من هذه الضّياطرة، يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجّر قومٌ للذّكر، فيأمرني إن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين، والذي فلق الحبة، وبرأ النّسمة، ليضربنّكم على الدّين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً.
قوله: "الضياطرة" واحدهم ضيطرٌ وضيطارٌ، وهو الأحمر العضل الفاحش، قال خداش بن زهير:
وتركب خيلٌ لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر
وإنما قال جريرٌ لبني العنبر:
هل أنتم غير أو شابٍ زعانفةٍ
لأن النّسّابين يزعمون ان العنبر بن عمرو بن تميم، إنما هو ابن عمرو بن بهراء، وأمّهم أم خارجية البجليّة التي يقال لها في المثل: "أسرع من نكاح أمّ خارجة"، فكانت قد ولدت في العرب في نيّفٍ وعشرين حياً من آباءٍ متفرقين، وكان يقول لها الرجل: خطبٌ? فتقول: نكحٌ! كذلك قال يونس بن حبيب، فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسّوا بأنه أراد أمتهم، فبادروا إليه ليمنعوه تزوّجها، وسبقهم لأنه كان راكباً، فقال لها: إنّ فيك لبقيّة? فقالت: إن شئت. . . ، فجاؤوا وقد بنى عليها، ثم نقلها بعد إلى بلده، فتزعم الرواة أنها جاءت بالعنبر معها صغيراً، وأولدها عمرو بن تميم أسيّداً والجهيم والقليب، فخرجوا ذات يوم يستقون فقلّ عليهم الماء، فأنزلوا مائحاً من تميم، فجعل المائح يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيّد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر:
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنّأي عن بهراء واغترابها
إلا تجيء ملأى يجيء قرابها1
فهذا قول النّسّابين.
ـــــــ
1 أى ما يقارب ملأها.

وبروى أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال يوماً لعائشة رحمها الله، وقد كانت نذرت أن تعيق قوماً من ولد إسماعيل، فسبي قوم من بني العنبر، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن سرّك أن تعتقي الصميم من ولد إسماعيل فأعتقي من هؤلاء". فقال النّسّابون: فبهراء من قضاعة، وقد قيل قضاعة من بني معدّ، فقد رجعوا إلى إسماعيل.
ومن زعم أن قضاعة من بني مالك بن حمير وهو الحق قال: فالنسب الصحيح في قحطان الرّجوع إلى إسماعيل وهو الحق وقول المبّرزين من العلماء: غنما العرب المتقدمة من أولاد عابر، ورهطه عاد وطسم وجديس وجرهموالعماليق، فاما قحطان عند أهل العلم، فهو ابن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيذار بن إسماعيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد رجعوا إلى إسماعيل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم من خزاعة وقيل من الأنصار: "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً".

ليحيى بن نوفل يهجو العريان بن الهيثم
قال يحيى بن نوفل: "يهجو العريان بن الهيثم بن الأسود النّخعيّ، وكان العريان تزوج زباد" من ولد هانئ بن فبيصة الشيباني، وكانت عند الوليد بن عبد الملك فطلقها، فتزوجها العريان، وكان ابن نوفل له هجّاءً، فقال:
أعريان ما يدري امرؤ سيل عنكم ... أمن مذحجٍ تدعون أم من إياد!
فإن قلتم من مذحج إنّ مذحجاً ... لبيض الوجوه غير جدّ جعاد
وأنتم صغار الهام حدلٌ كأنما ... وجوهكم مطليّةٌ بمداد
فإن قلتم الحيّ اليمانون أصلنا ... وناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بأيرٍ من معدّ ونزوةٍ ... نزت بإيادٍ خلف دار مراد
لعمر بني شيبان إذ ينكحونه ... زباد لقد ما قصّروا بزياد
أبعد الوليد أنكحوا عبد مذحجٍ ... كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد
وأنكحها لا في كفاء ولا غنى ... زياد أضلّ الله سعي زياد
قوله:
أمن مذحج تدعون أم من إياد

فبنو مذحج بنو مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ين يشجب بن يعرب بن قحطان. وإياد بن نزار بن معد بن عدنان، ويقال: إن النّخع وثقيفاً أخوان من إياد. فأما ثقيف فهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوا زان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن النصر، فهذا قول قوم. فأما آخرون فيزعمون ان ثقيفاً من بقايا ثمود، ونسبهم غامض على شرفهم في أخلاقهم، وكثرة مناكحهم قريشاٌ. وقد قال الحجاج على ا لمنبر: تزعمون أنّا من بقايا ثمود، والله عزّ وجل يقول: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 1. وقال الحجاج يوماً لبي العسوس الطائي: أيّ أقدم? أنزول ثقيف الطائف أم نزول طيّىء الجبلين? فقال أبو العسوس: إن كانت ثقيف من بكر بن هوزان فنزول طيّىء الجبلين قبلها، وغن كانت ثقيف من ثمود فهي اقدم، فقال الحجاج: يا أبا العسوس، اتّقني فإني سريع الخطفة للأحمق المهتوّك2! فقال أبو العسوس3:
يؤدّبني الحجاج تأديب أهله ... فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
وإني لأخشى ضربةً ثقفيّة ... يقدّ بها ممّن عصاه المقلّدا
على أنني ممّا أحاذر آمنٌ ... إذا قيل يوماً قد عتا المرء واعتدى
ـــــــ
1 سورة النجم 43.
2 المتهوك: المتهور
3 زيادات ر: "رواية عاصم رحمه الله العسوس [بالواو المشددة] والعسوس [بسكون السين وفتح الواو]، وفي رواية ش كما في داخل الكتاب".

المغيرة بن شعبة وهند بنت النعمان بن المنذر
وقد كان المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، سار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر، وهي فيه عمياء مترهّبةٌ، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب، فقالت: قولوا له: أمن ولد جبلة بن الأيهم أنت? قال: لا،قالت: أمن ولد المنذر بن ماء السماء?قال: لا، قالت فمن أنت? قال: المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما حاجتك? قال: جئتك خاطباً، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو مال لأطلبتك، ولكنك أردت أتتشرّف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلاّ فأيّ خير في اجتماع أعور وعمياء! فبعثت إليها: كيف

كان أمركم? فقالت: سأختصر لك الجواب. . . أمسينا مساءً، وليس في الأرض عربيّ إلا هو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربيّ إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه، قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف? قالت: اختصم إليه رجلان منهم،أحدهما ينميها إلى إياد، والآخر إلى بكر بن هوزان فقضى بها للإياديّ، وقال:
إنّ ثقيفاً لم تكن هوازناً ... ولتناسب عامراً ومازنا
يريد عامر بن صعصعة ومازن بن منصور، فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوزان، فليقل أبوك ما شاء!

في رثاء الأشتر
وقالت أخت الأشتر، وهو مالك بن الحارث النّخعيّ تبكّيه، وهذا الشعر رواه أبو اليقضان، وكان متعصباً:
أبعد الأشتر النخعي نرجو ... مكاثرة ونقطع بطن واد!
ونصب مذحجا بإخاء صدق ... وإن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمنا وأبو أبينا ... وإخوتنا نزار أولوا السداد
قوله: "وانتم صغار الهام حدلٌ"، فلأحدل المائل العنق، يقال: قوس حدلاء إذا اعوجّت سيتها، قال الراجز:
لها1 متاعٌ ولهاةٌ فارض ... حدلاء كالزق نحاه الماخض
وأما قوله: "زباد" يا فتى، فله باب نذكره على وجهه باستقصاء بعد فراغنا من تفسير هذا الشعر.
وقوله: "لقد ما قصّروا". فما زائدة، مثل قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 2، ولو قال: لقدماً قصّروا لم يكن جيداً، ودخل الوليد في الذم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "لها" والصواب "له" لأنه يعني الفحل من الإبل؛ لأن الشقشقة لا تكون للأنثى، قاله ش".
2 سورة نوح 25.

وقوله: "كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد" يقول: بعد جواد، قال الله عزّ وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 1.
وقوله: "لافي كفاء" يقال: هو كفؤك وكفؤك وكفيئك وكفاؤك، وإذا كان عديلك في شرف أو ما أشبه، كما قال الفرزدق:
وتنكح في أكفانها الحبطات
أول هذا البيت:
بنو دارم اكفاؤهم آل مسمع
وآل مسمع: بيت بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وإنما قال هذا الفرزدق حين بلغة ان رجلاً من الحبطات خطب امرأة من بني دارم بن مالك، فأجابه رجل من الحبطات:
أما كان عبّادٌ كفيئاً لدارم ... بلى ولأبياتٍ بها الحجرات
عبّاد، يعني بني هاشم، وقد تقدم هذا البيت للفرزدق في مواضع، وقال الله عزّ وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأمنعنّ النساء إلا من الأكفاء، وتحدّث أصحابنا عن الأصمعي عن إسحاق بن عيسى. قال: قلت لأمير المؤمنين الرّشيد أو المهديّ: يا أمير المؤمنين، من أكفاؤنا? قال: أعداؤنا، يعني بنى أميّة، وزيادٌ الذي ذكركان أخاها".
هذا التفسير ما كان من المؤنث على "فعال" مكسور الآخر.
وهو على أربعة أضرب، والأصل واحد.
قال أبو العباس: اعلم أنه لا يبنى شيء من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدولٌ عن جهته، وهو في المؤنث بمنزلة فعل، نحو عمر وقثم في المذكر، وفعل معدول في حال المعرفة عن فاعلٍ وكان فاعلٌ ينصرف، فلما عدل عنه فعل لم ينصرف، وفعال معدول عن فاعلة لا ينصرف في المعرفة فعدل إلى البناء،لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إلا المبنيّ، وبني وبني على الكسر لأن في فاعلة
ـــــــ
1 سورة التوبة 81.
2 سورة الإخلاص 4.

علامة التأنيث، وكان أصل هذا أن يكون إذا أردت به الأمر ساكناً كالمجزوم من الفعل الذي هو في معناه، فكسرته لالتقاء الساكنين، مع ما ذكرنا من علامة التأنيث والكسر مما يؤنث به فلم يخل من العلامة، تقول للمرأة: أنت فعلت، فالكسر علامة التأنيث، وكذلك إنك ذاهبة، ضربتك يا امرأة، فمما لا يكون إلا معرفة مكسوراً ما كان اسماً للفعل نحو نزال يا فتى، ومعناه انزل وكذلك تراك زيداً أي اتركه، فهما معدو لان عن المتاركة والمنازلة، وهما مؤنثان معرفتان، يدلك على التأنيث القياس الذي ذكرنا، قال الشاعر تصديقاً لذلك:
ولنعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر
فقال: دعيت لما ذكرته لك من التأنيث، وقال الآخر،وهو زيد الخيل:
وقد علمت سلامة انّ سيفي ... كريهٌ كلّما دعيت نزال
وقال الشاعر:
تراكها من إبل تراكها ... أما ترى الموت لدى أوراكها
أي اتركها. وقال آخر1:
حذار من أرحامنا حذار
وقال آخر2:
نظار كي أركبه نظار
فهذا باب من الأربعة.
ومنها إن يكون صفة غالبة تحلّ محل الاسم، نحو قولهم للضّبع: جعار يا فتى، وللمنية حلاق يا فتى، لأنها حالقة، والدليل على التأنيث بعد ما ذكرنا قوله:
لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرقاب ولا يهم المغنم3
وتقول في النداء يا فساق ويا خباث ويا لكاع، تريد يا فاسقة ويا خبيثة ويا لكعاء، لأنه في النداء في موضع معرفةٍ كما تقول للرجل: يا فسق ويا خبث ويا لكع4، فهذا بابٌ ثانٍ.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو رؤبة".
2 زيادات ر: "هو أبو النجم".
3 الأكساء: المتأخرون.
4 زيادات ر: "حكى ابن السراج عن ابي عبيدة: فرس لكع للمذكر، ولكعة للمؤنث".

ومن ذلك ما عدل عن المصدر نحو قوله1 يذمّ الخمر:
جماد لها جماد ولا تقولي ... طوال الدهر ماذكرت حماد
وقال النابغة الذبيانيّ:
إنّا اقتسمنا خطّتيننا بيننا ... فحملت برّدة واحتملت فجار2
يريد: قولي لها جموداً، ولا تقولي لها حمداً، هذا المعنى، ولكنه عدل مؤنثاً. وهذا باب ثالث.
والباب الرابع ان تسمى امرأةً، أو شيئاً مؤنثاً باسم تصوغه على هذا المثال، نحو رقاش وحذام وقطام وما أشبه ذلك، فهذا مؤنث معدول عن راقشة وحاذمة وفاطمة، إذا سمّيت به، وأهل الحجاز يجرونه على قياس ماذكرت، لأنه معدول في الأصل وسمّيي به، فنقل إلى مؤنث كالباب الذي كان قبله، فلم يغيروه، فعلى ذلك قالوا:
اسق رقاش إنها سقّايه
وقال آخر:
إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام
وينشدون:
وأقفر من سلمى شراء فيذبل
كذا وقع، والصحيح "فقد أقفرت سلمى شراء"، لأن قبله:
تأبّد من أطلال جمرة مأسل
والشعر للنّمر بن تولبٍ.
وأما بنو تميم فإذا أزالوه عن النعت فسمّوا به صرفوه في النكرة، ولم يصرفوه في المعرفة، وسيبويه يختار هذا القول، ولا يرادّ القول الاخر، فيقول: هذه رقاش قد جاءت، وهذه غلاب قد جاءت، وهذه غلاب أخرى، ولا اختلاف ببين العرب في صرفه إذا كان نكرة، وفي إعرابه في المعرفة، وصرفه في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو بمنزلة رجل سميته بعناق أو أتانٍ، لن التأنيث قد ذهب عنه، فاحتج سيبويه في تصحيح هذا القول بأنك لو سمّيت شيئاً بالفعل الذي هو مأخوذ منه لعربنه، نحو أنزل وأضرب، لو سميت بهما رجلاً لجرى مجرى إصبع وأحمد إثمدٍ، ونحو ذلك فهذا يحيط بجميع هذا الباب.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو المتلمس بذم الخمر".
2 زيادات ر: "برة: اسم علم لجميع البر، وفجار لجميع الفجور، لابن جنى، تخصيصة برة بفعلت، وفجار بافتعلت، مثل قوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فكسب للخير واكتسب للشر.

لامرأة من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيّىء
قال أبو العباس، وقالت امرأة أحسبها من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيىء.
لا تحمدنّ الدّهر أخت أخالها لها ... ولا ترثينّ الدّهر بنتٌ لوالد
هم جعلوها حيث ليست بحرّةٍ ... وهم طرحوها في الأقاصي الأباعد
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما النكاح رقٌّ لينظر امرؤٌ من يرقٌّ كريمته. وعلى هذا جاءت اللغة، فقالوا كنا في إملاك1 فلانٍ، وفي ملك فلان، وفي ملك فلان، وفي ملكة فلان. وفي ملكان فلان، ويقول الرجل: ملكت المرأة وأملكنيها وليّها، ومن ذلك أنّ يمين الطلاق إذا وقع فيها حنثٌ غنما يكون محلّها محلّ الإقرار بترك ما كان يملكه كالعتاق.
وقال رسول الله: "أوصيكم بالنساء فإنهنّ عندكم عوانٍ" أي أسيراتٌ، ويقال، عني فلانٌ في بني فلان إذا أقام فيهم اسيراً،ويقال: فلان يفكّ العناة، وأصل التغنية التذ ليل،وأصل الإسار الوثاق، ويقال للقتب مأسور إذا شدّ بالقدّ، هذا أصل هذا، فأما المثل في قولهم: إنما فلان غلٌّ قملٌ، فإنهم كانوا يتخذون الغلال من القدّ، فكانت تقمل.
ـــــــ
1 الإملاك: مصدر أملك، وهو النرويج.

لرجل يذكر امرأة زوجت من غير كفء
وقال رجل يذكر امرأةً زوّجت من غير كفء:
لقد فرح الواشون أن نال ثعلبٌ ... شبيهة ظبيٍ مقلتاها وجيدها
أضرّ بها فقد الوليّ فأصبحت ... بكف لئيم الوالدين يقودها

الرجل يعير إبراهيم بن النعمان بن بشير ورد إبراهيم عليه
ولما زوّج إبراهيم بن النعمان بن بشيرٍ الأنصاريّ يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم قال قائل يعيّره:
لعمري لقد جلّلت نفسك خزيةً ... وخالفت فعل الأكثر ين الأكارم
ولو كان جدّاك الّلذان تتابعا ... ببدرٍ لما راما ضيع الألائم
فقال إبراهيم بن النعمان يردّ عليه:
ما تركت عشرون ألفاً لقائل ... مقالاً فلا تحفل ملامة لائم
وإن أك قد زوّجت مولى فقد مضت ... به سنّةٌ قبلي وحبّ الدّراهم

للقلاخ بن حزن يخاطب يحيى بن أبي حفصة ورد يحيي عليه
وتزوّج يحيى بن أبي حفصة وهو مروان الشاعر، ويزعم النسّابون أن أباه كان يهودياً أسلم على يدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يحيى من أجود الناس، وكان ذا يسار، فتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة1 بن قيس بن عاصم سيد الوبر بن سنان بن خالد بن منقر، ومهرها خرقاً، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزنٍ:
لم أر أثواباً أجرّ لخزيةٍ ... وألأم مكسواً وألأم كاسيا
من الخرق الّلاتي صببن عليكم ... بحجرٍ فكنّ المبقيات البواليا
فقال يحيى بن أبي حفصة يجيبه:
تجاوزت حزناً رغبةً عن بناته ... وأدركت قيساً ثانياً من عنانيا
يقال ذلك للسّابق إذا تقدّم تقدّماً بيّناً فبلغ الغاية، فمن شأنه أن يثني عنانه فينظر إلى الخيل، وقال الشاعر:
فمن يفخر بمثل أبي وجدّي ... يجيء قبل السّوابق وهو ثاني
يريد ثاني عنانه، وقال القلاح في هذه القصة:
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك ممّا رجوت الترب والحجر
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرواية المشهورة بإسكان اللام، وتسامح ابن سراج في فتح اللام".

للّه درّ جيادٍ أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر1
وقال جرير يعيّرهم:
رأيت مقاتل الطلبات حلّى ... فروج بناته كمر الموالي
لقد أنكحتم عبداً لعبدٍ2 ... من الصّهب المشوّهة السبال
فلا تفخر بقيسٍ إنّ قيساً ... خرئتم فوق أعظميه البوالي
وقال آخر في مثل هذه القصة:
ألا يا عباد الله قلبي متيّمٌ ... بأحسن من صلّى وأقبحهم بعلا
يدبّ على أحشائها كلّ ليلةٍ ... دبيب القرنبى بات يقرو3 نقاً سهلا
القرنبى: دويبةٌ على هيئة الخنفس متقّطعة الظّهر، وربما كان في ظهر نقطة حمراء، وفي قوائمها طول الخنفس، وهي ضعيفة المشي.
ـــــــ
1 برذنتها: جملتها من البراذين.
2 يريد أنه عريق في العبودية.
3 يقرو: يتبع.

للفرزدق في عطية أبي جرير
قال الفرزدق يعني عطيّة أبا جرير:
قرنبى يحكّ قفا مقرفٍ ... لئيمٍ مآثره فعدد1
وفي هذا الشعر يقول:
ألم تر أنّا بني دارم ... زرارة منّا أبو معبد
ومنّا الّذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد
ألسنا بأصحاب يوم النّسار2 ... وأصحاب ألوية المربد
ـــــــ
1 زيادات ر: "ألف قرنبى ألف إلحاق وليست للتأنيث. والقعدد: اللئيم، وجمعه قعادد".
2 زيادات ر: "النسار: جعل تألفة النسور كثيرا فلذلك سمى بهذا الاسم".

السنا الّذين تميمٌ بهم ... تسامي وتفخر في المشهد1
وناجية الخير والأقرعان ... وقبرٌ بكاظمة المورد2
إذا ما أتى قبره عائدٌ ... أناخ على القبر بالأسعد3
أيطلب مجد بني دارم ... عطيّة كالجعل الأسود4
ومجد بني دارمٍ دونه ... مكان السّماكين والفرقد5
قوله:
ألم تر أنّا بني دارم
منصوب على الاختصاص، وقد مضى تفسيره.
وزرارة الذي ذكر،هو زرارة بن عدس بن زيد بت عبد الله بن دارم، وكان زرارة يكنى أبا معبدٍ، وكان له بنون: معبدٌ، ولقيطٌ، وحاجبٌ وعلقمة، والمأموم.
ويزعم قوم أن المأمون هو علقمة، ومنهم شيبان بن زرارة وابنه يزيد بن شيبان النسّابة، وكان حاجبٌ أذكر القوم6.
ورووا أن عبد الملك ذكر يوماً يني دارم فقال أحد جلسائه: يا أمير المؤمنين! هؤلاء قوم محظوظون! فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلّف عقباً! والله لا تنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.
ـــــــ
1 رغبة الآمل: بعده
وقد مد حولى من المالكين ... أواذى ذو حدب مزبد
إلى هادرات صعاب الرءوس ... قساور للقسور الأصيد
2 كاظمة: موضع على سيف البحرين.
3 الأسعد: جمع سعد، وبعده:
فذاك أبى وأبواه الذي ... لمقعده حرم المسجد
4 الجعل: دويبة سوداء تكون على المواضع الندية.
5 زيادات ر: "الرفع في مكان أقوى، وهو الوجه الجيد في العربية".
6 أذكر القوم: أشهرهم.

وكان لقيط بن زرارة قتل يوم جبلة، وأسر حاجب فنودي، فزعم أبو عبيدة أنه لم يكن عكاظيٌّ أغلى فداء من حاجب، وكان أسره زهدمٌ1 العبسيّ، فلحقه ذو الرقيبة القشريّ، وبنو عبس يومئذ نازلةٌ في بني عامر بن صعصعة، فأخذه ذو الرقيبة بعزّة، وأنه في محل قومه فقال حاجب: لمّا تنازعني الرجلان خفت أن أقتل بينهما، فقلت: حكماني في نفسي، ففعلا فحكمت بسلاحي وركابي لزهدم، وبنفسي لذي الرقيبة، وكان حاجب يكنى أبا عكرشة، وكان أحلم قومه، وفي ذي الرقيبة يقول الشاعر2:
ولقد رأيت القائلين وفعلهم ... فلدي الرقيبة مالكٍ فضل
كفّاه متلفةٌ ومخلفةٌ ... وعطاؤه متدفّقٌ جزل
ففدي حاجبٌ، وقتل في ذلك اليوم لقيطٌ، واسر عمرو بن عمرو بن عدس فلذلك يقول جرير يعيّر الفرزدق، لن الفرزدق من بني مجاشع بن دارم، وقد مضى ذكر هذا في الكتاب، ولجرير في قيسٍ خؤولة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "أخو كردم".
2 زيادات ر: "هو المسيب بن علس"، واسمه "زهير، ويكنى أبا الفضة".

للفرزدق يهجو جريراً وجواب جرير عليه
فلما هجا الفرزدق قيساً في أمر قتيبة بن مسلم الباهليّ، قال:
أتاني وأهلي بالمدينة وقعةٌ ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
كأن رؤوس النّاس إذا سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم1
وما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حرّ الحلاقم
أتغضب عن أذنا قتيبة حزّنا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
وما منهما غلا نقلنا دماغه ... إلى الشّام فوق الشّاحجات الرّواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها ... محذّفة الأذناب جلح المقادم2
وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم
تخوّفنا أيام قيسٍ ولم تدع ... لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيسٌ فما كان نصرها ... قتيبة إلاّ عضّها بالأباهم3
ـــــــ
1 الأمائم كما في زيادات ر: "حجارة تشدخ بها الرءوس، الواحدة أميمة".
2 المخلاة في الأصل: ما يوضع فيها الخلى، وهو الحشيش الرطب، أراد بهن الخرج.
3 الأباهم: جمع الإبهام.

وقال جرير يجيبه:
أباهل ما أحببت قتل ابن مسلم ... ولا أن تروعوا قومكم بالمظالم
ثم قال يخوّف الفرزدق:
تحضّض يا أبن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماُ مثل يوم الأراقم1
كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمروٍ إذ دعوا يا ل دارم
ولم تشهد الجونين والشّعث ذا الصّفا ... وشدّات قيس يوم دير الجماجم
فيوم الصّفا كنتم عبيداً لعامر ... وبالحنو أصبحتم عبيد اللّهازم
إذا عدّت الأيام أخزين دراماً ... وتخزيك يا أبن القين أيام دارم
أما قول الفرزدق:
كأن رءوس الناس إذ سمعوا بها ... مشدخة هاماتها بالأمائم
فإن الشّجاع مختلفة الحكام، فإذا كانت الشّجّة شقيقا يدمى فهي الدامية، وإذا أخذت من اللحم شيئاً فهي الباضعة، وإذا أمضت في اللحم فهي المتلاحمة، فإذا هشمت العظم فهي الهاشمة، وإذا كان بينها وبين العظم جليدةٌ رقيقة فهي السمحاق، من أجل تلك الجليدة يقال ما على ترب الشاة من الشّحم إلا سماحيق، أي طرائق، فإذا خرجت منها عظام صغار فهي المنقّلة وإنذما أخذ ذلك من النّقل وهي الحجارة الصغار فإذا أوضحت عن العظم فهي الموضحة، فإذا خرقت العظم وبلغت أمّ الدّماغ وهي جليدةٌ قد ألبست الدماغ فهي الآمّة، وبعض العرب يسميها أمّ المأمومة، واشتقاق ذلك إفضاؤها إلى أم الدماغ ولا غاية بعدها، قال الشاعر:
يحج مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد2
وقال ابن غلفاء الهجيميّ يردّ بن عمرو بن الصّعق في هجائه بني تميم:
فإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام
ـــــــ
1 الأراقم: يريد يوماً كان لقيس على تغلب ابنة وائل، والأراقم هم بطون تغلب.
2 مأمومة: مشجوجة.

هم تركوك أسلح من حبارى1 ... رأت صقراً وأشرد من نعام
وهم ضربوك امّ الرّأس حتى ... بدت أمّ الشّئون من العظام2
إذا يأسونها جشأت إليهم3 ... شرنبثة القوائم أم هام4
وابن خازم هو عبد الله بن خازم السّلميّ، وهو أحد غربان العرب في الإسلام، وكان من أشجع الناس، وقلته بنو تميم بخرسان، وكان الذي ولي قتله منهم وكيع بن الدّورقيّة القريعيّ. وقوله: فوق الشاحجات، يعني البغال. والرّسيم: ضرب من السير، وإنما عنى ههنا بغال البريد، لقوله:
محذّفة الأذناب جلح المقادم
كما قال امرؤ القيس:
على كل مقصوص الذنابى معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا5
وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل.
أما قول جرير: "الجونين" ، فقد مضى ذكرهما، ويوم "دير الجماجم"، يريد الحجّاج في وقعته بدير الجماجم بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، وقوله:
وبالحنو أصبحتم عبيد اللّهازم
فاللّهازم بنو قيس بن ثغلبة، وبنو ذهل بن ثعلبة، وبنو تيم اللآت بن ثعلبة، وبنو عجل بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، وبنو مازن بن صعب بن عليّ، ثم تلهزمت حنيفة لجيم فصارت معهم، وأما علقمة بن زرارة فإنه قتله بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجب أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجبٌ أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال حاجبٌ في ذلك:
فإن تقتلوا منّا كريماً فإنّنا ... أبأنا به مأوى الصعاليك أشيما
قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضجما
ـــــــ
1 الحبارى: اسم طائر.
2 أم الشئون: يريد بها الرأس.
3 جشأت: نهضت.
4 زيادات ر: "يريد غليظ القوائم".
5 الذنابى: الذنب، :وبربر: قبيلة وكان من علامة خيلها حذف أذنابها.

وكان يقال لأشيم: مأوى الصعاليك، وضبيعة أضجم الذي ذكر هو ضبيعة ابن ربيعة بن نزار رهط المتلمس. هذا لقبهم.
وأما معبد بن زرارة فإن قيساً أسرته يوم رحرحان، فساروا به إلى الحجاز فأتى لقيطٌ في بعض الأشهر الحرم ليفديه، فطلبوا منه ألف بعير فقال لقيط: إنّ أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين، فتطمع فينا ذؤبان العرب، فقال معبد: يا أخي، افدني بمالي فإني ميتٌ. فأبى لقيطٌ، وأبى معبد أن يأكل أو يشرب، فكانوا يشحون فاه، ويصبّون فيه الطعام والشراب لئلا يهلك فيذهب فداؤه، فلم يزل كذلك حتى مات، فقال جرير يعيّر الفرزدق وقومه بذلك:
تركتم بوادي رحرحان نساءكم ... ويم الصّفا لاقيتم الشعب أوعرا
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامر ... فكنتم نعاماً عند ذاك منقّرا
وأسلمت القلحاء في الغل معبداً ... ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
قوله:
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامرٍ
يعني مجد بنت النضر بن كنانة ولدت ربيعة بن عامر بن صعصعة، وولده بنو كلاب وبنو كعب بن عامر بن ربيعة. والقلحاء لقب، والقلح ان تركب الأسنان صفرةٌ تضرب إلى السواد، ويقال لها الحبرة لشدة تأثيرها، أنشدني المازني:
لست بسعدى على فيه حبرة ... ولست بعبدى حقيبته التمر
وزعم أبو الحسن الأخفش1، أن العرب تقول في هذا المعنى: "في أسنانه حبرة"، وليس ذلك بمعروف، ولم يأت اسم على "فعل" إلا إبل وإطل.2
ـــــــ
1 زيادات ر: "سعيد بن مسعدة".
2 زيادات ر: "وامرأة بلز، أى ضخمة، قاله ابن قتيبة، أما إبل فكما ذكر، وأما "إطل" فليس كما ذكر، وإطل[بالكسر] أصله إطل[بالسكون]، ثم حركت الطاء اتباعاً لحركة لهمزة، كما قالوا في الجلد [بالسكون]: الجلد[بالكسر]، قال سيبويه: ليس في الأسماء والصفات فعل [بالكسر] إلا إبل".

وقوله:
ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
يقال: قطّره لجنبيه وقتّره، لغتان، لأن التاء من مخرج الطاء، فإن رمى به على قفاه قيل: سلقه وسلقاه وبطحه لوجهه. فإن رمى به على رأسه قيل نكته.
رجع التفسير إلى شعر الفرزدق الأول:
أما قوله:
ومنّا الذي منع الوائدات
فإنه يعني جدّه صعصعة بن ناجية بن عقالٍ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، ولم يكن هذا في جميعها إنما كان في تميم بن مرّة ثم استفاض في جيرانهم، فهذا قول واحد. وقال قوم آخرون: بل كان في تيم وقيس وأسدٍ وهذيل وبكر بن وائل، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وقال بعض الرواة: "اشدد وطدتك"، والمعنى قريب يرجع إلى الثّقل، فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، فكانوا يسمونه العلهز، ولهذا أبان الله عز وجل تحريم الدم، ودلّ على ما من أجله قتلوا البنات فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1، وقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} 2 ، فهذا خبيرٌ بيّن ان ذلك للحاجة، وقد روى بعضهم أنهم غنما فعلوا ذلك أنفةً.
ـــــــ
1 سورة الإسراء 31.
2 سورة الممتحنة12.

إغارة النعمان بن المنذر على تميم
وذكر أبو عبيده بن المثنّى إن تميماً منعت النعمان الإتاوة، وهي الديان، فوجه إليهم أخاه الريّان بن المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب، إحداها الوضائع وهم قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عدّة ومدداً، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان في رأس الحول ردّهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم، وكتيبة يقال لها الشّبهاء وهي بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمّون الأشاهب. وكتيبة ثالثة يقال لها الصنائع وهم صنائع الملك أكثرهم من بكر بن

وائل. وكتيبة رابعةٌ يقال لها الرهائن وهم قوم كان يأخذهم من كل قبيلة فيكونون رهناً عنده ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة دوسر وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرساناً وشجعاناً من كل قبيلة، فأعزاهم أخاه1، وجلّ من معه بكربن وائل، فاستاق النّعم وسبى الذّراريّ، وفي ذلك يقول أبو المشمرج اليشكريّ:
لمّا رأوا راية النعمان مقبلةً ... قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أمّ تميم لم تكن عرفت ... مرّا وكانت كمن أودى به الزمن
إن تقتلونا فأعيارٌ مجدّعةٌ ... أو تنعموا فقديماً منكم المنن2
منهم زهير وعتّابٌ ومحتضرٌ ... ابنا لقيط وأودى في الوغى قطن
يقول النعمان في جواب هذا:
لله بكر غداة الروع لو بهم ... أرمى ذرا حضن زالت بهم حضن3
إذ لا أرى أحداً في الناس أشبههم ... إلا فوارس خامت عنهم اليمن4
وهذا خبر طويل، فوفدت إليه بنو تميم فلما رآها أحب البقيا، فقال:
ما كان ضرّ تميماً لو تغمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردّت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلّهن اختارت أباها، إلا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس ألاّ تولد له ابنةٌ إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول: فعلناه أنفةً، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن. وقال ابن عباس رحمة الله في تأويل هذه الآية: وكانوا لا يورثون، ولا يتخذون إلا من طاعن بالرّمح ومنع الحريم يريد الذّكران.
ـــــــ
1 أى أعطاهم إياه يغزو بهم.
2 أعيار: جمع عير، وهو الحمار. ومجدعة: مقطعة الأذان.
3 حضن: جبل في أعالى نجد.
4 خامت: جبنت.

وفود صعصعة بن ناجية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وروت الرواة: إن صعصة بن ناجية لما أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:

يا رسول الله، إني كنت أعمل عملاً في الجاهلية أفينفعني ذلك اليوم? قال: "وما عملك?" قال: أضللت ناقتين عشرا وين، فركبت جملاً، ومضيت في بغائهما1. فرفع لي بيتٌ حريدٌ، فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما? قلت: ميسم بني دارم، فقال: هما عندي وقد أحيا الله بهما قوماً من أهلك، من مضر. فجلست معه ليخرجا إليّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت? فإن كان سقباً2 شاركنا في أموالنا وإن كانت حائلاً وأدناها. فقالت العجوز: وضعت أنثى! فقلت أتبيعها? قال: وهل تبيع العرب أولادها?، قلت، إنما اشتري منك حياتها، ولا أشتري رقّها، قال: فبكم? قلت: احتكم، قال: بالناقتين والحمل، قال: قلت: ذاك لك، على أن يبلّغني الجمل وإيّاها. قال: ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنّةٌ في العرب، على أن أشتري كل موءودة فقد أنقذها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً ثبت عليه".
وكان ابن عباس يقرا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 3. وقال أهل المعرفة في قول الله عزّ وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} إنما تسأل تبكيتاً لمن فعل ذلك بها، كما قال الله تعالى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4.
وقوله: "وئدت"، إنما هو أثقلت بالتراب، يقال للرجل: اتّئد أي تثبّت. وتثقّل، كما يقال: توفّر، قال قصيرٌ صاحب جذيمة5:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداَ6
ـــــــ
1 البغاء: الطلب.
2 السقب: الذكر من ولد الناقة.
3 سورة التكوير8،9.
4 سورة المائدة 116.
5 زيادات ر: "هذا وهم من أبي العباس، وإنما هو للزباء".
6 الصرفان: ضرب من التمر.

وقوله: "أضللت ناقتين عشرا وين"، أضللت، ضلّتا مني، وتحقيقه: صادفتهما ضالتين، كما قال1:
أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... حين تولى الحجيج فاندفعوا
والعشراء: الناقة التي قد ا أتى عليها منذ حملت عشرة أشهر، وإنما حمل الناقة سنةٌ.
وقوله: "ما نارهما"? يريد ما وسمهما? كما قال:
قد سقيت آبالهم بالنّار ... والنّار قد تشفي من الأوار
أي عرف وسمهم فلم يمنعوا الماء.
وقوله: "فإذا بيت حريد" يقول: متنحّ عن الناس، وهذا من قولهم: انحرد الجمل، إذا تنحى من الإناث فلم يبرك معها، ويقال في غير هذا الموضع: حرد حردة، أي قصده، قال الراجز:
قد جاء سيلٌ جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلّة
وقالوا في قوله عزّ وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 2، أي: على قصدٍ كما ذكرنا.
وقالوا: هو أيضاً "على منع"، من قولهم: حاردت الناقة إذا منعت لبنها، وحاردت السّنة إذا منعت مطرها، والبعير الحرد: هو الذي يضرب بيده، وأصله الامتناع من المشي. وأما قوله:
.............................. ... وقبرٌ بكاظمة المورد
إذا ما أتى قبره خائفٌ ... أناخ على القبر بالأسعد
فإنه يعني قبر أبيه غالب بن صعصعة بن ناجية، وكان الفرزدق يجير من استجار بقبر أبيه، وكان أبوه جواداً شريفاً. ودخل الفرزدق البصرة في إمرة زياد، فباع إبلاً كثيرة وجعل يصرّ أثمانها، فقال له رجل: إنك لتصرّ أثمانها، ولو كان
ـــــــ
1 زيادات ر: "لرجل من قضاعة، يقال له مالك بن عمرو، وقبله:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع
2 سورة القلم 25.

غالب بن صعصعة ما صرّها. ففتح الفرزدق تلك الصّرر ونثر المال. وبلغ الخبر زياداً فطلبه، فهرب الفرزدق، وله في هربه حديث طويل، واستجارته بسعيد بن العاس بالمدينة، نذكره بعد هذا إن شاء الله.

جماعة استجاروا بقبر غالب
فممّن استجار بقبر غالب فأجاره الفرزدق امرأة من بني جعفر بن كلاب، خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر بن كلاب أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسماً ولا نسباً، ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب:
عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والّدي عاذت به لا أضيرها
ومن ذلك أن الحجاج لما ولّى تميم بن زيد القينيّ السّند، دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، واتت منه بحصياتٍ، فقال لها: وما شأنك! فقالت: إن تميم ابن زيد خرج بابن لي معه ولا قرّة لعيني ولا كاسب لي غيره، فقال لها: وما أسم ابنك? فقالت: خنيسٌ، فكتب إلى تميم بن زيد مع بعض من شخص:
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليّ جوابها
وهب لي خنيساًواحتسب فيه منّه ... لعترة أم ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السّافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام انّك ماجدٌ ... وليثٌ إذا ما الحرب شبّ شهابها
فلما ورد الكتاب على تميم، تشكّك في الاسم فقال: أحبيش? أم خنيسٌ? ثم قال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا? فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس فوجّه بهم إليه.
ونهم مكاتب لبنى منقر، ظلع بمكاتبته1، فأتى قبر غالب فاستجار به، وأخذ منه حصيات فشدّهنّ في عمامته، ثم أتى الفرزدق فاخبره، وقال: إني قد قلت شعراً، فقال: هاته، فقال:
ـــــــ
1 أى ضعف عن حمل ما كوتب به.

بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الرّدى أو ان اردّ على قسر
بقبر امرئ تقري المئين عظامه ... ولم يك غلاّ غالباً ميّتٌ يقري
فقال لي استقدم أمامك إنّما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق: ما اسمك؟ قال: لهذم، قال: يالهذم، حكمك مسمّطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة، قال: يا جارية، اطرحي إلينا حبلاً، ثم قال: يا لهذام اخرج بنا إلى المريد، فألقه في عنق ما شئت. فتخير العبد على عينه، ثم رمى الحبل في عنق ناقةٍ وجاء صاحبها، فقال له الفرزدق: اغد عليّ في ثمنها، فجعل لهذا يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من بيوت إلى الصحراء، صاح به الفرزدق: يا لهذام، قبح الله أخسرنا؟؟؟! قوله: تقري المئين عظامه، يريد أنهم كانوا ينحرون الإبل عند قبور عظامهم، فيطعمون الناس في الحياة وبعد الممات، وهذا معروف في أشعارهم.وقوله:ولم يك إلا غالباً ميتٌ يقري، فإنه نصب غالباً لأنه استثناء مقدم، وإنما انتصب الاستثناء المقدم لما أذكره لك، إن حق الاستثناء إذا كان الفعل مشغولاً به أن يكون جارياً عليه، لا يكون فيه إلا هذا، تقول : ما جاءني إلا عبد الله، وما مررت إلا بعبد الله. فإن كان الفعل مشغولاً بغيره فكان موجباُ، لم يكن في المستثنى إلا النصب، نحو جاءني إخوتك غلا زيداً، كما قال تعالى: " فشربوا منه إلا قليلاً منهم " البقرة: 249، ونصب هذا على معنى الفعل، وإلا دليلٌ على ذلك. فإذا قلت: جاءني القوم، لم يؤمن أن يقع عند السامع أن زيداً أحدهم، فإذا قال:إلا زيداً، فالمعنى لا أعني فيهم زيداً، وأو أستثني ممن ذكرت زيداً.

ولسيبويه فيه تمثيل ، والذي ذكرت أبين منه، وهو مترجم عما قال، غير مناقض له . وإن كان الأول منفياً جاز البدل والنصب، والبدل أحسن، لأن الفعل الظاهر أولى بأن يعمل من المختزل الموجود بدليل، وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررت بأحدٍ إلا زيدٍ، والفصل بين المنفي والموجب، أن المبدل من الشيء يفرّغ له الفعل، فأنت في المنفي إذا قلت: ما جاءني إلا زيدٌ، لأنه بدل من أحد، والموجب لا يكون فيه البدل، لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيداً، لم يجز حذف الأول، لا نقول: جاءني إلا زيد، وإن شئت إن تقول في النفي: ما جاءني أحد إلا زيد جاز، ونصبه بالاستثناء الذي شرحت لك في الواجب. والقراءة الجيدة " ما فعلوه إلا قليلٌ منهم " النساء:66، وقد قرئ " إلا قليلاً منهم " البقرة:429، على ما شرحت لك في الواجب، والقراءة الأولى.فإذا قدّمت المستثنى بطل البدل، لأنه ليس قبله شيء يبدل منه، فلم يكن فيه إلا وجه الاستثناء، فتقول: ما جاءني إلا أباك أحدٌ، وما مررت إلا أباك بأحدٍ. وكذلك تنشد هذه الأشعار، قال كعب بن مالك الأنصاري لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الناس ألبٌ علينا فيك ليس لنا ... إلا السّيوف وأطراف القنا وزر
وقال الكميت بن زيد:
فمالي إلا آل أحمد شيعةٌ ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
لا يكون إلا هذا، وليونس قول مرغوب عنه، فلذلك لم نذكره.
وقوله: فقال لي استقدم أمامك، مخبرٌ عن الميّت بالقول، فإن العرب وأهل الحكمة من العجم تجعل كلّ دليل قولاً، فمن ذلك قول زهير:أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلّم، وإنما كلامها عنده ان تبين بما يرى من الآثار فيها، من قدم أهلها وحدثان عهدهم. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: هلاّ وقفت على المعاهد والجنان، فقلت: أيها الجنان، من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوراً أجابتك اعتباراً! وأهل النظر يقولون في قول الله عزّ وجل: " قالتا أتينا طائعين " فصلت:11، لم يكن كلامٌ، غنما فعل عزّ وجل ما أراد فوجد، قال الراجز:
قد خنق الحوض وقال قطني ... سلا رويداً قد ملأت بطني
ولم يكن كلامٌ، إنما وجد ذلك فيه. وكذلك قوله:
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
أي: قد جرّب مثل هذا منك في المستجير بقبره.

لهو النعمان بن المنذر
وحدثني العباس بن الفرج الرّياشيّ في إسنادٍ قد ذهب عني أكثره، قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عدّي بن زيد في ظلّ شجرةٍ مونقةٍ، ليلهو النّعمان هناك، فقال له عدّي بن زيد: أيها الملك، أبيت اللّعن! أتدري ما تقول هذه الشجرة? قال: وما الذي تقول? قال: تقول2:
[من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصرف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال]
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزلال
[والأباريق عليها فدم3 ... وجياد الخيل تردى في الجلال
عمروا الدهر بعيش حسن ... قطعوا دهرهم غير عجال]
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال
قال: فتنغّص النعمان.
وهذا في الأمثال كثيرٌ، وفي الأشعار السائرة.
وأما قوله "حكمك مسمّطاً" فإعرابه أنه أراد: لك حكمك مسمّطاً، واستعمل هذا فكثر، حتى حذف استخفافاً، لعلم السامع بما يريد القاتل، كقولك: "الهلال والله"، أي: هذا الهلال، وأغنى عن قوله: "هذا"، القصد والإشارة.
وكان يقال لرؤبة: كيف أصبحت؟ فيقول: خير عافاك الله. فلم يضمر حرف الحفض، ولكنه حذف لكثرة الاستعمال. والمسمّط: المرسل غير المردود4. والكوماء: العظيمة السّنام.
ـــــــ
1 سورة فصلت 11.
2 كل ما كان بين المربعين من زيادات ر.
3 الفدم: جمع فدام، وهو ما يوضع على فم الإبريق لتصفيته عند الشرب.
4 المردود: النافذ حكمه.

باب

أبو رافع مولى الرسول عليه السلام
قال أبو العباس: قال الليثيّ1: اعتق سعيد بن العاصي أبا رافع إلا سهماً واحداً فيه، من أسهم لم يسمّ عددها لنا، فاشترى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك السهم فاعتقه. وكان لأبي رافع بنون أشراف، منهم عبيد الله بن رافع، وحديثه أثبت الحديث عليّ بن أبي طالب، وكان كالكاتب له، وكان عبيد الله بن أبي رافع شريفاً، وكان عبيد الله ينسب إلى ولاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولي عمرو بن سعيد الأشدق المدينة لم يعمل شيئاً قبل إرساله إلى عبيد الله بن أبي رافع، فقال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبرزه فضربه مائة سوطٍ، ثم قال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضربه مائة أخرى. فلما رأى عبد الله غير راجع، وأن عمراً قد ألحّ عليه في ضربه، قام إلى عمروٍ فقال له: اذكر الملح، فأمسك عنه. والملح ههنا اللّبن، يريد الرّضاع، كما قال أبو الطّمحان القينيّ:
وإنّي لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا 2
[كذا وقعت الرواية، والصواب "أغبر" لأن قبله:
ولو علمت صرف البيوع لسرّها ... بمكّة أن تبتاع حمضاً بإذخر3
قاله ش].
وكما قال الآخر4:
لا يبعد الله ربّ العباد ... والملح ما ولدت خالده
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الجاحظ".
2 الخبر في الإصابة 64:7 "كان أبو رافع عبدا لسعيد بن العاصي، فأعتق كل من بنيه نصيبه منه إلا خالد ابن سعيد، فإنه وهب نصيبه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله".
3 الإذخر: حشيش طيب الريح، واحدته إذخرة.
4 نقل المرصفى عن ابن الأعرابي أنه الحارث بن عمرو الفزارى، وعن المفضل، هو شتيم بن خويلد الفزارى.

ويروى أن عبيد الله بن أبي رافع أتى الحسن بن عليّ بن أبي طالب فقال: أنا مولاك، فقال في ذلك مولى لتمّام بن عبد المطّلب، يعذله ويعيّره:
جحدت بني العباس حقّ أبيهم ... فما كنت في الدّعوى كريم العواقب
متى كان أولاد البنات كوارث ... يحوز ويدعى والداً في المناسب!
يريد انّ العباس أولى بولاء مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العمّ مدعوٌّ والداّ في كتاب الله تعالى، وهو يحوز الميراث.
وقال رجلٌ من الثّقفيّين: أنشدت مروان بن أبي حفصة هذين البيتيتن، فوقع عندي أنه من هذا أخذ قوله:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
ألغى سهامهم الكتاب فما لهم ... أن يشرعوا فيه بغير سهام
وقال طاهر بن عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس للطالبيين:
لو كان جدّكم هناك وجدّنا ... فتنازعا فيها لوقت خصام
كان التّراث لجدّنا من دونه ... فحواه بالقربى وبالإسلام
حقّ البنات فريضةٌ معروفةٌ ... والعمّ أولى من بني الأعمام
وذكر الزّبيريون عن ابن الماجشون قال: جاءني رجل من ولد أبي رافع، فقال: إنّي قد قاولت رجلاً من موالي بعض العرب، فقلت: أنا خيرٌ منك، فقال: بل أنا خير منك، فما الذي يجب لي عليه? فقلت: ليس في هذا شيء، فقال: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويزعم أنه خير مني! قال: قلت: قد يتصرّف هذا على غير الحسب، قال: فلما رآني لا أٌقضي له بشيء قال لي: أنت دافع مغرماً1 لأن ولائي ولاء عنده ليس في موضعٍ مرضيّ? قال وصدق: في بني تيمٍ لتيمٍ من هو أشرف ولاء منّي.
ـــــــ
1 مغرما: حقا تتقاضاه.

أسامة بن زيد يقاول عمرو بن عثمان
وحدثت أن أسامة بن زيد قاول عمرو بن الخطاب في أمر ضيعة يدّعيها كلّ واحدٍ منهما، فلجّت يهما الخصومة، فقال عمرو: يا أسامة، أتأنف أن تكون

مولاي! فقال أسامة: والله ما يسرّني بولائي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسبك! ثم ارتفعا إلى معاوية، فلجّا بين يديه في الخصومة، فتقدم سعيد بن العاصي إلى جانب عمرو، فجعل يلقّنه الحجة، فتقدم الحسن إلى جانب أسامة يلقّنه، فوثب عتبة بن أبي سفيان، فصار مع عمرو، ووثب الحسين فصار مع أسامة، فقام عبد الرحمن ابن أم الحكم، فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن العباس فجلس مع أسامة، فقام الوليد بن عقبة فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن جعفر فجلس مع أسامة، فقال معاوية: الجليّة عندي حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقطع هذه الضّيعة أسامة. فانصرف الهاشميون، وقد قضي لهم، فقال الأمويون لمعاوية: هلاّ إذ كانت هذه القضية عندك بدأت بها قبل التحزّب، أو أخّرتها عن هذا المجلس! فتكلم بكلام يدفعه بعض الناس.

الحجاج بن يوسف وسعيد بن جبير
وكان الذي اعتدّ بعه ا لحجاج بن يوسف على سعيد بن جبير لمّا أتي به إليه بعد انقضاء أمر ابن الأشعث، وكان سعيدٌ عبداً لرجل من بني أسد بن خزيمة، فاشتراه سعيد بن العاصي في مائة عبدٍ فاعتقهم جميعاً، فقال له الحجّاج: يا شقي بن كسيرٍ، أما قدمت الكوفة، وليس يؤم بها إلا عربيّ فجعلتك إماماً! قال: بلى، قال: أفما ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح القضاء إلا لعربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك! قال: بلى، قال: أو ما جعلتك في سمّارى وكلهم من رؤوس العرب! قال: بلى، قال: أو ما أعطيتك مائة ألف درهم لتفرّقها في أهل الحاجة، ثم لم أسألك عن شيء منها! قال: بلى، قال: فما أخرجك عليّ ? قال: بيعةٌ كانت لابن الأشعث في عنقي، فغضب الحجّاج، ثم قال: أفما كانت بيعة أمير المؤمنين بعد الملك في عنقك قبل? والله لأقتلنّك، يا حرسيّ، اضرب عنقه. ونظر الحجّاج فإذا جلّ من خرج مع عبد الرحمن، من الفقهاء وغيرهم، من الموالي، فأحبّ ان يزيلهم عن موضع الفصاحة والآداب، ويخلطهم بأهل القرى والأنباط. فقال: إنما الموالي علوج، وإنما أتي بهم من القرى، فقراهم أولى بم، فأمر بتسييرهم من الأمصار وإقرار العرب بها، وأمر ان ينقش على يد كل إنسان منهم اسم قريته. وطالت ولايته. فتوالد القوم هناك، فخبثت لغات أولادهم، وفسدت طبائعهم. فلمّا قام

سليمان بن عبد الملك اخرج من كان في سجن الحجّاج من المظلومين، فيقال إنه أخرج في يوم واحدٍ ثمانين ألفاً، وردّ المنقوشين، فرجعوا في صورة الأنباط، ففي ذلك يقول الراجز:
جاريةٌ لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجّاج من كنّ وظل
لو كان بدرٌ حاضراً وابن حمل ... ما نقشت كفّاك في جلد جلل
وقال شاعرٌ لأهل الكوفة لمّا استقضي عليها نوح بن درّاج1:
يا أيّها الناس قد قامت قيامتكم ... إذ صار قاضيكم نوح بن درّاج
لو كان حيّا له الحجّاج ما سلمت ... كفّاه ناجيةً من نقش حجّاج
ويروى عن حسّان، المعروف بالنبطيّ صاحب منارة حسّان في البطيحة2 قال: أريت الحجّاج فيما يرى النائم، فقلت: أصلح الله الأمير! ما صنع الله بك? فقال: يا نبطيّ، أهذا عليك! قال: فرأيتنا لانفلت من نقشه في الحياة، ومن شتمه بعد الوفاة! ويروى عن حسان أنه قصّ هذه الرؤيا على محمد ين سيرين، فقال له ابن سيرين: لقد رأيت الحجّاج بالصّحة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ينسب للفرزدق"، وقال المرصفى: هذا خطأ فإن الفرزدق مات سنة عشرة ومائة، ومات نوح ابن دراج وهو قاض بالجانب الشرقي ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة".
2 البطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة.

حديث الجحاف والأخطل
قال أبو العباس: وحدّثت من ناحية الزّبيريين أن الجحّاف بن حكيم دخل على عبد الملك، والأخطل عنده، فلما بصر به الأخطل قال:
ألا أبلغ الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر!
فقال الجحّاف:
بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... ونبكي عميراً بالرماح الخواطر

ثم قال: يا ابن النّصرانيّة، ما ظننتك تجترىء عليّ بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك! فحمّ الأخطل خوفاً، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه، فقال: يا أمير المؤمنين، هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجبرني منه في النّوم!
ومن هذا أو نحوه أخذ السّلميّ قوله:
[قال أبو الحسن: هو أشجع السّلميّ يقوله للرشيد]:
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمدٍ ... رصدان ضوء الصّبح والإٌظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا هدا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام

هرب العديل من الحجاج
وكان العديل بن الفرخ العجليّ هارباً من الحجاج، فجعل لا يحلّ ببلدة إلاّ ريع لأثر يراه من آثار الحجّاج فيهرب، حتى أبعد، ففي ذلك يقول العديل:
يخشوننى الحجاج حتى كأنما ... يحرك عظم في الفؤاد مهيض1
ودون يد الحجاج من أن تنالنى ... بساط لأيدى اليعملات عريض2
فلم ينشب أن أتى به الحجاج، ففى ذلك يقول العديل:
فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجّاجٍ عليّ دليل
بنى قبّة الإسلام حتّى كأنّما ... أتى الناس من بعد الضّلال رسول
أجأ وسلمى: جبلاً طيّىء، و"أجأ" مهموز، وغنما هو "أجا" مقصورٌ، فاعلم، قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخبّ نزائعاً خبب الذّئاب3
والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمزة قلبها، إن كانت الهمزة مكسورة جعلها ياء، او ساكنةً جعلها على حركة ما قبلها، وإن كانت مفتوحة وقبلها فتحةٌ جعلها ألفاً، وإن كان مفتوحة وقبلها كسرةُ جعلها ياء، وإن كانت مفتوحة وقبلها ضمةُ جعلها واواً، قال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشيّةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقال حسّان بن ثابت:
سالت هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلّت هذيلٌ بما سالت ولم تصب!
وقال عبد الرحمن بن حسّان:
وكنت أذلّ من وتدٍ بقاعٍ ... يشجّج رأسه بالفهر واجي
ـــــــ
1 يخشونني: يخوفونني.
2 البساط: الأرض العريضة.
3 نزائع: واحدتها نزيعة، وهي التي تشتاق إلى أوطانها.

قول الفرزدق في عزل مسلمة بن عبد الملك هم العراق
وأما الفرز دق، فإنه يقول لمّا عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلّب لحاجة الخليفة إلى قربه وولي عمر بن هبيرة.
راحت بمسلمة البغال عشيةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
فأرى الأمور تنكرت أعلامها ... حتى أمية عن فزارة تنزع1
عزل ابن عمروٍ وابن بشرٍ قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع
ففي جواب هذا يقول الأسدي2 لمّا ولي خالد بن عبد الله القسريّ:
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فالآن من قسرٍ تضح وتخشع
وملوك خندف أسلمونا للعدا ... لله درّ ملكونا ما تصنع!
[كانوا كتاركةٍ بينها جانباً ... سفهاً وغيرهم تصون وترضع]3
وأما حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة
فليس من لغتة "سلت أسال"، مثل: "خفت أخاف"، و"هما يتساولان"، هذا من لغة غيره، وكانت هذيل سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ان يحلّ لها الزّنا.
ـــــــ
1 زيادات ر: "تنزع، رواية عاصم، فمن روى "تنزع" بضم التاء يعنى "تعزل"، ومن روى بفتح التاء وكسر الزاى فهو من النزع في القوس، وهو الرمى، يشير إلى أنها محتاجة إلى رأيها، وأنها ترمى عن قوسها".
2 نسبة المرصفى إلى إسماعيل بن عمار.
3 مابين العلامتين من زيادات ر.

مفاخرة بين أسدي وهذلي
ويروى أن أسديّاً وهذليّاً تفاخرا، فرضيا برجل، فقال: إني ما أقضي بينكما إلا أن تجعلا لي عقداً وثيقاً ألا تضربا ولا تشتما، فإنّي لست في بلاد قومي،

ففعلا. فقال: يأخا بني أسدٍ، كيف تفاخر العرب وأنت تعلم انه ليس حيّ أحبّ إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف، ولا أقل تحت الرايات منكم! وأما أنت يا أخا هذيل، فكيف تكلم الناس وفيكم خلال ثلاثٌ: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خولة ذات النّحيين، وسألتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلّ لكم الزّنا! ولكن إذا أردتما بيتي مضر، فعليكما بهذين الحيّين من تميم وقيس، قوماً في غير حفظ الله!
وأما بيت عبد الرحمن بن حسّان فإنه يقوله لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وكان يهاجيه، فقال له في كلمته:
وأما قولك الخلفاء منّا ... فهم منعوا رويدك من وداج1
ولولاهم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي
وكنت أذل من وتدٍ بقاع ... يشجّج رأسه بالفهر واجي2
وكان أحد من هرب من الحجاج سوّار بن المضرّب3 ففي ذلك يقول:
أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا4
فإن كان لا يرضيك5حتى تردني ... إلى قطرى ما إخالك راضيا
إذا جاوزت درب المجيزين ناقتى ... فباست أبى الحجاج لما ثنانيا6
أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتى ... وقومى تميم والفلاة ورائيا
وورائي هنا بمعنى: أمامي، قال الله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 7. وقال جل ثناؤه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} 8.
ـــــــ
1 وداج: مصدر ودجه، أى قطع ودجه، والودج: أحد الودجين، وهما عرقان غليظان عن يمين ثغرة النحر ويسارها.
2 الفهر: الحجر ملء الكف، واجى: أصله واجىء، من الوجء، وهو الضرب والدق.
3 زيادات ر: "بفتح الراء".
4 دراب، قال المرصفى: "يريد دارا بجرد، فاقتصر على أحد الجزأين، وهي كورة بفارس".
5 زيادات ر: فاعل "يرضيك" مضمر أو منوى، تقديره: فإن كان لا يرضيك الإرضاء، ولا يجوز أن يكون مابعد "يرضيك" الفاعل؛ لأن سيبوية رحمه الله قال: الفاعل لا يكون جملة، "وحتى تردنى" جملة قاله ابن الأبرش".
6 درب المجيزين هو باب السكة، والمجيزون: هم المقيمون بأبواب الثغور يمنعون الخارج إلا من كان بيده جواز.
7 سورة مريم 5.
8 سورة الكهف 79.

محمد بن عبد الله النميري والحجاج
وممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفيّ، وكان يشبّب بزينب بنت يوسف، أخت الحجاج، وهو القائل فيها:
تضوّع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوةٍ عطرات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطرا الليل معتجرات
في كلمة له، فلما أتي به الحجاج قال:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كلّ مكان
فلو كنت بالعنقاء أو بأسومها1 ... لخلتك إلا ان تصد تراني
[من رفع "رحبها" فعلى البدل، ومن نصب فعلى الظرف، قاله ش. و"أسومها" بفتح الهمزة وبالضم، والفتح أحسن،ش].
ثم قال: والله أيها الأمير،إن قلت إلا خيراً، وإنما قلت:
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
فعفا عنه، ثم قال له: أخبرني عن قولك:
ولمّا رأت ركب النّمريّ أعرضت ... وكنّ من أن يلقينه حذرات
ما كنتم? قال: كنت على حمار هزيل، ومعي صاحبّ لي على أتانٍ مثله.
ـــــــ
1 أسوم: اسم جبل.

مالك بن الريب والحجاج
وممّن هرب منه مالك بن الرّيب المازنيّ، أحد بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وفي ذلك يقول:
إن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلاّ فأذنوا ببعاد
فإنّ لنا عنكم مزاحاً ومزحلا ... بعيسٍ إلى ريح الفلاة صواد1
ففي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلادٍ أوطنت كبلادي
ـــــــ
1 مزاحا، مصدر ميمى من زاح إذا بعد. ومزحلا، مصدر ميمى من زاحل، إذا تنحى وتباعد. العيس: الإبل البيض، والصوادى: العطاش.

كذا وقعت الرواية بضم الهمزة وكسر الطاء، والأصحّ "أوطنت" بفتح الهمزة وفتح الطاء، قاله ش.
فماذا ترى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد1
فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ... كما كان عبداً من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّةٍ ... يراوح صبيان القرى ويغادي
قال ذلك لأن الحجاج كان هو وأخوه معلّمين بالطائف، وكان لقبه "كليباً"، وفي ذلك يقول القائل:
أينسى كليبٌ زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيفٌ له فلكه ما ترى ... وآخر كالقمر الأزهر2
يقول: خبز المعلّمين يأتي مختلفاُ، لأنه من بيوت صبيان مختلفي الأحوال.
وأنشد أبو عثمان عمرو بنى بحر الجاحظ:
أما رأيت بني بحر وقد حفلوا ... كأنّهم خبز بقّال وكتّاب
هذا طويلٌ وهذا حنبلٌ جحدٌ ... يمشون خلف عمير صاحب الباب3
وفي لقبه يقول آخر من أهل الطائف:
كليبٌ تمكّن في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الخطر
ولما دخل الحجاج مكة اعتذر إلى أهلها لقلة ما وصلهم به، فقال قائل منهم: إذن والله لا نعذرك وأنت أمير العراقيين وابن عظيم القريتين!وذلك أنّ عروة بن مسعود ولده من قبل امّه. وتأويل قول الله عز وجلّ: { َقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 4. مجازه في العربية: على رجل من رجلين من القريتين عظيم. القريتان: مكة والطائف، والرجلان: عروة بن مسعود، والآخر الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن ع مر بن مخزوم.
ويروى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مرّ بقبره ومعه خالد، فقال: أصبح جمرة في النار، فأجابه خالد في ذلك بجواب غير مرضيّ.
ـــــــ
1 حفير زياد: نهر احتفره زياد على خمس ليال من البصرة.
2 الفلكة: مستدار كل شىء.
3 الحنبل: القصير الضخم. والجحد: ضائق العيش.
4 سورة الزخرف 31.

مقتل عروة بن مسعود
وأما عروة بن مسعود فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فرقي سطحه، فرماه رجلٌ بسهم فقتله، فلما وجّه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه إلى أهل مكة أبطأ عليه، فقال: "ردوا عليّ أبي، أما لئن فعلت به قريشٌ ما فعلت ثقيفٌ بعروة بن مسعود لأضرمنّها عليهم ناراً".
يقال: رقيت السطح وما كان مثله أرقاه، مثل خشيته أخشاه، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} 1، ويقال: رقيت اللّديغ أرقيه، مثل رميته أميه. ويقال: ما رقأت عينه من الدمع، مهموزٌ ترقأ يا فتى، مثل قرأت تقرأ يا فتى.
ـــــــ
1 سورة الإسراء 93.

في موت ابن الحجاج وأخيه
وكان الحجاج رأى في منامه ان عينيه قلعتا، فطلّق الهندين: هنداً بنت المهلّب، وهنداً بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث ان جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمدٌ، فقال: هذا والله تأويل رؤياي، ثم قال: إنّا لله وإن إليه راجعون! محمّدٌ ومحمّدٌ في يوم واحدٍ!
حسبي بقاء الله من كلّ ميّت ... وحسبي رجاء الله من كلّ هالك
إذا كان ربّ العرش عنّي راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك1
وقال: من يقول شعراً يسليني به? فقال الفرزدق:
إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلهما ... فقدان مثل محمدٍ ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروى: فإن سرور النفس".

فقال: لو زدتني! فقال الفرزدق:
إنّي لباكٍ على ابني يوسف جزعاً ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني
ما سدّ حيٌّ ولا ميتٌ مسدّهما ... إلا الخلائف من بعد النّبيّين
فقال له: ما صنعت شيئاً، إنما زدت في حزني، فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجّاج ما من مصيبةٍ ... تكون لمحزونٍ أجلّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحيه لمّا فارقاه فودّعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كلّه ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
فقال: الآن.
أما قوله: "إلا الخلائف من بعد النّبيين"، فخفض هذه النون، وهي نون الجمع، وإنما فعل ذلك لنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها، وجعل هذا الجمع كسائر الجمع، نحو أفلس، ومساجد. وكلاب، فإن إعراب هذا كإعراب الواحد، وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنما يلحق منه بمنهاج التثنية ما لاختلاف معانيه، ما كان على حد التثنية لا يكسّر الواحد عن بنائه، وإلاّ فلا، فإنّ الجمع كالواحد،لاختلاف معانيه،كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك، لأنه ضربٌ واحدٌ،ولا يكون اثنان اكثر مت اثنين عدداً، كما يكون الجمع أكثر من الجمع، فمما جاء على هذا المذهب قولهم: هذه سنينٌ، فاعلم، وهذه عشرينٌ فاعلم، قال العدوانيّ:
إنّي أبيٌّ ذو محافظةٍ ... وابن أبي من أبيّين
وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ... فأجمعوا كيدهم طرّاً فكيدوني
وقال سحيم بن وثيل:
وماذا يدّري الشعراء منّي ... أخو خمسين مجتمعٌ أشدّي
وقد جاوزت حدّ الأربعين ... ونجّذني مداورة الشّؤون
وفي كتاب الله عز وجل: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} 1.
ـــــــ
1 سورة الحاقة 39.

فإن قال قائل: فإن "غسلينا" واحدٌ،فإنه كلّ ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه كإعراب الجمع، ألا ترى انّ "عشرين" ليس لها واحد من لفظها، وإعرابها كإعراب "مسلمين" واحدهم "مسلمٌ"! وكذلك جميع الإعراب. وتقول: "هذه فلسطون" يافتى، و"رأيت فلسطين" يافتى، هذا القول الأجود وكذلك "يبرين" وفي الرفع "يبرون" يافتى، وكلّ ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: "قنّسرون"، و"رأيت قنسرين"، والأجود في هذا البيت1:
وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن والمسمعات بقضّابها2
وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عزّ وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} 3، فمن قال: "هذه قنّسرون ويبرون". فنسب إلى واحد منهما رجلاً أو شيئاً قال: "هذا رجل قنّسريّ ويبريّ"، بحذف النون والواو، لمجيء حرفي النّسب، ولو أثبتهما لكان في الاسم رفعان ونصبان وجرّان، لأن الياء مرفوعةٌ،والواو علامة الرفع. ومن قال: "قنّسرين" كما ترى قال في النّسب: "قنّسرينّي" لأن الإعراب في حرف النّسب، وانكسرت النون كما ينكسر كلّ ما لحقه النّسب.
وأما قوله: "ونجّذني مداورة الشّؤون"، فمعناه: فهّمني وعرّفني، كما يقال: حنّكته التّجارب، والناجذ: آخر الأضراس، ذلك قولهم: ضحك حتى بدت نواجذه. والشؤون: جمع "شأن" مهموز، وهو الأمر.
وقال المفسرون من أهل الفقه وأهل اللغة في قول الله تبارك وتعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو غسالة أهل النار. وقال النحويّون: هو "فعلينٌ" من الغسالة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الأعشى".
2 زيادات ر: "الجل: الورد". "والقصاب: الأوتار، وقيل الزمار"، والمسمعات: الجوارى المغنيات.
3 سورة المطففين 19،18.

كلمة عمر بن عبد العزيز في الولاة الظالمين
ويروى أنّ عمر بن عبد العزيز خرج يوماً فقال: الوليد بالشّام، والحجّاج بالعراق، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيّان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن! امتلأت الأرض والله جوراً! .

كتاب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك
كتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك بعد وفاة محمد بن يوسف: "أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله انه أصيب لمحمد بم يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن لكن أصابها من حلّها فرحمه الله، زإن تكن من خيانة فلا رحمة الله"! فكتب إليه الوليد: "أما بعد، فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلّف محمد بن يوسف، وإنما أصاب ذلك المال من تجارة له أحللناها، فترحّم عليه، رحمه الله"!

من كلام معاوية لابنه يزيد
ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية في يوم بويع له على عهده، فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: "يا أمير المؤمنين، والله ما ندري، أنخدع الناس أم يخدعوننا"! فقال له معاوية: "كل من أردت خديعته فتخادع لك حتّى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته"!.

كتاب الحجاج إلى عبد الملك
ويروى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: "وبلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمّته قومٌ، فقال: يغفر الله لنا ولكم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيماً"!

تفجع الوليد لموت الحجاج
وزعم الأصمعيّ قال: خرج الوليد يوماً على الناس وهو مشعانّ الرّأس، فقال: مات الحجاج بن يوسف، وقرّة بن شريك. وجعل يتفجّع عليهما.
قوله: "مشعانّ الرأس" يعني منتفخ الشّعر1 متفرّقه.
ومثل هذا يكون في شعر، لأن في هذا التقاء ساكنين، ولا يقع مثل هذا في وزن الشعر، إلا فيما تقدم ذكره في المتقارب، وليس ذا على ذلك الوزن.
ـــــــ
1 زيادات ر: "والرواية منتفخ" والصحيح "منتفش" قاله ابن سراج.

رسول عمر بن عبد العزيز إلى إليون ملك الروم
وحدثت أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجّه عبد الله بن عبد الأعلى ومعه رجلٌ من عنس إلى إليون، فقال العنسيّ: فخلا بي عمر دونه، وقال لي:
احفظ كلّ ما يكون منه، فلما صرنا إليه صرنا إلى رجل عربيّ اللسان، وغنما نشأ بمرعش1، فذهب عبد الله ليتكلّم، فقلت: على رسلك، فحمدت الله وصليت على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قلت: إنّي وجّهت بالذي وجّه بع هذا،إنّ أمير المؤمنين يدعوك إلى الإسلام، فإن تقبله تصب رشدك، وإني لأحسب أنّ الكتاب قد سبق عليك بالشّقاء، إلاّ أن يشاء الله غير ذلك، فإن قبلت وإلاّ فاكتب جواب كتابنا. قال: ثم تكلّم عبد الله، فحمد الله وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذهب في القول وكان مفوّهاً فقال له إليون: يا عبد الله! ما تقول في المسيح? فقال: روح الله وكلمته، فقال: أيكون ولدٌ من غير فحلٍ! فقال عبد الله: في هذا نظرٌ! فقال: أي نظرٍ في هذا?إما نعم وإما لا! فقال عبد الله: آدم خلقه الله من تراب، إنّ هذا اخرج من رحم، قال: في هذا نظر! قال إليون بالروميّة: إنّي أعلم انك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك قال: وأنا أفهم بالرّومية ثم قال: أتعطون يوماً غير يوم الجمعة? فقال: نعم، فقال: وما ذلك اليوم، أمن أعيادكم هو? فقال: لا،قال: فلم تعظمونه? قال: عيدٌ لقوم كانوا صالحين قبل أن يصير إليكم، قال: فقال له إليون بالرومية: قد علمت أنّك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك، فقال له عبد الله: أتدري ما يقول أهل السّفه? قال: وما يقولون? قال: إبليس: أمرت ألا أسجد إلا لله، ثم قيل لي: اسجد لآدم،قال: فقال له بالرومية: الأمر فيك أبين من ذلك، قال: ثن كتب جواب كتبنا، قال: فرجعنا إلى عمر بها، قال: فخبّرناه بما أردنا ثم نهضنا، فردّني إليه من باب الدار فخلا بي، فأخبرته، فقال: لعنه الله! لقد كانت نفسي تأباه،ولم أحسبه يجترئ على مثل هذا، قال: فلما خرجت قال لي عبد الله: ما الذي قال لك? قال: قلت، قال لي: أتطمع فيه? قلت: لا.
ـــــــ
1 مرعش: مدينة بين الشام وبلاد الروم.

الشعبي عند صاحب الروم
ولما وجّه عبد الملك الشّعبيّ إلى صاحب الروم فكلّمه، قال له صاحب الروم بعد انقضاء ما بينهما: أمن أهل بيت المملكة أنت?قال: قلت لا، ولكني رجلٌ

من العرب، قال: فكتب معي رقعةً، وقال لي: إذا أديت جواب ما جئت له فأدّ هذه الرقعة إلى صاحبك، قال: فلمّا رجعت إلى عبد الملك فأعطيته جواب كتابه وخبّرته بما دار بيننا نهضت، ثم ذكرت الرقعة، فرجعت فدفعتها إليه، فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أتدري ما في هذه الرقعة? فلت: لا، قال: فيها: "العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف ولّوا أمورهم غيره". قال: فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أفتدري ما أراد بهذا، قلت: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن أقتلك، قال: فقلت: إنما كثرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يترك، قال: فرجع عن كلام إلى ملك الروم، فقال: لله أبوه! ما عدا ما في نفسي!

معاوية وأحد بطارقة الروم
وحثت أن معاوية، كان إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيدٌ للإسلام احتال له، فأهدى إليه وكاتبه، حتى يعزي به ملك الروم، فكانت رسله تأتيه فتخيره بأن هناك بطريقاً يؤذي الرّسل، ويطعن عليهم، ويسيء عشرتهم، فقال معاوية: أيّ ما في عمل الإسلام أحب إليه? فقيل له: الخفاف الحمر، ودهن البان. فألطفه بهما، حتى عرفت رسله باعتياده، ثم كتب كتاباً إليه، كأنه جواب كتابه منه، يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم. وأمر الرّسول بأن يتعرّض لأن يظهر على الكتاب، فمّا ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك? قالوا: فلانٌ البطريق رأيناه مقتولاً مصلوباً، فقال: وأنا أبو عبد الرحمن1!
ـــــــ
1 قال المرصفى: "يريد أغريت بما صنعت له ملك الروم حتى قتله وصلبه وأنا المعروف بالكيد والدهاء، وعبد الرحمن ولده من فاختة بنت قرظة".

رسول ملك الروم عند معاوية
وحدّثت أن ملك الرّوم في ذلك الأوان وجّه إلى معاوية: "إن الملوك قبلك كانت ترسل الملوك منّا، ويجتهد بعضهم في أن يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك"? فأذن له، فوجّه إليه برجلين: أحدهما طويلٌ جسيمٌ، والآخر أيدٌ، فقال معاوية لعمرو1: أما الطويل فقد أصبنا كفأه وهو قيس بن سعد بن عبادة وأما
ـــــــ
1 يريد عمرو بن العاص.

الآخر الأبد فقد احتجنا إلى فيه، فقال: هاهنا رجلان، كلاهما إليك بغيضٌ: محمد بن الحنفيّة، عبد الله بن الزّبير، فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على حالٍ. فما دخل الرجلان وجّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيسٌ، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج، فلبسها فنالت ثندوته، فأطرق مغلوباً، فحدثت أن قيساً ليم في ذلك، فقيل له: لم تبذّلت هذا التّبذّل بحضرة معاوية، هلاّ وجّهت إلى غيرها! فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا: غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود
بذّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وحسمٌ به أعلو الرّجال مديد
وكان قيسٌ سناظاً، فكانت الأنصار تقول لوددنا أنا اشترينا لحيةً بأنصاف أموالنا وسنذكر خبرة بعد القضاء إن شاء الله. ثم وجّه إلى محمد بن الحنفيّة، فدخل، فخبّر بما دعي له، فقال فقولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنات القاعد. فاختار الروميّ الجلوس، فأقامه محمدٌ، وعجز الروميّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.

معاوية يهدي ملك الروم قارورة مملوءةً ماء
وحدثني أحد الهاشميّين: أن ملك الرّوم وجّه إلى معاوية بقارورة، فقال: ابعث إليّ فيها من كل شيء، فبعث إلى أبن عباس،قال: لتملأ له ماءً، فما ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك? فقال: لقول الله عزّ وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1
ـــــــ
1 سورة الأنبياء 30.

طعم الماء
وقيل لرجل من بني هاشم وهو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وكان يقدّم في معرفته: ما طعم الماء? فقال: طعم الحياة.

عبد الله بن الزبير وعلاج لحيته
وأما عبد الله بن الزبير فيذكر أهله أنه قال: عالجت لحيتي لتتّصل لي إلى أن بلغت ستّين سنةً، فلما أكملتها يئست منها.

من أخبار قيس بن سعد
وكان قيس بن سعدٍ شجاعاً جواداً سيّداً، وجاءته عجوز قد كانت تألفه، فقال لها. كيف حالك? فقالت: ما في بيتي جرذٌ، فقال: ما أحسن ما سألت! أما والله لأكثرنّ جرذان بيتك.
وكان سعد بن عبادة حيث توجّه إلى حوران قسم ماله بين ولده، وكان له حملٌ لم يشعر به، فما ولد له، قال له عمر بن الخطّاب يعني قيساً لأنقضنّ ما فعل سعدٌ، فجاءه قيسٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيبي لهذا المولود، ولا تنقض ما فعل سعدٌ.
قال أبو العباس: حدّثت بهذا الحديث من حيث أثق به: أنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما مشيا إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود، فقال: نصيبي له، لا أغيّر ما فعل سعد.
وكان معاوية كتب إلى قيس بن سعد وهو والي مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "أما بعد، فإنّك يهوديّ ابن يهوديّ، إن غلب أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك، ومثّل بك، وقد كان أبوك فوق سهمه، ورمى غرضه، فأكثر الحزّ، واخطأ المفصل، حتى خذله قومه، وأدركه يومه، فمات غريباً بحوران، والسلام".
فكتب إليه قيسٌ: "أما بعد، فإنك وثن ابن وثنٍ، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، دخلت في الدين كرهاً، وخرجت منه طوعاً، وقد كان أبي فوّق

سهمه، ورمى غرضه، فسعيت عليه أنت وأبوك ونظراؤك، فلم تشقّوا غباره، ولم تدركوا شأوه، ونحن أنصار الدّين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي خرجت إليه، والسلام " . وكان قيسٌ موصوفاُ مع جماعةٍ قد بذّوا الناس طولاً وجمالاً، منهم: العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه، وولده، وجرير بن عبد الله البجليّ، والأشعث بن قيس الكنديّ، وعديّ بن حاتم الطائيّ، وابن جذل الطعّان الكنانّي، وأبو زبيدٍ الطائيّ، وزيد الخيل بن مهلهل الطائيّ، وكان أحد هؤلاء يقبّل المرأة على الهودج، وكان يقال للرجل منهم مقبّل الظعن، وكان طلحة بن عبيد الله موصوفاً بالتمام.

باب
لسليك بن السّلكة
قال أبو العباس: قال السليك ابن السّكة وهي أمه، وكانت سوداء حبشيّةً وكان من غربان العرب، وهو السّليك بن عميرٍ السّعديّ:
ألا عتبت عليّ فصار متني ... وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال
فإنّي يا ابنة القوام أربي ... على فعل الوضيّ من الرّجال
فلا تصلي بصعلوك نؤوم ... إذا أمسى يعدّ من العيال
ولكن كلّ صعلوكٍ ضروب ... بنصل السّيف هامات الرّجال1
أشاب الرأس أنّي كلّ يوم ... أرى لي خالةً وسط الرّحال
يشقّ عليّ أن يلقين ضيماً ... ويعجز عن تخلّصهن مالي
قوله:
وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال
يعني: الجمم، وإن شئت قلت: الجمام، يقال "جمّةٌ وجممٌ"، كقولك "ظلمةٌ وظلمٌ"، ويقال "جمامٌ" كقولك: "جفرةٌ وجفارٌ"2 و"برمةٌ وبرامٌ".
قال الشاعر:
إما تري لمّتي أودي الزمان بها ... وشيّب الدهر أصداغي وأفوادي
وقوله:
على فعل الوضيّ من الرجال
يريد: الجميل، وهو "فعيلٌ" من "وضؤ يوضؤ" يافتى، تقديره "كرم يكرم، وهو كريم"، ومصدره "الوضاءة" وكذلك "قبح يقبح قباحةً"، و"سمج يسمج سماجةً"، ويقال: "ما كنت وضيئا"، و"لقد وضؤت بعدنا".
وقوله: "فلا تصلي بصعلوكٍ"، يقول: لاتتّصلي به، كما قال ابن أحمر:
ولا تصلي بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكيناً
ـــــــ
1 زيادات ر: "كل خبر ابتداء والتقدير: همك".
2 زيادات ر: "الجفرة: هي الحفرة العظيمة".

وإذا شرب المرضّة قال أوكي ... على ما في سقائك قد روينا1
فالصعلوك: الذي لا مال له، قال الشاعر2:
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تموّلا
وقوله: "نئوم" يصفه بالبلادة والكسل، وكانت العرب تمدح بخفّة الرؤوس عن النوم، وتذمّ النّومة، كما قال عبد الملك لمؤدب ولده: علّمهم العوم، وخذهم بقلّة النوم. وإنما توجّع لخالاته لأنهن كنّ إماء.
ـــــــ
1 زيادات ر: "إذا صب لبن حليب على حامض، فهى المرضة" وأوكى: شد به بالوكاء، وهو كل شيء يسد به فم السقاء.
2 زيادات ر: "جابر بن ثعلبة الطائي".

النجباء من أولاد السراري
ويروى عن رجل من قريش -لم يسمّ لنا- قال: كنت أجالس سعيد بن المسيّب، فقال لي يوماً: من أخوالك? فقلت: أمي فتاةٌ، فكأنّي نقصت في عينه، فأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر الخطّاب رضي الله عنه، فلما خرج من عنده قلت: ياعمّ! من هذا? فقال: يا سبحان الله!أتجهل مثل هذا من قومك! هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت: فمن أمّه? قال: فتاةٌ، قال: ثم أتاه لقاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنده، فجلس عنده ثم نهض، فقلت: ياعمّ من هذا? فقال: أتجهل من أهلك مثله! ما أعجب هذا! هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّديق، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، فأمهلت شيئاً حتى جاءه عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فسلّم عليه ثم نهض، فقلت: ياعمّ، من هذا? قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله! هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، قال، قلت يا عم! رأيتني نقصت في عينك لمّا علمت أني لأم ولد، أفما لي في هؤلاء إسوةٌ! قال: فجللت في عينه جداً.
وكانت أمّ عليّ بن الحسين "سلافة" من ولد يزدجرد، معروفة النّسب، وكانت من خيرات النّساء.
ويروى أنه قيل لعليّ بن الحسين رحمه الله: إنّك من أبرّ الناس، ولست تأكل مع أمك في صفحة? فقال: أكره أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها فأكون قد عققتها.

وكان يقال له: ابن الخيرتين1 لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لله من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريشٌ، ومن العجم فارس".
وكانت سلافة عمّة أمّ يزيد النّاقص أو أختها.
وقال رجلٌ من ولد الحكم بن أبي العاصي، يقال له عبيد الله بن الحر وكان شاعرا متقدّماً، وكان لأمّ ولدٍ، وهو من ولد مروان بن الحكم:
فإن تك أمّي من نساءٍ أفاءها ... جياد القنا والمرهفات الصّفائح
فتباً لفضل الحرً إن لم أنل به ... كرائم أولاد النّساء الصّرائح
وإنما أخذ هذا من قول عنترة:
وأنا امرؤ منم خير منصباُ ... شطري2 وأحمي سائري بالمنصل
وأنشد لبلال بن جرير وبلغه ان موسى بن جرير كان إذا ذكره نسبة إلى أمه، لأنه ابن أمّولد، فيقول: ابن أمّ حكيمٍ فقال بلال:
يا ربّ خالٍ لي أغرّ أبلجا ... من آل كسرى يغتدي متوّجاً
ليس خالٍ لك يدعى عشنجاً
والعشنج: المتقبّض الوجه السيئ المنظر.
وكان سبب أم بلال عند جرير أن جريراً في أول دخوله العراق دخل على الحكم بن أيوب بن أبي عقيل الثقفي، وهو عمّ الحجاج، وعامله على البصرة، وفي ذلك يقول جرير:
أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ... على قلاصٍ مثل خيطان السّلم3
إذا قطعن علماً بدا علم ... حتّى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجّاج غير المتّهم ... في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم
فكتب الحكم بعد أن فاطنه4 إلى الحجاج، وذلك في أول سببه: إنه قدم
ـــــــ
1 زيادات ر: "بتحريك الياء أفصح".
2 زيادات ر: "شطرى ، مبتدأ، والخبر في المجرور قبله".
3 القلاص: جمع قلوص، وهي الناقة الفتية، وخيطان: جمع خوط وهي الغضة الناعم، والسلم: ضرب من الشجر.
4 قاطنة: راجعة في الكلام.

عليّ أعرابيٌّ ياقعةٌ1 لم أر مثله. فكتب إليه الحجاج أن يحمله معه، فما دخل عليه قال له: بلغني انك ذو بديهة، فقل في هذه الجارية -لجارية قائمةٍ على رأسه- فقال جريرٌ: مالي أن أقول فيها حتّى أتأملها، ومالي أن أتامل جارية الأمير! فقال: بلى، فتأمّلها واسألها. فقال لها: ما اسمك يا جارية? فأمسكت، فقال لها الحجاج: خبّرية يا لخناء، فقالت: أمامة، فقال جريرٌ:
ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
مثل الكثيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجبر متنه وتهيل
هذي القلوب صوادياً تيّمتها ... وأرى الشّفاء وما إليه سبيل
فقال له الحجاج: قد جعل الله لك السبيل إليها، خذها هي لك. فضرب بيده إلى يدها، فتمّنعت عليه، فقال:
إن كان طلبّكم الدّلال فإنه ... حسنٌ دلالك يا أمام جميل
[ش: ينصب "الطّبّ" ورفع "الدّلال"، وبالعكس، برفع "الطب" ونصب الدلال. والطّبّ هنا: المذهب، والّدلال: الدّالّة].
فاستضحك الحجاج، وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة.
وخبرت أنها كانت من أهل الرّيّ، وكان إخوتها أحراراً، فاتّبعوه، فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفاً، فلم يفعل، ففي ذلك يقول:
إذا عرضوا عشرين ألفاً تعرضت ... لامً حكيم حاجةٌ هي ماهيا
ردت أهل الرّي عندي مودّة ... وحبّبت أضعافاً إليّ المواليا
فأولدها حكيماً وبلالاً وحزرة، بني جرير، هؤلاء من أذكر من ولدها.
ويقال: إنّ الحمّانيّ2 قاول بلالاُ ذات يوم فيما كان بينهما من الشرّ، فقال: يا ابن أمّ حكيم، فقال له بلالٌ: ما تذكر من ابنة دهقان، وأخيذة رماح، وعطيّة ملكٍ? ليست كأمّك التي بالمرّوت3، تغدو على أثر ضأنها، كأنما عقباها حافرا
ـــــــ
1 زيادات ر: "يريد داهية، والباقعة: طائر حدر".
2 قال المرصفى: "الحمانى اسمه أبو نخيلة، نسب إلى جده حمان".
3 المروت: اسم واد بعينه.

حمار، فقال له الحمّانيّ: أنا أعلم بأمّك، إنما عتب عليها الحجّاج في أمر، الله أعلم به، فحلف أن يدفعها إلى ألأم العرب، فلما رأى أباك لم يشكك فيه.
وقال: أنشدت لرجل من رجّاز بني سعدٍ:
أنا ابن سعدٍ وتوسّطت العجم ... فأنا فيما شئت من خالٍ وعم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس قومٌ أكيس من أولاد السّراريّ، لأنهم يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم.

كتاب محمد بن عبد الله بن حسن إلى المنصور وردّه عليه
وكتب أمير المؤمنين المنصور إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لمّا كتب إليه محمدٌ:
"وعلم أني لست من أولاد الطّلقاء،ولا أولاد اللّعناء، ولا أعرقت فيّ الإماء، ولا حضنتني أمّهات الأولاد. ولقد علمت أن هاشماً ولد عليّا مرّتين، وان عبد المطّلب ولد الحسن مرّتين،وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرّتين، من قبل جدّي الحسن والحسين". يعني أن أمّ عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وأمّ الحسن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم، وأن أمّه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم.
فكتب إليه المنصور:
"أما ما ذكرت من ولادة هاشم عليّاً مرتين، وولادة عبد المطّلب الحسن مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يلده هاشم إلاّ مرة واحدةً، ولا عبد المطلب إلاّ مرةً واحدةً، وله السبق إلى كلّ خير. ولقد علمت أنه بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمومته أربعةٌ، فآمن به اثنان، أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك، وأمّا ما ذكرت أنه لم تعرق فيك الإماء، فقد فخرت على بني هاشم طرّاً، أولهم إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عليّ بن الحسين، الذي لم يولد فيكم بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مولودٌ مثله".
وهذه رسالة للمنصور طريفةٌ مستحسنةٌ جداً، سنمليها في موضها من هذا الكتاب، إن شاء الله.

وأنشدني الرّياشيّ:
إنّ أولاد السّراري ... كثروا يا ربّ فينا
ربّ أدخلني بلاداً ... لا أرى فيها هجينا
والهجين عند العرب: الذي أبوه شريفٌ وأمّه وضيعة?، والأصل في ذلك أن تكون أمّةً، وإنما قيل: "هجين" من أجل البياض، وكأنهم قصدوا قصد الرّوم والصّقالبة ومن أشبههم، والدليل على أن الهجين الأبيض أن العرب تقول: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر، أي العربي والعجميّ، ويسمّون الموالي وسائر العجم الحمراء، وقد ذكرنا ذلك، ولذلك قال زيد الخيل:
أيقن أننا صهب السّبال1
أي كهؤلاء من العجم. وقال أبن الرّقيات:
إن تريني تغيّر اللّون منّي ... وعلا الشّيب مفرقي وقذالي
فظلال السيّوف شيّبن رأسي ... وطعاني في الحرب صهب السّبال
فقيل: هجين من هاهنا.
وإذا كانت الأمّ كريمةً والأب خسيساً قيل له: المذرّع، قال الفرزدق:
إذا باهليٌّ تحته حنظليّةٌ ... له ولدٌ منها فذاك المذرّع
وقال الآخر:
إنّ المذّرع لا تغني خئولته ... كالغل عن شوط المحاضير2
وإنما سمّي مذرّعا، للرّقمتين3 في ذراع البغل، وإنما صارتا فيه من ناحية الحمار، قال هدبة:
ورثت رقاش اللّؤم عن آبائها ... كتوارث الحميرات رقم الأذرع
وقال عبد الله بن العباس في كلام يجيب به ابن الزبير: والله إنه لمصلوب قريش، ومتى كان عوّام بن عوامٍ يطمع في صفيّة بنت عبد المطلبّ! من أبوك يا بغل? فقال: خالي الفرس!
ـــــــ
1 صدره كما في حواشي ر:
وأسلم عرسه لما رأنا
2 زيادات ر: "جمع محضير، وهو الفرس السريع".
3 الرقمتان: أثر بباطن الذراعين لا ينبتان الشعر.

باب

لأعرابي فيمن أطال لحيته
قال أبو العباس: قال أعرابيّ:
كلّ امرئ ذي لجيةٍ عثوليّةٍ ... يقوم عليها ظنّ أن له فضلا
وما الفضل في طول السّبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
ويروى: "لحاملها".
عثوليّة، يقول: كثيرةٌ، والمستعمل رجلٌ "عثوالٌّ" إذا كان كثير الشّعر، وأصل ذلك في الرأس واللّحية، وبناه الأعرابيّ بناء "جدول" كأنه "عثول" ثم نسب إليه.
والسّبلة: مقدّم اللّحية، يقال لما أسيل من الشاربين: سبلتان، وتقول العرب: اخذ فلانٌ شفرة فلتم بها سبلة بعيره، أي نحره، واللّتم: الشّقّ، فهذا ما أسبل من جرانه.

لبعض المحدثين في ذم ذوي العي
وقال بعض المحدثين:
وما حسن الرّجال لهم بحسنٍ ... إذا ما أخطأ الحسن البيان
كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجهٌ وليس له لسان
وقال آخر:
إنّي على ما تزدري من دمامتي ... إذا قيس ذراعي بالرجال طويل

لرجل يصف لحيته
ونظر يزيد بن مزيد الشّيباني إلى رجل ذي لحيةٍعظيمة، وقد تلفّفت على صدره، فإذا هو خاضبٌ، فقال: إنك مكن لحيتك في مئونة! فقال: أجل، ولذلك أقول:
لها درهمٌ للدّهن في كلّ جمعةٍ ... وآخر للحنّاء يبتدران
ولولا نوالٌ من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الجلمان1
ـــــــ
1 الجلمان: مثنى جلم، وهو المقراض، ويطلق المثنى على الواحد.

لإسحاق بن خلفٍ يصف رجلاً بالقصر وطول اللحية
وقال إسحاق بن خلف يصف رجلاً بالقصر وطول اللّحية:
ماسرّني أنّني في طول داود ... وأنّني علمٌ في البأس والجود
ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والدٌ يمشي بمولود
ما طول داود إلاّ طول لحيته ... يظل داود فيها غير موجود
تكنّة خصلةٌ منها إذا نفخت ... ريح الشّتاء وجفّ الماء في العود
كالأنبجاني مصقولاً عوارضها1 ... سوداء في لين الغادة الرّود2
أجرى وأغنى من الخزّ الصّفيق ومن ... بيض القطائف3 يوم القرّ والسّود4
إن هبّت الرّيح أدّته إلى عدنٍ ... إن كان مالفّ منها غير معقود
وفي الحديث: "من سعادة المرء خفّة عارضيه" وليس هذا بناقض لما جاء في إعفاء اللّحي وإحفاء الشّوارب، فقد روى أنهم قالوا: لا بأس بأخذ العارضين والتّبطين5، وأما الإعفاء فهو التّكثير، وهو من الأضداد، قال الله عز وجل: {حَتَّى عَفَوْا} 6، أي حتى كثروا، ويقال: عفا وبر الناقة إذا كثر، قال الشاعر:
ولكنّا نعضّ السّيف منها ... بأسؤق عافيات اللّحم كوم
والكوم: العظام الأسنمة، واحتها كوماء، ويقال: عفا الرّيع، إذا درس، ومن ذلك:
على آثار من ذهب العفاء
أي الدّروس.
وقال مسلمة بن عبد الملك: إني لأعجب من ثلاثة: من رجل قصّر شعره ثم عاد فأطاله، أو شمّر ثوبه ثم عاد فأسبله، أو تمنع بالسّراريّ ثم عاد إلى المهيرات.
ـــــــ
1 الأنبجانى: كساء من الصوف، منسوب إلى منبج على غير قياس.
2 الرود: الحسنة الشابة.
3 القطائف: حمع قطيفة، وهي كساء مربع غليظ له خمل ووبر.
4 زيادات ر: "القر" بالقاف، يريد البرد، ويروى بالغين، يريد السحائب البيض.
5 التبطين: أخذ الشعر من تحت الذقن والحنك.
6 سورة الأعراف 95.

واحدة المهيرات مهيرة، وهي الحرّة الممهورة، و"مفعول" يخرج إلى "فعيل" كمقتولٍ وقتيل، ومجروح وجريح، قال الأعشى:
ومنكوحةٍ غير ممهورةٍ ... وأخرى يقال لها فادها1
فهذا المعروف في كلام العرب، مهرت المرأة فهي ممهورةٌ، ويقال وليس بالكثيرأمهرتها فهي ممهرةٌ، أنشدني المازنيّ:
أخذن اغتصاباً خطبةً عجرفيّة ... وأمهرن أرماحاً من الخط ذبّلا2
ـــــــ
1 زيادات ر: "فادها، من فديت الأسير، وهو يصف سبيا أخذ فيه إماء وحرائر".
2 زيادات ر: "عجرفية: جافية، خطبة، مصدر مضى".

من ألفاظ الكنايات
وأهل الحجاز يرزن النكاح العقد دون الفعل، ولا ينكرونه في الفعل ويحتجّون بقول الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 1، فهذا الأشيع في كلام العرب، قال الأعشى:
وأمتنعت نفسي من الغانيا ... ت إمّا نكاحاً وإما أزن2
ومن كل بيضاء رعبوبةٍ ... لها بشرٌ ناصعٌ كاللّبن3
ويكون النّكاح الجماع، وهو في الأصل كناية، قال الراجز:
إذا زنيت فأجد نكاحاً ... وأعمل الغدوّ والرّواحا
والكناية تقع عن هذا الباب كثيراً، والأصل ما ذكرنا لك، وفال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا من نكاح لا من سفاح". ومن خطب المسلمين: "إن الله عز وجل أحلّ النّكاح وحرم السّفاح".
والكناية تقع على جماع، قال الله عزّ وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4، فهذه كناية عن الجماع، قال أكثر الفقهاء في قوله تبارك
ـــــــ
1 سورة الأحزاب 49.
2 زيادات ر: "قوله "أزن" أراد أزنى ثم حذف الياء وخفف النون فقال: أزن".
3 الرعبوبة: الحسنة الخلق.
4 سورة البقرة 187.

وتعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1، قالوا: كناية عن الجماع، وليس الأمر عندنا كذلك، وما أصف مذهب اهل المدينة، قد فرغ من النكاح تصريحاً، وإنما الملامسة أن يلمسها الرجل بيد أو بإدناء جسدٍ من جسد، فذلك ينقض الوضوء في قول أهل المدينة، لأنه قال تبارك وتعالى بعد ذكر الجنب: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.
وقوله عزّ وجل: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2، كنايةٌ بإجماع عن قضاء الحاجة، لأن كلّ من يأكل الطعام في الدنيا أنجى، يقال: نجا وأنجى، إذا قام لحاجة الإنسان. وكذلك: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 3. كناية عن الفروج، ومثله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 4، فإنما الغائط كالوادي، وقال عمرو بن معدي كرب:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع5
ويقال: وهم الرجل يوهم، إذا شكّ، وهو الجود، ويجوز: ييهم، وييهم، وياهم، لعلل، وكذلك ما كان مثله، نحو: وجل يوجل ووحل يوحل،ووجع يوجع، ويجوز في وهم أن تقول: "يهم" فإن المعتلّ من هذا يجيء على مثال حسب يحسب، مثل: ولي الأمير يلي، وورم الجرح يرم، فهذا جميع ما في هذا الباب.
ـــــــ
1 سورة النساء 43.
2 سورة المائدة 75.
3 سورة فصلت 21.
4 سورة النساء 42.
5 يقال: ما بالدار كتيع، أى ما بها أحد.

لرجل من تميم
وقال رجلٌ احسبه من بني تميم:
لاتسألنّ الخيل ي اسعد مالها ... وكن أخريات الخيل علّك تجرح
لعلّك تحمي عن صحاب بطعنةٍ ... لها عائد ينفي الحصا حين ينفخ
وأكرم كريماً إن أتاك لحاجةٍ ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح1
بذا فامدحيني واندبيني فإنّني ... فتى تعتريه هزّةٌ حين يمدح2
ـــــــ
1 زيادات ر: "إذا أدبر القيظ وبرد الليل تحرك للشجر ورق رطب، فيقال: أخلف الشجر وتروح".
2 هذا البيت من زيادات ر.

قوله:
لاتسألنّ الخيل يا سعد مالها
يقول: لاتتخلّف عن القتال وتسأل عن أخبار القوم، ولكن كن فيهم. كما قال مهلهل:
ليس مثلي يخبّر القوم عن آ ... بائهم قتّلوا وينسى القتالا
لم أرم حومة الكتيبة حتّى ... حذي الورد من دماء نعالا
يقول: كنت في حومة القتال، صليت الحرب أكثر ممّا صليها غيري.

طلاق ابنة عبد الله بن السائب ثم زواجها من المصعب
ويروى عن رجل من بني أسد بن عبد العزّى، يقال له: فلان، [ش: هو عبد الله] بن السّائب أنه زوّج ابنته عمرو بن عثمان بن عفّان، فلمّا نصّت عليه طلّقها على المنصّة، فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزّبير، فقال: إنّ عمرو ابن عثمان طلق ابنتي على المنصّة، وقد ظنّ النّاس أنّ ذلك لعاهةٍ، وأنت عمّها، فقم فأدخل إليها، فقال عبد الله: أو خيراً من ذلك! جيئوني بالصعب، فخطب عبد الله فزوّجها من المصعب، وأقسم عليه ليدخلنّ بها في ليلته، فلا تعرف امرأة نصّت على رجلين في ليلتين ولاء غيرها فأولدها المصعب عيسى وعكّاشة، فلما كان اليوم مسكن1، وهرب أكثر الناس عن المصعب، دخل إلى سكينة ابنة الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكانت له شديدة المحبّة، وكانت تخفي ذلك، فلبس غلالةً وتوشّح عليها، وانتضى السّيف، فلمّا رأت ذلك علمت أنه عزم ألا يرجع، فصاحت من ورائه: واحرباه! فالتقت إليها، فقال: أو هذا لي في قلبك! فقالت: إي والله وأكثر من هذا! فقال: أما لو علمت لكان لي ولك وشأن. ثم خرج، فقال لابنه عيسى: يا بنيّ، انج إلى نجاتك، فإنّ القوم لا حاجة بهم إلى غيري، وستفلت بحيلةٍ أو بقيا، فقال: يا أبتاه! لا أحدّث والله عنك أبداً، فقال: أما والله لئن قلت ذلك لما زلت أتعرّف الكرم في أسرارك، وأنت تقلب في مهدك.
ـــــــ
1 مسكن: موضع على نهر دجيل، به كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وقتل به مصعب، وقبره هناك. "مراصد الاطلاع 1271".

[ش: الأسرار: جمع سرّ وهي الطّرائق في الجبهة].
فقتل بين يدي أبيه، ففي ذلك يقول شاعر أهل الشّأم من اليمانية:
نحن قتلنا مصعباً وعيسى ... وابن الزّبير البطل الرّئيسا
عمداً أذقنا مضر التّبئيسا
وقال رجل يعاتب رجلاً:
فلو كان شهم النّفس أو ذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب

لبلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير
وقال بلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير1:
مدّ الزّبير عليك إذ يبني العلا ... كنفيه حتّى نالتا العيّوقا2
ولو أنّ عبد الله فاخر من ترى ... فات البريّة عزّةً وسموقا
قرمٌ إذا ما كان يوم نفورةٍ ... جمع الزّبير عليك والصّدّيقا
لو شئت ما فاتوك إذ جاريتهم ... ولكنت بالسّبق المبرّ حقيقا
لكن أتيت مصلياً براً بهم ... ولقد ترى ونرى لديك طريقاً
عاد الحديث إلى تفسير الأبيات المتقدمة3:
قوله:
لعلك تحمي عن صحابِ بطعنةٍ
يقال: حميت الناحية أحميها حمياً وحمايةً، كما قال الفرزدق:
إذا النّفوس جشأن طأمن جأشها ... ثقةً لها بحماية الأدبار4
ومعنى ذلك: منعت ودفعت، ويقال: أحميت الأرض أي جعلتها حمى
ـــــــ
1 زيادات ر: "يقال إن بلالا لم يلحق ابن الزبير، إلا أن يكون مدحه ميتا".
2 العيوق: نجم أحمر مضىء في السماء في طرف المجرة الأيمن، وفي زيادات ر: ويروى: "كفيه"، وهو أظهر لقوله: "حتى نالتا".
3 ص132.
4 جشأن: تظلمن وجزعن فزعا، وطأمن: سكن.

لا تقرب،وأحميت الحديد أحميه إحماءً، وحميت أنفي محميةً يا فتى،إذا أنت أبيت الضّيم. وصحابٌ: جمع صاحب، وقد يقال: هو جمع صحب، كما تقول: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، ونحو ذلك، ثم تجمع صحباً على أصحاب، كقولك: كلبٌ وفرخٌ وفراخٌ، فهذا مذهب حسنٌ، ومن قال: هو جمع صاحب، فنظيره قائم وقيامٌ، وتاجرٌ وتجارٌ.
وقوله: "لها عاندٌ ينفي الحصا"، يعني الدّم، يقال: عند العرق، إذا خرج الدّم منه بحدّة. ينفي الحصا، يعني الدّم بشدة جريه، كما قال:
مسحسحةٍ تنفي الحصا عن طريقها ... [يقطع أحشاء الرّعيب انتثارها]1
يعني: طعنة.
وقال آخر في صفة طعنة:
ومستنّةٍ كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود
والخروف هاهنا إنما هو الفلوّ الصّغير.
وقوله:
وأكرم كريماً إن أتاك لحاجة ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح
يقول: الشجر يصيبه النّدى في آخر الصّيف فينشأ له ورق، فيقول: لعلّك تحتاج إلى هذا الكريم وقد قدر.
ومثله:
ولاتهين الكريم علّك أن ... تركع يوماً والدّهر قد رفعه
أراد "ولا تهينن" بالنون الخفيفة، فحذفها لالتقاء الساكنين، وهذا الحكم فيها.
ومثله في المعنى قول عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلب:
إذا خلةٌ نابت صديقك فاغتنم ... مرمّتها فالدهر بالناس قلّب
وبادر بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
[زوال، مفعولٌ ل "بادر". قاله ش] ومثل هذا كثير.
ـــــــ
1 مابين العلامتين س، زيادات ر.

وقال جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنهم إنّي لأسارع إلى حاجة عدّوي خوفاً من أن أردّه فيستغني عنّي.
وقال رجلٌ من العرب: ما رددت رجلاً عن حاجة فولّى عنّي إلا رأيت الغنى في قفاه. وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: ما رأيت أحداً أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بينى وبينه، ولا رأيت رجلا رددته عن حاجة إلاّ أظلم ما بيني وبينه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " من يئس من شيْ استغنى عنه. وقال عبد الله بن همّام السّلوليّ:
فأحلف وأتلف إنما المال عارةٌ ... فكله مع الدّهر الذي هو آكله
فأهون مفقود وأيسر هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله
عارةٌ، أي معارٌ، ووزنه "فعلةٌ".
وقال أحد المحدثين1، وليس من هذا الباب ولكنّا ذكرناه في الإعارة:
أعارك ماله لتقوم فيه ... بطاعته وتعرف فضل حقّه
فلم تشكره نعمته ولكن ... قريت على معاصيه برزقه
تجاهره بها عوداٌ وبدءاٌ ... وتستخفي بها من شرّ خلقه
وقال جريرٌ:
وإنّي لأستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الحقّ الذي لا يرى ليا
هذا بيتٌ يحمله قومٌ على خلاف معناه، وإنما تأويله: إني لأستحيي أخي ان يكون له عليّ فضل ولا يكون لي عليه فضل زمني إليه مكافأةٌ، فأستحيي أن أرى له عليّ حقاً لما فعل إليّ، ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حقٌّ. وهذا من مذاهب الكرام، وممّا تأخذ له أنفسها.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو محمود الوراق".

أبيات عائد الكلب الزبيري لعبد الله بن حسن
ٍ
فأمّا قول عائد الكلب الزّبيريّ لعبد الله بن حسن بن حسنٍ1:
له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرّسول
فإنه ذكره بقلّة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيّن ذلك يقوله:
وقد كان رسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرسول
فالذي يفتخر به عبد الله يرى للناس عليه حقاً، فالمفتخر به أجدر.
وقد قيل لعليّ بن الحسين وكان بين الفضل رضي الله عنه: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة? فقال: أكره أن آخذ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لا أعطي مثله.
وإنما يعتري هذا الباب من الظلم وقلّة الإنصاف والبعد من الرّقّة عليهم الجهلة من أهل هذا النسب، والله جلّ ذكره يقول لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3، فإذا كان هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاف من المعصية فكيف يأمنها غيره به!
ـــــــ
1 زيادات ر: اسمه عبد الله بن مصعب الزبيرى، وسمى عائد الكلب بقوله:
مالى مرضت فلم يعدنى عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
وأشد من مرضى على صدودكم ... وصدود كلبكم على شديد
2 سورة التوبة 128.
3 سورة الأنعام 15.

لجرير يمدح هشام بن عبد الملك
وأما قول جريرٍ لهشام بن عبد الملك فهو المدح الصحيح على خلاف هذا المعنى، قال:
وأنت إذا نظرت إلى هشام ... عرفت نجار منتخب كريم
وليّ الحقّ حين يؤم حجّا ... صفوفاً بين زمزم والحطيم

يرى للمسلمين عليه حقاً ... كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم
إذا بعض السّنين تعرّقتنا1 ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
وفي هذا الشعر:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا أعوجّ الموارد مستقيم
أمير المؤمنين جمعت ديناً ... وحلماً فاضلا لذوي الحلوم
لك المتخيّران أبا وخالاً ... فأكرم بالخؤولة والعموم
فيا ابن المطعمين إذا شتونا ... ويا ابن الذّائدين عن الحريم
سما بك خالدٌ وبنو هشامٍ ... إلى العلياء في الحسب الجسيم2
وتنزل من أميّة حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصّميم
تواصلت من تكرّمها قريشٌ ... بردّ الخيل دامية الكلوم
فما الأمّ التي ولدت قريشاً ... بمقرفة النّجار ولا عقيم
وما فحلٌ بأنجب من أبيكم ... ولا خالٌ بأكرم من تميم
سما أولاد برّة بنت مرّ ... إلى العلياء في الحسب العظيم
لك الغرّ السّوابق من قريش ... فقد عرف الأغرّ من البهيم
قوله: "حين يؤم حجّاً" فيكون الحجّ جمع حاجّ، كما يقال: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، قال العجّاج:
بواسطٍ أكرم دارٍ دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا
فأخرجه على "ناصر ونصر"، قال: ويجوز أن يكون حجّ أصحاب حجّ، كما قال الله عزّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، يريد أهلها.
وقوله:
كفعل الوالد الرّوف الرّحيم
يقال: "رؤف" على "فعلٍ" مثل يقظ وحذر، رؤوف على وزن "ضروب". وقال الأنصاري4:
ـــــــ
1 تعرقتنا: أهزلتنا، وأصله أخذ ما على العظم من اللحم.
2 زيادات ر: "وهم أبو العباس في قوله: وبنو هشام، وإنما وقع في شعره: وأبو هشام، وهو الصحيح، يريد إسماعيل بن هشام وهو جده من قبل أمه".
3 سورة يوسف 82.
4 زيادات ر: "هو كعب بن مالك".

نطيع نبيّنا ونطيع رباً ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا
وقد قرىء: {واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1، و{رَؤُوفٌ} أكثر، وإنما هو من الرّأفة، وهي أشدّ الرّحمة، ويقال: "رآفةٌ" وقرىء: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 2، على وزن الصّرامة والسّفاهة.
وقوله:
إذا بعض السّنين تعرّ قتنا
يفسر على وجهين: أحداهما: ان يكون ذهب إلى بعض السنين سنون، كما قال الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم
لأن صدر القناة قناةٌ، ومن كلام العرب: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع إصبع، فهذا قول.
والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه، فأقتحم المضاف إليه توكيداً، لأنه غير خارج من المعنى، وفي كتاب الله عزّ وجل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 3 إنما المعنى: فظلّوا لها خاضعين، والخضوع بيّن في الأعناق، فأخبر عنهم، فأقحم العناق توكيداٌ. وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم جماعاتهم، تقول: أتاني عنقٌ من النّاس، والأول قول عامّة النحويين. وقال جرير:
لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ
وقال أيضاَ:
رأت مرَّ السنينَ أخذن مِنِّي ... كما أخذ السرارُ من الهلالِ
وقال ذو الرمة:
مشينَ كما اهتزت رِماح تسفهت ... أعاليها مرُّ الرياح النواسم4
ـــــــ
1 سورة البقرة 207.
2 سورة النور 2.
3 سورة الشعراء 4.
4 زيادات ر: "زعم بعضهم أن البيت مصنوع، والصحيح فيه: مرضى الرياح النواهم، المرضى: التي تهب بلين".

ومثل هذا كثير، وعلى مثل هذا القول الثاني تقول: "يا تيم تيم عدي" لأنك أردت: "يا تيم عدي"، وأقحمت الأول توكيدً1، وكذلك: لا أبا لك، لأن الألف لا تثبت في الأب في النصب إلا في الإضافة، أولا بدلاً من التنوين، فإنما أراد لا أباك ثم اقحم اللام توكيداً للإضافة، وأنشد المازني:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلدُ!
وقال آخر:
أبا لموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني!
وقوله: "على صراط" فالصراط: المنهاج الواضح، وكذلك قالت العلماء في قول الله عزّ وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
وقوله: "سما بكَ خالدٌ" يريد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب، لأن أم هشام بنتُ هشام بن إسماعيل ابن هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وكان هشام بن المغيرة أجل قرشي حالماً وجوداً، وكانت قريش تؤرخ بموته، كما كانت تؤرخ بعام الفيل، وبملكِ فلانٍ، قال الشاعر:
زمان تناعى الناس موت هشام
ومن أجل يقول القائل:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشامُ
يقول: هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يحب من أجله ألا ينالها جدب، وقال الآخر:
ذريني أصطبح يا سلم إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
وقوله: "نقب" أي طوف حتى أصاب هشاماً، قال الله عزّ وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي طوفوا، ومثله قول امرئ القيس"
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ـــــــ
1 زيادات ر: كذا وقع "وأقحمت الأول توكيدا"، وإنما الصحيح: "وأقحمت الثاني توكيدا".
2 سورة ق 36.

عمر أول من أرخ في الإسلام
فأما التاريخ الذي يؤرخ به اليوم فأول من فعله في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله. حيث دون الدواوين، فقيل له: لو أرخت يا أمير المؤمنين لكنت تعرف الأمور في أوقاتها? فقال: وما التأريخ? فأعلم ما كانت العجم تفعله، فقال: أرخوا؛ فقالوا: مذ أي سنة? فاجتمعوا على سنة الهجرة، لأنه الوقت الذي حكم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير تقيةٍ ثم قالوا: في أي شهرٍ? فقالوا: نستقبل بالناس أمورهم في شهر المحرم إذا انقضى حجهم، وكانت هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر بيع الآخر1 فقدم التأريخ على الهجرة هذه الأشهر.
وجاء في تصحيح هذا الوقت - أعني المحرم - ما روي لنا عن ابن عباسٍ رحمه الله، فنه قال في قول الله عزّ وجل: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 2 فأقسم بفجر السنة، وهو المحرم.
وقوله:
فما الأم التي ولدت قريشاً
يعني برة بنت مرٍّ، كانت أمَّ النضر بن كنانة، وهو أبو قريش، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وتميم بن مرٍّ خاله.
وكان يقال: من عرف حق أخيه دام له إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غر نفسه.
وقيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسييء الخلق عيش، ولا لمتكبر صديق.
وقيل: من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبته، والمنة تفسدُ الصنيعة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الذي اتفق عليه أن هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت في ربيع الأول، وفيه مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
2 سورة الفجر2,1.

في مدح أبي البختري
ويروى أن شاعراً أتى أبا البختري1 وهب بن وهبٍ،وكان من أجود الناس، وكان إذا سمع مدح المادح ضحك وسرى السرور في جوانحه، وأعطى
ـــــــ
1 زيادات ر: "البخترى، بفتح الباء وبالخاء المعجمة".

وزاد، فأتاه هذا الشاعر فأنشده:
لكل أخي فضل نصيب من العلا ... ورأس العلا طرا عقيد الندى وهبُ
وما ضر وهباً قول من غمط العلا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب1
فثنى له الوسادة، وهش إليه ورفده، وحمله وأضافه، فلما أن أراد الرجل الرحلة لم يخدمه أحد من غلمان أبي البختري، ولا عقد له ولا حل معه. فأنكر ذلك من جميل ما فعل به، وأنه قد تجاوز به أمله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الإقامة، ولا نعين الراحل على الفراق. فبلغ هذا الكلام جليلاً من القرشيين، فقال: والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا القصد أحسن من رفد سيدهم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "غمط "بالكسر": كفر النعمة، وغمط "بالفتح"، ويقال أيضاً: تنقص".

باب

سؤال عبد الملك لحسان: أي المناديل أفضل?
قال عبد الملك بن مروان لجلسائه - وكان يجتنب غير الأدباء -: أي المناديل أفضل? فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرقىء البيض1. وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع. فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئاً، أفضل المناديل ما قال أخو تميم - يعني عبدة بن الطبيب2.
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ورد وأشقر ما يؤنيه طابخه ... ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
قوله: "غرقىء البيض" يعني القشرة الرقيقة التي تركب البيضة دون قشرها الأعلى، وقشرها الأعلى يقال له: القيض.
وقوله: "المراجيل" إنما حده "المراجل"؛ ولكن لما كانت الكسرة لازمة أشبعها للضرورة؛ كما قال:
نفي الدرام تنقاد الصياريف3
وقد مر تفسير هذا.
وقوله:
ورد وأشقر ما يؤنيه طباخه
يقول: ما تغير من اللحم قبل نضجه.
وقوله: "ما يؤنيه طباخه" يقول: ما يؤخره، لأنه لو آناه لأنضجه، لأن معنى "آناه" بلغ به إناه، أي إدراكه، قال الله عز وجل: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} 4، وتقول: أنى يأني إنيّ، إذا أدرك، وآن يئين مثله. وقوله عز وجل: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} 5 أي قد بلغ إناه.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الغرقىء يهمز، ولا يهمز، وكذلك فعله".
2 زيادات ر: "عبدة، بإسكان الباء".
3 زيادات ر: "الحجة في الصياريف".
4 سورة الأحزاب 53.
5 سورة الرحمن 44.

وقوله:
ما غير الغلي منه فهو مأكول
يقول: نحن أصحاب صيد، وهذا من فعلهم1.
وقوله: "مسومة" تكون على ضربين: أحدهما أن تكون معلمة، والثني أن تكون قد أسميت في المرعى، وهي ههنا معلمة، وقد مضى هذا التفسير.
وإنما أخذ ما في هذه الأبيات من بيت أمرىء القيس، فإنه جمع ما في هذه الأبيات في بيت واحدٍ، مع فضل التقدم.
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
وهو الذي لم يدرك، ونمش: نمسح، ويقال للمنديل المشوش.
وكانت العرب تألف الطيب، وتطرح ذلك في حالتين: في الحرب والصيد.
قال النابغة:
سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار
وقال آخر:
وأسيافكم مسك محل أكفكم ... على أنها ريح الدماء تضوع2
معنى "تضوع" تفوح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "العرب لا تنضج اللحم، إما لا ستعجالها للضيف، وإما لأن ذلك مستحب عندها، ولذلك قال: لا يؤنيه. وقيل لتعجيل القرى".
2 زيادات ر: "تضوع روايته".

وفاء ابنة هانيء بن قبيصة
وروي عن ابنة هانيء بن قبيصة [ذكر يعقوب أنها ابنة قيس بن خالد الشيباني. ش]. أنه لما قتل عنها لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك حنظلة، فتزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطاً، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط? فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشىء، فرجع وبقميصه نضح ضمه، وشمني شم، فليتني كنت مت ثمه، قال: ففعل زوجها مثل ذلك، ثم

ضمها إليه، وقال: أين أنا من لقيط? فقالت: ماء ولا كصدآء - مثل حمراء، ووزنها "فعلاء"، وموضع اللام همزة، وهي بئر مقدمة، واسمها ما ذكرنا عن الأصمعي وأبي عبيدة، وكذلك سمعنا العرب تقوله، ومن ثقل فقد أخطأ ومثل ذلك: رجل ولا كمالكٍ1 - يعنون مالك بن نويرة، ومرعى ولا كالسعدان.
ـــــــ
1 زيادات ر: "فما يقال: فتى ولا مالك، وقد تقدم لأبي العباس: "فتى"، وهو الصواب".

حديث بنات ذي الإصبع العدواني
وحدثني علي بن عبد الله عن ابن عائشة قال: كان ذو الإصبع العدواني رجلاً غيوراً، وكانت له بنات أربع، وكان لا يزوجهن غيرة، فاستمع عليهن يوماً،وقد خلون يتحدثن، فقالت قائلة منهن: لتقل كل واحدةٍ منكن ما في نفسها، ولنصدق جميعاً. قال: فقالت كبراهن:
ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشباب طيب النشر والذكر
لصوق بأكباد النساء كأنه ... خليفة جان لا يقيم على هجر
قال: وقالت الثانية:
ألا ليته يغطي الجمال بديئة ... له جفنة يشقى بها النيب والجزر
له حكمات الدهر من غير كبرةٍ ... تشين فلا فانٍ ولا ضرع غمرُ
"أخذ التجارب، وهو مأخوذ من حكمة اللجام ش" فقلن لها: أنتِ تريدين سيداً. فقالت: الثالثة:
ألا هل تراها مرة وحليلها ... اشم كنصل السيف عين1 المهند
عليماً بأدواء النساءِ ورهطهُ ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها: أنت تريدين ابن عم لك، فقد عرفته. وقلن للصغرى: ما تقولين? فقالت: لا أقول شيئاً، فقلن: لا ندعك وذاك؛ إنك اطلعت على أسرارنا وتكتمين سرك، فقالت: زوج من عود، خيرً من قعود.
قال: فخطبن، فزوجهن جمع، ثم أمهلهن حولاً، ثم زار الكبرى، فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: خير زوج، يكرم أهله، وينسى فضل، قال لها:
ـــــــ
1 زيادات ر: "حليلها، بفتح اللام وبالضم، وأشم مثله".

فما مالكم? قالت: الإبل، قال: وما هي? قالت: نأكل لحمانها مزعاً1، ونشرب ألبانها جرعاً، وتحملنا وضعفتنا معاً. فقال لها: زوج كريم، ومال عميم.
ثم زار الثانية فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: يكرم الحليلة، ويقرب الوسيلة. قال: فما مالكم? قالت: البقر، قال: وما هي? قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساءُ مع نساءٍ. قال لها: رضيت وحظيت.
ثم زار الثالثة، فقال لها: كيف رأيت زوجك? فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكرٌ2، قال: مالكم? قالت: المعزى، قال: وما هي? قالت: لو كنا نولدها فطماً، ونسلخا أدماً، لم نبغ بها نعماً، فقال لها: جذو مغنية.
ثم زار الرابعة، فقال لها: كي رأيت زوجك? فقالت: شر زوج، يكرمُ نفسه، ويهين عرسه، قال لها: فما مالكم? قالت: شر مال؛ الضأن، قال لها: وما هن? قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن، فقال: "أشبه امرؤ بعض بزه"3 فأرسلها مثلاً.
قال علي بن عبد الله: قلت لابن عائشة: ما قولها: "وأمر مغويتهن يتبعن"? فقال: أما تراهن يمررن فتسقط الواحدة منهن في ماء أو وحل وما أشبه ذلك فيتبعنها إليه.
قول الثانية:
له جفنة تشقى بها النيب والجزر
فالنيب: جمع ناب، وهي المسنة، وإنما قيل لها: ناب، لطول نابها؛
قال أوس بن حجر:
تشبه نابا وهي في السن بكرةٌ
وتقدير "نيب" من الفعل "فعلٌ"،ولكن ما كان من ذوات الياء كسر له موضع الفاء من الفعل لتصح الياء، لأن الياء إذا سكنت وانضم ما قبلها كانت
ـــــــ
1 مزعا: قطعا.
2 الحكر هنا: المقتر.
3 زيادات ر: "أشبه امرأ بعض بزه، رواية"، يضرب للمتشابهين أخلاقا.

واواً، نحو: موقن وموسر، وإن فارقتها الضمة عادت إلى أصلها، نحو قولك: مياسير، ومثل ذلك أبيض وبيض، وإنما "بيض" "فعل" كـ"أحمر وحمر" و"أصفر وصفر"، ولكن كسرت النون لتصح الياء، ولو كانت واواً في الأصل لم تغير. نحو: "أسود وسودٍ".
وقوله: "ناب"، تقديرها فَعَلٌ متحركة العين، ولا تنقلب الياء ولا الواو ألفاً إلا وهماً في موضع حركة وما قبلهما مفتوح، نحو: باع وقال ورمى وغزا؛ لأن التقدير فعلَ، ولو كان على فَعْلٍ لصحت الياء والواو، كما تقول: بيع وقول، وفَعَلٌ قد يجمعونه على فُعْلٍ كقولهم: أسدٌ وأسدٌ، ووثنٌ ووثنٌ.
وقولها: "تشقى بها النيب والجزر" فإنما عطفت أحدهما على الآخر لأن من الإبل ما يكون جزوراً للنحر لا غير.
وأما قولها: "ولا ضرعٌ غمرُ" فالضرع: الضعيف، والغمر: الذي لم يجرب الأمور.

الحجاج والمهلب بن أبي صفرة
ويروى أن الحجاج لما ورد عليه ظفر المهلب بن أبي صفرة وقتله عبد ربه الصغير، وهرب قطري عنه تمثل فقال: لله در المهلب! والله لكأنه ماوصف لقيط الإيادي حيث يقول:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رجب الذراع بأمر الحرب مضطلعاً
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعاً
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعاً
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا رثاً ولا ضرعاً
فقام إليه رجل فقال: أيها الأمير، والله لكأني أسمع هذه التمثيل من قطري في المهلب. فسر الحجاج بذلك سروراً تبين في وجهه:
وقولها:
كنصل السيف عين المهند
فالمهند، المنسوب إلى الهند.

وقولها: "من أهل بيتي ومحتدي" فالمحتد: الأصل، قال الشاعر:
وفي السر من قحطان أولاد حرةٍ ... عظامُ اللها بيض كرام المحاتد
وقوله: "مال عميم" يقول: جامع، أخذه من عمَّ يعمُّ.
وقوله: "جذو مغنية" فالجذو: جمع جذوه، وهي القطعة، وأصل ذلك في الخشب ما كان منه فيه نارٌ، وقال الله عز وجل: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} 1 وتجمع أيضاً جذاً، قال ابن مقبل:
باتت حواطب سلمى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوارٍ ولا دعر
الحوار: الضعيف، والدعر: الكثير الثقب، يقال: عود دعر.
وقولها: "جوف لا يشبعن" تقول: عزاك الأجواف. و"هيم لا ينقعن"، الهيم: العطاش، يكون الواحد من هيم أهيم، ويقال في هذا المعنى: هيمان. وقال بعض المفسرين في قول الله عز وجل: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 2 قال: هي الإبل العطاش، وقال ذو الرمة3:
فراحت الحقب لم تقصع صرائها ... وقد نشحن فلا ري ولا هيم4
ويقال: "قصع صارته" إذا روي، والصارة: شدة العطش، والنشوح: أن تشرب دون الري، يقال: نشح ينشح، ومثله: تغمر، إذا لم يرو. ويقال للقدح الصغير الغمر من هذا. وقال بعض المفسرين: الهيمُ: رمال بعينها، واحدتها هيماء، يا فتى.
وقولها: "لا ينقعن" أي لا يروين، يقال: ما نقعت ماشية بني فلان بري، إذا لم تبلغ من الماء حقها، ويقال للماء: النقع، ويقال: النقع، في غير هذا الموضع، للغبار، ويقال: أثاروا النقع بينهم. والنقع أيضاً: اسم موضع بعينه. قال الشاعر:
لقد حببت نعم إلينا بوجهها ... ماسكن ما بين الوتائر والنقع5
ـــــــ
1 سورة القصص 29.
2 سورة الواقعة 55.
3 زيادات ر: "يصف حميرا".
4 زيادات ر: "الحقب البيض الأعجاز من الحمير".
5 زيادات ر: "الوتائر، بالتاء منقوطة باثنتين من فوق"، الوتائر والنقع: موضعان.

والنقع: الصراخ، قال لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق ... يخلبوه1 ذات جرسٍ وزجلٍ
وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 2 كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3 وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 4 وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} 5
ًوتقول العرب: "أبلدُ ما يُرعى الضأن"، ويقال: أحمق من راعي ضأن ثمانين6.
وتحدث عمرو بن بحر، قال: كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحداً من خمسة: القطان، والغزال، والمعلم، ورعي ضأن، ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء.
وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيك تضربه فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً.
وقال الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي.
وقال جل ثناؤه في صفة النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 7.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، وفي ر: "يجلبوه".
2 سورة البقرة 18.
3 سورة محمد 24.
4 سورة النمل 80.
5 سورة البقرة 171.
6 زيادات ر: "قوله: أحمق من راعي ضأن ثمانين، المثل لكسرى في أعرابي خيره فاختار ذلك، ذكره أبو عبيد، وهذا غير ما أشار إليه أبو العباس".
7 سورة الزخرف 18.

نقد كثير للشعراء
وحدثت أنعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة أتى المدينة فأقام بها، ففي ذلك يقول:
يا خليلي قد مللت ثوائي ... بالمصلى وقد شنئت البقيعا
فلما أراد الشخوص شخص معه الأحوص بن محمدٍ؛ فلما نزلا ودان صار إليهما نصيب، فمضى الأحوص لبعض حاجته، فرجع إلى صاحبيه، فقال: إني رأيت كثيراً بموضع كذا، فقال عمر: فابعثوا إليه ليصير إلينا، فقال الأحوص: أهو يصير إليكم? هو والله أعظم كبراً من ذلك؛ قال: فذا نصير إليه، فصاروا إليه، وهو جالس على جلد كبش، فوالله ما رفع منهم أحداً ولا القرشي. ثم أقبل على القرشي، فقال: يا أخا قريش، والله لقد قلت فأحسنت في كثيرٍ من شعرك، ولكن خبرني عن قولك:
قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر1
قومي تصدي له ليبصرنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري
والله لو قد قلت هذا في هرة أهلك ما عدا، أردت أن تنسب بها فنسبت بنفسك، أهكذا يقال للمرأة! إنما توصف بالخفر، وأنها مطلوبة ممتنعة، هلا قلت كما قال هذا? وضرب بيده على كتف الأحوص:
أدور ولولا أن رى أم جعفرٍ ... بابياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بعد أن سيزور
لقد منعت معروفها أم جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
قال: فامتلأ الأحوص سروراً، ثم أقبل عليه فقال: يا أحوص، خبرني عن قولك:
فأن تصلي أصلك وإن تعودي ... لهر بعد وصلك لا أبالي
ـــــــ
1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية" "لاتفسدن" على النهى، والصحيح: "لتفسدن" على القسم، كأنها قالت: "والله لتفسدن".

أما والله لو كنت من فحول الشعراء لباليت؛ هلا قلت مثل ما قال هذا? وضرب بيده على جنب نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملك القلبُ
قال: فانتفخ نصيب، ثم أقبل عليه فقال له: ولكن أخبرني عن قولك يا أسود:
أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ وإن أمتْ ... فواحزاني من ذا يهيم بها بعدي
كأنك اغتممت ألا يفعل بها بعدك؛ ولا يكني، فقال بعضهم لبض: قوموا فقد استوت القرفة. وهي لعبة على خطوطٍ، فاستواؤها انقضاؤها.
قال أبو الحسن: الطبن هي السدر، فإذا زيد في خطوطه سمته العرب: القرفة، وتسميه العامة السدر.

كثير والأخطل عند عبد الملك بن مروان
قال: وحدثت أن كثيراً دخل على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل، فأنشده التفت عبد الملك إلى الأخطل، فقال: كيف ترى? فقال: حجازي مجوع مقرور1، دعني أضغمه يا أمير المؤمنين، فقال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال له: هذا الأخطل، فقال له كثير: مهلاً، فهلا ضغمت الذي يقول2:
لا تطلبن خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرمُ منهم أخوالاً3
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
فسكت الأخطل فما أجابه بحرفٍ.
قال أبو العباس: سمعتُ من ينشدُ هذ الشعر:
والتغلبي إذا تنبح للقرى
وهو أبلغُ.
ـــــــ
1 مقرور: أصابه القر، وهو البرد.
2 حاشية الأصل: "هو جرير"، والبيتان في ديوانه 453،45.
3 زيادات ر: "أخوالا، منصوب على الحال، ومن زعم أنه تمييز فقد أخطأ".

أبيات نصيب في امرأة نزل عندها فأكرمته
قال: وخُبرت أن نصيباً نزل بامرأة تكنى أم حبيب، من أهل مللٍ، وكانت تضيف بذلك الموضع وتقري، ولا يزال الشريف قد نزل بها فأفضل عليها الفضل الكثير، ولا يزال الشريف ممن لم يحلل بها يتناولها بالبر، ليعينها على مروءتها، فنزل بها نصيب ومعه رجلان من قريش، فلما أرادوا الحرلة عنها وصلها القرشيان، وكان نصيب لا مال معه في ذلك الوقت، فقال لها: إن شئت فلك أن أوجه إليك بمثل ما أعطاك أحدهما، وإن شئت قلت فيك شعراً، فغزلت أم حبيبٍ1 فقالت: بل الشعر، فقال:
ألا حي قبل البين أم حبيب ... وإن لم تكن مِنا غداً بقريب
وإن لم يكن أني أحبك صادقاً ... فما أحدٌ عندي إذاً بحبيب
تهام أصابت قلبه مللية ... غريب الهوى، واهاً لكل غريب!
ـــــــ
1 زيادات ر: "أى مالت إلى أن يتغزل بها".

نصيب عند عبد الملك بن مروان
وحدثت أن نصيباً أتى عبد الملك فأنشده، فاستحسن عبد الملك شعره وسر به، فوصله، ثم دعا بالغداء فطعم معه، فقال له بعد الملك: يا نصيب، هل لك فيما يتنادم عليه? فقال: يا مير المؤمنين، تأملني، قال: قد أراك، فقال: يا أمير المؤمنين، جلدي أسود، وخلقي مشوه، ووجهي قبيح، ولست في منصب، وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي وأنا أكره يا أمير المؤمنين أن أدخل عليه ما ينقص. فأعجبه كلامه فأعفاه.

الوليد بن عبد الملك والحجاج
وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدةٍ وفدها عليه - وقد أكلا -: هل لك في الشراب? فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكر أن أخالف قول العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 1، فأعفاه.
ـــــــ
1 سورة هود 88.

مسلمة بن عبد الملك ونصيب
وقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لنصيب: أمتدحت فلاناً! لرجل من أهله، فقال: قد فعلت، قال: أو حرمك? قال: قد فعل، قال: فهلا هجوته? قال: لم أفعل، قال: ولم? قال: لأني كنت أحق بالهجاء منه! إذ رأيته موضعاً لمدحي! فأعجب به مسلمة، فقال: اسألني، فقال: لا افعل، قال: ولِمَ? فقال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينارٍ.

في نقد الشعر
وحدثت أن الكميت بن زيدٍ أنشد نصيباً فاستمع له، فكان فيما أنشده:
وقد رأينا بها حوراً منعمة ... بيضاً تكامل فيها الدلُّ والشنبُ1
فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع? فقال: أحصي خطأك، تباعدت في قولك: "تكمل فيها الدل والشنب".
هلا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعسٌ ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنبُ
ثم أنشده في أخرى:
كأن الغطامط من جريها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا 2
فقال له: نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط، فاستحيا الكميت فسكت.
قال أبو العباس: والذي عابه نصيب من قوله: "تكامل فيها الدل والشنب".
قبيح جداً، وذلك أن الكلام لم يجر على نظم، ولا وقع إلى جانب الكلمة ما يشاكلها، وأول ما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق، وأن يوضع على رسم المشكلة.
وخبرت أن عمر بن لجإٍ قال لابن عم له: أنا أشعر منك، قال له، وكيف? قال: لأني أقول البيت وأخاه، وانت تقول البيت وابن عمه.
ـــــــ
1 الشنب: عذوبة الأسنان ورقتها.
2 الغطامط: اضطراب موج البحر، وفي زيادات ر: "وقعت الرواية" "من جريها"، وصوابه: "من غلبها"؛ لأنه يصف قدراً فيه لحم، فشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيه بالموج الذي يرتفع".

وأنشد عمرو بن بحر:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسانُ دعيِّ في القريض دخيل
وبعر الكبش يقع متفرقاً، فمن ذلك قول ابنة الحطيئة له، لما نزل في بني كليب بن يربوع: تركت الثروة والدد، ونزلت في بني كليب - بعر الكبش.
يقال: بعرٌ وبعرٌ، وشعرٌ وشعرٌ، وشمعٌ وشمعٌ، ويقال للصدر: قص وقصص، وكذلك نهرٌ ونهرٌ.
وزعم الأصمعي أنه سأل أعرابياً، وهو بالموضع الذي ذكره زهيرٌ:
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيدُ أو رككُ
قال الأصمعي: فقلت لأعرابي: أتعرف رككاً? فقال: لا، ولكن قد كان ههنا ماء يسمى ركاً.
فهذا ليست فيه لغتان، ولكن الشاعر إذا احتاج إلى الحركة اتبع الحرف المتحرك الذي يليه الساكنُ ما يشاكله، فحرك الساكن بتلك الحركة. فالعبد مناف بن ربع الهذلي:
إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا1
يريد الجلد، فهذا مطردٌ.
ومن مذابهم المطرة في الشعر أن يلقوا على الساكن الذي يسكن ما بعده للتقييد حركةَ الإعراب، كما قال الراجز2:
أنا ابن ماوية إذ جد النقرْ
يريد النقر يا فتى، وهو: النقرُ بالخيل، فلما أسكن الراء ألقى حركتها على الساكن الذي قبلها3.
ـــــــ
1 زيادات ر: قال ابن القوطية: لعج الحب قلبه، والصرد جسده: أحرقه". والصرد شدة البرد.
2 زيادات ر: "قال ابن السيد: أحسبه لعبيد بن ماوية".
3 زيادات ر: "النقير": صويت باللسان، يسكن به الفرس إذا اضطرب بفارسه، قال امرؤ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفأ غير جاف غضيض

وشبيه بهذا قوله:
عجبت والدهر كثيرٌ عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه
أراد: "لم أضربه"، يا فتى، فلما أسكن الهاء ألقى حركتها على الباء، وكان ذلك في الباء أحسن، لخفاء الهاء.
وقال أبو النجم:
أقولُ قرب ذا وهذا أزحلهُ
يريد أزحلهُ يا فتى.
وقال طرفة:
حابسي ربعٌ وقفتُ به ... لو أطيعُ النفسَ لم أرمهُ
ولم يلزمه رد الياء لما تحركت الميم، لأن تحركها ليس لها على الحقيقة، وإنما هي حركة الهاء.
وأما قول الشاعر:
حديث بني بدر إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج المتقاربِ
فليس كقوله: "وشعر كبعرِ الكبش" ولكنه وصفهم بضؤولة الأصوات وسرعةِ الكلام وإدخال بعضه في بعض.
والذي يحمد الجهارة والفخامة.

لرجل يمدح الرشيد
وأنشدت لرجل قال يمدح الرشيد:
جهير الكلام جهير العطاسِ ... جهير الرواء جهيرُ النغمْ
ويخطو على الأين خطو الظليمِ ... ويعلو الرجالَ بخلقٍ عممْ1
ويروى أن الرشيد كان يأتزر في الطواف فيذنب إزاره ويباعد بين خطاه، فإذا رجع بيده كاد يفتن من يراهُ، فعند ذلك مدح بهذا الشعر.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرجل هو العمانى الشاعر، وقوله: "عمم" أي جسيم؛ والأين: الإعياء، ويكون الأين الحية، وهي الأيم".

لعائشة وقد نظرت إلى رجل متماوت
ويروى أن أم الؤمنين عائشة رضي الله عنهانظرت إلى رجل متماوتٍ، فقالت: ما هذا? فقالوا: أد القراء، فقالت: قد كان عمر بن الخطاب قارئاً، فكان إذا قال أسمعَ، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع.

لعمر وقد نظر إلى رجل يظهر النسك
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله نظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة، وقال: لا تمتُ علينا ديننا، أماتك الله.

وفود الروم عند عبد الملك بن صالح العباسي
ويروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس أتته وفود من الروم، وقام السماطان، فأتي برج منهم، وعطس أحد من في السماطين فأخفى عطسته، فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلا إذا كنت لئيم العطاس أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلبَ العلج.

جهارة صوت العباس
وكان العباس بن عبد المطلب رحمه الله، أجهر الناس صوتاً، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انهزم الناس يوم حنين: "يا عباس، اصرخ بالناس".
ويروى أن غارة أتتهم يوماً، فصاح العباس: يا صباحاه! فاستسقطت الحوامل لشدة صوته.
وقد طعن في قول النابغة الجعدي:
وأزجر الكاشح العدو إذا اغـ ... ـتابك عندي زجراً على أضم1
زجر أبي عروة السباع إذا ... أسفق أن يختلطن بالغنم2
وذلك أن الرواة احتملت هذا البيت على أنه كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه.
فقال من يطعن في هذا: السبع أشد أيداً من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع هلكت الغنم قبله. فقال من يحتج له: إن الغنم كانت قد أنست بهذا منه، والصوت الرائع أنسٌ لمن أنس به، كالرعد القاصف الذي لولا خشية صاعقته لم يفزع كبير فزع، ولو جاء أقل منه من جوف الأرض لذعر، ولم يبعد أن يقتل إذا أتى من حيث لم يعتد.
وجملة هذا البيت أنه وصف شدة صوت المذكور. وتأويله أنه من تكاذيب الأعراب.
ـــــــ
1 هذا البيت من زيادات ر.
2 زيادات ر: "يروى "زجر أبى عروة السباع"، بخفض السباع، كما قيل قيس الرقيات"، فصار على هذا الوجه يعرف بأبي عروة السباع، مثل ذلك".

للحسن وقد رأى رجلاً يجود بنفسه
وحدثت أن الحسن نظر إلى رجل يجود بنفسه فقال: إن أمراً هذا آخر لجدير بأن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.
وقيل لرجل من اشراف العجم في علته التي مات فيها: ما بك? قال: فكر عجبت، وحسرة طويلة، فقيل: مِمَّ ذاك? فقال: ما ظنكم بمن يقطع سفراً قفراً بلا زادٍ، ويسكن قبراً موحشاً بلا مؤنس، ويقدم على حكمٍ عادلٍ بلا حجةٍ!
وقال بعض المحدثين، وهو محمود الوراق:
بأي اعتذار أم بأية حجةٍ ... يقول الذي يدري من الأمر: لا أدري!
إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن اطراح العذر خير من العذرِ
واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمرٍ بلغه عنه، فعذره، ثم قال له: يا هذا، لايحملنك الخروج من أمرٍ تخلصت منه على الدخول في أمرٍ لعلك لا تخلص منه.
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك? فقال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي.

من أخبار عبد الله بن جعفر
وافتقد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقاً له من مجلسه، ثم جاءه، فقال: أين كانت غيبتك? فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له: إن لم تجد من صحبة الرجال بُداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، ون خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك1، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، وإن وعدك لم يجرضك2، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاكَ، وإن أمسكت عنه ابتداكَ.
وامتدح3 نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وإبل وأثاثٍ ودننير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال? فقال له عبد الله [بن جعفر4]: ن كان أسود فإن شعره لأبيض، ون ثناءه لعربيٌّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى، ومالا يفنى، ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى!.
وقيل لعبد الله بن جعفر إنك لتبذل الكثير إذا سُئلت، وتضيق في القليل إذا توجرت؟ فقال: إني أبذل مالي، وأضنُّ بعقلي.
ـــــــ
1 مانك: قام بما عليك من مئونة.
2 يريد لم يخلف وعدك.
3 س: "قال أبو العباس".
4 تكمله من س.

نبذ من أقوال الحكماء
وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود? فقال: إعطاء المال من لا تعرف، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطى من تعرف.
وخبرت عن رجل من الأنصار قال لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك? قال: ترك لي مالاً كثيراً، فقال: ألا أعلمك شيئاً هو خير لك مما ترك لك1 أبوك?: نه لا مال لعاجز، ولا ضياع على جازم، والرقيقُ جمال وليس بمالٍ، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله.
ـــــــ
1 كلمة: "لك" ساقطة من ر، وهي في الأصل.

وقال معاوية: الخفض والدعة سعةُ المنزلِ وكثرةُ الخدمِ.
وقيل لخريم المري - وهو المنبز1 بخريم الناعم: ما النعمة? فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا? قال: لا مزيد بعد هذا.
وقال سلم بن قتيبة: الشباب الصحة، والسلطان الغنى، والمروءة الصبرُ على الرجال.
وقال المهلب بن أبي صفرة: العجب لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وكان يقول لبنيه: إذا غدا عليكم الرجلُ وراح مسلماً، فكفى بذلك تقاضياً.
وقال خالدُ بن عبد الله القسري: محض الجودِ ما لم تسبقه مسألة، وما لم تبعه من، ولم يزر به قصرٌ، ووافق موضع الحاجة.
وقال بعض المحدثين - وهو حبيب الطائي:
أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحنُّ إلى الإرفاد منك إلى الرفد
وقال آخر - وهو أبو العتاهية:
لا تسألن المرء ذات يديه ... فليحفرنك من رغبت إليه
المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذ رزأت المرء هُنت عليهِ
وكما يكون لديك من عاشرته ... فكذاك فارض بِأَن تكون لديه
ـــــــ
1المنبز: الملقب بلقب مكروه.

النخار العذري ومعاوية
ودخل النخارُ العذري على معاوية في عباءةٍ؛ فاحتقره معاويةُ، فرأى ذلك النخار في وجهه، فقال له: يا أمير المؤمنين، ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها. ثم تكلم فملأ سمعه، ثم نهض ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقرَ أولاً ولا أجل آخراً منه1.
ـــــــ
1 كلمة "معاوية" ساقطة من ر.

محمد بن كعف القرظي وسليمان بن عبد الملك
ودخل محمد بن كعب القرظي على سليمان بن عبد الملك في ثياب رثةٍ، فقال له سليمان: ما يحملك على لبس مثل هذه الثياب? فقال: أكره أن أقول: الزهدُ، فأطري نفسي، أو أقول: الفقر، فأشكو ربي.

سالم بن عبد الله بن عمر وهشام بن عبد الملك
وحدثني التوزي قال: دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب على هشام بن عبد الملك في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب! قال: إنها مستعارة، فقال له: كم سنك? قال: ستون سنة، قال: ما رأيت ابن ستين أبقى كدنة منك1، ما طعامك? قال الخبز والزيت، قال: أما تأجمهما2? قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما، ثم خرج من عنده وقد صدع، فقال: أترون الأحول لقعني بعينه، فمات من تلك العلة3.
ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كدنة: قوم الجسم، قال ابن القوطية في الأفعال: كدنت الشفة كدونا اسودت: كدن البعير: كثر شحمه".
2 أجم الطعام: عافه وكرهه.
3 زيادات ر: "قال ابن الأعرابي ثم لقع فلان فلانا بعينه، وزلقه، وزلقه "بتشديد اللام" وأزلقة، وشقذه، وشوهه، ويقول الرجل إذا أجاد في عمله: لا تشوه عنى، أى لا تقل لي: أجدت فتصيبنى بالعين، ورجل معين، إذا أصيب بالعين، وشاه وشائه وشقذ وشقذان".

من أخبار أبي الأسود الدؤلي
ودخل أبو الأسود الدؤلي1 علي عبيد الله بن زياد في ثياب رثةِ، فكساه ثياباً حساناً، فخرج وهو يقول:
كساك وما استكسيته فشكرته ... أخٌ لك يعطيك الجزيل وناصرُ
وإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافرُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسم أبى الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو بن سفيان، وقيل عمرو بن جندل بن سفيان، وأمه من بنى عبد الدار، بصرى تابعى ثقة، من أصحاب على من كتابة".

وحدثني الرياشي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زياد وقد أسن، فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسودِ؛ إنك لجميل، فلو تعلقت تميمة ترد عنك العيون، فقال أبو الأسود:
أفنى الشباب الذي أفنيت جدتهُ ... كر الجديدين من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخافُ عليه لذعة الحدقِ
قوله: " فلو تعلقت تميمةً " هي: المعاذة يعلقها الرجلُ.
قال ابن قيس الرقيات:
صدروا ليلة انقضى الحج فيهم ... طفلة زانها أغر وسيم
يتقي أهلها العيون عليها ... فعلى جيدها الرقى والتميمُ
وقال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ
وقوله: " لذعة الحدق " فهو من قولك: لذعته النار، إذا لفحته، ويقال: لذع فلانُ فلاناً بأدبٍ، إذا أدبه أدباً يسيراً، كأنه كالمقدار الذي وصفناه من النار.
وقول ابن قيس الرقيات: " زانها أغر وسيم " ، فالأغر: الأبيض - يعني الوجه، والوسيم: الجميل، والمصدر الوسامةُ والوسامُ.

لبعض المحدثين في الخضاب
وقال بعض المحدثين: ذكرناه بقول أبي الأسود:
قد كنت أرتاع للبيضاء في حلكٍ ... فصرت أرتاعُ للسوداء في يققٍ1
من لم يشب ليس مملاقاً حليلتهُ ... وصاحب الشيب للنسوان ذو ملقِ
قد كن يفرقن منه في شبيبته ... فصار يفرق ممن كان ذا فرقِ
إن الخضاب لتدليس يغش به ... كالثوب في السوق مطوياً على حرقِ
ويروى: "يطوى لتدليس على حرقِ".
وشبيهُ بهذا المعنى قول أبي تمام:
طال إنكاري البياض وإن عمر ... تُ شيئاً انكرتُ لونَ السوادِ
وحدثني الزيادي قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة، فقال: لِمَ ذاك? فقال: لتصبو ليك النساء، فقال: أما نساؤنا فما يردن بنا بديلاً، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن.
ـــــــ
1 اليقق: البياض.

للعتبي
وقال العتبي:
وقائلة تبيض والغواني ... نوافرُ عن معالجة القتيرِ1
عليك الخطر علك أن تدنى ... إلى بيض ترائبهن حور2
فقلتُ لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوداً وجه النذير
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروي "معالجة"، بكسر اللام، فمن فتح اللام جعله مصدراً، ومن كسر اللام فهي الجماعة التي تعالج ذلك الشيء".
2 الخطر: نبات يخضب به.

ليزيد بن المهلبي
وقال آخر - وهو أبو خالد يزيد بن محمدٍ المهلبي:
صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الريب المريبُ
أعلل مرةً وأساءُ أخرى ... ولا تحصى من الكبر العيوبُ
أسوف توبتي خمسين عاماً ... وظني أن مثلي لا يتوبُ
يقولم بالثقاف العودُ لدناً ... ولا يتقوم العودُ الصليبُ1
وقال مالك بن دينار: جاهدوا أهواءكم، كما تجاهدون أعداءكم. وكان يقول: ما أشد فطام الكبير.
وقال آخر:
دعي لومي ومعتبتي أماما ... فني لم أعود أن ألاما
وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلقٍ نشأتُ به غلاما
وقيل لأعرابي: ألا تغير شيبك بالخضاب? فقال: بلى، ففعل ذاك مرة، ثم لم يعاود، فقيل له: لِمَ لا تعاود الخضاب? فقال: يا هناه، لقد شد لحيايَ فجلت أخالني ميتاً.
ـــــــ
1 الثقاف: آلة لتقويم الرماح.

لمحمود الوراق في الشيب
وقال بعض المحدثين، وهو محمودٌ الوراق:
يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثةٍ يعودُ
إن النصول إذا بدا ... فكأنه شيبُ جديدُ
وله بداهة لوعةٍ ... مكروهها أبداً عتيدُ1
فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود كما تريدُ
وقال محمودٌ أيضاً:
أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باكٍ له موجعٍ ... وبين معز مغذ إليه2
ويسلبه الشيب شرخ الشبابِ ... فليست يعزيه خلق عليه
وقال أيضاً:
يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما ندرجها في كفن
أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن
وقال أيضاً:
اغتنم غفلة المنية واعلم ... أنما الشيب للمنية جسرُ
كم كبير يوم القيامة يقصى ... وصغيرٍ له هنالك قدرُ
قال أبو الحسن: يقال "جسرُ وجَسرُ"، وهو مأخوذ من الناقة الكبيرة، يقال لها: "الجَسْرُ".
ـــــــ
1 يقال: عند الشىء إذا حضر، فهو عنيد.
2 مغذ: مسرع.

لأبي النجم العجلي
وقال أعرابي1:
قالت سليمى أنت شيخٌ أنزع2 ... فقلت ما ذاك وإني أصلعُ
ثم حسرتُ عن صفاةٍ تلمعُ ... فاقبلت قائلةً تسترجعُ
ما رأس ذا إلا جبين أجمعُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أبو النجم".
2 أنزع، من النزع وهو انحسار مقدم شعر الرأس من جانبي الجبهة.

لرؤبة
وقال آخر، وهو رؤبة:
قد ترك الدهر صفاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا
كأنه قد كان ربعاً فعفا ... يمسي ويضحي للمنايا هدفا
لنصر بن حجاج وقد حلق عمر رأسه
وكان نصر بن حجاج بن علاطٍ السلمي ثم البهزي جميلاً، فعثر عليه عمر بن الخطاب رحمه الله في أمر - الله أعلم به - فحلق رأسه، وكان أصلع، ولميبق من شعره إلا حفافُ1، كذلك قال الأصمعي فقال نصر بن حجاج:
لضن ابن خطاب علي بجمةٍ ... إذا رجلت تهتز مر السلاسلٍ
فضلع رأساً لم يصلعه ربهُ ... يرف رفيفاً بعد أسود جاثلٍ2
لقد حسد الفرعان أصلعُ لم يكن ... إذا ما مشى بالفرع بالمتخايلِ3
قوله: "بالفرع بالمتخايل" ليس أنه جعل بالفرع. من صلة المتخايل فيكون ذلك معناه: بالذي يختال بالفرع، فيكون قد قدم الصلة على الموصول، ولكنه
ـــــــ
1 حفاف: شعر حول الصلعة.
2 الجائل: الشعر الكثير الملتف.
3 الفرعان: جمع أفرع، وهو الوافى الشعر.

جعل قوله: بالفرع تبييناً، فصار بمنزلة "بِك" التي تقع بعد مرحباً للتبيين، وقد مر تفسير هذا مستقصى في الكتاب المقتضب.
وقال آخر:
تغطى نمير بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطي اللؤم طي العمائم
فإن تضربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارمِ
وإن تحلقوا منا الرؤوس فإننا ... حلقنا رؤوساً باللها والغلاصمِ1
وإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يشترى بالدراهمِ
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجالٍ حلقت بالمواسم
ـــــــ
1 اللها: جمع لهاة، وهي لحمة في أقصى الفم، والغلاصم: جمع غلصمة، وهي لحمة مابين الرأس والعنق.

من شعر يزيد بن الطثرية وأخباره
وكان يزيد بن الطثرية غزلا، وكان أخوه ثورٌ ذا مالٍ، فكان يزيد يأتي العطار فيقول: ادهني دهنة بناقةٍ من إبل ثورٍ، فيفعل ذلك. وكان ذا جمةٍ حسنةٍ، فإذا كثر عليه الدين هرب فتبدى1، فإذا ذكر حوشيتة - وهي امرأة كان يشبب بها2 - قدم فاقتطع من إبل أخيه ما يقضي به دينه، وفي ذلك يقول:
قضى غرمائي حب أسماء بعدما ... تخوفني ظلمُ لهم وفجورُ
فذلك دابي ما حييت وما مشى ... لثورٍ على ظهر الفلاة بعيرُ
فاستعدى عليه ثورٌ السلطان، فأمر بحلق رأسه، فقال:
أقول لثورٍ وهو يحلق لمتي ... بعقفاءَ مردودٍ عليها نصابها
ترفق بها يا ثور ليس ثوابها ... بهذا ولكن عند ربي ثوابها
ألا ربما يا ثور فرق بينها ... أنامل رخصات حديث خضابها
ـــــــ
1 تبدى: أقام بالبادية.
2 زيادات ر: "حوشية بنت أبى فديك بن قرة، ولها مع يزيد حديث طريف".

فتهلك مدرى العاج في مدلهمةٍ ... إذا لم تفرج مات غما صؤابها1
فجاء بها ثورٌ ترف كأنها ... سلاسلُ برقٍ لينها وانسكابها
ورحت برأسٍ كالصخيرةِ أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها
خدارية كالشرية الفرد جادها ... من الصيف أنواء مطير سحابها2
ـــــــ
1 فتهلك، قال المرصفى. "يريد تضل" والصواب: بيض القملة، والجمع صئبان.
2 خدارية. وصف للمة، وهي شدة السواد، والشرية: النخلة تنبت من النواة، والفردة: المنفردة "المرصفى".

باب

لقيس بن عاصم المنقري
قال رجل من المتقدمين، وهو قيس بن عاصم المنقري:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد1
إذا ما أصبتِ الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني غير آكله وحدي
قصيا كريماً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما من خلالي غيرها شيمة العبدِ
غيرها استثناءٌ مقدم. وقد مضى تفسيره.
وقوله: "قصيا كريماً" من طريف المعاني، وذلك أنه لم يحتج إلى أن يشترط في نسبته الكرم، لأنه قد ضمن ذلك، واشترط في القصي أن يكون كريماً، لأنه كره أن يكون مواكله غير كريمٍ.
ـــــــ
1 البردان: ثوبان لبسهما عامر بن أحيمر في مجلس النعمان بن المنذر. والورد، لون بين الحمرة والصفرة

لجرير يهجو بني هزان
وهذا ليس من الباب الذي ذكره جريرٌ، حيث يقول في هجائه بني هزان:
ضيفكم جائعٌ إذ لم يبت غزلا ... وجاركم يا بني هزان مسروقُ
رأيت هزانَ في أحراجِ نسوتها ... رحبُ وهزانُ في أخلاقها ضيقُ

يحيى بن نوفل يهجو
وقال آخر من المحدثين، وهو يحيى بن نوفل، أنشده دعبل:
كنت ضيفاً ببرمنايا لعبـ ... ـد الله، والضيف حقهُ معلومُ
فانبرى يمدح الصيام إلى أن ... صمت يوماً ما كنت فيه أصومُ
ثم أنشا يستام برذوني الور ... د ملحاً كما يلحُ الغريمُ
[قال الأخفش: يروي برذوني الزرد وهو الأصفر].
ولعمري إن ابن قيلة إذ يستام برذون ضيفه للئيمُ

لأبي دلامة بن الجون
وقال رجل1، أنشدنيه السجستاني، يقول لان دعلج، وكان ابن دعلج يتولى بني تميم:
إذا جئت الأمير فقل سلامُ ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم!
لزوم ما علمتُ بباب داري ... لزوم الكهف أصحابُ الرقيم
لهمائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
روى2 أبو الحسن:
أتوني في العشيرة يسألوني ... ولم أكُ في العشيرةِ بالمليمِ
قال أبو الحسن: لم يعرف أبو العباس هذا البيت الأخير، وهو صحيح.
وجاور قيس بن عاصم بن سنان بن خالدٍ بن منقر بن عبيد تاجراً خماراً، فشرب شرابهُ، وأخذ متاعه، ثم أوثقه، فقال: افدِ نفسكَ.
وقال في ذلك:
وتاجرٍ فاجرٍ جاء الإله به ... كأن عثنونه أذناب أجمالي
قال ذلك؛ لأن ذنب البعير يضرب إلى الصهبةِ، وفيه استواء، وهو يشبه اللحية.
ـــــــ
1 قال المرصفى: "هو أبو دلامة بن الجون".
2 ر: "زاد".

للنمر بن تولب
وقال النمرُ بن تولبٍ:
إذا كنت في سعدٍ وأمكَ منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعدِ
فإن ابن أخت القوم مصفى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بابٍ جلدِ

قيس بن عاصم وبنو منقر
واستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيس بن عاصم على صدقات بني سعدٍ، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقسمها قيس بعد في بني منقرٍ، وقال:
من مبلغٌ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكماتُ الودائعِ
حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامعِ

من أخبار أبي خراش الهذلي وشعره
وجاور عروة بن مرة أخو أبي خراشٍ الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوماً بفناء بيته آمناً يخاف شيئاً، فاستدبره رجلٌ منهم من بني بلالٍ بسهم، فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراشٍ:
لعن الإله وجوه قومٍ رضعٍ ... غدروا بعروة من بني بلالٍ
وأسر خراش بن أبي خراشٍ؛ أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيماً، فدعا آسره يوماً رجلاً منهم للمنادمة، فرى ابن أبي خراشٍ موثقاً في القد، فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعو لابن أبي خراشٍ: من أنت? قال: أنا أبن أبي خراشٍ، فقال: كيف دليلاكَ? قال: قطاةٌ، قال: فقم فاجلس ورائي، وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبهُ، فلما رأى ذلك أصلت بالسيف، وقال أسيري. فنثل1 المجير كنانته، وقال: والله لأرمينك إن رمته، فني قد أجرته. فخلى عنه، فجاء إلى أبيه، فقال له: من أجارك? فقال: والله ما أعرفه، فقال أبو خراشٍ، وقال الرواة: لا نعرفُ أحداً مدح من لا يعرف غير أبي خراش:
حمدتُ إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعضِ
فوالله لا نسى قتيلاً رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرضِ
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجد محضِ
ولم يك مثلوج الفؤاد مهيجاً ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض2
ـــــــ
1 نثل كنانته: استخرج ما فيها من النبل.
2 البيتان بين علامتي الزيادات لم يردا في نسخة الأصل، وهما في ر،س . والربيلة: السمن. والخفض: الدعة ولين العيش.

ولكنه قد لوحته مخامص ... على أنه ذو مرةٍ صادق النهضِ
كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظم غير ذي نحضِ1
يبادر جنح الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
قوله:
قبح الإله وجوه قوم رضع
فهو جماعة راضع. وقوم يقولون: هو توكيد للئيم، كما يقولون: جائع نائع، وحسن بسن، وعطشان نطشان، وأجمع أكنع. وقوم يقولون الراضع هو الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف أو الجار صوت الحلب فيطلب منه.
وتديق ذلك ما أنشدناه أبو عثمان عمرو بن بحرٍ لرجلٍ من الأعراب ينسب ابن عم له إلى اللؤم والتوحش:
أحب شيءٍ إليه أن يكون له ... حلقوم وادٍ له في جوفهِ غارُ
لا تعرف الريح ممساه ومصحبه ... ولا يشب إذا أمسى له نارُ
لا يحلب الضرع لؤماً في الإناء ولا ... يرى له في نواحي الصحن آثار
وقوله: كيف "دليلاك" فهي كثرة الدلالة، و"الفعيلي" إنما تستعمل في الكثرة، ويقال: القتيتي لكثرة النميمة، ويقال: الهجيري لكثرة الكلمة المترددة على لسان الرجل، يقال: ذكرك هجيراي، أي هو الذي يجري على لساني، وفي الحديث: "كان هجيري أبي بكر الصديق رحمه الله بلا إله إلا الله" ويقال: كان بينهم رميا، لكثرة الرمي، وكذلك كل ما أشبه هذا.
وقوله: "بجانب قوسي" فهو بلد تحله ثمالة بالسراة.
وقوله: "بلى إنها تعفو الكلوم" فهي الجراح والآثار التي تشبهها، قال جرير:
تلقى السليطي والأبطال قد كلموا ... وسط الرجال سليماً غير مكلومِ2
ـــــــ
1 المشاش: رءوس العظام.
2 السليطى: نسبة إلى سليط، وهو كعب بن الحارث بن يربوع.

وينشد: "وسط الرجال". وتعفو تدرسُ.
وقوله: "عظمه غير ذي نحض"، النحض: اللحم، يقال: يأكل ويروي الرجال محضاً.
وقوله: "فهو مهابذ" يقول: مجتهد. وهذيل فيها سعي شدي، وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز.

من أخبار الحطيئة وذكر المختار من شعره
ولقي الزبرقان بن بدر - وهو قاصد بصدقات قومه إلى أبي بكر الصديق رحمه الله - الحطيئة في طريقه، فقال له الزبرقان: من أنت? فقال: أنا أبو مليكة، أنا حسب موضوع، فقال له الزبرقان: إني أريد هذا الوجه، ومالك منزلٌ، فامض إلى منزلي بهذا السهم، فسل عن القمر بن القمر، وكن هناك حتى أود إليك، ففعل فأنزلوه وأكرموه، فأقام فيهم فحسدهم1 عليه بنو عمهم من بني قريع، وذلك أن الزبرقان من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعدٍ بن زيد مناة بن تميم، وحاسدوه بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعدِ، ولم يكن لعوف إلا قريقع وعطارد وبهدلة. وكان الذين حسدوه منهم بنو لأي بن شماس بن أنف الناقة بن قريع فدسوا إلى الحطيئة: أن تحول إلينا نعطط مائة ناقةٍ، ونشد كل طنب2 من أطناب بيتك بجلة3 بحونةٍ، قال: فأنى لي بذلك! قالوا: إنهم يريدون النجعة فإذا احتملوا فتخلف عنهم، ثم دسوا إلى امرأة الزبرقان من خبر بأن4 الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج ابنته، فقدح ذلك في قلبها، فلما تحمل القوم5 تخلف الحطيئة، فاحتمله القريعيون، فبنوا له ووقوا له، فلما جاء الزبرقان صار إليهم، فقال: ردوا علي جاري، فقالوا: ليس لك بجارٍ وقد طرحته؛ فذلك حيث يقول6 الحطيئة:
ـــــــ
1 س: "فحسده".
2 الطنب: حبل تشد به الخيمة.
3 الجلة: وعاء من خوص يوضع فيه التمر.
4 س: "أن الزبرقان".
5 س: "احتمل القوم".
6 س: "قول الحطيئة".

وإن التي نكبتها1 عن معاشرٍ ... علي غضاب أن صددت كما صدوا2
أتت آل شماسٍ بن لأيٍ وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسبُ العد
فإن الشقي من تعادي صدروهم ... وذا الجد من لانوا إليه من ودوا3
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
ون كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم، ردوا
وتعذلني أفناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلا بالذي4 علمتُ سعدُ
قوله: "جلة بحونة": أي خمة، يقال ذلك للناقة والنخلة إذا استفحلت وطالت.
وقوله: نكبتها يقول: عدلت بها.
وقوله: "والحسب العدُّ" معناه: الجليل الكثير، وأصل ذلك في الماء: يقال بئر عد، إذا كانت ذات مادة من العيون لا تنقطع وكل ماء ثابت فهو عد.
وقوله:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
يقول: ثقال لا يبلغ آخرها، وأصل الأناة من التأني والانتظار، يقول: لا يبلغ آخرها فتسفه.
وقوله:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن شئت قلت "البنا" فهما مقصوران، يقال: بنى بنية وبُنية فجمع بنيةٍ بنى
ـــــــ
1 س: "الذى" تحريف.
2 نكبتها: عدلت بها.
3 س: الحظ والبخت.
4 س: "بالتى".

وجمع بنيةٍ بنى فبنيةٌ وبنى ككسرةٍ وكسرٍ، وبنيةٌ وبنى كظلمة وظلم، فأما المصدر من بنيت فممدود، يقال بنيته بناء حسناً،وما أحسن بناءك.
وقوله: "وإن عاهدوا أوفوا" أوفى، أحسن اللغتين، يقال وفى وأوفى. قال الشاعر – فجمع [بين1] اللغتين:
أماابن بيض فقد أوفى بذمته ... كماوفى بقلاص النجم حاديها2
وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} 3، وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 4 وقال عز وجل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 5.
فهذا كله على أوفى. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي من أنه قتل مسلماً بمعاهد، وقال: "أنا أولى من أوفى بذمته".
وقال السموأل في اللغة الأخرى:
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا عاهدت أقواماً وفيت6
وقال المكعبر الضبي:
[قال أبو الحسن: حفظي "المكعبر"]:
وفيت وفاء لهم ير الناس مثله ... بتعشار إذ تحبو إلي الأكابر7
وقوله:
وإن كانت النغماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يقول ما قال جرير مثله:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا
يقول: أستحيي أن أرى نعمته علي ولا يرى على نفسه لي مثلها.
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 ابن بيض، بفتح الباء وكسرها: رجل تاجر مكثر، كان لقمان بن عاد يجيزه على خراج يؤدية إليه كل عام، فلما حضرته الوفاة قال لولده: لا تجاورن لقمان، وسر بمالك وأهلك، فإذا صرت إلى عقبة كذا فضع حقه عليها، فجاء لقمان فأجده وانصرف. حكاه المرصفى عن أبي زيد.
3 سورة آل عمران 76.
4 سورة النحل 91.
5 سورة البقرة 177.
6 س: "إذا ماخان أقوات وقيت".
7 تعشار: موضع بالدهناء.

وقوله: "على جل حادث" فهو الجليل من الأمر، ويقال: فلان يدعى للجلى، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها1
وفيهم يقول الحطيئة2:
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولا ترى طارداً للحر كالياس
ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس جاء يحدوا آخر الناسِ
جارٍ لقوم أطالوا هون منزلهِ ... وغادروه مقيماً بين أرماسِ
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناسِ
قوله: "لقد مريتكم" أصل، المري المسح، يقال مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر، ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاثٍ ومسح الأرض بيده الأخرى، قال الشاعر:
إذا حط عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب العيدان أو صنفت تمري3
وهذا من أحسن أوصافها.
وقال بعض المحدثين يصف برذوناً بحسن الأدب4.
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر5
ـــــــ
1 تمامة:
وإن تأتك الأعداء بالجهد فاجهد
2 كلمة "الحطيئة" ساقطة من س.
3 شذب العيدان: ما تفرق منها، الواحد شذبة.
4 زيادات ر: "الشعر لمحمد بن يزيد" من ولد مسلمة بن عبد الملك، يصف فرسه، وقبله:
عودته فيما أزور حبابي ... إهماله وكذاك كل مخاطر
5 القربوس: حنو السرج، العنان: سير اللجام الذي تمسك به.

ويقال: مراه مائة سوطٍ ومائة درهم؛ إذا أوصل ذلك إليه، ولمراهُ موضع آخر، ومعناه مراه حقه؛ إذا دفعه عنه ومنعه منه، وقد قرىء {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} 1 ، أي تدفعونه، وعلى في موضع عن قال العامري2:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وبنو كعب بن ربيعة بن عامر يقولون: رضي الله عليك.
وأما الإبساس فأن تدعو الناقة باسمها، أوتلين لها الطريق إلى الحلب، بقول أو مسح أو ما أشبه ذلك، فذا كانت الناقة تدر على الدعاء والملق قيل: ناقة بسوسُ، وذلك من صفاتها في حسن الخلق.
وقوله:
ولم يكن لجراحي فيكم آسي
يقول: مداوٍ، الآسي: الطبيب، قال الفرزدق يصف شجة:
إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها العصل3
والإساء الدواء، ممدودٌ، وقال الحطيئة:
هم الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
فأما الأسي فمقصور، وهو: الحزن، ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 4 وقال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا ... قال نعم أعرفهُ، وأبلسا5
وأنحلبت عيناه من فرط الأسى
فإذا قلت: "الأسى" قصرت أيضاً، وهو جمع أسوة، يقال فلان أسوتي وقدوتي. قال الله جل وعزَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6.
ـــــــ
1 سورة النجم 12.
2 زيادات ر: "هو القحيف العقيلى".
3 العصل: جمع أعصل، وهو المعوج من كل شيء فيه صلابة.
4 سورة المائدة 68.
5 أبلسا، من الإبلاس وهو الهم والحزن.
6 سورة الأحزاب 21.

والرَّمس: التراب، يقال: رمسَ فلانٌ في قبره.
وأشعار الحطيئة في هذا الكتاب كثيرة، ولولا أنها معروفة مشهورة لأتينا على آخرها، ولكنا نذكر منها شيئاً مختاراً.
فمن ذلك قوله:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... على خير ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذا جئناه فلم يلم ... وصادف منا في البلاد عريضا
يقول: كثرت محاسنه حتى كذب ذامه، فاستغنى عن أن يكثر مادحه، ثقة بأن هاجيه غير مصدقٍ، فاعتبر هذا الكلام، فإنك تجده رأساً في بابه.
ومن ذلك قوله:
وإني قد علقتُ بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
إذا نزل الشتاء بجار قوم ... تجنب جار بيتهم الشتاءُ
همُ الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
ثم قال يخاطب الزبرقان ورهطه:
ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والدعاءُ
فلما كنت جاركم أبيتم ... وشر مواطن الحسب الإباءُ
ولما كنت جارهم حبوني ... وفيكم كان لو شئتم حباءُ
فلما أن مدحت القوم قلتم ... هجوت، وهل يحل لي الهجاءُ!
ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوت بحيث يستمع الحداءُ
ويروى أن الحطيئة - واسمه جرول بن أوس ويكنى: أبا مليكة - مر بحسان بن ثابتٍ وهو ينشدُ:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
[ش: أدخله سيبويه رحمه الله على أن "الجفنات" من الجمع الكثير].
فالتفت إليه، فقال: كيف ترى? فقال: ما أرى بأساً، قال حسان: انظروا إلى [هذا1] الأعرابي يقول: ما أرى بأساً، أبو من? قال: أبو مليكة، قال حسان: ما كنت علي أهون منك حيث اكتنيت بامرأة! ما أسمك? قال: الحطيئة، قال: امضِ بسلامٍ.
وكان الحطيئة في حبس عمر بن الخطاب رحمه الله، باستدعاء الزبرقان عليه في هذه القصة، ولعمر يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر2
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النُّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن بك استأثروا إذ كانت الأثر
ويرى عن أبي زيد الأنصاريّ أنه قال: ويرى الأثر والواحدة أثرة وإثرة؛ ومعناه الاستئثار.
فرقّ له عمر فأخرجه،فيروى أنّ عمر رحمه الله دعا بكرسيّ فجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بإشفى وشفرة3، يوهمه أنه على قطع لسانه، حتى ضجّ من ذاك، فكان فيما قال له الحطيئة: يا أمير المؤمنين؛ إني والله قد هجوت أبي وأمي، وهجوت امرأتي، وهجوت نفسي. فتبسم عمر رحمه الله، ثم قال: فما الذي قلت? قال: قلت لأبي وأمي - والمخاطبة للأمّ:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 ذو مرخ: واد بالحجاز.
3 الإشفى: مثقب للأساكفة يثقبون به الجلد، والشفرة: السكين العريضة.

وقلت لها:
تنحّي فاجلسي منّي بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا1
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
فقال له عمر رحمه الله: فكيف هجوت نفسك? فقال: اطّلعت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته، فقلت:
أبت شفتاي اليوم ألاّ تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: كانونا، قيل: الكانون: التنمام، وقيل: الثقيل، وقيل: الذي إذا دخل على قوم كنوا حديثهم منه، وقيل: هو المصطلى، وقيل: هو كانون النار؛ لأنه...ويحرقهن".

المثنى بن معروف مع أبي جبر الفزاري
ونزل أعرابي من طيىء، يقال له المثنّى بن معروف بأبي جبر الفزاري، فسمعه يوماً يقول: والله لوددت أني أبيت الليلة خالياً بابنة عبد الملك بن مروان، فقال له المثنّى: أحلالاً أم حراماً? فقال: ما أبالي، فوثب عليه فضرب رأسه برحالة1، ثم انتقل وهو يقول:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... على النأي أنّي قد وترت أبا جبر
كسرت على اليافوخ منه رحالة ... لنصر أمير المؤمنين وما يدري
على غير شيء غير أنّي سمعته ... بنى بنساء المسلمين بلا مهر
ـــــــ
1 الرحالة: ثوب يغشى بالجلد.

من أخبار الحجاج
ويروى: أنّ الحجاج [بن يوسف1] جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقالم رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير! إنّ لي عليك حقّا، قال: وما حقّك? قال: سبّك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، قال: من يعلم ذاك?
ـــــــ
1 تكمله من س.

قال: أنشد الله رجلاً سمع ذاك إلاّ شهد به، فقام رجل من الأسراء فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلّوا عنه، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إيّاك؛ قال: ويخلّى عنه لصدقه.
وقال عمر بن الخطاب لرجل - وهو أبو مريم السّلوليّ - : والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم،. قال: أفتمنعني حقّا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنّما يأسف على الحبّ النساء.
وقال الحجاج لرجل من الخوارج، فجعلت لا تنظر إليه؛ وكان يزيد بن أبيمسلم يرى رأي الخوارج ويكتم ذاك، فأقبل على المرأة فقال: انظري إلى الأمير، فقالت: لا أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فكلّمها الحجاج وهي كالسّاهية، فقال لها يزيد: اسمهي ويلك من الأمير! فقالت: الويل لك أيها الكافر الرّدّيّ!.
قال أبو العباس: والرّدّيّ عند الخوارج الذي له عقدهم ويظهر خلافه رغبة في الدنيا.
وكان صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج وصاحب دواوين العراق والذي قلب الدواوين إلى العربية، ثم كان على خراج العراق أيام ولي يزيد بن المهلّب العراق فأشجى يزيد، وقد كان يرى رأي الخوارج فكايده يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج، فأشار على الحجاج أن يأمره بقتل جوّاب الضّبّيّ، وهو رأس من رؤوس الخوارج، وقال يزيد: إن فعل برئت منه الخوارج وقتلته، وإن أمسك قتله الحجاج، فقتله.
وخبّرت أنه قال: والله ما قتلته رغبة في الحياة، ولكنّي خفت يسبي الحجاج بناتي، وكان يقول بعد: إنّي حين أقتل جوّاباً لحريص على الدنيا، فلما عذّبه عمر بن هبيرة في خلافة يزيد بن عاتكة رمي به على قمامة، وهو لمآبه. فسمع يحكّم عليها، وحكّم مالك بن المنذر بن الجارود، وهو بآخر رمق في سجن هشام بن عبد الملك.
ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان دميماً، فلما رآه سليمان قال: قبح الله رجلاً أجرّك رسنه، وأشركك في أمانته! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر لك وهو عنّي مدبر، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لاستكبرت منّي ما استصغرت، واستعظمت منّي ما استحقرت، فقال: أترى الحجاج استقرّ في قعر الجحيم بعد! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، فإنّ الحجاج وطّأ لكم المنابر، وأذل لكمالجبابر، وهو يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك، وعن يسار أخيك فحيث كانا كان.

باب

من تكاذيب الأعراب
قال أبو العباس: وهذا باب من تكاذيب الأعراب.
حدّثني أبو عمر الجرميّ قال: سألت أبا عبيدة عن قول الرّاجز:
أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشي الدّألى حوالكا!
فقلت: لمن هذا الشعر? فقال [تقول العرب1]: هذا يقوله الضب للحسل، أيام كانت الأشياء تتكلم.
الدألي: مشي كمشي الذئب، يقال: هو يدأل في مشيته، إذا مشى كمشية الذئب، من قول امرىء القيس:
أقب حثث الركض والدالان2
ومن قال في بيت ابن عتمة الضبي:
[حقيبة رحلها بدن وسرج]3 ... تعارضه مرببة دؤول
فنما أراد هذا، ومن قال "ذؤول" فإنماأراد السرعة، يقال: مر يذأل، إذا مر يسرع.
وقوله "حوالكا" يقال: هو يطوف واله وحوله وحواليه. ومن قال: حواليه بالكسر: فقد أخطأ، وفي القرآن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 4 وحواليه: تثنية حوال، كما تقول: حنانية، الواحد حنان، قال الشاعر:
فقالت حنان ما تيى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف?
والحنان: الرحمة، قال الله عز وجل: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} 5. وقال الشاعر: [وهو الحطيئة6] لعمر بن الخطاب رحمه الله:
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 صدره:
على ربز يزداد عفوا إذا جرى
3 مابين العلامتين تكمله من ر.
4 سورة النمل 8.
5 سورة مريم 13.
6 تكمله من س.

تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال أبو العباس: وحدثني غير واحدٍ من أصحابنا، قال: قيل لرؤية: ما قولك:
لو أنني عمرت سن الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كمثل الوحل
ما زمن الفطحلي? قال: أيام كانت السلام رطاباً1.
قوله: "سن الحسل" مثل؛ تضربه العرب في طول العمرِ2.
وأنشدني رجل من بني العنبر، أعرابي فصيح، لعبيد بن أيوب العنبري:
كأني وليلى لم يكن حل أهلنا ... بواد خصيب والسلام رطابُ
وحدثني سليمان بن عبد الله عن أبي العميثل مولى العباس بن محمد: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا [أنا3] بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت؛ فقال الآخر: لقد رميت ظبياً مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي، فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر فانحدر عليه حتى أخذه.
وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لبني الجون الكنديين يوم جبلة: إن لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من
ـــــــ
1 السلام: جمع سلمة، وهي الحجارة الصلبة.
2 زيادات ر: "ذكر ابن جنى أن الحسل يعيش ثلاثمائة سنة"، والحسل: ولد الضب.
3 تكملة من س.

موضعي هذا، فقالوا: شأنك، فصرخ بقومه بعد أن قالا له: شأنك، فأسمعهم على مسيرة ليلةٍ.
ويروى عن حماد الرواية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: أرأيت قول أبيك:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابرِ
بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجداً للحوافرِ
وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير بن عامرِ
فقلت لأبي: أحضرت هذه الوقعة? فقال: نعم. فقلت: فكم كانت خيلكم? قال: ثلاث افراس، أحدها فرسه، قال: فذكرت هذا لابن أبي بكر الهذلي، فحدثني عن أبيه قال: حضرت يوم جبلة، قال: وكان قدبلغ مائة سنة؛ وكان قد أدرك أيام الحجاج، قال: فكانت الخيل في الفريقين، مع ما كان مع ابني الجوني-، ثلاثين فرساً، قال: فحدثتُ بهذا الحديث الخثعمي - وكان رواية أهل الكوفة - فحدثني: أن حثعم قتلت رجلاً من بني سليم بن منصور، فقالت أخته ترثيه:
لعمري وما عمري علي بهين ... لنعم الفتى غادرتم آل حثعما
وكان إذا ما أورد الخيل بيشةً ... إلى جنب أشراج أناخ فألجما
فأرسلها رواً رعالاً كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك? فقالت: اللهم إني لا اعرف غلا فرسه.
قوله: "قد شد عقد الدواير" يريد عقد دوابر الدرع، فإن الفارس إذا حمى فعل ذلك.
وقوله: "تضل البلق في حجراته" يقول: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلغ مشهرو المنظر؛ لاختلاف لونيه، من ذلك قوله:
فلئن وقفت لتخطفنك رماحنا ... ولئن هربت ليعرفن الأبلق

وحجراته: نواحيه.
وقوله:
ترى الأكم منه سجداً للحوافر
يقول: لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض.
وقوله: "كمثل الليل" يقول: كثرة، فيكاد يسد سواده الأفق، ولذلك يقال: كتيبة خضراءُ، أي سوداء، وكانت كتيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هو فيها والمهاجرون والأنصار يقال لها: الخضراء.
والمرتجس: الذي يسمع صوته ولا يبين كلامه، يقال: ارتجس الرعد، من هذا. والوغى: الأصوات.
والتوالي: اللواحق، يقال: تلا يتلوه، إذا اتبعهُ، وتلوتُ القرآن أي أتبعت بعضه بعضاً، والمتلية: التي معها أولادها.
وقوله: فارسلها رهواً، يقول: ساكنت، قال الله جل وعزَّ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} 1؛ ويقال: عيش راهٍ يا فتى، أي ساكن.
ورعال: جمع رعيل، وهو ما تقدم من الخيل، يقال: جاء في الرعيل الأول قال عنترةُ:
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأولِ
قوله: "زهته ريح نجد فاتهما" يقول: رفعته واستخفته، قال ابن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
ومعنى أتهم أتى تهامة.
وزعم أبو عبيدة [معمر بن المثنى]2 عمن حدثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل بني تميم، فقالوا: إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين
ـــــــ
1 سورة الدخان 24.
2 تكمله من س.

على جوادين يريغان1 السليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يمحص2 كأنه ظبي، فطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار، ولو جن عليه الليل لقد فتر، فجدا في طلبه، فذا بأثره قد بال فرغا في الأرض وخدها، فقالا: قاتله الله! ما أشد متنيه! ولعل هذا كان من أول الليل فلما امتد به الليل فتر، فاتبعاه، فإذا به قد عثر باصل شجرةٍ فندر3 منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه؛ فارتزت قصدة منها في الأرض فنشبت، فقالا: قاتله الله! واللهِ لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه، وأتم إلى قومه.
ش: يروى أتم بألفٍ، وتم بغير الألف ونم بالنون، ومعنى تم إلى قومه أي نفذ.
فأنذرهم، فلم يصدقوه لبعد الغاية، ففي ذلك يقول:
يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن كعب والمكذب أكذب
ثكلتكما إن لم أكن قدر أيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكبُ4
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همام متى يدع يركبوا
فصدقه قوم فنجوا، وكذبه قوم فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
وحدثني التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب? فقال لي: إن العجم تكذب فتقول: كان رجلٌ ثلثه من نحاسٍ، وثلثه من رصاصٍ، وثلثه من ثلج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبه.
من ذلك قول مهلهل بن ربيعة:
فلو نشر المقابر عن كليبٍ ... فتخبر بالذنائب أي زيرِ!
بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبورِ
ـــــــ
1 يريغان: يطليان.
2 يمحص: يعدو عدوا شديدا.
3 ندر: سقط.
4 الكراديس: جمع كردوس، وهو القطعة العظيمة من الخيل.

كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مديرِ
كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرورِ1
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكورِ
[قال أبو الحسن: يقال فلان: زير نساءٍ، وطلب نساء، وتبع نساءٍ، وخلوا نساءٍ؛ إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلاً كان صاحب نساء، فكان كليب يقول: إن مهلهلاً زير نساءٍ ولا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهلٌ بثأر كليبٍ، قال أي زير! فرفع أياً بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أي زير أنا في هذا اليوم!].
قال أبو العباس: وحدّثني عمرو بن بحر قال: أتيت أبا الربيع الغبوي وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم، فقلت: أبو الرّبيع ههنا? فخرج إليّ وهو يقول: خرج إليك رجل كريم. فلمّا رأى الهاشميّ استحيا من فخره بحضرته، فقال: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفاً. فتحدثنا ملياً، فنهض الهاشمي، فقلت لأبي الربيع: يا أبا الربيع من خير الخلق? فقال: الناس والله، فقلت: من خير الناس? قال: العرب والله، فقلت: فمن خير العرب? قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر? قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس? قال: يعصر والله، قلت: فمن خير يعصر? قال: غنيّ والله، قلت: فمن خير غنيّ? قال: المخاطب لك والله، قلت: أفأنت خير الناس? قال: نعم إي والله، قلت: أيسرّك أن تحتك بنت يزيد بن المهلب? قال: لا والله، قلت: ولك ألف دينار? قال: لا والله? قلت: فألفا دينار? قال: لا والله، قلت: ولك الجنّة! فأطرق [مليّاً2] ثم قال: على ألاّ تلد منّي، وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتماً لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء
وقوله: "أكرم الناس رديفاً" فإن أبا مرثد الغنوي كان رديف رسو الله صلى الله عيه وسلم.
ـــــــ
1 أشطان البئر: حبالها.
2 تكمله من س.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7