كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد

المجلد الأول
باب
وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار1 في كلام جرى: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".
الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، والآخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
يقول: إذا أتانا مستغيثٌ كانت إغاثته الجد في نصرته،يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه إذا جد فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع" فزع" في معنى" أغاث" كما قال الكلحبة اليربوعي:
2"قال أبو الحسن: الكلحبة لقبه، واسمه هبيرة، وهو من بني عرين بن يربوع، والنسب إليه عريني، وكثير من الناس يقول: عرني ولا يدري، وعرينة من اليمن: قال جرير يهجو عرين بن يربوع:
عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين2
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا3
يقول: لأغيث. وكأس: اسم جارية، وإنما أمرها بإلجام فرسه ليغيث. والظنبوب: مقدم الساق.
ـــــــ
1 جماعة منهم ، وهم بنو عبد الأشهل، من ولد عمرو بن مالك بن أوس "وانظر الفائق للزمخشري 274: 2"
2 مابين الرقمين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر.
3 زرود: موضع في طريق الحاج من الكوفة. والكثيب: القطعة من الرمل، مستطيلة محدودة.

حديث: "ألا أخبركم بأحبكم إلي..."
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً،الذين يألفون ويؤلفون،ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟ الثرثارون المتفيهقون".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الموطأون أكنافاً" مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل والتمهيد، يقال: دابة وطيء، يا فتى، وهو الذي لا يحرك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيراً لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله: " موطأ" الأكناف" أن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذى، ولا ناب به موضعه.
قال أبو العباس: حدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: قيل لأعرابي وهو المنتجع بن نبهان1 ما السميدع؟ فقال: السيد الموطأ الأكناف.
وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل: فلان في كنف فلان، كما فلان في ظل فلان، وفي ذرى فلان، وفي ناحية فلان2، وفي حيز فلان.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثرثارون" يعني الذين يكثرون الكلام تكلفاً وتجاوزاً، وخروجاً عن الحق. وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال: عينٌ ثرثارةٌ. وكان يقال لنهرٍ بعينه: الثرثار3، وإنما سمي به لكثرة مائه، قال الأخطل: 4
لعمري لقد لاقت سليمٌ وعامرٌ ... على جانب الثرثار راغية البكر
قوله: " راغية البكر" أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا،فضربته العرب مثلاً، وأكثرت فيه،قال علقمة بن عبدة الفحل:
رغا فوقهم سقب السماء فداحضٌ ... بشكته لم يستلب وسليب5
ـــــــ
1 من طيىء؛ ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين ص 175.
2 تكملة من ر.
3 الثرثار: موضع عند تكريت.
4 زيادات ر: "واسمه غياث بن غوث، يكنى أبا مالك، ويلقب بدوبل، والدوبل: الخنزير"، وكذلك في س.
5 زيادات ر: "السقب: ولد الناقة، والشكة: مايلبس من السلاح، والسليب: من سلب سلاحه".

[قال أبو الحسن: الداحض: الساقط والداحض أيضاٌ: الزا لق].
وكذلك إذا لم تضعف الثاء فقلت: عينٌ ثرةٌ، فإنما معناها غزيرة واسعة، قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرةٍ ... فتركن كل حديقةٍ كالدرهم1
قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها2.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتفيهقون" إنما هو بمنزلة قوله: "الثرثارون" توكيد له، ومُتَفَيْهِق متفيعل، من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماءٌ فلم يكن فيه موضع مزيد، كما قال الأعشى:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
كذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله.
قال أبو العباس: وسمعت أعرابية تنشد قال أبو الحسن: هي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق، وهي راوية أهل الكوفة: "كجابية السيح" تريد النهر الذي يجري على جانبية، فماؤها لا ينقطع، لأن النهر يمده.ومثل قول البصريين فيما ذكروا به" العراقي الشيخ "قول الشاعر قال أبو الحسن: " هو ذو الرمة":
لها ذنب ضاف وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح3
يقول: إن الغريبة لا ناصح لها في وجهها، لبعدها عن أهلها، فمرآتها أبداً مجلوة، لفرط حاجتها إليها.
ـــــــ
1 قال في اللسان: "الحديقة من الرياض: كل أرض استدارات وأحدق بها حاجز، او أرض مرتفعة". وفي رواية التبريزى "شرح المعلقات 108": "كل قرارة كالدرهم".
2 س، وحواشى ر: "ويجب أن يكون من الثرة ثرارة".
3 ديوانه 88. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. وفي الديوان: "لها أذن حشر". والأذن الحشر: المحددة.

وتصديق ما فسرناه من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يريد الصدق في المنطق والقصد،وترك ما لا يحتاج إليه، قوله لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير، إذا قلت فأوجز،وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".

كلمة أبو بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوف
قال أبو العباس: ومما يؤثر من حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبد الرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت يوماً على أبي بكر الصديق رحمة الله عليه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر، أو البحر. فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاخيراً.
قوله: "نضائد الديباج" واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع، قال الراجز:
وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا
سبحت ربي قائما ًو قاعداً
وقد تسمي العرب جماعة ذلك النضد، والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع، قال النابغة:
ورفعته إلى السجفين فالنضد1
ـــــــ
1 ديوانه 24، وصدره:
خلت سبيل أتى كان يحبسه

ويقال: نضدت المتاع إذا ضممت بعضه إلى بعض،فهذا أصله، قال الله تبارك وتعالى: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} 1 ، وقال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 2 ويقال: نضدت اللبن على الميت.
وقوله:" على الصوف الأذربي" فهذا منسوب إلى اذربيجان، وكذلك تقول العرب، قال الشماخ:
تذكرتها وهناً وقد حال دونها ... قرى أذربيجان المسالح والجال3
وقوله: "على حسك السعدان" ، فالسعدان نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه، ويغذوها غذاءً لايوجد في غيره، فمن أمثال العرب: "مرعى ولا كالسعدان "تفضيلاً له، قال النابغة:
الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أو بارها اللبد4
ويروى في بعض الحديث "أنه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان"، والله أعلم بذلك.
قال أبو الحسن: السعدان: نبت كثير الشوك- كما ذكر أبو العباس- ولا ساق له، إنما هو منفرش على وجه الأرض، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني عن ابن الأعرابي، قال: قيل لرجل من أهل البادية- وخرج عنها: أترجع إلى البادية ? فقال: أما ما دام السعدان مستلقياً فلا. يريد أنه لا يرجع إلى البادية أبداً، كما أن السعدان لا يزول عن الاستلقاء أبداً.
ـــــــ
1 سورة ق 10.
2 سورة الواقعة 29، 30.
3 المسالح: مواضع المخافة، والجال، ضبطت في الأصل بالفتحة والكسرة، وكذلك في إحدى النسخ التي قابل بها "ريط" نسخته. وقال المرصفى: "الجال: اسم لجماعة الخيل والإبل، أضاف أذربيجان إليهما إشعارا بأنها مملوءة بهما". وانظر ديوان الشماخ 117، ومعجم البلدان 159: 1، واللسان "سلح"، وتاج العروس"ذرب"، والمعرب للجواليقى36.
4 توضح: من قرى اليمامة.

وقال أبو علي البصير واسمه الفضل بن جعفر، وإن لم يكن بحجة، ولكنه أجاد فذكرنا شعره هذا لجودته لا للاحتجاج به يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان وآله فقال:
يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خاقان
كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان
ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان
وهذه الأمثال ثلاثة، منها قولهم: "مرعى ولا كالسعدان"،و" فتى ولا كمالك"،و"ماء ولا كصدى"، تضرب هذه الأمثال للشيء الذي فيه فضل وغيره أفضل منه، كقولهم: "ما من طامة إلا فوقها طامة"، أي ما من داهية إلا وفوقها داهية، ويقال: طما الماء وطم إذا إرتفع وزاد.
ومالك الذي ذكروا هو مالك بن نويرة، أخو متمم بن نويرة.
" وصداء يمد، وبعضهم يقول: صدى، فيضم أوله ويقصر، فأما أبو العباس محمد بن يزيد، فإنه قال: لم أسمع من أصحابنا إلا صدءاء يا فتى، وهو اسم لماء، معرفة، وهما همزتان بينهما ألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، كأنك قلت: صدعاع يا هذا1.
وقوله: "إنما هو والله الفجر أو البجر" يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر الطريق أبصرت قصدك. وإن خبطت الظلماء، وركبت العشواء هجما بك على المكروه، وضرب ذلك مثلاً لغمرات الدنيا، وتحييرها أهلها.
وقوله: "يهيضك" مأخوذ من قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فآذاه فكسره ثانية، أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل في كسره ثانية، ويقال: عظم مهيض، وجناح مهيض في هذا المعنى: ثم يشتق لغير ذلك، وأصله ما ذكرت لك، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما كسر يزيد بن المهلب
ـــــــ
1 مابين العلامتين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.

سجنه وهرب، فكتب إليه: لو علمت أنك تبقى ما فعلت، ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يد إبن عاتكه1. فقال عمر: اللهم إنه قد هاضني فهضه. فهذا معناه.
وقوله: "فكلكم ورم أنفه"، يقول: امتلأ من ذلك غضباً، وذكر أنفه دون السائر كما بقال: فلان شامخ بأنفه، يريد رافع، وهذا يكون من الغضب كما قال الشاعر:
ولا يهاج إذا ما أنفه ورما
أي لايكلم عند الغضب، ويقال للمائل برأسه كبرا: متشاوس، وثاني عطفه، وثاني جيده، إنما هذا كله من الكبرياء. قال الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2: وقال الشامخ3:
نبئت أن ربيعاً أن رعى إبلاً ... يهدي إلي خناه ثاني الجيد
وقوله: "أراك بارئاً يا خليفة رسول الله"4 يكون من برئت من المرض وبرأت، كلاهما يقال: فمن قال برئت يقول: أبرأ5 يافتى لا غير، ومن قال: برأت قال في المضارع: أبرأ وأبرؤ، يا فتى، مثل فرغ ويفرغ. والآية تقرأ على وجهين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 6، الرحمن: 31، و{سَنَفْرُغُ} : والمصدر فيهما" البرء" يا فتى.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكه بنت يزيد بن معاوية، ولى الملك بعد عمر بن عبد العزيز، ولا يعلم أحد أعرق في الخلافة منه".
2 سورة الحج9.
3 زيادات ر: "يهجو الربيع بن علياء السلمى".
4 ر، س: "يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5 ر، س: "قال".
6 الرحمن 31.

عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر
ومما روي لنا عنه رضي الله عنه حيث عهد عند موته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل

فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] .
نصب" أي" بقوله: " ينقلبون"، ولا يكون نصبها ب" سيعلم" لأن حروف الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها كما يمتنع ما بعد الألف من أن يعمل فيه ما قبله،وذلك1 قولك: "علمت زيداً منطلقاً" فإن أدخلت الألف قلت: "علمت أزيد منطلق أم لا" فأي بمنزلة زيد الواقع بعد الألف، ألا ترى أن معناها: أذا أم ذا. وقال الله عز وجل: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} 2 لأن معناها: أهذا أم هذا? وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} 3 على ما فسرت لك، وتقول: أعلم أيهم ضرب زيداً، وأعلم أيهم ضرب زيد، تنصب أيا ب" ضرب" لأن" زيداٌ" فاعل،فإنما هذا لما بعده، وكذلك ما أضيف إلى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها، نحو: قد علمت غلام أيهم في الدار، وقد عرفت غلام من في الدار، وقد علمت غلام من ضربت، فتنصبه بـ"ضربت" فعلى هذا مجرى الباب.
ـــــــ
1 ر، س: "وذلك نحو قولك".
2 الكهف 12.
3 الكهف: 19.

أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب
ومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها حدثنا العتبي قال: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه وأهله، وصلى على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له،ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.
ثم نزل. وإنما حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار، بما عضده به من الفعل المشاكل له:
1"قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر رضي الله عنهما، وهو الصحيح"1.
ـــــــ
"1-1" لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.

رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري
قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام،و جعل الناس بعده يتخذونها إماماً،ولا يجد محق عنها معدلاٌ، ولا ظالم عن حدودها محيصاٌ، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك1، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاٌ أحل حراماٌ، أو حرم حلالاٌ. لا يمنعنك قضاءٌ قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديمٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ،ثم اعرف الأشباه والأمثال،فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليها فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، ومجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق ليعظم2 الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.
ـــــــ
1 ر، س: "في وجهك".
2 ر س: "يعظم".

قال أبو العباس: قوله: "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك"، يقول: سو بينهم، وتقديره: اجعل بعضهم أسوة بعضٍ، والتأسي من ذا أن يرى ذو البلاء من به مثل بلائه فيكون قد ساواه فيه، فيسكن ذلك من وجده، قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
تقول: أذكره في أول النهار للغارة، وفي آخره للضيفان. وتمثل مصعب بن الزبير يوم قتل بهذا البيت:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا1
وقوله"حتى لا يطمع شريف في حيفك" يقول: في ميلك معه لشرفه. وقوله: "فيما تلجلج في صدرك" يقول: تردد،وأصل ذلك المضغة والأكلة يرددها الرجل في فيه فلا تزال تتردد إلى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل إلى أن يصلها بأخرى، يقال للعيي: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان، قال زهير:
تلجلج مضغة فيها أنيضٌ ... أصلت، فهي تحت الكشح داء
وقوله: "أنيضٌ" أي لم تنضج2. ومن أمثال العرب: الحق أبلج والباطل لجلج،أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا.
وقوله: "أو ظنيناٌ في ولاءٍ أو نسب، "فهو المتهم، وأصله" مظنون" وهي ظننت التي تتعدى إلى مفعول واحد، تقول: ظننت بزيد، وظننت زيداًٌ، أي اتهمت، ومن ذلك قول الشاعر، أحسبه عبد الرحمن بن حسان:
فلا ويمين الله ما عن جناية ... هجرت، ولكن الظنين ظنين 3
ـــــــ
1 البيت في الأغاني"17-165" ونسبه إلى سليمان بن قتة، وهو أيضا في اللسان"أسا" من غير نسبة. قال ابن برى: "وتآسوا، من المؤاساة، كما ذكر الجوهرى، لامن التأسي كما ذكر المبرد".
2 كذا ذكره المبرد، وهو يوافق ما في شرح الديوان، وفي اللسان "أنض": "فيها أنيض اى تغير" واستشهد بالبيت، وهو الأوفق.
3 البيت في اللسان "ظن"، ونسبه أيضا إلى عبد الرحمن بن حسان، ثم ذكر أن ابن برى نسبه إلى نهار بن توسعة.

وفي بعض المصاحف: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 1 وإنما قال عمر رضي الله عنه ذلك لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعون ملعون من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه" ، فلما كانت معه الإقامة على هذا لم يرى للشهادة موضعاً.
وقوله: " ودرأ بالبينات والأيمان" إنما هو دفع، من ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إدرأوا الحدود بالشبهات" ، وقال الله عز وجل: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} 3 أي تدافعتم.
وأما قوله: "وإياك والغلق والضجر" فإنه ضيق الصدر، وقلة الصبر، يقال في سوء الخلق: رجل غلق، وأصل ذلك من قولهم4: غلق الرهن أي لم يوجد به تخلص وأغلقت الباب من هذا، قال زهير:
وفارقتك برهنٍ لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
وقوله: "ومن تخلق للناس"، يقول: أظهر للناس في خلقه خلاف نيته.
وقوله: "تخلق" يريد أظهر5 مثل تجمل يريد أظهر جمالاً وتصنع، وكذلك تجبر، إنما تأويله الإظهار، أي أظهر جبرية، وإن شئت جبروتاً، وإن شئت جبروتي "وإن شئت جبروة" 6 . ومن كلام العرب على هذا الوزن: رهبوتى خير لك من رحموتى، أي" 7ترهب خير لك من أن ترحم7". قال أبو العباس وأنشدونا عن أبي زيد8:
ـــــــ
1 التكوير: 24، وهو مصحف عبد الله بن مسعود، "وانظر الكشاف".
2 سورة آل عمران: 168.
3 سورة البقرة: 72.
4 ر: "واصل ذلك من قولهم: أغلق عليه أمره إذا لم يتضح ولم ينفتح، من ذلك قولهم: غلق الرهن...".
5 ر، س: "أظهر خلقا".
6 تكملة من ر.
7 ر، س "لأن ترهب خير لك من أن ترحم".
8 زيادات س: "الشعتر لسالم بن وابصة الأسدى".

يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق1
ولا يؤاتيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فأنظر بمن تثق
قال: وأنشدتني أم الهيثم الكلابية:
ومن يتخذ خيماُ سوى خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها2
وقال ذو الإصبع العدواني3:
كل إمرىء راجع يوماً لشيمته ... وإن تمتع أخلاقاًإلى حين
وأما قوله: "ثواب"، فاشتاقه من ثاب يثوب إذا رجع، وتأويله ما يثوب إليك من مكافأة الله وفضله.
ـــــــ
1 الشعر في ر هكذا:
يأيها المتحلى غير شميته ... ومن سجيته الإدغال والملق
دع التخلق يبعد عنك أوله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلا خو ثقة، فانظر بمن تثق
وانظر رواية الأبيات في ديوان الحماسة 236: 2-بشرح التبريزى.
2 البيت في اللسان "خيم" من غير نسبة.
3 زيادات ر: "ذو الإصبع اسمه حرثان بن الحارث بن محرث، وقيل له ذو الإصبع؛ لأن أفعى نهشت إصبعة".

كتاب عثمان إلى عليبن أبي طالب حين أحيط به
وكتب عثمان بن عفان إلى علي رحمه الله1 حين أحيط به:
أما بعد،فإنه قد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يد فع عن نفسه:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق2
قوله: "قد جاوز الماء الزبى" فالزبية مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو رابية أو هضبة، قال الراجز3:
كاللذ تزبى زبية فاصطيدا
ـــــــ
1 ر: "على بن ابي طالب رحمهما الله"، س: "على بن ابي طالب رضي الله عنهما".
2 البيت للممزق العبدى، واسمه شأس بن نهار، "وانظر المؤتلف والمختلف للآمدى 185".
3 قبله في زيادات ر:
فأنت والأمر الذي قد كيدا

وقال الطرماح:
ياطييىء السهل والأجبال1، موعدكم ... كمبتغى الصيد أعلى زبية الأسد
وتقول العرب: "قد علا الماء الزبى"، و"قد بلغ السكين العظم" و"بلغ الحزام الطبيين" و"قد انقطع السلى في ا لبطن".
فالسلى من المرأة والشاة ما يلتف فيه الولد في البطن، قال العجاج:
فقد علا الماء الزبى فلا غير
أي: قد جل الأمر عن أن يغير ويصلح.
وقوله" وبلغ الحزام الطبيين، فإن السباع والخيل يقال لموضع الأخلاف منها: أطباء يا فتى، وأحدها طبي كما يقال في الظلف والخف: خلفٌ، هذا مكان هذا فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه، ومثل هذا من أمثالهم: "التقت حلقتا البطان"2: ويقولون: "التقت حلقتا البطان والحقب"3 ويقال: حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب4، قال الشاعر5:
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
وقال أوس بن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق ... وام وطارت نفوسهم جزعا
وتمثله بالبيت يشاكل قول القائل:
فإن أك مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
ـــــــ
1 أجبال طيىْ: أجا وسلمى والعوجاء.
2 البطان: حزام الرحل.
3 من ر، س.
4 الحقب: حزام يشد به رجل البعير.
5 ر: " قال أبو بكر: هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأوله:
سليمى تلك في العير ... قفى إن شئت أو سيرى
فلما أن بدا الصبح ... بأصوات العصافير
خرجنا نبتغي الصيد ... بأمثال اليعافير
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
زجرنا العيس فارمدت ... بإهذاب وتشمير

عتاب عثمان علي بن أبي طالب
ويروى عن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: دخلت مع علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فأحبا الخلوة، فأومأ إلي علي بالتنحي، فتنحيت غير بعيدٍ فجعل عثمان يعاتب عليا وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول: فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلاما تحب.
تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي ألا أفعل" وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.

خطبة علي بن أبي طالب حينبلغه قتل عامله حسان بن حسان
وتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن علياً رحمه الله انتهى إليه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملاً له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضباً يجر ثوبة حتى انتهى1 إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهرياً، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالاً منهمكثيراً ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً، بل كان عندي به جديراً. ياعجباً كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان]2 من تضافر
ـــــــ
1 ر: "حتى أتي النخيلة"، والنخيلة: موضع قرب الكوفة.
2 من ر.

هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضاً ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، ةإن قلت لكم: إزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، إنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فإنتم من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ولا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لارأي له في الحرب. لله درهم ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراساً فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع يقولها ثلاثاً فقام إليه رجل ومعه أخوه1، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} 2 فمرنا بأمرك، فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال: وأين تقعان مما أريد ثم نزل.
قال أبو العباس: قوله: "سيما الخسف"، قال: هكذا حدثوناه، وأظنه"سيم الخسف" يا هذا، من قول الله عز وجل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 3 ومعنى قوله: سيما الخسف تأويله علامة، هذا أصل ذا، قال الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 4 ، وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 5
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار" وفي حاشية الأصل: "هو جندب بن عفيف، وأخوه من الأزد".
2 سورة المائدة 25.
3 سورة البقرة 49.
4 سورة الفتح 29.
5 سورة الرحمن 41.

وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {مُسَوِّمِينَ} 1" قال: معلمين2 واشتقاقه من السيما التي ذكرنا. ومن قال: {مُسَوِّمِينَ} ، فإنما أراد مرسلين: من الإبل السائمة: أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير. قال المفسرون في قوله تعالى: " {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} 3، القولين جميعاً، مع العلامة والإرسال، وأما في قوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} 4 فلم يقولوا فيه إلا قولاً واحداً، قالوا: "معلمة"، وكان عليها أمثال الخواتيم، ومن قال: "سيما" قصر. ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود،قال الشاعر5:
غلام رماه الله بالحسن يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر6
وقوله رحمه الله: "وقتلو حسان بن حسان"، من أخذ حساناً من الحسن صرفه لأن وزنه فعال فالنون منه في موضع الدال من حماد، ومن أخذه من الحس لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، لأنه ليست له" فعلى "فهو بمنزلة سعدان وسرحان.
وقوله: "ديث بالصغار"، تأويله: ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل.
وقوله: "في عقر دارهم"، أي في أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومن ثم قيل: لفلان عقار، أي أصل مال، ويروى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك [له] 7 فيه". وقوله: قمن يريد: خليق، ويقال أيضاً: قمين وقمن.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 125.
2 المعلم، بكسر اللام: الفارس الذي أعلم مكانه في الحرب بعلامة أعلم بها نفسه.
3 سورة آل عمران 14.
4 سورة هود 82، 83.
5 زيادات ر: "وهو ابن عنقاء الفزارى في عملية الفزارى".
6 بعده في زيادات ر:
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر
7 من س.

[قال أبو الحسن: من قال: قمن لم يثن ولم يجمع، ومن قال: قمن وقمين ثنى وجمع]1.
ويقال للرجل إذا إتخذ ضيعة، أو داراً: تأثل فلان، أي إتخذ أصل مال.
وقوله: "وتواكلتم": إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أنت2 أي: لم يتوله واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كل واحد منا على الأخر، ومن ذالك قول الحطيئة:
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرةٍ ... أمون إذا واكلتها لا تواكل3
وقوله: "واتخذتموه ورائكم ظهرياً"، أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال4 في المثل: "لا تجعل حاجتي منك بظهرٍ"، أي لا تطرحها غير ناظر إليها.
وقوله: "حتى شنت عليكم الغارات"، يقول: صبت، يقال: شننت الماء على رأسه، أي صببته، وشننت الشراب في الإناء أي صببته، ومن كلام العرب: فلما لقي فلان فلانا شنه السيف، أي صبه عليه صبا.
وقوله: "هذا أخو غامد، فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية، من بني غامد بن نصر بن الأزد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل5:
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا ًلها حالب قاعد
وقوله: "فتنتزع أحجالهما"، يعنى الخلاخيل، واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة: محجل، ويقال للقيد: حجل، لأنه يقع في ذلك الموضع، قال جرير،
ـــــــ
1 من ر.
2 من ر.
3 الجسرة: الناقة الماضية في سيرها، والأمون: الوثيقة الخلق. ورواية ديوانه 98: "ذلول".
4 ر: "ويقال".
5 زيادات ر: "هو ربيعة بن مكدم".

يعير الفرزدق حين قيد فرسه، وأقسم ألايحلها حتى يحفظ القرآن، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق1 جريراً معونةً للبعيث، وذبا عن عشيرته، فقال جرير:
ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل2
معنى فرغت عمدت، قال الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 3 أي سنعمد4 . وقوله: "ورعثهما" الواحدة رعثة، وجمعها الجمع رعث وهي الشنوف.
وقوله: "ثم انصرفوا موفورين" من الوفر، أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال موفور، وفلان ذو وفر: أي ذو مال، ويكون موفوراً في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه، قال حاتم الطائي:
وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد المال أمسى له وفر
ويروى:" كان له وفر".
وقوله: "لم يكلم أحد منهم كلماً" . ويقول: لم يخدش أحد منهم خدشاً، وكل جرح صغر أو كبر فهو كلم، قال جرير:
تواصلت الأقوام من تكرمها قريش ... برد الخيل دامية الكلوم
وقوله: "مات من دون هذا أسفاً"، يقول: تحسراً، فهذا موضع ذا و"قد"5 يكون الأسف الغضب، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 6 والأسيف يكون الأجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت الأعشى:
أرى رجلا ًمنهم أسيفاً كأنما ... يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا
ـــــــ
1 من ر.
2 زيادات ر: "يعني بقوله: "ولما اتقى القين العراقى باسته" البعيث، وسماه القين لأنه من رهط الفرزدق".
3 سورة الرحمن 24.
4 زيادات ر: "تميم تقول: فرغ يفرغ[ بفتح الراء فيهما] فراغا، وأهل العالية-وهم قريش ومن والاها- يقولون فرغ يفرغ [بالضم فيهما] فروغا".
5 من ر .
6 سورة الزخرف55.

المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده،ويقال: قد جرحها الغل، والقول الأول هو المجتمع عليه، ويقال في معنى أسيف عسيف أيضاً.
وقوله:" من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم"، يقول: من تعاونهم وتظاهرهم.
وقوله: "و فشلكم عن حقكم"، يقال: فشل فلان عن كذا و"كذا"1 إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي فيه. وقوله:" قلتم هذا أوان فر وصر"،فالصر شدة البرد, قال الله عز وجل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 2.
وقوله: هذه حمارة القيظ"، فالقيظ الصيف، وحمارته: اشتداد حره واحتدامه، وحمارة مما لا يعوز أن يحتج عليه ببيت شعر، لأن"كل"3 ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن إلا في ضرب" منه"4 يقال له المتقارب،"فإنه جوز فيه على بعد التقاء الساكنين"5وهو قوله:
فذاك القصاص وكان التقا ... ص فرضا وحتماً على المسلمينا
ولو قال: "وكان قصاص فرضاً وحتماً" كان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض، ولا نظير له في غيرها من الأعاريض.
وقوله: "ويا طغام الأحلام" فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له، ولا معرفة عنده،وكانوا يقولون: طغام أهل الشأم كما قال:
فما فضل اللبيب على الطغام6
ـــــــ
1 من ر، س.
2 سورة آل عمران 117.
3 من ر، س.
4 من ر.
5 من ر.
6 قبله، كما في زيادات ر:
إذا ما كان مثلهم رجاما.

وقوله: "ويا عقول ربات الحجال" ينسبهم إلى ضعف النساء وهو السائر في كلام العرب. وقال الله تعالى يذكر البنات {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 1.
ـــــــ
1 الزخرف 18.

باب

مدخل
...
باب
وقال أبو العباس: من كلام العرب الاختصار المفهم، والإطناب المفخم وقد يقع الإيماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه، كما قيل: لمحة دالة. وقد يضطر الشاعر المفلق، والخطيب المصقع، والكاتب البليغ، فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره، وسترتا من شينه. وإن شاء قائل أن يقول: بل الكلام القبيح في الكلام الحسن أظهر، ومجاورته له أشهر، كان ذلك له، ولكن يغتفر السيىء1 للحسن، والبعيد للقريب.
ـــــــ
1 س: "الشين".

من ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمة
فمن ألفاظ العرب البينة القربية المفهمة، الحسنة الوصف، الجميلة الرصف قول الحطيئة:
وذاك فتى إن تأته في صنيعةٍ ... إلى ماله لا تأته بشفيع
وكذلك قول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وكما قال زهير:
على مكثريهم رزق1 من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ـــــــ
1 ر: "حق".

مما وقع من الكلام كالإيماء
ومما وقع كالإيماء قول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
فتأويل هذا أن بيت جرير في العرب كالبيت الواهن1 الضعيف، فقال: وقضى عليك به الكتاب المنزل: يريد به قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} 2.
ـــــــ
1 ر: "الواهى".
2 سورة العنكبوت41.

ومن كلامه المستحسن قوله لجرير:
فهل ضربة الرومي جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أباً مثل دارم
ومن أقبح الضرورة، وأهجن الألفاظ، وأبعد المعاني قوله:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله عمر بن عمر بن مخزوم،وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال:
وما مثله في الناس إلا مملكاً
يعني بالمملك هشاماً، أبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحاً، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح، فدل على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد، وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير: حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول:
تصرم مني ود بكر بن وائلٍ ... وما كاد مني ودهم يتصرم
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر ألإناء فيفعم
وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول:
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فهذا أوضح معنى، وأعرب لفظٍ، وأقرب مأخذٍ.
وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة على قرب عهده:
تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفسٍ كان نصحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارةٍ ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
فهذا كلام واضح، وقول عذبٌ، وكذلك قوله إيضاً:
بني دارم إن يفن عمري فقد مضى ... حياتي لكم مني ثناءٌ مخلد
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهداً ... وإن عدتم أثنيت، والعود أحمد

مما يفضل من أقوال الشعراء لتخلصه من التكلف
ومما يفضل لتخلصه من التكلف، وسلامته من التزيد، وبعده من الاستعانة قول أبي حية النميري:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم1
ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم2
يقول: رمتني بطرفها، وأصابتني بمحاسنها، ولو كنت شاباً لرميت كما رميت، وفتنت كما فتنت، ولكن قد تطاول عهدي بالشباب، فهذا كلام واضح.
قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب البيتين عن عبد الله بن شبيب وروى:
عشية أحجار الكناس رميم
وزاد فيه بيتا:
رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم
الكناس والمكنس: الموضع الذي تأوي إليه الظباء، وجمع الكناس كنس وجمع المكنس مكانس. ورميم: اسم جارية، مأخوذ من العظام الرميم، وهي البالية، وكذلك الرمة، والرمة: القطعة البالية من الحبل، وكل ما اشتق من هذا فإليه يرجع" .
ـــــــ
1 زيادات ر: "قيل في ستر الله الإسلام، وقيل فيه أنه الشيب، وقيل ماحرم الله عليهما".
2 زيادات ر بعد هذا البيت:
يرى الناس أنى قد سلوت وإننى ... لمرمى أحناء الضلوع سقيم

الاستعانة في الكلام
قال أبو العباس: وأما ما ذكرناه من الاستعانة، فهو أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح به نظماً "و وزناً"1 إن كان في شعر، او ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة قولهم: ألست تسمع أفهمت أين أنت وأشبه هذا، وربما تشاغل العيي بفتل إصبعه ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح. وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء في شعر:
مليءٌ ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحةٍ عثنونٍ وفتل أصابعٍ
وقال رجل2 من الخوارج يصف خطيباً منهم بالجبن، وأنه مجيدٌ لولا أن الرعب أذهله:
نحنح زيدٌ وسعل ... لما رأى وقع الأسل
ويلمه إذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل3
ومما يشاكل هذا المعنى ويجانس هذا المذهب ما كان من خالد بن عبد الله القسري، فإنه كان متقدماً في الخطابة ومتناهياً في البلاغة، فخرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة في عشرين رجلاً، فعطعطوا4 به، فقال خالد: "اطعموني ماءً "وهو على المنبر، فغير بذلك، فكتب به هشام إليه في رسالة يوبخه فيها، سنذكرها5 في موضعها إن شاء الله. وغيره يحيى بن نوفل فقال:
لأعلاجٍ ثمانيةٍ وعبدٍ ... لئيم الأصل في عددٍ يسير
هتفت بكل صوتك: أطعموني ... شراباً، ثم بلت على السرير
ـــــــ
1 من ر.
2 ذكر الجاحظ أنه الأشل الأزرقى من بعض أخوال عمران بن حطان يصف زيد بن جندب الإيادى خطيب الأزارقة، "البان والتبين 42،41: 1".
3 زيادات ر: "وقال رجل يصف رجلا من إياد بالعى، وكان أبوه خطيبا وخاله:
جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت مليئا بالبلاغة من كثب
أبوك معم في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في الخطب
4 العطعطة: تتابع الأصوات واختلافها.
5 ر: "وسنذكرها".

فهذا عارض. وقال آخر1 يعيره:
بل المنابر من خوفٍ ومن وهلٍ ... واستطعم الماء لما جد في الهرب
وألحن الناس كل النس قاطبةٌ ... وكان يولع بالتشديق في الخطب
ـــــــ
1 هو أيضا يحي بن نوفل، "وانظر البيان والتبيين167: 2".

لأعرابي من بني كلاب
ومما يستحسن لفظه1 ويستغرب معناه، ويحمد اختصاره قول أعرابي من بني كلاب:
فمن يك لم يغرض فإني ونلقتي ... بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان2
تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني 3
يريد: لقضى علي، فأخرجه لفصاحة وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 4 والمعنى إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم، ألا ترى" أن"5 أول الآية {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} فهؤلاء أخذوا منهم ثم أعطوهم، وقال الله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 6 أي من قومه، وقال الشاعر7:
أمرتك الخير فافعل ما امرت به ... فقد تركت ذا مال وذا نشب
ـــــــ
1 من ر، س.
2 حجر: هي مدينة اليمامة وأم قراها، ويريد بالحمى حمى ضرية، وكان حمى كليب"وانظر ياقوت". ومن زيادات ر بعد هذا البيت:
هوى ناقتي خلفى وقدامى الهوى ... وإني وإياها لمختلفان
3 ر: "أنشد صاعد بعدهما زياد" فيهما:
فياكبدينا أجملا قد وجدتما ... بأهل الحمى مالم يجد كبدان
إذا كبدانا خافتا وشك نية ... وعاجل بين ظلتا تجبان
4 سورة المطففين 2 .
5 من ر.
6 سورة الأعراف 155.
7 زيادات ر: "هو أعشى طرود، واسمه إياس بن عامر".

أي أمرتك بالخير، ومن ذلك1 قول الفرزدق:
ومنا الذي2 اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
أي من الرجال. فهذا الكلام الفصيح.
وتقول العرب: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، أي ما أذوق فيهن، وقال الشاعر:
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ... قليلاً سوى الطعن النهال نوافله3
قال أبو الحسن: قوله: "لم يغرض"، أي لم يشتق، يقال: غرضت إلى لقائك، وحننت إلى لقائك، وعطشت إلى لقائك، وجعت إلى لقائك أي إشتقت، أخبرنا بذلك أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، وأنشدنا عنه:
من ذا رسولٌ ناصحٌ فمبلغٌ ... عني علية غير قول الكاذب
أني غرضت إلى تناصف وجهها ... غرض المحب إلى الحبيب الغائب
التناصف: الحسن.
وأما قوله: "لقضاني" فإنما يريد: لقضى علي الموت، كما قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} 4، فالموت في النية، وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به، فلهذا ناسب قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ، وكذلك قوله: {كَالُوهُمْ} فالشىء المكيل معلوم، فهو بمنزلة ما ذكر في اللفظ، ولا يجوز: مررت زيداً وأنت تريد: مررت بزيد، لأنه لا يعتدى إلا بحرف جر، وذلك أن فعل الفاعل في نفسه، وليس فيه د ليل على المفعول نفسه، وليس هذا بمنزلة ما يتعدى إلى
ـــــــ
1 ر، س: "ومن ذا".
2 س: "ومنا"، وعلى رواية الأصل في البيت خرم.
3 البيت أورده سيبوية في الكتاب90: 1، قال الأعلم في شرحه: "النوافل هنا الغنائم، يقول: يوم لم نضم فيه إلا النفوس لما أوليناهم من كثرة الطعن، والنهال المرتوية بالدم، وأصل النهل أول الشرب، والطعن هنا: جمع طعنة"
4 سورة سبأ14.

مفعولين، فيتعدى إلى أحدهما بحرف جر، وإلى الآخر بنفسه، لأن قولك: اخترت الرجال زيداً، قد علم بذكرك" زيداً "أن حرف الجر محذوف من الأول. فأما قول الشاعر وهو جرير وإنشاد أهل الكوفة له، وهو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذاً حرام
ورواية بعضهم له: "أتمضون الديار" فليس بشىء لما ذكرت لك، والسماع الصحيح والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة . أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
مررتم بالديار ولم تعوجوا
فهذا يدلك على أن الرواية مغيرةٌ
فأما قولهم: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، وقول الراجز:
قد صبحت صبحها السلام1 ... بكبد خالطها سنام
في ساعة يحبها الطعام
يريد في ساعة يحب فيها الطعام، وكذلك الأول، معناه: ما أذوق فيهن، فليس هذا عندي من.باب قوله جل وعلا: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} إلا في الحذف فقط، وذلك أن ضمير الظرف تجعله العرب مفعولاً على السعه، كقولهم: يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، فهذا يشبه في السعة في السعة بقوله: زيد ضربته وما أشبه، فهذا بينٌ.
ـــــــ
1 صبحت: أتت بالتصبيح، تريد به الغذاء.

لأعرابي من بني سعد وقد نزل به أضياف
قال أبو العباس: ومما يستحسن ويستجاد قول أعرابي1 من بني سعد بن زيد مناة تميم، وكان مملكاً2، فنزل به أضياف، فقام إلى الرحى فطحن لهم،
ـــــــ
1 هو الهذلول بن كعب العنبرى، ذكره أبوتمام في الحماسة بشرح المرزوقى 695-701.
2 من الإملاك، وهو عقد النكاح.

فمرت به زوجته في نسوة، فقالت لهن: أهذا بعلي فأعلم بذلك فقال، قال أبو الحسن: أخبرنا به عن أبي محلم له يعني السعدي:
تقول وصكت صدرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين يابس
إذا هاب أقوام تجشمت هول ما ... يهاب حماياه الألد المداعس
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي، وإني إن ركبت لفارس
قوله:" المتقاعس" إنما هو الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، ويقال: عزة قعساء، وإنما هذا مثل، أي لا تضع ظهرها إلى الأرض. وقوله: "بالرحى" من صلة الذي، والصلة تمام الوصول، فلو قدمها قبله لكان لحناً خطاً فاحشاً، وكان كمن جعل آخر الاسم قبل أوله، ولكنه جعل "المتقاعس" اسماً على وجهه، وجعل قوله: "بالرحى" تبييناً بمنزلة"لك" التي تقع بعد "سقياً"، وبمنزلة" بك" التي تقع بعد قولك: "مرحباً" فإن قدمتها فذلك جيد بالغ، تقول: بك مرحباً وأهلاً، وتقول: لك حمداً، ولزيد سقياً، فأما قول الله عز وجل: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1 وكذلك {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 2 فيكون تفسيره على وجهين: أحدهما أن يكون: إنني ناصح لكما، وأنا شاهد على ذلكم، ثم جعل" من الشاهدين" و" لمن الناصحين" تفسيراً لشاهد وناصح، ويكون على ما فسرناه يراد به التبيين، فلا يدخل في الصلة، أو يكون على مذهب المازني.
قال أبو العباس: وهو الذي أختار، على أن الألف واللام للتعريف لا على معنى الذي، ألا ترى أنك تقول: نعم الفائم زيد، ولا يجوز: نعم الذي قام زيد، وإنما هو بمنزلة قولك: نعم الرجل زيد، وهذا الذي شرحناه متصل في هذا الباب كله مطرد على القياس.
ـــــــ
1 الأنبياء 56.
2 الأعراف 21.

وقوله:
"ألست أرد القرن يركب ردعه"
فإنما اشتقاقه من السهم يقال: ارتدع السهم إذا رجع متأخراً، ويقال: ركب البعير ردعه إذا سقط، فدخل عنقه1 في جوفه، والكلام مشتق بعضه من بعض، ومبين بعضه بعضاً، فيقال من هذا في المثل: ذهب فلان في حاجتي فارتدع عنها، أي رجع، وكذلك: فلان لا يرتدع عن قبيح، والأصل ما ذكرت أولاً.
ومثل هذا قولهم: فلان على الدابة، وعلى الجبل، أي فوق كل واحد منهما ثم تقول: عليه دين تمثيلاً، وكذلك ركبه دين، وإنما يريد أن الدين علاه وقهره، وكذلك فلان على الكوفة إذا كان والياً عليها، وكذلك: علا فلان القوم، إذا علاهم بأمره وقهرهم، أو جعل هذا الموضوع.
وقوله:
"وفيه سنان ذو غرارين يابس"
فالغرار هنا الحد، وللغرار مواضع.
قال أبو العباس: وحدثني الرياشي في إسناد له قال: قال جبر بن حبيب وذكر الراعي: أخطأ الأعور قال: ولم يعلم الحاكي عنه أن الراعي كان أعور إلامن هذا الخبر في قوله:
فصادف سهمه أحجار قف ... كسران العير منه والغرارا 2
وجبر بن حبيب هو المخطىء، لأن الغرار ههنا هو الحد، وذهب جبر إلى أنه المثال، وقد يكون المثال، وليس ذلك بمانعه من أن يحتمل معاني، يقال: بنوا بيوتهم على غرار واحد، أي على مثال واحد، كما قال عمرو بن أحمر" الباهلي"3:
وضعن4 وكلهن على غرار ... هجان اللون قد وسقت جنينا
ـــــــ
1 ر "فدخلت عنقه" ، والعتق تذكر وتؤنث.
2 القف: حجارة بعضها فوق بعض. وعير النصل: ما نتأ في وسطه.
3 من ر، س.
4 كذا ضبطت في الأصل بالبناء للمجهول. وفي زيادات ر: [الرواية عن ابي العباس: "وضعن" بفتح الضاد والواو، والصحيح: "وضعن" بضم الواو وكسر الضاد].

ويقال: لسوقنا درة وغرار، أي نفاق وكساد، فهذا معنى آخر، وإنما تأويل الغرار في هذا المعنى الأخير أنه شيء، ومن هذا: غار الطائر فرخه، لأنه إنما يعطيه شيئاً بعد شيء، وكذلك غارت الناقة في الحلب، ويقال من هذا: ما نمت إلا غرار، قال الشاعر:
ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد
فكشف في هذا البيت معنى الغرار وأوضحه.
وقوله:
"يهاب حمياه الألد المداعس"
فأصل الحميا إنما هي صدمة الشيء، يقال: فلان حامي الحميا، ويقال صدمته حمياً الكأس، يراد بذلك سورتها.
وقوله: "الألد" فأصله الشديد الخصومة، يقال: خصم ألد، أي لا ينثني عن خصمه. قال الله عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 1 كما قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 2، وقال مهلهل:
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً ... وخصيماً ألد ذا معلاق
ويروي: "مغلاق" فمن روى ذلك فتأويله أنه يغلق الحجة الخصم،ومن قال،" ذا معلاق"، فإنما يريد أنه إذا علق خصماً لم يتخلص منه، وجعل السعدي الألد الذي لا ينثني عن الحرب تشبيهاً بذلك، والمداعس: المطاعن، يقال: دعسه بالرمح إذا طعنه، قال عمير بن الحباب السلمي:
أنا عميرٌ وأبو المغلس ... وبالقناة مازني مدعس
قال أبو الحسن: تأويل قول السعدي:
"أبلعي هذا بالرحى المتقاعس"
ـــــــ
1 مريم 97.
2 الزخرف 58.

"بالرحى" تبيين ولم يوضحه، فإن تقدير ما كان من هذا الضرب أنه إذا قال: "أبعلي هذا بالرحى المتقاعس"، فإن المتقاعس يدل على أن تقاعساً وقع،فكأنه قال: وقع التقاعس بالرحى، ولم يرد أن يعمل "المتقاعس "في قوله: "بالرحى"، لأنه في صلة، والصلة من الموصول بمنزلة الدال من زيد أو الياء، فكما لا يجوز أن يتقدم حروف الاسم بعضها على بعض، لم يجز أن تتقدم الصلة على الموصول، فأما قول الله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، وكذلك: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، فإنه يكون على التبيين الذي قدمنا ذكره وهو قول البصريين أجمعين، إلا أن أبا عمر الجرمي أجاز أن يجعل"لكما"،و "على ذلكم" معلقين بشيئين محذوفين دل عليهما" من الناصحين"، و" من الشاهدين"، لأن" من" مبعضة، فكأنه قال والله أعلم: وقاسمهما إني ناصح لكما من الناصحين، وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين.
وأما اختياره وذكره أنه قول المازني، وجعله الألف واللام للعهد مثلهما في الرجل وما أشبهه، فإن هذا القول غير مرضي عندي، لأنك إذا قلت: نعم القائم زيدٌ فجعلت الألف واللام كالألف واللام الداخلتين على ما يؤخذ من الفعل كالإنسان والفرس وما أشبهه، فإنه إذا كان هكذا دخل في باب الأسماء الجامدة وهي التي لم تؤخذ من أمثلة الفعل، وامتنع من أن يعمل مؤخراً إلا على حيلة ووجهٍ بعيدٍ من التبيين الذي ذكرناه. وإذا كان التأخير لا يعمل بنفسه، فكيف يعمل إذا تقدم عليه الظرف وهذا مستحيل لا وجه له.
وأما إنشاده:
لا أذوق النوم إلا غراراً
فإن هذه أبيات أربعة أنشدناها عن الزيادي، وذكر أنه كان يستحسنها وهي لأعرابي قال:
ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نابياً عن وسادي
ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد1
أبتغي إصلاح سعدى بجهدي ... وهي تسعى جهدها في فسادي
فتتاركنا على غير شيءٍ ... ربما أفسد طول التمادي
ـــــــ
1 ر، س: "لا أذوق".

وأما إنشاده:
وضعن وكلهن على غرارٍ
فإن البيت لعمرو بن أحمر بن العمرد الباهلي.

لطيخم بن أبي الطمخاء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة
قال أبو العباس: ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، ثم من رهط عدي بن زيد العبادي، قال:
كأن لم يكن يومٌ بزورة صالحٌ ... وبالقصر ظل دائمٌ وصديق1
ولم أراد البطحاء يمزج ماءها ... شراب من البروقتين عتيق2
معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق
بنو السمط والحداء، كل سميدع ... له في العروق الصالحات عروق
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
قال أبو العباس: أنشدني هذا الشعر أبو محلم، ثم أنشدنيه رجل نصراني يكنى أبا يحيى، شاعر من هؤلاء القوم الذين مدحوا به، وذكر أنه يذكر طخيماً، وهو يتردد إليهم ويظل عندهم. فال هذا النصراني وهو رجل من بني الحداء قال: أذكره وأنا صغير جداً، والسلطان يطلبه لقوله:
له في العروق الصالحات عروق
يقول: أتقول هذا لقومٍ من النصارى وكان هذا النصراني قد قارب مائة سنة فيما ذكر.
ـــــــ
1 زورة: موضع قرب الكوفة، ضبطه ياقوت بفتح الزاى، وقال: "وقرأته بخط بعض أعيان أهل الأدب "زورة" بضم الزاى"، وأورد الأبيات.
2 البروقتان: موضع قرب الكوفة، وضبطه ياقوت بواوين، الأولى مضمومة، وأورد البيت.

وقوله: "معي كل فضفاض القميص" يريد أن قميصه ذو فضولٍ، وإنما يقصد إلى ما فيه من الخيلاء، كما قال زهير:
يجرون الذيول وقد تمشت ... حمياً الكأس فيهم والغناء
ويقال: إن تأويل قول رسول الله حلى الله عليه وسلم: "فضل الإزار في النار" إنما أراد معنى الخيلاء، وقال الشاعر:
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا
وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال لأبي تميمة الهجيمي: "إياك والمخيلة" فقال: يا رسول الله، نحن قومً عربٌ، فما المخيلة, فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سبل الإزار" والحديث يعرض لما يجري في الحديث قبله، وإن لم يكن من بابه، ولكن يذكر به.
قال أبو العباس: روى لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم1 بن هشام، فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذا أجر إليكم سادراً رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه، وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له إبراهيم بن هشام: ما بك فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما ترى، كما سحب هذا الرجل رسنه.
وأما الفنيق فإنه الفحل من الإبل2، وإنما أراد خطراته بذنبه من الخيلاء، فشبه الرجل من هؤلاء إذا انتشى بالفحل، وهو إذا خطر ضرب بذنبه يمنة وشأمة،قال ذو الرمة:
وقربن بالزرق الجمائل بعدما ... تقوب عن غربان أوراكها الخطر 3
ـــــــ
1 كان والى المدينة، والشاعر هو الأحوص، والخبر في الأغانى(216: 40) طبعة الدار.
2 سقطت كلمة "الأبل" من ر، س.
3 الزرق: أكثبة بموضع يقال له الدهناء. والجمائل: جمع جمل كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والغربان هنا: رءوس الأوراك، وتقوب: تقطع، يريد أن خطر الجمال بأوراكها أحدث فيها قوبا فتقطعت. "وانظر ديوانه 209".

قول مخيس بن أرطاة الأعرجي لرجل من بني حنيفة
ومن حسن الشعر ومايقرب مأخذة قول مخيس بن أرطاة الأعرجى والأعرج الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، لرجل من بني حنيفة يقال له يحيى، وكان يصير إلى امرأة في قرية من قرى اليمامة يقال لها: بقعاء: قال أبو الحسن: أنشدته عن الرياشي: " نقعاء"1، وسألت رجلاً من أهل اليمامة فصيحاً من بني حنيفة عن هذا، فقال: مانعرفة2 إلا" نقعاء"3:
عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال: غششتني والنصح مر
وما بى أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأثواب4 بر
ولكن قد أتاني أن يحيى ... يقال عليه فى بقعاء شر
فقلت له: تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك، أن الحرحر
فهذا كلام ليس فية فضل عن معناه.
وقوله: "إن الحرحر حر" إنما تأويلة أن الحر على الأخلاق التى عهدت فى الأحرار، ومثل ذلك:
أنا أبو النجم وشعري شعري5
أي شعري كما بلغك، وكما كنت تعهد، وكذلك قولهم: الناس الناس، أي الناس كما كنت تعهدهم.قال أبو الحسن: ومنه قول الله عز وجل: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 6 وقوله:
فقلت له تجنب كل شىء ... يعاب عليك
ـــــــ
1 ر: "نقعاء، بالنون".
2 ر: "ما أعرفه".
3 س: "نقعاء، بالنون". ر: "بقعاء، بالباء".
4 ر: "الأخلاق".
5 بعده:
لله درى ما يجن صدرى
"وانظر معاهد التنصيص 19: 1"
6 سورة طه 78.

كقول عمرو بن العاص لمعاوية حين وصف عبد الملك [بن مران]1 فقال: آخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسرالأمرين عليه إذا خولف،تارك للمراء،تارك لمقاربة اللئيم،تارك لما يعتذر منه،كقوله:
... تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك أن الحر حر
ـــــــ
1 من ر، س.

قول ابن ميادة لرياح بن عثمان المري
ومما يستحسن إنشاده من الشعر لصحة معناه،وجزالة لفظه،وكثرة تردد ضربه من المعاني بين الناس،قول ابن ميادة لرياح بن عثمان بن حيان المري1، من مرة غطفان،يقوله في فتنة2 محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن،وكان أشار عليه بأن يعتزل القوم فلم يفعل فقتل،فقال ابن ميادة:
أمرتك يا رياح بأمر حزمٍ ... فقلت: هشيمةٌ من أهل نجد
نهيتك عن رجال من قريش ... على محبوكة الأصلاب جرد
ووجداً ما وجدت على رياحٍ ... وما أغنيت شيئا غير وجدي
وقوله3:
"فقلت هشيمة من أهل نجد4"
تأويله ضعفة،وأصل الهشيم النبت إذا ولى وجف وتكسر، فذرته الرياح يميناً وشمالاً قال الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 5 والنجد: أعالي الأرض.
وقوله:
"على محبوكة الأصلاب جرد"
ـــــــ
1 كان واليا على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور سنة 144 "وانظر زامبور 36: 1".
2 ذكر ابن الأثير هذه الفتنة مفصلة في حوادث سنة 144. والخبر والأبيات في الأغانى 338،337: 2 "طبعة الدار"، واللسان "هشم" عن المبرد.
3 ر: "قوله" س: "قوله".
4 في اللسان: "ضعف".
5 الكهف 45.

فالمحبوك الذي فيه طرائق، واحدها حباكٌ، والجماعة حبك، وكذلك الطرائق التي عاى جناح الطائر ؛ من ذلك قول الله عز وجل1: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} 2.
قال أبو الحسن: ابن ميادة اسمه الرماح، وأمه ميادة، وأبوه أبرد، وكان عاقاً بأمه، ولها يقول:
اعرنزمي مياد للقوافي3
وأصل الاعرنزام التجمع والتقبض، يقول: استعدي لها وتهيئي.
وأنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد له:
ونواعم قد قلنا يوم ترحلي ... قول المجد وهن كالمزاح
ياليتنا من غير أمر فادح ... طلعت علينا العيس بالرماح
في أبيات له، يعني نفسه.
قال أبو الحسن: وتمام الأبيات:
بينا كذاك رأيتني متعصباً ... بالخز فوق جلالة سرداح4
فيهن صفراء المعاصم طفلة ... بيضاء مثل غريضة التفاح5
ريشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداح
ونظرن من خلل الستور بأعين ... مرضى مخالطها السقم صحاح
ـــــــ
1 ر: "تبارك وتعالى".
2 الذاريات7.
3 حاشية الأصل: بعده:
واستسمعيهن ولا تخافى
وفي ر:
واستسمعيهن ولا تخافى ... ستجدين ابنك ذا قذاف
4 الجلالة: الناقة الضخمة. والسرداح: الناقة الطويلة.
5 صفراء المعاصم: هي التي طليت بالزعفران: والطفلة: الناعمة. والغريض: الطرى.

نبذ من أقوال الحكماء
قال أبو العباس: ثم نذكر من كلام الحكماء وأمثالهم وآدابهم صدراً، ونعود1 إلى المقطعات إن شاء الله.
[يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: إنا معشر قريش، كنا نعد الجود والحلم السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة]2.
قال الأحنف بن قيس: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به.
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما المروءة? فقال: موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء.
وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة، وأصله من الدجى، وهو ما ألبسك الليل من ظلمته.
وقيل لمعاوية: ما المروءة? فقال: احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النبل? فقال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة.
وكان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: يا هذا، إنك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك علي دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم علي حكم الصبي على أهله.
وذلك أن الصبي قد يطلب ما لا يوجد إلا بعيداً، ويطلب ما لا يكون البتة، قال الشاعر3:
ولا تحكما حكم الصبي فإنه ... كثيرٌ على ظهر الطريق مجاهله
وروي4 أن معاوية بن سفيان لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في قبةٍ حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجلٌ
ـــــــ
1 ر: "ثم نعود".
2 مابين العلامتين تكمله من ر.
3 زيادات ر: "هو الأعرج المعنى".
4 ر: "ويروى".

فعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها-والأحنف جالسٌ-فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر! فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً! وأمر له بألوفٍ، فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع باستخراجها إلا بما سمعت، فقال الأحنف: يا هذا أمسك عليك1، فإن ذا الوجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وجيهاً.
ـــــــ
1 كلمة "عليك" ساقطة من ر، س.

لرجلٍ يهجو بلال بن البعير المحاربي
وقال رجلٌ يهجو بلال بن البعير المحاربي1:
يقولون أبناء البعير وما له ... سنامٌ ولا في ذروة المجد غارب
أرادتوذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوهالما هجتني محارب
معاذ إلهي إنني بعشيرتي ... ونفسي عن هذا المقام لراغب
ـــــــ
1 زيادات ر: "الشاعر الرماح بن ميادة"، ورواية الأغانى "330: 2-طبعة الدار" للبيتين الأخيرين عن أبى حذافة السهمى:
أظنت سفاها من سفاهة رأيها ... أن اهجوها-لما هجتنى محارب
فلا وأبيها إننى بعشيرتى ... ونفسى عن ذاك المقام لراغب

لأبي الطمحان القيني يفخر بقومه
وقال أبو الطمحان القيني1:
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
نجوم سماءٍ كلما غار كوكب ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كانوا مسودٌ ... تسير المنايا حيث سارت كتائب
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسمه حنظلة بن الشرقى، والطمحان فعلان، من طمح بأنفه وبصره إذا تكبر، والقين: الحداد، وكل صانع قين، والقين أيضا: مواضع القيد من البعير".

لإياس بن الوليد يمدح قومه
وقال إياس بن الوليد يمدح قومه:
إني وجدك من قومٍ إذا طلبوا ... بعد النسيئة ديناً أحسنوا الطلبا
لا تحسبوا هجم أبياتي علانيةً ... ولا استلاب سلاحي ذاهباً لعبا
تبقى المعاير بعد القوم باقيةً ... ويذهب المال فيما كان قد ذهبا
لرجلٍ يهجو
وقال آخر:
ليسوا لعمرو غير تأشيب نسبةٍ ... ولكن عمراً غيبته المقابر
إذا عيروا قالوا مقادير قدرت ... وما العار إلا ما تجر المقادر

لرجلٍ من بني نهشل بن دارم ينأى بنفسه
وقال رجلٌ من بني نهشل بن دارم:
إذا مولاك كان عليك عوناً ... أتاك القوم بالعجب العجيب
فلا تخنع إليه ولا ترده ... ورام برأسه عرض الجبوب
فما لشآفةٍ من غير ذنبٍ ... إلا ولى صديقك من طبيب
وقوله:
ورام برأسه عرض الجبوب
يريد الأرض-وهو اسم من أسمائها-أنشدني التوزي لرجلٍ من بني مرة يرثي ابنه:
بني على عيني وقلبي مكانه ... ثوى بين أحجارٍ ورهن جبوب
وقوله: فما لشآفةٍ يقول: لبغض، يقال: شئفت الرحل أشأفه شآفةً وشأفاً، وقد يقال في هذا المعنى شنفته، قال الراجز:
لما رأتني أم عمروٍ صدفت ... ومنعتني خيرها وشنفت1
وقال آخر: ولم تداو غلة القلب الشنف
ـــــــ
1 البيتان في اللسان "شنف".

لنبهان بن عكي في النسيب
وقال نبهان بن عكي العبشمي:
يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى، وقد مل السرى كل واجد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساود
قوله: "ذرا عقدات" فالذروة من كل شيء أعلاه، فذروه السنام أعلاه، وذروة المجد أرفعه وأسناه، ويقال: فلان في ذروة قومه إذا كان في الموضع الرفيع منهم، وأما قول لبيد:
مدمنٌ يجلو بأطراف الذرا ... دنس الأسؤق عن عضب أفل
فإنما يقول: هذا رجل يعرقب الإبل لينحرها ثم يمسح ذرا أسنمتها بسيفه، ليجلو ما عليه من دم الأسؤق.
وقوله: "عضب" أي قاطع، ومن ذلك رجل عضب اللسان، وجعله أفل لكثرة ما يقارع به الحروب، كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقوله: "عقدات "فهو ما انعقد وصلب من الرمل، والواحدة عقدة، وأعقاد أيضاً وعقدات، قال ذو الرمة لهلال بن أحوز المازني يمدحه:
رفعت مجد تميم يا هلال لها ... رفع الطراف على العلياء بالعمد1
حتى نساء تميم وهي نازحة ... بقلة الحزن فالصمان فالعقد
لو يستطعن إذا ضافتك مجحفة ... وقينك الموت بالآباء والولد
ـــــــ
1 الطرف: بيت من جلد، والعلياء: المكان المرتفع.

وقوله: "الأبرق" فالأبرق حجارة يخلطها رمل وطين، يقال لتلك: برقة، وأبرق، وبرقاء، يا فتى كما يقال: الأمعز والمعزاء، وهي الأرض الكثيرة الحصباء، ومثل ذلك الأبطح والبطحاء، وهو ما انبطح من الأرض، فمن قال: أبرق فإنما أراد المكان، ومن قال: برقاء فإنما أراد البقعة.
وقوله: "المتقاود" يريد المنقاد المستقيم، ومن ذلك قولهم: قدته أي جررته على استقامة، وكذلك طريق منقاد، وفلان قائد الجيش، قال حاتم بن عبد الله الطائي يضرب هذا مثلاً:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقود1
وقوله:
ولو كان مخلوطاً بسم الأساود
يريد جمع أسود سالخ، وجمعه على أساود، لأنه يجري مجرى الأسماء، وما كان من باب "أفعل" اسما فجمعه على أفاعل، نحو أفكل وأفاكل2، والأكبر والأكابر، وكذلك كل ما سميت به رجلاً، تقول: أحمد وأحامد وأسلم وأسالم، فإن كان نعتاً فجمعه" فعل"3 نحو أحمر وحمر وأصفر وصفر، ولكن أسود إذا عنيت به الحية، وأدهم إذا عنيت به4 القيد، وأبطح إذا عنيت5 المكان المنبطح، والأبرق6 إذا عنيت المكان، مضارعة للأسماء، لأنها تدل على ذات الشيء، وإذا كانت في الأصل نعتاً محضاً7، تقول في جمعها: الأباطح والأبارق والأداهم والأساود، فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت، قلت: مررت بثياب سود، وبخيل دهم، وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه، قال جرير:
هو القين وابن القين لا قين مثله ... لفطح المساحي أو لجدل الأداهم8
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "الأقود من الرجال: الذي لا يلتفت".
2 الأفكل: اسم لرعدة من برد أو خوف.
3 ر، س: "فجمعه على فعل".
4 ر، س: "إذا عنيت به القيد".
5 ر: "إذا عنيت المكان".
6 ر: "وأبرق إذا عنيت به المكان".
7 ساقطة من ر.
8 المساحى: "جمع مسحاة، وهي المجرفة من حديد يجرف بها الطين عن وجه الأرض".

وقال الأشهب بن رميلة: قال أبو الحسن: رميلة اسم أمة1:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقت2 على حرد دماء الأساود
قوله: "على حرد" يقول: على قصد، فأما الله عز وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 3 فإن فيه قولين: أحدهما ما ذكرنا من القصد، قال الشاعر4:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة5
وقالوا: "على حرد": أي على منع من حاردت السنة إذا منعت قطرها، وحاردت الناقة إذا منعت درها.
[قال أبو الحسن: رواية أبي العباس: "يقر بعيني "يريد يقر عيني، ثم أتى بالباء توكيداً، وقال لنا: هكذا سمعته، ويقال: أقر الله عينه يقرها، وقرت عينه تقر، وقررت بالمكان أقر وقال الأصمعي: قرت عينه من القر وهو البرد، أي جمدت فلم تدمع، وهو بحذاء سخنت عينه وأجود مما روى عندي: "يقر بعيني" ، وهو الأصل، والباء في موضعها غير مؤكدة.
وقال أبو العباس: الذي رويت: "وقد مل السرى كل واحد" ، وهو المنفرد في السير المتوحد به، وروىغيره: "كل واجد"، أي عاشق وروي أيضاً: "كل واخد" ، وهو من الوخد والوخدان، وهو السير الشديد والوخد المصدر، والوخدان الاسم].
ـــــــ
1 مابين العلامتين من ر، س.
2 ر، س: "تسافوا".
3 سورة القلم 25.
4 س: "قيل: هو قطرب".
5 زيادات ر: "قال أبو حاتم: هذه صنعة من لا أحسن الله ذكره_يعني قطربا"، وفيها "قطربأ" تصحيف.

للقتال الكلابي يفخر بنفسه وقومه
وقال القتال الكلابي1، واسمه عبيد بن مضرحي:
أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي ... إذا ترامى بنو الإموان بالعار
لا أرضع الدهر إلا ثدي واضحةٍ ... لواضح الخد يحمي حوزة الجار
من آل سفيان أو ورقاء يمنعها ... تحت العجاجة ضرب غير عوار
يا ليتني والمنى ليست بنافعةٍ ... لمالك أو لحصن أو لسيار
طوال أنضية الأعناق لم يجدوا ... ريح الإماء إذا راحت بأزفار
قوله:
إذا ترامى بنو الإموان بالعار
فالإموان: جمع أمةٍ، وأصل أمةٍ"فعلة" متحركة العين، وليس شيء من الأسماء على حرفين إلا وقد سقط منه حرف يستدل عليه بجمعه، أو بتثنيته، او بفعل إن كان مشتقاً منه، لأن أقل الأصول ثلاثة أحرف، ولا يلحق التصغير ما كان أقل منها، فأمة قد علمنا أن الذاهب منها واو بقولهم: " إموان" ، كما علمنا أن الذاهب من أب وأخ الواو بقولهم أبوان وأخوان، وعلمنا أن أمة" فعلةٌ "متحركة بقولهم في الجميع: آم، فوزن هذا أفعل، كما قالوا أكمة وآكم، ولا تكون فعلةٌ على أفعل، ثم قالوا إموان، كما قالوا في المذكر الذي هو منقوص مثله: إخوان، واستوى المذكر والمؤنث، لأن الهاء زائدة كما استويا في" فعل" الساكن العين، تقول: كلب وكلاب، وكعب كعاب، كما تقول في المؤنث: طلحة وطلاح، وجفنةٌ وجفان، وصفحة وصحاف. ونظير ذلك من غير المعتل ورل2 وورلان، وبرق وبرقان وخرب وخربان، وهو ذكر الحبارى، والبرق الحمل، ومن أنشد:
ـــــــ
1 ر، س: "وقال أبو العباس،قال القتال...".
والأبيات في أمالى القالى "226،225: 2"، وذكر فيها: "نازع القتال الكلابى_ وهو عبيد بن المضرحى_ رجلا من قومه، فقال له الرجل: أنت كل على قومك، والله إنك لخامل الذكر والحسب، ذليل النفر، خفيف على كاهل خصمك، كل على ابن عمك"، فقال هذه الأبيات.
2 الورل: دابة على خلقة الضب، إلا أنه أعظم منه، يكون في الصحارى.

"أموان "فقد غلط، لأنه يحتج بقولهم، حمل حملان، وفلق وفلقان، وهذا إنما يحمل على ما كان معتلاً مثله، نحو أخٍ وإخوان، وقد روى أبو زيد: أخوان، فإلى هذا ذهبوا، والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الضعيفة.
وقوله: "لا أرضع الدهر "فهذا على لغته، لأن قيساً تقول: رضع يرضع، وأهل الحجاز يقولون: رضع يرضع، وينشدون بيت عبد الله بن همام" السلولي"1 على وجهين، وهو:
إذا نصبوا للقول قالوا فإحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... إفاويق حتى ما يدر لها ثعل2
وبعضم يقول" يرضعونها".
وقوله:
لاأرضع الدهر إلا ثدي واضحة
يقول إنما ترضعني أمي، وليست غير كريمة، كما قال الأغشى:
يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأساً من بخلا
يقول: إنما تشرب بكفك، ولست ببخيل، ومثل هذا قول التميمي لنجدة ابن عامر الحنفي الخارجي3:
متى تلق الحريش حريش سعد ... وعبادا ًيقود الدارعينا
تبين أن أمك لم تورك ... ولم ترضع أمير المؤمنينا4
وقوله:" واضحة" أي خالصة في نسبها، وليست بأمة، وهذا توكيد لبيته الأول، وقد أنشد بعضهم: "لواضح الجد" والمعنى قريب .
ـــــــ
1 من و. وفى س. "بيتى ابن همام".
2 الثعل، مثلثة: خلف زائد صغير في أخلاف الناقة.
3 هو نجدة بن عامر الحنفى، من رءوس الخوارج، كان ممن لقبوه بأمير المؤمنين قتل سنة 72.
"وانظر تاريخ الطبرى 194: 7".
4 هو الحريش بن هلال القريعى الشاعر، وعباد بن علقمة المازنى، وسيأتى ذكرهما في أخبار الخوارج.

وقوله:" يحمي حوزة الجار" أي مايحوزه، يقال: فلان مانع لحوزته، أي لما صار في حيزه، ويروى عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 أنه قال: للأزد أربع ليست لحي، بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة2 لايحتاجون إلى،غيرهم، وشجعان لايجبنون.
وقوله:
لمالكٍ، أو لحصنٍ، أو لسيار
فهؤلاء بيت فزازة، وبيوتات العرب في الجاهلية ثلاثة، فبيت تميم بنو عبد الله بن دارم، ومركزه، بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدرٍ، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه ذي الجدين .
وقوله: "طوال أنضية الأعناق" فالنضي مركب النصل في النسخ، وضربه مثلاً، وإنما أراد طوال الأعناق، كما قال الأعشى:
الواطئين على صدور نعالهم ... يمشون في الدفئي والأبراد3
يريد السودد والنعمة ولم يخصص الصدور، وإنما أراد النعال كلها، وقال الشاعر4:
يشبهون ملوكاً في تجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم
إذا بدا المسك يندى في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم
[قال أبو الحسن: وغيره يروي: يشبهون قريشاً في تجلتهم].
وقوله: "بأزفار" فالزفر الحمل، ويضرب مثلاً للرجل، فيقال، إنه لزفر. أي حمال للأثقال، ويقال: أتى حمله فأزدفره، قال أبو قحامة أعشى بأهلة:
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوافل الزفر
ـــــــ
1 ر: "رضى الله عنه".
2 العمارة هنا: الحى العظيم يمكنه الانفراد بنفسه، يفتح العين وكسرها. قال ابن الأثير: "فمن فتح فلالتفاف بعضهم على بعض كالعمارة والعمامة، ومن كسر فلأن بهم عمارة الأرض" "وانظر النهاية 128: 3".
3 الدفئى: ضرب من الثياب، قيل هي المخططة.
4 زيادات ر: "هو الشمردل بن شريك اليربوعى، عن ابن قتيبة".

وإنما يريده بعينه، كقولك: لئن لقيت فلاناً ليلقينك منه الأسد. وقوله "النوفل" من قولهم: إنه لذو فضل ونوافل.

لرجل من بني عبس وكان عروة بن الورد قد شتمه
وقال رجل من بني عبسٍ يقوله لعروة بن الورد1:
لا تشتمني يا ابن وردٍ فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم، وهو طيان ماجد2
وإني امرؤٌ عافي إنائي شركةٌ ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد3
أقسم جسمي في جسوم كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
قوله: "النؤوب "يريد الذي ينوبه، وكل واو قراح لغير علةٍ فأنت فيهمزها وتركها بالخيار، تقول في جمع دارٍ: أدؤر وإن شئت لم تهمز، وكذلك النؤوب، والقؤول لانضمام الواو، فأما الواو الثانية فإنها ساكنة قبلها ضمة، وهي مدة فلا يعتد بها، ولو التقت واوان في أول كلمةٍ وليست إحداهما مدة لم يكن بد من همز الأولى، تقول في تصغير واصل وواقدٍ: أويصل وأويقد، لا بد من ذلك، فأما وجوه فأما وجوهٌ فإن شئت همزت فقلت: أجوه وإن شئت لم تهمز، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 4 المرسلات والأصل وقتت، ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت. وقوله عز وجل5: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} 6 الاعراف الواو الثانية مدة فلا يعتد بها، ولو كان في غير القرآن لجاز الهمز لانضمام الواو.
وقولي: "إذا انضممت لغير علة"، فالعلة أن تكون ضمتها إعرباٌ، نحو هذا غزوٌ يا فتى، وذلو كما ترى، مما لا يجوز همزه، لأن الضمة للإعراب فليست بلازمة، أو تنضم لالتقاء الساكنين، فذلك أيضاً غير لازم، فلا يجوز
ـــــــ
1 ر، س: "قال أبو الحسن: يقوله لعروة بن الورد".
2 الخصاصة: سوء الحال. والطيان: الجائع.
3 العافى: طالب المعروف.
4 سورة المرسلات 11.
5 ر، س: "وقوله تعالى".
6 سورة الأعراف، 20.

همزة: نحو اخشوا الرجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 1 {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 2 ومن همز من هذا شيئاً فقد أخطأ.

لرجل من بني تميم يهجو تعلة بن مسافر
وقال رجل من بني تميم:
ألبان إبل تعلة بن مسافرٍ ... ما دام يملكها علي حرام
وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام
إن الذين يسوغ في إعناقهم ... زادٌ يمن عليهم للئام
لعن الإله تعلة بن مسافر ... لعناً يشن عليه من قدام
وهذا كلام فصيح جداً.
وقوله: "يسوغ في أعناقهم" يريد حلوقهم لأن العنق يحيط بالحلق، ويشبه هذا الاتساع في الفصاحة لا في المعنى قول القطامي:
لم تر قوماً هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي
نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد
لأن الخياطة تضم خرق القميص، والسرد يضم حلق الدرع، فضربه مثلاً فجعله خياطة، قال أبو الحسن: روى أبو العباس:
وطعام عمران بن أوفى مثلها
رد الهاء والألف على الألبان، وهذا لا نظر فيه، وروى أيضاً مثله لأن الألبان تجري مجرى اللبن، فحمله على المعنى. وقد يجوز أن تجعل الألبان جمعاً فتذكر لتذكير الجمع. وروي أيضاً
ما دام يسلك في الحلوق طعام
ـــــــ
1 سورة آل عمران 186.
2 سورة التكاثر 6.

وروى الفراء في هذا الشعر:
إن الذين يسوغ في أحلاقهم
وإنما كان ينبغي أن يكون: : " في أحلقهم "كقولك: فلس وأفلس، وما أشبهه ولكنه شبه باب" فعلٍ" بباب" فعل"، كما قالو: زند وأزناد، وفرخ وافراخ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي1 الله عنه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ففعلوا هذا تشبيها ًبباب" فعل" كما شبهوا فعلاً بفعلٍ في الجمع، فقالوا: جبلٌ وأجبلٌ، وزمن وأزمن، كما قال:
إني لأكني بأجبال عن أجبلها ... وباسم أودية حباً لواديها
فأتي به على الأصل، وتشبيهاً بغيره على ما أخبرتك، قال ذو الرمة:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... هل الأزمن الائي مضين رواجع!
والباب" أزمان" كما قال رؤبة:
أزمان لا أدري وإن سألت ... ما فرق بين جمعةٍ وسبت
وروى أبو العباس البيت الأخير مقوى، وجعله نكرة، وهو قوله: "من قدام" كما تقول: جئتك من قبلٍ، ومن بعد، ومنعلٍ، وما أشبه، كما قرأ بعضهم: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 2 كما تقول: أولاً وآخراً، ورواه الفراء: "من قدام" وجعله معرفة، وأجراه مجرىالغايات، نحو: "قبل وبعد" كما قال طرفة بن العبد3:
ثم تفري اللحم من تعدائها ... فهي من تحت مشيحات الحزم
وكما قيل عتي بن مالك العقيلي، أنشده الفراء أيضاً:
إذا أنا أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
ـــــــ
1 ر،س: "العمر رحمه الله".
2 سورة الروم 4.
3 من ر، وعجز هذا البيت صدر لبيت آخر، ورواية الديوان 59.
وخل الصنعة في مشتاتها ... فهي من تحت مشيحات الحزم
وتفرى اللحم من تعدائها ... وتعالى فهى قب كالعجم

فهذا الضرب مما وقع على غير جهة التعريف، وجهة التعريف أن يكون معرفاً بنفسه، كزيد وعمرو، أو يكون معرفاً بالألف واللام أو بالإضافة، فهذه جهة التعريف، وهذا الضرب إنما هو معرف بالمعنى، فلذلك بني إذ خرج من الباب، ويروى: "لعناً يسن عليه" بالسين، ويسن ويشن واحد، أي يصب إلا أن بعضهم قال السن الصب على وجهه واحدة، وقالوا: يقال: شننت عليه الماء، وسننته، وسننت عليه الدرع لا غير، وقالوا: سننت عليه الغارة لا غير.

للقاطمي يفتخر
قال أبو العباس: وقال القاطمي:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال باديةٍ ترانا!
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلبا وأفراساً حسانا1
وكن إذا أغرن على قبيل2 ... فأعوزهن كوز حيث كانا3
أغرن من الضباب على حلال ... وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقوله: " الحضارة" يريد الأمصار، وتقول العرب: فلان بادٍ، وفلان حاضرٌ، وفي الحديث: "ولا يبيعن حاضرٌ لبادٍ" وتأويل ذلك أن البادي يقدم وقد عرف أسعار ما معه وما مقدار ربحه، فإذا جاءه الحاضر عرفه سنة البلد فأغلى على الناس. ومثل ذلك النهي عن تلقي الجلب، ومثله: دعوا عباد الله يصب بعضهم من عضٍ. حي حلال، إذا كانوا متجاورين مقيمين، وأنشد الأصمعي:
أقوم يبغون العير تجراً ... أحب إليك أم حي حلال
ـــــــ
1 القنا: جمع قناة، وهي الرمح: السلب: الطوال، واحده سلب، بفتحتين.
2 القبيل: الجماعة من الناس.
3 كوز: رجل من أسد. وفي ر: "كون" تحريف وانظر الديوان 58.

باب

نبذ من أقوال الحكماء
قيل لمعاوية رحمة الله عليه: ما النبل? فقال: الحلم عند الغضب،والعفو عند القدرة.ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بشراركم?1 من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده، ألا أخبركم بشر بين ذلكم? من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً ألا أخبركم بشر من ذلكم؟ من يبغض الناس ويبغضونه". ويروى عنه عليه السلام أنه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدً على من سواهم، والمرء كثير بأخيه" قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تتكافأ دماؤهم"، من قولك: فلان كفء لفلان، أي عديله، وموضوع بحذائه، قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقال: فلان كفاء فلان، وكفيء فلان، وكفء فلان.
ويروى أن الفرزق بلغه أن رجلاً من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق:
بنو دارم أكفاؤهم آل مسمعٍ ... وتنكح في أكفائها الحبطات
فآل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام، وهم ممن بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل،والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم فقوله: " أكفاؤهم" إنما هو جمع كفء يافتى، فقال رجل من الحبطات يجيبه:
أما كان عباد كفيئاً لدارم ... بلى ولأبيات بها الحجرات
يعني بني هاشم من قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} 2.
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: من لانت كلمته، وجبت محبته وقال: قيمة كل امرىء ما يحسن.
ـــــــ
1 ر: "ألا أخبركم بشراكم؟" قالوا: بلى، قال: "من أكل وحده...".
2 سورة الحجرات 4.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه وقال: كفى بالمرء غياً أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاٌ ثم يأتي مثله،أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه،أو يؤدي جليسه فيما لا يعنيه.
وقال عبد الله بن العباس لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها،ومن السيوف صميمها يعني سهيلا من النجوم، والركن اليماني، وصمصامة عمرو بن معدي كرب.
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يوماٌ: من أجود العرب فقيل له: حاتم،قال: فمن شاعرها قيل: امرؤ القيس بن حجر، قال: فمن فارسها قيل: عمرو بن معديكرب، قال: فأي سيوفها أمضى، قيل: الصمصامة. وقال معاوية بن أبي سفيان رحمة الله للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاماً أحفظهم، فردوا عليه جواباً مقذعاً، وبنت قرظة في بيتٍ يقرب منه، فسمعت ذلك، فلما خرجوا قالت: يا أمير المؤمنين، لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاماً تلقوك به فلم تنكر، فكدت أخرج إليهم فأسطو بهم. فقال لها معاوية: إن مضركاهل العرب، وتميماً كاهل مضر، وسعداً كاهل تميمٍ، وهؤلاء كاهل سعدٍ.
وكان معاوية يقول: إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه، وإن لم تكن إلا كلمة يشتفي بها مشتفٍ جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني
المقذع: الذي فيه إقذاع وهو السيء من القول.

باب

لرجل من بني سعد يرثي رجلا
ً
قال أبو العباس: قال رجل - أحسبه من بني سعد - يرثي رجلاً:
ومختضر المنافع أريحي ... نبيلٍ في معاوزةٍ طوال
عزيزٍعزةً في غير فحشٍ ... ذليلٍ للذ ليل من الموالي
جعلت وساده إحدى يديه ... وتحت جمائه خشبات ضال
ورثت سلاحه، وورثت ذوداً ... وحزناً دائماً أخرى الليالي
قوله:" أريحي" هو الذي يرتاح للمعروف،أي يخف له، ويقال: أخذت فلاناً أريحية،أي خفة وحركة لفعل المعروف.و المعاوز: الثياب التي يتبذل فيها الرجل،وهي دون الثياب التي يتجمل بها،واحدها معوز،قال الشماخ في نعت القوس:
إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المغاوز1
وقوله:" في معاوزة" : فزاد الهاء .،فإنما يفعل ذلك لتحقيق التأنيث، لأن كل جمع مؤنث،كما تقول في جمع صيقلٍ صياقل،و صياقلة، وكذلك جوارب وجواربة،إلاأن أكثر الأعجمي يختص بالهاء، وهو في الغربي جيد، وفي العجمي أكثر استعمالاً نحو الموازجة2، فإن كان الباب فيه إثبات الهاء وتركها جائز.، نحو المهالبة والأحامرة، وقالوا: السبابحة3 لأنه قد اجتمع فيه النسب والعجمة.
ـــــــ
1 الأنداء: جمع الندى، وهو ما يسقط ليلا.وأشعرت: ألبست الشعار، وهو الثوب الذي يلى الجسد. الحبير: البرد الموشى.
2 الموازجة: جمع موزج، وهو الخف، وأصله: "موزة". "وانظر المعرب 311".
3 قال في اللسان: السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند يكونون مع رئيس السفينة البحرية واحدهم سبيجى، ودخلت في جمعة الهاء للعجمة والنسب، كما قالوا: البرابرة".

وقوله: "تحت جمائه" يعني شخصه، والضال: السدر البري وما كان من السدر على الأنهار فليس بضال، ولكن يقال له: عبري. قال ذو الرمة: "عبرياً وضالاً"1.
ورثت سلاحه وورثت ذودا
يصف قرب نسبه منه، والذود: القطعة من الإبل، وأكثر ما يستعمل ذلك في الأناث، ويجوز في السائر، ومنه قولهم: الذود إلى إبل، ثم قال:
وحزناً دائماً أخرى الليالي
كما قال وغبط بميراثٍ ورثه من أحد أهله:
يقول جزءٌ ولم يقل جللاً- ... إني تزوجت ناعماً جذلاً
إن كنت أزنتني بها كذباً ... جزء فلاقت مثلها عجلا
أغبط أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذوداً شصائصاً نبلا
قوله: " ولم يقل جللا" أي صغيراً، والجلل يكون للصغير، ويكون للكبير، من ذلك قوله:
كل شيء ما خلا الله جلل
أي صغير، وقال لبيدٌ في الكبير:
وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزءٌ ذو جلل
وقوله: "شصائصاً" ، يعني حقيرة دميمة. وزعم التوزي أن النبل من الأضداد، يكون للجليل والحقير، واححتج بهذا البيت الذي ذكرناه، قال: يريد ههنا الحقيرة.
وقوله: "أزنتني"، أي قرفتني ونسبتني إليه، فلان يزن بكذا وكذا، أي يسمى به، ةينسب إليه، قال امرؤ القيس بن حجر:
كذبت، لقد أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ـــــــ
1 ر: "قال ذو الرمة":
قطعت إذا تجوفت العواطى ... ضروب السدر عبريا وضالا
والعواطي: الظباء تمد أعناقها إلى الشجر. "وانظر ديوانه 440".

وفي معنى قوله: " ورثت سلاحه" قول الشاعر:
يفرح الوارث بالمال إذا ... ورث المال ويبكي إن غضب
ومثله قول الفزاري:
ياحبذا التراث لولا الذلة

لجميل بن معمر في النسيب
وقال جميل بن معمرٍ:
ما صاءب من نائلٍ قذفت به ... يدٌ، وممر العقدتين وثيق
له من خوافي النسر حم نظائرٌ ... ونصل كنصل الزاعبي فتيق
على نبعةٍ زوراء، أيما خطامها ... فمتنٌ، وأيما عدها فعتيق
بأوشك قتلاً منك يوم رميتني ... نوافذ لم تعلم لهن خروق
كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
قوله: " ما صائب" يريد قاصداً، يقال: صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 1 وقد قالوا: النازل، والقصد أحكم كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
تؤمل2 أن أؤوب لها بغنم ... ولم تعلم بأن السهم صابا
وقوله: "وممر العقدتين" يعني وتراً، والممر: الشديد الفتل.
وقوله: "من خوافي النسر حم نظائر" يريد ريش السهم، والحم: السود، وذلك أخلصه وأجوده، وجعلها في مقادير، لأنه أقصد للسهم، وإذا كانت الريشات بطن الواحدة منها إلى ظهر الأخرى فهو الذي يختار وهو الذي يقال له اللؤام، وإنما أخذ من قولهم: ملتئم. وإن كان ظهر الواحدة إلى ظهر الأخرى، وبطنها إلى بطن الأخرى فذلك مكروه، يقال له اللغاب.
ـــــــ
1 سورة البقرة 19.
2 ر: "صدر البيت عن ابي الحسن".

وقوله: " كنصل الزاعبي"، شبه نصل السهم بنصل الرمح الزاعبي، وهو منسوب إلى رجل من الخزرج، يقال له زاغبٌ، كان يعمل الأسنة، هذا قول قوم. وأما الأصمعي فكان يقول: الزاغبي: الذي إذا هز فكأن كعوبه يجري بعضها في بعضٍ للينه وتثنيه، يقال مر يزعب بحمله إذا مر مراًسهلاً.
وقوله: "فتيق" يعني حاداً رقيقاً، يقال: فتيق الشفرتين، وتأويله أنه يفتق ما عمد به له. و" فعيل" يقع اسماً للفاعل، ويقع للمفعول، فأما الفاعل فمثل رحيم وعليم وحكيم وشهيد، وأما ما كان للمفعول، فنحو جريح وقتيل وصريع.
وقوله:" زوراء" يريد معوجة، وكلما كانت القوس أشد انعطافاٌ كان سهمها أمضى.
وقوله: " على نبعة"، يعني قوساً وأكرم القسي ما كان من النبغ.
وقوله: "أيما" إنما يريد "أما"، واستثقل التضعيف، فأبدل الياء من إحدى الميمين،وينشد بيت ابن أبي ربيعة:
رأت رجلا، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأيما بالعشي فيخصر
وهذا يقع، وإنما بابه أن تكون قبل المضاعف كسرة فيما يكون على فعال، فيكرهون التضعيف والكسر، فيبدلون من المضعف الأول الياء للكسرة وذلك قولهم: دينار وقيراطٌ وديوان ما أشبه ذلك، فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الآخر رجع التضعيف فقلت: دنانير وقراريط ودواوين، وكذلك إن صغرت قلت قريريط ودنينير.
وقوله:" وأيما عودها فعتيق" ، يصف كرم هذه القوس وعتقها، ويحمد منها أن تترك ولحاؤها عليها بعد القطع حتى تشرب ماءه، كما قال الشماخ:
فمظعها حولين ماء لحائها ... وينظر منها أيها هو غامر
مظعها: شربها1.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: "فمظعها حولين"، أى تركها في الظل حولين حتى تشرب ماء اللحاء، يقال: تمظع الرجل الظل إذا تحول من مكان إلى مكان".

وقوله: "بأوشك قتلا منك" ، يقول: بأسرع، يقال: أمر وشيك أي سريع، ويقال: يوشك فلان أن يفعل كذا، أي يقارب ذلك، ويوشك يفعل، كذا يطرح "أن "كل جيد قال1:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
من لم يمت عبطة يمت هرماٌ ... للموت كأس فالمرء ذائقها
قال أبو الحسن: هذه أبيات أربعة وهي لرجل من الخوارج قتله الحجاج:
ما رغبة النفس في الحياة وإن ... عاشت قليلاٌ فالموت لاحقها
وأيقنت أنها تعود كما ... كان براها بالأمس خالقها
قوله: "عبطة"، أي شاباٌ، يقال: اعتبط الرجل، إذا مات شاباٌ من غير مرض، وأصل العبيط الطري من كل شيْ وقوله:
نوافذ لم تعلم لهن خروق
معنى طريف، وقد أخذه أبو حية منه فكشفه في أبيات مختارة، وهي2:
وإن دماٌ لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم3
ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم
إذا هن ساقطن الحد يث كأنه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أمية بن أبي الصلت" ، وكذا في حاشية الأصل أيضا.
2 زيادات ر: "اسم أبي حية الهيثم بن الربيع" وفي س: وهو قول أبي حية النميرى".
3 اللهاذم: القواطع.

رمين فأقصدن القلوب فلم نجد ... دما مائراٌ إلا جوى في الحيازم1
قال أبو الحسن: وأول هذه الأبيات المختارة أنشدناه غيره:
وخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم2
أصد وما الصد الذي تعلمينه ... شفاءٌ لنا إلا اجتراع العلاقم
قال أبو العباس: فهذا مأخوذ من ذلك.
وقوله:
ولكن لعمر الله ما طل مسلماً
يقول: ما طل دمه، يقال: دمٌ مطلول، إذا مضى هدراً، كما قال الراجز:
بغير عقلٍ ودمٍ مطلول
وحدثني التوزي قال: قال يحيى بن يعمر لرجل نازعته امرأته عنده: آن طالبتك بثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها!
قوله: "ثمن شكرها" فإنما يعني الرضاع، والشبر: النكاح، والشكر: الفرج.وقوله: "أنشأت تطلها" أي تسعى في بطلان حقها.
وقوله:" تضهلها" أي تعطيها الشيء بعد الشيء: يقال: بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها شيئاً بعد شيء، وجرابها جوانبها، وإنما يغزر ماؤها إذا خرج من قرارتها فتعظم جمتها3.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الكاف في قوله: "كغر" فاعلة بقوله: "طل"، ومنه قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوى شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرىء القيس:
وإنك لم يفخر عليك كفاخ ... ضعيف ولم يغلبك مث مغلب
2 ر: ذكر بعده عن أبى الحسن:
حياء وبقيا أن تشيع نميمة ... بناديكم، اف لأهل النمائم!
وأورد هذا البيت في حاشية الأصل عن أبى على.
3 الجمة: كثرة الماء.

وقوله: "واضحات الملاغم" يريد العوارض، قال الفرزدق:
سقتها خروق في المسامع لم تكن ... علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم
يقول: علم أرباب الماء لمن هي فسقاها ما سمعوه من ذكر اصحابها لعزهم ومنعتهم، ولم تحتج أن تكون بها سمةٌ.
والعلاط: وسمٌ في العنق، والخباط في الوجه.

باب

نبذ من أقوال الحكماء
قال أبو العباس1 قال بعض الحكماء: من أدب ولده صغيراً سر به كبيراً وكان يقال: من أدب ولده أرغم حاسده.
وقال رجل لعبد الملك بن مروان إني أريد آن أسر إليك شيئاً، فقال عبد الملك لأصحابه: إذا شئتم، فنهضوا، فأراد الرجل الكلام، فقال له غبد الملك قف، لا تمدحني، فآنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني، فإنه لا رأي لمكذوبٍ ? ولا تغتب عندي احداً.فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في الانصراف? قال له: إذا شئت.
وقال بعض الحكماء: ثلاث لا غربة معهن: مجانبة الريب، وحسن الأدب، وكف الأذى.
وقال عمرو بن العاص لدهقان2 نهر تيرى3: بم ينبل الرجل عندكم ? فقال: بترك الكذب، فإنه لا يشرف إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله، فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب، فإنه لا يعز من لا يؤمن ألا يصادف على سوأة، وبالقيام بحاجات الناس، فإنه من رجي الفرج لديه كثت غاشيته.
وقال بزر جمهر: من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان قبل وضيعاً، وبعد صيته وإن كان حاملاً، وساداً وإن كلن غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقتراً.
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحبٌ في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات. يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستعطف بها الكريم، ويستنزل لها اللئيم.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الدهقان: زعيم فلاحى العجم، ويطلق على رئيس الإقيلم.
3 نهر تيرى: موصع بناحية الأهواز.

وكان شعبة بن الحجاج، أو سماك بن حرب-[قال أبو الحسن: هو سماك بلا شك]-1إذا كانت له إلى أمير حاجة استنزله بأبيات يقولها فيه.
وقال بعض الملوك لبض وزرائه وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد قال: عقل يعيش به .قال: فإن عدمه قال: فأدب يتحلى به قال: فإن عدمه قال: فمال يستره قال: فإن عدمه قال: فصاعقة تحرقه، فتريح منه العباد والبلاد.
وقيل لرجل من ملوك العجم: متى يكون العلم شراٌ من عدمه قال: إذا كثر الأدب، ونقصت القريحه وقال أزدشير: من لم يكن عقله أغلب خلال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه.
وقال محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وذكر رجلاٌ من أهله: إني لأكره أن يكون لعلمه فضل على عقله، كما أكره أن يكون للسانه على علمه .
وقال محمد بن علي بن الحسين: جميع التعايش والتناصف والتعاشر في ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلث تغافل فلم يجعل لغير الفطنة نصيباٌ من الخير، ولا حظاٌ في الصلاح، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شىء قد عرفه وفطن به .
ـــــــ
1 من ر: وحاشية الأصل.

باب

لرجل من بني عبد الله بن غطفان، وكان قد جاور في طيىء
قال أبو العباس1: قال رجل2 من بني الله بن غطفان وجاور في طيىء وهو خائف:
جزى الله خيراٌ من عشيرة ... ومن صاحب تلقاهم كل مجمع
هم خلطوني بالنفوس ودافعوا ... ورائي بركن ذي مناكب مدفع3
وقالوا تعلم أن مالك إيصب ... نفدك، وإن تحبس نزرك ونشفع
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 نسبه أبو تمام إلى ابن دارة، "وانظر الوحشيات 2.3".
3 قال المرصفى في شرح البيت: "بركن، يريد بجيش يعتصم به، تشبيها بركن الجبل، والمناكب في الأصل: جمع المنكب، وهو مارتفع من الأرض، شبهه بها مبالغة في الاعتصام، ومدفع، كمنبر: اسم آلة الدفع، يريد أنه قوى في الدفاع".

لرجل من بني سلامان يمدح طيئا
ٌ
وقال رجل من بني سلامان بن سعد هذيم1 من قضاعة،وجاور في طيىء:
كأن الجار في شمجى بن جرم2 ... له نعماء أو نسب قريب
يحاط ذماره ويذب عنه ... ويحمي سرحه أنف غضوب3
ألفت مساكن الجبلين إني ... رأيت الغوث يألفها الغريب4
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "سعد هذيم أضيف إلى عبد كان لأبيه يحتضنه".
2 شمجى بن جرم: قبيلة من قضاعة.
3 الذمار: مايلزم الإنسان حمايته من عرض ومال. والسرح: مايسام في المرعى من الأنعام.
4 زيادات ر: "الجبلان: سلمى وأجا، وهما لطيئ، والغوث: قبيلة من طيئ".

لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوما
قال أبو العباس1: وأنشدني عبد الوهاب بن جنبة الغنوي لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوماٌ نزل بهم:
ـــــــ
1 ساقط من ر، س.

هينون لينون أيسار ذوو يسرٍ ... سواس مكرمة أبناء أيسار
لاينطقون على العميان إن نطقوا ... ولايمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال أبو الحسن : حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي قال : قصد رجل من الشعراء ثلاثة من غني، إخوة وكانوا مقلين، فامتدحهم،فجعلوا له عليهم في كل سنة ذوداٌ فكان يأتي فيأخذ الذود والشعر الذي امتدحهم به قوله:
يادار بين كليات وأظفار ... والحمتين، سقاك الله من دار
على تقادم ما قد مر من عصر ... مع الذي مر من ريح وأمطار
عنا غنيت بذات الرمث من أجلى ... والعهد منك قديم منذ أعصار
وقد نرى بك والأيام جامعة ... بيضاً عقائل من عينٍ وأبكار
فيهن عثمة لا يمللن عشرتها ... ولا علمن لها يوماً بأسرار
إذ يحسب الناس إن قد نلت نائلها ... قدماً وأنت عليها عاتب زار
بل أيها الراكب المفني شبيبته ... يبكي على ذات خلخالٍ وأساور
خبر ثناء بني عمرو فإنهم ... أولو فضولٍ وأنفالٍ وأخطار
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمةٍ أبناء أيسار
فيهم ومنهم يعد المجد متلداً ... ولا يعد نثا خزي ولا عار
لا يظعنون على العمياء إن طغنوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
وإن تلينتم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار حربٍ غير أغمار
إن يسألون العرف يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يكشف منهم طيب أخبار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري

للمكعبر الضبي يمدح بني مازن ويذم بني العنبر
قال أبو العباس: وكان قوم نزلوا ببني العنبر بن عمرو بن تميم، والقوم من بني ضبة، فأغير عليهم، فاستغاثوا جيرانهم فلم يغيثوهم، وجعلوا يدافعونهم حتى خافوا فوتها، فاستغاثوا بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، فركبوا فردوها عليهم، فقال المكعبر1 الضبي في ذلك:
أبلغ طريفاً حيث شطت بها النوى ... فليس لدهرالطالبين فناء
كسالى إذا لا قيتهم غير منطق ... يلهى به المحروب وهو عناء
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
فهلا سعيتم سعي أسرة مالك ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
كأن دنابيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء
ـــــــ
1 ضبط في الأصل بفتح الباء وكسرها معا. وفي حاشية الأصل: "قال أبو الحسن: حفظى: المكبر[بكسر الباء]. وفي زيادات ر: "اسمه حريث بن عفوظ".
والأبيات في حماسه أبي تمام "30: 4"- بشرح التبريزي منسوبة إلى محرز بن المكعبر الضبي، وأولها بروايته:
أبلغ عديا حيث صارت بها النوى ... وليس لدهر الطالبين فناء
قال التبريزي: "كان محرز بن المكعبر جارا لبنى عدى بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فأغار بنو عمرو بن كلاب على إبله فذهبوا بها، فطلب إلبهم أن يسعوا له، فوعدوه أن يفعلوا، فلما طال ذلك عليه ورآهم لا يصنعون شيئا أتى المخارق والساحق ابنى شهاب المزنيين-وهما من بنى خزاعة-فسعيا له بإبله فرداها عليه"، فأنشد الأبيات.

قوله: "حيث شطت بها النوى"، معنى شطت: تباعدت، ويقال: أشط فلان في الحكم إذا عدل عنه متباعداً، قال عز وجل: {وَلا تُشْطِطْ} 1.
وقال الأحوص:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي ... ويزعمن أن أودى بحقي باطلي
ويلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داعٍ دائبٌ غير غافل
والنوى: البعد، ويقال: شطت بهم نيةٌ قذف، أي رحلة بعيدة، قال الشاعر2:
وصحصحان قذف كالترس
وليس بمأخوذ من "نأيت" في اللفظ، ولكنه مثله قي المعنى وقوله:
فليس لدهر الطالبين فناء
يقول: الطلب في إثر طلبته أبداً. ويروى أن رجلاً من قريش بعث إلى رجل منهم وكان أخذ له غلاماً: يل هذا، إن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، فإما رددته، وإما عرضت اسمك على الله في كل يوم وليلة خمس مرات.
قال أبو الحسن: الرجل الذي أخذ منه الغلام هو جعفر بن محمد بن علي أبن الحسين، والآخذ سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس.
ومن أمثال العرب: "لا ينام إلا من اثَّأَرَ" . ويقال لمن أدرك ثأراً نبيلاً: أصاب ثأراً منيماً، وأنشد:
ـــــــ
1 سورة ص 22.
2 هو العجاج، والصحصحان: المكان المستوى الأملس، ولملامسته شبهه بالترس. "وانظر مشارف الأفاويز-1".

تقول لي ابنة البكري عمرو ... لعلك لست بالثأر المنيم
وقوله:
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
يقول: وهذا رجاءٌغير صادقٍ ولا موقوفٍ عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منه، وإنما يتهكم بهم وهو يعلم أن سعيهم غير كائن، ألا تراه يقول:
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
وقوله:
كأن دنانيراً على قسماتهم
زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدموع، واحدتهاقسمة، وقال الأصمعي: القسمات أعالي الوجه، ولم يبينه بأكثر من هذا. وقول أبي عبيدة مشروح، ويقال من هذا: رجل قسيمٌ، ورجل مقسمٌ، ووجهٌ قسيمٌ ومقسمٌ، قال الشاعر:
ويوماً توافينا بوجهٍ مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم
قوله" تعطو"، أي تتناول، يقال: عطا يعطو إذا تناول، وأعطيته أنا، أي ناولته، قال امرؤ القيس:
وتعطو برخص غير شثنٍ كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل1
والسلم: شجر بعينه كثير الشوك، فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدوه، ثم قطعوه، فمن ذلك قول الحجاج: والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل2.
ـــــــ
1 برخص، أي ببنان رخص، والرخص: الناعم. والشئن: الغليظ الخشن. ظبى: اسم رملة، والأساريع، دود مفصل الألوان بياضا وحمرة، تشبه به أصابع النساء. والإسحل: شجر يستاك بعيدانه.
2 غرائب الإبل: هب الإبل الغريبة التي تدخل بين الإبل حال ورودها الماء، فتضربها الرعاء ضربا شديدا.

قال: وحدثني التوزي عن أبي زيد قال: سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب" الظبية" وترفعها وتخفضها.
قال أبو العباس: أما رفعها فعلى الضمير، وعلى هذا قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 1 وهذا الباب قد شرحناه في الكتاب "المقتضب" في باب "إن وأن" بجميع علله، ومن نصب فعلى غير ضمير، وأعملها مخففة عملها مثقلة، لأنها تعمل لشبهها بالفعل، فإذا خففت عملت عمل الفعل المحذوف، كقولك: ام يك زيدٌ منطلقاً، فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاماً، فيصير التقدير: كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم هذه المرأة. وحذف الخبر لما تقدم من ذكره. ومن قال: "كأن ظبية "جعل" أن" زاءدة، وأعمل الكاف: أراد: كظبية، وزاد"أن" كما تزيدها في قولك: لما أن جاء زيدٌ كلمته، ووالله أن لو جئتني لأعطيك.
وقوله:
"لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها"
فكل شيء كان على" فعال" من المؤنث فجمعه أفعل، وكذلك فعال، تقول: ذراع أذرع،كراع وأكرعٌ، لأنهما مؤنثتان، ومن أنث اللسان قال: ألسن، ومن ذكره قال ألسنة، وشمالٌ وأشملٌ، كما قال الشاعر2:
"يأتي لها من أيمن وأشمل"
فأما المذكر فعلى أفعلةٍ في أدنى العدد وفعل في الكثير، يقال: حمارٌ وأحمرةٌ وحمر، وفراشٌ وأفرشة وفرش.والنواشر ما يظهر من العروق في ظهر الذراع مما يداني المعصم، وذلك الموضع يقال له أسلة الذراع، قال زهير:
ودارٌ لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشمٍ في نواشر معصم3
ـــــــ
1 المزمل: 20.
2 زيادات ر: "هو أبو النجم العجلى"، وبعده:
وهي حيال الفرقدين تعتلى
وانظر الطرائف الأدبية 63.
3 الرقمتان: روضتان بناحية الضمان.

وقوله:
وبعض الرجال في الحروب غثاء
فالغثاء: ما يبس من البقل حتى يصير حطاماً، وينتهي في اليبس فيسود،فيقال له: غثاء وهشيم ودندن وثن، على قدر اختلاف أجناسه، ويقال له: الدرين، قال الله عز وجل: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 1 وقال: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 2 ، وقال الشاعر يصف سحاباً: 3
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
وقال الراجز:
تكفي الفصيل أكلةٌ من ثن
وقد يقال للشيء الذي لا خير فيه: هذا غثاء، أي قد صار كذلك الذي وصفناه، ويضرب هذا مثلاً للكلام الذي لا وجه له.
ـــــــ
1 الأعلى: 5.
2 الكهف: 45.
3 زيادات ر: "هو ابن ميادة، وقبله:
سحائب لا من صيف ذى صواعق ... ولامحرقات ماؤهن حميم

لرجل تميمي في الرثاء
وقال رجل أحسبه تميميا1ً:
لو لم يفارقني عطية لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
شجاعٌ إذا لاقى، ورامٍ إذا رمى ... وهادٍ إذا ما أظلم الليل مصدع
سأبكيك حتى تنفد العين ماءها ... ويشفى مني الدمع ما أتوجع
أحسن الإنشادين عندي: "لم أهن"، يأخذه من وهن يهن، لأنه إذا قال: " لم أهن" فهو من الهوان، ومن قال: "لم أهن" فإنما هو من الضعف، وهو أشبه
ـــــــ
1 نسب هذه الأبيات أبو على ألقالى إلى حكيم بن معية أحد بنى ربيعة الجوع يرثى أخاه عطية بن معية.
وانظر ذيل الأمالى 75: 1. وفي زيادات ر "هو الفرزدق"، قال المرصفى: "يرثى صديقة ونديمه عطية بن جعال، وكان من سادات تميم".

بقوله:
ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
والآخرغير بعيد، يقول: لم أهن على أعدائي، وإذا قال "لم أهن" فالأصل: " لم أهن" ، ولكن الواو إذا كانت في موضع الفاء من الفعل، وكان ذلك الفعل على "يفعل"، قالوا محذوفة، وإنما تحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وتصير حروف المضارعة الباقية تابعة للياء، لئلا يختلف الباب، وهي التاء من قولك: "تفعل" إذا عنيت مخاطباً أو مؤنثاً غائباً، نحو: تعد، وهي تعد، والهمزة إذا عنيت نفسك، نحو: أنا أعد، والنون إذا أخبرت عن نفسك ومعك غيرك، نحو: نحن نعد.
فإن قال قائل: إنما هذا لن الفعل المتعدي تحذف منه الواو، فإن كان غير متعد ثبتت، فقد قال أقبح قول، لأن التعدي أو غير التعدي لا يحدث في أنفس الأفعال شيئاً، ولو كان كما يقول لأثبت الواو في "وهن يهن"، لأنك لا تقول: وهنت زيداً، وكذلك ورم يرم ووكف1 البيت يكف، وونم2 الذباب ينم، وهذا أكثر من أن يحصى. فإن لم تكن بعد الواو كسرة لم تحذف، نحو وحل يوحل، ووجل يوجل، ووجع الرجل يوجع وقد يجوز ييجع وياجع وييجع لما نذكره إذا جرى إذا جرى ذكر هذه المفتوحة إن شاء الله. فأما الحذف فلا يكون فيها.
فإن قال قائل: فما بال يطأ ويسع حذفت منهما الواو، ومثلهما ثبتت فيه الواو،فإنما ذلك لأنه كان فعل يفعل مثل ولي يلي، وورم يرم، ففتحته الهمزة والعين، والأصل الكسر، فإنما حذفت الواو مما يلزم في الأصل، ألاترى أنك تقول: ولغ السبع يلغ، فهذا فعل يفعل والأصل يفعل، ولكن فتحته العين، لأن حروف الحلق تفتح ماكان على يفعل ويفعل، ولولا ذلك لم تقع فعل يفعل وحروف الحلق ستة: الهمزة، والهاء والعين، والغين، والحاء، والخاء، وهن، يفتحن إذا كن في موضع العين واللام، فأماالعين فنحو سأل يسأل وذهب
ـــــــ
1 وكف البيت: قطر منه الماء.
2 ونم الذباب: سلح.

يذهب ، وأما اللام فمثل قرأ يقرأ، وصنع يصنع، وسائر هذا الباب على ماوصفت لك.
وقوله:
وهادٍ إذا ماأظلم الليل مصدع
فتأويل"مصدع" أي ماض في الأمر، قال الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 1 ويقال: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع به.
وقال أعرابي2 يمدح سوار بن عبد الله القاضي، وسوارٌ أحد بني العنبر بن عمرو بن تميم:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كان ما ضيا
فاستجمع في هذا المدح ركانة الحزم، وإمضاء العزم،ومثله قول النابغة الجعدي:
أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذاما تبينت لم أرتب
ومن أمثال العرب السائرة الجيدة: "رو تحزم "فإذا استوضحت فاعزم"ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم"، وإنما يكون هذا بعد التوقف والتبين، فقد قال الشعبي: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أوكاد.
ومثل قوله:
"ويشفي مني الدمع ما أتوجع"
قول الفرزدق:
ألم تر أني يوم جو سويقة3 ... بكيت فنادتني هنيدة: ما ليا
فقلت لها: إن البكاء لراحةٌ ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا
ـــــــ
1 الحجر 94.
2 حاشية الأصل "هو سلمة بن عياش".
3 جو سويقة: موضع بالصمان.

قال أبو الحسن: ويتلو هذ ين البيتين مما يستحسن:
قعيدكما الله الٌذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا1
حبيب دعا، والرمل بيني وبينه ... فأسمعني، سقياٌ لذلك،داعيا
يقال: قعيدك الله، وقعدك الله، ونشدك الله، أي سألتك بالله، كما قال متمم بن نويرة، وهو من بني يربوع:
قعيدك ألاٌتسمعني ملامة ... ولاتنكئي قرح الفؤاد فييجعا
ويرى:" فقعدك ألآتسمعني"، والبيضتان: موضع معروف.
قال أبو العباس: وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني،فذكرت قول ذي الرمة:
لعل انحذار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد،أويشفي نجي البلابل
فخلوت فبكيت فسلوت .
ـــــــ
1 قعيدك الله، قال الجوهري: "هي يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر، "وانظر اللسان قعد".

لنضلة السلمي في يوم غول
وقال نضلة السلمي1 في يوم غولٍ وكان حقيراًدميماً،وكان ذا نجدةٍ وبأسٍ:
ألم تسل الفوارس يوم غولٍ2 ... بنضلة، وهو موتور مشيح
ـــــــ
1 الأبيات في مجالس ثعلب 7-8 روى أنه "مر قوم من بنى سليم برجل من مزينة يقال له نضلة في إبل له، فاستسقوه لبنا فسقاهم، فلما رأوا أنه ليس في الأبل غيره ازدروه، فأرادوا أن يستاقوها، فجالدهم حتى قتل منهم رجلا، وأجلى الباقين عن الإبل، فقال في ذلك رجل من بنى سليم..."، وأورد الأبيات. ونسبها الجاحظ في البيان "338: 3" إلى أبي محجن الثقفى، ولم ترد في ديوانه.
2 الغول: ماء للضباب فيه نخل وعيون.
ورواية ثعلب:
ألم تسأل فوارس من سليم
ورواية الجاحظ:
ألم تسل الفوارس من سليم

رأوه فازدروه وهو حر1 ... وينفع أهله الرجل القبيح
فشد عليهم بالسيف صلتاً ... كما عض الشبا الفرس الجموح
فأطلق غل صاحبه وأردى ... قتيلاً منهم ونجا جريح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
قوله: "وهو موتور مشيح" فالمشيح الحامل الجاد، يقال: أشاح يشيح إذا حمل، وأنشدني التوزي قال: أنشدني أبو زيد وهو لأبي العيال الهذلي:
مشيح فوق شيحان ... يشد كأنه كلب
قال: وشيحان اسم فرسه.
قال أبو الحسن ويروى: "شيحان" [بفتح الشين]2، وحقه3 على رواية أبي زيد ألا ينصرف لأنه فعلان، فالألف والنون زائدتان، وهو معرفة، فضارع عطشان وما جرى مجراه، وإنما اضطر فصرفه. وعن4 أبي زيد أيضاً يرويه:" شيحان"، وهو الجاد، وهو صفة شائعة، وليس كالأول فالأول معرفة مشتق عن النعت4.
وقال ابن الإطنابة، واسمه عمرو:
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
ويقال في هذا المعنى: رجل شيح، كما يقال: ناقة نقض، إذا كانت هزيلاً، قال أبو ذؤيب5:
وشايحت قبل اليوم إنك شيح
ـــــــ
1 ثعلب والجاحظ: "وهو خرق". والخرق: الفتى الكريم الخليقة.
2 من ر.
3 س: "وجب على رواية أبى زيد".
4 ساقط من ر.
5 صدره:
بدرت إلى أولاهم فسبقتهم
وانظر ديوان الهذليين 116: 1.

وقوله: "بالسيف صلتاً" يقول: منتضى، ورجل صلت الجبين إذا كان نقيه.
وقوله: "كما عض الشبا" يريد حد اللجام، وشبا كل شيء حده.
وقوله: "وأردى" أي أهلك، يقال: ردي يردى إذا هلك، والردى: الهلاك، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 1 ، قيل فيه قولان: أحدهما إذا تردى في النار، والآخرإذا مات، وهو" تفعل" من الردى.
وقوله:
ولم يخشوا مصالته عليهم
فهي" مفعلة" من صال يصول، ويقال: صال البعير إذا عض.
وقيل للمغيرة بن شعبة: إن بوابك يإذن لأصحابه قبل أصحابك، فقال: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمال الصؤول، فكيف بالرجل الكريم!
وقوله:
وتحت الرغوة اللبن الصريح
يقول: إذا رأيت الرغوة وهو ما يرغو كالجلد في أعلى اللبن لم تدر ما تحتها، فربما صادفت اللبن الصريح إذا كشفتها. أي أنهم رأوني فازدروني لدمامتي، فلما كشفوا عني وجدوا غير ما رأوا. والصريح: المحض الخالص، من ذلك قولهم: عربي صريح أي خالص، ومولى صريح.
ومن أمثال العرب: "إنه ليسر حسوا في ارتغاء" ومعنى ذلك أنه يوهمك أنه يأخذ بفيه تلك الجلدة عن اللبن ليصلحه لك، يحسو من تحتها، يضرب هذا المثل لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجتر النفع إلى نفسه.
ـــــــ
1 سورة الليل: 11.

لأعرابي من بني سعد خلاف الدمامة
وقال أعرابي خبرت أنه من بني سعد وقد تمثل بهذا الشعر الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم، في خلاف الدمامة:

ولما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالاً وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
دعوا: يا لسعد وانتمينا اطيىء ... أسود الشرى إقدامها ونزالها1
قوله: "نهالاً" يريد أنها قد وردت الدم مرة ولم تثن، وذلك أن الناهل الذي يشرب أول شربة، فإذا شرب ثانية فهو عال، يقال: سقاه علاً بعد نهل، وعللاً بعد نهل وفي المثل: "سمته سوم عالة" إذا عرضت عليه عرضاً يستحيي من أن يقبل معه، والعالة لا حاجة بها إلى الشرب، وإنما يعرض عليها تعزيزاً. قال: "وأسباب المنايا نهالها"، أي أول ما يقع منها يكون سبباً لما بعده، وأنشدني غير واحد:
وأن أشداء الرجال طيالها
وليس هذا بالجيد، وإنما قلب الواو ياء لوقوعها بين كسرة وألف كقولهم: ثياب، وحياض، وسياط، والواحد ثوب، وحوض، وسوط: وهذا جيد، لكون الواو في الواحد، فأما في مثل طوال، فإنما يجوز على التشبيه بهذا، وليس بجيد لتحرك الواو في الواحد. وأنشدني مسعود بن بشرالمازني:
لهم أوجه بيض حسان وأذرع ... طيال ومن سيما الملوك نجار2
ومجاز هذا في النحو على ما وصفت لك.
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "ذكر أبو رياش في شرح الحماسة أن هذا الشعتر لأنيف بن حكيم النبهاني" وانظر شرح التبريزي 189:1 .
2 النجار: الأصل.

العرب تمدح الطول
و

العرب تمدح بالطول
، وتضع من القصر، فلا يذكره منهم إلامحتج عن نفسه،ولا يمدح به غيره، قال عنترة:
بطل كأنٌ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم1
يقول: لم يشارك في الرحم، وقال جرير:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم2
فإني لأرضى عبد شمس وماقضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
ـــــــ
1 السبت: الجلد المبوغ بالقرظ.
2 فاتونا: حاكمونا.

وقال حسان بن ثابت:
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطى بيانا ... وجسماً من بني عبد المدان
ويقال إن عليٌ بن عبد الله العباس بن عبد المطلب كان إلى منكب عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب العباس، وكان العباس إلى منكب عبد المطلب.
وحدثني التوزيٌ قال: طاف عليٌ بن عبد الله بالبيت، وهناك عجوز قديمة،وعليٌ قد فرع الناس، كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذي فرع الناس فقيل: عليٌ بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلاالله، إن الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط1 أبيض.
وحدثني عليٌ بن القاسم بن عليٌ بن سليمان بن عليٌ بن عبد الله بن العباس قال: كان يقال: صار شبه عليٌ بن عبد الله في عظم الأجسام في العليين يعني عليٌ ابن أمير المؤمنين المهدي المنسوب إلى أمه ريطة،علي بن سليمان بن عليٌ .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليهم وسلم وهو الأسوة والقدوة كان فوق الربعة2 ولم يكن بالطويل المشذب3، وكان إذا مشى مع الطوال طالهم ولم يختلف أهل الحكمة والنظر من العرب والعجم أن الكمال في الاعتدال، ولا يقال غير هذا عن حكيم وأبين ما فيه ما اختاره الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد يقال: الكيس في القصر وقد قيل في خبر قصير4 وكيده ومكره ما سار به المثل، واستغنى عن الاعادة.
ـــــــ
1 الفسطاط: ضرب من الأبنية.
2 الربعة: الرجل بين الطول والقصر.
3 المشذب: المفرط في الطول.
4 هو قصير بنى سعد اللخمى، وانظر خبره مع جذيمة بن مالك والزباء في مجمع الأمثال: 85.

لأعرابي يرد على مغنية عابته بالقصر
وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: كان أعرابيٌ يختلف إلى مغنية لآل سليمان، فأشرفت إليه5 ذات مرة فأومأت إليه إيماء عائب له بالقصر، فأنشأ يقول:
ـــــــ
1 ر: "عليه".

ياجعفرٌ يا جعفرٌ يا جعفر ... إن أك ربعةً فأنت أقصر
أو أك ذا شيب فأنت أكبر ... غرك سربال عليك أحمر
ومقنع من الحرير أصفر1 ... وتحت ذاك سوأةٌ لو تذكر
قال أبو الحسن: أنشدني أبو العباس محمد بن الحسن الوراق الشعر الذي فيه قوله:
ولما التقى الصفان واختلف القنا
بتمامه، وهو شعر مختار لرجل من طيىء، ويدل على ذلك ماتسمعه في الشعر،وهو قوله:
جمعنا لهم من حيٌ غوثٍ ومالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها
لهم عجز بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حيي جديس رعالها
وتحت نحور الخيل حرشف رجلة ... تتاح لحبات القلوب نبالها
أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم ... بنو ناتق كانت كثيراً عيالها
فلما أتينا السفح من بطن حائل ... بحيث تناصى طلحها وسيالها
دعوا لنزاروانتمينا لطيىء ... كأسد الشرى إقدامها ونزالها
فلما التقينا بين السيف فيهم ... لسائلةٍ عنا حفيٌ سؤالها
ولما عصينا بالرماح تضلعت ... صدور القنا منهم وعلت نهالها
ولما تدانوا بالسيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلماً حبالها
فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادم مربوعاتها وطوالها
الكتائب: جمع كتيبة، سميت كتيبة لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، يقال: تكتب القوم إذا تضاموا،ومنه أخذ الكتاب لانضمام حروفه، ولذلك قالوا:
ـــــــ
1 المقنع: ما تغطى به المرأة رأسها وتستر محاسنها.

بعلة مكتوبة إذا شد حياؤها وضم. ويردي: يهلك، يقال: ردي الرجل إذا هلك، والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك. والمقرفون: الذين دخلوا في الفساد والعيث، وهو في الأصل الهجنة يقال: فرس مقرفٌ إذا كان هجيناً، ثم يشيع في الفساد.
والعجز؛ مؤخر العسكر ههنا، وهو مستعار. والحزن: ما خشن من الأرض وغلظ. واللوى: مستدق الرملة حيث ينقطع، يقال ألويتم فانزلوا: أي صرتم إلى آخر الرملة،وهواللوى.وجديس: قبيلة معروفة، فلذلك لم يصرفها. والرعال الجماعات المتفرقة، واحدها رعلةٌ.
والحرشف: نبت يكثر في البادية، وإنما شبه النبل به في الكثرة، والرجلة: الرجالة. وتتاح: تقدر، يقال أتاح الله له كذا وكذا، أي قدر له، والنبال جمع نبلٍ.
والناتق: الولود، فإذا أسرفت في ذلك وكثر ولدها جداً قيل منتاقٌ.
والسفح: أصل الجبل من الوادي. وحائل: موضع. وتناصى: تقابل وتقرب حتى يعلق هذا بهذا، وهذا بهذا عند هبوب الريح، يقال: تناصى الرجلان نصاء وتناصياً إذا اقتتلا فأخذ كل واحدٍ منهما بناصية صاحبه، والطلح والسيال: ضربان من الشجر معروفان.
وانتمى ونمى: انتسب. والشرى: موضع كثير السباع، وإنما يريد: كإقدام أسد الشرى وإقدامها، ثم حذف لعلم السامع.
وعصينا: جعلنا الرماح كالعصي. والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الأول يريد أنا أعدناها إلى الطعن مرة بعد أخرى.
وقوادم: ذات إقدام، فجاء به على الأصل، كما قال:
يخرجن من أجواز ليلٍ غاض1
أي مغضٍ، فجاء به على الأصل، وهو كثير.
ـــــــ
1 البيت لرؤبة:
وبعده:
نضو قداح النابل النواضى
وانظر ديوانه 82.

والمربوعات: المعتدلة التي لم تبلغ أن تكون رمحاً، وهو رفعٌ، كأنه قيل له: ما هي? فقال: هي مربوعاتها وطوالها، ولو خفض وجعله بدل البعض من الكل لكان حسناً، وكان يكون مقوى، ولكن هكذا أنشدناه مرفوعاً على التقدير الذي ذكرناه.

باب

صبرة بن شيمان عند معاوية
قال أبو العباس: حدثت أن صبرة بن شيمان الحداني دخل على معاوية،والوفود عنده، فتكلموا فأكثروا، فقام صبرة فقال: يا أمير المؤمنين، إنا حي فعالٍ، ولسنا بحي مقالٍ، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم. فقال: صدقت.

كلمة يزيد بن أبي سفيان حين أرتج عليه
وحدثت أن أبا بكر رضي الله عنه، ولى يزيد بن أبي سفيان ربعاً من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً، وبعد عي بياناً، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوالٍ.
فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: هن مخرجاتي من الشام استحساناً لكلامه.

جواب عامر بن قيس لعثمان بن عفان
وقال عثمان بن عفان رحمه الله1 لعامر بن عبد قيسٍ العنبري ورآه ظاهر الأعرابية: يا أعرابي، أين ربك ? فقال بالمرصاد!
ـــــــ
1 س: رضي الله عنه.

جواب علي بن أبي طالب حين سئل: أين ربنا?
وقال قائل لعلي بن أبي طالب رحمه الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض? فقال علي: أين، سؤال عن مكانٍ، وكان الله ولا مكان.

للحسن البصري في المواعظ
وحدثت أن راهبين دخلا البصرة من ناحية الشام، فنظرا إلى الحسن البصري، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي كأن سمته سمت المسيح، فعدلا إليه، فألفياه مفترشاً بذقنه ظاهر كفه، وهو يقول: يا عجباً لقوم قد أمروابالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم! فليت شعري ما الذي ينتظرون?
ونظر الحسن إلى الناس في مصلى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال الحسن: إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابو، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته عن تجديد ثوب، أو ترطيل شعرٍ.
قوله:" ترطيل شعر" إنما تلبين الشعر بالدهن وما أشبهه، ويقال للرجل إذا كان فيه لينٌ وتوضيع: رجل رطلٌ، والذي يوزن به ويكال يقال له: رطلٌ، بكسر الراء.
وكان الحسن يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عيها ولا تعمرها.
قوله القنطرة يعني هذه المعقودة المعروفة عند الناس، والعرب تسمي كل أزج1 قنطرة قال طرفة بن العبد:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفاً حتى تشاد بقرمد
قوله"حتى تشاد" يقول: تطلى، وكل شيء طليت به البناء من جص أو جيار، وهو الكلس، فهو المشيد، يقال: دار مشيدةٌ، وقصر مشيدٌ، قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 2 وقال الشماخ:
لا تحسبني وإن كنت امرأً غمراً ... كحية الماء بين الطين والشيد
وقال عدي بن زيد العبادي:
شاده مرمراً وجلله كِْلـ ... ـساً فللطير في ذراه وكور
والمقرمد: المطلي أيضاً، فمن ثم قال: "حتى تشاد بقرمد" في معنى حتى تطلى، ومن ذلك قول النابغة:
رابي المجسة بالعبير مقرمد3
ـــــــ
1 الأزج: نوع من الأبينة يطول بناؤه.
2 سورة النساء 78.
3 قبله:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف
وانظر ديوانه 32.

وقال الحسن: تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هأنذا فاعرفوني. قد عرفناك، فمقتك الله، ومقتك الصالحون.
قوله: "أبيض بضاً" فالبض الرقيق اللون، الذي يؤثر فيه كل شيء.
وفي الحديث أن معاوية قدم على عمر بن الخطاب رحمهما الله1 من الشام وهو أبض الناس، فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب، أو مثل الشراك، فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامت، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسراتٍ على بابك! وقال حميد بن ثورٍ الهلالي:
منعمةٌ بيضاء لو دب محولٌ ... على جلدها بضت مدارجه دما
وقوله: "يملخ في الباطل ملخاً، يقول: يمر مراً سريعاً، يقال: بكرةٌ ملوخٌ إذا كانت سهلة المر.
وقوله:" يضرب أصدريه وأزدريه"، فإنما يقال ذلك للفارغ، يقال: جاء فلان يضرب أصدريه وأزدريه، ولا يتكلم منه بواحدٍ، ويقال: فلانٌ ينفض مذرويه، وهما ناحيتاه، وإنما يوصف بالخيلاء، قال عنترة:
أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فهأنذا عمارا
ولا واحد لهما، ولو أفردت لقلت في التثنية مذريان، لأن ذوات الواو إذا وقعت فيهن الواو رابعة رجعت إلى الياء، كما تقول في ملهى: ملهيان، وهو من لهوت، وفي مغزى: مغزيان، وهو من غزوت، وإنما فعلت ذلك لأن فعله ترجع فيه الواو إلى الياء إذا كانت رابعة فصاعداً، نحو غزوت، فإذا أدخلت فيه الألف قلت: أغزيت، وكذلك غازيت واستغزيت، وإنما وجب هذا لانقلابها في المضارع، نحو يغزي، ويستغزي، ويغازي، وإنما انقلبت لانكسار ما قبلها.
ـــــــ
1 ر، س: "رحمه الله".

فإن قال قائل: فما بال يترجى ويتغازى، يكونان بالياء، نحو: هما يتغازيان ويترجيلن? فإنما ذلك لأنهما في الأصل: رجى يرجي، وغازى يغازي، ثم لحقت التاء بعد ثبات الياء. والدليل على ذلك أن التاء إنما تلحقه على معناه، فقولك: مذروان لا واحد له لما أعلمتك، وثبات الواو دليلٌ على أن أحدهما لا يفرد من الآخر، فلذلك جاء على أصله1.
ـــــــ
1 انظر أمالى المرتضى 156:1.

باب

ليزيد بن الصقيل، وكان يسرق الإبل ثم تاب
قال أبو العباس: قال يزيد بن الصقيل العقيلي-وكان يسرق الإبل، ثم تاب، وقتل في سبيل الله:
ألا قل لأرباب المخائض: أهملوا ... فقد تاب مما تعلمون يزيد
وإن امرأً ينجو من النار بعد ما ... تزود من أعمالها لسعيد
وفي هذا الشعر1:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
قوله"ألا قل لأرباب المخائض"، فإن الناقة إذا لقحت قيل لها خلفة، وللجميع مخاض، وهذا جمع على غير واحده، إنما هو بمنزلة امرأةٍ ونساء، ثم جمع الجمع فقال: مخائض، كقولك في رسالةٍ: رسائل، وكما تقول في قوم أقوام، فتجمع الاسم الذي هو للجمع، وكذلك أعراب وأعاريب، وأنعام وأناعيم.
وقوله: " أهملوا": أي اسرحوا إبلكم، والهمل ما كان غير محظور، وهو السدى، ويروى في مثل قوله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
عن بعض الصالحين2 أنه كان يقول إذا مات له جار أو حميم: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم3.
ـــــــ
1 س: "وفي هذا الشعر يقول".
2 حاشية الأصل: "هو محمد بن الحنفية"، وهو من زيادات ر.
3 يقال: اخترقن المنية، أى أخذتته من بين أصحابه.

لابن حبناء التميمي في مكارم الأخلاق
وقال ابن حبناء التميمي:
أعوذ بالله من حالٍ تزين لي ... لوم العشيرة أو تدني من النار

لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في ابن العم أظفاري
إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري
وقوله:
لا أقرب البيت أحبو من مؤخره
يقول: لا آتيه لريبةٍ. ومثل ذلك قوول الشاعر1:
ولست بصادرٍ من بيت جاري ... كفعل العير غمره الورود
يقول: لا أخرج خروج الخائف، لأنه إنما يقال: تغمر الشارب إذا لم يرو، ويقال للقدح الصغير: الغمر من هذا.
وقوله:
ولا أكسر في ابن العم أظفاري
يقول: لا أغتابه، وهذا مثلٌ كما قال الحطيئة:
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
وقوله:
فقد يرى الله حال المدلج الساري
فالمدلج: الذي يسير من أول الليل، يقال: أدلجت، أي سرت من أول الليل، وأدلجت: أي سرت في السحر، قال زهير:
بكرن بكوراً وادلجن بسحرةٍ 2
والسرى لا يكون إلا سير الليل، قال الله عز وجل: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} 3 من قولك أسريت، وهي اللغة القرشية، وغيرهم من العرب يقول سريت، وقد جاء هذه اللغة في القرآن، قال الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 4 فهذا من سرى،
ـــــــ
1زيادات ر: "وهو عقيل بن علفة"، والبيت من كلمه له في حماسه أبى تمام(152،151:1)- طبعة الرافعي.
2 رواية الديوان 10: "واستحرن بسحرة"، وبقيته:
فهن ووادى الرس كاليد في الفم
3 سورة الحجر 65.
4 سورة الفجر 4.

ولو كان من" أسرى" لكان" يسري"، كما قال لبيد:
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافاً بغير معصر
والمعصر الملجأ، والسري إنما هو من قولك سرى، كقولك: قضى فهو قاض، ومن أسرى يقال للفاعل: مسرٍ كما تقول: أعطى فهو معطٍ، كما قال الأخطل:
نازعتهم طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري
والدجاج هاهنا: الديوك، يريد وقت السحر، لأنه يقال للديك: هذا دجاجة، فإن أردت الأنثى قلت، هذه، وكذلك هذا بقرة، وهذا بطة، وهذا حمامة إذا أردت الذكر، ولهذا باب يذكر فيه إن شاء الله . قال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع باانواقيس
وقوله: ،" أرقني صوت الدجاج" ، والأرق لايكون في آخر الليل وإنما يكون في جميعه.
وكذلك النواقيس لا تقرع أيضاً إلا في السحر فإنما أراد: أرقني انتظاري هذا الوقت،لأنه وعد فيه وعداً فهو منتظر له .
قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى الأبيات الرائية المتقدمة بتمامها على ما أذكره لك عن أبي عبد الله بن العرابيٌ،وهي لأحد ابني حبناء أحسبه صخراٌ وهما من بني تميم، وكان من الأزارقة قال:
إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... بشيب رأسي، وما بالشيب من عار
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... ولا سعادته يوماٌ باكثار1
إن الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار
ـــــــ
1 زيادات ر: "يقتره، الهاء تعود على الإقتار".

أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العار
وخير دنيا ينسي شر آخرة ... وسوف ينبئني الجبار أخباري
ثم يتفقان بعد الرواية، وكان ربما أنشدنا: " إني هزأت من آم الغمر".

لأعرابي من بني الحارث بن كعب
قال أبو العباس: وقال أعرابيٌ من بني الحارث بن كعب:
رئمت لسلمى بو ضيم وإنني ... قديما لآ بي الضيم وابن أباة
فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافاٌ على الشبهات
فيا بعل سلمى كم وكم بأذاتها ... عدمتك من بعل تطيل أذاتي
بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطع نفسي دونه حسرات
ووالله لولا أن تساء لرعته ... بما ليس بالمأمون من فتكاتي
قوله: "رئمت لسلمى بوضيم" فإنما هذا مثل، وأصله أن الناقة إذا ألقت سقبها فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوار1 فحشوه تبناً، ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها بخرقة، فتجد لذلك كربا، ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها: الغمامه، ثم تسل تلك الخرقة من أنفها فتجد روحاً، وترى ذلك البو تحتها، وهو جلد الحوار المحشو فترأمه، فإن درت عليه قيل: ناقة درور، وترأمه تشمه، ويقال في هذا المعنى: ناقة ظؤورٌ، فينتفع بلبنها، ويقال: ناقة رائم ورؤوم إذا كانت ترأم ولدها أو بوها، فإن رئمت ولم تدر عليه فتلك العلوق، ولا خير عندها وأنشدونا عن أبي عمرو وكان يقرأ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} 2 على" فعلى"3:
ـــــــ
1 الحوار: ولد الناقة من حين تضعه إلى أن ينفطم.
2 الروم: 10.
3 زيادات ر: "لأفنون التغلبى"، والبيتان في أمالى القالى: 2-51، وشواهد المغنى للسيوطى 54.

أنى جزوا عامراً سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ضن باللبن1
فقوله: "رئمت لسلمى بو ضيم": أي أقمت لها على الضيم، ويقال: فلان رؤوم للضيم، إذا كان ذليلا راضياً بالخسف.
ـــــــ
1 في حاشية الأصل: "قال ثعلب: اجتمع الكسائى والأصعمى بحضرة الرشيد، وكانا ملازمين له، يرحلان برحيله ويقيمان بإقامته، فأنشد الكسائى: "أنى جزوا عامرا...البيتين" فقال الأصعمي: إنما هم "رثمان" بالنصب، فقال له الكسائى: اسكت! ماأنت! وهذا! يجوز فيه الرفع والنصب والخفض، أما الرفع فعلى الرد على "ما" لأنها في موضع رفع ب"ينفع"، والنصب ب"لتعطى"، والخفض على الرد على الهاء في "به". قال ثعلب: فسكت الأصمعى".وانظر المغتى 41:1.
وفي أمالى القالى: "العلوق: التي ترأم بأنفها وتمنع درها، يقول: فأنتم تحسنون القول ولا تعطون شيئا فكيف ينفعنى ذلك!".

لأحد الأعراب
وقال أعرابي - أحسبه تميمياً -:
وداهيةٍ بها القوم مفلق ... شديد بعوران الكلام أزومها
أصخت لها حتى إذا ما وعيتها ... رميت بأخرى يستدير أميمها
ترى القوم منها مطرقين كأنما ... تساقوا عقاراٌ لايبل سليمها
فلم تلقني فهاً، ولم تلق حجتي ... ملجلجةً أبغي لهل من يقيمها
قوله: "وداهية" يعني حجة داهي بها القوم مفلقٌ: يريد عجيبة،والفلق وجاء القوم بالفليق، وهذا مشهور كثير في الكلام، ومنه قول خلف الأحمر:
موت الإمام فلقةٌ من الفلق
وأنشدني منشد:
إذا عرضت دويةٌ مدلهمةٌ1 ... وغرد حاديها عملن بنا فلقا2
بفتح الفاء.
ـــــــ
1شطر هذ البيت لم يذكر في س، وفي ر بين علامتى الزيادة، ورواه: "داوية".
2 عرض: تعرض. وغرد حاديها: طرب في حدائه. والبيت في إصلاح المنطق لابن السكيت 264،32، وروايته فيه: "فرين بها فلقا". وقال في شرحه: "أى عملن بها داهية من شدة سيرهن. والفلق: القضيب يشق فيعمل منه قوسان، ويقال لكل واحدة قلق". وهو أيضا في اللسان "فلق".

وقوله: "شديد بعوران الكلام"، العوراء هي القبيحة، قال حاتم بن عبد الله الطائي:
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذي أودٍ قومته فتقوما
وأزومها: إمساكها1، يقال: أزم به إذا عض به فأمسكه بين ثنيتيه. وفي الحديث أن أبا بكر رحمه الله قال في يوم أحدٍ: فنظرت إلى حلقةٍ من درع قد نشبت في جبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، فانكببت لأنزعها فأقسم علي أبو عبيدة، فأزم بها أبو عبيدة بثنيتيه، فجذبها جذباً رفيقاً، فانتزعها، وسقطت،ثم نظرت إلى أخرى فأردتها فأقسم علي أبو عبيدة، ففعل فيها ما فعل في الأولى، وكان مشفقاً من تحريكها لئلا يؤذي بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو عبيدة أهتم.
وقوله: "فأزم بها" ، يقال: أزم يأزم،وأزم يأزم.
وقوله: "أصخت لها" : يقول استمعت لها،قال العبدي2:
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد
والإصاخة الا ستماع والناشد: الطالب، والمنشد: المعرف، يقال نشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها: إذا عرفتها والنبأة: الصوت، قال ذو الرمة:
وقد توجس ركزاً مقفرٌ ندسٌ ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب3
وقوله: حتى إذا ما وعيتها يقول: جمعتها في سمعي، يقال: وعيت العلم،وأوعيت المتاع في الوعاء،قال الله عز وجل: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} 4 ، وقال الشاعر5:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله:
رميت بأخرى يستدير أميمها
ـــــــ
1 قال المرصفى: "أخطأ أبو العباس في تفسير الوصف بالمصدر والصواب: ممسكها".
2 زيادات ر: "وهو المثقب".
3 توجس: تسمع. والركز: الصوت الخفى. مقفر: أخو قفرة. والندس: السريع الاستماع للصوت الخفى، يصف الصائد.
4 المعارج 18.
5 زيادات ر: "هو عبيد بن الأبرص".

يريد يستدير، من الدوار،ويقال في هذا المعنى: يستديم،ومنه سميت الدوامة1، وفي الحديث: "كره البول في الماء الدائم" : لأنه كالمستدير في موضعه.، قال جرير:
عوى الشعراء بعضهم لبعضٍ ... علي فقد أصابهم انتقام
إذا أرسلت صاعقةً عليهم ... رأوا أخرى تحرق فاستداموا2
وقوله:" أميمها" يريد بها، ويقال: أميمٌ ومأموم، كقولك: قتيلٌ ومقتولٌ، ومجروح وجريح، ويقال،: للشجة التي قد وصلت إلى أم الدماغ وأم الدماغ جليدةٌ رقيقة تحيط بالدماغ فإذا وصل إلى تلك فالشجة آمة ومأمومة، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد3
المغاريد: صغار الكمأة.
وقوله: "في قعرها لجف" أي تقلع، يقال: تلجفت البئر، إذا انقلع طيها من أسفلها، ولجف القوم مكيالهم، إذا وسعوه من أسفله.
وقوله: "تساقوا عقاراً" يريد: كأنهم سكارى لما نالهم من تلك الحجة والعقار: أسم من أسماء الخمر، وإنما سميت عقاراً لمعاقرتها الدن.
وقوله: "ما يبل" يقال: بل أبل من مرضه، وكذلك استبل.
والسليم الملسوع، وقيل له سليم على جهة التفاؤل، كما يقال للمهلكة مفازةٌ، وللغراب: الأعور على الطيرة منه لصحة بصره.
وقوله: "فلم تلقني فهاً" يقول: ضعيفاً، يقال: فه فلان عن حجته إذا ضعف عنها، ويقال: رجل مفهةٌ إذاكان عاجزاً.
وقوله: "ملجلجة"، وهو أن يرددها في فيه، وقد مضى تفسيره.
ـــــــ
1 الدوامة: فلكه يرميها الصبى بخيط فتدور.
2 استداموا: اخذهم الدوام، وهو الدوار.
3 البيت في اللسان "غرد" ونسبه المرصفى إلى غذار بن دارة السنائى.

لأبي مخزوم النهشلي يفخر بقومه
وقال رجل يكنى أبا مخزوم، من بني نهشل بن دارم1:
إنا بني نهشل لا ندعي لأبٍ ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا
إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاما ًسيداً فينا
إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟
لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
ولا تراهم وإن جلت رزيتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن إغلينا
إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظباة وصلناها بأيدينا
فرضٌ على مكثرينا نيل بذلهم ... والجود والبذل في طبع المقلينا
إني ومن كأبي يحيى وعترته ... لا فخر إلا لنا أم من يوازينا
قوله: " إنا بني نهشل "يعني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ومن قال: "إنا بنو نهشل"، فقد خبرك، وجعل" بنو" خبر" إن"، ومن قال: " بتي"، إنما جعل الخبر:
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
ونصب"بني" على فعل مضمر للاختصاص، وهذا أمدح، ومثله:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل2
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو بشامة بن حزن النهشلى". والأبيات أوردها أبو تمام مسنوبة إلى بعض بنى قيس بن ثعلبة، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وعددها، وانظر الحمسة 97:1-بشرح التبريزي.
2 من رجز رواه ابن جرير الطبرى لعمرو بن يثربى الضبى قاله في وقعة الجمل، وبعده:
ننزل بالموت إذا الموت نزل ... القتل أحلى عندنا من العسل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ... ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وانظر تاريخ الطبرى، وحواث 36.

أراد نحن أصحاب الجمل، ثم أبان من يختص بهذا، فقال: أعني بني ضبة وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1أراد وامرأته: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ثم عرفها بحمالة الحطب، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} 2 إنما هو على هذا، وهو أبلغ في التعريف، وسنشرحه على حقيقة الشرح في موضعه إنشاء الله: وأكثر العرب ينشد3:
إنا بني منقرٍ قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعدٍ وناديها
قرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 وقوله: "يشرينا "يريد يبيعنا، يقال: شراه يشريه إذا باعه، فهذه المعروفة، قال الله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} 5 وقال ابن مفرغٍ الحميري:
شريت برداً، ولولا ماتكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبدا6
ويكون" شريت" في معنى أشتريت، وهو من الأضداد وأنشدني التوزي:
اشروا لها خاتناً وابغوا لخنتتها7 ... مواسياً أربعأ فيهن تذكير8
وقوله:
تلق السوابق منا والمصلينا
فالمصلي الذي في إثر السابق، وإنما سمي مصلياً لأنه مع صلوي السابق، وهما عرقان في الردف، قال الشاعر:
تركت الرمح يعمل في صلاه ... كأن سنانه خرطوم نسر
ـــــــ
1 سورة المسد 5،4.
2 سورة النساء 162.
3 زيادات ر: هو "لعمرو بن الأهتم المنقرى". وانظر...
4 سورة المؤمنون 14.
5 سورة يوسف 20.
6 بعده في س وزيادات ر:
يابرد مامسنا دهر أضر بنا ... من قبل هذا، ولابعنا له ولدا
7 كذا في الأصل. وفي ر: "لختنتها"، وهي المرة من الختن. وفي الزيادات: "كان ابن جابر يروي: "لختنتها" [بضم الخاء وتاءين]، ويقول: الخنت: "العفل". والعفل. لحم ينبت في قبل المرأة.
8 تذكير: صلابة وحدة.

وقوله:
إلا افتلينا غلام سيداً فينا
مأخوذ من قولهم: فلوت الفلو1 يا فتى، إذا أخذته عن أمه، قال الأعشى:
ملمع لاعة الفؤاد إلى جحـ ... ـش فلاه عنها، فبئس الفالي2
وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان القيني:
إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
وقوله:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
مأخوذ من قول طرفة:
إذا القوم قالوا: من فتى? خلت أنني ... عينت، فلم أكسل ولم أتبلد
ومن قول متمم بن نويرة:
إذا القوم قالوا: من فتى لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى
وقوله؛" حد الظباة"، فالظبة الحد بعينه، يقال: أصابته ظبة السيف، وظبة النصل، وجمعه ظبات وأراد بالظبة ههنا موضوع المضرب من السيف وأخذ هذا المعنى من قول كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرنا بخطونا ... قدماً، ونلحقها إذا لم تلحق
وقوله:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ـــــــ
1 الفلو: المهر.
2 البيت في وصف الناقة، ملمع: في ضرعها لمع سود. واللاعة: الملتاعة. والفالى: الطارد.

أخذه من قول الهمداني وهو الأجدع1 أبو مسروق بن الأجدع الفقيه:
لقد علمت نسوان هدمان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
ومن القتال الكلابي حيث يقول:
أنا ابن الأكرمين بني قشير ... وأخوالي الكرام بنو كلاب
نعرض للطعان إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للسباب
ـــــــ
1 هو الأجدع بن مالك بن أمية الوداعى، من بنى نوف بن حمدان: فارس شاعر، أدرك الإسلام، وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب. "المؤتلف والمختلف للآمدى 49".

باب

من كلام
عمر بن عبد العزيز
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ثلاثٌ من كن فيه فقد كمل: من لم يخرجه غضبه1 عن طاعة الله، ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله، وإذا قدر عفا وكف.
ـــــــ
1 ر: "من".

من كلام الحسن البصيري
قال الحسن: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه.

كلام عمر بن ذر حينما دخل على ابنه وهو يجود بنفسه
وقال عمر بن ذر1 ودخل على ابنه وهو يجود بنفسه فقال: يا بني، إنه ما علينا من موتك غضاضة، ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجةٌ فلما قضى وصلى عليه وواره وقف على قبره، فقال:
يا ذر، إنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما قلت ولا ما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك، إني إليك من الراغبين.
وسئل: ما بلغ من بره بك؟ فقال: ما مشى معي بنهار قط إلا قدمني، ولا بليل إلا تقدمني، ولا رقي سطحاً وأنا تحته.
ـــــــ
1 هو عمر بن ذر بن عبد الله الهمداني، من أقران أبى حنيفة وابن عيينة، وكان رأسا في الإرجاء، توفي سنه 50. "تهذيب التهذيب 445:7".

جواب أبي دلامة حينما سأله المنصورعما أعده ليوم القيامة
وماتت بنت عم للمنصور، فحضر جنازتها، وجلس لدفنها، وأقبل أبو دلامة الشاعر، فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا اليوم? فقال: يا أمير المؤمنين ابنة عمك هذه التي واريتها قبيل قال: فضحك المنصور حتى استغرب1.
ـــــــ
1 استغرب في الضحك: أكثر منه.

الفرزدق في سجن مالك بن المنذر بن الجارود
ودخل لبطة بن الفرزدق على أبيه وهو محبوس في سجن مالك بن المنذر ابن الجارود1، ومالك عاملٌ على البصرة لخالد بن عبد الله القسري، فقال: يا أبت، هذا عمر بن يزيد الأسيدي، ضرب آنفاً ألف سوطٍ فمات فشد على حمار: فقال الفرزدق: كأنك والله يابني بمثل هذا الحديث قد تحدث به عن أبيك-والحسن2 إذ ذاك عند محبوس له-فقال: يا أبا فراس: ما عندك إن كان ذلك? فقال: والله يا أبا سعيد، الله أحب إلي من سمعي وبصري، ومن مالي وولدي، ومن أهلي وعشيرتي، أفتراه يخذلني! فقال الحسن: لا.
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "كان السبب في سجن الفرزدق أنه كان قد هجا خالد بن عبد الله القسرى، فكتب خالد إلى ماك بن المنذر يأمره بحبسه، فأمر مالك أيوب بن عيسى الضبى فأتاه به، فأمر به إلى السجن، ففى ذلك يقول الفرزدق يهجو أيوب بن عيسى:
فلو كنت قيسيا إذا ما ماحبستنى ... ولكن زنجيا غليظا مشافره
متت له بالرحم بينى وبينه ... فألفيته منى بعيداً او اصره
2 هو الحسن البصرى.

الفرزدق حين قتل عمر بن يزيد الأسيدي
وكان عمر بن يزيد الأسيدي شريفاً، حدثني التوزي عن أبي عبيدة قال: كان رجل أهل البصرة عمر بن يزيد الأسيدي، ورجل أهل الشام عمر بن هبيرة الفزازي، ورجل أهل الكوفة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فقيل ذلك لعمر بن عبد العزيز: فقال أجل، لولا خب1 في بلالٍ فقال، بلالٌ لما بلغه ذلك: "رمتني بدائها وانسلت". وقتله مالك2 بن المنذر تعصباً فيما تذكره المضرية. فلما دخل بمالك على هشام أقبل على أصحابه، فقال،أما رأيتم عمر بن يزيد: أما إني ما تمنيت أن تكون أمي ولدت رجلاً من العرب غير. ثم قال لمالك: قتلت والله خيراً منك حسباً، ونسباً، وريشاً3، وعقباً! فقال: وكيف يا أمير المؤمنين! ألست ابن المنذر بن الجارود، وابن مالك بن مسمع! وكان جده أبا أمه وجعل عمر والسياط تأخذه ينادي: يا هشاماه! ففي ذلك يقول الفرزدق:
ألم يك مقتل العبدي ظلماً ... أبا حفصٍ من الكبر العظام
قتيل جماعةٍ في غير حق ... يقطع وهو يدعو: يا هشام!
ـــــــ
1 الخب: الخداع والمكر.
2 أى قتل مالك عمر بن يزيد الأسيدي.
3 الريش: اللباس والزينة. وفي ر، س: "ودينا".

لقاء الحسن البصري والفرزدق في جنازة
والتقى الحسن والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد? قال: وما يقولون? قال: يقولون?: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس! فقال الحسن: كلا، لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم? فقال: شهادة أن لا إله إلا الله مذ1 ستون سنة، وخمس نجائب لا يدركن- يعني الصلوات الخمس- فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رئي في النوم، فقيل له: ما صنع بك ربك? فقال: غفر لي. فقيل له: بأي شيء فقال: بالكلمة التي نازعني فيها الحسن.
ـــــــ
1 ر: "منذا".

الفرزدق وأولاد بني تميم
وحدثني العباس بن الفرج في إسنادٍ له ذكره قال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم، فيسر بذلك ويجذل به، ويقول: إيه فدى لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم.
قال أبو الحسن: إنما هو فداؤٌ لكم، لكنه قصر الممدود على هذه الرواية

الفرزدق وأبو هريرة الدوسي
ونظر إليه أبو هريرة فقال له1: مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين، فابتغ لهما موقعاً صالحاً يوم القيامة.
يقال: قنط يقنط،وقنط يقنط، وكلاهما فصيح، فاقرأ بأيهما شئت، وكذلك نقم ينقم، ونقم ينقم.
ـــــــ
1 من ر، س.

قول الفرزدق حينما تعلق بأستار الكعبة
والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة، وعاهد الله ألا يكذب، ولا يشتم مسلماً:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام
وفي هذا الشعر:
أطعتك يا إبليس تسعين حجةٌ ... فلما انقضى عمري وتم تمامي
رجعت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاقٍ لأيام المنون حمامي
قوله: "لبين رتاج"، فالرتاج غلق الباب، ويقال: باب مرتج، أي مغلقٌ، ويقال: أرتج على فلان، أي أغلق عليه الكلام، وقول العامة: "أرتج عليه"، ليس بشيء، إلا أن التوزي حدثني عن أبي عبيدة. قال يقال: أرتج عليه، ومعناه وقع في رجةٍ، أي في اختلاط، وهذا معنى بعيد جداً.
وقوله: "ولا خارجاً" إنما وضع اسم الفاعل في موضع المصدر، أراد: لا أشتم الدهر مسلماً، ولا يخرج خروجاً من في زور كلام، لأنه على ذا أقسم، والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل، يقال: ماءٌ غور، أي غائر، كما قال الله عز وجل: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} 1 ، ويقال: رجل عدلٌ، أي عادل، ويوم غم، أي غام، وهذا كثير جداً،فعلى هذا جاء المصدرعلى فاعل، كما جاء اسم الفاعل على المصدر، يقال: قم قائماً، فيوضع في موضع قولك: قم قياماً، وجاء من المصدر على لفظ "فاعل" حروفٌ، منها: فلج فالجا، وعوفي عافية، وأحرف سوى ذلك يسيرة. وجاءعلى "مفعول"، نحو رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، لدخول لمفعول على المصدر، يقال رجل رضاً، أي مرضي، وهذا درهم ضرب الأمير، أي مضروب، وهذه دراهم وزن سبعةٍ، أي موزونة، وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله: "لا أشتم" حال، فأراد: عاهدت ربي في هذه الحال وأنا غير شاتمٍ ولا خارجٍ من في زوركلام، ولم يذكر الذي عاهد عليه.
ـــــــ
1 سورة الملك 30.

للفرزدق في أيام نسكه
وقال الفرزدق في أيام نسكه:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر إلتهاباً وأضيقا
إذا قادني يوم القيامة قائدٌ ... عنيف، وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولادي آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا1
إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم ... يذوبون من حر الحميم تمزقا
ـــــــ
1 ر: "موثقا".

للفرزدق حين طلق النوار
وحدثني بعض أصحابنا عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن أبي شفقلٍ راوية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار، فقلت: إني أخاف عليك أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه، فقال: امض بنا فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال: كيف أصبحت يا أبا سعيد? فقال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس? قال: تعلمن أن النوار مني طالق ثلاثاً، فقال الحسن وأصحابه: قد سمعنا، قال: فانطلقنا، قال: فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في قلبي من النوار شيئاً، فقلت: قد حذرتك، فقال:
ندمت ندامة الكسعي لما1 ... غدت مني مطلقةٌ نوار2
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
قال الأصمعي: ما روى المعتمر هذا الشعر إلا من أجل هذا البيت.
ـــــــ
1 الكسعى: رجل من كسع، حى من اليمن، اسمه غامد بن الحارث، وكان اتخذ قوساوخمسة أسهم وكمن في طريق قطيع، فرمى حمارا منه، فنفذ فيه السهم وصدم الجبل، فأورى نارا فظن أنه أخطأ، فرمى ثانيا وثالثا إلى آخرها وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها، ثم بات، فلما أصبح نظر فإذا الحمر مطرحه مصرعة، وأسهمه بالدم مضرجة، فندم وقطع إبهامه، وأنشد:
ندمت ندامة لو أن نفسى ... تطاوعنى إذا لقطعت خمسى
تبين لى سفاه الرأى منى ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وانظر مجمع الأمثال "274:2".
2 في زيادات ر بعد هذا البيت:
وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح لا يضىء له النهار
وما فارقتها شعبا ولكن ... رأيت الزهد يأخذ ما أعار

باب

ماقيل في الخمر
قال لقيط بن زراه:
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أبو عبد المدان
أمشي في بني عدس بن زيدٍ ... رخي البال منطلق اللسان
وحدثني أبو عثمان المازني قال: أسر رجل يوم الحسين بن علي رضي الله عنه فأتي به يزيد بن معاوية، فقال له: أليس أبوك القائل:
أرجل جمتي وأجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفقٌ كميت
أمشي في سراة بني غطيفٍ ... إذا ما سامني ضيمٌ أبيت
قال: بلى فأمر به فقتل.

خبر هانئ بن عروة المرادي مع معاوية
قال أبو العباس: ونمي إلي أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانىء بن عروة المرادي، فبلغ ذلك معاوية فنذر دم هانىء فخرج هانىء فكان في جوار معاوية ثم حضر مجلسه ومعاوية لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانىء بن عروة فقال: إن هذا اليوم ليس بيومٍ يقول فيه أبوك أرجل جمتي الشعر له هانىء: أنا اليوم أعز مني ذلك اليوم، قال له: بم ذاك? قال: بالإسلام يا أمير المؤمنين، قال له: أين كثير بن شهاب? قال: عندي في عسكرك ياأمير المؤمنين، فقال له معاوية: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضاً، وسوغه بعضاً .

نبذ من أقوال الشعراء في الخمر وشاربيها
وقال أعرابي:
ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لما خرجت أجر فضل المئزر
أبا قابوس أو عمر وبن هند ماثلاً ... يجبى له ما دون دارة قيصر

وقال آخر:
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والبحر
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقر
وقال آخر، وهو عبد الرحمن بن الحكم:
وكأسٍ ترى بين الإناء وبينها ... قظى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعترانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجدٍ ... وبداء خودٍ حين يلتقيان
وقال آخر:
دعتني أخاها أم عمروٍ ولم أكن ... أخاها، ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعدما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال آخر:
فبتنا فويق الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبات يقيناً ساقط الطل والندى ... من الليل بردى يمنةٍ عطران
نعدي بذكر الله في ذات بيننى ... إذا كان قلبانا بنا يردان
قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس: ؟ونصدر عن رأي العفاف وربما نقعنا غليل النفس بالرشفان وقال أبو العباس: " نعدي " أي نصرف الشر بذكر الله:يقال :فعد عما ترى، أي فانصرف عنه إلى غيره، ويقال:لا يعدونك هذا الحديث:أي لا يتجاوزونك إلى غيرك.
قال أبو العباس: وقال رجل من قريش:
من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً لأن يسىء ويجهلا
ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
وأجدر أن تلقى كريماً يذمها ... ويشربها حتى يخر مجدلا
فوالله ما أدري:أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا
وقال الآخر :
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفاحشٍ عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي
وقال آخر:
كل هنيئاٌ وما شربت مريئاٌ ... ثم قم صاغراٌفغير كريم
لاأحب النيديم يومض بالعين ... إذا ماانتشى لعرس النديم
الإيماض: تفتح البرق ولمحه .يقال: أومضت المرأة إذا ابتسمت، وإنما ذلك تشبيه للمع ثناياها بتبسم البرق، فأراد أنه فتح عينه ثم غمضها بغمز.
وقال حسان بن ثابت :
كأن سبيئةٌ من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوماٌ ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاٌ ... وأسداٌ ما ينهنهها اللقاء
المغث:المماغثة باليد . واللحاء: الملاحاة باللسان، يقول : يعتذر المسىءبأن يقول : كنت سكران، فيعذر. وقوله : " كأن سبيئةٌ " ، يقال سبأتها: إذا اشتريتها سباءٌ، يعني الخمر، والسابيء:الخمار وقوله: " من بيت رأس " ، يعني موضعاٌ: كما يقال حارث الجولان.

باب

نبذ من أقوال الحكماء
قال أبو العباس: قال الأحنف بن قيس: ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة? الخلق السجيح1، والكف عن القبيح .ألاأخبركم بأدوإ الداء? الخلق الدنيء، واللسان البذيء.
وقال الأحنف: ثلاث في ما أقولهن إلا ليعتبر معتبر: ما دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع، يعني السلطان ولا حللت حبوتي إلى ما يقوم إليه الناس.
تكسر الحاء وتضمها إذا أردت الاسم، وتفتحها إذا أردت المصدر، إنشدني عمارة بن عقيل لجرير:
قتل الزبير، وأنت عاقد حبوةٍ ... قبحاٌ لحبوتك التي لم تحلل
ويقال في جمع حبوة: حبى وحبى، مقصوران.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ماأحسن الحسنات في آثار السيئات وأقبح السيئات في آثار الحسنات، وأقبح من ذا وأحسن من ذاك السيئات في آثارالسيئات، والحسنات في آثار الحسنات.والعرب تلف الخبرين المختلفين، ثم ترمي بتفسير هما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل خبره. وقال الله عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2.
وقال رجل لسلم بن نوفل: ما أرخص السؤدد فيكم فقال سلم: أما نحن فلا نسود إلا من بذل لنا ماله، وأوطأنا عرضه، وامتهن في حاجتنا نفسه. فقال الرجل: إن السؤدد فيكم لغال.
ولسلم يقول القائل:
يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل
ـــــــ
1 الخلق السجيح: السهل.
2 سورة القصص 73.

وقال معاوية رحمه الله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري: بم سدت قومك? فقال: لست بسيدهم،ولكني رجل منهم، فعزم عليه فقال: أعطيت في نائبهم وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزه فهو أفضل مني .

مدح الشماخ لعرابة بن أوس
قال أبو العباس: وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر، فجمعه الطريق والشماخ بن ضرار المري، فتحادثا، فقال عرابة: ماالذي أقدمك المدينة قال: قدمت لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله برا وتمراً، وأتحفه بغير ذلك،فقال الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة، فاشرقي بدم الوتين
ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين1
قوله:" تلقاها عرابة باليمين"، قال أصحاب المعاني: معناه بالقوة،وقالوا مثل ذلك في قول الله عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2 وقد أحسن كل الاحسان في قوله:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
يقول: لست أحتاج إلى أن أرحل إلىغيره.
وقد عاب بعض الرواة قوله: "فاشرقي بدم الوتين"، وقال كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصارية3 المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لبئس ما جزيتها" وقال: "لانذرفي معصية، ولا نذر للانسان في غير ملكه".
ـــــــ
1 الرهان: ما يوضع من المال في مسابقة الخيل، والثمين: الثمن.
2 الزمر 67.
3 ذكر ابن هشام أنها امرأة رجل من غفار. "وانظر خبر أسرها مع زوجها في السيرة 323:3-327".

ومما لم يعب في هذا المعنى قول عبد الله بن رواحة الأنصاري لما أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد زيد وجعفرٍ على جيش مؤتة1:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
الحساء: جمع حسي، وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء، فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنع الرمل السمائم أن تنشفه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء، يقال: حسي وأحساء وحساء، ممدودة.
وقوله: " ولا أرجع إلى أهلي ورائي" مجزوم لأنه دعاء، فقوله:" لا" يعني الجازمة، ومعناه: اللهم لا أرجع،كما تقول: زيد لا تغفر له2، فهذا الدعاء ينجزم بما ينجزم به الأمر والنهي، كما تقول: زيد ليقم، وزيد لا يبرح وقد اتبع ذو الرمة الشماخ في قوله:
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
الوصل: المفصل بما عليه من اللحم، يقال: قطع الله أوصاله، ويقال: وصل، وكسروجدل،في معنى واحد .
ـــــــ
1 مؤته: اسم قرية بالشام، موضع الغزوة المشهورة.
2 ر: "لايغفر الله له".

باب

لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرة
قال أبو العباس: أنشدني الوزي لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرة1:
نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحي من ربيعة المراق
وابن سهيل قائد النفاق ... بلا معوناتٍ ولا أرزاق
إلا بقايا كرم الأعراق ... لشدة الخشية والإشفاق
ومن المخازي والحديث الباقي
الأعراق: جمع عرق، يقال: فلان كريم العرق ولئيم العرق، أي الأصل.
ـــــــ
1 الجفرة: موضع بالبصرة كانت به وقعة بين خالد بن عبد الله بن أسيد-وكان من قبل عبد الملك بن مروان- وبين أهل البصرة، من أصحاب مصعب بن الزبير، سنة 70. وانظر الخبر مفصلا في "معجم البلدان 116:3"

أقوال في قلة النوم
وقال آخر يصف ابنه:
أعرف منه1 قلة النعاس ... وخفةٌ في رأسه من راسي
كيف ترين عنده مراسي
يخاطب أم ابنه. فقوله: "أعرف منه قلة النعاس"، أي الذكاء والحركة. وكان عبد الملك بن مروان يقول لمؤدب ولده: علمهم العوم، وهذبهم بقلة النوم.
وكذا قال أبو كبيرٍ2 الهذلي:
فأتت به حوش الجنلن مبطناً ... سهداً إذل ما نام ليل الهوجل3
ـــــــ
1 س: "أعرف فيه".
2 س: "أبوبكير"، تصحيف.
3 حوش الجنان: حديد القلب. مبطنا: ضامر البطن خميصه. والهوجل: الأحمق.

وقال آخر:
فجاءت به حوش الفؤاد مسهداً ... وأفضل أولاد الرجال المسهد
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عيني تنامان ولا ينام قلبي".

لعروة بن الورد
وقال عروة بن الورد العبسي، وهو عروة الصعاليك1:
لحا2 الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر3
ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر4
يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيضحي طليحاً كالبعير المحسر5
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنور6
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر7
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً، وإن يستغن يوماً فأجدر8
قال أبو الحسن: كذا أنشده،" فذلك" لأنه لم يرو أول الشعر، والصواب كسر الكاف، لأنه يخاطب امرأة، ألا تراه قال:
أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... ونامي، وإن لم تشتهي ذاك فاسهري9
ـــــــ
1 لقب عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء الذين لا مال لهم –وهم الصعاليك- فيقوم بأمرهم وينفق عليهم.
2 لحا الله: دعاء عليه. والمشاش: العظام الرقيقة. والمجزر: موضع الجزر.
3 زيادات ر بعد هذا البيت:
يعد الغنى من نفصه كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر
4 يحت الحصى: يفركه.
5 طليحا: من الطلح، وهو الإعياء.
6 صفيحة وجهه: بشرة جلده. والقابس الآخذ شعلة من النار على طرف عود. والمتنور: الذي يبصر النار من بعيد.
7 مطلا على أعدائه: مشرفا عليهم. يزجرونه: يصيحون به. المنيح: من قداح الميسر، يستعار من صاحبه للتيمن بفوزه المشتهر.
8 زيادات ر بعد هذا البيت:
يريح على الليل أضياف ماجد ... كريم ومالى سارحا مال مقتر
9 مابين العلامتين تكمله من ر.

قوله:
يحث الحصى عن جنبه المتعفر
يريد المتترب، والعفر والعفر: اسمان للتراب، من ذلك قولهم: عفرالله خده، ويقال للظبية: عفراء إذا كانت يضرب بياضها إلى حمرة، وكذلك الكثيب الأعفر.
وقوله: "كالبعير المحسر" هو المعيي،: يقال: جمل حسير، وناقة حسير، قال الله عز وجل: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 1 .
وقوله:
وإن بعدوا لايأمنون اقترابه
على التقديم والتأخير، أراد: لايأمنون اقترابه وإن بعدوا، وهذا حسن في الإعراب إذا كان الفعل الأول في المجازاة ماضياٌ، كما قال زهير:
وإن2 أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم
فإن كان الفل الأول مجزوماٌ لم يجز رفع الثاني إلا ضرورة، فسيبويه3 يذهب إلى أنه على التقديم والتأخير، وهو عندي على إرادة الفاء،لعلة تلزمه في مذهبه، نذكرها في باب المجازاة إذا جرى في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فمن ذلك قوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
أراد سيبويه: إنك تصرع إن يصرع أخوك. وهو عندي على قوله: إن يصرع أخوك فأنت تصرع يا فتى، ونستقصي هذا في بابه إن شاء الله تعالى.
وقوله:
كيف ترين عنده مراسي
ـــــــ
1 سورة الملك 4.
2 الكتاب 436:1.
3 نسبه سيبويه إلى جرير بن عبد الله البجلى، زنقل المرصفى عن كتاب قرحة الأديب أن صواب نسبته إلى عمرو بن خثارم البجلى، يحض الأفرع على أن يحكم بالفضل لجرير. "وانظر رغبة الآمل".

يقول للمرأة: عززتنى1 على شبهه. ويقال: أنجب الأولاد ولد الفارك. وذلك لأنها تبغض زوجها. فيسبقها بمائه. فيخرج الشبه إليه. فيخرج الولد مذكراً. وكان بعض الحكماء يقول: إذا أردت أن تطلب ولد المرأة فأغضبها، ثم قع عليها. فإنك تسبقها بالماء، وكذلك ولد الفزعة، كما قال، كما قال أبو كبير الهذلي:
من حملن به وهن عواقدٌ ... حبك النطاق فشب غير مهبل2
حملت به في ليلة مزؤودةٍ ... كرهاً، وعقد نطاقها لم يحلل
مزؤودة: ذات زؤدٍ، وهو الفزع، فمن نصب "مزؤودة "أراد المرأة. ومن خفض فإنه أراد الليلة، وجعل الليلة ذات فزع، لأنه يفزع فيها، قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 3 والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار: وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم
وقال آخر:
فنام ليلي وتجلى همي4
وهذا الرجز ضد ما قال الآخر في ولده، فإنه أقر بأن امراته غلبته على شبهه، وذلك قوله:
نمت وعرق الخال لا ينام
يقول: عزتني أمه على الشبه، فذهبت به إلى أخواله. وقال آخر:
لقد بعثت صاحباً من العجم ... بين ذوي الأحلام والبيض اللملم 5
كان أبوه غائباً حتى فطم
ـــــــ
1 عزرتنى: غلبتنى.
2 الحبك: جمع حباك، وهو مايشد به النطاق، والنطاق، شقة تلبسها المرأة ترسل أعلاها إلى الركبة بعد شد وسطها بالحباك، وتدع الأسفل ينجر على الأرض. والمهبل: الكثير اللحم، أو المدعو عليه بالهبل وهو الثكل.
3 سورة سبأ 33.
4 هو رؤبة وقبله:
حارث قد فرجت عنى غمى
5 ذو الأحلام: واحده حلم ، وهو العقل. واللمم: جمع لمة، وهي ما ألم بالممنكب من شعر الرأس.

يقول: لم يسق غيلاً، وقال رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هممت أن أنهى أمتي عن الغيلة حتى علمت أن فارس والروم تفعل ذلك بأولادها،فلا تضير أولادها". والغيلة: أن ترضع المرأة وهي حامل، أو ترضع وهي تغشى. ويزعم أهل الطب من العرب والعجم أن ذلك اللبن داءٌ. وقالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعاً - ووضعاً أيضأً - ولا وضعته تيناً، ولا سقيته غيلاً، ولا أبته مئقاً. وقال الأصمعي: ولا أبته على مأقةٍ.
قولها: "ما حملته تضعاً"، يقال إذا حملت المرأة عند مقتبل الحيض: حملته وضعاً وتضعاً، وإذا خرجت رجلاً المولود من قبل رأسه قيل: وضعته يتناً قال الشاعر:
فجاءت به يتناً يجر مشيمة1 ... تسابق رجلاه هناك الأناملا
ويقال للرجل إذا قلب الشيء عن جهته: جاء به يتناً قال عيسى بن عمر: سألت ذا الرمة عن مسألة، فقال لي: أتعرف اليتن? قلت: نعم، قال: فمسألتك هذه يتن. قال: وكنت قد قلت الكلام.
والغيل ما فسرناه.
وأما قولها: ولا أبته مئقاً، تقول: لن أبته مغيظاً: وذلك أن الخرقاء تبيت ولدها جائعاً مغموماً، لحاجته إلى الرضاع، ثم تحركه في مهده حتى يغلبه الدوار فينومه: والكيسة تشبعه وتغنيه في مهده، فيسري ذلك الفرح في بدنه من الشبع كما سرى ذلك الغم والجوع في بدن الآخر.
ومن أمثال العرب: "أنا تئق، وصاحبي مئق، فكيف نتفق? التئق: المملوء غيظاً وغضباً، والمئق: القليل الا حتمال، فلا يقع الاتفاق.
ـــــــ
1 المشيمة: ما يكون فيه الولد.

باب

من كلام ابن عباس
قال أبو العباس: قال ابن العباس رضي الله عنهما: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه:

من كلام عبد الله بن جعفر
وأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: هذا رجل يريد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطراً، فإن صادف موضعاً فهو الذي قصدت له، وإلا كنت أحق به.
[قال أبو الحسن الأخفش: حدثنا المبرد في غير الكامل قال: قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الل بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: بأبي أنتما وأمي إن الله عودني أن يفضل علي، وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف ان أقطع العادة فتقطع عني].

ليزيد بن المهلب وقد مر بأعرابية عند خروجه من سجنه
.
ومر يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزاً فقلبها، وقال لإبنه معاوية: ما معك من النفقة ? فقال: ثمانمائة دينار، قال: فادفعها إليها، قال أبنه: إنك تريد الرجال، ولا يكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك فقال له: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي ادفعها إليها.

حديث للأصمعي عن ضرار بن القعقاع
وزعم الأصمعي أن حرباٌ كانت بالبادية، ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في الجامع،قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت، فإذا به في شملة يخلط بزراٌ له حلوب، فخبرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت العنز، ثم غسل الصحفة وصاح: ياجارية غدينا، قال: فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته1 أن آكل معه، حتى إذا قضى من أكله حاجة، وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل به يده، ثم صاح: يا جارية، اسقيني الماء، فأتته بماء، فشربه، ومسح فضله على وجهه، ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات، بتمر البصرة، بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم! ثم قال: يا جارية، علي بردائي، فأتته برداء عدني، فأرتدى به على تلك الشملة.
قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم، فلم تبق حبوة2 إلا حلت إعظاماً له، ثم جلس، فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله وانصرف.
ـــــــ
1 س: "فقذرت".
2 الحبوة: أن يجمع الرجل ظهره وساقية بعمامة ونحوها.

بين زياد بن عمرو العتكي والأحنف بن قيس التميمي
وحدثني ابو عثمان بكر بن محمد1 المازني عن أبي عبيدة قال: لما أتى زياد ابن عمرو المربد2، في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي3، جعل في الميمنة بكر بن وائل، وفي الميسرة عبد القيس وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب، فبلغ ذلك الأحنف، فقال: هذا غلام حدثٌ، شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه! فندب أصحابه، فجاءه حارثة بن بدرٍ الغداني، وقد اجتمعت بنو تميم، فلما طلع قال: قوموا إلى سيدكم، ثم أجلسه فناظره، فجعلوا سعداً والرباب في القلب، ورئيسهم عبس بن طلقٍ الطعان، المعروف بأخي كهمس، وهو أحد بني صريم بن
ـــــــ
1 من س.
2 المربد: سوق بالبصرة كانت تباع فيها الإبل.
3 كان مسعود بن عمرو من بنى عتيك، وهم بطن من الأزد، استخلفه عبيد الله بن زيباد على البصرة، بعد أن هرب إلى الشام مطاردا. فوقف على المنبر يبايع من أتاه، فرماه رجل من أهل فارس فقتله، وعلى إثر ذلك شاعت الفتنة بين الناس. فريق يقول: قتلته الخوارج وفريق يقول قتلته تميم، "وانظر تفصيل الخبر في تاريخ الطبري، حوادث سنة 65".

يربوع، فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدرٍ في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فذاك يقول حارثة بن بدرٍ للأحنف:
سيكفيك عبس ابن كهمس ... مقارعة الأزد بالمربد1
وتكفيك عمرو على رسلها2 ... لكيز بن أفصى وما عددوا
وتكفيك3 بكراً إذا أقبلت ... بضرب يشيب له الأمرد
فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة، وأنتم جيراننا في الدار، ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس، ووطئتم حريمنا، وحرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشر ما أصابنا في الخير مسلكاً، فتيمموا بنا طريقة قاصدة4.
فوجه إليه زياد بن عمرو: تخير خلة من ثلاثٍ إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم وإلا فدوا5 قتلانا، واهدروا دماءكم، وليود مسعودٌ دية المعشرة.
قال ابو العباس، وتاويل قوله: دية المشعرة" يريد أمر الملوك في الجاهلية، وكان الرجل إذا قتلوهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات .
فبعث إليه الأحنف: سنختار، فانصرفوا في يومكم . فهز القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان الغد بعث إليهم: إنكم خيرتمونا خلالاً ليس فيها خيارٌ أما النزول على حكمكم فميف يكون والكلم يقطر دماً? وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 6 ، ولكن الثالثة إنما هي حملٌ على المال، فنحن نبطل
ـــــــ
1 في البيت إقواء.
2 الرسل هنا: اللين والرفق.
3 ر: "تكفيك".
4 قاصدة: مستقيمة.
5 دوا قتلانا، من الدية.
6 النساء: 66.

دماءنا، وندي قتلاكم، وإنما1 مسعودٌ رجل من المسلمين، وقد أذهب الله أمر الجاهلية.
فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويؤدي سائر القتلى من الأزد وربيعة. فضمن ذلك الأحنف، ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم، ففخر بذلك الفرزدق فقال:2
ومنا الذي أعطى يديه رهينةً ... لغاري معد يوم ضرب الجماجم3
عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موتٍ بالسيف الصوارم
هنالك لو تبغي كليباً وجدتها ... أذل من القردان تحت المناسم4
قال أبو الحسن وكان أبو العباس ربما رواه: لغار5 معد
ويقال: إنما تميماً في الوقت مع باديتها وحلفائها من الأساورة6 والزط7، والسبابجة8 وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفاً، ففي ذلك يقول جرير:
سائل ذوي يمن ورهط محرقٍ ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا9
فأتاهم سبعون ألف مدجج ... متسربلين يلامعا10 وحديدا
قال الأحنف بن قيس: فكثرت علي الديات، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين11، فسألت عن المقصودهناك، فأرشدت إلى قبةٍ، فإذا شيخٌ
ـــــــ
1 س: "وأما مسعود".
2 من قصيدة يهجو فيها جريرا ويعرض بالبعيث، مطلعها:
ود جرير اللؤم لو كان عانيا ... ولم يدن من زأر الأسود الضراغم
3 الغاران: مثنى غار، وهو الجيش، ومنه قول على يوم الجمل: "مآظنك بامرىء جمع بين هذين الغارين"!.
4 يريد كليب بن يربوع، رهط الفرزدق. والقردان: جمع قراد، وهو دويبة تعض الإبل.
5 ر: "الغازي معد".
6 الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديما، كالأحامرة. "اللسان".
7 الزط: جبل أسود من السند، وقيل هم من الهند. "اللسان".
8 السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند، يكونون مع رئيس السفينة البحرية يبذرقونها، واحدهم سبيجى، ودخلت الهاء في جمعه والنسب، كما قالوا: البرابرة. "اللسان".
9 المحرق: هو عمرو بن هند ملك الحيرة، وكان حرق يوم أوارة تسعة وتسعين رجلا من دارم، قبيلة الفرزدق.
10 اليلامع: جمع يلمع، وهو الدرع هنا. وفي ر: "يلامقا"، جمع يلمق، وهو القباء.
11 يبرين: قرية كثيرة النخل في بلاد البحرين.

جالسٌ بفنائها، مؤترز بشملةٍ، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له فقال: ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقلت: توفي صلوات الله عليه! قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها? قلت له: مات رحمه الله تعالى ! قال فأي خيرٍ في حاضرتكم بعدها ! قال فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وريعة. قال: فقال لي: أقم، فإذا راعٍ قد أراح ألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها، فقال: خذها، فقلت: لا أحتاج إليها، قال: فانصرفت بالألف عنه، ووالله من هو إلى الساعة!
قوله: "المناسم" واحدها منسم، وهو ظفر البعير في مقدم الخف، وهو من البغيرة كالسنبك من الفرس وقوله:
عشية سال المربدان كلاهما
يريد المربد وما يليه مما جرى مجراه، ةالعرب تفعل هذا في الشيئين إذا جريا في باب واحد، قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر: لأنهما قد اجتمعا في قولك، "النيران"، وغلب الاسم المذكر، وإنما يؤثر في مثل هذا الخفة، وقالوا: "العمران" لأبي بكر وعمر، فإن قال قائل: إنما هو عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فلم يصب، لأن أهل الجمل نادوا بعلي بن أبي طالب رحمه الله عليه: أعطنا سنة العمرين. فإن قال قائل: فلم لم يقولوا: أبوي بكر، وأبو بكر أفضلهما فلأن عمر اسم مفرد، وإنما طلبوا الخفة. وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة لجرير:
وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
هكذا أنشدنيه1:
وقال آخر2:
قدني من نصر الخبيبين قدي
ـــــــ
1 زيادات ر: "إنما قال هكذا أنشدنيه غير التوزى يرويه:
والطيبان أبو بكر ولا عمر
2 زيادات ر: "هو حميد بن الأرقط"، والبيت في اللسان "قدد"، وإصلاح المنطق 444،377 وبعده:
ليس الإمام بالشحيح الملحد

يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير وإنما أبو خبيب عبد الله، وقرأ بعض القراء: {سَلامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ} 1 فجمعهم على لفظ إلياس ومن ذا قول العرب: المسامعة، والمهالبة، والمناذرة، فجمعهم على اسم الأب.
والمشعرة: اسم لقتلى الملوك خاصة، كانوا يكبرون أن يقولوا: قتل فلان، فيقولون أشعر فلان، من إشعار البدن2 .
ويروى أن رجلاً قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: يا أمير المؤمنين. فقال رجل من خلفي: دعاه باسم رجل ميت3، مات والله أمير المؤمنين. فالتفت فإذا رجل من بني لهب، وهم وهم من بني نصر بن الأزد،وهم أزجر4 قوم، قال كثير:
سألت أخاً لهب ليزجر زجرةً ... وقد صار زجر العالمين إلى لهب
قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاةٌ قد صكت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبداً. فالتقت فإذا بذلك اللهبي بعينه، فقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحول.
ـــــــ
1 سورة الصافات 130.
2 البدن، بالضم: جمع بدنة، وهي الناقة والبقرة وهذا البعير مما ينحر بمكة للهدى وإشعارها: أن يشق جلدها أو سنامها بمبضع ونحوه حتى يظهر الدم، ليعلم أنه هدى.
3 يريد أبا بكر.
4 الزجر للطير هو التيمن والتشاؤم بها، والتفاؤل بطيرانها وهو ضرب من الكهانة.

باب

لذي الرمة في الزجر
قال أبو العباس: أنشدني رجل من أصحابنا من بني سعدٍ، قال: أنشدني أعرابي في قصيدة ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
بيتين لم تأت بهما الرواة، وهما:
رأيت غراباً ساقطاً فوق قضبةٍ1 ... من القضب لم ينبت لها ورقٌ نضر
فقلت: غارباً لاغترلبٍ، وقضبةٌ ... لقضب النوى، هذي العيفة والزجر
ـــــــ
1 القضبة: واحدة القضب، هو شجر له ورق كورق الكمثرى، إلا أنه أرق وأنعم.

لجحدر العكلي
وقال آخر قال أبو الحسن: هو جحدرٌ العكلي، وكان لصاً:
وقدماً هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
وقدما عن أبي الحسن
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غربٍ وبان1
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغترابٌ غير دان
ـــــــ
1 الغرب والبان: ضربان من الشجر.

مما قيل في المال
وأنشدني أبو محلمٍ من ولد طلبة بن قيس بن عاصم:
وكنت إذا خاصمت خصماً كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... علي، وقالوا: قم فإنك ظالم
وقرأت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي، عن أبي زيد الأنصاري:
ولقد بغيت المال من مبغاته ... والمال وجهٌ للفتى معروض
طلب الغنى عن صاحبي ليحبني ... إن الفقير إلى الغني بغيض
وقال آخر أنشدني التوزي عن أبي زيد:
وصاحب نبهته لينهضا ... إذا الكرى في عينيه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا ... يمسح بالكفين وجهاً أبيضا
قوله: " وما تأرضأ " :أي لم يلزم الأرض.

لشبيب بن البرصاء يفخر بكرمة
وأنشدني التوزي عن أبي زيد الأنصاري قال أبو الحسن: هو شبيب بن البرصاء:
لقد علمت أم الصبيين أنني ... إلى الضيف قوام السنات خروج
إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو تومتين لهوج
وإني لأغلي اللحم نياً وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج
قوله:" قوام السنات، يريد سريع الانتباه، والسنة: شدة النعاس، وليس بالنوم بعينه، قال الله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1: وقال ابن الرقاع العاملي:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم2
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينيه سنةٌ، وليس بنائم3
ومعنى" رنقت" تهيأت، يقال: رنق النسر: إذا مد جناحيه ليطير، قال ذو الرمة4:
على حد قوسينا كما رنق النسر
ـــــــ
1 سورة البقرة 255.
2 جاسم: قرية بالشام، وفي ر: "عاسم"، وهو رمل لبنى سعد.
3 أقصده: أصابة.
4 قبله في زيادات ر:
إذا ضربته الربح رنق فوقنا
وانظر ديوانه 218.

وقوله: "المرغث": يعني التي ترضع وترغث1 ولدها، ويقال لها رغوثٌ، قال طرفة:
ليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور
وقوله: "يعزها"، أي يغلبها، وقال الله عز وجل: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 2 يقول: غلبني في المخاطبة، وأصله من قوله: كان أعز مني فيها. ومن أمثال العرب: "من عز بز": وتأويله: من غلب استلب. وقال زهيرٌ: "وعزته يداه وكاهله"3 يقول: كان ذلك أعز ما فيه، ويقال: لهج الفصيل فهو لهوج إذا لزم الضرع، ويقال: رجل ملهجٌ، إذا لهجت فصاله، فيتخذ خلالاً، فيشده على الضرع، أو على أنف الفصيل، فإذا جاء ليرضع أوجعها بالخلال فضرحته4 عنها برجلها، قال الشماخ يصف الحمار:
رعى بارض الوسمي حتى كأنما ... يرى بسفا البهمى أخله ملهج
البارض: أول ما يبدو من النبت، والبهمى يشبه السنبل، يقول: فهو لما اعتاد هذا المرعى اللدان استخشن البهمى. وسفاها: شوكها. فيقول: كأنه مخلول عن البهمى، أي يراها كالأخلة.
وقوله: "ذو تومتين" فالتومة في الأصل الحبة5، ولكنها في هذا الموضع التي تعلق في الأذن. وكالبيت الأخير قوله:
وإني لأغلي لحمها وهي حيةٌ ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فاند بيني وامدحيني فإنني ... فتى تعتريه هزةٌ حين يمدح
ـــــــ
1 ر: "يعنى التي ترضع ترغث"، س: "التي ترضع الرغث".
2 سورة ص23.
3 البيت بتمامه:
تميم فلوناه فأكمل صنعه ... فتم، وعزته يداه وكاهله
وانظر ديوانه 130.
4 ضرحته: دفعته.
5 زيادات ر: "وقوله "الحبة" إنما معناه من حبات النظم".

باب

لعمر بن عبد العزيز حينما سئل: أي الجهاد أفضل?
قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أي الجهاد أفضل? فقال: جهادك هواك.

لرجل من الحكماء في مجاهدة النفس
وقال رجل من الحكماء: أعص النساء وهواك واصنع ما شئت.

لمحمد بن علي بن الحسين في الزهد
وقال محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم: ما لك من عيشك إلا لذة تزدلف بك إلى حمامك، وتقربك من يومك، فأية أكلة ليس معها غصص أو شربة ليس معها شرق فتأمل أمرك، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود،والخيال المخترم. أهل الدنيا أهل سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها.
قوله: "تزدلف بك إلى حمامك"، يقول: تقربك: ولذلك سميت المزدلفة وقوله عز وجل: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} 1 إنما هي ساعات يقرب بعضها من بعض، قال العجاج:
ناج طواه لأين مما وجفا ... طي الليالي: زلفاٌ فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
ناج: سريع، والأين: الإعياء .والوجيف: ضرب من السير.ونصب "طي الليالي" لأنه مصدر من قوله: "طواه الأين"، وليس بهذا الفعل، ولكن تقدير طواه الأين طياٌ مثل طي الليالي، كما تقول: زيد يشرب شرب الإبل، إنما التقديريشرب شرباٌ مثل الإبل، "فمثل" نعت، ولكن إذا حذفت المضاف استغنى بأن الظاهر يبينه، وقام أضيف إليه مقامه في الإعراب، من ذلك قول الله تبارك تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2 نصب لأنه كان: "واسأل أهل القرية". وتقول:
ـــــــ
1 سورة هود 114.
2 سورة يوسف 82.

بنو فلان يطؤهم الطريق، تريد أهل الطريق فحذفت " أهل " فرفعت " الطريق " لأنه في موضع،فعلى هذا فقس إن شاء الله .وقوله " سماوة الهلال " إنما هو أعلاه،ونصب " سماوة " : " بطي " ، يريد طواه الأين كما طوت الليالي سماوة الهلال . والشاهد على إنه يريد أعلاه قول طفيل:
سماوته أسمال برد محبرٍ ... وسائره من أتحمي مشرعب
ويروى : " معصب " ، وإنما سماوته من قولك: سماء،. فاعلم فإذا وقع الإعراب على الهاء أظهرت ما تبنيه على التأنيث على أصله، فإن كان من الياء أظهرت الياء، وإن كان من الواو أظهرت فيه الواو، تقول شقاوة لأنها الشقوة وتقول هذه إمرأة سقاية: إذا أردت البناء على غير تذكير، فإن بنيته على التذكير قلبت الياء والواو همزتين: لأن الإعراب عليهما يقع، فقلت : سقاء وغزاء يا فتى، فإن أنثت قلت: سقاءة وغزاءة، والأجود فيما كان له تذكير الهمز،وفيما لم يكن له تذكير الأظهار، وإنما السماء من الواو، لأن الأصل سما يسمو إذا ارتفع، وسماء كل شيء سقفه.
وقوله: " حتى احقوقفا " يريد اعوج، وإنما هو افعوعل من الحقف. والحقف: النقا من الرمل يعوج ويدق، .قال الله عز وجل : " إذ أنذر قومه بالأحقاف " أي بموضع هو هكذا.

لعلي بن أبي طالب في وصف الدنيا
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 وهو في خطبته2: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا، فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
ـــــــ
1 س: "رضي الله عنه".
2 ر، س: "وهو في خطيته".

مقدم الربيع بن زياد الحارثي على عمر بن الخطاب
قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رحمه الله1 يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً . قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ2 فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فإومأ إلي بالخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي .
ودخلنا3 على عمر رحمه الله فصفنا بين يديه فصعد فينا وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت قلت: الربيع بن زياد الحارثي، فقال: وما تتولى من أعمالنا قلت: البحرين قال: كم ترتزق قلت: ألفا، قال: كثير، فما تصنع به قلت: أتقوت منه شيئا، وأعود به على أقارب لي. فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين، قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني، فقال: كم سناك، قلت: خمس وأربعون سنة، قال: الآن حين استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، وقد تجوعت له فأتي بخبز وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت4 أنظر إليه المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى ألين من هذا فزجرني، ثم قالك كيف قلت؟ فقلت: أقول: ياأمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين، فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا، واللحم غريضاً. فسكن من غربه وقال: أههنا غرت قلت: نعم، فقال: يا ربيع إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق، وسبائك،
ـــــــ
1 س: "رضى الله عنه".
2 يرفأ: مولى عمر بن الخطاب، يقال إنه أدرك الجاهلية. وحج مع عمر في خلافة أبى بكر، وكان حاجبا على بابه. "تاج العروس".
3 ر، س: "فدخلنا".
4 س: "ثم جعلت".

وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 1 ، ثم أمر أبا موسى بإقراري، وأن يسدبدل بأصحابي.
قوله: "فلثتها على رأسي" يقول: أدرت بعضها على بغض على غير استواء يقال: رجل ألوث إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة. وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سئل الأصمعي عن المجنون، المسمى قيس بن معاذ، فثبته وقال: لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به2 لوثة كلوثة أبي حية الشاعر. وقيل للأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي: بم كنتم تعرفون السؤدد في الصبي منكم قال: إذا كان ملوث الإزرة3، طويل الغرلة4، سائل الغرة5: كأن به لوثة، فلسنا نشك في سؤدده.
وقله: "تؤتى باللحم غريضا" يقول: طريا، يقال: لحم غريض، وشواء غريض، يراد به الطراء، قال الغساني6:
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: "صلائق" فمعناه ما عمل بالنار طبخاً وشيا، يقال: صلقت الجنب إذا شويته، وصلقت اللحم إذا طبخته على وجهه.
وقوله: "سبئك "يريد ما يسنك من الدقيق فيؤخذ خالصه يريد الحوارى7، وكانت العرب تسمي الرقاق السبائك، وأصله ما ذكرنا.
والصناب: صباغ بتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنلبي إذا كان في ذلك اللون وكان جرير اشترى جارية من رجل يقال له زيد من أهل
ـــــــ
1 سورة الأحقاف 20.
2 ر، س: "فيه".
3 كذا ضبطت في الأصل بالضم، والإزرة: هيئة الائتزار.
4 الغرلة: القلفة.
5 الغرة في الأصل: البياض في جبهة الفرس. وسيلانها: استطالتها، وهو هنا استعارة لإشراق الوجه.
6 زيادات ر: "هو السموءل".
7 الحوارى: لباب البر.

اليمامة، ففركت1 جريراً، وجعلت تحن إلى زيد، فقال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب
وقالت: لا تضم كضم زيد ... وما ضمي وليس معي شبابي
فقال الفرزدق يجيبه:
فإن تفركك علجة آل زيد ... ويعوزك المرقق والصناب2
فقدماً كان عيش أبيك مراً ... يعيش بما تعيش به الكلاب
وأما قوله: "أكسر بعير" فإن الكسر3 والجدل والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم.
وأما قوله: "نعى على قوم" فمعناه أنه عابهم بها ووبخهم: قال أبو عبيدة: اجتمع العكاظيون4 على أن فرسان العرب ثلاثة، ففارس تميم عتيبة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، صياد الفوارس وسم الفرسان. وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب . وفارس ربيعة بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد، أحد بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، قال: ثم اختلفوا فيهم حتى نعوا عليهم سقطاتهم.
وأما قوله: "أههنا غرت"، يقول: ذهبت، يقال غار الرجل إذا أتى الغور وناحيته مما انخفض من الأ رض، وأنجد إذا أتى نجداً وناحيه مما ارتفع في الأرض، ولا يقال "أغار "إنما يقال: غار وأنجد، وبيت الأعشى ينشد على هذا:
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... لعمري غار في البلاد وأنجدا
ـــــــ
1 فركته: أبغضته.
2 العلجة: مؤنث العلج، وهو الغليظ من كفار العجم.
3 الكسر والجدل، ضبطتا في الأصل بفتح أوله وكسره.
4 العكاظى: منسوب إلى عكاظ، وهم الذين عادتهم الذهاب كل عام إلى عكاظ، وهو سوق كانت تقيمة العرب بين نخلة والطائف في شوال من كل عام، يجتمع فيه شعراء العرب يناشدون الشعر.

وقوله: " فسكن من غربه"، يقول: من حده، وكذلك يقال في كل شيء في السيف والسهم والرجل وغير ذلك.
وقوله: "خفين مطارقين" تأويله: مطبقين يقال: طارقت نعلي إذا أطبقتها. ومن قال: " طرقت" أو" أطرقت" فقد أخطأ، ويقال لكل ما ضوعف: فقد طورق، قال ذو الرمة1:
طرق الخوافي واقع فوق ريعة ... ندى ليله في ريشة يترقرق2
قوله: " ريعة" موضع ارتفاع: قال الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} 3 ، وهو جمع ريعة، وقال الشماخ:
تعن له بمذنب كل واد ... إذا ما الغيث أخضل كل ريع4
ـــــــ
1 زيادات ر: "يصف صقرا".
2 الخوافى: ريشات إذا ضم الطائر جناحية خفيت، صد القوادم، وطراقها: ركوب بعضها على بعض.
3 الشعراء 128.
4 تعن: تظهر. والمذنب: مسيل الماء في الحضيض.

خطبة لعمر بن عبد العزيز
قال أبو العباس: وحدثني العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي قال: قال عدي بن الفضيل: خرجت إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إستحفره بئراً بالعذبة، فقال لي: وأين العذبة؟ قلت: على ليلتين من البصرة، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء فأحفرني، واشترط علي أن أول شارب ابن السبيل، قال فحضرته في جمعة، وهو يخطب، فسمعه وهو يقول:
يا أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. أيها الناس إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.
قال: فأقمت عنده شهراً ما بي إلا استماع كلامه.
قوله: "حضيض1" يعني المستقر من الأرض إذا انحدر عن الجبل، ولا يقال حضيض إلا بحضرة جبل، يقال: حضيض الجبل، ويطرح الجبل فيستغنى عنه لأن هذا لا يكون إلا له،ومن ذلك قول امرىء القيس:
نظرت إليه قائماً بالحضيض2
ـــــــ
1 ر: "قوله بحضيض".
2 الضمير يعود على الفرس في البيت قبله وصدره:
فلما أجن الشمس عنى غيارها

نبذ من أقوال الحكماء
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: يا ابن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، فإنه إن يعلم أنه من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك فيه.
ويروى للنابغة1:
ولست بخابىْ ابداً طعاماً ... حذارغد،لكل غدٍ طعام
ويروى ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان آمناً في سربه 2، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في سربه" يقول: في مسلكه، يقال: فلان واسع السرب وخلي السرب، يريد المسالك والمذاهب، وإنما هو مثل مضروب للصدر والقلب، يقال: خل سربه، أي: طريقه حتى يذهب حيث شاء، ويقال ذلك للإبل لانها تنسرب في الطرقات، ويقال: سرب علي الإبل، أي أرسلها شيئاً بعد شيىء فإذا قلت: سرب، بكسر السين، فإنما هو قطيع من ظباء، أبو بقر، أو شاء أو نساء، أو قطا. قال امرؤ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار قي الملاء المذيل
دوار: نسك ينسكون عنده في الجاهلية ودوار ما استدار من الرمل، ودوار سجن اليمامة. قال بعض اللصوص3:
كانت منازلنا التي كنا بها ... شتى، فألف بيننا دوار
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجنا علينا من زقاق ابن واقف4
ـــــــ
1 زيادات ر"هذا من شعر أوس بن حجر مثبت فيه في كلمة لم يعرفها الأصمعى".
2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية بفتح السين عن أبى العباس والصواب كسرها، وإنما السرب، بفتح السن: المال الراعى".
3 زيادات ر: "واسمه جحدر".
4 نسبه أبو الفرج في الأغانى 175:21 إلى هدبة بن خشرم، من أبيات أربعة، وبعده:
تضمخن بالجادى حتى كأنما الـ ... ـأنوف إذا استعرضن رواعف
وفيها إقواء.

وكان الحسن يقول: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا .
وكان الحجاج بن يوسف يقول على المنبر: أيها الناس، اقدعوا هذه الأنفس. فإنما أسأل شيء إذا أعطيت، وأمنع شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله. فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
قوله: "اقدعوا" يقال قدعته عن كذا: أي منعته عنه، ومنه قول الشماخ:
إذا ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع
قوله:" استافهن" يعني حماراً يستاف أتنا، يقول: يرمحنه إذا اشتمهن، والسوف: الشم.
وقوله:
مكان الرمح من أنف القدوع
يريد بالقدوع المقدوع، وهذا من الأضداد، يقال طريق ركوب إذا كان يركب، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها، ويقال: ناقة رغوث إذا كانت ترضع، وحوار رغوث إذا كانت ترضع، ومثل هذا كثير، يقال: شاة حلوب إذا كانت تحلب، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع ههنا: البعير الذي يقدع، وهو أن يريد الناقة الكريمة ولايكون كريماً، فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع، يقال: قدعته، وقدعت أنفه، ويروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خطب خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ذكر لورقة بن نوفل فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد الفحل لا يقدع أنفه .
وكان الحجاج يقول: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيه ربه،أو يستغفر من ذنبه،أو يفكر في معاده،لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة.

باب

لعمارة بن عقيل يحض بني كعب وبني كلاب على بني نمير
قال أبو الحسن: أنشدني عمارة بن عقيل لنفسه يحض بني كعب وبني كلاب، ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على بني نمير بن عامر بن صعصعة، وبينهم مطالبات وترات1. وكانت بنو نمير أعداء عمارة. فكان يحض عليهم السلطان، ويغري بهم إخوتهم، ويحاربهم في عشيرته، فقال:
رأينا كما يا ابني ربيعة خرتما ... لعض الحروب. والعديد كثير
وصدقتما قول الفرزدق فيكما ... وكذبتما ما كان قال جرير
أصابت نمير منكم فوق قدرها ... فكل نميري بذاك أمير
فإن تفخروا بما مضى من قديمكم ... فقد هدمت مدائن وقصور
رمتها مجانيق العدو فقوضت ... مدائن منها كالجبال وسور
وشيدها الأملاك: كسرى وهرمز ... وآل هرقل حقبة، ونضير
فإن تعمروا المجد القديم فلم يزل ... لكم في مضرات الحروب ضرير
خبطتم ليوث الشأم حتى تناذرت ... حماكم وحتى لا يهر عقور
فكيف بأكناف الشريف تصيبكم ... ثعالب يبحثن الحصى وأبور
قال أبو العباس: قوله:
فقد هدمت مدائن وقصور
مثل، يريد ان مجدكم الذي بناه آباؤكم متى لم تعمروه بأفعالكم خرب وذهب . وهذا كما قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ن ونفعل مثل ما فعلوا
ـــــــ
1 التراث: جمع ترة، وهي الجناية.

وكما قال الآخر:
ألهى بني جشم عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم
إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فله الأيام محطوم
وكما قال عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن وراثة ... إبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها، وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
قال أبو الحسن: أنشدني هذه الأبيات محمد بن الحسن المعروف بابن الحرون ويكنى أبا عبد الله لعامر بن الطفيل العامري. قال أبو الحسن: قال الأصمعي: وكان عامر بن الطفيل يلقب محبراً لحسن شعره، وأولها:
تقول ابنة العمري ما لك بعدما ... أراك صحيحاً كالسليم المعذب
فقلت لها: همي الذي تعلمينه ... من الثأر في حيي زبيد وأرحب
إن اغز زبيداً أغز قوماً أعزة ... مركبهم في الحي خير مركب
وإن أغز حيي خثعم فدماؤهم ... شفاء، وخير الثأر للمتأوب
فما أدراك الأوتار مثل محقق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذب
وأسمر خطي وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوب
سلاح امرىء قد يعلم الناس أنه ... طلوب لثارات الجال مطلب
ثم أتى بإنشاد أبي العباس على وجهه، إلا أنه روى: "من رماها بمنكب" السليم: الملدوغ، وقيل له: "سليم" تفاؤلاً له بالسلامة، وزبيد وأرحب: حيان من اليمن. والثأر: ما يكون لك عند من أصاب حميمك، من الترة، ومن قال "ثار" فقد أخطأ.

والمتأوب: الذي يأتيك لطلب ثأره عندك، يقال: آب يؤوب إذا رجع. والتأويب في غير هذا: السير في النهار بلا توقف.
والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد. والأجرد: الفرس المتحسر الشعر،والأجرد الضامر أيضاً. والعسيب: السعفة. والمشذب. الطويل الذي أخذ ما عليه من العقد والسلاء1 والخوص، ومنه قيل للطويل المعرق: مشذب.
وخطي: رمح منسوب إلى الخط، وهي جزيرة بالبحرين، يقال إنها تنبت عصا الرماح وقال الأصمعي: ليست بها رماح، ولكن سفينة كانت وقعت إليها، فيها رماح، وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح: الخطية: ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم. والزغف: الدرع الرقيقة النسج، والمثوب: الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء، وهو من ثاب يثوب إذا رجع. وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره، أي تركه.
قال أبو العباس: وقوله:
لكم في مضرات الحروب ضرير
يقال: رجل ضرير إذا كان ذا مشقة على العدو، وقال مهلهل بن ربيعة التغلبي:
قتيلٌ ما قتيل المرء عمرو ... وهمام بن مرة ذو ضرير2
وقوله: "خبطتم ليوث الشام "يريد ما كان من نصر بن شبث العقيلي، وهو عقيل بن كعب بن ربيعة.
وقوله: "أبور" جمع وبر3، وإذا إنضمت الواو من غير علة فهمزها جائز، وقد ذكرنا ذلك قبل.
ـــــــ
1 السلاء: شوك النخيل.
2 زيادات ر: ما: زائدة، وفيها معنى التعظيم.
3 الوبر: دويبة على قدر السنوري.

لعمارة أيضاً في الحث على الأخذ بالثأر
وقال عمارة أيضاً لهم، أنشدنيه:
ألا لله در الحي كعب ... ذوي العدد المضاعف والخيول
أما فيهم كريمٌ مثل نصر ... يورع عنهم سنن الفحول
تنوخهم نمير كل يوم ... كفعل أخي العزازة بالذليل
وليسوا مثل عشرهم ولكن ... يضيع القوم من قبل العقول
فأين فوارس السلمات منهم ... وجعدة والحريش ذوو الفضول!
وأين عبادة الخشناء عنهم1 ... إذا ما ضاق مطلع السبيل!
قوله:
ألا لله در الحي كعب
يريد كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وقوله:
أما فيهم كريم مثل نصرٍ
يعني نصر بن شبث، أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة. وقوله:
يورع عنهم سنن الفحول
هو مثل ضربه، فجعلهم لإمساكهم عن الحرب بمنزلة النوق التي يقرعها الفحل. ويورع: يكف ويمنع ويدفع. والورع في الدين إنما هو الكف عن أخذ الحرام، وجاء في الحديث: "لا تنظروا إلى صومه، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى ورعه إذا أشفى"، ومعناه إذا أشرف على الدينار والدرهم. والسنن: القصد، ثم أبان ذلك بقوله:
تنوخهم نميرٌ كل يوم
يقال: سان الفحل الناقة فتنوخها، وذلك إذا ركبها من غير أن توطأ له، ولكن يعترضها اعتراضاً. وتقول العرب: إن ذلك أكرم النتاج، وذلك لأن
ـــــــ
1 ر: "منهم".

الولد يخرج صليباً مذكراً، ويقال لذلك الحمل الذي يقع من التنوخ والاعتراض: يعارة وعراضٌ، يقال: حملته عراضاً، وحملته يعارة يا فتى، قال الراعي:
قلائص لا يلقحن إلا يعارةً ... عراضاً، ولا يشربن إلا غواليا
وقال الطرماح:
سوف تدنيك من لميس سبندا1 ... ةٌ أمارات بالبول ماء الكراض
نضجته عشرين يوماً ونيلت ... حين نيلت يعارة في عراض
قوله:" سبنداة" فهي الجريئة الصدر، يقال للجريء الصدر: سبندى وسبنتى وأصل ذلك في النمر. وزعم الأصمعي أن الكراض حلق الرحم، قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر.
وقوله: "نضجته عشرين يوماٌ"، إنما هو أن تزيد بعد الحول من حيث حملت أياماٌ، نحو الذي عد، فلا يخرج الولد إلامحكماٌ، قال الحطيئة:
لأدماء منها كالسفينة نضجت ... به الحول حتى زاد شهراٌ2 عديدها
والعزازة: العز، والمصادر تقع على" فعالة" للمبالغة، يقال عز عزا وعزازة، كما يقال: الشراسة والصرامة، قال الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} 3 وفي موضع آخر: {لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} 4.
وقوله: "فأين فوارس ا لسلمات"، يريد بني سلمة الخير، وبني سلمة الشر ابني قشير بن كعب، وجمع لأنه يريد الحي أجمع، كما تقول: المهالبة والمسامعة، فتجمعهم على اسم الأب، على المهلب ومسمع، وكذلك المناذرة، وقد مرت الحجة في هذا .
وجعدة بن كعب والحريش بن كعب وبنو عبادة، من عقيل بن كعب. وقال: "الخشناء" يريد القبيلة، وذكرها بالخشونة على الأعداء.
ـــــــ
1 ر. س: "سبنتاة وسبنداة"، وكلاهما جائز.
2 ر: "عشرا".
3 الأعراف 67.
4 الأعراف 61.

سؤال معاوية بن أبي سفيان لدغفل بن حنظلة عن قبائل العرب
ويروى أن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله قال لدغفل بن حنظلة النسابة: ما تقول في بني عامر بن صعصعة? قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء. قال: فما تقول في تميم? قال: حجر أخشن، إن صادمته آذاك، وإن تركته تركك. قال: فما تقول في اليمن?قال: سيد وأنوك.

لعمارة بن عقيل حينما أمره أبو سعد التميمي أن يضع يده في يد أبي نصر الطائي
قال أبو العباس: وأنشدني عمارة لنفسه وسبب هذا الشعر الذي نذكره أن رجلا من بني تميم، يكنى أبا سعد، كان منقطعاٌ إلى أبي نصر بن حميد الطائي،ثم أحد بني نبهان، وكان أبو نصر والياً على العرب، وكتب أبو سعد إلى عمارة يأمره أن يضع يده في يد أبي نصر، فقال عمارة:
دعاني أبو سعدٍ وأهدى نصيحةٌ ... إلي، ومما أن تغر النصائح1
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح
أو البرمجي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعدٍ وإن كان حازماً ... بصيراً وإن ضاقت عليه المسارح
أعار به ملعون نبهان سيفه ... على قومه، والقول عافٍ وجارح
ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومه للمرء ذي الطعم فاضح
قوله: "لأجزر لحمي كلب نبهان" أي لأكون جزرة له، والجزرة: البدنة تنحر، يقال أجزرت فلاناً، وتركت فلاناً جزراً، قال عنترة العبسي:
إن تشتما عرضي فإن أباكما ... جزر السباع وكل نسرٍ قشعم
وقوله:
...........
... كالذي دعا القاسطي حتفه وهو نازح
ـــــــ
1 زيادات ر: "مما بمعنى ربما".

فهذا الرجل من النمر بن قاسطٍ، خرج يبتغي قرطاً من بعدٍ، فنهشته حية فمات، وهو أحد القارظين. والقارظ الأول من عنزة، كان خرج مع ابن عم له في طلب القرظ، فقتله ابن عمه، لأنه كان يريد ابنته فمنعه منها، قال أبو خراش1 الهذلي:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل
وقوله "كالذي دعا القاسطي حتفه" الهاء في حتفه ترجع على الذي وتقديره كالسبب الذي دعا القاسطي حتفه.
وقوله: "أبو البرمجي" فهذا الرجل من البراجم، وهم بنو مالك بن حنظلة كان عمرو بن هند لما قتل بني دارم بأوراة، وكان سبب ذلك أن أخاه أسعد بن المنذر وكان مسترضعاً في بني دارمٍ، في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- انصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذٌ، كما يعبث الملوك، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله2. ففي ذلك يقول القائل، وهو عمرو بن ملقطٍ الطائي لعمرو بن هند:
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة
فغزاهم عمرو بن هند، فقتلهم يوم القصيبة3 ويوم أوارة، ففي ذلك يقول الأعشى:
وتكون في الشرف المو ... زي منقراً وبني زرارة
أبناء قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأوراة
ثم أقسم عمرو بن هند ليحرقن منهم مائة، فبذلك سمي محرقاً، فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعجوز منهم لتكمل بها
ـــــــ
1 زيادات ر: "الصحيح أن الشعر لأبى ذؤيب، وهو بهذه النسبة في ديوان الهذليين 145:1، من قصيدة مطلعها:
أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن أم عن عهده بالأوائل!
2 زيادات ر: "رمى ناقة بسهم فقتلها" والرجل الذي قتله سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم".
3 يوم القصيبة لعمرو بن هند على بنى تميم، وهو أوارة. "وانظر معجم البلدان 364:1،114:7".

العدة، فلما أمر بها قالت العجوز: ألا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه1! ثم قالت: "هيهات صارت الفتيان حمماً"! ومر وافد البراجموهو الذي ذكرنا - فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك يتخذ طعاماً، فعرج إليه فأتي به إليه، فقال له: من أنت? فقال: ابيت اللعن? أنا وافد البراجم، فقال: "إن الشقي وافد البراجم". ثم أمر به فقذف في النار، ففي ذلك يقول جرير يعير الفرزدق:
أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع!
وقال أيضاً:
وأخزاكم عمرو كما قال قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم
وقال الطرماح:
ودارم قد قذفنا منهم مائةً ... في جاحم النار إذ ينزون بالخدد2
ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ... عمرو، ولولا شحوم القوم لم تقد3
ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام، يعني لطمع البرجمي في الأكل. قال يزيد بن عمرو بن الصعق أحد بني عمرو بن كلاب:
ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال الأخر4:
إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرك أن يعيشك فجىء بزاد
بخبر أو بتمر أو بلحم ... أو الشيء الملفف في البجاد5
تراه ينقب البطحاء حولاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ـــــــ
1 زيادات ر: "على ماذكر أصحاب الأخبار اسمها الحمراء بنت نضلة".
2 الخدد، أصله: "الخد" ففك إدغاق للقافية، وهو كالأخدود، حفرة في الأرض مستطيلة.
3 المشتوى: مكان الاشتواء.
4 زيادات ر: "ذكر ابن حبيب أن هذا الشعر لأبى المهوش الفقعسى، وذكر دعبل أنه لأبى المهموش الأسدى، وذكر ابن السيد البطليوسى أنه ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابى".
5 أراد وطب اللبن، يلف بكساء مخطط، اسمه البجاد.

وقوله: "للمرء ذي الطعم" يعني الراجع إلى عقل، يقال: ليس فلان بذي طعم، وفلان ليس بذي نزل، أي ليس بذي عقل ولا معرفة، وإنما يقال: هذا طعام ليس له نزل إذا لم يكن ذا ريع، ومن قال: "نزل "في هذا المعنى فقد أخطأ.

لأعرابي يهجو قوماً من طيىء
وقال أعرابي يهجو قوماً من طيىء:
ولما أن رأيت بني جوين ... جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم إنني رجل يؤوس
إذا ما قلت: أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس
قوله: "جلوساً ليس بينهم جليس"، يقول: هؤلاء قوم لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم وهذا من أقبح الهجاء.
ومن أمثال العرب: "سمنهم في أديمهم"، ومعناه في مأدومهم، وقيل: أديهم ومأدوم مثل قتيل ومقتول، وتقول الحكماء: من كثر خيره كثر زائره.
وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلماً، فكفى بذلك تقاضياً.
وقال آخر:
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء، وباليأس المصرح ناهياً
1[قال أبوالحسن: وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء]1
ومن أحسن المدح قول زهير:
قد جعل الطالبون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقاً
ـــــــ
1 ر: "وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء، قال أبو الحسن والكسر أجود".

وقال رؤبة:
إن الندى حيث ترى الضغاطا
وقال آخر:
يزدحم الناس إلى بابه ... والمشرب العذب كثير الزحام
وقال أشجع في محمد بن منصور:
على باب ابن منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب نبلاً كثرة الأهل
وقوله:
تشابهت المناكب والرؤوس
إنما ضربه مثلاً للأخلاق والأفعال: أي ليس فيهم مفضل.
ويقال إن الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، آذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم، فجعل لا يجاور قوماً إلا آذوه فقال: " أينما أذهب ألق سعداً " أي أفر من الأذى إلى مثله.

باب أقوال في المجالس والجلساء
قال أبو العباس: قال أبو إدريس الخولاني1: المساجد مجالس الكرام. وقيل للأحنف بن قيس أحد بني مرة بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعدٍ: أي المجالس أطيب? فقال: ما سافر فيه البصر، واتدع فيه البدن.
اتدع: افتعل من التوديع، والأصل "اوتدع" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا القول مذهب أهل الحجاز يقولون: ايتزن ياتزن، وهو رجل موتزنٌ2، والأجود أن تقلب ماكان أصله الواو والياء في باب "افتعل" تاءً وتدغمها في التاء من "افتعل" فتقول: اتدع يتدع، وهو متدعٌ، ومتزن3 ومتعد من الوعد، ومتئس من اليأس، تكون الياء كاواو، لأنها إن أظهرت انقلبت على حركة ما قبلها فصارت كاواو، وتكونان واوين عند الضمة، نحو موعدٍ وموتعدٍ، ومؤنسٍ ومؤتئسٍ، وياءين للكسرة، والواو قد تقلب إلى تاء ولا تاء بعدها، نحو تراث من ورث، وتجاه من الوجه وتكأةٍ. وإنما ذلك كراهية الضمة في الواو، وأقرب حروف الزوائد والبدل منها التاء فقلبت إليها، وقد تقلب للبدل في غير ضم، نحو: هذا أتقى من هذا، وضربته حتى أتكأته4، فلما كانت بعدها تاء افتعل كان الوجه القلب ليقع الإدغام. وقد فسرنا هذا على غاية الاستقصاء في الكتاب "المقتضب".
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما خير المجالس؟ فقال: ما بعد فيه مدى الطرف، وكثرت فيه فائدة الجليس.
ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم الإسلام ثم اجلس فإن أفاضوا في ذكر الله: فأجل سهمك مع سهامهم، وإن أفاضوا في غير فخلهم وانهض.
ـــــــ
1 هو عائد الله بن عبد بن عمرو أبو إدريس الخولانى، قاص أهل الشام وعالمهم، وقاضيهم روى عن أبى هريرة وأبى ذر وغيرهم. مات سنة 80هـ. "تهذيب التهذيب 85:5".
2 ر، س: "ايتزر، ياتزر، وهو رجل موتزر".
3 ر، س: "متزر".
4 اتكأته: وجدته على هيئة المتكىْ.

وقوله: "فارمهم بسهم الإسلام" يعني السلام. وقوله: "فأجل سهمك مع سهامهم"، يعني أدخل معهم في أمرهم، فضربه مثلاً، من دخول الرجل في قداح الميسر.
وقال وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمه:
وإذا أتيت جماعةٌ في مجلسٍ ... فاختر مجالسهم ولما تقعد
ودع الغواة الجاهلين وجهلهم ... وإلى الذين يذكرونك فاعمد
وقال ابن عباس رحمه الله: لجليسي علي ثلاثٌ: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس وأصغي إليه إذا حدث.
وكان القعقاع بن شورٍ1، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل إذا جالسه جليسٌ فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيباً في ماله وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً له، حتى شهر بذلك. وفيه يقول القائل:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن أمروا بخير ... وعند السوء مطراقٌ عبوس
وحدثني التوزي أن رجلاً جالس قوماً من بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فأساؤوا عشرته، وسعوا به إلى معاوية، فقال:
شقيت بكم وكنت لكم جليساً ... فلست جليس قعقاع بن شور
ومن جهل أبو جهلٍ أخوكم ... غزا بدراً بمجمرةٍ وتور2
نسبه إلى التوضيع3، كقول عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف لحكيم بن حزام لما بلغه قول أبي جهل بن هشام: انتفخ والله سحره4 ونحره، سيعلم مصطر استه من انتفخ سحره اليوم!
ـــــــ
1 ذكره ابن حجر في لسان الميزان 454:4 قال: من كبار المراء في دولة بني امية وفي القاموس إنه من التابعين.
2 المجمرة: إحدى المجامر التي يوضع فيها الطيب ليتبخر به. والتور: إناء يبل فيه نحو العود والمسك.
3 التوضيع: التحنيث.
4 يراد بالسحر هنا الرئة.

يزيد بن معاوية والأنصار
...
وقال رجل من بني مخزوم للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري ليؤذيه: أتعرف الذي يقول:
ذهبت قريشٌ بالمكارم كلها ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
فقال الأحوص: لا أدري، ولكني أعرف الذي يقول:
الناس كنوه أبا حكم ... والله كناه أبا جهل
أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ودقة الأصل
وهذا الشعر لحسان بن ثابت، والبيت الذي أنشده المخزومي للأخطل. وكان يزيد بن معاوية عتب على قوم من الأنصار، فأمر كعب بن جعيل التغلبي بهجائهم، فقال له كعبٌ: أأهجو الأنصار! أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام! ولكني أدلك على غلام من الحي نصراني: كأن لسانه لسان ثورٍ يعني الأخطل.
قال: فلما قال هذا البيت دخل النعمان بن بشير بن سعدٍ الأنصاري على معاوية، فحسر عمامته عن رأسه، ثم قال: يا معاوية، أترى لؤماً! فقال: ما أرى إلا كرماً. فقال النعمان:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحي الأزد مسدولاً عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلةً ... فماذا الذي تجدي عليك الأراقم!1
فما لي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنه الدراهم
ـــــــ
1 الأرقم: هم بنو بكر وجشم ومالك والحارث ومعاوية أبناء تغلب، وهم قوم الأخطل.

نبذ من أقوال الحكماء
وكان الأحنف بن قيس يقول: لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، ولم تعدد الحلم ذلاً، ولا التواهب فيما بينها ضعةٌ.
وقالوا في تأويل قوله: "ما لبست العمائم"، يقول: ما حافظت على زيها. وقوله: "وتقلدت السيوف" يريد الامتناع من الضيم. وقوله: "ولم تعدد الحلم ذلاً"، يقول: ما عرفت موضع الحلم، وتأويل ذلك: أن الرجل إذا أغضى للسلطان أو أغضى عن الجواب وهو مأسور لم يقل: حلم، وإنما يقال حلم إذا ترك أن يقول الشيء لصاحبه منتصراً، ولا يخاف عاقبة يكرهها، فهذا الحلم المحض، فإذا لم يفعل ذلك، ورأى أن تركه الحلم ذل فهو خطأ وسفهٌ. وقوله: "ولم تر التواهب بينها ضعةٌ" نحو من هذا، وهو أن يهب الرجل من حقه ما لا يستكره عليه.
وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته، وتأويل ذلك أن الرجل إذا اعتد بمعروفه كدره، وقيل: المنة تهدم الصنيعة.
وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفرٌ، وذكره من المنعم تكديرله.
وقال قيس بن عاصم: يا بني تميم، اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه، وينسى أياديه إليكم.

باب

لبعض الشعراء يمدح أسيلم بن الأحنف
...
قال أبو العباس: قال عبد الملك [بن مروان1] لأسلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن ما مدحت به? فستعفاه، فأبى أن يعفيه وهو معه على سريره، فلما أبى إلا أن يخبره، قال قول القائل:
ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا2
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا3
إذا النفر السود اليمانون نمنموا ... له حوك برديه أجادوا وأوسع
جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المدارى رأسه فهو أنزع4
فقال له عبد الملك: ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك [قال أبو الحسن: هو أبو قيس بن الأسلت]
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع5
ـــــــ
1 من س.
2 المخبون: الذين تخب بهم دوابهم، من الخبب وهو سرعة العدو.
3 من القعقعة، وهي الصوت، والمراد أنهم لا يتهيبون لقاء الناس.
4 المدارى: حمع المدرى، وهو المشط. وأنزع، من النزوع، وهو انحسار الشعر من أعلى الجبين.
5 حصت: أذهبت شعره. والبيضة، هنا: لباس الرأس في الحرب. والتهجاع: النوم الخفيف.

لكثير في المدح
وحدثت أن كثيراً كان يقول: لوددت أني كنت سبقت الأسود أو العبد الأسود إلى هذين البيتين يعني نصيباً في قوله:

من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
يحيون بسامين طوراً، وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب1
والمختار من الشعر الأول قوله:
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
يخبر بجلالتهم ومعرفتهم بأقدارهم، وثقتهم بأن مثلهم لا يرد، وقد قال: جرير للتيم خلاف هذا، وهو قوله:
قوم إذا اختضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
ـــــــ
1 من الشوس، وهو النظر بمؤخر العين.

نقد لشعر نصيب
وحدثت أن جريراً كان يقول: وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد كان لي بكذا وكذا بيتاً من شعري يعني قول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
وأما قول نصيب:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... أوكل بدعدٍ من يهيم بها بعدي
فلم تجد الرواة ولا من يفهم جواهر الكلام له مذهباً، وقد ذكر عبد الملك لجلسائه ذلك فكل عابه، فقال عبد الملك: فلو كان إليكم كيف كنتم قائلين? فقال رجل منهم: كنت أقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي!

فقال عبد الملك: ما قلت والله أسوأ مما قاله، فقيل له: فكيف كنت قائلاً في ذلك يا أمير المؤمنين? فقال كنت أقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعدٌ لذي خلةٍ بعدي
فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.

الفرزدق ونصيب وما قالاه من الشعر عند سليمان بن عبد الملك
وقد فضل نصيبٌ على الفرزدق في موقفه عند سليمان بن عبد الملك، وذلك أنهما حضرا، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني -وإنما أراد أن ينشده مدحاً له- فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةٌ من جذبها بالعصائب1
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب2
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... -وقد خصرت أيديهم- نار غالب3
فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعله لا يتضع عنها! فقال: هات، فأنشده:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب4
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب5
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدع لم يسبق إليه. على أن الشاعر وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب
ـــــــ
1 الترة: الثأر.
2 الأكوادر: الرحال، مفردها كور.
3 خصرت: بردت.
4 قفاذات أوشال: خلف بقعة ذات مياه. مياه مولاك: يريد نفسه، قارب: طالب للماء.
5 ودان: قرية قريبة من الجحفة.

وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر، وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا.
وقد قال سليمان للفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
ثم نرجع إلى تفسير الشعر.
وقوله:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم
يعني قوماً تجاراً، وقد قالو إنما ذكر لصوصاً، والأول أثبت، وذلك أن دارين سوقٌ من أسواق العرب.
وقوله: "بجر الحقائب" يقول: عظام، ويقال للرجل إذا اندلقت سرته فنتأت متقدمة: رجل أبجر، ويقال لها: البجرة والبجرةَ. وفعلةٌ وفعَلةٌ تقعان في الشييء، يقال: قلفةٌ وقَلفةٌ، وصلعة وصَلعةٌ، ومثل هذا كثير.
وقوله: "على حين ألهى الناس" إن شئت خفضت"حين" وإن شئت نصبت، أما الخفض فلأنه مخفوض فلأنه مخفوض، وهو اسم منصرف، وأما الفتح فلإضافتك إياه إلى شيء معرب، فبنيته على الفتح، لأن المضاف والمضاف إليه اسم واحد فبنيته من أجل ذلك، ولو كان الذي أضفته إليه معرباً لم يكن إلا محفوضاً، وما كان سوى ذلك فهو لحن، تقول" جئتك على حين زيد" و" جئتك في حين إمرة عبد الملك"، وكذا قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع!
إن شئت فتحت، وإن شئت خفضت، لأنه مضاف إلى فعل غير متمكن.
وكذلك قولهم: "يومئذ"، تقول: عجبت من يوم عبد الله، لا يكون غيره، فإذا أضفته إلى" إذ"، فإن شئت فتحت على ما ذكرت لك في "حين"، وإن شئت خفضت، لما كان يستحقه اليوم من التمكن قبل الإضافة. تقرأ إن شئت:

{مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 1 ، وإن شئت: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} على ما وصفت لك، ومن خفض بالإضافة قال: سير بزيدٍ يومئذ، فأعربته في موضع الرفع، كما فعلت به في الخفض، ومن قال: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فبناه قال: سير بزيدٍ يومئذٍ، يكون على حالة واحدة لأنه مبني، كما تقول: دفع إلى زيد خمسة عشر درهماً، وكما قال عز وجل: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2 وأما قوله:
فندلاً زريق المال ندل الثعالب
فزريق قبيلة. وقوله" ندلاً" مصدر، يقول، اندلي ندلاً يا زريق المال، والندل: أن تجذبه جذباً، يقال: ندل الرجلا الدلو ندلاً إذا كان يجذبها مملوءة من البئر، فنصب" ندلاً "بفعل مضمر وهو" أندلي "وهذا في الأمر، تقول: ضرباً زيداً، وشتما عبد الله، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فكان الفعل فيه أقوى، فلذلك أضمرته، ودل المصدر على الفعل المضمر، ولو كان خبراً لم يجز فيه الإضمار، لأن الخبر يكون بالفعل وغيره، والأمر لا يكون إلا بالفعل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 3. فكان في موضع "اضربوا"، حتى: كان القائل قال: فاضربوا، ألا ترى أنه ذكر بعده محضاً في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ولو نون منون في غير القرآن لنصب "الرقاب" وكذلك كل موضع هو بالفعل أولى.
وقوله: "ندل الثعالب" يريد سرعة الثعالب، يقال في المثل: "أكسب من ثعلب".
وأما قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ـــــــ
1 المعارج 11.
2 المدثر 30.
3 محمد 4.

فإنما يريد أنهم يرجعون مملوءة حقائبهم من رفده، فقد أثنت عليه الحقائب من قبل أن يقولوا. وأما قول الأعشى:
وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق1
فإنما أراد المدح الذي يحيدين به، والحادي من ورائها، كما الهادي أمامها.
وأما قول أبي وجزة السعدي:
راحت بستين وسقًا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
فإنما أراد ما يوجب ستين وسقا، لا أن الناقة حملت ستين وسقاً
ـــــــ
1 عتاق العيس: نجائب الإبل البيض في شقرة يسيرة.

حديث أبي وجزة وأبي زيد الأسلمي
وكان من حديث ذلك أن أبا وجزة السلمي، المعروف بالسعدي لنززله فيهم،ومحالفته إياهم، كان شخص إلى المدينه يريد آل الزبير، وشخص أبو زيد الأسلمي يريد إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو والي المدينة فاصطحبا، فقال أبو وجزة: هلم فلنشترك فيما نصيبه، فقال أبو زيد الأسلمي: كلا،أمدح الملوك، وأنت تمدح السوق1 فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى إبراهيم بن هشام فأنشده:
ياابن هشام يا أخا الكرام
فقال إبراهيم: وإنما أنا أخوهم، وكأني لست منهم ثم أمر به فضرب بالسياط وامتدح أبو وجزة آل الزبير، فكتبوا إليه بستين وسقاٌ من تمر، وقالوا: هي لك عندنا في كل سنةٍ، فانصرفا، فقال أبو زيد:
مدحت عروقاٌ للندى مصب الثرى ... حديثاٌ فلم تهمم بأن تتزعزها
نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلبت الأيام والدهر أضرعا
ـــــــ
1 السوق: حمع السوقة، وهي من الناس من لم يكن ذا سلطان.

سقاها ذوو الأرحام سجلاًعلى الظما ... وقد كربت أعناقها أن تقطعا
بفضل سجال لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعاٌ وأشبعا
فضمت بأيديها على فضل مائها ... من الري لما أوشكت أن تضلعا
وزهدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها من قبله الفقر جوعا
وقال أبو وجزة:
راحت رواحاٌ قلوصي وهي حامدة ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت بستين وسقاٌ في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ما إن رأريت قلوصاٌ قبلها حملت ... ستين وسقاٌ ولا جابت به بلدا
ذاك القرى، لاقرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا
أما قول أبي زيد لإبراهيم:
"مدحت عروقاٌ للندى مصت الثرى....حديثاٌ.. "
فإنما عنى أن إبراهيم وأخاه محمداً إنما تطمعا بالعيش، ودخلا في النعمة، وخرجا من حد السوق إلى حد الملوك حديثاً، وذلك بهشام بن عبد الملك لأنهما كانا خاليه، وإنما ولاهما عن خمول.
وقوله: "فلم تهمهم بأن تتزعزعا"، فإنما هذا مثل: يقال: فلان يهتزللندى، ويرتاح لفعل الخير كما قال متمم بن نويرة:
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطمعا
وتأويل ذلك أنه يتحرك سرور لفعل الخير.

لأبي رباط في ابنه
قال أبو العباس: وأنشدني التوزي لأبي رباط، يقول لابنه:
رأيت رباطاً حين تم شبابه ... وولى شبابي ليس في بره عتب1
ـــــــ
1 أي بر خالص لا عتب فيه ولا لوم.

إذا كان أولاد الرجال مرارةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه أنيقٌ وجانبٌ ... شديد على الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب1
ـــــــ
1 البارح: الريح.

أعرابي عند عمر بن هبيرة
قال: وحدثني علي بن عبد الله قال: حدثني العتبي قال: أشرف عمر بن هبيرة الفزاري من قصره يوماٌ فإذا هو بأعرابي يرقص جمله الآل1، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إلي، فلما دنا الأعرابي سأله فقال: قصدت الأمير. فأدخله إليه، فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك فقال الأعرابي:
أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر أنحى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
رجوك للدهر أن تكون لهم ... غيث سحاب إن خانهم مطر
قال: فأخذت عمر الأريحية، فجعل يهتز في مجلسه، ثم قال: أرسلوك إلي وانتظروا إذاً والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانماً، فأمر له بألف دينار ورده على بعيره.
قال أبو العباس: وحدثني أبو إسحاق القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الخبر لمعن بن زائدة، وصح ذلك عندي.
وقوله: "نقائذ بؤس2" واحدتها نقيذة. وتأويله أنهم أنقذوا من بؤسٍ، يقال للرجل والمرأة ذلك على لفظ واحد، تقول: هذا نقيذة بؤسٍ، تقع الهاء للمبالغة، لأن أصله كالمصادر، كقولك: زيد مكرمةٌ لأهله، وزيد كريمة قومه، أي يحل محل العقدة الكريمة، والخصلة الكريمة.
ـــــــ
1 الآل: ماتراه في الضحى بين السماء والأرض.
2 من كلمة أبى زيد الأسلمى ص 188.

وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم جرير بن عبد الله البجلي لما ورد عليه، فبسط له رداءه، وعممه بيده، وقال له: "إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه". هكذا روى فصحاء أصحاب الحديث.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وروده عليه: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك".

لصخر بن عمرو بن الشريد
وقال صخر بن عمرو بن الشريد، يعني معاوية أخاه، وكان قتله هاشم ودريد ابنا حرملة المريان من غطفان، فقيل لصخر: اهجهم، فقال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن هجاءهم إلا صوناً لنفسي عن الخنا لفعلت ثم قال:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول: ألا تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا1
وتقول العرب للرجل: رواية ونسابة، فتزيد الهاء للمبالغة، وكذلك علامة وقد تلزم الهاء في الاسم فتقع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد، نحو ربعةٍ ويفعةٍ وصرورةٍ2 . وهذا كثير لا تنزع الهاء منه، فأما رواية وعلامة ونسابة فحذف الهاء جائز فيه، ولا يبلغ في المبالغة ما تبلغه الهاء.
ـــــــ
1 زيادات ر بعد هذا البيت:
إذا ذكر الإخوان رقرقت عبرة ... وحييت رسما عند لثة ثاويا
إذا ما أمرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب العرش عنى معاويا!
وهون وجدى أننى لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
قال الأخفش: وأنشدني الأحول:
ومالى أن أهجوهم ثم ماليا
2 رجل ربعة: بين الطول والقصر. ويفعة: شارف الاحتلام، والصرورة: الرجل الذي لم يحج لوم يتزوج، وأصله من الحبس.

وقوله1:
"وحلبت الأيام والدهر أضرعا"
فإنه مثلٌ، يقال للرجل المجرب للأمور: فلان قد حلب الدهر أشطره أي قد قاسى الشدة والرخاء، وتصرف في الفقر والغنى، كما قال القائل:
قد عشت في الناس أطواراً على طرقٍ ... شتى، وقاسيت فيها اللين والفظعا
كلا بلوت،فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعاً
لا يملا الهول صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
ومعنى قوله:" أشطره" فإنما يريد خلوفه.، يقال: حلبتها شطراً بعد شطرٍ.،وأصل هذا من التنصف، لأن كل خلفٍ عديلٌ لصاحبه. وللشطر وجهان في كلام العرب.، فأحدهما النصف كما ذكرنا، من ذلك قولهم: شاطرتك مالي، والوجه الآخر القصد، يقال: خذ شطر زيدٍ، أي قصده، قال الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي قصده، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2.
قال أبو العباس: وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة قول الشاعر:
إن العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
يريد ناحيتها وقصدها، والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، أي تشيله وترفعه، ومنه سمي الذنب عوسراً، أي تضرب بذنبها. ومعنى ذلك أنه ظهر من جهدها وسوء حالها ما أطيل معه النظر إليها حتى تحسر العينان. والحسير: المعيي، وفي القرآن: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 3 .
وقوله:
"سقاها ذوو الأرحام سجلاً على الظما"
ـــــــ
1 انظر ص 188.
2 سورة البقرة 144.
3 سورة الملك 4.

فالسجل في الأصل الدلو، وإنما ضربه مثلاً لما فاض عليها من ندى أقاربها، يقال للدلو- وهي مؤنثة: سجل وذنوب، وهما مذكران، والغرب مذكر وهو الدلو العظيمة، ويقال: فلان يساجل فلاناً، أي يخرج من الشرف مثل ما يخرج الآخر، وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحدٍ منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر،فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وبين ذلك الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في قوله:
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو يستقي، وينشد هذا الشعر،فسرا الفرزدق ثيابه عنده، ثم قال: أنا أساجلك- ثقةً منه بنسبه- فقيل له: هذا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. فرد الفرزدق ثيابه عليه ثم قال: ما يساجلك إلا من عض بأير أبيه. يقال: سرا ثوبه ونضا ثوبه في معنى واحد، إذا نزعه، ويقال: سرى عليه الهم إذا أتى ليلاً، وأنشد:
"سرى همي وهم المرء يسري1"
وسرى همه إذا ذهب عنه. والمواضخة مثل المساجلة، قال العجاج:
"تواضخ التقريب قلواً مخلجاً"
أي تخرج من العدو ما يخرج.، قال الله عز وجل على مخرج كلام العرب وأمثالهم {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} 2 وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك.
وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر الغساني: "قال أبو الحسن: غير أبي العباس يقول شمرٌ، وبعضهم يقول شمرٌ "وكان أخوه أسيراً عنده، وهو
ـــــــ
1 بقية البيت كما في زيادات ر:
وغار النجم إلا قيد؟
وفيها: "البيت لعروة بن أذينة الليثى شيخ مالك بن أنس".
2 سورة الذاريات 59.

شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ. [قال أبو الحسن: غيره يقول إباغ، بالكسر] في الواقعة التي كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء، في كلمةٍ له مدحه فيها:
وفي كل حي قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فقال الملك: نعم وأذنبةٌ .وقوله:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعا"
يقول: سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطع عطشاً، وكرب في معنى المقاربة، يقال: كاد يفعل ذلك، وجعل يفعل ذلك، وكرب يفعل ذلك، أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته، أي قد دنت منه وقربت. فأما أخذ يفعل، وجعل يفعل، فمعناهما أنه قد صار يفعل، ولا تقع بعد واحدة منهما: "أن" إلا أن يضطر شاعرٌ، قال الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1 أي لم يقرب من رؤيتها، وإيضاحه: لم يرها ولم يكد، وكذلك: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2، وكذلك: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} 3 بغير "أن" . ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميراً، وكاد المنتعل يكون راكباً وقد اضطر الشاعر فأدخل "أن" بعد "كاد"، كما أدخلها هذا بعد "كرب" فقال:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعها"
وقال رؤبة:
"قد كاد من طول البلى أن يمصحا4"
ـــــــ
1 سورة النور 40.
2 سورة النور 43.
3 سورة التوبة 117.
4 يمصح: يدرس.

فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى، قال الشاعر:
أغثني غياثاً يا سليمان إنني ... سبقت إليك الموت، والموت كاربي
خشية جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب!
وقوله: "لما أوشكت أن تضلعا": يقول: لما قاربت ذلك، والوشيك القريب من الشيء والسريع إليه، يقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا، والماضي منه أوشك، ووقعت بأن وهو أجود، وبغير "أن" كما كان ذلك في" لعل"، تقول: لعل زيداً يقوم، فهذه الجيدة، قال الله عز وجل: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} 1، و{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2 و{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 3 وقال تميم بن نويرة:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الآئي يدعنك أجدعا
وعسى، الأجود فيها أن تستعمل بأن، كقولك: عسى زيد أن يقوم، كما قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} 4 وقال جل ثناؤه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 5 ويجوز طرح "أن "وليس بالوجه الجيد، قال هدبة:
عسى الكر بالذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وقال آخر6:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرباب سكوب
وحروف المقاربة لها باب قد ذكرناها فيه على مقاييسها في الكتاب المقتضب بغاية الاستقصاء.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب 63.
2 سورة طه 44.
3 سورة الطلاق 01
4 سورة المائدة 52.
5 سورة التوبة 102.
6 هو سماعة بن أشول النعامي.

وقوله: "أن تضلعا"،معناه أن تمتلئ، وأصله أن الطعام والشراب يبلغان الأضلاع فيكظانها1،كذلك قال الأصمعي في قولهم: أكل حتى تضلع.
وأما قول أبي وجزة: "راحت بستين وسقاً" فالوسق خمسة أقفزةٍ بملجم2 البصرة، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فما كان أقل من خمسة وعشرين قفيزاً بالقفيز الذي وصفنا، وهو نصف القفيز البغدادي في أرض الصدقة فلا صدقة فيه، وإنما أراد: أنه أخذ الكتاب بهذه الأوسق، فلذلك قال:
ما إن رأيت قلوصاً قبلها حملت ... ستين وسقاً ولا جابت به بلدا
وأما قوله:
يقرون ضيفهم الملوية الجددا
فإنما أراد السياط، وجمع جديدٍ جددٌ، وكذلك باب "فعيل" الذي هو اسم، أو مضارع للاسم، نحو قضيب وقضيب، ورغيفٍ ورغفٍ، وكذلك سرير وسررٌ وجديدٌ وجددٌ، لأنه يجري مجرى الأسماء، وجريرٌ وجررٌ، فما كان من المضاعف جاز فيه خاصةً أن تبدل من ضمته فتحة لأن التضعيف مستثقلٌ، والفتحة أخف من الضمة، فيجوز أن يمال إليها استخفافاً، فيقال: جددٌ وسررٌ، ولا يجوز هذا في مثل قضيب لأنه ليس بمضاعفٍ، وقد قرأ بعض القراء: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 3 ، ويقال للسوط: الأصبحي، ينسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان أول من اتخذ هذه السياط التي يعاقب بها السلطان، ويقال له: العرفاص والقطيع. وقال الشماخ:
تكاد تطير من رأي القطيع
وقال الصلتان العبدي:
أرى أمةً شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
ـــــــ
1 من الكظة.
2 مكيال لأهل البصرة.
3 سورة الواقعة 15.

وقال الراعي:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما ًمغلولا
وقال الراجز:
حتى تردى طرف العرفاص
وقوله: "ولا جابت به بلدا"، يقول: ولا قطعت به، يقال: جبت البلاد، وقال الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}1 . ويقال: رجل جواب جوالٌ. وأنشدني علي بن عبد الله، قال: أنشدني القحذمي:
ما من أتت من دون مولده ... خمسون بالمغدور بالجهل
فإذا مضت خمسون عن رجلٍ ... ترك الصبا ومشى على رسل
وأمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة بقتل مرة بن محكان السعدي، فقال مرة في ذلك:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبةً ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
قوله: "إذا الحرب العوان" فهي التي تكون بعد حربٍ قد كانت قبلها، وكذلك أصل العوان في المرأة إنما هي التي قد تزوجت، ثم عاودت فخرجت عن حد البكر، وقول الله عز وجل في كتابه العزيز: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} 2 هو تمام الكلام، ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والفارض ههنا: المسنة، والبكر الصغيرة، ويقال: لهاةٌ فارضٌ أي واسعة، وفرض القوس موضع معقد الوتر، وكل حز فرضٌ، والفرضة متطرقٌ إلى النهر، قال الراجز:
لها زجاجٌ ولهاة فارض
وقوله" اشمعلت، إنما هو ثارت فأسرعت، قال الشماخ:
ـــــــ
1 سورة القجر 9.
2 سورة البقرة 68.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7