كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

ومن بني كنانة بن تيم بن أُسامة: إياس بن عَيْنان بن عَمْرو بن مُعاوية قاتل عُمَير بن الحُباب، وله يقول زُفر بن الحارث:
ألا ياكَلْب غيرُكِ أَرْجَفُوني ... وقد أَلصقتُ خَدَّك بالتَّرابِ
ألا يا كَلْب فانتِشري وسُحِّي ... فقد أودَي عُمير بن الحُبَاب
رِمَاح بني كِنَانة أَقْصَدَتْني ... رماحٌ في أعاليها اضطرابُ
ومن بني حارثة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب: الهُذَيل بن هُبَيرة، وهو الذي تقول فيه نَهِيشة بنت الجَرّاحِ البَهْراني تُعيِّر قُضاعة:
إذا ما مَعْشرٌ شرِبُوا مُدَاماً ... فلا شَربتْ قضاعةُ غَيْرَ بَوْل
فإمّا أن تَقُودوا الخيلَ شُعْثاً ... وإمّا أن تَدِينُوا للهُذَيْل
وتَتَّخِذوه كالنُّعمان رَبّاً ... وتُعْطُوه خُرَاج بني الدُّمَيْل
الدُّميلُ ابن لَخْم.
ومن عَدِيّ بن معاوية بن غنم بن تَغْلب: فارس العَصَا، وهو الأخْنَس ابن شهاب.
ومن بني الفَدَوْكس بن عمرو بن الحارث بن جُشَم: الأخْطل الشاعر النَّصراني. ومنهم: قَبيصة بن والق، له هجْرة قَتله شَبيب الحَرُوريّ، وكان جواداً كريماً، فقال شبيب حين قتله، هذا أعظمُ أهل الكُوفة جَفْنة، فقال له أصحابُه: أَتُطْرِِى المُنافقين؟ فقال: إن كان مُنافقاً في دِينه، فقد كان شريفاً في دنياه.
ومن الأوس بن تغلب: كعب بن جُعَيل الذي يقول فيه جَرير:
وسُمِّيت كَعْباً بسَتْر الطَّعام ... وكان أبوك يُسمَّى الجُعَل
وكان مَحلُّك من وائل ... محلَّ القراد من اسْت الجمَل
فهذه تَغْلب ليس لها بطون تُنْسَبَ إليها كما تُنْسب إلى بطون بكْر بن وائل لأن بكراً جُمْجمة، وَتَغْلب غير جُمْجمة.

بكر بن وائل
القبائل من بكْر بن وائل: يَشْكر بن بكر بن وائل، وعِجْل وحَنيفة ابنا لُجيْم بن صَعْب بن عَليّ بن بَكر بن وائل، وشَيْبان وذُهَل وقَيس، بنو ثَعْلبة بن عُكَابة بن صَعْب بن عليّ بن بَكْر بن وائل، وأُمهم البَرْشاء، من تَغْلب.
يَشْكُر بن بكر - منهم: الحارث بن حِلّزة الشّاعر، ومنهم: شِهَاب بن مَذْعور بن حِلّزة، وكان من عُلماء الأنْساب، ومنهم: سُوَيد بن أبي كاهل الشاعر.
عِجْل بن لُجيم - منهم: حَنظلة بن ثَعْلبة بن سَيّار، كان سيّد بني عِجْل يوم ذي قار، ومنهم: الفُرات بن حَيّان. له صُحْبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: إدريس بن مَعْقِل، جَدّ أبي دُلف، ومنهم شَبَابة بن المُعْتمر بن لَقِيط، صاحب الدِّيوان، ومنهم: الأغلب الرَّاجز، ومنهم: أبْجر بن جابر بن شريك، وَفَد على عُمَر بن الخطّاب رضي الله عنه.
حَنِيفة بن لُجيم - وُلد له الدِّيل وعَدِيّ وعامر. فمن بني الدِّيل بن حَنِيفة: قَتَادةُ بن مَسْلمة، كان سيّداً شريفاً، ومنهم: ثُمامة بن أثال بن النُّعمان بن مَسْلمة، ومنهم: هَوْذة بن عليّ بن ثمامة، الذي يقول فيه أعْشى بَكْر:
مَن يَلْق هَوْذة يَسْجُد غيرَ مَتَّئبٍ ... إذا تَعَصَّب فَوقَ التاج أو وَضَعَا
ومن بني الدِّيل بن حنيفة: شَمِر بن عَمْرو، الذي قَتل المُنذرَ بن ماء السماء يومَ عَينْ أُبَاغ، ومنهم: بنو هِفّان بن الحارث بن ذُهْل بن الدِّيل، وبنو عُبَيد بن ثَعْلبة، ويَرْبوع بن ثَعْلبة بن الدِّيل. وبنو أبي ربيعة، في شَيْبان، سيّدهم هانئ بن قَبِيصة.
شَيْبان بن ثَعْلبة بن عُكابة - منهم: جَسّاس بن مُرّة بن دهل بن شَيْبان، قاتل كُلَيب بن وائل، وهَمّام بن مُرّة بن ذهْل بن شَيْبان، وقَيس بن مسعود بن قَيْس بن خالد، وهو ذو الجَدّين، وابنه بِسْطام بن قَيْس، فارس بني شَيبان في الجاهليّة، وقد رَبَع الذُّهْلَين والِّلهازم اثنى عشر مِرْباعا، ومنهم: هانِيء بن قَبِيصة بن هانئ بن مَسْعود بن المُزْدلف، عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شَيبان، الذي أجار عِيَال النُعمان بن المُندر ومالَه عن كِسْرى، وبِسَببه كانت وَقْعة ذِي قَار، ومنهم: مَصْقلة بن هُبَيرة، كان سيّداً شريفاً، وفيه يقول الفَرزدق:
وبَيْت أبي قابُوس مَصْقَلَة الذي ... بَنى بيت مَجْدٍ إسمه غير زائل
وفيه يقول الأخْطل:
دع المُغمَّر لا تقْتل بمَصرْعه ... وسَلْ بمَصْقلة البَكْرِيّ ما فَعَلاَ

بمتلفٍ ومُفيدٍ لا يَمنَّ ولا ... يُعنِّف الَنفسُ فيما فاتَه عَذَلا
إنّ ربيعة لا تَنْفك صالحةً ... مادَافع الله عن حَوَبائك الأجلا
ومن ذهل بن شَيبان: عَوْف بن مُحلَم، الذي يُقال فيه: لاحرّ بوادي عَوْف، والضّحّاك بن قَيس الخارجيّ، والمُثَنَى بنُ حارثة، ويَزيد بن رُزَيم، ومنهم: الغَضْبان بن القَبَعْثَري، ويَزيد بن مِسْهَر أبو ثابت، الذي ذكره الأعْشى، والحَوْفَزَان، وهو حارثهُ بن شريك، ومَطَر بن شريك، ومن وَلده: مَعن بن زائدة، وشَبِيب الحَروري.
ذُهل بن ثَعلبة بن عُكَابة - منهم الحارثُ بن وَعْلة، وكان سيِّداً شَريفاً، ومن وَلده: الحُضَيْن بن المنْذر بن الحارث بن وَعْلة، صاحب راية رَبِيعة بِصفّين مع عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وله يقول عليّ:
لمِن رايةٌ سَوْدَاءُ يَخْفِق ظِلُّها ... إذا قِيلِ قَدِّمها حُضَيْنٌ تَقَدَمَا
ومنهم: القَعْقَاع بن شَوْر بن النُّعمان، كان شر يفاً، ومنهم: دَغْفَل بن حَنْظلة العَلاّمة، كان أعلمَ أهل زَمانه، وهؤلاء من بني ذهل بن ثَعْلبة بن عُكابة، أمهم رَقَاشٍ، وإليها يُنسبون، ومنها - يقال - الحضَيْن بن المنذِر بن الحارث بن وَعْلة الرقاشي.
قيس بن ثَعلبة بن عُكابة - منهم: الحارث بن عَبّاد بن ضُبَيعة بن ثَعْلبة ابن حارثة، كان على جَماعة بَكْر بن وائل يوم قِضَة، فأسر مُهلهل بن رَبيعة وهو لا يَعْرفه فَخَلّى سبيلَه، ومنهم: مالك بن مِسْمَع بن شَيبان بن شهاب، يُكْنَى أبا غَسّان؛ ومنهم: الأعشى أعشى بكر، وهو من بني تَيْم اللات من قَيس بن ثعلبة بن عُكابة؛ ومن بني تيم اللات أيضاً: مَطر بن فِضة، وهو الجَعْد بن قَيس، كان شريفاً سيداً؛ وهو الذي أسر خاقان الفارسيّ بالقادسيَّة، ومن ولده: عُبيد الله زياد بن ظَبْيَان.
سَدُوس - منْ شَيبان بن ذُهْل بن ثَعْلبة بن عُكابة. منهم: خالد بن المعمَر ومَجْزأَة بن ثَوْر، وأخوه شَقِيق بن ثَوْر، وابن أخيه سُوَيد بن مَنْجُوف ابن ثَوْر، وعِمْران بن حِطَّان.
اللهازم: وهم عَنَزَة بن أسد بن ربيعة. وعِجْل بن لُجَيم، وتَيْم الله وقيس ابنا ثَعْلَبة بن عُكابة بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل، وهم حُلفاء. والذَّهلان: شَيبان وذهل، ابنا ثَعْلبة بن عُكابة. وأم عِجْل بن لُجَيم يقال لها حَذَام، وفيها يقول لُجَيم:
إذا قالتْ حَذَام فَصَدِّقوها ... فإنّ القَوْل ما قالت حَذام
انقضى نسب رَبيعة بن نِزَار.

إياد بن نزار
وَلَد إيادُ بن نزار زهْراً ودُعْمِياً ونمَارة وثَعْلبة. فولد نِمَارةُ الطمَاحَ، ولهم يقول عَمْرو بن كُلْثوم:
أَلا أَبْلِغ الطَّمِّاح عَنَّا ... ودُعْمِيَّاً فكيف وَجَدْتُمُونا
ووَلدَ زُهر بن إياد خذافةَ، رَهْط أبي دُوَاد الشاعر. وأمَّا أنْمَار بن نزار بن مَعَدّ فلا عِقب له إلا ما يقال في بَجيلة وخَثْعم، فإنه يقال: إنهما ابنا أنمار بن نِزَار وتَأْبىَ ذلك بَجِيلة وخثْعم ويقولون: إنّما تَزوَج إراش بنُ عَمْرو بن الغَوْث، ابن أخِي الأزْد بن الغَوْث، سَلامَة بنت أنمار، فوَلدت له أنمار بن إراش، فَنَحن وَلده، وقال حَسّان بن ثابت:
وَلَدنا بَني العَنْقاء وَابن مُحَرِّق
أراد بالعَنْقاء ثَعلبة بن عمرو مُزيْقِيَاء، سُمِّى العنقاء لطُول عنقه، ومُحَرِّق هو الحارث بن عمرو مُزِيقياء، وكان أول الملوك أَحْرق الناس بالنَار، والوِلادة التي ذَكرَها حَسّان، أنّ هِنْداً بنت الخَزرج بن حارثة كانت عند العَنْقاء فَوَلدت له وَلَدَه كلَهم، وكانت أختُها عند الحارث بن عَمْرو فَوَلدتْ له أيضاً. انقضى نَسب بني نِزَار بن مَعدّ.
القبائل المشتبهة

الدُّئِل، في كِنانة، والدُّئل بن حَنِيفة، في بكر بن وائل؛ منهم: قتادة ابن مَسْلمة، وهَوْذة بن عليّ، صاحب التاج الذي يَمدحه أَعشى بَكْر بن وائل. سَدُوس، في ربيعة، وهو سَدُوس بن شَيْبان بن بَكْر بن وائل؛ منهم: سُويد ابن مَنْجُوف؛ وسُدُوس، مرفوعة السين، في تميم، وهو سُدُوس بن دارم. مُحارب بن فِهْر بن مالك، في قريش؛ ومُحَارب بن حَصَفَة، في قَيس؛ ومُحارب ابن عَمْرو بن وَدِيعة، في عبد القَيس غاضِرَة، في بني صَعصعة بن مُعاوية؛ وغاضرة في ثَقِيف. تَيم بن مُرَّة، في قريش؛ رَهْط أبي بكر؛ وتيم بن غالب بن فِهْر، في قريش أيضاً، وهم بنو الأدرَم؛ وتَيم بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة، في مُضر؛ وتيم بن ذهل، في ضَبَّة؛ وتيم، في قيس بن ثَعْلبة؛ وتيم، في شَيبان. وتيم الله بن ثعلبة ابن عُكابة، في النمِر بن قاسط. كِلاب بن مُرّة في قُرَيش؛ وكِلاَب بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَة، في قَيس. عَدِيّ بن كَعْب، في قُرَيش، رَهْطُ عُمر ابن الخَطّاب؛ وعَدِيّ بن عَبْد مَناة، من الرباب، رَهْط ذي الرمة؛ وعَدِيّ، في فَزَارة؛ وعَدِيّ، في بني حَنِيفة. ذهْلِ بن ثَعْلبة بن عُكابَة، وذُهْل بن شيْبان، وذهل بن مالك، في ضبَّة. ضُبَيْعة، في ضبّة، وضُبَيعة، في عِجْل، وضبَيعة، في قَيس بن ثَعْلبة، وهم رَهْط الأعشى. مازِن، في تَميم، ومَازِن، في قيس عَيْلان، وهم رَهْط عُتْبة بن غَزْوان؛ ومازن، في بني صَعْصعة بن مُعاوية؛ ومازن، في شَيْبان. سَهْم، في قُرَيش؛ وسَهْم، في باهلة. سَعْدُ بن ذبْيان؛ وسَعْد بن بَكر، في هَوَازن، أظْآر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وسَعْد، في عِجْل، وسَعْد بن زَيْد مناة، في تميم. جُشم، في مُعاوية بن بَكْرِ؛ وجُشْم، في ثَقِيف؛ وجُشم، في الأراقم. بنو ضَمْرة، في كِنانة؛ وبنو ضَمْرة، في قُشيْر. دُودَان، في بني أَسد؛ ودُودان، في بني كِلاب. سُلَيم، في قَيْس عَيْلان، وسُليم، في جُذام، من اليمن. جَدِيلة، في رَبيعة؛ وجَدِيلة، في طيّئ؛ وجَدِيلة، في قَيس عَيْلان. الخَزْرج، في الانْصار؛ والخَزْرجِ، في النَمر بن قاسط. أسَد: ابن خُزَيمة بن مُدْركة؛ وأَسَد: ابن رَبيعة بن نِزَار. شقْرة بن ربيعة، في ضَبة، وشَقِرة، في تَميم، ربيعة: رَبيعة الكُبرى، وهو رَبيعة بن مالك بن زَيْد مَناة، ويُلَقب رَبيعة الجُوع؛ وربيعة الوُسْطى، وهو رَبيعة بن حَنْظلة بن مالك بن زَيد مَناة؛ ورَبيعة الصُّغْرى، وهو رَبيعة بن مالك بن حَنْظلة، وكل واحد منهم عَمُّ الآخر.

مفاخرة ربيعة
قال عبدُ الملك بن مَرْوان يوماً لجُلسائه: خَبَروني عن حَيّ من أحياء العَرب، فيهم أشدُّ الناس وأَسْخَى الناس وأَخْطب الناس وأَطْوع الناس في قومه، وأَحْلم الناس وأَحْضَرهم جواباً؛ قالوا: يا أميرَ المؤمنين، ما نَعْرف هذه القبيلَة، ولكنْ يَنْبَغي لها أن تكون في قريش؛ قال: لا، قالوا: ففي حِمْير ومُلوكها، قال: لا، قالوا: ففي مُضر، قال: لا، قال: مَصْقلة بن رُقَيّة العَبْدي: فهي إذا في رَبيعة ونحن هم؛ قال: نعم. قال جلساؤه: ما نَعْرِف هذا في عَبْد القَيس إلا أن تُخْبرنا به يا أمير المؤمنين. قال: نعم، أمّا أشدُّ الناس، فَحَكِيم بن جَبَل، كان مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقُطعت ساقُه فضمَّها إليه حتى مَر به الذي قَطعها فرماه بها فجدَّله عن دابته، ثم جَثا عليه فقتله واتّكأ عليه، فمرّ به الناسُ، فقالوا له: يا حَكِيم، مَن قطع ساقك؟ قال: وِسَادي هذا، وأَنشأ يقول: يا ساقُ لا تُرَاعِي إنّ معي ذِرَاعِي أَحْمِي بها كُرَاعِي

وأمّا أَسْخَى الناس: فعبدُ الله بن سَوّار، استعمله مُعاوية على السِّنْد، فسار إليها في أَرْبعة آلافٍ من الجُند، وكانت تُوقد معه نارٌ حيثُما سار، فَيُطْعم الناس، فبينما هو ذاتَ يوم إذ أَبْصر ناراً، فقال: ما هذه؟ قالوا: أَصْلح الله الأمير، اعتلّ بعضُ أصحابنا فاشتهى خَبِيصاً فَعَمِلْنا له؛ فأمر خَبّازه أن لا يُطْعِم الناس إلا الخبيصَ، حتى صاحُوا وقالوا: أَصْلح الله الأميرَ، رُدَّنا إلى الخُبْز واللَحم، فسُمَّى: مُطْعِم الخَبِيص. وأما أطوع الناسُ في قَوْمه: فالجارُود بِشْر بنُ العَلاء، إنّه لما قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وارتدّت العربُ خَطب قومَه فقال: أيها الناس، إنّ كان محمد قد مات فإن الله حَيٌّ لا يموت، فاسْتَمْسِكوا بدِينكم، فمَن ذَهب له في هذه الردة دِينار أودرهم أو بَعير أو شاة فله عليّ مِثْلاه، فما خالفَه منهم رجل. وأمّا أحْضر الناس جواباً، فَصَعْصعة بن صُوحان، دَخل على مُعاوية في وَفْد أهل العِرَاق، فقال مُعاوية: مَرحبا بكم يا أهلَ العراق، قدِمْتم أرض الله المُقدَّسة، منها المنشر وإليها المَحْشر، قَدِمْتم على خير أمير يَبر كَبيركم، ويَرحم صَغِيركم، ولو أنّ الناسَ كلَهم ولدُ أبي سُفيان لكانوا حُلَماء عُقَلاَء. فأشار الناسُ إلى صَعْصعة، فقام فَحِمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما قولُك يا مُعاوية إنّا قَدِمنا الأرضَ المُقَدسة، فَلَعَمْري ما الأرضُ تقدَّس الناسَ، ولا يُقَدِّس الناسَ إلاّ أعمالُهم، وأمّا قولُك المَنَشر وإليها المَحْشر، فَلَعمري ما يَنْفَع قُرْبُها ولا يَضُرّ بُعْدها مُؤِمِناً، وأمَّا قولك لو أنّ الناس كلَهم وَلد أبي سفيان لكانوا حُلماء عقلاء، فقد وَلَدهم خيْرٌ من أبي سُفْيان، آدمُ صَلَواتُ الله عليه، فمنهم الحليم والسَّفيه والجاهلُ والعالم. وأمَّا أحلم النَّاس، فإنّ وَفْدَ عبد القَيْس قَدِموا على النبىِّ صلى الله عليهم وسلم بصَدَقاتهم وفيهم الأشجّ، ففرّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وهو أول عَطاء فرّقه في أصحابه، ثم قال: يا أشج، ادنُ منِّي، فَدَنا منه، فقال: إنَّ فيك خَلِّتين يُحبهما الله، الأناة والحِلْم، وكَفي برسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً. ويُقال إنّ الأشج لم يَغْضَبْ قَطّ.

جمرات العرب
وهم بنو نُمَير بن عامر بن صعصعة، وبنو الحارث بن كَعْب بن عُلة بن جَلْد وبنو ضَبّة بن أُدّ بن طابخة، وبنو عَبْس بن بَغِيض، وإنما قيل لهذه القبائل جَمَرات، لأنها تجمّعت في أَنْفُسها ولم يُدْخِلوا معهم غيرَهم. والتَّجْمير: التَجْمِيِعِ، ومنه قيل: جَمْرة العَقبة، لاجتماع الحَصىَ فيها؛ ومنه قيل: لا تُجمّروا المُسلمين فتفتِنوهم وتَفْتِنوا نساءهم، يعني لا تَجْمعوهم في المَغازي. وأبو عُبيدة قال في كِتاب التاج: أُطْفِئت جَمْرتان من جَمَرات العرب: بنو ضَبَّة، لأنها صارت إلى الرِّباب فخالَفتها، وبنو الحارث، لأنها صارت إلى مَذْحج فحالَفتها، وبَقيت بنو نُمير إلى الساعة لم تُحالف ولم يَدْخلِ بينها أحد. وقال شاعرُهم يَردّ على جَرِير:
نُميرٌ جَمرَةُ العرب التي لمٍ ... تَزَلْ في الْحَرب تَلْتَهِبُ آلْتِهابَا
وإنّي إذْ أَسُبّ بها كليباً ... فتحتُ عليهمُ للخَسْفِ بابا
فلولا أن يُقال هَجا نُميراً ... ولم نَسْمع لشاعرها جَوابا
رَغِبْنا عن هِجاء بَني كُلَيب ... وكيف يُشاتم الناسُ الكِلابا
أنساب اليمن

قَحْطان بن عابَر، وعابَر هو هُود النبي صلى الله عليه وسلم، ابن شالخ بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نٌوح عليه السلامُ ابن لَمْك بن مَتوشَلَخِ بن أَخْنُوخ، وهو إدريس النبي عليه السلامُ، ابن يَرْد بن مَهْلاَبيل بن قَيْنان بن أنُوش ابن شِيث، وهو هِبَة الله، ابن آدم أبي البَشر صلى الله عليه وسلم فولد قَحْطان: يَعرُب، وهو المُرعف. وسَبَأ والمسلف والمِرْداد ودِقْلى وتَكْلا وأبيمال وعُوبال وأُزَال وهَدُورام وهو جُرهم. وأُوفير وهُوَيلا ورَوْح وإرَم ونُوبت، فهؤلاء ولد قَحْطان فيما ذَكر عبدُ الله بن مَلاذ. وقال الكَلْبي محمد بن السَّائب: وَلَد قَحْطان المُرعف، وهو يَعْرُب، ولأي وجابر والمُتَلَمِّس والعاصي والمُتَغَشّم وعاصِب ومُعوِّذ وشِيم والقُطامي وظالم والحارث ونُباته، فَهَلك هؤلاء إلا ظالماً فإنه كان يَغزو بالجُيوش. وقال الكلبي: وَلَد قَحْطان أيضاً جُرْهُماً وحَضرموت، فمن أشراف حَضرموت بن قَحْطان: الأسود ابن كَبِير، وله يقول الأعشى قصيدته التي أولها: ما بُكاء الكَبير بالأطْلالَ ومنهم: مَسروق بن وائل، وفيه يقول الأعشى:
قالت قُتَيْلة مَنْ مَدَح ... تَ فقُلتُ مَسروق بن وائلْ
فولد يَعْرب بن قَحْطان: يَشْجُب؛ ووَلَد سَبَأ: حِمْيراً وكَهْلان وصَيْفِيا وبِشْراً ونَصْرِاً وأَفْلَح وزَيْدَان والعَوْد ورُهما وعَبد الله ونُعمان ويَشْجُب وشدّاداً ورَبيعة وِمالكاً وزَيْداَ، فيُقال لبني سَبَأ كلهم: السبِئيّون، إلا حِمْيراً وكَهْلان، فإنّ القبائل قد تفَرّقت منهما، فإذا سألتَ الرجلَ: ممن أنت؟ فقال: سَبَئيّ، فليس بِحِمْيريّ ولا كَهْلانيّ.

حمير
حِمْير بن سَبَأ بنِ يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان. فَوْلد حِمْير بن سَبأ مَسرُوحاً ومالكاً والهَمَيْسَع وزَيْداَ وأَوْساً وعَرِيباً ووائلاً ودِرْميّاً وكَهْلان وعَميكرب ومَسْروحاً ومُرة رَهْط مَعْدِيكري بن النُّعمان القَيْل الذي كان بحضَرموت. فمن بطون حِمْير: مَعْدان بن جُشَم بن عبد شَمْس بنِ وائل بن الغَوْث بن قَطن بن عَرِيب، ومِلْحان بن عَمْرو بن قَيْس بن مُعاوية بن جُشم بن عَبد شَمس بن وائل، رَهْطُ عامر الشعْبي الفقِيه، وعِدَاد بن ملحان وشَيبان في هَمْدان، فمَن كان مِنْهم باليَمن فهو حِمْيري، ويُقال له شَيْباني.
ومن بطون حِمْير: شَرْعَب بن قَيسْ بن مُعاوية بن جُشَم بن عَبْد شَمْس، وإليه تًنْسب الرِّماح الشَرْعَبية.
ومن بطون حِمْير: الدُّرون، وقد يُقال لهم الأذواء. وأيضاً: رَمْدد، فمنهم: بنو فَهْد وعبدُ كُلال وذو كَلاَع - وهو يَزِيد بن النُّعمان، وهو ذو كَلاَع الأكبر. يقال: تكَلَّع الشيء: إذا تَجَمَّع - وذو رُعَين، وهو شرَاحيل بن عَمْرو، القائل:
فإن تَكُ حِمْيرغَدَرَت وخانَتْ ... فمعذرةُ الإله لِذِي رُعَيْنِ
ذو أَصبح: واسمه الحارث بن مالك بن زَيْد بن الغَوْث، وهو أوَّل من عُمَلت له السِّياط الأصبْحَية. ومن وَلده: أبْرهة بن الصبّاح، كان مَلِك تِهامة، وأُمه رَيْحانه بنت أَبْرهة الأشرم ملك الحَبْشة، وابنه أبو شَمِر، قتِل مع عليّ بن أبي طالب يوم صِفِّين؟ وأبو رُشْدين كُرَيب بن أَبْرهة، كان سيِّد حِمْير بالشام زَمَن مُعاوية؛ ومنهم: يَزِيد بن مُفرِّغ الشاعر.
ذو يَزَن، واسمه عامر بن أَسْلم بن زَيْد بن الغَوْث بن قَطَن بن عَرِيب؛ ومنهم: النُعمان بن قَيْس بن سَيْف بن ذِي يَزَن، الذي نَفي الحَبشة عن اليَمن، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن اشترى حُلّة ببضْع وعشرين قَلُوصاً، فأَعطاها إلى ذي يَزَن، وإلى ذي يَزَن تنْسب الرِّماح اليَزَنية.
ذو جَدَن، وهو عَلَس بن الحارث بن زَيْد بن الغَوْث. ومن وَلده: عَلْقمة بن شرَاحِيل ذو قَيْفَان، الذي كانت له صَمْصامة عَمْرو بن مَعْدِيكري، وقد ذكره عَمْرو في شِعْره حيث يقول:
وسَيْفٌ لابن ذي قَيْفان عِنْدي ... تخبر َنَصْلُه من عَهْد عاد

حَضُور بن عَدِيٍ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل بن عَمرو بن قَيْس بن معاوية، وهم في هَمْدان. فمن حَضور: شُعَيب بن ذي مِهْذَم، النبي الذي قَتله قومُه، فسلَّط الله عليهم بُخْتَنصَر فقَتَلَهم، فلم يَبْقِ منهم أحد، فاصطلمت حَضُور، ويقال: فيهم نزلت: " فَلًمّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ " إلى قوله " خَامِدِينَ " . فيقال إن قبر شُعَيب هذا النبي في جَبل باليمن في حَضُور يقال له ضِين، ليس باليَمن جَبل فيه مِلْح غيرُه، وفيه فاكهة الشام، ولا تَمُرّ به هامَة من الهَام.
الأوزاع - وهو مَرْثد بن زَيْد بن زُرعة بن سبَأ بن كَعْب، وهم في هَمْدان إلاّ جُرَش بن أَسْلم بن زَيْد بن الغَوْث الأصغر بن أَسْعد بن عوف: شُجَيج بن عَدِيّ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل بن عَمْرو، وصَيْفي بن سَبأ الأصغر ابن كَعْب بن زيد بن سَهْل بن تُبَّع، وهو أسعد أبو كَرِب.
التبابعة - تُبَّع الأصغر أسعد أبو كَرِب، واسمه تِبان بن مَلْكِيكَرِب، وهو تُبَّع الأكبر بن قَيس بن صَيَفي، ومَلْكِيكَرِب تُبَّع الأكبر يُكنى أبا مالك، وله يقول الأعشى:
وخان الزمانُ أبا مالكٍ ... وأيُّ امرءٍ لم يَخُنْهُ الزَّمَنْ
ومن بني صَيفي بن سبَأ بِلْقيس، وهي بَلْقَمة بنت آل شرخ بن ذي جَدَن ابن الحارث بن قيس بن سَبأ الأصغر، ومنهم: التَبابعة وهم تسعة، منهم: تُبَّع الأصغر وتُبَّع الأكبر، ومنهم المَثامِنة، وهم ثمانية رَهْط وُلاة العهود بعد الملوك، ومن المَثامِنة أربعة آلاف قَيل، والقَيل الذي يكلِّم الملِك فيَسمع كلامَه ولا يكلَم غيرَه، ومنهمِ أبو فُرَيْقِيش بن قيس بن صَيفي، الذي آفتتح إفريقية فسُمِّيت به، ويَوْمئذ سُميت البرابرة، وذلك أنهم قالوا: إنه قال لهم: ما أكثر بَربَرَتكُم.
قضاعة - هو قُضاعة بن مالك بن عَمْرو بن مُرٌة بن زَيْد بن مالك ابن حِمْير، واسم قُضَاعة عمرو. فمن قبائل قضَاعة وبطونها وجماهيرها: كلبْ ابن وَبْرة بن ثعلب بن حُلْوان بن عْمِران بِن الحاف بن قُضَاعة، وذلك أنّ وبْرَة وُلد له كَلْب وأسد ونَمِر وذِئْب وثَعْلَب وفَهْد وضبُع ودُبّ وسِيد وسِرْحان.
فمن أشراف كَلْب: الفُرافِصة بن الأحْوص بن عَمْرو بن ثَعْلبة، وهو الذي تَزَوِّج عثمانُ بن عَفّان ابنته نائلةَ بنت الفُرافصة؛ ومنهم: زُهير بن جَناب بن هُبل بن عبد الله بن كِنانة؛ ومن أسلافهم في الإسلام؟ دِحْية بن خَليفة الكَلْبي، وهو الذي كان جبريلُ عليه السلام يَنْزِل في صُورته؛ ومنهم: حَسان بن مالك بن جَذِيمة.
ومن قضَاعة: القَينْ بنُ جَسْر بن شَيْع اللات بن أسَد بن وَبْرة. فمن أشراف القَينْ: دَعْج بن كُثَيف، وهو الذي أسر سِنَان بن حارثة المُرِّي؛ ومنهم: نديما جَذِيمة وهما: مالك وعَقِيل ابنا فارج، ولهما يقول المُنخَّل:
ألم تَعْلَمي أن قد تَفَرَّق قَبْلَنَا ... خَلِيلا صَفاءِ مالكٌ وَعَقِيلُ
ومنهم: سَعْد بن أبي عمرو، وكان سيد بني القَينْ ورئيسَهم.
ومن قضاعة تَنُوخ، وهم ثلاثة أبطُن، منهم: بنو تَيم الله بن أسد بن وبرة؛ ومنهم مالك بن زًهير بن عَمْرو بن فَهْم بن تَيم الله بن ثَعْلبة بن مالك ابن فَهْم؛ ومنهم: أُذَينة الذي يقول فيه الأعشى:
أزالَ أذَيْنَةَ عن مُلْكه ... وأخْرَج من قَصره ذا يَزَن
ومن بني قضاعة: جَرْم، وهو عَمْرو بن عِلاَف بن حُلْوَان بن عِمْران بن الحاف بن قُضاعة، وإلى عِلاف تُنْسب الرِّجال العِلافيّة، وقال الشاعر: مَجوُف عِلافيّ ونطْع ونُمرُق ومن جَرْم الرَّعْل بن عُرْوَة، وكان شريفاً؛ ومنهم: عِصام بن شَهْبَر بن الحارث، وكان شُجَاعاً شديداً، وله يقول النَابغة:
فإني لا ألُومك في دُخُولٍ ... ولكنْ ما وراءَك يا عِصامُ
وله قيل:
نَفْسُ عصامٍ سَوَّدت عِصامَا ... وعَلمته الكر والإقْدَامَا
وجعلته مَلكاً هُمامَا

ولجَرْم أربعة من الوَلد: قُدامة وجُدَّة ومِلْكان وناجية. فمن بني قُدامة كِنانة بن صَرِيم الذي كان يُهاجي عمرو بن معد يكرب، ووَعْلة بن عبد الله بن الحارث الذي قَتَل الحارث بن عَبْد المَدَان؛ ومنهم: بنو شَنَّ، وهم باليمامة مع بنى هِزَّان بن عَنَزة؛ ومنهم: أبو قُلابة الفَقِيه عبد الله بن زَيْد، والمُسَاور بن سَوَّار، وَلي شرْطة الكوفة لمحمد بنِ سُليمان، ومن بني جُدَّة بن جَرْم: بنو راسب، وهم بنو الخَزْرَج بن جُدّة بن جرم.
ومن قُضاعة سَلِيح، وهو عمرو بن حُلوان بن عِمْران. ومن بني سَعْد بن سَلِيح: الضَّجَاعمة الذين كانوا مُلوِك الشّام قبل غَسّان.
ومن بني النّمر بن وَبْرَة: خُشين، منهم: أبو ثَعْلبة الخُشني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن بني النَمر بن وَبْرَة: غاضِرَة وعاتِبة ابنا سُليم بن مَنْصور.
ومن بني أَكْثم بن النّمر: مَشْجعة بن الغَوْث: منهم مُعاوية بن حِجَار الذي يُقال له ابن قارب، وهو الذي قَتل داود بن هَبُولة السَّليحيِ وكان مَلِكاً.
بَهْراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فوَلد بهْراء: أهْوَدَ وقاسِطاً وعَبَدة وقَسْرَاً وَعَدِياً، بًطون كلّها، ومنهم: قيس وشَبيب بَطْنان عظيمان؛ ومنهم: المِقْدَاد ابن عمرو صاحبُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُقال له المِقْدَاد بن الأسود لأن الأسْود بن عبد يَغُوث كان تَبناه، وقد انتسب المقْداد إلى كنْدة، وذلك أَنَّ كنْدة سَبَته في الجاهلية فأقام فيهم وانْتَسَب إليهم.
ومن قضاعة، بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة: منهم المُجذّر بن ذِياد قاتل أبي البَخْتَرِيّ العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العُزّي في يوم بَدْر وهو يقول:
بَشر بيُتْم من أبيه البَخْتَري ... أو بَشِّرنْ بمثلها مِنِّي أبي
أنا الذي أزعُم أصْلي من يَلِي ... أضرب بالهِنْديَ حتى يَنْثَني
وفيهم: بنو إرَاشة بن عامر، منهم: كَعْب بن عُجْرة الأنصاريّ صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، وسَهْل بن رافع صاحبُ الصَّاع؛ وفيهم: بنو العِجْلان ابن الحارث، منهم: ثابت بن أرقم، شهد بدراً، وهو الذي قَتله طَلْحة في الرِّدة ومنهم: بنو وائلة بن حارثة أخي عِجْلان، منهم: النُعمان بن أعْصر شَهد بدراً.
ومن قضاعة: مَهْرَة بن حَيْدان بن عمرو بن الحافِ بن قضاعة، وهو الذي تُنْسب إليه الإبل المَهْرِيّة، ومنهم: كُرْز بن رُوعان، من بني المنسم، الذي صار إلى مَعْد يكرب بن جَبلة الكِنْدي، وهو الذي يقول:
تقول بًنَيَّتي لما رأتْني ... أَكُرّ عليهمُ وأذبّ وَحْدي
لَعَمْرك إِنْ وَنَيْتَ اليومَ عنهم ... لتنقلبنَّ مصرُوعاً بخَدِّ
ومنهم ذَهْبن بن فِرْضِم بن العُجَيل، وهو الذي كان وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كِتاباً وردَّه إلى قومه.
جُهينَة بن لَيْت بن سُوّد بن أسْلَم بن الحافِ بن قضاعة - منهم: سُوَيد بن عَمْرو بن جَذِيمة بن سَبْرَة بن خُديج بن مالك بن عَمْرو بن ثَعْلبة بن رفاعة بن مُضر بن مالك بن غَطَفان بن قَيْس بن جُهينة، وكان شريفاً.
ومن قُضاعة: نَهْد بن زَيْد بن سُود بن أسلم بن الحافِ بن قُضاعة: منهم الصَّعِق، وهو جُشم بن عَمرو بنِ سَعْد، وكان سيّد نهد في زَمانه، وكان قَصِيراً أسْود دميماً، وكان النُّعمان قد سَمِع شرَفه فأتاه، فلما نَظر إليه نَبَتْ عنه عينُه، قال: تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خَيْرٌ من أَن تَراه؛ فقال: أبَيتَ اللعن، إنّ الرجال ليست بُمسوك يُسْتَقى فيها الماء، وإنما المرء بأصْغَريه قلبِه ولسانِه، إذا نَطق نَطق بِبَيان، وإن صال صال بجنَانَ؛ قال: صدقتَ، ثم قال له: كيف عِلْمك بالأمور؟ قال: أبْغض منها المَقْبول، وأبْرم المَسْحول، وأحيلها حتى تَحول، وليس لها بصاحب مَن لم يَنْظر في العواقب. ومنهم: وَدَعة بن عَمرو صاحب بَسْبَسَ طَلِيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عُذْرة بن سَعْد هُذَيم بن زَيْد بن لَيْث: منهم خالد بن عَرْفطة، ولاّه سَعْد بن أبي وقّاص مَيْمنة الناس يوم القادسية، ومنهم عُرْوة بنِ حِزام صاحب عَفْراء، ومنهم رَزَاح بن رَبيعة أخو قُصيّ لأمه، وهو الذي أعان قُصَيّاَ حتى غلب على البَيْت، ومنهم جَميل بن عبد الله بن مَعْمر بن نَهِيك صاحب بُثَينة، وبنو الحارث بن سَعْد إخوة عُذْرة. فهؤلاء بُطون قُضاعة بن مالك بن عُمر بن مُرة، وهؤلاء أولاد حِمْير بن سَبأ.

كهلان بن سبأ
الأزد بن الغَوْث بن نَبْت بن زَيْد بن كَهْلان. فمن قبائل الأزْد: الأنصار، وهم الأوْس والخَزْرج ابنا حارثة بن ثَعلبة بن عَمرو بن عامر، وأمهما قَيْلة، وهؤلاء الأوس والخَزرج ابنا حارثة بن ثَعلبة، وهو العَنْقاء بن عَمرو بن ثعلبة، وهو المُزَيقْياء بن عامر، وهو ماء السّماء.
فمن بطون الأوس والخزرج وجماهيرها: عَمرو بن عَوْف بن مالك بن أوس، وهم بنو السِّمْعِية، بها يُعْرفون، وهم عَوْف وثَعلبة ولَوْذَان بنو عَمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوس.
ضبَيعة بن زيد بن عمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس - منهم: عاصم ابن أبي الأفْلح الذي حَمت لَحْمَه الدَّبْر، والأحْوص بن عبد الله الشاعر، وحَنْظلة بن أبي عامر، غَسِيل الملائكة، وأبو سْفيان بن الحارث، بَدرِيّ، وأبو مُلَيل بن الأزْعر، بدريّ.
حَبيب بن عمرو بنِ مالك بن الأوس - ومنهم: سُويد بن الصّامت، قَتله المجذَّر ابن ذِيَاد في الجاهلية فوثب أبوه على المُجذّر فَقَتله في الإسلام، فَقَتله النبي عليه الصلاة والسلام.
عَبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخَزْرج بن عَمرو بن مالك بن الأوْس - منهم: سَعْد بن مُعاذ الذي اهتزّ لموته العَرش، بدريّ، حَكم في بني قُرَيظة؛ والنَضر بن عَمرو، أخو سعد بن مُعاذ، شَهِد بَدْراً وقُتل يوم أحد؛ والحارث بن أنس، شهد بَدْراً وقُتل يوم أحد؟ وعَمّار بن زِياد، قُتل يوم بَدْر؟ وأسَيْد بن الحُضَير بن سِمَاك، شَهِد العقَبة وبَدْراً؛ ورَبِيعة بن زَيد، شهد العَقَبة وبَدْراً.
رَبيعة بن عَبد الأشْهل بن جُشم بن الحارث بن خزْرج بن عَمرو بن مالك ابن الأوس - منهم: رِفاعة بن وَقش، قُتل يوم أحد؛ وسَلَمة بن سَلامة ابن وَقْش، شَهِد بَدْراً وقُتل يوم أُحد؛ وأخوه عَمرو بن سلامة، قُتل يوم أحد؛ ورَافع بن يزيد، بَدْري.
زَعُوراء بن جُشم بن الحارث بن خَزْرج بن عمرو بن مالك بن الأوس منهم: مالكُ بن التَهِّيان أبو الهيثم، نَقيب بَدْري عَقَبي، وأخوه عُتْبة بن التَّهيان بَدْري، قتل يومَ أحد.
خَطْمة، هو عبد الله بن جُشم بن مالك بن الأوْس - منهم: عديّ بن حرَشة، وعمرو بن حَرَشة، وأوْس بن خالد، وخُزيمة بن ثابت ذو الشَّهادتين، وعبد الله بن زَيْد القارئ، وَلي الكُوفة لابن الزُّبير.
واقفَ، هو مالك بن امرئ القَيْس بن مالك بن الأوس - منهم: هِلاَل بن أمية، وعائشة بن نُمير، الذي يُنْسب إليهم بئر عائشة بالمَدينة، وهَرِم بن عبد الله.
والسلْم بن امرئِ القَيْس بن مالك بن الأوس - ومنهم: سَعْد بن خَيْثمة بن الحارث، بَدريّ عَقَبي نقِيب، قُتل يومَ أحد.
عامرة، همُ أهل رابخ ابن مُرّة بن مالك بن الأوْس - منهم: وائل بن زَيْد بن قَيْس بن عامرة، وأبو قيس بن الأسْلت.
الخزرج
فمن بُطون الخَزْرج: النجّار بن ثَعْلبة بن عَمْرو بن خَزْرج، وغَنْمِ بن مالك ابن النجار بن ثَعْلبة بن عَمْرو بن الخَزْرج، منهم: أبو أيّوب خالدُ بن زيْد، بَدْري؛ وثابت بن النعمان، وسُراقة بن كعب، وعُمارة بن حَزْم، وعَمْرو بن حَزْم، بدرِي عَقبي؛ وزَيْد بن ثابت صاحب القُرآن والفَرائض، بَدْرِي؛ ومُعاذ ومعوذ وعَوْف بنو الحارث بن رِفاعة، وأمهم عَفْراء، بها يُعرفون، شَهِدوا بدراً؛ وأبو أمامة أسعد ابن زُرارة، نقيب عَقَبِيٌ بدريّ وحارثة بن النعمان، بدريّ.
مَبذول - اسمه عامر بن مالك بن النجار بن ثَعلبة بن عَمرو بن خَزْرج، منهم: حَبِيب بن عَمْرو، قُتل يومَ اليمامة؛ وأبو عَمْرة، وهو بَشِير بن عَمْرو، قُتل مع علي بن أبي طالب بصِفِّين؛ والحارث بن الصمة، بَدْري؛ وسَهْل بن عَتِيك، بَدْري.

حُدَيلة - هو مُعاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن الخَزْرج، أمه حُدَيلة وبها يُعرفون، منهم: أُبيّ بن كَعْب بن قَيْس بن عُبيد ابن مُعاوية؛ وأبو حَبِيب بن زَيد، بدريّ.
مَغَالة - هو عَدِي بن عمرو بن مالك بن النجّار، منهم: حَسّان بن ثابت بن المُنذر بن حَرام، شاعر النبي عليه الصلاة والسلام؛ وأبو طَلْحة، وهو زَيد بن سَهل بن الأسْود بن حَرَام.
مِلحان بن عدي بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن خَزرج - منهم: سُليم بن مِلْحان، وحرَام بن مِلْحان، بدريّان قتلا يوم بئر مَعُونة.
" غَنم بن عدي بن النجار " - ومنهم صرمْة بن أنس بن صِرْمة، صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومُحْرِز بن عامر، بدريّ؛ وعامر بن أُمية، بدري، قُتل يوم أحد؛ وأبو حَكيم، وهو عمرو بن ثَعْلبة، بدري؛ وثابت بن خَنْساء، بدريّ، قُتل يوم أحد؛ وأبو الأعور، وهو كعب بن الحارث، بدري؛ وأبو زَيد، أحد الستَة الذين جَمعوا القرآن على عهَد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبنو الحَسْحَاس الذين ذَكرهمِ حسّان في قوله: دِيارٌ مِن بَني الحَسْحاس قفْرُ مازن بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن خَزرج - منهم: حَبِيب بن زَيْد، قَطع مُسيلمة يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليه؛ وعبدُ الرحمن بن كَعْب، من الذين تولّوا وأعْينهم تفَيض من الدّمع، بَدْرِيّ؛ وقَيْس بن أبي صَعْصعة، بدريّ؛ وغَزِيّة بن عمرو، عَقَبى.
بنو الحارث بن الخَزرج - منهم: عبد الله بن رَوَاحة الشاعر، بَدْرِيّ عَقَبى نَقيب؛ وخَلاد بن سُوَيد، بَدْرِيّ، قُتل يوم قُرَيظة؛ وسَعد بن الربيع، بدريّ عَقبى نَقِيب، قُتل يوم أُحُد؛ وخارجة بن زَيد، بدريّ عَقبى نَقِيب، قُتل يوم أحد؛ وابنه زَيْد بن خارجة، الذي تكلم بعد موته؛ وثابتُ ابن قيس بن شَمَّاس، خَطِيب النبي صلى الله عليه وسلم، قُتل يوم اليمامة وهو على الأنصار؛ وبَشِير بن سَعد، بدريّ عَقبى؛ وابنه النُّعمان بن بَشير؛ وزَيْد بن أرْقم؛ وابن الإطْنَابة الشاعر؛ ويَزيد بن الحارث الشاعر، بدري؛ وأبو الدَرداء، وهو عُويمر بن زَيد، وعبد الله بن زَيد، الذي أُرِى الأذان؛ وسُبَيعُ بن قيس، بَدْريّ، وعامر بن كَعْب الشاعر.
بنو خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخَزرج - منهم: أبو مَسْعود عُقْبة ابن عمرو، بدريّ عَقَبى؛ وعبد الله بن الرّبيع، بَدْري؛ وأبو سَعيد الخُدريّ، وهو سَعْد ابن مالك.
بنو ساعدة بن كَعْب بن الخزرج - منهم: سعدُ بن عُبادة بن دُليم، كان من النُّقباء وِهو الذي دَعا إلى نفسه يوم سَقِيفة بني ساعدة؛ والمنذر بن عَمْرِو، بدريّ عَقبى نقِيب، قُتل يومَ بئر مَعُونة؛ وأبو دُجَابة، وهو سِماك بن أوس بن خرَشة؛ وسَهْل بن سَعْد؛ وأبو أسِيد، وهو مالك بن رَبيعة، قُتل يومَ اليمامة؛ ومَسْلمة بن مَخْلد.
سالم بن عَوْف بن الخَزْرج - منهم: الرمَق بن زَيد الشاعر، جاهليّ؛ ومالك بن العَجْلان بن زَيْد بنِ سالم سيّد الأنصار الذي قتل الفِطْيَون.
القوقل، هو غنْم بن عَمرو بن عَوْف بن الخَزْرج - منها: عُبادة بن الصَّامت، بَدْريّ نَقِيب؛ ومالك بن الدُّخْشُم، بدريّ، والحارث بن خزَيمة، بدري.
بنو بَياضة بن عامر بن زُريق - منهم: زياد بن لَبيد، بدريّ؛ وفَرْوة بن عَمْرو، بدريّ عَقَبى؛ وخالد بن قَيْس، بَدْري؛ وعَمرو بن النُعمان، رأس الخَزْرج يومَ بُعاث؛ وابنه: النُّعمان، صاحبُ راية المُسْلمين بأحد.
العَجْلان بن زيد بن سالم بن عَوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج - ومن بني العَجْلان: عبد الله بن نَضْلة بن مالك بن العَجْلان البدريّ، قُتل يوم أحد؛ وعَيّاش بن عُبادة بن نَضلة؛ ومُلَيل بن وَبَرَة، بدري؛ وعِصْمة ابن الحصين بن وَبَرة، بدريّ؛ وأبو خَيْثمة، وِهو مالك بن قَيْس.
الحُبْلى، وهو سالم بن غنْم بن عَوف بن عمرو بن عَوف بن الخزرج، سُمي الحُبْلى لعِظم بطنه - منهم: عبد الله بن أُبيّ بن سَلول رأسُ المنافقين؛ وابنه عبدُ الله بن عبد الله، شَهد بدراً وقُتل يومَ اليمَامة، وأوْس بن خَوْلي، بدريّ.

بنو زُريق بن عامر بن زُرَيق بن حارثة بن مالك بن عَضْب بن جُشَم بن الخَزْرج - منهم: ذَكْوان بن عَبْد قَيْس، بَدْري عَقَبيّ، قُتل يومَ أحد؛ وأبو عُبادة سَعْد بن عثمان، بَدريّ، وعُتْبة بن عثمان، بدريّ؛ والحارث بن قَيْس، بدريّ؛ وأبو عَيّاش بن مُعاوية، فارس جُلْوة، بدريّ، ومَسْعود بن سَده بَدْريّ؛ ورِفَاعة بن رافع، بدريّ، وأبو رَافع بن مالك، أول من أسْلم من الأنصار.
بنو سَلْمة بن سَعْد بن عليّ بن أسد بن شارِدة بن جُشَم بن الخَزْرج - منهم: جابر بن عبد الله، صاحبُ النبي عليه الصلاة والسلام؛ ومُعاذ بن الصمة، بدريّ، وخِرَاش بن الصِّمة، شهد بدراً بفَرَسين؛ وعُتْبة بن أبي عامر بدرى؛ ومُعاذ بن عمرو بن الجَمُوح، بدريّ، وهو الذي قَطع رجل أبي لهَب، وأخوهُ مُعَوَذ بن عمرو، قُتلا يومَ بدر؛ وأبو قَتَادة، واسمُه النُعمان بن رِبْعيّ، وكَعْب بن مالك الشاعر؛ وأبو مالك بن أبي كَعْب الذي يقول:
لعَمْر أبيها ما تَقُول حَلِيلتي ... إذا فَرّعنها مالكُ بن أبي كَعْبِ
وبشرْ بن عبد الرحمن، والزبير بن حارثة، وأبو الخطّاب، وهو عبد الرحمنَ بن عبد الله، ومَعْن بن وَهْب، هؤلاء الخمسة شُعراء؛ وعبد الله بن عَتِيك، قاتلُ ابن أبي الحُقيق. هذا نسب الأنصار.

خزاعة
هو عمرو بن رَبيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وإنما قيل لها خُزاعة لأنهم تَخزّعوا من وَلد عمرو بن عامر في إقبالهم من اليمن، وذلك أن بَني مازن من الأزد لما تفرفت الأزد منِ اليَمن في البلاد، نَزَل بنو مازن على ماء بين زَبيد ورِمِع يُقال له غَسّان، فمن شرب منه فهو غسانيّ، وأقبل بنو عمرو فانخزَعوا من قومهم فنزلوا مكةَ، ثم أقبل أسْلَم ومالك ومَلَكان بنو أفْصى بن حارثة فانخزَعوا، فسُموا خُزاعة، وافترق سائرُ الأزد فالأنصار وخُزاعة وبارق والهُجُن وغَسّان كلّها من الإزد، فجميعُهم من عمرو بن عامر، وذلك أنّ عمرو بن عامر وُلد له جَفْنة والحارث، وهو مُحرق، لأنه أوّل من عَذّب بالنار، وثَعْلبة العَنْقاء، وهو أبو الأنصار، وحارثة، وهو أبو خُزاعة، وأبو حارثة ومالك وكَعْب ووَدَاعة، وهو في هَمْدان، وعَوْف وذهل، وهو وائل، وعِمْران، فلم يشرب أبو حارثة ولا عِمْران ولا وائل من ماء غَسّان، فليس يُقال لهم غَسّان.
بطون من خزاعة حُليل بن حُبْشية بن سَلول بن كَعب بن رَبيعة بن خَزاعة، وهو كان صاحبَ البيت قبل قُريش - منهم: المُحترش بن حُلَيل بن حُبْشية، الذي باع مِفتاح الكَعبة من قُصيّ بن كِلاَب، وهِلال بن حُليل، وكُرْز بن عَلْقمة، الذي قَفا أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل الغار، وهو الذي أَعاد معالمَ الحَرم في زمن مُعاوية فهي إلى اليوم؛ وطارق بن باهِية الشاعر.
قَمير بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن رَبيعة بن خزاعة - فمن بني قَمير: بُسْر بن سُفْيان، الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجَلْجلة بن عمرو، الذي ذكره أبو الكَنُود في شِعْره، ومن ولده: قَبيصة بن ذُؤَيب بن جَلْجَلة؛ ومالك بن الهَيْثم بن عَوْف.
كُليب بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة - منهم: السَّفَّاح.ابن عَبْد مَناة الشاعر؛ وخِرَاش بن أُمية، حَليف بني مَخْزوم، وهو الذي حَلَق النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام.
ضاطِر بن حُبشية بن سَلُول بن كَعْب بن رَبيعة بن خزاعة - منهم: حَفْص ابن هاجِر الشاعر، وقُرة بن إيّاس الشاعر، وكان ابنه يحيى بن قُرّة سيد قومه،وطَلْحة بن عبيد الله بن كُرَيزة وابن الحُدَادِيّة، الشاعر، واسمه قَيْس بن عمرو.
حَرَام بن عمرو بن حُبشية بن سَلول بن كَعب بن رَبيعة بن خُزاعة - منهم: أكتم بن أبي الجَوْن؛ وسُليمان بن صُرَد بن الجَوْن؛ ومُعتِّب بن الأكْوع الشاعر وأم مَعْبد، وهي عاتكة بنت خُليف، التي نَزل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مُهاجرته إلى المدينة. غاضرة بن عمرو بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن ربيعة بن خُزاعة - منهم: عِمْران بن حُصين، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام؛ وسَعيد بن سارية، وَلِي شُرطة عليّ بن أبي طالب؛ وأبو جُمعة، جدّ كُثيِّر عَزّة؛ وجَعْدَة وأبو الكَنود ابنا عبد العُزّي.

مُلَيح بن خُزاعة - منهم عبد الله بن خَلف، قُتل مع عائشة يومَ الجمل؛ وأخوه سليمان بن خَلَف، كان مع عليّ يومَ الجمل، وابنهُ طَلحة بن عبد الله بن خَلف، يُقال له طَلحة الطَّلحات، وهو أجْود العَرب في الإسلام؛وعَمرو بن سالم الذي يقول:
لا هُمّ إنّي ناشدٌ مُحمَّدَا ... حِلْفَ أبِينا وأبيه الأتلدا
ومنهم: كُثيِّر عَزّ الشاعر، وكُنيته أبو عبد الرحمن.
عَدِي بن خزاعة - منهم: بَدِيل بن وَرْقاء، الذي كَتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام؛ وابنه عبد الله بن بَدِيل، ونافعُ بن بَديل، قُتل يوم بئر مَعونة؛ ومحمد بن ضمْرة، كان شريفاً والحَيْسُمان بن عمرو، الذي جاء بقَتْلَى أهل بدر إلى مكة وأسْلم بعد ذلك.
سَعد بن كَعْب بن خُزاعة - منهم: مَطرود بن كعب، الذي رَثى بني عَبْد مَنَاف؛ وعَمرو بن الحَمِق، صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو مالك القائد، وهو أسد بن عَبد اللة؛ والحُصين بن نَضْلة، كان سيّد أهل تهامة، ماتَ قبلَ الإسلام؛ والحارث بن أسد، صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم.
المصْطلِق بن سَعد بن خُزاعة - منهم: جُويرية بنت الخَزْرج، زَوْج النبي عليه الصلاةُ والسلام.وإخوة خُزاعة، وهم يُنْسبون في خزاعة: أسلم بن أفصىَ بن حارثة بن عمرو بن عامر - منهم: بُريدة بن الحَصَيب، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام؛ وسَلَمة بن الأكوع، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام.
ومَلَكان بن أفصى بن حارثة بن عمر بن عامر - ومنهم: ذو الشّمالين، وهو عُمَير بن عبد عَمرو، شَهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالك بن الطُّلاطِلة، كان من المُسْتهزئين من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ونافع بن الحارث، وَلي مكة لعمرَ بن الخطّاب.
مالك بن أفْصىَ بن عَمْرو بن عامر - منهم: عوَيمر بن حارثة، وسُليمان ابن كُثيّر، من نُقباء بني العبَّاس، قَتله أبو مُسلم بخُراسان.
سَلاَمان بن أسلم بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر - منهم: جَرْهَد بن رِزَاح، كان شريفاً؛ وأبو بُرْدة، صاحب النبي عليه الصلاة والسلام. فرغت خزاعة

بارق والهجن
وَلد عديّ بن حارثة بن عمرو بن عامر، سَعدا، وهو بارق، وعَمرا، وهم الهُجن، فخُزاعة وبارق والهُجُن من بني حارثة بن عمرو بن عامر.
فمن بارق: سُراقة بن مِرْداس الشاعر، وجَعْفر بن أوْس الشاعر؛ ومنهم: النُعمان بن خَمِيصةِ، جاهليّ شريف. وبارق والهُجُن لا يقال لها غسّان، وغسّان ماء بالمُشلَل، فمن شرب منه من الأزد فهو غسّاني، ومن لم يشرب منه فليس بِغَسّاني. وقال حسان:
إمّا سالْت فإنّا مَعشر نُجُبٌ ... الأزْد نسبتنا والماءُ غسّانُ
ومن الهُجْن: عَرْفجة بن هَرْثمة، الذي جَنَّدَ الموصل، وعِداده في بارق؛ ومنهم: رَبْعة ومُلادِس وثَعلبة وشَبيب وألمَع، بنو الهُجن.
حُجر بن عمرو بن عامر حارثة بن ثَعلبة بن امرئ القيْس بن مازن بن الأزد - ومنهم: أبو شجَرَة بن حُجْنة، هاجَر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: صَيْفيّ بن خالد بن سَلَمة بن هُرَيم.والعَتِيك، هو ابن الأزْد بن عِمْران بن عَمْرو - منهم: المُهلَّب بن أبي صفْرة واسم أبي صُفرة ظاِلم بن سُرَاقة وجُدَيع بن سَعيد بن قَبيصة ومن العَتِيك عمرو بن الأشْرَف، قُتل مع عائشة يومَ الجَمل، وابنه زِياد بن عمرو، كان شريفاً؛ وثابتَ قُطْنة الشاعر. ويقال: إنَ العَتِيك بنُ عِمْران بن عمرو بن أسد بن خزَيمة فهؤلاء بنو عِمْران بن عَمْرو بن عامر، وهم الحُجْر والأزْد والعَتِيك.
بطون الأزد

بنو ماسخَة بن عبد الله بن مالك بن النّصر بن الأزد، إليهم تُنسب القِسىّ الماسِخيّة، كان أولَ مَن رَمى بَها زَهْرانُ بن كَعْب بن الحارث بن كعب بْن عبد الله بن مالك بن نَصر، من الأزد. ومنهم: حُمَمة بن رافِع. وفيهم: بنو النَّمِر بن عُثمان بن النَّصر بن هوازن. ومنهم: أبو الكَنُود، صاحب ابن مَسْعود، قُتلِ يوم الفجار؛ وأبو الجَهْم بن حبيب، كان والياً لأبي جَعْفر، وأبو مَرْيم؛ وهو حُذيفة بن عبد الله، صاحبُ رايتهم يوِمَ رُستم؛ والحارث بن حَصِيرَة، الذي يُحدَّث عنه، ومخْلَد بن الحسن، كان فارساً بخُرَاسان، وفَهم ابن زَهْرَان، بَطن؛ وحُدَّان، بَطْن، وزِيادة، بطْن، ومَعْولة، بنو شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نَصر بن هوازن. فمن بني حُدّان: صَبْرَة بن شَيْبان، كان رأسَ الإزْد يومَ الجمل وقُتل يومئذ.
ومن بني مَعْولة بن شمس: الجُلَنْدي بن المُسْتكين صاحبُ عُثمان، وابنه جَيْفر، وكَتب النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى جَيْفر وعُبيد ابني الجُلَنْدِي. ومنهم: الغِطْريف الأصْغَر والغِطْرِيف الأكْبَر، منْ بني دُهمان بن نصر بن زَهْران؛ ومنهم: سُبَالة وحُدْرُوج ورَسْن بنو عَمْرو بن كعب بن الغِطْرِيف بطون كلّهم، وبنو جِعْثِمة بن يشكر بن مَيْسر بن صعب بن دُهمان.بنو راسب بن مالك بن مَيْدعان بن مالك بن نصر بن الأزد - منهم: عبد الله بن وَهْب، ذو الثَّفِنات، رئيس الخوارج، قَتله عليّ بن أبي طالب يوم النَّهْرَوَان. ومن الناس من يَنْسب بني راسِب في قضاعة.
ثُمالة، وهو عَوْف بن أسْلم بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزْد، وثُمالة مَنْزلهم قَريب من الطَّائف وهم أهلُ روية وَعُقول. منهم: محمد بن يزيد النَّحْوي المَعْروف بالمُبرَد صاحبُ الروْضة. وقال فيه بعض الشعراء:
سَألْنا عن ثُمالة كلَّ حَيٍّ ... فقال القائلونَ وَمَنْ ثُمالَه
فقلتُ محمدُ بنُ يزيدَ مِنْهم ... فقالُوا الآن زِدْتَ بهم جَهاله
بنو لِهْب بن أبْجر بن كَعْب بن الحارث بن كَعْب، وهم أعيف كلّ حيّ في العَرَب - العائف، الذي يَزْجُر الطيرَ - ولهم يقول كُثَيِّر عزة:
تَيمَمْتُ لِهْبا أَبْتَغي العِلْم ... عِنْدهم وقد رُدّ عِلْم العائِفين إلى لِهْبِ
دَوْس بن عًدْثان بن عبد الله بن زَهْران - ومنهم: حُممة بن الحارث بن رافع،كان سَيّد دَوْس في الجاهليّة وكان أسْخَى العَرَب، وهو مُطْعِم الحجّ بمكة. ومنهم: أبو هُرَيرة صاحب النبي عليه الصلاةُ والسلام، واسمه عُمَير بن عامر. ومنهم: جَذِيمة الأبْرش بن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس، وجَهْضم بن عَوْف ابن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس. ومنهم: الجَرَاميز، جَمْع جُرْموز، والقَراديس، جَمْع قُردُوس، والقَسامِل جمع قَسْملة، والأشَاقِر، جمع أشقر، وهم بنو عائذ بن دَوْس، وفيهم يقول الأعجم:
قالُوا الاشَاقر تهجوكم فقلتُ لهم ... ما كنتُ أحسَبهم كانُوا ولا خًلِقُوا
وهم من الحَسَب الزَاكي بمنزلةٍ ... كطُحْلب الماء لا أصْلٌ ولا وَرَق
لا يَكْبرُون وإ نْ طالَت حياتُهمُ ... ولو يَبُول عليهم ثَعْلب غَرِقُوا
عَكّ بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهْران. وعَكّ أخو دوْس بن عدثان بن عبد الله بن زَهْران، عند مَن نَسبهم إلى الأزد، ومَن قال غيرَ ذلك، فهو عَكُّ بن عُدْثان أخو مَعَدّ بن عُدْثان. وفي عَكِّ: قَرْن، وهو بَطْن كَبير، منهم: مُقاتل ابن حَكيم، كان من نُقَباء بني هاشم بخُراسان.
غسّان، وهم بنو عَمْرو بن مازن - وفيهم: صُرَيم وبنو نُفَيل، وهم الصَّبْر

سمَوا بذلك الِصَبرهم في الحَرْب. وفي بني صُرَيم: شَقْران ونَمْران ابنا عمرو بن صُرَيم، وهما بَطْنان في غَسّان. وبنو عَنَزة بن عمرو بن عَوْف بن عمرو بن عَدِيّ بن عمرو بن مازن بن الأَزْد، منهم: الحارث بن أبي شَمِر الأعْرج، ملك غسّان، الذي يُقال فيه الجَفني، وليس بجَفْني ولكنّ أمه من بني جَفْنة. ومن بني عَمْرو بن مازن: عبدُ المَسِيح بن عمرو بن ثَعْلبَة، صاحبُ خالد بن الوليد؛ ومنهم: عبدُ المَسيح الجِهْبِذ؟ ومنهم: سَطِيح الكاهن، وهو رَبيعة ابن ربيعة. ومن بني غَسّان: بنو جَفنة بن حارثة بن عَمرو بن عامر بن حارثة بن ثَعلبة بن امرئ القيس بن مازن بنِ الأزد؛ ومنهم: مُلوك غسّان بالشام، وهم سَبْعة وثلاثون ملكاً مَلَكوا ستّمائة سنة وست عشرةَ إلى أن جاء الإسلام.
بَجِيلة، وهم عَبْقر والغَوْث وصُهَيب ووَدَاعة وأشْهل، نُسبوا إلى أمهم بَجيلة بنت صَعْب بن سَعْد العَشيرة، وهم بنو أنمار بن إِرَاش بن عمرو بن الغَوْث، أخى الأَزْد بن الغَوْث. منهم: جَرير بن عبد الله، صاحبُ النبي عليه الصلاةً والسلام، وكان يُقال لجرير: يُوسف هذه الأمة، لحُسْنه. وفيهم يقول الشاعر:
لولاجَريرٌ هَلَكت بَجِيله ... نِعْم الفَتى وبِئْست القَبِيلَه
ومنهم الضَّبين بن مُضَر، الذي وقع ببني كِنَانة؛ ومنهم: القاسم بن عُقَيل، أحد بني عائذة بن عامر بن قُدَاد، كان شَريفاً، وهو الذي ابتدأ مُنَافرةَ بَجِيلة وقُضاعة. وفي بَجِيلة: قَسْرى عَبْقر، منهم: خالد بن عبد الله القسْرى صاحبُ العِرَاق. ومنهم: بنو أَحْمس، وهم بنو عَلقمة بن عَبْقر بن أنمار بن إرَاش بن عَمرو بن الغَوْث، وبنو زَيد بن الغَوْث بن أنمار، وبنو دهن بن مُعاوية بن أسْلم بن أَحْمس، رَهْط عمّار الدَّهْنِي. ومن قبائل بَجِيلة: هُدْم وهَدِيم وأحمس وعادِية وَعَدِيّة وقينان وعُرَينة بن زَيْد.
خثعم، هوِ خَثْعم بن آَنمار بن إِراش بن عَمرو بن الغَوْث، أخى الأزْد ابن الغَوْث - ففي خثْعم: عِفْرِس وناهِس وشَهْران، فيها الشرفُ والعَدد. فمن بني شَهْران: بنو قُحافة بن عامِر بن رَبيعة، منهم: أسماءُ بنت عُمَيس؛ ومالكُ ابن عبد الله، الذي قاد خَيْل خثْعم للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ومن رَبيعة بن عِفْرِس: نُفيل بن حبيب، دليل الحبشة على الكَعْبة، وهو القائل:
وكلّهمُ يُسائل عن نُفَيل ... كأنّ عليّ للحُبْشان دَيْنَا
وما كانَت دَلالتهم بِزَيْن ... ولكنْ كانَ ذاك عليَّ شَيْنَا
فإنّكِ لو رأيتِ ولم تَرَيْه ... لَدَى جَنْب المحصَب ما رَأْيْنَا
إذاً لم تفرحي أبداً بشيءٍ ... ولم تأْسيَ على ما فات عَيْنَا
حَمِدتِ الله إذ أبصرتِ طَيْراً ... وحُصْبَ حِجارة تُرْمَي علينَا
ومن خَثْعم: عَثْعث بن قحافة، وهو الذي هَزَم هَمْدان ومَذْحج، وله يقول الشاعر:
وجُرْثومة لم يَدْخل الذُّلُّ وَسْطها ... قَرِيبة أنساب كثير عدِيدُها
مُلمْلَمَة فيها فَوَارِسُ عَثْعَثٍ ... بَنُوه وابناء الأقَيصر جِيدُها
ومنهم: حُمْران الذي يقول:
أقْسمتُ لا أَمُوت إلا حُرِّاً ... وإنْ وجدتُ الموتَ طَعْماً مرّاً
أخافُ أن أخْدِع أو أغرا
ويقال: إنّ خَثعم اسمه أفْتَل، وإنما خثعم جَمل كان لهم نُسبوا إليه.
هَمْدان
وهو هَمدان بن مالك بن زَيد بنِ أَوْسَلة بن ربيعة بن الخِيَار بن مالك بن زَيد بن كَهلان. فولد هَمدان حاشِداً وبَكِيلاً، ومنهما تَفَرَّقت

همدان
. فمن بُطون هَمْدَان: شِبَام، وهوِ عبد الله بن أسعد بن حاشد؛ ومنهم: ناعط وهو رَبيعة بن مَرْثد بن حاشِد بن جُشم بن حاشد؛ ومنهم: وَدَاعة بن عمرو ابن عامر، رهْط مَسْروق بن الأجْدع، ومن الناس من يَزْعُم أنه وَدَاعة بن عمرو بن عامر بن الأزد، ولكنَّهم انتسبوا إلى هَمدان. ومن هَمْدان: بنو السُّبَيِع ابن الصّعْب بن مُعاوية بن كَثِير بن مالك بن جُشَم بن حاشِد؛ منهم: سَعِيد بن قيْس بن زَيْد بن حَرْب بن مَعْدِ يكرب بن سَيْف بن عَمْرو السّبيعي. ومن بني ناعظ: الحارث بن عُمَيرة الذي يَمْدحه أعشى هَمدان بقوله:

إلى ابن عُمَيرَةَ تُخْدَى بنَا ... على أنها القُلُص الضُّمَّرُ
ومن بني بَكِيل بن جُشَم بن خَيوان بن نَوْف بن هَمدان: بنو جَوْب - وهم الجَوْبيون - ابن شِهاب بن مالك بن رَبيعة بن صَعْب بن دوْمان بن بكيل، وبنو أرْحب بن دُعام بن مالك بن مُعاوية بن صَعْب، وبنو شاكر، وهم أبو ربيعة بن مالك بن مُعاوبة بن صعب، وهم الذين قال فيهم عليُّ بن أبي طالب رضي عنه يوم الجمل: لو تَمَّت عدتَهم ألفاً لعبد الله حقَّ عبادته. وكان إذا رآهم تَمثل بقول الشاعر:
ناديتُ هَمدان والأبوابُ مُغلقهٌ ... ومِثْل هَمدان سَنَّى فَتْحَة البابِ
كالهُنْدوانيّ لم تُفْلَل مَضارِبهُ ... وجْةٌ جَمِيل وقَلْب غيرُ وَجّاب
وقال فيهم عليّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه:
لَهَمْدَان أخلاقٌ ودينٌ يَزِينهم ... وأنسٌ إذا لاقَوْا وحُسْنُ كلام
فلو كنتُ بَوْاباً على باب جَنَّة ... لقلتُ لِهَمْدَان ادْخلوا بِسَلام
ومن أشراف هَمْدان: مالك بن حُرَيم الدّألاني، وكان فارساً شاعراً. ومنهم: مُحمد بن مالك الخَيْوانيّ، وكان يُجير قُريشاً في الجاهليّة على اليَمن. وفي هَمْدان: جُشَم، وهم رَهْط أَعْشى هَمْدان؛ وفيهم: خَيْوان، وهو مالك بن زيد بن جُشم بن حاشد؛ وفيهم: دألان بن سابقة بن ناشِج بن دافع؛ منهم: مالك بن حَريم الذي يقول:
وكُنْت إذا قَوْمٌ غَزَوْني غَزَوْتُهمٍ ... فهَل أنا في ذا يا لَهَمدان ظالمُ
مَتَى تَجْمَع القَلْب الذَّكي وصارِماً ... وأَنْفاً حَمياً تَجْتَنِبْك المَظَالم
ومنهم: أَرْحب بن دُعام بن مالك بن معاوية بن صَعْب بن دَوْمان بنِ بَكِيل، منهم: أبو رُهمْ بن مُعطم الشاعر، الذي هاجرَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة. وفي هَمْدان: الهان بن مالك، وهو أخو هَمْدان ابن مالك، منهم حَوْشب، قُتل بصفِّين مع مُعاوية.
كنْدة

كندة
بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أدد بن زَيد بن يَشْجُب ابن عَريب بن زَيد بن كَهَلان. فمن بُطون كِنْدة: الرَّائش بن الحارث بن مُعاوية بنِ كِنْدة؛ منهم: شرُيح بن الحارث القاضي؛ ومنهم: بنو مُعاوية الأكْرَمِين، الذين مَدَحهم الأعْشى. ومنهم: الأشْعث بن قَيْس بن مَعْد يكرب، والصّباح بن قَيْس، وشُرَحْبيل بن السِّمْط، وَلي حِمْص، وحُجْر بن عَدِيّ الأدبر، صاحب عليّ، وهو الذي قَتله مُعاوية صَبْراً. ومنهمِ: بنو مُرّة بن حُجْر، لهم مَسجْد بالكوفة؛ ومنهم: الأسْود بن الأرقم، ويَزيد بن فرْوة، الذي أجار خالدَ بن الوليد يوم قَطع نخل بني وَليعة. وفي كِنْدة: مُعاوية الوَلادة، سُمِّي بذلك لكثرة وَلَده. ومنهم: حُجْرا الفرْد، سُمِّي بذلك لُجوده، وأهلُ اليمن يُسمُّون الجَوَاد الفَرْد. ومنهم: مُعاوية مُقطّع النُّجد، كان لا يَتقلّد أحدٌ معه سَيفاً إلا قطع نِجَاده. فمَن بنى حُجر الفَرْد الملوك الأربعة. مِخْوس ومِشرح وجَمْد وأبْضعة، وأُختهم العَمَرّدة، بنو مَعْدِيكرب بن وَليعة بن شُرَحْبيل بن حًجر الفرْد، وهم الذين يَقول فيهم الشاعر:
نحن قَتلنا بالنُّجَير أَرْبعة ... مِخْوَس مِشْرَحا وَجَمْداً أَبْضَعه
ومن بني امرئ القيس بن مُعاوية: رَجَاءُ بن حَيْوة الفَقيه، وامرؤ القَيس بن السّمْط. ومن أشراف بني الحارث بن مُعاوية بن ثَوْر: امرؤ القَيْس الشاعر بن حُجْر بن عمرو بن حُجْر آكِل المُرار بن عَمرو بن مُعاوية بن الحارث بن ثَوْر، وهم مُلوِك كِندة. ومنهم: حُجْر بن الحارث بن عمرو، وهو ابن أم قَطَام بنت عَوْف بن مُحلّم الشيباني.

ومن بُطون كِنْدة: السَّكاسك والسَّكون ابنا أَشرْس بن كنْدة؛ ومنهم: مُعاوية بن خُدَيج، قاتِل محمد بن أبي بَكْر. ومنهم: الجَوْن بن يَزيد، وهو أَوّل مَن عَقَد الحِلْف بن كِنْدة وبين بَكر بن وائل. ومنهم: حُصَين بن نُمير السكونيّ، صاحب الجيش بعد مُسلم بن عُقبة صاحب الحَرّة. ومن السكون: تُجيب، وهما عَدِيّ وسَعْد ابنا أَشْرس بن شبِيب بن السَّكون، وأمها تُجِيب بنت ثَوْباَن بن مَذْحِج، إليها يُنْسبون. فمن أَشراف تُجيب: ابن غَزَالة الشاعر جاهلي، وهو رَبيعة بن عبد اللهّ؛ وحارثة بن سَلَمة، كان على السَّكون يوم مُحياة، وهو يومَ اقتتلت مُعاوية بنِ كِنْدة وكِنانةُ بن بشْر، الذي ضَرَب عثمان يوم الدَار. والسكاسك بن أَشْرَس بن كندة - منهم: الضَحًاك بن رَمْل بن عبد الرَّحمن؛ وحُوَيّ بن مانع، الذي زَعمِ أهلُ الشام أنه قَتل عَمَّار بن ياسِر، ويزيد بن أبي كَبْشَة، صاحب الحجَّاج. انقضى نسبُ كِنْدة.

مذحج
ومن بني أدد بن زَيد بن يَشْجب بن عَريب بن زَيْد بن كَهْلان بن سَبأ بن يَشْجب بن يَعْرب بن قَحْطان: مالك بن أُدد، وهو مَذْحج، وطَيء ابن أُدد، والأشْعر بن أُدد. وقال ابن الكلبيّ: إن مَذْحج بن أُدد هو ذو الأنعام وله ثلاثةُ نَفر: مالك بن مَذْحج، وطيء بن مَذحج، والأشْعر بن مَذحج.فمن قبائل مَذحج: سَعْد العَشِيرة بن مالك بن أدَد، وولده الحَكَم بن سَعد العِشيرة، وهو قَبيل كَبِير، منهم: الجَرّاح بن عبد الله الحَكَمي، قَتله الترك أيامَ عمر بن عبد العزيز، وهم موالي أبي نُواس. وفي بَعْضهم يَقول:
يا شَقِيقَ النَّفس من حَكَم ... نِمْتَ عن لَيْلَى ولم أَنَم
وإنّما سُمِّي سعدَ العشيرة لأنه لم يَمتْ حتى رَكِب معه من وَلده وَوَلد ولده ثلثُمائة رجل. ومنهم: عُمَير بن بِشر، ومنهم: بُنْدُقة بن مَظَة. ومن بطون سَعد العشيرة: جُعف بن سَعد العشيرة بن مالك بن أُدد، وصَعْب بن سَعد العَشيرة، دَخل في جُعْف، وجَزْء بن سعد العشيرة. فمَن وَلد جَزْء بن سعد: العَدْل والحَمْد، وكان العدل على شُرْطَة تبع، وكان إذا أَراد قَتْل رجل قال: يُجْعل على يَدي عَدْل، وهو قولُ النّاس فلان على يَدَيّ عَدْل، إذا كان مُشْرفاً على الهَلاك. ومن أَشْراف جُعف: أبو سَبْرة، وهو يَزيد بن مالك، كان وَفَد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَدَعا له؛ ومنهم: شَراحيل بن الأصْهب، كان أبعدَ العَرب غارةً، كان يَغْزو من حَضْرَموت إلى البَلقاء في مائة فارس من بني أبيه، فقَتَله بنو جَعدة، ففيه يقول نابغةُ بني جَعدة:
أَرَحْنَا مَعدَّاً مِن شَراحيَل بعدما ... أراها مع الصُّبح الكَواكب مَظْهَرا
وعَلْقَمَة الحَرَّاب أَدْرك رَكْضُنا ... بذي الرمْث إذا صام النهارُ وهجا
وعَلْقمة الحرَّاب كان رأس بني جُعْف بعد شراحيل ومن بني جُعْف: زَحْر بن قَيْس، صاحب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ومنهم: الأشعْر بن أبي حُمْران الذي يقول:
أريد دِمَاء بني مازن ... وراقَ المُعَلّي بَيَاضُ اللَّبنْ
خَلِيلان مُخْتلف بيننا ... أرِيد العَلاَء ويَبْغي السِّمن
ومنهم: عبيد الله بن مالك الفاتك الجُعْفي. ومن بني سَعْد العَشيرة: أَوْد وزبيد، واسمه مُنبّه، وهما أيضاً صَعْب بن سَعْد العَشيرة، وزُبيد الأصغر، وهو منبِّه الأصغر بن ربيعة بن سَلَمة بن مازن بن ربيعة بن زُبيْد بن صَعْب بن سَعْد العشيرة؛ ومنهم: أبو المَغْراء الشاعر؛ ومنهم: الزَعافر، وهو عامر بن حَرْب ابن سعد بن مُنبَّه بن أود؛ ومنهم: عبد اللهّ بن إدريس الفقيه؛ ومنهم: الأفْوَه الشاعر، واسمه صَلاءة بن عمرو؛ ومنهم: بنو رَمّان بن كعب بن أود، من وَلده: عافِيةُ بن يزيد القاضي؛ وبنو قَرْن، لهم مَسْجد بالكوفة.
زُبيد بن صَعْب بن سعد العشيرة، واسمه مُنبه، وهو زُبيد الأكبر، من ولده:

زُبيد الأصغر، وهو زُبيد بن رَبيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد ابن صَعْب. ومن بني زُبيد الأصغر، عمرو بن مَعْدِ يكرب، وعاصِم بن الأصْقَع الشاعر، ومُعاوية بن قَيْس بن سَلَمة، وهو الأفكل، وكان شريفاً، وإنما سمّي الأفكل لأنه كان إذا غضب أرعد؛ ويقال: الأفَكل من بني زُبيد الأكبر؛ ومنهم: الحارث بن عمرو بن عبد اللّة بن قَيْس بن أبي عمرو بن رَبيعة ابن عاصم بن عمرو بن زُبيد الأصغر. فهذه سعدُ العَشيرة.
ومن مَذْحج جَنْب وصُدَاء ورُهاء، فمن بني جَنْب، مُنبّه والحارث والغَليّ،وشَيْحان وشِمْران وهِفّان. فهؤلاء الستة - وهم جَنْب - بنو يَزيد بن حَرْب بن عًلَة بن جَلْد بن مالك بن أُدد، وإنما قيل لهم جَنْب لأنهم جانَبوا أخاهم صُداء وحالفوا سَعْدَ العَشِيرة، وحالفت صُداء بني الحارث بن كَعْب. فمن جَنْب: أبو ظَبْيان الجَنْبيّ الفَقيه، ومنهم: مُعاوية الخَيْر بن عَمْرو بن مُعاوية، صاحب لواء مَذْحج، وهو الذي أجار مُهلهِلَ بن ربيعة التَّغلبي على بكر بن وائل، فتزوَّج ابنة مهلهل، وفي ذلك يقول مُهلَهل بن رَبيعة أخو كُلَيب وائل:
هانَ على تَغْلب بما لَقِيَتْ ... أُختُ بني الأكْرمين من جُشَم
أَنْكَحها فَقْدُها الأرَاقَم في ... جَنْب وكان الحِبَاء من أَدَم
لو بأَبانيَنْ جاء يَخْطُبها ... رُمِّل ما أَنفُ خاطبِ بِدَم
قوله: وكان الحباء من أدم، أي أنه ساق إليها في مَهْرها قُبًة من أدَم.
صُدَاء بن يزيد بن حَرْب بن عُلَة بن جَلْد بن مالك بن أُدد، وهم حُلفاء بني الحارث بن كعب بن مَذْحج رُهاء بن مُنبّه بن عُلة بن جَلْد بن مالك، ومنهم: هِزَّان بن سعيد بن قَيْس بن سرمح، كان من أَشْراف أهل الشّام.
بنو الحارث بن كعب بن حَرْب بن عُلة بن جَلْد بن مالك بن أًدد، وهو بيت مَذْحج، منهِم: زَعْبل، بطن في بني الحارث، وهو الذي يقال فيه: لا يُكَلّم زَعبْل، وكان شريفاً؛ ومنهم: المُحجّل بن حَزْن، ومنهم: بنو حِمَاس ابن رَبيعة، منهم: النّجاشي، واسمُه قَيْس بن عَمْرو؛ ومنهم: بنو المَعْقِل بن كَعْب بن رَبيعة، منهم: مَرْثد ومُرَيثد ابنا سلَمة بن المعقل، قيل لهم المَراثد؛ ومنهم: المأمون بن مُعاوية، اجتمعت عليه مذَحج؛ ومُزَاحم بن كعب، ومنهم: اللجْلاج؛ وأخوه مُسهر، الذي فَقأ عينْ عامر بن الطّفيل يوم فَيْف الرِّيح؛ وعَبد يَغُوث بن الحارث الشاعر، قَتيل التَّيم يومَ الكُلاَب، وهو القائل:
أقولُ وقد شَدُوا لِسَاني بِنسْعة ... ألا يا آلَ تَيمْ أَطْلُقوا من لِسانيَا
وتَضْحك مِنّي شَيْخة عَبْشَمِيَّة ... كأنْ لم تَرَيْ قبلي أَسيراً يَمانياً
ومنهم: بنو قُنان بن سَلَمة، منهم: الحُصَين ذو الغصّة بن مَرثد بن شَدّاد بن قُنان، وهو رأس بني الحارث، عاش مائة سنة، وكان يُقال لأبنائه: فوارس الأرباع، قتلته هَمْدانُ؟ من ولده: كَثير بن شِهَاب بن الحُصين؛ ومنهم: محمد بن زُهرة بن الحارث، وفي بني الحارث بن كَعْب: الضبَاب، منهم: هِنْد ابن أَسْماء، الذي قَتل المنتشر الباهليّ؛ وفيهم: بنو الديان؛ وفيهم: زياد بن النّضر، صاحب عليّ، والرَّبيع بن زياد، وَلِي خُراسان أيامَ مُعاوية؛ والنابغة الشاعر، واسمه يزيد بن أبَان، هؤلاء بنو الحارث بن كَعْب.
الضباب في بني الحارث بن كَعب، مفتوحة الضّاد، وفي عامر بن صَعصعة مكسورة الضاد.
ومن بُطون مَذْحجِ: مُسْلِية بن عامر بن عَمْرو بن عُلة بن جَلْد بن مالك، فولد مُسْلية كِنانة وأَسداً، منهما تَفرّقت مُسْلية.
كنانة وأسد ابنا مُسْلية - فمن بني كِنانة بن مُسلية: بنو صُبح وثعلبة ابنا ناشرة، وأُمهما حَبابَة، بها يُعرَفون، منهم: أُبَيّ بن معاوية بن صُبح الذي يقول له عمرو بن معديكرب:
تَمنَاني لِيَلْقاني أُبيٌّ ... ودِدتُ وأَيْنما منِّي وِدَادِي
ومن بني حَبابة: عامر بن إسماعيَل القائد، وابن الحَبَابة الشاعر، جاهليّ.
ومن مَذْحج: النَّخَع بن عمرو بن عُلة بن جلْد بن مالك أُدد. فمن بُطون النَخع: عَمْرو، بطن؛ وصُهبان، بطن؛ ووَهْبيل، بطن؛ وعامر، بَطن، وجذَيمة، بطن، وحارثة، بطن؛ وكعب، بَطن.

فمن بني جَذيمة بن سعد بن مالك بن جلد بن النَّخع، الأشتر، واسمه مالك ابن الحارث، وثابت بن قَيْس بن أبي المُنَفّع.
ومن بني حارثة بن سَعد بن مالك بن النَّخع: إبراهيم بن يَزيد الفقيه، والحجَّاج بن أَرطاة.
ومن بني وَهْبيلِ بن سَعد بن مالك بن النَخَع: سِنان بن أَنَس، الذي قَتل الحُسين بن علي؛ وشريك بن عَبْد الله القاضي.
ومن بني صُهْبان بن سعد بن مالك بن النَخع: كُميْل بن زِياد، صاحب عليّ بن أبي طالب، قَتله الحجّاج.
وفي النَّخع: جُشم وبكر. فمن بني جُشم: العُرْيان بن الهَيْثم بن الأَسْود. ومن بني بَكْر بن عَوْف بن النَّخع: يزيد بن المكَفف، وعَلْقمة بن قَيْس، وأخوه أُبَيّ بن قَيْس، قُتل مع عليّ بِصفّينْ، وأخوهما يَزيد بن قَيْس، وابنه الأسود بن يَزيد العابد. ومن مَذْحج: عَنَس بن مالك بن أُدَد. فولد عَنَس سَعْدا الأكبر وسَعْدا الأصغر ومالكاً وعَمراً ومخامراً ومُعاوبة وعَريباً وعَتِيكاً وشِهَاباً والقِرِّيّة وياماً.
فمن بني مالك بن عَنَس، الأسود بن كعب، الذي تَنَبّأ باليَمن، ومن بني يام ابن عَنَس: عمّار بن ياسر، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام. ومن بني سَعْد الأكبر: الأسود بنِ كَعْب، تبنّاه سعد الاكبر وكان كاهناً. ومن أَشراف عَنَس: عامر بن رَبيعة، شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حَليف لِقُريش.
ومن بُطون مَذْحج: مُراد بن مالك بن مَذْحج بن أُدد، ويُسمى يَحابر. فمن بطون مُراد: ناجية وزاهر وأَنْعَم. فمن بني ناجية بن مُراد: فَرْوة بن مُسْيك، كان والياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نَجْران. ومن بني زاهر بن مُراد: قيس بن هُبيرة بن عبد يغوث، ومنهم: أُويس القُرَنيّ بن عمرو بن مالك بن عمْرو بن سَعْد بن عَمْرو بن عُصْوان بن قَرْن بن رُدْمان بن ناجية بن مُراد، وهو الذي يُقال إنِّ النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: يدخل بشفاعته الجنة مثلُ رَبيعة ومُضرَ، وكان من التابعين، وقد أَتىَ عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه. وفي ناحية بن مُراد: بنو غُطَيف بن عَبد اللهّ بن ناجية، ويُقال إنّهم من الأزْد. ومنهم: هانىء بن عُرْوة، المَقتول مع مُسلم بن عَقِيل. وفي ناجية بن مُراد: بنو جَمَل بن كِنانة بن ناجية، منهم: هِنْد بن عَمْرو، قَتله عبدُ الله بن اليَثْرَبي يوم الجمل، وقال في ذلك:
إنِّي لمَن يَجْهلني ابن اليثربي ... قتَلْتُ عِلْباءَ وهِنْد الجَمَلي
أوابناً لصَوْحانَ على دين عَلي
ومن بني زَاهر بن مُراد: قَيْس بن هُبَيرة بن عبد يغوث، وهو قيس ابن مَكشَوح.

طيء
هو طَيّء بن أُدد بن زَيد بن يَشْجُب بن عَريب بن زَيْد بن كَهْلان، أخو مَذْحج، ويُقال: ابن مَذْحِج، في رواية ابن الكَلْبي. فَوَلد طيّء الغَوْثَ وفُطْرة والحارث.
فمن بُطون طيِّء: جَدِيلة، وهم بنو جُنْدب وبنو حُور، وأمهما جديلة وبها يُعْرفون، وهي جَدِيلة طيء، فأما بنو حُور بن جَدِيلة فسُهْلِيّون ولَيْسوا من الجَبليين، وأما بنو جُندب بن جَدِيلة فهم من الجَبليين، وفيهم الشَّرف والعَدَد، وفيهم الثَّعالب، وهم بنو ثَعْلبة بن جَدْعاء بن ذهل بن رُومان بن جُنْدُب.
فمن بني ثعْلبة بن جَدْعاء: المُعلّى بن تيْم بن ثَعْلبة بن جَدْعاء، عليه نزل امرؤ القَيْس بن حُجْر الشاعر إذ قُتل أبوه حُجْر بنِ الحارث، وقال في المُعلّى:
كأنِّي إذ نَزلتُ على المُعلَّى ... نزلتُ على البَواذخ من شَمَام
فما مُلْك العِرَاق على المُعَلّى ... بمقْتَدَرِ ولا مُلْك الشآمَ
أَقَر ّحَشا امرىء القَيْس بنِ حُجْر ... بنو تَيْم مَصابيحُ الظَّلام

فسُمِّي بنو تيْم بن ثَعلبة مصابيحَ الظَّلام. فمن ثَعْلبة بن جدْعاء: الحُرّ بن مَشْجعة بن النًّعمان، كان رئيس جَدِيلة يوم مُسَيْلمة الكَذَّاب. ومنهم: أَوْس بن حارثة بن لأم، سيّد طيّء؛ ومنهم: حاتم بن عبد اللهّ الجَوَاد، وابنه عديّ بن حاتم، وَفَد علىٍ النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له وِسادةً وأجلسه عليها وجَلس هو على الأرض. قال عديّ: فما رِمْت حتى هَداني الله للإسلام وسَرّني ما رأيتُ من إكْرام رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي بني عَمْرو بن الغَوْث بن طَيء: ثُقَل، بطن؛ ونَبْهان، بَطْن؛ وبَوْلان، بَطْن، وسَلامان، بطن؛ وهَنيِّ، بطن. فمن هَنِيّ، إياسُ بن قَبِيصة، وأبو زَبيد الشاعر، واسمه حَرْملة بن المنذر. ومن بني سَلاَمان: بنو بُحْترُ، بَطْن في طَيء. ومن بني بُحتر: مُعرِّض بن صالح، اجتمعت عليه جَدِيلة والغَوْث. ومن بني ثَعل: عمرو بن المُسبِّح، كان أرمى العرَب، وإيّاه يَعْني امرؤ القَيس بقوله:
رُبَّ رام من بَني ثُعَل ... مخْرجٌ كَفَيه من قترَه
وأدركً النبي عليه الصلاةُ والسلام وهو ابن خمس ومائة سنة فأسْلم. ومن بني ثُعَل أيضاً: أبو حَنْبل، الذي يُعد في الأوفياء، نزَل به امرؤ القَيْس ومَدَحه؛ ومنهم: زَيد الخَيْل، وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم فسمّاه زيد الخَيْر، وقال: ما بلغني عن أحد إلا رأيتُه دون ما بَلغني إلا زَيدَ الخَيْل. وفي طَيء: سُدُوس، وهي مَضمومة السِّين، والتي في رَبيعة مفتوحة السّن.

الأشعر
هو الأشْعر بن أُدد أخو مَذْحج، ويقال ابن مَذْحج، في رِواية ابن الكَلْبي.
فَوَلد الأشْعر الجُماهِر والأرْغَم والأدْغم والأتْغَم وجُدَّة وعبد شمس وعبد الثُّريّا. فمن بُطن الأشْعرِيين: مُرَاطة وصنُامة وأسد وسَهْلة وعُكَابة والشَراعبة وعُسَامة والدَّعَالج، ومن أشْراف الأشْعريّين: أبو مُوسى الأشْعريّ عبد الله بن قَيس، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام، ومنهم: مالك بن عامر بن هانيء بن خِفَاف، وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم، وشَهِد القادسية، وهو أول مَن عَبر دِجلة يومَ المَدائن، وقال في ذلك:
امضُوا فإنّ البَحْر بَحرٌ مَأْمُور ... والأوّل القاطعُ منكم مَأجوُر
قد خاب كِسْرى وأبوه سابُور ... ما تَصْنَعون والحديث مَأْثُور
وابنه سَعْد بن مالك، كان من أشراف أهل العراق؛ ومنهم: السائبُ بن مالك، كان على شُرْطة المُختار، وهو الذي قَوّى أمره؛ ومنهم: أبو مالك الأشْعري، زَوّجه النبي عليه الصلاة والسلام إحْدى نساء بني هاشم وقال لها: مارَضِيتِ أن زَوّجتُك رجلاً هو وقومُه خَير من طلعت عليهم الشمس. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا بني هاشم، زَوّجوا الأشْعريين وتَزوجوا إليهم فإنهم في الناس كصرّة المِسْك وكالأترج الذي إِن شَممته ظاهراً وجدتَه طيباً، وإن اخْتبرت باطنَه وجدْتَه طَيباً. فهؤلاء بنو أُدد، وهم مَذْحج وطَيء والأشْعر، بنو أُدد بن زَيد بن يَشْجُب ابن يَعْرُب بن قحْطان.
لخم
هو مالك بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أدد. فَوَلد لَخم جَزِيلة ونمارة، ومنهما تفَرقت بُطون لَخْم. فمن بني نُمارة: بنو الدِّار، وهو هانِيء بن حَبيب ابن نُمارة، منهم: تميم الداريّ، صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام. وفي نُمارة: الأجْوَد، وهم بنو مازن بن عَمرو بن زياد بن نُمارة، رَهْط الطِّرِمَّاح بن حَكيم الشاعر. ويقال: إن الطّرمّاح من طَيّء. ومنهم: قَصِير بن سَعد، صاحب جَذِيمة الأَبرش. ومِن بي نُمارة: مُلوك الحيرة الَّلخْمِيون، رَهْط النُّعمان بن المُنْذر بن امرىء القَيس بن النعمان. وفي جَزِيلة بن لَخْم بُطون كثيرة، منهم: إراش وَحُجْر ويشْكُر وأدب وخالفِة، وهو راشِدة، وغَنم، وجَدِيس، بطن عَظِيم. وفي جَزِيلة بن لخم أيضاً: العَمَرَّط؛ وفيهم: عِبَاد الحيريّ، منهم: رَهْط عَدِيّ بن زيد العباديّ، ومنهم: بنو مَنَارة، وفيهم: جَدَس بن إدريس بن جَزِيلة بن لَخْم؛ ومنهم: مالك بن ذُعْر بن حُجْر ابن جَزيلة بن لَخْم، يقال: إنه الذي استخرج يُوسف بن يَعقوب صَلوات الله وسلامُه عليه من الجُبّ.
جذام

هو جُذَام بن عَدِيِّ بن الحارث بن مُرَّة بن أًدَد. فَوَلدَ جُذَام حَرَاما وحِشْما، منهما تفَرّقت جذام. فمن بني حِشْم بن جُذام: بنو عُتَيب بن أَسْلم بن خالد بن شَنوءة ابن تَدِيل بن حِشْم بن جُذَام، وهم الذين يُنْسبون في بني شَيْبان. وفي حَرَام ابن جُذام: بنو غَطَفان وأفصى ابنا سَعْد بن إياس بن حَرَام، وفيهما عَدد جُذام وشرفُها، ويُقال إنّ غَطَفان بن سَعْد بن قَيْس بن عَيْلان هو هذا. فمن بني أفصى بن سَعْد: رَوْح بن زِنْباع، وَزير عبد الملك بن مَرْوان، وقَيْس بن زيد، وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم. ومن بني غَطَفان بن سَعْد: عَنْبس ونضرْة وأُبَامة وعَبدة وحَرْب ورَيْث وعَبد اللهّ، بُطون كلّهم. فانتَسب رَيْث وعَبد الله في غَطفان بن قَيْس، وغيرُهم في جُذَام.

عاملة
هم بنو الحارث بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرة بن أُدد بن زَيْد بن يَشْجُب ابن عَرِيب بن زَيْد بن كَهْلان بن سَبَأ. ولد الحارث الزُّهد ومُعاوية، وأمهما عاملة بنت مالك بن رَبيعة بن قُضاعة، فنُسبا إلى أمهما. ويُقال: عاملة هو الحارث نفسهُ. فمن بني مُعاوية بن عامِلة: شَعْل وسَلَبة وعِجْل، بُطون كلّهم؛ ومن أشراف عالمة: قَوّال بن عَمرو، وشِهَاب بن بُرْهم، وكان سَيّداً، وهَمّام بن مَعْقل، وكان شرَيفاً مع مَسْلمة بن عبد الملك؛ ومنهم: عَدِيّ بن الرِّقاع الشاعر، ومنهم: قُعَيْسيس، الذي أسر عديّ بن حاتم الطائيّ، فأخذه منه شُعَيب بن الرَّبيعِ الكَلْبي فاطْلقه بغير فِدَاء. فهؤلاء بنو عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أُدد بن زَيْد بن يشْجُب بن عَرِيب بنِ زَيْد بن كَهلان بن سَبأ، وهم لَخْم وجُذَام وعامِلة بنو عَدِيّ بن الحارث، وكِنْدة بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث.
خولان
هو خَوْلان بنِ عَمْرو بن يَعْفُر بن مالك بنِ الحارث بن مُرّة بن أُدَد، فَولد خَوْلان حَبِيباً وعَمْراً والأصْهب وقَيْسا ونَبْتاً وبَكْراً وسَعْداً. منهم: أبو مُسْلم عبد الرحمن بن مِشْكم الفقيه.
جرهم
هو من القبائل القَدِيمة، وهو جُرْهم بن يَقْطَن بن عابَر، وعند عابر تَجْتمعُ يمن ومُضر، لأنّ مُضر كلها بنو فالَغ بن عابَر، واليمَن كلها بنو قَحْطان بن عابر.
حضرموت
هو ابن عَمْرو بن قيس بن مُعاوية بن جُشم بن عَبْد شَمْس بن وائل بن الغَوْث بن حَيْدان بن قُصيَّ بن عَرِيب بن زُهير بن أيمن بن الهَمَيْسِع بن حِميْر. منهم: ذو مَرْحب، وذو نَحْو؛ ومنهم: الأعْدل؛ ومنهم: بنو مَرْثد، وبنو ضجْع، وبنو حُجْر، وبنو رَحَب، وبنو أقْرن، وبنو قَلْيان.
قول الشعوبية
وهم أهل التسوية

ومن حُجّة الشُعوبية على العَرَب أن قالت: إنا ذَهبنا إلى العَدْل والتّسوية، وإلى أنّ الناس كلَّهم من طِينة واحدة وسُلالة رَجُل واحد، واحتججنا بقول النبي عليه الصلاةُ والسلام: المُؤمنون إخْوة تَتكافأ دِماؤُهم وَيسْعَى بذمتهم أدناهمِ وهمُ يد على مَن سواهم. وقوله في حِجة الوَداعِ - وهي خُطبته التي ودع فيها أمته وختم بها نُبوته: أيها الناس، إنّ اللهّ أذهب عنكم نخْوة الجاهليّة وفَخْرها بالآباء، كلّكم لآدم وآدم من تُراب، ليس لعربيّ على عَجَمي فَضْل إلا بالتَّقْوى. وهذا القولُ من النبي عليه الصلاةُ والسلام مُوافق لقَوْل الله تعالى: " إنّ أكرمَكم عِنْد الله أتْقالم " . فأبَيتمِ إلا فَخْراً، وقُلتم لا تُساوينا العَجمُ، وإن تَقدَّمتْنا إلى الإسلام، ثم صَلّت حتى تصِير كأحناء، وصَامت حتى تصير كأوتار، ونَحن نُسامحكم ونُجيبكم إلى الفَخْر بالآباء الذي نَهاكم عنه نَبينا و نبيّكم صلى الله عليه وسلم إذ أبيتم إلا خِلاَفه، وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حَديثه وما أمر به صلى الله عليه وسلم فنرُد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخْبرونا إن قالت لكم العجم: هل تَعدون الفخر كلّه أن يكون مُلْكاً أو نُبُوة؟ فإن زعمتم أنه مُلك قالت لكم: فإن لنا مَلوكَ الأرض كلهم من الفَراعنة والنَّماردة والعَمالقة والأكاسرة؛ والقَياصرة، وهل يَنْبغي لأحد أن يكون له مِثْل ملْك سُليمان الذي سُخرت له إلإنْس والجْنْ والطًير والريح، وإنما هو رَجل منَا، أم. هل كان لأحد مثلُ مُلك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبَلغَ مَطْلع الشَمس ومَغْربها، وبَنىَ ردْماً من حَدِيد ساوَى به بين الصَدَفين وسَجَن وراءَه خَلْقاً من الناس ترْبِي على خَلْق الأرض كلها كثر ة. يقول الله عزّ وجلّ: " حتّى إذا فُتِحَت يَأْجُوج ومَأْجُوج وهُمْ مِن كلّ حَدَب يَنْسِلون " . فليس شيء أَدلَّ على كثر عَدَدهم من هذا، وليس لأحد من وَلد آدم مثلُ آثاره في الأرض، ولو لم يكن له إلا مَنارة الإسكندرية التي أسهها في قَعْر البَحر وجعَل في رَأْسها مِرآة يَظْهر البحر كله في زُجاجتها لكَفي، وكيف ومنّا مًلوك الهِنْد الذين كتب أحدهم إلى عُمر بن عَبد العزيز: من مَلك الأمْلاك الذي هو ابن ألف مَلك، والذي تَحته بِنْت ألف مَلك والذي في مَرْبطه ألف فِيل، والذي له نَهرْان يُنْبِتان العُود والفُوه والْجَوْز والكافور، والذي يُوجد رِيحه علي اثنى عَشر ميلاً، إلى ملك العرَب الذي لايشرْك باللّه شيئاً. أما بعد، فإني أردتُ ان تَبْعث إلي رجلاً يُعَلِّمني الإسلام ويُوقّفني على حُدوده والسلام. وإن زَعَمْتم أنه لا يكون الفَخْر إلا بنُبوّة، فإنِّ منّا الأنبياء والمُرْسلين قاطبةً من لدن آدم ماخَلا أربعة: هُوداً وصَالحاً وإسماعيل ومُحمداً، ومنا المُصْطَفَون من العالمين: آدم، ونُوح، وهما العُنْصران اللّذان تَفرَّع منهما البَشر، فنحن الأصل وأنتم الفَرْع، وإنما أنتم غصْن من أغصاننا، فقُولوا بعد هذا ما شِئْتم وادّعوا، ولم تَزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شَقّ من الأرض ملُوك تَجْمعها، ومدائن تَضمّها، وأحكام تَدِين بها، وفَلْسفة تُنْتجها، وبَدائع تَفْتقها في الأدوات والصّناعات، مثل صَنْعة الدّيباج وهي أبْدع صَنعة، ولَعب الشَطرنج وهي أشْرف لِعْبة، ورُمّانة القَبْان التي يوزن بها رِطْل واحد ومائة رِطْل، ومثلُ فَلْسفة الرُّوم في ذات الخالق، والقَانون، والأْسْطرلاب، الذي يُعدّل به النّجوم، ويُدْرك به عِلْم الأبْعاد ودوَران الأفْلاك، وعلم الكُسوف. ولم يكن للعرب مَلِك يَجْمع سَوادَها، ويَضُم قواصِيَها، ويقْمع ظالمَها، وينْهي سَفِيهها، ولا كان لها قَطُّ نَتِيجة في صِناعة، ولا أثر في فَلْسفة، إلا ما كان من الشّعر، وقد شاركَتْها فيه العَجم، وذلك أن للرّوم أشْعاراً عجيبة قائمة الوَزْن والعَرُوض. فما الذي تَفْخر به العَرب على العجم، وإنما هي كالذّئاب العادية، والوُحوش النَّافرة، يَأْكل بعضُها بعضاً، ويُغير بعضها على بَعْض، فرجالُها مَوْثوقون في حَلَق الأسْر، ونساؤها سَبايا مُرْدَفات على حَقائب الإبلِ، فإذا أدركهنَّ الصَّريخ فاستُنْقِذن بالعشيّ، وقد وُطِئْن كما تُوطأ الطَّريقُ المَهيْع، فَخر بذلك الشاعر فقال: وأَلْحق رَكْب المُرْدفات عَشِيّة

فقيل له: وَيْحك، وأي فَخْر لك في أن تَلْحقهن بالعشى وقد نُكِحْن وامْتُهِنَ.
وقال جَريرُ يعيّر بني دارم بغَلبة قَيس عليهم يومَ رَحْرَحَان:
وبَرحْرحان غَداة كُبِّل مَعْبدُ ... نُكِحت نِساؤُكم بغير مُهُورِ
وقال عَنترة لامرأته:
إنَّ الرِّجال لهم إليكِ وَسيلةٌ ... إِنْ يَأخذُوك تَكحًلي وتَخضَّبِي
وأنا امرؤ إن يَأخذُوني عَنْوَةً ... اَقْرَنْ إلى سَيْر الرِّكاب وأجْنَب
ويكونُ مَرْكبَك القَعود ورحلُه ... وابن النَّعامة عند ذلك مَرْكبي
أراد بابن النعامة: باطنَ القَدم. وسَبى ابن هَبُولة الغَسَّاني آمرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ، فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة وقد كان نالَ منها، فقال لها: هل كان أصابَك؟ قالت: نعم واللّه، فما اشتملت النِّساء على مِثْله، فأوْثقَها بين فَرَسين، ثم استَحْضَرَهما حيث قَطّعاها، وقال في ذلك:
كل أنْثى وإنْ بدَالك مِنها ... آيةُ الوُدِّ عَهدُها خَيْتَعورُ
إنَّ مَن غَره النساءُ بوُد ... بعد هِنْد لجاهلٌ مَغْرور
وسَبَت بنو سًليم رَيحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب، فقال فيها عمرو:
أمن رَيْحانة الدَاعِي السَّمِيعُ ... يُؤرِّقني وأصْحابي هُجُوعُ
وفيها يقول:
إذا لم تَسْتَطع أمراً فَدَعْه ... وَجَاوِزْه إلى ما تَسْتَطِيعُ
وأغار الحَوْفزان على بَنِي سَعْد بن زَيْد مَناة، فاحتمل الزرْقاءَ من بَني ربيع بن الحارث فأعْجبته وأعجبها، فوَقع بها، ثم لَحقه قَيْس بن عاصم، فاستَنْقَذها ورَدّها إلى أهلها بعد أن وُقِع بها. فهذا كان شأنُ العَرَب والعَجم في جَاهليتها، فلما أتى الّله بالإسلام كان للعجم شَطْر الإسلام، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الأحْمر والأسْود من بني آدم، وكان أوَل من تَبعه حُرّ وعَبْد، واختلف الناس فيهما، فقال: قَوم: أبو بَكْر وبلال، وقال قوم: عليّ وصُهَيب. ولما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَدّم صُهَيبَاً على المهاجرين والأنصار، فصلّى بالناس وقيل له: استخلف؛ فقال: ما أجد من أَسْتخلف، فذُكر له السّتة من أهل حِراء، فكُلّهم طَعن عليه، ثم قال: لو أَدركت سالماً مولى أبي حُذيفة حيّاً لما شَكَكْت فيه، فقال في ذلك شاعر العرب:
هذا صُهَيب أمّ كُلَ مُهاجر ... وعَلاَ جَميعَ قبائل الأنْصار
لم يَرْضَ مِنهم واحداً لصَلاتنا ... وهمٍ الهُداة وَقادةُ الأخْبار
هذا ولو كان المُثَرّم سالمٌ ... حيّا لنَال خِلافة الأمْصار
ما بال هذي العُجْم تَحْيا دوننا ... إن الغَوِيّ لَفي عَمًى وخَسَار
وقال بُجير يُعيِّر العرب باختلافها في النَّسب واستلْحاقها للأدْعياء:
زَعمتم بأنِّ الهِنْد اولاد خِنْدفٍ ... وبينكم قُرْبى وبين البرابرِ
وَدَيلم مِن نَسْل ابن ضَبَّة باسل ... وبُرْجان من أولاد عمرو بن عامر
فقد صَار كلُّ الناس أولادَ واحد ... وصاروا سواءً في أصول العنَاصر
بنو الأصْفر الامْلاك أكرمُ مِنكمٍ ... وأولى بقُرْبانا مُلوك الأكاسِر
أتُطْمِع بي صِهْراً دَعيّاً مُجاهراً ... ولم تَر سِتْراً من دَعيّ مُجاهر
وَتَشتم لُؤما رَفطَه وقَبيله ... وتَمْدَح جهلاً طاهِراً وابن طاهر
وقد ذكرتُ هذا الشعر تامّاً في كِتاب النِّساء والأدْعياء والنُّجباء. وقال الحسن بن هانيء على مَذهب الشعوبية:
وجاورت قوماً ليس بَيْني وبَيْنهم ... أَوَاصرُ إلا دَعْوةٌ وظُنونُ
إذا ما دَعا باسمي العريفُ أجبتُه ... إلى دَعْوة ممّا عليَّ تَهُون
لأزْد عُمَان بالمُهلّب نَزْوةٌ ... إذا افتخر الأقوامُ ثُمَّ تَلِين
وبَكْرٌ تَرى أن النُبوة أنْزِلت ... على مِسْمَع في البَطْن وهو جَنِين
وقالت تَمِيم لا نَرى أن واحداً ... كأحْنَفِنا حتى المماتِ يَكُون

فلا لًمْتُ قَيْساً بعدها في قُتيبة ... إذا افتخروا إنّ الفَخار فُنون

رد ابن قتيبة على الشعوبية
قال ابن قتيبة في كتاب تَفْضِيل العرب: وأما أهلُ التّسْوية فإنَّ منهم قوّماً أخذوا ظاهر بَعْض الكِتاب والحديث، فَقَضَوا به ولم يُفتشوا عن مَعناه، فَذَهبوا إلى قَوله عزّ وجلّ: " إنَّ أكْرَمَكم عِنْد الله أتْقالم " ، وقوله: " إنّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ فأصْلِحُوا بَين أخَويكم " ، وإلى قول النبي عليه الصلاةُ والسلامُ في خُطبته في حِجّة الوَداع: أيها الناس، إنَّ الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهليّة وتَفَاخرها بالآباء، ليس لِعرَبيّ على عَجميّ فَخْر إلا بالتَّقوى، كُلّكم لآدمَ وآدمُ من تُراب. وقوله: المُؤمنون تَتَكافأ دِماؤُهم ويَسْعى بذِمّتهم أدناهم وهم يدٌ على من سِوَاهم وإنما المَعنى في هذا أنَ الناس كلَّهم مِن المؤمنين سَواء في طريقِ الأحكام والمنزلةِ عند الله عزّ وجلّ والدَّار الآخرة، ولَو كان النِّاس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فَضْل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدُنيا شر يف ولا مَشْروف، ولا فاضِل ولا مَفْضول. فما مَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريمُ قَوْم فأكْرِموه؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذَوِي الهيئات عَثَراتهم؛ وقوله صلى الله عليه وسلم في قَيْس بن عاصم: هذا سيّد الوَبَر. وكانت العرِب تقول: لا يَزال الناسُ بخير ما تَباينوا فإذا تَساوَوْا هَلَكوا. وتقول: لا يَزالون بخيْر ما كان فيهم أشْراف وأخْيار، فإذا جُمّلوا كلهم جملة واحدة هَلَكوا. وإذا ذَمَّت العربُ قوماً قالوا: سَواسية كأسْنان الحِمار. وكَيف يَستوي الناسُ في فَضَائلهم، والرجلُ الواحد لا تَسْتوي في نَفسه أعضاؤه ولا تَتكافأ مَفاصِله، ولكنْ لبعضها الفضلُ على بعض، وللرأس الفضل على جميع البَدَن بالعَقْل والحواس الخمس. وقالوا: القلبُ أمير الجَسَد، ومن الأعضاء خادمُه ومنها مَخْدومه. قال ابن قُتيبة: ومن أعظم ما ادّعت الشّعوبية فَخْرُهم على العَرب بآدم عليه السلام، وبقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفُضلوني عليه فإنما أنا حَسنة من حَسناته؛ ثم فَخْرُهم بالأنبياء أجمعين، وأنهم من العَجم غيرَ أربعة: هُود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، واحتجّوا بقول الله عزّ وجلّ: " إنَّ الله اصطفي آدم ونُوحاً وآل إبْراهيمَ وآلَ عِمْران على العَاَلمين. ذُرّيَةً بَعضُها مِنْ بَعْض واللّهُ سَمِيعٌ عَليم " . ثم فَخَروا بإسحاق بن إبراهيم، وأنه لِسَارة وأن إسماعيل لأمَة تُسمَى هاجَر. وقال شاعرهم:
في بَلدة لم تَصل عُكْلٌ بها طُنُباً ... ولا خِبَاء ولا عَكّ وهمْدانُ
ولا لجَرِم ولا بَهراء من وَطَن ... لكنّها لِبَني الأحرار أوطان
أرضٌ يُبني بها كِسْرى مسَاكِنَه ... فما بها من بَني اللَّخْناء إِنْسان
فَبنو الأحرار عندهم العَجم، وبنو اللخناء عندهم العَرب، لأنهم من وَلد هاجَر، وهي أمة. وقد غَلطوا في هذا التأويل، وليس كل أمة يقال لها اللخناء، إنما اللخناء من الإماء المُمْتَهنة في رَعْي الإبل وسَقْيها وجمع الحَطب. وإنما أخذ من اللَّخَن، وهو نَتن الرِّيح، يُقال: لَخنُ السقاء، إذا تَغيّر ريحُه. فأما مِثْلُ التي طَهّرها الله من كل دَنس، وارتضاها للخليل فِرَاشا، وللطِّيبَينْ إسماعيل ومحمدٍ أمّاً، وجَعلهما لها سُلالة، فهل يجوز لِمُلحد فضلاً عن مُسلم أن يُسمِّيها لَخْناء.
رد الشعوبية على ابن قتيبة

قال بعضُ مَن يَرى رَأْيَ الشعوبية فيما يَرُد به على ابن قتيبة في تَبايُنِ الناس وتفاضلهم، والسّيد منهم والمَسود: إننا نحن لا نُنكر تَباين الناس ولا تَفاضلهم، ولا السيد منهم ولا المسود، ولا الشَّريف ولا المَشرْوف، ولكنا نزْعم أن تَفاضل الناس فيما بَينهم ليس بآبائهم ولا بأحْسابهم، ولكنه بأفْعالهم وأخلاقهم وشرَف أنْفسهم، وبُعْد هِمَمهم، ألا تَرى أنّه من كان دنيء الهمَّة، ساقِطَ المرُوءة، لم يَشْرُف وإنْ كان مِن بني هاشم في ذُؤَابتها، ومن أمية في أرُومتها، ومن قَيْس في أشْرف بَطْن منها إنَّما الكَرِيم مَن كَرُمت أفعالُه، والشَّريف مَن شَرُفت همَّته، وهو مَعْنى حديثِ النبيّ عليه الصلاة والسلام: إذا أتاكم كَرِيمُ قَوْم فأكْرموه، وقوله في قيس بن عاصم: هذا سيّد أهْل الوَبَر. إنما قال فيه هذا لسُؤدَده في قَوْمه بالذبّ عن حَرِيمهم، وَبَذْلِه رِفْدهُ لهم، ألا تَرى أن عامر بن الطُّفيل، وكان في أشْرف بَطْن في قيس، يقول:
وإنِّي وإنْ كُنتُ ابن سَيِّد عامرٍ ... وفارِسها المَشهور في كُلِّ مَوْكَب
فما سَوَّدتني عامرٌ عن وراثةٍ ... أبىَ الله أنْ أسْمُو بأمِّ ولا أب
ولكنّني أحمي حِمَاها وَأتَّقي ... أَذاها وأرمي مَن رَماها بِمنْكب
وقال آخر:
إِنّا وإنّ كرُمت أوائلنا ... لَسْنَا على الأحْسَاب نَتَّكِلُ
نبْني كما كانت أوائلُنا ... تَبْني ونَفْعل مثلَ مافَعَلُوا
وقال قَيْس بن ساعدة: لأقْضين بين العَرب بقضيَّة لم يَقْض بها أحدٌ قَبلي ولاَ يردّها أحدٌ بعدي، أيُّما رجلٍ رَمَى رجلاً بِمَلأمة دُونها كَرم فلا لُؤم عليه، وأيّما رجل أدّعي كَرماً دونه لُؤم فلا كرم له. ومثله قولُ عائشة أم المؤمنين: كُل كَرم دُونه لُؤم فاللُّؤم أولى به، وكُل لُؤم دونه كرم فالكرمُ أوْلى به تَعني بقولها: أن أوْلى الأشياء بالإنسان طَبائعُ نَفْسه وخِصالُها، فإذا كَرُمت فلا يَضُرُّه لؤم أوَّليته، وإذا لَؤُمت فلا يَنْفعه كرم أوليَّته. وقال الشاعر:
نَفس عِصَامٍ سوَّدت عِصَامَا ... وعَلَّمته الكرَّ والإقْدَامَا
وصَيَّرتْه مَلِكاً هُمامَا
وقال آخر:
ما ليَ عَقْلي وهِمَّتي حَسَبي ... ما أنا مَوْلًى ولا أنا عرَبي
إنِ آنتَمى مُنْتمٍ إلى أحدٍ ... فإنّني مُنْتمٍ إلى أدبي
وتكلَّم رجلٌ عندي عبد الملك بن مَرْوان بكلام ذَهب فيه كل مَذْهب، فأعجب عبدَ الملك ما سمع منه، فقال: ابن مَن أنت يا غلام؟ قال: ابن نَفْسي يا أميرَ المؤمنين التي نِلت بها هذا المَقعد منك؛ قال: صدقتَ. وقال النبي عليه الصلاةُ والسلام: حَسَب الرجل مالُه وكَرمُه دِينه. وقال عُمر بن الخطَّاب: إن كان لك مالٌ فلك حَسَب، وإِن كان لك دِين فلك كَرَم. وما رأيتُ أعجبَ من ابن قُتيبة في كتاب تَفْضِيل العَرِب، إنه ذَهب فيه كُلّ مَذهب من فَضائل العرب، ثم ختم كتابه بمَذْهب الشُّعوبية، فنقَض في آخره كل ما بَنى في أوًله، فقال؛ آخر كلامه: وأعدلُ القول عندي إنَّ الناس كلّهم لأب وأمّ، خُلِقوا من تُراب، وأعيدوا إلى التراب، وجَرَوْا في مَجْرى البَوْل، وطُوُوا على الأقْذاء، فهذا نَسبهُم الأعلى الذي يُردْع به أهلُ العُقول عن التّعظم والكِبْرياء والفَخر بالآباء، ثم إلى الله مَرْجعهم فَتَنْقطع الأنساب؛ وتَبْطًل الأحْساب، إلاّ من كان حَسبُه التَّقوى، أو كانت ماتّتة طاعةَ الله قالت الشُعوبية: إنما كانت العَرب في الجاهليَّة يَنْكح بعضُهم نِساء بعض في غاراتهم بلا عَقْدِ نكاح ولا اسْتِبراء من طَمْث، فكيف يَدْري أحدُهم مَن أَبوه، وقد فَخَر الفرزدقُ ببني ضبَّة وأنهم يَبتزُّون العِيال في حُروبهم في سَبيَّة سَبَوْها من بني عامر بن صَعْصعة:
فَظَلّت وظلُّوا يَرْكبون هَبِيرَها ... وليس لهم إلاَّ عوالِيهم سِتْرُ
والهَبِير: المُطمئن من الأرض، وإنما أرادها هنا فَرْجها، وهو القائل في بَعْض ما يَفْخر به:
ومنّا التَّميِميّ الذي قام أيرُه ... ثلاثن يوماً ثم قد زادَها عَشرا

باب المتعصبين للعرب

قال أصحابُ العصبيَّة من العَرب: لو لم يكن منّا على الموْلَى عَتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكُفر وإخراجنا له من دار الشّرك إلى دار الإيمان كما في الأثر: إنَّ قَوْماً يُقادون إلى حُظوظهم بالسَّوَاجير. وكما قالوا: عَجِب ربُّنا مِن قَوم يقادون إلى الجنَة في السلاسل. يريد إخراجهم من أرض الشرك إلى أرض الإسلام،لَكَفي. على أنَّا تَعَرَّضنا للقَتْل فيهم. فمن أعْظَم عليك نعمةً مِمَّن قَتل نفسَه لحياتك، فاللّهُ أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جِهادَكم، ورَغَّبنا في مُكاتبتكم. وقدَّم نافعُ بن جُبير بن مطْعِم رجلاً من أهل الموالي يُصلِّي به، فقالوا له في ذلك؛ فقال: إنَّما أردتُ أن أتواضع لله بالصَّلاة خلفَه. وكان نافعُ بن جُبير هذا إذا مَرَّت به جِنازة قال: من هذا؟ فإِذا قالوا: قُرشي؛ قال: واقَوْماه! وإذا قالوا: عربيّ؛ قال: وابلدَتاه! وإذا قالوا: مَوْلى؛ قال: هو مالُ الله يَأخذ ما شاء، ويَدَع ما شاء. قال: وكانوا يَقُولون: لا يَقْطع الصلاةَ إلا ثلاثة: حِمار أو كَلب أو مَوْلى. وكانوا لا يَكْنُونهم بالكُنَى، ولا يَدْعُونهم إلا بالأسماء والألْقاب، ولا يَمْشون في الصَّف معهم، ولا يُقَدِّمونهم في المَوْكب، وإن حَضَروا طَعاماً قاموا على رؤوسهم، وإن أطْعموا المولَى لسنّه وفَضله وعِلْمه أَجْلسوه في طَرف الخِوَان، لئلا يَخفي على الناظر أنه ليس من العَرب، ولا يدعونهم يُصلّون على الجَنائز إذا حَضر أحد من العرب، وإن كان الذي يَحُضر غَرِيراً. وكان الخاطب لا يَخطب المرأَةَ منهم إلى أَبيها ولا إلى أخيها وإنما يَخْطُبها إلى مَواليها، فإن رَضيَ زُوِّج وإلا رُدَّ، فإنْ زَوّج الأب والأخ بغير رَأي مَواليه فُسخ النِّكاح، وإن كان قد دَخل بها، وكان سِفاحاً غيرَ نِكاح. وقال زِياد: دعا مُعاوِية الأحْنف بن قَيْس وسَمُرة بن جُنْدب فقال: إنِّي رأيتُ هذه الحَمْراء قد كَثُرت، وأَراها قد طعنت على السَّلف وكأني أنظر إلى وَثْبة منهم على العَرب والسُّلطان، فقد رأيتُ أن أقتل شَطْراً وأدع شَطْراً لإقامة السُّوق وعِمَارة الطريق، فما تَرَوْن؟ فقال الأحنف: أَرى أنَّ نَفْسي لا تَطِيب، يُقْتل أخِي لأمي وخالي وَمَوْلاي! وقد شارَكْناهم وشاركونا في النّسب، فظننتُ أنِّي قد قُتلتُ عنهم، وأطرق. فقال سَمُرة بن جُنْدب: أجعلها إلي أيها الأمير، فأنا أتولّى ذلك منهم وأبْلُغ إلى ما تريد منه. فقال: قوموا حتى أنْظر في هذا الأمر. قال الأحْنف: فَقُمْنا عنه وأنا خائفٌ، وأتيت أهْلي حَزِيناً. فلما كان بالغَداة أرسل إليَّ، فعلمتُ أنه أخذ برَأيي وتَركَ رَأي سَمُرة.

ورُوي أنَّ عامرَ بن عبد القَيْس في نُسْكه وزُهده وتَقشُّفه وإخباته وعبادته كَلَّمه حُمْران مولى عثمان بن عَفّان عند عبد الله بن عامر صاحب العِراق في تَشْنِيع عامر على عثمان وطَعْنه عليه، فأَنكر ذلك، فقال له حُمْران: لا كَثَّر الله فينا مِثلَك؛ فقال له عامر: بل كَثَّر الله فينا مثلك؛ فَقِيل له أَيدعو عليك وتَدعو له؟ قال: نعم، يَكْسَحون طُرَقنا ويَخْرِزون خِفافنا ويَحُوكون ثِيابنا. فاستوى ابن عامر جالساً وكان مُتّكئاً، فقال: ما كنتُ أظنُّك تَعْرِف هذا البابَ لِفَضْلك وزَهادَتك؛ فقال: ليس كلُّ ما ظننتَ أنّي لا أعرفُه لا أَعرفه. وقالوا: إنّ خالد بن عبد الله بن خالد بن أَسِيد لما وجّه أخاه عبدَ العزيز إلى قتال الأزارقة هَزموه، وقَتلوا صاحَبه مُقاتِلَ بنَ مِسْمعٍ، وسَبَوُا امرأته أُمِ حَفْص بنت المنذر بن الجارود العَبْدي، فأقاموها في السّوق حاسرَةً بادية المحاسن، غَالَوْا فيها، وكانت من أَكمَل الناس كمالاً وَحُسْناً، فتَزَايدت فيها العَرب والمَوالى، وكانت العَرب تَزيد فيها على العَصبيَّة، والموالى تزيد فيها على الوَلاء، حتى بَلّغتها العربُ عِشرين ألفاً، ثم تزايدوا فيها حتى بَلَّغوها تسعين ألفاً، فأقبل رجلٌ من الخوارج من عبد القَيْس من خَلْفها بالسيفِ فضرَب عُنقها، فأخذوه ورَفَعوه إلى قَطريّ بن الفُجاءة، فقالوا: يا أمير المُؤمنين، إن هذا استهلك تَسْعين ألفاً من بَيْت المال، وقَتل أَمَة من إماء المؤمنين؛ فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيتُ هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية. قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات وِاحمرّت الحَدق، فلم يَبْق إلاّ الخَبْط بالسّيوف، فرأيتُ أَنَّ تسعينَ أَلفاً في جَنب ما خشِيت من الفِتنة بين المسلمين هَيّنة. فقال قطريّ: خَلُّوا عنه، عَينْ من عُيون الله أصابتها. قالوا: فأَقِدْ منه؛ قال: لا أُقيد من وَزَعَة؛ الله ثم قَدِم هذا العَبْديّ بعد ذلك البَصرةَ وأتى المُنذَر بن الجارود يَسْتَجْديه بذلك السبب، فوَصَله وأحسن إليه.
قال أبو عُبيدة: مَرّ عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النَّحو، فقال: لئن أصلحتموه إنَّكم لأولُ مَنْ أفسده. قال أبو عُبيدة: ليته سَمِع لحن صَفْوان وحاقان ومُؤمّل بن خاقان. الأصمعيّ قال: قَدِمَ أبو مَهْدِيَّة الأعرابي من البادية، فقال له رجل: أبا مَهْدِية، أتَتَوضأون بالبادية؟ قال: والله يا بن أخي، لقد كُنّا نتوضأ فيكفينا التَّوضُّؤ الواحد الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء، يعني المَوَالي، فَجَعَلت تًلِيق أَستاهها بالماء كما تُلاق الدَّوَاة. ونظرَ رجلٌ من الأعراب إلى رجل من الموالي يَسْتَنْجي بماء كثير، فقال له: إلى كَم تَغْسِلها، ويلك! أَتُريد أن تَشْرَب بها سَوِيقاً؟ وكان عَقِيل بن عُلَّفة المريَّ أشدَّ الناس حَمِيَّة في العرب، وكان ساكناً في البادية، وكان يصْهِر إليه الخلفاء. وقال لعبد الملك بن مَرْوَان إذ خطب إليه ابنته الجَرْباء: جَنِّبْني هُجْناء وَلدك. وهو القائل:
كُنَّا بني غَيْظٍ رجالاً فأَصْبَحت ... بنو مالك غَيْظاً وصِرْنا لمالك
لحَى اللَهُ دهراً ذَعْذَعَ المال كُلَّه ... وسوَّدَ أَشْباه الإماء العَوَارك
وقال ابن أبي لَيلى: قال لي عيسى بنُ موسى، وكان جائراً شديد العَصَبيّة.

مَن كان فَقيه البَصْرة؟ قلتُ: الحسنُ بن أبي الحسن، قال: ثمّ مَن؟ قلت: محمد بن سيرين؛ قال: فما هما؟ قلت: مَوْليان؛ قال: فمَن كان فقيه مكة؟ قلت: عَطاء بن أبي رَباح ومُجاهد بن جَبْر وسَعِيد بن جُبير وسُليمان بن يسار؛ قال: فما هؤلاء؟ قلتُ: موإلى، قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زَيْد بن أَسْلم ومحمد ابن المُنكدر ونافع بن أبي نَجيح؛ قال: فما هؤلاء؟ قلت: مَوالى. فتغيّر لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قُباء؟ قلتُ: رَبيعة الرأي وابن الزّناد؛ قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي. فاربدّ وجهه، ثم قال: فمَن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاووس وابنه وهَمّام بن مُنبّه؛ قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجُه وانتصب قاعداً ثم قال: فمن كان فقيه خُراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخُرِاساني، قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مَولى. فازداد وجهُه تربّداً واسودّ اسوداداً حتى خِفْته، ثم قال: فمَن كان فقيه الشام؟ قلت: مَكْحول؛ قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى. فازداد تغيظاً وحَنقاً، ثم قال: فمَن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مِهْران؛ قال؛ فما كان؟ قلت: مولى. قال: فتنفَّس الصُّعداء، ثم قال: فمَن كان فقيه الكوفة؟ قال: فواللّه لولا خوفه لقلت: الحَكم بن عُيَينة وَعمَّار بن أبي سليمان، ولكن رأيتُ فيه الشرَّ، فقلت: إبراهيم والشَّعبي؛ قال: فما كانا؟ قلتُ عَربيَّان، قال: الله أكبر، وسكَن جأشه.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب المَوالي والعرب: أن الحجَّاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبدُ الله بن الجارود، ولَقي ما لقي من قُرَى أهل العراق، وكان أكثر مَن قاتله وخَلعه وخرج عليه الفُقهاء والمُقاتلة والمَوالى من أهل البصرة، فلمّا عَلِم أنهم الجمهور الأكبر، والسَّواد الأعْظم، أَحَبَّ أَنْ يُسْقِط ديوانَهم، ويفرَّق جماعتهم حتى لا يتألَّفوا، ولا يَتعاقدوا، فأقبل على الموالي، وقال، أنتم عُلوج وعَجم، وقُراكم أَوْلى بكم، ففرَّقهم وفَضَّ جَمْعهم كيف أَحَبَّ، وسَيَّرهم كيف شاء، ونَقش على يد كلِّ رجل منهم اسمَ البَلْدة التي وَجَّهه إليها، وكانَ الذي تولًى ذلك منهم رجلٌ من بني سَعْد بن عِجْل بن لُجَيم، يقال له خِرَاش بن جابر. وقال شاعرهمِ:
وأَنْت مَنْ نَقَش العِجْليُّ رَاحتَه ... فَرَّ شيخًك حتى عاد بالحَكَم
يُريد الحَكم بن أيوب الثَّقَفي عامل الحجَّاج على البَصرة. وقال آخر، وهو يعني أهل الكوفة، وقد كان قاضيَهم رجلٌ من الموالي يقال له نوح بن دَرَّاج:
إنّ القيامة فيما أَحسب اقتربتْ ... إذ كان قاضِيَكُمْ نوحُ بن دَرَّاج
لو كان حيّا له الحجّاج مابَقِيَتْ ... صحيحةً كفُّه من نَقْش حَجَّاج
وقال آخر:
جاريةٌ لم تَدْرِ ما سَوْقُ الإبل ... أخْرَجَها الحجَّاجُ من كِنّ وظلّ
لو كان شاهداً حذَيف وَحَمَل ... ما نُقِشَتْ كَفّاك من غير جَدَلْ
ويرْوَى أنِّ أعرابياً من بني العَنْبر دخل علىِ سَوَّار القاضيِ، فقال: إنّ أبي مات وتركني وأخاً لي، وخَطَّ خَطَّيْن، ثم قال: وهَجِيناً، ثم خط خَطّاً ناحية، فكيف يُقَسم المال؟ فقال له سوَّار: ها هنا وارثٌ غيركم؟ قال: لا؟ قال: فالمالُ أثلاثاً؛ قال: ما أَحْسَبُك فهمت عنّي، إنه تَرَكني وأخي وَهجيناً، فكيْف يأخذ الهجينُ كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجَل؛ فغضب الإعرابيِّ، ثم أقبل على سَوّار، فقال: واللّه لقد علمت أنك قليل الخالات بالدّهناء؛ قال سَوّار: لا يَضرّني ذلك عند الله شيئاً.
//كلام العرب قال أحمدُ بن محمد بن عبدِ ربِّه: قد مَضى قولُنا في النَّسب الذي هو سَبَب إلى التعارف، وسُلمٌ إلى التواصل، وفي تَفضيل العَرب. وفي كلام بعض الشًّعوبية، ونحن قائلونِ بعَون اللّه وتوفيقه في كلام الأعراب خاصَةً إذ كان أَشرفَ الكلام حَسَباً، وأكثرَه رَوْنقاً، وأحسنَه دِيباجاً، وأَقلَهُ كلْفَة، وأَوْضَحَه طريقة، وإذ كان مَدَارُ الكلام كلِّه عليه، ومنتسبة إليه

قال رجل من مِنْقر: تكلَّم خالدُ بن صَفْوان بكلام في صُلْح لم يَسْمع الناسُ كلاماً قبلَه مِثْله، وإذا بأَعرابيّ في بَتّ ما في رِجْليه حِذَاء، فأجابه بكلام وَدِدْت أبي مِتُّ قبل أَنْ أَسمعه، فلمّا رأى خالدٌ ما نزل به قال لي: وَيْحك! كيف نُجَاريهم وإنما نَحْكِيهم، أم كيف نُسَابقهم وإنما نَجْري بما سَبق إلينا من أَعْرَاقهم؛ قلتُ له: أبا صَفْوان، واللّه ما ألومك في الأولى، ولا أَدع حَمْدك على الأخرى.
وتكلّم رَبيعةُ الرَّأي يَوْماً بكلام في العِلْم فأكثر، فكأَنَّ العُجبَ دَاخَلَه، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جَنْبه، فقال: ما تَعُدون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصوَّاب؛ قال: فما تَعُدون العِيّ؟ قال: ما كُنتَ فيه منذ اليوم، فكأنما أَلْقَمَه حَجَراً.

قول الأعراب في الدعاء

قال عمرُ بن عبد العزيز رَضي الله عنه: ما قَوْم أَشْبَه بالسلف من الأعراب لولا جَفَاء فيهم. وقال غَيْلان: إذا أَردتَ أن تَسْمع الدُّعاء فاسمع دُعاء الأعراب. قال أبو حاتم: أَمْلَى علينا أَعرابي! يقال له مرثد: اللهم اغْفِر لي والجلْدُ بارد، والنَّفْس رابطة، واللَسان مُنْطَلِق، والصُحف مَنْشورة، والأقلام جارية، وَالتوبة مَقْبولة، والأنْفُس مُريحة، والتَضرع مَرْجُو، قبل أَز العُروق، وحَشَكِ النًفْس، وعلز الصَّدر، وتَزَيُّل الأوْصال، ونُصول الشَعَر، وتَحيًّف التُّراب. وقبل ألّا أقدرَ على استغفارك حين يَفْنى الأجَل، ويَنْقَطع العَمَل، أَعِنِّي على الموت وكُرْبَته، وعلى القَبْر وغُمَّته، وعلى الميزان وخِفّته وعلىِ الصِّراط وزَلَّته، وعلى يوم القيامة ورَوْعته، اغفِر لي مَغْفرة واسعة، لا تُغادر ذَنْباً، ولا تَدَع كَرْباً، اغْفِر لي جميع ما افْتَرَضْتَ عليَّ ولم أُؤده إليك، اغفر لي جميعَ ما تُبْتُ إليك منه ثم عدْتُ فيه. يا رب، تظاهرَتْ عليّ منك النِّعم، وتداركتْ عندك منّي الذنوب، فلك الحمد على النِّعم التي تظاهرَتْ، وأستغفرك للذنوب التي تَدَاركت، وأَمْسيتَ عن عذابي غَنِيّا، وأصبحتُ إلىِ رحمتك فقيراً؟ اللهم إنِّي أسألك نَجَاح الأمَل عند انقطاع الأجل، اللهم اجعل خيْرَ عَمَلي ما وَلي أجَلي، اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتَهم شَكَرِوا، وإذا ابتليتَهم صبروا، إذا هم ذكرتهم ذكروا، واجعل لي قلباً توَّاباً أواباًً، لا فاجراَ ولا مُرْتاباً، اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا، اللهمِ لا تُحَقِّق عليَّ العَذاب، ولا تَقْطَع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تًحِيط بن شفَقتي، وتأتي من ورِائه سُبْحَتي، وتَعْجِز عنه قُوَّتيِ، أَدْعوك دُعاء خَفيفٍ عمله، مُتَظاهرةٍ ذُنوبهُ، ضنينٍ على نفسِه، دُعاءَ مَن بدنه ضعَيف، ومُنَّته عاجزة، قد انتهت عُدَّته، وخَلُقَت جِدَّته، وتمَّ ظِمْؤهُ. اللهم لا تُخَيِّبني وأنا أَرْجوك، ولا تُعَذِّبني وأنا أدعوك، والحمدُ للّه على طُول النَّسيئة، وحُسن!التِّباعة، وتَشنُج العُروق، وإساغة الرِّيق، وتأخّر الشَّدائد، والحمدُ لله على حَلْمه بعد عِلْمه، وعلى عَفْوه بعد قُدْرَته، والحمد للهّ الذي لا يودي قتيلُه، ولا يَخيب سُولُه، ولا يرَدّ رسولُه، اللهم إنّي أَعوذ بك من الفقر إلّا إليك، ومن الذُل إلّا لك، وأعوذ بك أن أقول زُوراً، أو أغشى فُجوراً، أو أكون بك مَغْروراً، أعوذ بك من شماتة الأعداء، وعُضال الداء، وخَيْبة الرَّجاء، وزَوال النَّعمِة، أو فجاءة النِّقمة، دعا أعرابيّ وهو يَطوف بالكَعْبة، فقال: إلهي، مَنْ أَوْلى بالتَقْصير والزّلَل منّي وأَنتَ خَلَقتني، ومَن أَوْلى بالعَفْو منك عَنّي، وعِلْمكُ بي مُحيط، وقَضاؤك فيّ ماض. إلهي أطعْتًك بقُوَّتك والمِنَّة لك، ولم أحْسِن حين أَعْطَيْتَني، وعَصَيْتك بِعلْمك، فَتَجَاوز عن الذُّنوب التي كَتبتَ عليَّ، وأسألك يا إلهي بوجوب رَحْمَتك، وانقطاع حُجتّي، وافتقاري إليك، وغِنَاك عنّي، أن تَغفِر لي وتَرْحمني. اللهم إِنّا أطعناك في أحبِّ الأشياء إليك، شَهادِة أنْ لا إله إلّا أنت وَحْدَك، لا شريكَ لك، ولم نَعْصِك في أبغض الأشياء إليك، الشَّرْكِ بك، فأغفر لي ما بين ذلك. اللهم إنّك انسُ المُؤنسين لأوليائك، وخَيْر المعنيين للمُتوكلين عليك. إلهي، أنت شاهدُهم وغائبهم والمُطلع على ضمائرهم وسرِّ ي لك مَكشوف، وأنا إليك مَلهوف، إذا أَوْحشتني الغُرْبة، انسني ذِكرُك، وإذا أكَبَّتْ عليَّ الهُموم لجأْتُ إلى الاستجارة بك، عِلْماً بأن أزِمَّة الأمور كُلِّها بيدك، ومَصْدَرَها عن قَضائك، فأَقلّني إليك مَغْفُوراً لي، مَعْصوماً بطاعتك باقيَ عُمري، يا أَرْحَم الراحمين.

الأصمعي قال: حَجَجْتُ فرأيتُ أعرابياً يَطوفُ بالكَعْبة ويقول: يا خَير مَوْفود إليه سَعَى إليه الوَفْد، قد ضَعُفَت قوَتي وذَهَبَتْ مُنَّتى، وأَتيتُ إليك بذنُوب لا تَغْسِلها الأنهار، ولا تَحْملها البحار، أَسْتَجير برضاك من سخطك، وبعَفْوك من عقوبتك. ثم التفت فقال: أَيها المُشَفَّعون، ارحموا من شَمِلته الخطايا، وغَمَرَته البَلايا، ارحموا من قَطَع البلاد، وخَفَف ما مَلك من التِّلاد، ارحموا عمن رَنَحته الذنوب، وظهرت منه العُيوب، ارحموا أسَير ضُرّ، وطَرَيد فَقْر، أسأَلكم بالذي أَعملتكم الرغبةُ إليه، إلّا ما سألتم اللّه أن يَهَب لي عظيم جُرْمي. ثم وَضع في حَلْقة الباب خَدَّه وقال: ضَرَع خَدِّي لك، وذَلّ مَقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول:
عَظِيم الذَّنْب مَكْرُوبُ ... مِن الخيْرَات مَسْلوبُ
وقد أَصْبحتُ ذَا فَقْر ... وما عِنْدك مَطْلوب
العُتْبي قال: سمعتُ أعرابياً بعَرفات عَشية عَرَفة وهو يقول: اللهم إنِّ هذه عَشِية من عَشَايا مَحَبَّتك، وأحَدُ أيام زُلْفَتك، يأْمُل فيها مَن لجأ إليك من خَلْقك، لا يُشرك بك شيئَاً، بكل لِسان فيها تدْعى، ولكل خير فيها تُرجى، أتَتْك العُصاة من البلد السّحيق، ودَعَتك العُناة من شُعَب المَضِيق، رجاءَ مالا خلْف له من وَعْدك، ولا انقطاع له من جَزيل عَطائك، أبْدَت لك وُجوهها المَصُونة، صابرِةً على لَفْح السمائم، وبَرْد الليالي، تَرْجو بذلك رِضْوانَك يا غفار، يا مستزاداً من نِعَمه، ومُستعاذاً من كل نِقَمِهِ، ارحم صوتَ حزين دَعاك بزَفِير وشَهِيق. ثم بَسَط كِلْتا يدَيْه إلى السماء، وقال: اللهم، إنْ كنتُ بَسَطتُ يديّ إليك راغباً، فطالما كُفِيت ساهياً بنعمك التي تظاهرتْ عليّ عند الغَفْلة، فلا أيأس منها عند التَّوبة، فلا تَقْطَع رجائي منك لما قَدّمتُ من اقتراف، وَهَبْ لي الإصلاح في الوَلد، والأمْن في البَلد، والعافية في الجَسد، إنك سميع مُجيب. ودَعا أعرابيّ فقال: يا عماد من لا عِماد له، ويا رُكْن من لا رُكْنَ له، ويا مجير الضُّعفاء، ويا مُنْقذ الغَرْقى، ويا عَظيم الرَّجاء، أنت الذي سَبَّح لك سَوَاد الليل وبيَاضُ النهار وضَوْء القَمر وشعاع الشمس وحَفِيف الشَجَر ودَويّ الماء، يا مُحْسن، يا مُجمل، يا مُفْضِلِ، لا أسألك الخيرَ بخير هو عندي، ولكني أسألك بِرْحمتك، فاجعل العافية لي شِعَاراً ودِثاراً، وجُنَّة دون كل بلاء.
الأصمعي قال: خرجت أعرابيّة إلى مِنى فقًطع بها الطريقُ، فقالت: يا ربّ، أخذتَ وأعْطيتَ وأنعَمْت وسَلبت، وكل ذلك مِنْك عَدْل وفَضْل، والذي عًظم على الخلائقِ أمرك لا بسطتُ لِساني بمسألة أحدٍ غَيْرك، ولا بذلتُ رَغْبَتي إلا إليك، يا قُرّة أَعًين السائلين، أغثني بجُود منك أتبحبحْ فيَ فَراديس نِعْمَته، وأتقلَبُ في رَاوُوق نَضرْته، احملني من الرُّجلة، وأغْنني من العَيْلة، وأسدل على ستْرك الذي لا تَخْرِقه الرماح، ولا تزيله الرِّياح، إنَّك سميع الدعاء. قال: وسمعتُ أعرابياً في فَلاة من الأرض وهو يَقول في دُعائه: اللهم إنّ استغفاري إياك مع كثرة ذنُوبي لَلُؤم، وإنَّ تَرْكي الاستغفار مع مَعْرِفتي بسعَة رَحمَتك لَعَجْز. إلهي كم تَحَببْتَ إليّ بنعمك وأنت غَني عنِي، وكم أتبغض إليك بذُنوبي وأنا فقيرٌ إليك. سُبحان من إذا تَوعَد عفا، وإذا وَعَد وَفي.
قال: وسمعتُ أعرابياً يقول في دُعائه: اللهم إنَّ ذُنوبي إليك لا تَضرّك، وإن ر حمتك إياي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يَضرُك، وهَب في ما لا يَنْقصك. قال: وسمعت أعرابياً وهو يقول في دُعائه: اللهم إني أسألك عَمل الخائفين، وخوفَ العاملين، حتى أتَنَغَم بتَرْك النَعيم طَمعاً فيما وَعدت، وخَوْفاً مما أوْعدت. اللهم أعِذْني من سَطَواتك

وَأجِرْني من نِقْمَاتك، سَبَقت لي ذُنوب وأنتَ تَغْفِر لمن يتوب، إليك بك أتَوَسَّل، ومِنْك إليك أفِرّ. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: اللهم إنَ أقواماً آمنوا بك بألسنتهم ليَحْقِنُوا دماءَهم، فأدْرَكوا ما أمَّلوا، وقد آمَنّا بك بقِلوبنا لتُجِيرَنا من عَذابك، فأدرك بنا ما أمَّلنا. قال: ورأيتُ أعرابياً متَعَلِّقاً بأستار الكَعْبة رافعاً يَديه إلى السماء وهو يقول: رَبّ، أتُرَاك مُعَذِّبَنا وتَوْحِيدُك في قَلوبنا وما إخالك تفَعل، ولئن فعلتَ لَتَجمعننا مع قوم طالما أبْغضناهم لك. الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول في صَلاَته: الحمدُ للّه حَمْداً لا يَبْلَى جَدِيدُه، ولا يُحمى عَدِيدُه، ولا تُبْلغ حُدوده. اللهم اجعل الموتَ خيرَ غائب نَنْتظره، واجعل القبرَ خير بَيْت نَعْمُره، واجعل ما بعده خيراً لنا منه. اللهم إنّ عينيّ قد اغْرَوْرقتا دُموعاً من خَشْيتك، فاغفر الزلَّة، وعُدْ بِحِلْمك على جَهل مَن لم يَرْجُ غيرَك. الأصمعي قال: وَقف أعرابيّ في بَعض المواسم فقال: اللهم إنّ لك عليّ حُقوقاً فَتَصدّق بها علِىّ، وللناس قِبلى تَبِعاتٍ فتَحمّلها عنّي، وقد وَجَب لكل ضَيْف قِرَى، وأنا ضَيفُك الليلة، فاجعل قِراي فيها الجنَّة. قال: ورأيتُ أعرابياً أخذ بِحَلْقَتي باب الكَعْبة وهويقول: سائلُك عَبْد ببابك، ذهبت أيامُه، وبقيت آثامه، وانقطعت شَهوتُه، وبقيت تَبِعته، فارضَ عنه، وإن لم تَرْضَ عنه فاعفُ عنه، فقد يعفو المولى عنِ عبده وهو عنه غيرُ راض. قال: ودعا أعرابيّ عند الكعبة فقال: اللهم إنه لا شرَف إلا بفَعال، ولا فعال إلا بَمال، فأعْطِنيِ ما أسْتعين به على شرَف الدُّنيا والآخرة. قال زيدُ بن عُمر: سمعت طاووساً يقول: بينا أنا بمكة إذ رُفعتُ إلى الحجّاج بن يوسف، فَثَنَى لي وساداً فجَلستُ، فبينا نحن نتحدّث إذ سمعتُ صوتَ أعرابيّ في الوادي رافعاً صوتَه بالتَّلبية، فقال الحجّاج: عليّ بالمُلبِّي، فآُتي به، فقال: ممن الرجل؟ قال: مِن أفناء الناس؛ قال: ليس عن هذا سألتُك، قال: فعمّ سألتَني؟ قال: من أيّ البُلدان أنت؟ قالت: من أهل اليمن؛ قال له الحجّاج: فكيف خَلّفت محمدَ بن يوسف، يعني أخاه، وكان عاملَه على اليمَن. قال: خَلَّفته جَسيماً خرّاجاً ولاّجا؛ قال: ليس عن هذا سألتُك. قالت: فعمّ سألتني؟ قال: كيف خلًفت سيرتَه في الناس؟ قال: خلفتُه ظَلُوماً غَشُوماً عاصياً للخالق مُطيعاً للمَخْلوق. فازْورَّ من ذلك الحجاج وقال: لما أقدمك على هذا، وقد تعلم مكانه مني؟ فقال له الأعرابي: أفتراه بمكانه منك أعز مني بمكاني من اللّه تبارك وتعالى، وأنا وافدٌ بَيْته وقاضٍ دَيْنه ومُصدّق نبيّه صلى الله عليه وسلم قال: فوجَم لها الحجّاج! ولم يدر له جواباً حتى خَرج الرجل بلَا إذن. قال: طاووس: فتبعتُه حتى أتي المُلتزَم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألُوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك، الرِّضا بضمانك، مندوحةً عن مَنْع الباخليين، وغنى عما في أيدي المُستأثرين. اللهم عُد بِفَرجك القريب، ومَعْروفك القديم، وعادَتك الحَسَنة. قال طاووس: ثم اختفى في الناس فألفيتُه بعَرفات قائماً على قَدَميه وهو يقول: اللهِم إن كنتَ لم تَقْبل حَجِّي ونَصَبي وتَعبي، فلا تَحْرِمنيِ أجر المُصاب على مُصيبته، فلا اعلم مصيبةً أَعْظَمَ ممّن وَرَد حَوْضك وانصرف مَحْروماً من سَعة رَحمتك الأصمعي قال: رأيتُ أعرابياً يَطُوف بالكَعبة وهو يقول: إلهي، عَجّت إليك الأصواتُ بضروب من اللُّغات يَسْألونك الحاجات، وحاجَتي إليك إلهي أنْ تَذْكرني على طُول البلاء إذ نَسِيَني أهلُ الدنيا. اللهم هَب لي حَقّك، وأَرْض عنّي خَلْقك. للهم لا تُعْيني بطَلب ما لم تقُدّره لي، وما قَدَرْته لي فَيَسِّرِه لي. قال: وَدَعَتْ أعرابية لابن وَجّهته إلى حاجة، فقالت: كان اللّه صاحبَك في أمرك، وخَلِيفَتك في أهلك، ووليَّ نُجْح طَلِبتك، امْض مُصاحَباً مَكْلًوءاً، لا أشْمت اللهّ بك عَدوّا، ولا أرى مُحبّيك فيك سُوءاً، قال: ومات ابنٌ لأعرابي فقال: اللهم إني وهبتُ له ما قَصّر فيه مِن بِرّى، فَهب له ما قَمرّ فيه من طاعتك، فإنك أجْود وأكرم.

قولهم في الرقائق

العُتْبيّ قال: ذَكر أعرابيّ مُصيبةً فقال: مُصيبةٌ واللّه تركتْ سُود الرؤوس بيضاً، بيضَ الوجوه سُوداً، وهَوَّنت المصائبَ بعدها أخذ هذا المعنى بعضً الشعراء فقال يرْثي آلَ أبي سًفيان:
رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آل حَرْب ... بِمقْدار سَمَدْنَ له سُمُودا
فَرَدّ شُعورهن السُّود بيضاً ... ورَدَّ وُجوههن البيضَ سُودا
بكيت بكاء مُوجَعة بحُزْن ... أصاب الدَّهْرُ واحدَها الفريدا،
قال: وقِيل لأعرابيّة أُصيبت بابنها: ما أحسن عَزاءَك؟ قالت: إن فقدي إياه أمنني كل فقد سواه، وإن مَصيبتي به هَونت علي المصائبَ بعده، ثم أنشأت تَقول:
مَن شاء بَعدك فَلْيمُت ... فَعَليك كنتُ أُحاذرُ
أكُنْتَ السوادَ لمُقلتي ... فعليك يَبْكي الناظِر
ليتَ المنازلَ والدِّيا ... رَ حَفائرٌ ومَقابر
وقيل لأعرابيّ: كيف حُزنك على وَلدك؟ قال: ما ترك هَمُّ الغَداة والعِشاء لي حُزْناً. وقيل لأعرابي: ما أذْهب شبابَك؟ قال: مَن طال أمدًه وكثُر ولدُه وذَهب جَلَده ذَهَب شبابُه. وقيل لأعرابيّ: ما أنحل جِسْمَك؟ قال: سُوء الغِذاء، وجُدوبة المَرْعى، واعتلاجُ الهُموم في صَدْري، ثم أنشأ يقول:
الهمُّ ما لم تُمْضه لسبيله ... داءٌ تَضَمَّنُه الضُّلوعُ عَظِيمُ
ولربما استيأستُ ثم أقول لا ... إنّ الذي ضَمِن النجاحَ كريمُ
وقيل لأعرابي قد أخذته السنُّ: كيف أصبحْتَ؟ قال: أصبحتُ تُقيّدني الشِّعرة، وأعثًر في البعرة، قد أقام الدَّهرُ صَعَري بعد أن أقمتُ صَعَره. وقال أعرابيّ: لقد كنتُ أُنكر البَيضاء فصرتً أُنْكر السوداء، فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدل. وقال أعرابيّ:
إذا الرجالُ ولدتْ أولادُها ... وَجعلت أسْقامُها تَعْتادَها
واضطربت من كِبَرِ أعضادها ... فهي زُروع قد دَنا حَصادها
وذَكر أعرابيّ قَطِيعة بعض إخوانه، فقال: صَفِرت عِيَاب الوُدّ بعد امتلائها، واكفهرّت وجوهٌ كانت بمائها، فأدبر ما كان مُقْبلاً، وأقْبل ما كان مُدْبراً. وذكرَ أعرابيّ منزلًا بادَ أهلَه، فقال: منزل واللّه رَحلَتْ عنه رَبّات الخُدُور، وأقامت فيه أثافيّ القُدر، وقد اكْتَسى بالنَّبات، كأنه أُلْبس الحُلَل. وكان أهْلُه يَعْفون فيه آثار الرِّياح، فأصبحت الرِّيح تَعْفو أثارهم، فالعَهد قريب، والمُلتقى بَعِيد. وذَكر أعرابي قوماً تغيرت أحوالهم، فقال أعينٌ والله كُحِلَت بالعَبْرَة بعد الحَبْرة، وأنفُسٌ لَبِسَت الحُزْن بعد السرور. وذكر أعرابيّ قوماً تغيَّرت حالُهم، فقال: كانوا واللّه في عَيْشِ رَقيق الحَوَاشي فطَوَاه الدَّهرُ بعد سَعَة، حتى يَبِست أبدانُهم من القُرّ، ولم أرَ صاحباً أغرَّ من الدنيا، ولا ظالماً أغشمَ من المَوت، ومَن عَصَف به الليلُ والنهارُ أرْدَياه، ومن وُكِّل به الموتُ أفناه. وقَف إعرابيٌّ على دار قد بادَ أهلُها، فقال: دارٌ واللّه مُعْتَصِرة للدّموع، حَطَت بها السحابُ أثقالها، وجرّت بها الرِّياح أذيالَها. وذكر أعرابيّ رجلاً تغيرت حالُه، فقال: طُوِيت صحيفتُه، وذهب رِزْقُه، فالبَلاء مُسْرعٌ إليه، والعَيش عنه قابضٌ كَفيه. وذكر أعرابيّ رجلاً ضاق عيشُه بعد سَعة، فقال: كان واللّه في ظِلّ عيش مَمْدُود، فَقَدحت عليه من الدَّهر يدٌ غير كابية الزَّند.
الأصمعي قال: أَنشدَني العُقيْلي لأعرابيّة ترْثي ابنها:
خَتلتْه المَنونُ بعد اختيال ... بين صَفّين مِن قناَ ونصَال
في رداء من الصفيح صَقِيل ... وقميص من الحديد مُذَال
كُنت أَخْبؤك لاعتداء يَد الدَّه ... ر ولم تَخْطُر المَنون ببالي
وقال أعرابيّ يَرِثي ابنه عند دَفْنه:
دَفنت بكفِّي بعض نَفْسي فأَصْبحتْ ... وللنفس منها دَافِن وَدَفِينُ
وقال أعرابيّ: إنّ الدُّنيا تَنطق بغير لسان، فتُخبر عما يكون بما قد كان. خرج أعرابيّ هارباً من الطاعون، فبينا هو سائر إذا لَدَغَتْه أَفْعى فمات، فقال فيه أبوه:
طافَ يَبْغِي نَجْوَةً ... من هلاكٍ فَهَلَكْ
والمَنايا رَصَدٌ ... للفتى حيثُ سَلَك

كُلّ شيء قاتلٌ ... حينَ تَلْقَى أجلَك
وذَكَر أعرابي بلداً، فقال: بلد كالتُّرس ما تمشي فيه الرِّياح إلّا عابراتِ سَبِيل، ولا يمر فيها السَّفْر إلّا بأَدَلّ دليل.

قولهم في الإستطعام
قَدِمَ أعرابيّ من بني كِنانة على مَعْن بن زائدة وهو باليمن، فقال: إني واللّه ما أعرف سبباً بعد الإسلام والرّحم أقْوى من رِحْلة مِثْلِى من أهل السِّنّ والحَسَب إليك مِن بلاده بلا سَبب ولا وَسِيلة إلّا دُعاءَك إِلى المكارم، ورَغْبَتك في المَعْروف، فإنْ رأَيْتَ أَنْ تَضَعَني مِن نَفْسِك بحيثُ وضعتُ نفْسي من رَجائك فافعل. فَوَصله وأَحْسن إليه. الرَّبيع بن سُليمان قال: سمعتُ الشافعيّ رَضيَ الله تعالى عنه يقول: وَقف أعرابيٌّ على قَوْم، فقال: إنّا - رَحِمَكم اللّه - أبناءُ سَبِيل، وأَنْضاء طَريق، وفُلال سَنَة، رَحِم اللّه امرأً أعْطَى عَن سَعة، ووَاسى من كفاف. فأَعْطاه رَجًلٌ دِرْهماً، فقاٍل: آجَرَك الله من غير أن يَبْتْلِيك. ووَقف أعرابيّ بقوم، فقال: يا قوم تَتابعت علينا سِنون جِماد شِدَاد، لم يَكُنْ للسماء فيها رَجْع، ولا للأرض فيها صَدْع، فَنَصَبَ العِدّ، ونَشِفَ الوَشَل، وأمْحَل الخِصْب، وَكَلَح الجَدْب، وشَفّ المال، وكَسَف البال، وشَظِف المَعاش، وذَهبت الرِّياش، وطرَحَتْني الأيام إليكم غريبَ الدَّار، نائيَ المحلّ، ليس لي ما لم أَرْجع إليه، ولا عَشيرة ألْحَق بها، فَرَحِم اللّه امرأً رَحِم اغترابي، وجعل المعروف جَوابي.
خَرج المهديّ يَطُوف بعد هَدْأَة من اللّيل، فَسَمِعِ أعْرَابيّة من جانب المسجد، وهي تقول: قوم مًعوزون، نَبَت عنهم العُيُون، وفدَحَتْهم الدُّيون، وعَضَّتهم السِّنون، باد رجالُهم، وذهبت أموالهم، أبناء سَبيل، وأَنْضاء طريق، وصيّةَ الله ووصية رسوله، فَهل من أمر بخَيْر، كَلأه اللّه في سفره، وخَلفه في أهله. فأمر نُصَيراً الخادم فدفع إليها خَمْسمائة درهم. الأصمعي قال: أُغير على إبل خُزَيمة، فَرَكب بَحيرةً، فقِيل له: أَتَركب حراماً؟ قال: يَرْكب الحرامَ من لا حَلال له. وقال أعرابي:
يا ليتَ لي نَعْلين من جِلْد الضَّبُع ... كل الحِذَاء يَحْتذي الحافي الوَقِعْ
أبو الحسن قال: اعترض أعرابيّ لِعُتبة بن أَبي سُفْيان وهو على مكَة؛ فقال: أيها الخَلِيفة، قال: لستُ به ولم تَبْعُد؛ قال: فيا أخاه؛ قال: أسْمعتَ فقُل، قال: شك من بني عامر يَتقرّب إِليك بالعُمومة ويَخْتص بالخُئولة، ويَشْكو إليك كَثْرة العِيال، ووَطأة الزّمان، وشِدّة فقْر، وتَرادفَ ضُرّ، وعندك ما يَسعه ويَصرف عنه بُؤسَه. فقال عُتبة، أسْتغفر اللّه مِنك، وأَسْتَعينه عليك، قد أمرنا لك بِغناك، فليتَ إسرْاعَنا إليكَ يَقُوم بإبطائنا عنك.
وسأل أعرابيّ فقال: رَحم اللهّ مُسلماً لم تَمُجَّ أُذناه كلامي، وقَدّم لِنَفسه مَعاذاً من سُوء، مَقامي، فإن البِلاد مُجْدبة، والدَّارَ مُضَيّعة، والحيَاءَ زاجر يمنع مِنِ كلامكم، والعُدْمَ عاذِر يَدْعو إلى إخْباركم، والدعاء إحدى الصَّدَقتين، فرَحم اللّه آمِراً بمَيْر وداعياً بخير. فقال له بعضُ القوم: ممّن الرجل؟ فقال: ممن لا تَنْفعكم مَغرفته، ولَا تَضركم جهالَته، ذل الاكتساب يَمْنع من عِزّ الانتساب. العُتبيّ قال: قَدِم علينا أعرابيّ في فِشّاشٍ قد أَطْردت اللِّصَاصُ إبلَه، فَجَمعتُ له شيئاً من أهل المسجد، فلمّا دفعتُ إليه الدراهم أنشأ يقول:
لا والَّذي أنا عَبْد في عِبادته ... لولا شَماتُه أعداء ذَوِي إحَنِ
ما سرًّني أنّ إبلي في مَبارِكها ... وأنّ أمراً قضاه اللهّ لم يَكُن
أخذ هذا المعنى بعض المُحْدَثين فقال:
لولا شَمَاتَةُ أعداء ذَوِي حَسَدٍ ... وأنْ أنال بنَفْعِىِ مَنْ يُرَجِّينِي
لما خَطَبْتُ إلى الدُّنيا مَطالَبها ... ولا بذلتُ لها عِرْضي ولا دِيني
لكنْ مُنافسة الأكفاء تَحْمِلني ... على أُمور أرَاها سَوْف تُرْدِيني
وقد خَشِيتُ بأن أَبْقَى بمَنزلةٍ ... لا دينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني
العُتبى قال: دخل أعرابيّ على خالد بن عبد اللّه القَسْرى، فلمّا مَثل بين يديه أنشأ يقول:

أَصْلَحَك الله قَلّ ما بيَدي ... فما أُطِيق العِيَالَ إذ كَثُروا
أناخ دَهْرٌ ألْقى بِكَلْكِلِه ... فأَرْسَلُوني إليكَ وانتظروا
قال: أرسَلوك وانتظرِوا! والله لا تَجْلِس حتى تعودَ إليهم بما يَسُرهم، فأَمر له بأربعة َأَبْعِرة مَوْقُورة بُرَّاً وتَمْراَ، وخَلع عليه. الشّيْباني قال: أقبل أعرِابيٌّ إلى مالِك بن طَوْق، فأقام بالرَّحْبة حيناً، وكان الأعرابيّ من بني أسد، صُعْلوكاً في عَبَاءة صُوف وشَمْلة شَعَر، فكلّما أراد الدُّخول منعه الحُجَّاب، وشَتَمه العَبيد، وضربه الأشْرَاط، فلمّا كان في بَعض الأيام خَرج مالكُ بن طَوْق يُريد التنزّه حول الرِّحْبة، فعارَضه الأعرابي، فضربوه، ومَنعوه، فلم يَثْنِه ذلك حتى أخذ بِعِنان فَرسه، ثم قال: أيها الأمير، إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء؛ فقال مالك: دَعوا الأعرابي، هل من حاجة يا أعرابيّ؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، أنْ تَصْغِي إليَّ بَسَمْعك، وَتَنظَر إليّ بطَرفك، وتَقبَل إلي بوجهك؛ قال: نعم، فأنشأ الأعرابيّ يقول:
ببابك دون الناس أنزلتُ حاجَتي ... وأقبلتُ أَسْعَى حولَه وأَطُوفُ
وَيمْنعني الحُجِّابُ والسِّتر مُسْبَلٌ ... وأنتَ بَعِيد والشًّروط صُفوف
يدُورون حَوْلي في الجُلوس كأنهم ... ذِئابٌ جيِاعٌ بَينهَنّ خَرُوف
فأمّا وقد أبصرت وَجهك مُقْبِلاً ... فأُصرف عنه إنني لَضَعِيف
وما لي من الدنيا سِواك ولا لمن ... تركتُ ورائي مَرْبَعٌ ومَصِيف
وقد عَلِم الحَيَّان قيسٌ وخِنْدِفٌ ... ومَنْ هو فيها نازل وحَلِيف
تَخَطيَّ أَعْناقَ المُلوك ورٍحلتي ... إليك وقد أخنت عليَّ صرُوف
فجِئْتُك أَبغي اليُسْرَ منك فمَر بي ... ببابك مَن ضَرْب العَبيد صُنوف
فلا تجعَلنْ في نحو بابل عَوْدة ... فَقَلْبيِ مِن ضَرْب الشرًّوط مَحًوف
فاستضحك مالك حتى كاد أن يَسْقَط عن فرَسه، ثم قالت لمَن حوله: مَن يُعْطِيه دِرْهماً بِدِرْهَمين، وثَوْباً بثَوْبين؟ فوقعت عليه الثِّياب والدَراهم من كل جانب، حتى تَحَيَّر الأعرابيّ، ثم قال له: هل بَقيتْ لك حاجة يا أعرابي؟ قال: أمّا إليك فلا؛ قال: فإلى مَن؟ قال: إلى اللّه أن يُبْقِيَك للعرب، فإنها لا تزال بخير ما بَقِيتَ لها.

دخل أعرابي على هِشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أَتَتْ علينا ثلاثةُ أعوام: فعام أذاب الشَّحْم، وعامٌ أكل اللَّحْم، وعام انْتَقى العَظْم، وعندكم أموال، فإنْ تَكُنْ للّه فَبُثُّوها في عباد اللهّ، وإن تكُن للناس فلِمَ تُحْجَب عنهم؟ وإن تكن لكم فَتَصَدَّقُوا إن اللّه يَجْزِي المُتَصدقين. قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابيّ؟ قال: ما ضربتُ إليك أكبادَ الإبل أَدَّرع الهَجير، وأخُوض الدُّجا لخاصٍّ دون عام، ولا خَير في خير لا يَعُم، فأمر له هِشام بأموال فُرِّقت في الناس، وأمرَ للأعرابيّ بمال فَرقه في قومه. طلب أعرابيّ من رجل حاجةً فوَعده قضاءها، فقال الأعرابي: إنّ مَن وَعد قَضى الحاجةَ وإن كَثًرت، والمَطْل من غير عُسر آفةُ الجود. وقال: أتي أعرابيّ رجلاً لم تَكُن بينهما حُرْمة في حاجة له، فقال: إني امتطيت إليك الرَّجاء، وسِرْت على الأمل، وَوَفْدت بالشُّكر، وتوصَّلت بحُسْن الظنّ فَحَقِّق الأمل، وأَحْسنْ المَنْزلة، وأَكْرِم القَصْد، وأتِمّ الوُدَّ، وعَجِّل المُراد. وقف أعرابيّ على حَلْقَة يُونس النحويّ، فقال: الحمد للّه، وأعوذ بالله أن أُذَكِّر به وأنساه، إنّا أناس قَدِمْنا هذه المدينة، ثلاثون رجلاً لا نَدْفن ميتاً، ولا نتحوّل من مَنزل وإن كَرِهْنا، فرحم اللهّ عبداً تصدَّق على ابن سبيل، ونضْو طريق، وفَلّ سنة، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غِنىِ عن اللهّ، ولا عَمل بعد الموت. يقول اللّه عزّ وجلّ: مَن ذَا الَّذي يُقْرِضُ الله قَرْضاَ حسَنًا. إن اللّه لا يَسْتقْرض مِن عَوَز، وِلكن لِيَبلو خِيَار عباده. وقف أعرابيّ في شهر رمضان على قَوْم، فقال: يا قوم، لقد ختمتْ هذه الفريضةُ على أفواهنا من صُبح أمس، ومَعي بِنْتان لي واللّه ما عَلِمْتهما تخلَّتا بِخلال، فهل رجلٌ كريمٌ يَرْحَم اليوم ذلنا، وَبرُد حُشاشتنا، مَنعه اللهّ أن يقوم مَقامنا، فإنه مَقام ذل وعار وصَغار. فافتَرق القومُ ولم يُعْطوه شيئاً، فالتفت إليهم حتى تأمَّلهم جميعاً، ثم قال: أَشدُّ واللّه عليَّ من سوء حالي وفاقتي توهُّمي فيكم المُواساة، انتعلوا الطريقَ لا صَحِبكم الله. الأصمعي قال: وَقف أعرابيّ علينا، فقال: يا قومُ تتابعت علينا سنون بتغيير وإنتقاص، فما تركت لنا هُبَعاً ولا رُبَعاً، ولا عافطة ولا نافطة، ولا ثاغِيَة ولا راغية، فأماتت الزَّرْع، وقَتلت الضَّرْعَ، وعندكم من مال اللّه فَضْلُ نِعْمة، فأعينوني مِن عَطِية للّه إياكم، وأرحموا أبا أيتام، ونضْوَ زمان، فلقد خَلّفتُ أقواماً ما يمرضون مريضهم، ولا يُكفِّنون مَيِّتهم، ولا يَنْتقلون من منزل إلى منزل، وإن كرهوه. ولقد مَشيت حتى انتعلتُ الدِّماء، وجعْتُ حتى أكلتُ النَّوَى. الأصمعي قال: وقفتْ أعرابيّة من هَوَازن على عبد الرحمنِ بن أبي بَكر الصِّدِّيق رضي اللهّ تعالى عنهما، فقالت: إني أتيتُ من أرض شاسعة، تهبطني هابطة، وتَرْفَعني رافعة، في بواد بَرَيْنَ لَحْمي، وهِضْن عَظمي، وتْرَكْنَني والهة قد ضاق بي البَلد بعد الَأهْل والولد وكَثْرَة من العَدد، لا قَرَابة تُؤْوِيني، ولا عشيرةَ تَحْمين، فسألتُ أحياء العرب: المُرْتَجى سَيْبه، المأمون غَيْبه، الكثير نائلُه، المَكْفيّ سائلُه، فَدُلِلْت عليك، وأنا امرأة هَوَازن فَقَدْتُ الوَلد والوالد، فاصنَع في أمري واحدةً من ثلاث: إمّا أنْ تُحْسِن صفدي، وإمّا أن تُقِيمَ أوَدي، وإمّا أن تَرُدِّني إلى بلدي، قال: بل أَجْمَعُهن لك. ففعل ذلك بها أجمع، وقال أعرابيّ:
يا عمر الخَيْر رُزِقت الجنّة ... اكْسُ بُنَيّاتي وأُمَّهنَّه
وكُن لنا من الَرمان جُنّة ... وارْدُد عَلينا إنّ إنِّ إنّه
أَقْسمتُ باللّه لتَفْعلنّه

الأصمعي قال: وقفتْ أعرابيّة بقوم فقالت: يا قوم، سَنَة جَرَدت، وأَيْدٍ جَمدت، وحال جَهَدَت، فهل من فاعل خَيْر، وآمر بِمَيْر، رَحِم اللّه من رَحِم، وأَقْرَض مَنْ يُقْرض. الأصمعي قال: أصابت الأعرابَ أعوام جَدْبة وشِدّة وجهد، فدخلت طائفةٌ منهم البَصرة، وبين أيديهم أعرابيّ وهو يقول: أيها الناس، إخوانُكم في الدّين وشرُكاؤكم في الإسلام، عابرُو سَبيل، وفُلاّل بُؤْس، وصَرْعى جَدْب، تَتابعت علينا سنون ثلاث غَيّرت النِّعم، وأَهكت النَّعم، فأَكلنا ما بَقي من جُلودها فَوق عِظَامها، فلم نَزل نُعلِّل بذلك أَنْفسنا، ونُمنّي بالغَيْث قُلُوبنا، حتى عاد ُمخّنا عِظاماً، وعاد إشراقنا ظَلاماً، وِأَقبلنا إليكم يَصرعنا الوَعْر، ويَنكُبنا السَّهل، وهذه آثار مَصائبنا، لائحة في سِمَاتنا، فرَحم اللّه مُتصدِّقاً مِن كَثير، ومُواسياً من قَلِيل، فلقد عَظُمت الحاجة، وكَسَف البال، وبَلَغ المجهود، واللهّ يَجْزي المًتصدِّقين. الأصمعي قال: كنتُ في حَلْقة بالبَصرة إذ وَقف علينا أعرابي سائلاً، فقال: أيها الناس، إنّ الفَقْر يَهْتِك الحِجاب، ويُبْرز الكَعاب، وقد حَمَلتنا سِنُو المَصائب ونَكَبات الدهور على مَرْكبها الوَعْر، فَواسُوا أيا أيتام، ونضْو زمان، وطَريد فاقة، وطَرِيح هَلكة، رَحمكم اللّه. أتي أعرابيّ عُمَرَ بن عبد العزيز فقال: رجلٌ من أهل البادية سَاقَتْه إليك الحاجة، وبَلغت به الغاية، واللّه سائلك عن مَقامي هذا. فقال عمر: ما سمعتُ أبلغ مِن قائل، ولا أَوْعظ لمُقول له من كلامك هذا. سَمِع عديّ بن حاتم رجلاً من الأعراب وهو يقول: يا قوم، تَصدَقوا على شَيْخ مُعِيل، وعابر سَبِيل، شَهِد له ظاهرهُ، وسَمِع شَكْواه خَالِقُه، بَدنه مَطْلوب، وثوْبُه مَسْلوب؟ فقال له: مَن أنت؟ قال: رجلٌ من بني سعد سْعَى في دِيَة لَزمَتْني؛؟ قال: فَكم هي؟ قال: مائةُ بَعير؛ قال: دُونكها في بَطن الوادي. سأل أعرابيّ رجلاً، فأعطاه، فقال: جَعل الله للمَعْروف إليك سَبِيلاً، وللخَيْر عليك دَليَلاً، ولا جَعلِ حَظّ السائل منك عِذْرة صادقة. وقف أعرابي بقوم فقال: أَشْكو إليكم أيها الملأ زَماناً كَلَح لي وجهُه، وأَناخ عليّ كَلْكلُه، بعد نَعْمة من البال، وثَرْوة من المال، وغِبْطة من الحال، اعْتَورتْني شدائدُه بِنَبْل مصائبه، عن قسِيّ نَوائبه، فما تَرَك لي ثاغية أَجْتدى ضَرْعَها، ولا راغية أَرْتجى نَفْعها، فهل فيكم من مُعين على صرَفة، أو مُعْدٍ على حَيْفه؛ فَرَدّه القومُ ولم يُنيلوه شيئاً. فأنشأ يقول:
قد ضَاع مَن. يَأْمُل مِن أَمثالكم ... جُوداً وليس الجُود من فَعالكمْ
لا بارك اللّه لكم في مالكم ... ولا أَزاح السُّوء عن عِيَالكم
فالفقرُ خَيرٌ مِن صلاح حالكم
الأصمعي قال: سأل أعرابي، فلم يُعْطَ شَيئاً، فرفع يديه إلى السماء وقال:
يا ربّ أنتَ ثِقَتي وذخْري ... لصِبْيةٍ مثل صغار الذَرّ
جاءهمُ البَرْدُ وهُمْ بِشرَ ... بغير لُحْفٍ وبغير أزْرِ
كأنَّهم خَنَافِس في جُحْر ... تراهمُ بعد صَلاة العَصر
وكلّهم مُلْتَصِق بصدْري ... فاسْمَع دُعائي وتَوَلّ أَجْري
سأل أعرابيّ ومعه ابنتان له، فلم يُعْطَ شيئاً، فأنشأ يقول:
أيَا ابنتيّ صابِرَا أباكما ... إنكما بِعين من يَراكما
اللّه مَوْلاي وهُو مَوْلاكما ... فأَخْلِصا للّه مِن نَجْواكما
تَضرَّعَا لا تَذْخَرا بُكاكما ... لعلّه يرْحَم مَن أَوَاكما
إِنْ تَبْكِيا فالدَّهرُ قد أبكاكما

العُتبي قال: كانت الأعراب تنتجع هِشامَ بن عبد الملك بالخُطَب كلَّ عام، فتقدَّم إليهم الحاجبُ يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابيّ فَحَمِد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ياِ أميرَ المؤمنين، إنَّ اللّه تبارك وتعالى جعل العَطاء مَحبَّة، والمَنْع مَبْغضة، فَلأن نُحبك خيْر من أن نُبغضك. فأعطاه وأجزل له. الأصمعي قال: وَقف أعرابيّ غَنويّ على قوم، فقال بعد التَّسليم: أيها الناس، ذهب النَّيْل، وعَجُف الحَيْل، وبُخِس الكَيْل، فمن يرحم نضْو سفر وفَلّ سَنَة، ويُقْرض اللّه قَرْضاً حسَناً. لا يَسْتقرض اللّهُ من عُدْم ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، ثم أنشأ يقول:
هَل من فَتًى مُقْتدر مُعِين ... على فَقير بائس مِسْكين
أبي بناتٍ وأبي بَنينٍ ... جَزاه ربِّي بالذي يُعْطِينيَ
أفْضَلَ ما يُجْزِي به ذو الدِّين
الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول لرجل: أطعمك اللّه الذي أطعمتَني له، فقد أحييتني بقَتل جُوعي، ودفعت عنّى سُوء ظَنّي بيومي، فحفظك اللّه على كل جَنْب، وفَرِّج عنك كل كَرْب، وغَفَر لك كل ذَنب. وسأل أعرابيّ رجلاً فاعتلّ عليه، فقال: إنْ كنتَ كاذباً فجعلك اللّه صادقاً. وقال أعرابيّ للمأمون:
قلْ للِإمام الذي ترجَى فَضائُله ... رأس الأنام وما الأذْنابُ كالرّاس
إنّي أعوذ بهارونٍ وخفْرِته ... وبابن عَمّ رَسول اللّه عبّاس
مِن أن تُشد رِحالُ العِيس راجعةَ إلى ... اليمامة بالحِرْمان واليَاس
الأصمعي قال: أصابت الأعرابَ مَجاعةٌ، فمررتُ برجل منهم قاعدٍ مع زَوْجته بقارعة الطريق وهو يقول:
يا ربّ إنّي قاعدٌ كما تَرَى ... وزَوْجتي قاعِدةٌ كما تَرَى
والبَطن منّي جائع كما ترى ... فَمَا ترى يا ربَّنا فيما تَرَى
الأصمعي قال: حَدّثني بعضُ الأعراب قال: أصابتنا سَنة وعِنْدنا رجلٌ من غَني وله كَلْب، فَجَعل كلبُه يَعْوي جُوعاً فأنشأ يقول:
تَشَكَّى إليّ الكْلبُ شِدَّةَ جُوعه ... وبي مِثلُ ما بالكلب أو بيَ أكثَرُ
فقلتُ لعلّ اللّه يأتي بِغَيْثِه ... فيُضْحِي كِلاناً قاعداً يَتَكبَّر
كأنّي أميرُ المُؤمنين من الغِنَىِ ... وأنتَ من النُّعْمى كأنّكَ جَعْفر
الأصمعي قال: سأل أعرابيّ رجلاً يقال له عمرو، فأعطاه دِرْهمين، فردّهما عليه وقال:
تَركتُ لعمرو درهميه ولم يكن ... لِيُغنِيَ عنّي فاقَتي دِرْهما عَمْرِو
وقلتُ لعمرو خُذْهما فاصْطَرِفهما ... سرَيعين في نَقْص المروءة والأجْر
أبو الحسنِ قال: وقف علينا أعرابي، فقال: أخٌ في كِتاب اللّه، وجارٌ في بلاد اللّه، وطالبُ خيْر من رِزْق اللّه، فهل فيكم من مُواسٍ في اللّه؟ الأصمعي قال: ضَجِر أعرابيّ بكثرة العِيَال والوَلد وبَلغه أنّ الوَباء بِخَيْبر شَدِيد فَخَرج إليها يُعرِّضهم للموت، وأنشأ يقول:
قلتُ لحُمّى خَيْبرَ استعدي ... هاكِ عِيالي فاجْهَدِي وجِدِّي
وباكِري بصالبٍ ووِردِ ... أعانك اللّه على ذِي الجُنْد
فأخذته الحُمى، فمات هو وبَقي عيالُه. سأل أعرابي شيخاً من بني مَرْوان وحوله قوم جُلوس، فقال: أَصابتنا سَنة ولي بِضيم عَشرَة بِنْتاً فقال الشيخُ: أما السّنة فَوَدِدْت واللّه أنّ بينكم وبين السماء صَفائحَ مِن حديد، ويكون مَسِيلها مما يلي البحر فلا تَقْطر عليكم قطرة، وأمّا البنات فليت اللّه أَضْعفهنّ لك أضْعافاً كثيرة، وجَعلك بينهن مَقْطوع اليدين والرّجلين ليس لهن كاسب غيرك؛ قال: فنظر إليه الأعرابي ثم قال: واللّه ما أَدْري ما أَقول لك، ولكن أَراك قبيحَ المنظر، سيء الخُلق، فأعَضك اللّه ببُظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك. وقف أعرابيّ على رجل شيخ منِ أهل الطائف، فذكرَ لهٍ سنة، وسأله، فقال: وَدِدْتُ واللّه أن الأرض لا تُنبت شيئاً؛ قال: ذلك أيْبَس لجَعْر أمك في آسْتها.

قولهم في المواعظ والزهد

أبو حاتم عن الأصمعي، قال: دَخل أعرابيّ على هِشام بن عبد الملك، فقال له: عِظْني يا أعرابيّ، فقال: كَفى بالقرآن وَاعظاً، أَعُوذ باللّه السميع العَليم من الشيطان الرَّجيم، بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين الذين إذا اكْتَالًوا على النَّاس يَسْتَوْفُون. وإذا كالًوهم أَوْ وَزَنُوهم يُخْسِرُون، أَلَا يَظُنّ أولئك أنَّهُمْ مَبْعُوثون لِيَوْم عَظِيم. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَاَلمِي " ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يُطّفف في الكَيْل والمِيزان، فما ظَنُّك بمن أخذه كلّه. وقال أعرابيّ لأخيه: يا أخي، أَنت طالب ومَطلوب، يَطلبك مَن لا تَفُوته، وتَطلب ما قد كُفِيته، فكأن ما غاب عنك قد كُشف لك، وما أنت فيه قد نُقلت عنه، فأمْهَدْ لِنَفْسِك، وأعِدّ زادك، وخُذْ في جِهَازكَ. وَوَعظ أعرابي أخاً له أَفسد مالَه في الشّراب، فقال: لا الدَّهر يَعظك، ولا الأيام تُنْذِرك، ولا الشّيب يَزْجُرُك، والساعاتُ تُحصى عليك، والأنْفاس تُعَدّ منك، والمَنَايا تُقَادُ إليك، وأحبّ الأمور إليك أعْوَدها بالمَضرَة عليك. وقيل لأعرابيّ: ما لك لا تَشْرب النَّبيذ؟ قال: لثلاث خِلال فيه، لأنه مُتْلف للمال، مُذْهِبٌ للعقل، مُسْقِط للمروءة. وقال أعرابي لرجل: أيّ أخي، إنّ يَسَار النَّفس أفضل من يَسار المال، فإن لم ترْزَق غِنىًِ فلا تُحْرَم تَقْوى، فرُب شَبْعان من النِّعم غَرْثان من الكَرم، واعلم أنَّ المؤمن على خيْر، تُرَحِّب به الأرض، وتَسْتبشر به السماء، ولنِ يُسَاء إليه في بَطْنها، وقد أحْسَن على ظَهْرها. وقال أعرابيّ: الدّرَاهم مَيَاسمِ تَسِم حَمْداً أو ذَمّاً، فمن حَبَسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، ما كان من أعطى مالاً أُعْطِي حَمْداً، ولا كلُّ عَديم ذَميم. أخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أنت للمال إذا أَمْسَكْتَه ... فإذا أنْفَقْتَهُ فالمالُ لَكْ

وهذا نظير قول ابن عبّاس، ونظر إلى دِرْهم في يد رجل، فقال: إنّه ليس لك حتَّى يَخْرج من يدك. وقال أعرابي لأخٍ له: يا أخي، إِنَّ مالَك إن لم يَكُن لك كنتَ له، وإن لم تُفْنه أفناك فكُلْهُ قبل أن يَأْكُلك. وقال أعرابيّ: مَضى لنا سَلف، أهْلُ تواصل، اعتقدوا مِنَناً، واتخذوا الأيادي ذَخيرة لمن بَعدهم، يَرَوْن اصطناع المَعْرُوف عليهم فَرْضاً لازماً، وإظهارَ البر واجباً، ثم جاء الزَّمان ببنين اتخذُوا مِنَنَهم بضاعةً، وبِرَّهم مُرَابحة، وأياديهم تجارة، واصطناع المعروف مُقارضة، كنقد السوق خُذ منيِ وهات. وقال أعرابيّ لولده: يا بُنّي، لا تكُن رأْساً ولا تكن، ذَنَباً، فإن كنت رأساً فتهيَّأْ للنطاح، وإن كنت ذنَبا فتهيَّأ للنِّكاح. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول لابن عمّه: سأتخطَّى ذَنْبَك إلى عُذرك، وإن كنتُ من أحدهما على شَكّ، ومن الآخر على يَقين، ولكن ليَتمّ المعروفُ منِّي إليك، ولتقوم الحُجَّةُ لي عليك. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: إنَّ المُوفَّق مَن تَرك أَرْفق الحالات به لأصلحها لدينه نظَراً لنفسه إذا لم تنظر نفسُه لها. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: الله مُخْلف ما أتلف الناس، والدهر مُتْلِف ما اخْلفوا، وكم من مِيتة عِلَّتها طَلب الحياة، وكم من حياة سَببها التعرُّض للموت. وقال أعرابيّ: إنّ الآمال قطعت أعناق الرِّجال كالسرَاب غَر من رآه، وأخْلَف مَن رَجاه. وقال أعرابيّ: لا تَسْأَل مَن يِفِرّ من أن تسأله ولكن سَل مَن أمرك أن تَسأله، وهو اللّه تعالى. وقيل لأعرابيّ في مَرضه: ما تشتكي؟ قال: تَمام العدّة، وانقضاء المُدَّة. ونظَر أعرابي إلى رجل يَشْكو ما هو فيه من الضِّيق والضر، فقال: يا هذا، أتشكو مَن يَرْحمك إلى مَن لا يَرْحمك. وقالت أعرابيّة لابنها: يا بُنَيَّ، إن سُؤالك الناس ما في أيديهم مِن أشدِّ الإفتقار إليهم، ومن افتقرتَ إليه هُنت عليه، ولا تزال تُحْفظ وتُكرم حتى تَسْأل وتَرْغب، فإذا ألحّت عليك الحاجةُ وَلَزِمك سُوء الحال، فأجعل سُؤالك إلى من إليه حاجةُ السائل والمَسْئول، فإنه يُغنيِ السائل ويَكفي العائل. وقالت أعرابيَّة تُوصي ابناً لها أراد سفراً: يا بُنيَّ، عليك بتقْوى الله، فإنها أجْدَى عليك من كثير عَقْلك، وإياك والنَّمائم، فإنها تُورث الضغائن، وتُفَرِّق بين المُحبين، ومَثَل لنفسِك مثالاً تَسْتَحْسِنه من غيرك فاحْذُ عليه واتخذه إماماً واعلم أنَّه مَن جَمَع بين السَّخاء والْحَياء، فقد أجاد الحُلّة إزارها ورداءها. قال الأصمعي: لا تكون الْحلة إلا ثوبين: إزاراً ورِداء. أنشد الحسن لأعرابيّ كان يَطوف بأمه على عاتقه حول الكعبة:
إنْ تَرْكبي على قَذَالي فاركبي ... فطالما حَمَلْتِني وسِرْتِ بي
في بَطْنك المُطَهَرَ المُطَيَّب ... كم بين هذاك وهذا المَرْكَبَ
وأنشد لآخر كان يَطوف بأمه:
ما حجَّ عَبْد حَجَّةً بأمِّه ... فكان فيها منْفِقاً من كَدّه إلاّ استَتم الأجْرَ

عند ربِّه وقال: وسمعتُ أعرابياً يقول: ما بَقاء عُمْر تَقْطعه الساعات، وسلامة بَدَنٍ مُعَرَّض لِلآفات. ولقد عجِبتُ من المُؤمن كيف يكْره الموت وهو يَنقله إلى الثّواب الذي أحيا له لَيْلَهُ وأظمأ له نهارَه. وذُكر أهلُ السّلطان عند أعرابيّ فقال: أما واللّه لئن عَزُّوا في الدنيا بالجَوْر فقد ذَلّوا في الآخرًة بالعَدْل، ولقد رَضُوا بقليل فإن عوضاً عن كثير باقٍ، وإنما تَزلّ القدم حيثُ لا يَنْفع الندم. ووصف أعرابيّ الدنيا، فقال: هي رَنقِة المشارب، جمَّة المصائب، لا تُمَتِّعك الدهرَ بصاحب. وقال أعرابيّ: مَن كانت مطيَّتاه الليلَ والنهار سارَا به وإن لم يَسِرْ، وبَلَغا به وإن لم يَبْلُغ. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: الزِّهادة في الدنيا مِفتاح الرَّغبة في الآخرة، والزَّهادة في الآخرة مِفْتاح الرغبة في الدُّنيا. وقيل لأعرابيّ وقد مَرِض: إنك تموت، قال: وإذا مِتّ فإلى أين يُذهب بي؟ قالوا: إلى اللّه، قال: فَما كراهتي أن يُذهَب بي إلى مَن لم أرَ الخير إلّا منه. وقال أعرابِي: مَن خاف الموت بادر الفَوْت، ومن لم يُنَحِّ النّفس عن الشهوات أسرعت به إلى الهَلَكات، والجنَّة والنار أمامك. وقال أعرابي لصاحب له: والله لئِن هَمْلَجْتَ إلى الباطل إنك لَعطُوف عن الحق، ولئن أبطأت ليُسر عنَّ إليك، وقد خسِر أقوام وهم يَظنُّون أنهم رابحون، فلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنيا فإن الآخرًة من ورائك. وقال أعرابيُّ: خَيْرٌ من الحياة ما إذا فقدتَه أبغَضْتَ له الحياة، وشرُّ من الموت ما إذا نَزَلَ بك أحببتَ له الموت. وقال أعرابي: حَسْبك مِن فساد أنَّكَ تَرَى أسْنِمَة تُوضع، وأخفافاً تُرْفع، والخَيْرَ يُطْلَبُ عند غير أهله، والفقيرَ قد حَلَّ غيرَ مَحلّه. وقُدَم أعرابي إلى السلطان، فقال له: قُل الحق وإلا أوجعتُك ضربا؛؟ قال له: وأنت فاعمل به، فواللّه لَمَا أوعدك الله على تَرْكه أعظم مما توعِدني به. وقيل لأعرابي: من أحَقُّ الناس بالرحمة؟ قال: الكريمُ يُسَلّط عليه اللئيم، والعاقلُ يُسلط عليه الجاهل. وقيل له: أيّ الداعِين أحقّ بالإجابة؟ قال: المَظلوم الذي لا ناصرَ له إلا اللّه قيل له: فأيّ الناس أَغْنَى عن الناس؟ قال: مَن أفرد اللّه بحاجته. ونَظر عُثمان إلى أعرابي في شَمْلة، غائر العَيْنين، مُشْرف الحاجبين، ناتيء الجَبْهة، فقال له: يا أعرابي. أين ربُّك؟ قال: بالمرصاد. الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول: إذا أَشْكل عليك أمْران فانظر أيّهما أقربً مِن هواك فخالِفْه، فإنَّ أَكثر ما يكونُ الخطأ عليك مع مُتابعة الهوى. قال: وِسمعتُ أعرابياً يقول: منِ نَتَجِ الخير أنْتَج له فِرَاخاً تَطِير بأجْنِحَة السُّرُور، ومَن غرَس الشر أنْبت له نَبَاتاً مُرّاً مَذاقه، قُضْبَانه الغَيْظ وثَمرته النَّدَم. وقال أعرابيّ: الهَوَى عاجلُه لذيذ، وأجلُه وَخيم. وقيل لأعرابيّ: إنك لَحَسن الشَّارة؛ قال: ذلك عُنوان نِعمة اللّه عندي. قال الأصمعي: ورأيتُ أعرابياً أمامه شاءٌ، فقلت له، لمن هذا الشاء؟ قال: هي للّه عندي. وقيل؛ لأعْرابيّ: كيف أنت في دِينك؟ قال: أخرقه بالمَعاصي وأرقَعه بالاستغفار. وقال أعرابيّ: مَن كَساه الحياءُ ثوبَه، خَفِيَ على الناس عَيْبُه. وقال: بِئْس الزادُ التعدِّي على العِباد. وقال: التلطف بالحِيلة أنْفَع من الوَسيلة. وقال: مَنْ ثَقُل على صديقه خَفَّ على عَدوّه، ومَن أسرع إلى الناس بما يَكْرهون قالوا فيه بما لا يَعْلَمون. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول لابنه وهو يُعاتبه: لا تَتَوهمنَّ على مَن يَستدلّى على غائب الأمور يشاهدها الغَفْلَة عن أمُور يُعاينها فَتكونَ بنفسك بدأت وحظًك أخطأتَ. ونَظر أعرابي إلى رجُلٍ حَسَن الوَجْه بَضّه، فقال: إنّي أرَى وجهاً ما عَلقَه بَرْد وضُوء السحر، ولا هو بالذي قال فيه الشاعر:
مِنْ كلِّ مًجتهدٍ يَرَى أَوْصالَه ... صَوْمُ النَّهَارِ وسَجْدة الأسْحَارِ
الأصمعي قال: سمعتً أعرابياً يُنْشد:
وإذا أظْهَرْت أمراً حَسَناً ... فَليَكُنْ أَحْسَنَ منه ما تسِرّ
فَمُسرُ الخَيْر مَوْسُوم به ... ومُسِرُّ الشَّرّ مَرسُوم بِشرّ

وقَوْل الَأعرابيّ هذا علىِ ما جاء في حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أسر امرؤ سريرةً إلا ألبسه اللهّ رداءَها، إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر، قال: وأنشدني أعرابيِّ:
وما هذه الأيام إلاّ مُعارةٌ ... فما اسطعتَ من مَعْرُوفها فتَزوَّدِ
فإنّكَ لا تَدْرِي بأيِّة بلدةٍ ... تَمُوتُ ولا ما يُحْدِثُ الله في غَد
يقولون لا تَبْعَد ومَنْ يَكُ مُسْدَلاًَ ... على وَجْهه سِتْرٌ من الأرض يَبْعُد
وقال أعرابي: أعجز الناس مَنْ قَصَرَ في طلب الإخوان، وأعجز منه مَنْ ضَيع مَنْ ظفرِ به منهم. وقال أعرابي لإبنه: لا يَسُرّك أن تَغلب بالشرّ، فإن الغالب بالشرّ هو المغلوب. وقال أعرابي لأخ له: لقد نَهيتُكَ أن تُرِيق ماءَ وجهك عند من لا ماء في وَجْهه، فإنّ حَظَّكَ من عَطِيَّته السؤال. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: إنّ حُبَّ الخيْر خير وإن عجزتْ عنه المَقْدِرة، وبُغْضَ الشرِّ خير وإن فعلتَ أكثرَه. وشهد أعرابي عند سَوَّار القاضي بشهادة، فقال له: يا أعرِابي: إِنّ ميْداننا لا يَجْري من العِتاق، فيه إلا الجياد؛ قال: لئن كشفتَ عني لتجدَني عَثوراً فسأل عنه سَوار فأخْبر بفضل وصَلاح، فَقال له: يا أعرابي، إنك ممنْ يَجري في ميْداننا؛ قال: ذلك بستْر اللّه. وقال أعرابي: واللّه لولا أن المُرُوءَة ثَقِيل مَحْمَلها، شديدة مؤونتها، ما تَرك اللئام للكِرام شيئاً. احتُضر أعرابي، فقال له بَنوه: عِظْنا يا أبانا؛ فقال: عاشِرُوا الناس مُعاشرة إن غِبْتم حنُّوا إليك، وِإن مُتُّم بَكَوْا عليكم. ودخل أعرابي على بعض الملوك في شَمْلة شَعَر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له: إن الشَّملة لا تُكلِّمك هانما يُكلِّمك مَنْ هو فيها. ومرَّ أعرابي بقوم يَدْفِنون جاريةً، فقال: نِعم الصِّهْرُ ما صاهرتم، وأنشد:
وفي الأعْيَاص أكفاءٌ لِلَيْلَى ... وفي لَحْدٍ لها كُفءٌ كريم
وقال أعرابي: رُبَّ رَجل سِرّه مَنْشور على لسانه، وآخرً قد التَحَف عليه قَلبَه التحافَ الْجَنَاح على الخَوَافي. ومرَّ أعرابيان برجل صَلَبه بعضُ الخُلفاء، فقال أحدُهما: أنْبَتته الطاعةُ وحَصَدتَه المَعْصِية. وقال الآخرً: من طلَّق الدُّنيا فالآخرًةُ صاحبته، ومَن فارق الحقّ فالْجذْع راحلتُه. العُتْبيُّ عَن زَيد بن عُمارة قال: سمعت أعرابياً يقول لأخيه وهو يَبْتني منزلًا: يا أخي
أنتَ في دار شَتَاتٍ ... فتأهَّبْ لِشَتاتِكْ
واجعل الدُّنيا كَيَومْ ... صمته عن شَهَوَاتك
واطْلُب الفَوزَ بِعَيْش الزُّ ... هْد من طُول حَياتك
ثم أطرق حيناً ورَفع رأسَه وهو يقول:
قائِدُ الغَفْلة الأمَلْ ... والهَوَى قائدُ الزَللْ
قَتَلَ الجَهْل أهْلَه ... ونَجَا كل مَنْ عَقَل
فاغْتنِم دَولة السَّلا ... مة واسْتَانِف العمَل
أيُّها المُبْتَني القُصوِ ... رَ وقد شابَ وَاكْتَهَلْ
أخبر الشيب عَنْك أن ... ك في آخرً الأجَل
فَعَلامَ الوُقُوفُ في ... عَرْصة العَجْز والكَسَل
أنتَ في مَنْزل إذا ... حَلِّهُ نازلٌ رَحَل
مَنزلٌ لم يزَلْ يَضِي ... قُ وَينْبو بِمَنْ نَزَل
فتأهَّب لِرِحْلةٍ ... ليس يَسْعَى بها جمل
رِحْلةٍ لم تَزل على الدّهْر ... مَكْرُوهةَ القَفَل

وقيل لأعرابي: كيف كِتْمانك للسر؟ قال: ما جَوْفي له إلا قَبْر. وقال أعرابيِّ: إذا أردتَ أنْ تَعْرف وَفاءَ الرَّجل، ودَوَام عَهْدِه، فانظُر إلى حَنِينه إلى أوْطانِه، وشَوْقه إلى إخوانه، وبُكائه على ما مضى من زَمانه. وقال أعرابيّ: إذا كان الرأي عند مَن لا يُقْبَل منه، والسِّلاح عند من لا يَسْتعمله، والمالُ عند مَن لا يُنفِقه، ضاعت الأمور. وسُئل أعرابي عن القَدَر فقال: الناظرُ في قَدَر اللّه كالناظر في عَيْن الشّمس، يَعْرِف ضَوْءها ولا يَقِف على حدُودها. وسُئل آخرً عن القَدر، فقال: عِلْم اختصمت فيه العُقول، وتَقاوَل فيه المُخْتلفون، وحق علينا أن نَرُدما التَبس علينا من حُكْمِه إلى ما سَبَق من عِلمه. وقال أعرابيّ: تَكْوير اللَيل والنَّهار، لا تَبْقى عليه الأعمار، ولا لأحَد فيه الخِيار. أبو حاتم عن الأصمعي قال: خَرج الَحَجّاج ذات يوم فأصحر، وحَضَر غَداؤه، فقال: اطلُبوا من يَتَغدَّى مَعَنا، فَطلبوا، فلم يَجدُوا إلا أعرابياً في شَمْلة فأتَوْه به؛ فقال له: هَلُمّ؛ قال له: قد دعاني من هو أكرمُ مَنك فأجَبتُه؛ قال: ومَن هو؟ قال: اللّه تبارك وتعالى، دعاني إلى الصَّيام فأنا صائم؛ قال: صَوْم في مثل هذا اليوم على حَرّ؛ قال: صُمْت ليوم هو أحرُّ منه؛ قال: فأفطر اليوم وصُم غداً؛ قال: ويَضْمن لي الأميرُ أن أعيشَ إلى غد؛ قال: ليس ذلك إلي؛ قال: فكيف تَسألني عاجلًا بآجل ليس إليه سَبيل؛ قال: طَعام طَيّب، قال: والله ما طَيَّبَه خَبَّازك ولا طَبَّاخك، ولكن طَيِّبَته العافية؛ قال الحجاج: تاللّه ما رأيت كاليوم، أخرجوه عنِّي. أبو الفَضل الرّياشي قال: أنشدنا أعرابي:
أباكية رُزَينةٌ أن أتاها ... نَعِيٌ أم يكون لها اصطبارُ
إذا ما أهْلُ وُدّي وَدَعُوني ... وراحوا والأكُف بها غُبار
وغُودِر أَعْظُمي في لَحْدِ قَبْر ... تَعاورُه الجَنَائبُ والقِطَار
تَظَل الريح عاصفةً عليه ... ويَرْعَىِ حوله اللَّهِقُ النَّوَار
فَذَاكَ النَّأي لا الهِجْران حَوْلاً ... وحَولاً ثم تَجْتمع الدِّيار
وهذا نظير قول لَيْلَى الأخْيَلِية:
لعَمْرُكَ ما الهِجْران أنْ تَشْحطَ النًوَى ... ولكِنَّما الهجْران ما غيب القَبْرُ
ونظيرُ قول الخنساء:
حسْبُ الخَلِيلَين كَوْنُ الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تَحْتها رِممَا
وأنشد لآخرً:
إذا ما المَنايا أخْطأتْكَ وصادفَتْ ... حَمِيمك فاعلم أنَّها سَتعود
الرياشي، قال: مرَ عمرُ بن الخطَّاب بالجَبّانة، فإذا هو بأعرابي فقال له: ما تصْنع هُنا يا أعرابيّ في هذه الدِّيار المُوحشة؟ قال: وَديعة لي هاهنا يا أمير المؤمنين، قال: ما وَديعتك؟ قال: بنُي لي دَفنتُه، فأنا أخرجُ إليه كلّ يوم أنْدُبه؛ قال: فانْدُبه حتى أسمَع، فأنشأ يقول:
يا غائباً ما يَؤوب مِن سَفَره ... عاجَلَهُ موتُه على صِغَرِهْ
يا قُرة العَينْ كأسا كُنتَ لي سَكَناً ... في طول ليلي نعم وفي قصره
شَرِبْتَ كأساً أبوك شاربُها ... لا بد يوماً له على كبره
يَشْرَبها والأَنَامُ كُلُّهمُ ... من كان في بدوه وفي حضره
فالحمدُ للهّ لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره
قد قُسِّم العُمر في العباد فما ... يقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمُره

قولهم في المدح

ذَكر أعرابيّ قوماً عُبِّادا، فقال: تَركوا واللّه النعيم ليتنعَّموا، لهم عَبرات مُتدافعة، وزفرَات مُتتابعة، لا تَراهم إلا في وَجْه وَجيه عند اللهّ. وذكر أعرابي قوماً، فقال: أدبتهم الحِكْمَة، وأحْكمتهم التجارب، فلم تَغُرهم السلامة المنْطوية على الهلَكة، ورَحل عنهم التسْويفُ الذي به قَطع الناسُ مسافة آجالهم، فَذَلَت ألسنتُهم بالوَعد، وانبسطت أيديهم بالوَجْد، فأحْسنوا المقال، وشَفعوه بالفَعال. وسُئل أعرابيّ عن قَومه، فقالت: كانوا إِذا اصطفِّوا سَفرت بينهم السهام، وإذا تصافَحُوا بالسُّيوف فغَرت المنايا أفواهَها، فرُبّ يوْم عارم قد أحْسَنوا أدبه، أو حَرْب عَبُوس قد ضاحكَتْها أسنّتهم، إِنما قوْميِ البَحر ما ألقمْته التَقَم. وذكر أعرابيّ قوماً، فقال: ما رأيتُ أسرَع إلى داع بلَيْلٍ على فرس حسِيب وَجَمَل نَجَيب منهم، ثم لا ينتظر الأولُ السابقُ الآخرً اللاحق. وذكر أعرابيّ قوماً، فقال: جَعلوا أموالهم مناديل أعراضهم، فالخيرُ بهم زائد، والمعروف لهم شاهد، فيُعطونها بطيبة أنفُسهم إذا طُلبت إليهم، ويباشرون المَعروف بإشراق الوُجوه إذا بُغي لديهم. وذكر أعرابيّ قوماً، فقال: واللهّ ما نالوا شيئَاً بأطراف أناملهم إلا وَطِئناه بأخماص أقدامنا، وإن أقصى هِمهم لأدنى فَعالنا. وذَكرَ أعرابيّ أميراً، فقال: إذا وَلى لم يُطابق بين جُفونه، وأرسل العُيون على عيونه، فهو غائب عنهم، شاهد معهم، فالمُحْسن راج، والمُسيء خائف. ودَخل أعرابي على رجل من الوُلاة، فقال: أصلح الله الأمير، اجعلني زِماماً من أزمتّك لم التي تَجُر بها الأعداء، فإن مِسْعر حَرب، ورَكْاب نُجب، شديد على الأعداء، لَينٌّ على الأصدقاء، مُنْطَوِي الحَصِيلة، قليل الثَّمِيلة، نوميِ غِرَار، قد غَذَتني الحربُ بأفاويقها، وحَلبتُ الدَّهر أشطُرَه، ولا تَمْنعك عني الدَمامة، فإنّ من تحتها شَهامة. وذكر أعرابي رجلاً ببراعة المنطق، فقال: كان واللّه بارع المنطق، جَزْل الألفاظ، عربيّ اللّسان، فَصِيح البَيان، رَقيق حواشي الكلام، بَلِيلِ الرِّيق، قليل الحَرَكات، ساكِنِ الإشارات، وذكر أعرابي رجلاً، فقال: رأيتُ رجلاً له حِلْم وأناة، يُحَدَثك الحديث على مَقاطعه، ويُنشدك الشعر على مَدَارجه، فلا تسمع له لحناً ولا إحالة لعُتْبىٍ قال: ذَكر أعرابي قوماً، فقال: آلتْ سُيوفهم ألاّ تَقْضي ديناً عليهم، ولا تُضَيّع حقَا لهم، فما اخِذ منم مَرْدود إليهم، وما أخذوا مَتْرُوك لهم. ومَدَح أعرابيّ رجلاً، فقال: ما رأيتُ عيناً قطّ أخرًق لظُلْمة الليل مِن عينه، ولَحْظة أشْبَه بِلَهيب النار من لَحْظته، له هِزَة كهِزَّة السِّيف إذا طرِب، وجُرْأة كجرأة الليث إذا غَضِب. ومَدح أعرابي رجلاً، فقال: كان الفَهْمُ منه ذا أذنينِ، والجواب ذا لِسانين، لم أر أحداً أرْثَق لخَلل الرأي منه، بَعِيد مَسافة العقل ومَراد الطَّرف، إنما يَرْمي بهمَّته حيث أشار إليه الكرم. ومدحِ أعرابي رجلاً، فقال: ذاك واللّه فَسِيح النّسب، مُسْتَحكم الأدب، من أيّ أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فَعال وحُسْن مَقال. ومدحِ أعرابيّ رجلاً فقال: كانت ظُلْمة ليله كضَوْء نهاره، آمراً بإرشاد، وناهياً عن فساد، لحديث السّوء غيرَ مُنْقاد وقال أعرابي: إنّ فلاناً خُلِقت، نعم للسانه قَبل أن يًخْلق لسانُه لها، فما تَراه الدهرَ إلاّ وكأنّه لا غِنى له عنك، وإن كُنت إليه أحْوَج، إذا أذنبت إليه غَفَر وكأنّه المُذنب، وإذا أسأتَ إليه أحسن وكأنّه المُسيء. وذكر أعرابي رجلاً، فقال: اشترى واللّه عِرْضه من الأذى، فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرَأى بعدها عليه حُقوقاً، وكان مِنْهاجاً للأمور المُشْكلة إذا تَناجز الناسُ باللاّئمة. ومدح أعرابيّ رجلاً، فقال: كان واللّه يَغْسِل من العار وُجوهاً مُسْوَدَّة، ويفْتحِ من الرأي عُيوناً مُنْسَدًة. وذكر أعرابي رجلاً، فقالت: ذاك والله يَنْفَع سِلْمه، ولا يَسْتمِرّ ظُلْمه، إن قالت فَعل، وإن وَلي عَدَل. ومدح أعراب رجلاً، فقال: ذاك واللّه يُعْنَى في طَلب المَكارم، غيرَ ضالٍّ فيَ مَسالك طُرقها، ولا مُشْتَغل عنها بِغَيْرها. وذكر أعرابي رجلاً، فقال: يُسدِّد الكلمة إلى المعنى فَتَمْرُق مُروق السَّهم من الرميّة، فما أصابَ قَتل، وما أخْطأ أشْوَى، وما عَظْعَظ له سَهْمٌ منذ تَحرّك لسانُه في

فيه. وذكر أعرابي أخاه، فقال: كان واللّه رَكوباً للأهْوال، غيرَ ألوف لربات الحِجَال إِذا أرْعد القومُ منِ غير كرّ يُهين نفساً كريمة على قَوْمها، غير َمُبْقِية لغدٍ ما في يَوْمها. ومدَح رجلٌ رجلاً، فقال: كانّ الألْسُن رِيضت فما تَنْعقد إلاّ على وُدّه، ولا تَنْطق إلا بثَنائه. ومدح أعرابي رجلاً، فقال؟ كان واللّه للإخاء وَصُولاً؛ وللمال بَذولاً وكان الوَفاء بهما عليه كَفِيلا، فَمَنْ فاضَله كان مَفْضولاً. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعُد من حَشْو الكلام، والدَّلالة بالقليلِ على الكَثير. ومدح أعرابيّ رجلاً، فقال: يُصم أذنيه عن استماع الخَنَا، ويُخْرٍس لسانه عن التكلّم به، فهو الماء الشرَّيب، والمِصْقع الخَطيب. وذَكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ذاك رجال سَبق إليَّ مَعْروفُه قبل طَلَبي إليه، فالعِرْض وَافِر، والوَجْه بمائه، وما استقل بنعمة إلا أثْقلني بأخرى. وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال: ذاك رَضيع الجُود، والمَفْطُوم به، عَييّ عن الفَحْشاء، مًعْتَصِم بالتَقوى، إذا خَرِست الألسن عن الرأي حَذَفَ بالصَواب، كما يَحْذف الأريب، فإِن طالت الغايةُ، ولم يكن مِن دُونها نِهاية، تَمّهل أمام القوم سابقاً. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: إنّ جَليسه لِطيب عِشْرَته أطربُ من الإبل على الحُدَاء، والثَّمِل على الغِنَاء. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: كان له عِلْم لا يُخالطه جَهْل، وصِدْقٌ لا يَشُوبه كَذِب، كأنه الوَبْل عند المَحْل. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ذاك واللهّ من شجر لا يُخلف ثمره، ومن بَحر لا يُخاف كدره. وذكر أعرابي رجلاً، فقالت: ذاك واللّه فتى ربّاه الله بالخير ناشئاً فَأحْسن لِبْسَه، وزين به نفسه. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ما رأيتُ أعشق للمعروف منه، وما رأيتُ النكر أبغضَ لأحَدٍ منه. وقَدِم أعرابيّ البادِية، وقد نال من بني بَرْمك، فَقِيل له: كيف رأيتَهم؟ قال: رأيتُهم وقد أنِسَتْ بهم النّعمة كأنها من بناتهم. قال: وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: مازال يَبْتني المجدَ، ويَشْتري الحمْدَ، حتى بَلغ منه الجَهْد. ودَخل أعرابي على بعضيه. وذكر أعرابي أخاه، فقال: كان واللّه رَكوباً للأهْوال، غيرَ ألوف لربات الحِجَال إِذا أرْعد القومُ منِ غير كرّ يُهين نفساً كريمة على قَوْمها، غير َمُبْقِية لغدٍ ما في يَوْمها. ومدَح رجلٌ رجلاً، فقال: كانّ الألْسُن رِيضت فما تَنْعقد إلاّ على وُدّه، ولا تَنْطق إلا بثَنائه. ومدح أعرابي رجلاً، فقال؟ كان واللّه للإخاء وَصُولاً؛ وللمال بَذولاً وكان الوَفاء بهما عليه كَفِيلا، فَمَنْ فاضَله كان مَفْضولاً. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعُد من حَشْو الكلام، والدَّلالة بالقليلِ على الكَثير. ومدح أعرابيّ رجلاً، فقال: يُصم أذنيه عن استماع الخَنَا، ويُخْرٍس لسانه عن التكلّم به، فهو الماء الشرَّيب، والمِصْقع الخَطيب. وذَكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ذاك رجال سَبق إليَّ مَعْروفُه قبل طَلَبي إليه، فالعِرْض وَافِر، والوَجْه بمائه، وما استقل بنعمة إلا أثْقلني بأخرى. وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال: ذاك رَضيع الجُود، والمَفْطُوم به، عَييّ عن الفَحْشاء، مًعْتَصِم بالتَقوى، إذا خَرِست الألسن عن الرأي حَذَفَ بالصَواب، كما يَحْذف الأريب، فإِن طالت الغايةُ، ولم يكن مِن دُونها نِهاية، تَمّهل أمام القوم سابقاً. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: إنّ جَليسه لِطيب عِشْرَته أطربُ من الإبل على الحُدَاء، والثَّمِل على الغِنَاء. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: كان له عِلْم لا يُخالطه جَهْل، وصِدْقٌ لا يَشُوبه كَذِب، كأنه الوَبْل عند المَحْل. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ذاك واللهّ من شجر لا يُخلف ثمره، ومن بَحر لا يُخاف كدره. وذكر أعرابي رجلاً، فقالت: ذاك واللّه فتى ربّاه الله بالخير ناشئاً فَأحْسن لِبْسَه، وزين به نفسه. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: ما رأيتُ أعشق للمعروف منه، وما رأيتُ النكر أبغضَ لأحَدٍ منه. وقَدِم أعرابيّ البادِية، وقد نال من بني بَرْمك، فَقِيل له: كيف رأيتَهم؟ قال: رأيتُهم وقد أنِسَتْ بهم النّعمة كأنها من بناتهم. قال: وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: مازال يَبْتني المجدَ، ويَشْتري الحمْدَ، حتى بَلغ منه الجَهْد. ودَخل أعرابي على بعض

المُلوك، فقال: إنَّ جهلاَ أن يقول المادحُ بخلاف ما يَعْرِف من المَمْدُوح، وإنّي واللّه ما رأيتُ أعشق للمكارم في زَمانِ اللؤم منك، ثم أنشد:
مالي أرى أبْوَابهم مَهجُورةً ... وكأنَ بابَك مَجْمَع الأسْوَاقِ
حابَوك أم هابُوك أم شامُوا النَّدَى ... بيدَيْك فاجتمعوا مِن الآفاق
إنّي رأيتُك للمكارم عاشقاً ... والمَكْرُمات قليلة العُشاق
وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى:
بَنت المكارمُ وَسْطَ كفّك بَيْتَها ... فَتِلادُها بك للصديق مباح
وإذا المَكارمُ أغْلقت أبوابَها ... يوماً فأنت لقفها مفتاح
وأنشد أعرابيٌّ في بني المُهلّب:
قَدِمت على آل المهلب شاتِياً ... قَصياً بعيد الدار في زمن المحل
فما زال بي إلْطافُهم وافتقادُهم ... وبِرُّهُم حتى حسبتهم أهْلِي
وأنشد أعرابيّ:
كأنك في الكتاب وَجَدْتَ لاءً ... مُحرمةً عليك فما تَحِل
وما تَدْرِي إذا أعْطِيتَ مالاً ... أتكثِر مِن سَماحك أمْ تُقِلّ
إذا دَخل الشتاءُ فأنت شَمْسٌ ... وإنْ دَخل المَصِيف فأنت ظِلّ
وقال أعرابي في مَدْح عُمر بن عبد العزيز:
مُقَابَل الأعْراق في الطاب الطاب ... بين أبي العَاص وآل الخَطَابْ
وأنشد أعرابي:
لنَا جَواد أعار النَيْلَ نائلَه ... فالنيلُ يَشْكر منه كثرَْة النَّيْل
إن بارز الشمسَ ألْفي الشمسَ مُظْلِمةً ... أو أزحم الصم ألجاها إلى الميل
أهْدَى من النجْم إنْ نابته مُشْكلةٌ ... وعند إمضائه أمضي من السيل
والموت يرهب أن يَلْقى مَنيّته ... في شَدّه عند لَفّ الخَيْل بالخَيْل
قولهمَ في الذم
الأصمعي: قال: ذكر أعرابي قوماً، فقال: أولئك سُلِخت أَقْفاؤُهم بالهجاء، ودُبغت وجُوههم باللُّؤم، لباسُهُم في الدُّنيا الملامة، وزادُهم إلى الآخرًة النَّدامة. قالَ: وذَكر أعرابي قوماً فقال: لهم بُيوت تدْخل حَبْواً إلى غير نمارق وَلا وَسائد، فُصُح الأْسن برَدِّ السائِل، جُعْد الأكُف عن النّائل. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: لقد صَغر فلاناً في عيني عظمُ الدًّنيا في عَينه، وكأنما يَرى السائلَ إذا أتاه مَلَكَ الموت إذا رآه وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ما ظَنُّكم بِسكِّير لا يًفيق، يَتّهم الصَّديق، ويعصي الشفيق في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو أفلتَت كلمة سُوء لم تصر إلا إليه،ولو نزلت لعنة من السماءِ لم تَقَع إلّا عليه. وذكر أعرابيّ قوماً فقال: أقلُّ الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم جُرما إلى أصدقائهم، يَصُومون عن المعروف، ويَفطِرون على الفحشاء. وذكر أعرابيّ رجلاً، فقال: إِنَّ فلانا ليُعْدِي بإثمه من تَسمَّى باسمه، ولئن خَيَّبني فلرُبّ قافية قد ضاعت في طَلب رجل كريم. وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال: تَغْدو إليه مواكب الضَّلالة فَتَرْجع من عنده بِبُدُور الآثام، مُعْدِم مما تُحِب، مُثْرِ مما تَكْره، وصاحبُ السُّوء قِطْعة من النار. وقال أعرابيّ لرجل: أنت واللّه ممن إذا سأل ألحف، وإذا سُئِل سَوّف، وإذا حدَث حَلف، وإذا وَعَدَ أخْلف، تَنْظُر نَظَر حَسُود، وتُعْرِض إعْراض حَقُود. وسافر أعرابيّ إلى رجل فَحَرَمه، فقال لما سُئل عن سَفره: ما رَبحْنا في سَفَرنا إلا ما قصَرنا من صَلاَتنا، فأما الذي لَقِينا من الهواجر، ولَقِيتْ منا الأباعر، فَعُقوبة لنا فيما أفْسدنا من حُسنْ ظَنِّنا، ثم أنشأ يقول:
رَجَعنا ساِلمِينَ كما خَرَجنا ... وما خابت سريّة سالمينَا
وقال أعرابيّ يهجو رجلاً:
ولمّا رأيتُك لا فاجراً ... قَويًّا ولا أنت بالزَّاهدِ
ولا أنت بالرَّجُل المُتَّقِي ... ولا أنتَ بالرَّجل العَابد
عرضْتُك في السوقِ سوقِ الرَّقيقِ ... وناديتُ هل فيك مِنْ زائدِ
على رَجُل خائن للصَّديق ... كَفُور بأنْعُمه جاحِد
فما جاءني رجلٌ واحدٌ ... يَزيد على دِرْهم واحد

سِوَى رَجُل زَادَني دَانَقاً ... ولم يك في ذَاك بالجًاهد
فَبعْتك منه بلا شاهد ... مخافَة رَدّك بالشَّاهد
وأبتُ إلى منزلي غانماً ... وحَلَّ البَلاَءُ على الناقد
وذَكر أعرابي رجلاً فقَال: كان إذا رآني قَرَّب من حاجب حاجباً، فأقول له؛ لا تُقبِّحٍ وَجهك إلى قُبحه، فواللّه ما أتيتُك لِطَمع راغباً، ولا لِخَوفً راهباً. وذَمّ أعرابيّ رجلاً، فقال: عَبْد الفَعال، حُرِّ المَقال، عَظيم الزُّواق، دنيء الأخلاق الدَّهر يَرفعه ونَفْسُه تَضَعه. وذَمَّ أعرابي رجلاً، فقال: ضَيِّق الصَّدر، صَغير القَدْر عَظِيم الكِبْر، قَصِير الشِّبر، لَئيم النَّجْر، كَثِير الفَخْر. وقال أعرابيّ: دخلتُ البصرةَ فرأيت ثِياب أحْرار على أجساد عَبِيد، إِقبالُ حظِّهم إِدْبار حَظّ الكِرام، شَجَر أصوله عند فُروعه، شَغَلهم عن المعروف رَغْبتهم في المنكر. وذَكر أعرابي رجلاً، فقال: ذاك يَتيم المجالس، أعْيا ما يكون عند جُلسائه، أبلَغُ ما يكون عند نَفْسه. وذكر أعرابيّ رجلاً فقال: ذلك إِلى مَن يًداوي عقلَه من الجهل أحوجُ منه إلى من يداوي بدنه من المرض إنه لا مرضَ أوجع من قلة عَقْل. وذكر أعرابي رجلاً لم يُدْرك بثأره، فقال: كيف يُدْرك بثأره مَن في صَدْره من اللُّؤْم حَشْوً مرْفقيه، ولو دُقّت بوجهه الحِجارة لرَضّها، ولو خَلا بالكَعبة لَسَرَقها. وذَكر أعرابي رجلاً، فقال: تَسهر والله زوجتُه جُوعا إذا سَهِر الناسُ شِبَعا، ثم لا يَخاف مع ذلك عاجل عار ولا آجل نار، كالبهيمة أكلَت ما جَمَعت، ونَكحت ما وجدت. وسمع أعرابي رجلاً يَدْعو، فقال: وَيحك! إنما يُستجاب لمُؤمن أو مَظلوم، ولستَ بواحدٍ منهما، وأراك يَخفّ عليك ثِقل الذُّنوب فَتَحْسُنِ عنْدك مَقَابح العُيوب. وذكر أعرابي رجلاً بِضَعْفٍ، فقال: سيء الرَّويّة، قليل التَّقِيَّة، كثير السِّعاية، ضَعِيف النّكاية. وذكر أعرابي رجلاً، فقال: عليه كلَّ يوم من فِعْله شاهد بفِسْقه، وشهاداتُ الأفعال أعدل من شهادات الرّجال. وذَكَر أعرابي رجلاً بذِلّة، فقال: عاش خاملاً ومات مَوْتوراً. وذَكَر قوماً ألْبِسُوا نِعمة ثم عُرًّوا منها، فقال ما كانت النّعمة فيهم إلا طَيْفا، لما انتبهوا لها ذهبت عنهم. وذَمَّ أعرابي رجلاً، فقال: هو، كالعَبْد القِنّ، يَسُرُّك شاهداً، ويسوءك غائباً. ودَعت أعرابية على رجل، فقال: أمْكنِ اللّه منك عدوّا حُسودا، وفَجعِ بك صَدِيقاً وَدُودا، وسَلَّط عليك هَمًّا يُضنِيك، وجَاراَ يُؤذِيك. وقال أعرابيّ لرجُل شريف البَيْت، دنيء الهمّة: ما أحْوَجَكَ إلى أن يكون عِرْضُك لمن يَصُونه، فتكونَ فوقَ مَن أنتَ دُونه. وذَكر أعرابيّ رجلاً. فقال: إنْ حَدثته سابقك إلى ذلك الحَدِيث، وإن سَكَتّ عنه أخذ في التُرهات. وذكرَ أعرابي أميراً، فقال: يَصِل النَّشْوَة، ويَقْضي بالعَشْوَة، ويَقْبَل الرِّشْوةَ. وذكر أعرابيّ رجلاً راكباً هواه، فقال: لهو واللهّ أسْرع إلى ما يهوَاه، من الأسَن إلى راكد، المياه، أفقره ذلك أو أغنَاه. وقال أعرابيّ: ليتَ فلاناً أقَالَني من حُسْن ظَنِّي به فأخْتِمَ بصَوَاب إذ بدأتُ بخطأ، ولكنْ من لم تُحْكِمْهُ التَجَارب أسْرَع بالمَدْح إلى مَنْ يَسْتوجب الذّم، وبالذّم إلى مَن يَسْتوجب المَدْح. وقال أعرابيّ لرجل: هل أنتَ إلا أنتَ لم تتغيّر، ولو كُنت من حدِيد ووُضعتَ في أتُون مَحْمِيّ لم تَذُب. وسمعتُ أعرابياً يقول لأخيه: قد كنتُ نَهيتُكَ أن تُدَنِّس عِرْضك بعِرْض فلان، وأعلمتُك أنه سَمين المَال، مَهْزول المَعْروف، من المَرْزوقين فُجاءة، قَصِير عمر الغِنَى، طَوِيل عًمْر الفَقْر.
أقْبَل أعْراب! إلى سَوَار فلم يصَادف عنده ما أحب، فقال فيه:
رأيتُ لي رُؤيا وعَبَّرْتُها ... وكنتُ للأحْلام عبّارَا
بأنني أخبِطَ في لَيْلَتي ... كَلبًا فكان الكَلْبُ سَوَّارا
وقال أعرابي في ابن عم له يُسَمَّى زِيَاداً:
مَنْ يُقَادِرْ مَن يُطَافِس ... مَن يُناذل بِزِياد
مَن يُبادلني قريباً ... ببعيد مِن إيَادِ
وقال سَعِيد بن سَلْم الباهليّ: مدَحَني أعرابي، فاسْتَبطأ الثواب، فقال:

لكلِّ أخِي مَدْحٍ ثوابٌ يعده ... وليسِ لِمَدْح الباهلي ثَوَابُ
مَدَحْتُ سَعِيداً والمَدِيحُ مهَزَةٌ ... فكان كَصَفْوَانٍ عليه ترَابُ
وقاد أيضاً:
وإنّ مِن غايةِ حِرْص الفَتَى ... طِلاَبُه المَعْروفَ في باهِلَهْ
كبِيرُهم وَغد وَمَوْلودهم ... تَلْعَنُه من قُبْحِه القابِلَه
وقال أيضاً:
سَبَكْنَاهُ ونَحْسَبه لُجَيْنًا ... فأبْدَى الكير عن خبَثِ الحديدِ
وقال فيه:
لما رَآنا فَرَّ بوَّابُه ... وانسَد َمن غير يَدٍ بابُه
وعِنْده مِن مَقْته حاجب ... يَحْجُبه إن غاب حُجَّابُه
دَخَل أعرابيّ على المُساور بن هِنْد وهو على الري فلم يُعْطِه شيئاً، فخرج وهو يقول:
أتيتُ المُساوِرَ في حاجَةٍ ... ما زَالَ يَسْعُل حتى ضَرَطْ
وَحَكً قَفَاه بِكًرْ سُوعِه ... ومسحَ عُثْنُونه وامْتَخَط؟
فأمْسكتُ عن حاجَتي خِيفة ... لأخرى تُقَطّعُ شَرْجَ السَّفَط
فأقسم لوعُدْت في حاجَتي ... للطَّخ بالسًلْح وَشي النَّمَط
وقال غَلِطْنَا حِسَاب الخَرَاج ... فقلتُ من الضّرْط جاء الغَلَط
وكان كلما ركب صاح الصِّبيان: من الضّرْط جاء الغلط، حتى هَرَب من غير عَزْل إلى بلاد أَصْبهان.
أبو حاتِم عن أبي زَيْد، قال: أنشدنا أعرابيّ في رجل قَصِير:
يَكاد خَلِيلي من تَقارُب شَخْصِه ... يَعَضُ القُرَادُ باسْته وهو قائمُ
وذَكَر أعرابيّ امرأة قَبيحة، فقال: تُرْخِى ذَيْلها على عُرْقوبي نَعامة، وتَسْدِل خِمارها على وَجه كالُجعَالة.
العُتْبي قال: سَمعتُ أعرابياً يقول: لا تَرك اللهّ مخًّا في سُلامَى ناقة حَمَلتْني إليك، والدَّاعي عليها أحقُّ بالدَعاء عَليك، إذ كلَّفها المسيرَ إليك؛ وقال أعرابي لابن الزبير بوركت ناقة حملتني إليك. قال: إنّ وصاحبها. قوله: إن، يُريد: نعم. قال ابن قيس الرقيّات:
ويَقُلْن شَيْبٌ قد عَلا ... ك وقد كَبِرْتَ فقلتَ إنَّه
يريد: نعم. وذَكر أعرابيّ رجلاً، فقال: لا يُؤْنِسُ جارًا، ولا يُؤهل دارا، ولا يُثْقِب نارا. وسأل أعرابيّ رجلاً فَحَرمه، فقال له أخوه: نزلتَ واللهّ بوادٍ غير مَمطور، وبرجُل غير مَبْرورِ، فارتحِل بنَدَم، أو أقِمْ بعَدَم. ودخلت أعرابية على حَمدونة بنت المهديّ، فلما خرجت سُئلت عنها، فقالت: والله لقد رأيتُها، فما رأيتُ طائلا، كأنَّ بطنها قِرْبة، وكأنَّ ثَدْيها دَبّة، وكأن استها رقعة، وكأن وَجْهها وَجْه ديك، قد نفَش عِفْرِيَتَه يُقاتل ديكا. وصاحَبَ أعرابي امرأة، فقال لها: واللّه إنك لمُشْرفة الأذنين، جاحظة العَيْنين، ذات خَلْق مُتضائل، يُعْجبكِ الباطل، إنْ شَبِعتِ بَطِرْت، وإن جُعْت صَخِبْت، وإن رأيتِ حَسنًا دَفَنْته، وإن رأيتِ سَيِّئا أذعْتِه، تُكْرمين من حَقَرك، وتُحَمّرين مَن أكْرَمكِ. وهَجَا أعرابيّ امرأته، فقال:
يا بِكْرَ حَوَّاء من الأولاد ... وأمَ آلافٍ مِنَ العِبَادِ
عُمْرك مَمْدُود إلى التَّنادي ... فحدِّثينا بحديث عاد
والعَهْدِ من فِرْعَوْن ذي الأوتاد ... يا أقدَمَ العالَم في البلاد
إني من شخصك في جهاده
وقال أعرابيّ في امرأة تَزَوَّجها، وذُكِر له أنها شابة طريّة، ودَسوا إليه عَجوزاً:
عَجوز تُرَجِّى أن تكون فَتِيّة ... وقد نَحَل الجَنْبَان واحدودب الظَّهْر
تَدُسىّ إلى العطّارِ سِلعة أهلها ... وهل يُصْلِح العطار ما أفْسَدَ الدهر
تَزوّجتها قبل المِحَاق بلَيْلةٍ ... فكان مَحاقاً كلُه ذلك الشَهر
وما غرَّني إلاخِضَابٌ بكفِّها ... وكُحْل بعَيْنَيْها وأثْوَابُها الصُفْر
وقال فيها:
ولا تستطيع الكُحْلَ من ضِيق عَيْنها ... فإن عالَجتْه صار َفوق المحَاجِر
وفي حاجبَيها حَزَّة كغِرارة ... فإن حُلِقا كانت ثلاثُ غَرَائر

وثَدْيان أما واحدٌ فهو مِزْوَد ... وآخرً فيه قِرْبة لمُسافر
وقال فيها:
لها جِسم بُرْغوث وساقا بَعُوضة ... ووَجْه كَوَجْه القِرْد أو هو أقْبَحُ
تُبَرِّقُ عَيْنيها إذا ما رَأيتها ... وتَعْبِس في وَجْهِ الضَّجيع وتَكْلح
لها مَضْحَك كالحشّ تَحْسَبُ أنها ... إذا ضَحِكَت في أوْجُه القوم تَسْلَح
وتَفْتح لا كانت فمًا لو رأيتَهتَوَهّمْته بابًا من النّار يُفتح
إذا عاينَ الشيطان صُورة وَجْهها ... تَعَوَذ منها حين يُمْسى وُيصْبح
وقال أعرابي في سَوْداء:
كأنها والكُحْل في مِرْوَدها ... تَكْحَل عَيْنَيها ببعض جِلْدِها
وقال فيها:
أشْبَهك المِسْكُ وَأشْبَهته ... قائمةً في لَوْنه قاعِدَهْ
لاشَكّ إذ لَوْنُكما وَاحدٌ ... أنكما من طِينَة واحده
ولآخر في عجوز:
عجوز تُطَيِّب لي نَفسَها ... وقد عَطَلَ الدهرُ مِسْواكها
فمن ناكها أبداً طائعاً ... فناك أباه كما ناكها
وقال كُثَيّر في نُصَيْب بن رَباح، وكان أسْود:
رأيتُ أبا الحَجْنَاء في الناس حائرا ... ولونُ أبي الحَجْناء لوْن البَهائم
تَرَاه على ما لاحَه من سَوَاده ... وإن كان مَظْلوما له وَجْه ظالم
وقال رجل من العُمّال لأعرابيّ: ما أحْسبك تَعْرف كم تُصَلّي في كل يوم وليلة؟ فقال له: فإن عرفتُ أتجعل لم على نَفْسك مسألة؟ قال: نعم؛ قال: إنّ الصَّلاة أرْبع وأربعُ ثم ثلاثٌ بعدَهُنّ أربعُ
ثم صَلاة الفَجْر لا تُضيَّعِ
قال: صدقت. هات مسألتك؟ قال له: كم فِقارُ ظَهْرك؟ قال: لا أدري؟ قال: أفتَحْكم بين الناس وتجهل هذا من نَفسك!

قولهم في الغزل

ذَكر أعرابي امرأة، فقال: لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المِسْك، وفي كل عُضْو منها شَمْس طالعة. وذَكَر أعرابيّ امرأة وَدَعها للمسير: واللهّ ما رأيْتُ دَمْعة تَرقرق من عين بإثمد على دِيباجة خَدّ، أحسنَ من عَبْرة أمْطرتْها عينُها فأعْشب لها قَلبي. وسمعت أعرابياً يقول: إنّ لي قَلْباً مَروعاً، وعَيْنا دَمُوعا، فماذا يَصنعُ كلّ واحد منهما بصاحبه، مع أن داءَهما دَواؤهما، وسُقْمَهما شِفاؤهما وقال أعرابي: دخلتُ البصرةَ فرأيتُ أعْيُنًا دُعْجا، وحواجبَ زُجّا، يَسْحَبن الثّيَاب، ويَسْلُبن الألباب. وذكر أعرابيّ امرأة، فقال: خلوتُ بهما ليلةً يُرينيها القَمر، فلما غاب أرَتْنِيه، قلتُ له؛ فما جرى بَينكما؟ فقال: أقرب ما أحلَّ اللّه مما حرَّم، الإشارةُ بغير باس، والتقرّب من غير مَساس. وذكر أعرابي امرأة، فقال: هي أحسنُ من السماء، وأطيبُ من الماء. قال: وسمعت أعرابياً يقول: ما أشدّ جَوْلةَ الرأي عند الهَوَى، وفِطامَ النَّفس عن الصَبا، ولقد تقطعتْ كَبدي للعاشقين، لَوْمُ العاذلين قِرَطة في آذانهم، ولَوْعات الحُبّ حِبَرات على أبدانهِم، مع دُموع على المغاني، كغًروب السَّواني. وذكر أعرابي امرأة، فقال: لقد نعِمَتْ عينٌ نَظَرتْ إليها، وشَقِيَ قلْب تَفَجَّع عليها، ولقد كنتُ أزورها عند أَهْلها، فَيُرحِّب بي طَرْفُها، ويَتَجهمنىِ لِسَانُها؛ قيل له: فما بلغ من حُبّك؟ لها قال: إني لذاكرٌ لها وبيني وبينها عَدْوة الطائر، فأجد لذِكرها ريح المِسْك. وذَكرَ أعرابيّ نِسْوة خَرَجنَ متنزّهات، فقال: وُجوه كالدّنانير، وأعناق كأعْناق اليَعَافير، وأوْساط كأوساط الزَّنابير، أَقْبلن إلينا بحُجُول تَخْفِق، وأوْشحة تَقْلَق، فكم من أَسير لهنّ وكم مُطْلق. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: أتبعتُ فلانة إلى طَرَابُلْس الشام، والحَريص جاهِد، والمُضِلّ ناشِد، ولو خُضْت إليها النار ما ألمتهَا. قال: وسمعتُ أعرابياً يقول: الهَوَى هَوَان، ولكنْ غُلِط باسمه، وإنما يَعْرف ما أقول مَن أبْكَتْه المنازلُ والطلول. وقال أعرابيّ: كنتُ في شبَابي أعَضّ على المَلام عَضّ الجَواد على اللِّجام، حتى أخذ الشَّيْب بعِنَان شَبَابي. وذكر أعرابيّ امرأة، فقال، إنّ لسَاني بذِكْرها لَذَلول، وإنّ حُبّها لِقَلْبي لَقَتُول، وإِنّ قصير اللّيل بها لَيَطُول. وَصَف أعرابي نساءً ببلاغة وجَمال، فقال: كلامُهنَ أقتلُ من النّبْل، وأو وْقع بالقَلْب من الوَبْل بالمَحْل، وفُرُوعهنّ أحْسن من نروع النَخْل. ونَظَر أعرابي إلى امرأة حَسْناء جميلة تُسمَى ذَلْفَاء، ومعها صَبِيْ يَبكي، وكلما بكى قبلته، فأنشأ يقول:
يا لَيتَني كنتُ صَبِيّا مُرضَعَا ... تَحْمِلُني الذَلْفَاءُ حَوْلا اكْتَعَا
إذا بَكَيْتُ قبلتني في أرْبعا ... فلا أزال الدَهر أبْكي أجْمَعا
وأنشد أبو الحسن عليُّ بن عبد العزيز بمكة لأعرابي:
جارية في سَفَوَان دارُها ... تَمْشي الهُوَينى مائلا خِمَارُها
قد أعصرت أو قد دنا إعْصَارُها ... يَطِيرُ من غُلْمتها إزارُها
العُتْبي قال: وَصف أعرابيّ امرأة حَسْناء، فقال: تَبْسم عن حُمْش اللثات، كأقاحي النَبَات، فالسعيدُ مَن ذاقه، والشقيّ مَن أراقه. وقال العُتْبيّ: خرجت ليلةً حين انحدرت النجومُ، وشالت أرْجلها، فما زِلْتُ أصْدع الليلَ حتى إنصدع الفجرُ، فإذا بجارية كأنّها عَلَم، فجعلتً أغازلها، فقالت: يا هذا، أما لك ناهٍ من كرَم إنْ لم يكن لك زاجر من عَقْل؟ قلت: والله ما ترانا إلا الكواكبُ؛ قالت: فأين مُكَوْكبها؟ ذَكر أعرابيّ امرأة، فقال هي السُّقم الذي لا برء منه، والبُرء الذي لا سُقْم معه، وهي أقربُ من الحَشىَ، وأبعد من السَّما. قال أعرابي: وقد نظر إلى جارية بالبَصْرِة في مأتم:
وبَصْرِيةٍ لم تُبْصر العينُ مِثلَها ... غدَتْ بِبَياضٍ في ثِيَاب سَوَادِ
غَدَوْتِ إلى الصَّحراء تَبْكين هالكا ... فأهْلكتِ حيًّا كُنْتِ أشْأَمَ عاد
فيا ربّ خُذْ لي رَحْمَةً من فُؤادِها ... وحُلْ بين عَيْنَيها وبين فًؤادي
وقال في جارَية وَدّعها:
مالتْ توَدّعني والدمعُ يَغْلبها ... كما يَميلُ نَسِيم الرّيح بالغُصنِ

ثم استمرًت وقالت وهي باكيةٌ ... يا ليتَ مَعْرفتي إياك لم تَكُن
العُتْبي قال: أنشد أعرابي:
يا زَيْنَ من وَلدت حَوَاءُ من وَلد ... لولاك لم تَحْسُن الدنيا ولم تطِبِ
أنتِ التي مَن أراه اللّهُ رُؤيَتها ... نال الخلود فلم يَهْرَم ولم يَشِبِ
وأنشد الرّياشي لأعرابيّ:
من دمْنَةٍ خُلِقَتْ عَيْناكَ في هَتَنِ ... فما يَرُدّ البُكا جَهْلاً على الدِّمَنِ
ما كُنت للقَلْب إلا فِتْنةً عَرَضت ... يا حبذَا أنتِ من مَعْروضة الفِتن
تسُيءُ سَلْمى وأجزِيها به حَسَناً ... فَمَنْ سِواي يُجازي السوء بالحَسَن
قال: وسمعتُ أعرابياً يصف امرأة، فقال: بَيضاء جَعْدة، لا يمَس الثوبُ منها إلا مُشاشة كَتفيها، وحَلَمة ثَدْييها، ورَضْفَتي رُكبتيها، ورانفتي ألْيتيها، وأنشد:
أَبت الرَّوادفُ والثُّديّ لقُمْصها ... مَسَّ البُطون وٍ أَنْ تَمسّ ظُهورَا
وإذا الرّياح مع العَشي تنَاوحت ... نَبَّهْنَ حاسدة وهِجْنَ غَيُورا
وقال أعرابيّ: ليت فلانة حَظِّي من أَمَلِي، ولرُبّ يوم سِرْتُه إليها حتى قَبض الليلُ بَصري دونها، وإنَ منِ كلام النَساء ما يقوم مَقام الماء، فيَشْفي من الظمأ. وذكر أعرابيّ امرأة، فقال: تلك شمْس باهتْ بها الأرضُ شمسَ سمائها. وليس لي شفيع في اقتضائها، وإنَّ نفسي لَكَتُومٌ لدائها، ولكنها تَفِيض عند امتلائها. أخذ هذا المعنى حبيب فقال:
ويا شمْسَ أَرْضيها التي تمَّ نُورها ... فباهت بها الأرَضُون شَمْسَ سَمَائِها
شكَوْتُ وما الشَكوى لمثليَ عادةٌ ... ولكنْ تَفيضُ النفسُ عند امتلائها
وقيل لأعرابيّ: ما بالُ الحَبّ اليومَ على غير ما كان عليه قبلَ اليوم؟ قال: نَعم، كان الحبّ في القَلْب فانتقل إلى المَعدة، إن أطْعمْتَه شيئاً أحَبّها، وإلا فلا. كان الرجُل يُحب المرأة، يُطيف بدارها حَوْلاً ويَفْرح إن رأى مَن رآها، وإن ظفِر منها بمَجلس تَشَاكيا وتناشدا الأشعار، وإنه اليومَ يُشير إليها وتشير إليه ويَعِدها وتَعِدُه، فإذا اجتمعا لم يَشكُوا حُبًّا، ولم يُنْشِدا شعرا، ولكنْ يَرْفع رِجْلَيها ويَطْلُب الوَلد. وقال أعرابيّ:
شكَوتُ فقالتْ كلّ هذا تَبَرُّمًا ... بحُئيِ أراح اللّه قَلبَك من حُبِّي
فلما كتمتُ الُحَبّ قالت لَشَدما ... صَبَرْت وما هذا بِفِعْل شَجِي القَلْب
وأدْلُو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها فَتَعْتَدّ التَباعُدَ مِن ذَنْبي
فشكْوَاي تُؤذِيها وصَبْري يَسُوءها ... وتَجْزع مِنْ بُعْدِي وتَنْفِر من قُرْبي
فيا قوم هَلْ من حِيلَة تَعْلَمونها ... أشِيرُوا بها واسْتَوْجبوا الشكر من رَبي

قولهم في الخيل
الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول: خرَجَتْ علينا خَيْلٌ مُسْتَطيرة النَّقع، كأنّ هَوادِيهَا أعلام، وآذانَها أطرافُ أقْلاَم، وفُرْسانَها أسُود آجام. أخذ هذا المعنى عَدِيّ بن الرِّقاع فقال:
تَخرُجْن فُرُجات النَّقْع داميةً ... كأنّ آذانَها أطرافُ أقْلاَم
وقال أعرابي: خَرَجْنا حُفَاة حين انتعل كُلُّ شيء بِظلِّه، وما زادُنا إلا التوكل، وِلا مَطايانا إلا الأرْجل، حتى لَحِقْنا القومَ. وذَكَر أعرابيّ فَرَسا وسُرْعته، فقال: لما خرَجت الخيلُ أقبل شَيْطانٌ في أشْطان، فلما أرْسِلت لمَع لَمْع البَرْق، فكَان أقربَها إليه الذي تَقع عَيْنه عليه. وقال أعرابي في فَرَس الأعْور السُّلَميّ:
مر َكلَمْع البَرْق سام ناظرُه ... تَسْبَحُ أولاه وَيَطْفو آخرًه
فمّا يَمَسُّ الأرْضَ منه حافِرُه

سُئِل أعرابيّ عن سوابق الخيل، فقال: الذي إذا مَشى رَدى، وإذا عدا دَحا، وإذا استُقْل أقْعى، وإذا استُدْبر جَبِّى، وإذا اعتُرض استوَى. وذكرَ أعرابيّ خيلاً، فقال: واللّه ما انحدرت في وادٍ إلا ملأتْ بَطنه، ولا رَكِبت بطْنَ جَبَل إلا أسْهَلت حَزْنه. وقال أعرابيّ: خَرَجتَ على فَرَس يَخْتال اختيال ابن العشرين، نسُوف للحِزَام، مُهارش للجام، فما مَتع النهار حتى أمتعنا برفّ ورَفاهة.

قولهم في الغيث
الأصمعي قال: قلتُ لأعرابيّ: أي الناس أوْصَفُ للغَيْث؟ قال: الذي يقول - يعني امرأ القيس - :
دِيمةٌ هَطْلاَء فيها وَطَفٌ ... طبقَ الأَرْضَ تَحَرّى وَتَدِرّ
قلتُ: فَبعده مَات؛ قال الذي يقول - يعني عَبِيد بن الأبرص - :
يا مَنْ لِبَرْق أبيتُ الليلَ أرقُبه ... في عارضٍ مُكْفَهِرّ المُزنِ دَلّاح
دَان مُسِفّ فُوَيْقَ الأَرْض هَيْدَبُه ... يَكادُ يَدْفَعه مَن قام الراح
ودَخل أعرابيّ على سُليمان بن عبد الملك، فقال له: أصابتك سَماءٌ في وَجهك يا أعرابيّ؛ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، غيرَ أنها سَحَّاء طَخْياء وَطْفَاء، كأنّ هواديَها الدِّلاء، مُرْجَحنَّة النَواحي، موصولة بالآكام، تَمسّ هامَ الرِّجال، كَثِير زَجَلها، قاصفٌ رَعْدُها، خاطف بَرْقها، حَثِيث وَدْقها، بطىء سَيْرها، مُتَفجّر قَطْرها، مُظلم نَوْؤها، قد ألجأت الوحشَ إلى أوطانها، تَبْحث عن أصولها بأظْلافها، مُتَجمّعة بعد شَتاتها، فلولا اعتصامُنا يا أميرَ المؤِمنين بعِضاه الشَجر، وتعلُقنا بقنَن الجبال، لكُنّا جُفَاء في بَعْض الأودية وَلَقَم الطَريق، فأطال الله لأمّة بقاءك، ونَسألها في أجلك، فهذا، ببركتك، وعادة اللهّ بك على رعيّتك، وصلّى اللهّ على سيدنا محمد. فقال سُليمان: لَعَمْرُ أبيك، لئن كانت بديهةً لقد أحسَنت، وإن كانت مُحَبَرة لقد أجدت؛ قال: بل مُحَبّرة مًزَوّرة يا أميرَ المؤمنين؟ قال: يا غلام، أعطه، فوالله لصِدْقُه أعجبُ إلينا من وَصْفه.
قيل لأعرابي: أي الألوان أحسَن؟ قال: قصور بيض في حدائق خضر.
وقيل لآخرً: أيّ الألوان أحْسن؟ قال: بَيْضة في رَوْضة عن غِبِّ سارية والشمسُ مُكَبِّدة. وقال أعرابيّ: لقد رأيتَ بالبَصرة بُرُودا كأنها صبُغت بأنوار الرَّبيع، فهي تَرُوع، واللاِّبس لها أرْوع.
العُتبي قال: سَمِعْتُ أعرابياً يقول: مَررت ببلدة ألقى بها الصَّيَفُ بَعاعه، فأظهر غديراً يَقْصُر الطرفُ عن أرجائه، وقد نَفت الريحُ القَذَى عن مائه، فكأنه سَلاسل دِرْع ذاتِ فُضُول. وأنشد أبو عثمان الجاحظ لأعرابيّ:
أينَ إخْوَانُنا على السرَاء ... أين أهْلُ القِبَاب والدَهْناءِ
جاورًنا والأرضُ مُلْبَسةٌ نَوْ ... رَ الأقاحي يُجاد بالأنْوَاء
كل يوم بأقْحُوان جديد ... تَضحك الأرض من بُكاء السماء
قال ابنُ عِمْران المَخْزوميِّ: أتيتُ مع أبي والياً على المَدِينة من قُرَيش وعنده أعرابي يقال له ابن مُطَير، وإذا مَطر جَوْد، فقال له الوالي: صِفْه؟ فقال: دَعْني أشرف وأنظر. فأشرف ونظر، ثم نزل فقال:
كَثُرَت لِكثرة وَدْقِه أطباؤه ... فإذا تُحُلِّبَ فاضَت الأطْبَاءُ
وله رَبابٌ هَيْدَبٌ لرقيقه ... قبل التَّبَعُّق دِيمة وَطْفاءُ
وكأنَّ بارقه حَريقٌ تَلْتَقي ... ريحٌ عليه وعَرْفَجٌ وألاءُ
وكأنَّ رَيِّقه ولمّا يَحْتَفِل ... دُونَ السَّماء عَجَاجةٌ طَخْيَاء
مُسْتَضْحِك بِلوامعٍ مُسْتَعْبِر ... بمَدَامع لم تُمْرِها الأقْذَاء
فله بلا حَزَن ولا بمَسَرَّة ... ضَحِك يُؤَلف بينه وبُكاء
حَيْرَان مُتَّبعِ صَبَاه تَقودُه ... وجَنُوبه كَفٌّ له وَرْهاء
ثَقُلت كُلاَه فبَهَّرَت أصلابَه ... وتَبعَجَت عن مائه الأحْشاء
غَدق تَبَعّج بالأباطِح مُزِّقت ... تلك السُّيُولُ ومالها أشْلاء
غُر مَحَجًلة دوالحُ ضُمنت ... حَمْل اللِّقَاح وكُلُّها عَذْرَاء

سُحْم فَهُنَّ إذَا عَبَسْن فَوَاحِم ... سُود وهُنّ إذا ضَحِكْن وِضَاء
لو كان مِن لجَج السوَاحل ماؤه ... لم يَبْقَ في لُجَج السَّوَاحل ماء
قال هِشام بنُ عبد الملك لأعرابيّ: أخرج فانظر كيف تَرى السَّحاب، فَخَرَج فَنَظر، ثم انصرف فقال: سَفَائن وإن اجتمعن بَعَعْن.

قولهم في البلاغة والإيجاز
قيل لأعرابيّ: مَنْ أَبلَغُ الناس؟ قال: أحْسنُهم لفظاً وأسْرعُهم بديهة.
الأصمعي قال: خَطَبَ رَجلٌ في نِكاح فأَكثر وطوَل؛ فقيل مَن يُجيبه؟ فقال أعرابيّ: أنا، قيل له: أنت وذاك؟ فالتفت إلى الخاطب، فقال: إني واللهّ ما أنا من تَخْطيطك وتَمْطيطك في شيء، قدمَتَتّ بحُرْمة، وذَكَرت حقّا، وعَظُّمْت مَرْجُوًّا، فَحَبْلُك مَوْصُول، وفَرْضكَ مَقْبول، وأنت لها كُفء كَرِيم، وقد أنْكَحْناك وسلّمنا. وتكلم رَبيعةُ الرَّأي يومًا فأكْثر، فكأَنّ العُجْب دَاخَله وأعرابيّ إلى جَنْبه، فأقبل على الأعرابيّ، فقال ما تَعُدُّون البلاغةَ يا أعرابيّ؟ قال:قلّةُ الكلام وإيجاز الصواب، قال فما تَعُدًّون العيّ؟ قال: ما كنتَ فيه منذُ اليوم فكأَنما ألقمه حجرًا. شبيب بن شَيْبة قال: لقيتُ أعرابياً في طريق مكة، فقال لي: تَكتب؟ قلتُ: نعم، قال: ومعك دَوَاة؟ قلتُ: نعم. فأخرج قطعةَ جِراب من كُمِّه، ثم قال: اكتُب ولا تَزِد حَرْفاً لا تَنْقُص: هذا كِتاب كتبه عبد اللّه بن عُقَيل الطائي، لأَمَته لُؤلؤة: إنّي أعْتِقك لوجه اللّه واقتحام العَقَبة، فلا سَبيل لي ولا لأحد عليك إلا سبيلً الوَلاء والمِنَّة عليَّ وعليكِ من اللّه وحدَه، ونحنِ في الحقّ سواء، ثم قال: اكتب شهادَتك. رُوي أنَّ أعرابياً حضرَ مجلس ابن عباس فسَمِع عنده قارئَاً يَقْرأ: " وكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأَنْقَذَكُمْ مِنها " . فقال الأعرابيّ: واللّه ما أنقذكم منها وهو يَرْجِعُكم إليها. فقال ابن عباس: خُذوها من غير فَقيه.
قولهم في حسن التوقيع وحسن التشبيه
قيل لأعرابيّ: مالك لا تُطيل الهجاء؟ قال: يَكفيك من القِلادة ما أحاط بالعُنق. وقيل لأعرابي: كم بين بلد كذا وبلد، كذا؟ قال: عُمْر ليلة وأديم يوم. وقال آخرً: سَوَاد ليلة وبياض يوم. وقيل لأعرابيّ: كيف كِتمانك للسرّ؟ قال؟ ما صَدْرِي له، إلا قبْر. قال مُعاوية لأعرابيًة: هل من قِرًى؟ قالت: نعم؟ قال: وما هو؟ قالت: خُبز خَمِير، ولبن فَطِير، وماء نَمير. وقيل لأعرابيّ: فيم كنتم؟ قال: كًنَّا بين قِدْر تَفُور، وكأس تَدُور، وحديث لا يَحُور. وقيل لأعرابيّ: ما أعددتَ للبرد؟ قال: شِدَّة الِرِّعْدة، وقُرْفُصاء القِعْدة، وذَرَب المِعْدَة. وقيل لإعرابيّ: مالك من الوَلد؟ قال: قَلِيل خبِيث، قيل له: ما معناه؟ قال: إنه لا أقلَّ من واحد، ولا أخبث من أُنثى. وقال: أضَلّ أعرابيّ الطريق ليلاً، فلما طَلع القمرُ اهتدى، فَرَفَع رأسَه إليه مُتشكِّرًا، فقال: ما أدرى ما أقول لك وما أقول فيك؟ أقول: رَفَعك اللّه، فقد رَفعك، أم أقول: نوَّرك اللّه، فقد نَوَرك، أم أقول: حَسَّنك اللهّ، فقد حَسَّنك، أم أقول: عَمَرك الله، فقد عمَرك، ولكنِّي أقول: جَعلني اللّه فِدَاك. وقيل لأعرابي: ما تَقول في ابن العم؟ قال: عَدوُّك وعَدوّ عدوّك. وقيل لأعرابيّ، وقد أدخل ناقَته في السُّوق ليبيعَها: صِفْ لنا ناقَتك؛ قال: ما طلبتُ عليها قطّ إلا أدركت، وما طُلِبتً إلا فُتّ؛ قيل له: فَلِمَ تبيعها؟ قال: لقول الشاعر:
وقد تخرِج الحاجاتُ يا أمَّ عامر ... كرائمَ من رَبٍّ بهَنّ ضنِين
وقيل لأعرابيّ: كيف ابنك؟ - وكان له عاقًّاً - قال: عذابٌ لا يُقاومه الصًّبْر، وفائدة لا يَجب في الشُّكر، فليتَني قد استودعتُه القَبْر. قيل لشُرَيح القاضي: هل كلّمك أحد قطّ فلم تُطِق له جواباً؟ قال: ما أعلمه، إلا أن يكونَ أعرابياً خاصَم عندي، وجعل يُشير بيديه، فقلتُ له: أمْسِك فإن لِسَانك أطولُ من يدك؛ قال:
أسامِريٌّ أنتَ لا تُمَسّ

وقيل لأعرابي: ما عِنْدَكمٍ في البادية طَبيب؟ قال: حُمر الوَحْش لا تحتاج إلى بَيْطار. وقال أعرابي يَصف خاتَما: سُيّف تَدْوير حَلْقته، ودُوِّرَ كُرسي قِضّته، وأحْكِم تَرْكِيبه، وأتْقِنَ تَدْبِيرُه، فبه يتمّ المُلك، ويَنْفُذ الأمر، ويَكْرُم الكِتَاب، ويَشْرف المَكْتوب إليه.
وقال آخرً يَصف خاتَماً:
وأبيَضَ أمّا جِسْمًه فمنَوِّرٌ ... نَقِيّ وأما رأسه فَمُعَارُ
ولم يُكْتَسَب إلا لتَسكن وَسْطه ... بَزيعة رأْس ما عليه خِمَار
لها أخَوَاتٌ أَرْبعٌ هُنَّ مثلُها ... ولكنَّها الصًّغْرى وهُنَّ كِبَار

قولهم في المناكح
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحَكَم عن الشافعيّ قال: تَزَوَّج رجلٌ من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة، وكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة فتقول:
وما تَسْتوي الرجلاًن رِجْلٌ صحيحة ... ورِجْلٌ رَمى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
ثم مرَّت بعد أيام فقالت:
وما يَسْتَوِي الثَّوْبان ثَوْبٌ به البِلَى ... وثَوْبٌ بأيْدِي البائعين جَدِيدُ
فخرجت إليها جاريةُ القديمة فقالت:
نَقِّلْ فُؤادك حيثُ شِئْتَ من الهَوى ... ما القَلْبُ إلّا لِلحَبيبِ الأوَّل
كم مَنْزِلٍ في الأرْض يأْلَفُه الفَتَى ... وحنينه أَبداً لأوًّل مَنْزِل
الأصمعي قال: أخبَرني أعرابيّ قال: خَطَبَ منا رجلٌ مَغْموز امرأة مَغْموزة فَزوجوِه، فقال رجل لوليّ المرأة: تَعمَم لكم فلان فزوِّجتُموه؛ فقال: ما تَعَمَّم لنا حتى تَبرْقعنا له.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: قالت أعرابيّة لبنات عمّ لها: السعيدةُ منكنّ يتزوجها ابنُ عمّها، فيَمْهرها بِتَيْسينْ وكَلْبيْن وعَيْرَين ورَحَيَينْ، فيَنِبّ التَّيسان، ويَنْهقَ العَيْرَان، ويَنْبَح الكلْبان، وتَدُور الرَّحَيان، فَيَعِجّ الوادي، والشقَيّة مِنْكُنَ مَن يَتزوّجها الحَضَريِّ، فَيَكسوها الحريرَ، ويُطْعِمها الخَمير، ويَحْمِلها ليلَة الزفاف على عود، تعنى سَرْجا. الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يُشَارّ امرأته، فقالت لها أخْتُه: أما واللهّ أيام شَرْخه، إذ كان يَنْكتُكِ كما يَنْكت العَظْم عن مخّه، لقد كنتِ له تَبُوعا، ومنه سَمُوعاً، فلما لان منه ما كان شديدا، وأخلق منه ما كان جديدا، تَغَيَّرتِ له، وايمُ اللهّ، لئِن كان تغيّر منه البعضُ لقد تغيّر منكِ الكل. وقيل لأعرابي: كيف حُبّك لزَوْجتك؟ قال: ربما كنتُ معها على الفِراش، فمدَّتْ يدها إلى صدري، فَوَدَدْتُ والله أن آجُرَّة خَرت من السَّقف فقدَّت يدها وضِلْعين من أضْلاع صَدْري، ثم أنشأ يقول:
لقد كنتُ مُحْتاجاً إلى موت زَوْجتي ... ولكنْ قرينُ السُّوء باقٍ معَمِّرً
فيا ليتها صارت إلى القَبْر عاجلا ... وعَذَّبها فيه نَكِيرٌ وَمُنْكَر
وتزوج أعرابي امرأة، فطالت صُحْبتها له فتغيَّر لها، وقد طعَنت في السنّ، فقالت له: ألم تكن تُرْضى إذا غَضِبْت، وتُعْتِب إذا عَتَبْت، وتَشْفى إذا أبيْت، فما بالُك لآن؟ قال: ذَهب الذي كان يُصْلح بيننا. الأصمعي قال: كنتُ أختلف إلى أعرابي أَقْتبس منه الغَريب، فكنت إذا استأذنتُ عليه يقول: يا أمامة، ائذني له، فتقول: ادخُل. فاستأذنتُ ليه مِراراً فلم أسمعه يذكر أمامة، فقلت له: يَرْحمك اللهِ، ما أَسْمَعك تَذْكًر أمامة منذُ حين؛ قال: فَوَجَمَ وَجْمة، نَدِمْت معها على ما كان مني، ثم قال:
ظَعنت أمامة بالطلاقِ ... ونجوت من غُلّ الوَثاقِ
بانَتْ فلم يَأْلم لها ... قَلْبي ولم تَدْمَع مآقِي
وَدَوَاءُ ما لا تشته ... يه النفسُ تعجيل الفِراق
والعيشُ ليس يَطيب بي ... ن اثنين من غير اتفاق
لو لم أرَح بفراقها ... لأرَحْت نفسي بالإباق
الأصمعي قال: تَزَوَج أعرابيٌّ امرأة فآذتْه وَافْتدى منها بِحِمار وجُبة، فَقَدِم عليه ابن عمٍّ له من البادية، فسأله عنها، فقال:
خَطَبْتً إلى الشَّيْطان للحَينْ بنْته ... فأدْخلها من شِقْوَتي في حِبَاليَا

فأنْقَذني منها حِمَاري وجبتي ... جَزَى الله خيراً جبتي وحِمَاريا
الأصمعي قال: خاصم أعرابيّ امرأته إلى زياد، فشَدّد على الإعرابيّ، فقال: أصلح اللهّ الأمير، إِنّ خَيْرَ عُمْر الرجل آخرًه، يَذْهب جهلُه وَيَثوبُ حِلْمه، ويَجْتمع رأيه؛ وإن شرَّ عُمْر المرأة آخرًهُ، يَسُوء خُلقها، ويحتدّ لسانها، وتَعَقم رَحِمها. قال له؛ صدقتَ، اسفَع بيدها. قال: وذكرَتْ أعرابيّة زوجها، وكان شيخاً، فقالت: ذَهَبَ ذَفره وبَقي بَخَرِه، وفٍتَر ذَكَرُه. الأصمعي قال: كان أعرابي قبيح طويل خطب امرأة، فقيل له: أيّ ضرْب تريدها؟ قالت أريدها قَصِيرة جميلة، فيأتي ولدُها في جَمَالها وطُولي، فتزوجها على تلك الصِّفة، فجاء ولدُها في قِصَرِها وقُبْحه. قَدِمَ أعرابيّ من طيء، فاحتلب لَبَناً ثم قعد مع زَوْجته يَنْتجعان، فقالت له: مَن أنعم عيشاً أنحن أم بنو مَرْوَان؟ فقال لها: بنو مروان أطيبُ منا طعاماً، إلا أنّا أرْدَأ منهم كُسوة، وهم أظهر منَّا نهاراً، إلاّ أنَّا أظهر منهم ليَلاً. الأصمعي قال: خاصَم أعرابيّ امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعتَ؟ قال خيراً، أكبها اللّه لوجهها، ولو أمر بي إلى السجن. الأصمعي قال: استشارت أعرابيّة في رجل تتزوَجهُ، فقيل لها: لا تفعلي فإنه وُكَلَة تُكَلَة، يأكل خَلَلَه، أي يأكل ما يَخْرُج من بين أسنانه إذا تخلَّل. قال أبو حاتم: هو الخُلالة، ووُكلَة تُكَلة، إذا كان يَكل أمره إلى الناس ويَتَكِل عليهم. العُتبى قال: خَطب إلى أعرابيّ رجلٌ مُوسِر إحدى ابنتيه، وكان للخاطب امرأة، فقالت الكبرى: لا أريده. قال أبوها: ولم؟ قالت: يومٌ عِتَاب، ويومٌ اكتئاب، يَبلى فيما بين ذلك الشباب. قالت الصغرى زَوِّجْنيه؛ قال لها: على ما سَمِعْتِ من أختك؟ قالت: نعم، يومٌ تَزَيُّن، ويومٌ تَسَمُّن، وقد تَقَر فيما بين ذلك الأعْين. الأصمعي قال: رأيتُ امرأة تُرَقِّصُ طِفْلا لها، وتقول:
أحِبُّه حُبَّ الشَّحيح مالَه ... قد كان ذاق الفَقْر ثم نالَه
إذا أرادَ بَذله بَدَا له
الأصمعي قال: هلك أعرابي، فأدْمنت امرأته البكاء عليه، فقال لها بعض بنيها
أتَفْقدين من أبينا غيرَه ... أتفقْدِين نَفْعَه وخَيْرَه
أرَاكِ ما تَبْكِين إلِّا أيره
قال: فأمْسكت عن البُكاء. جلس أعرابيّ إلى أعرابيَّة، فعلمتْ أنه ما جلس إلا لِيَنْظُر إلى محاسنها، فأنشأت تقول:
وما نِلْتَ منها غَيْرَ أنًكَ نائِكٌ ... بعَيْنَيك عَيْنَيها وأيرُكَ خائِبُ
الرِّياشي قال: أنشدني العُتبي لأعرابي:
ماذا تَظُنّ بسَلْمَى إن ألمّ بها ... مُرَجَّل الرّأْس ذو بُرْدَين مَزَّاحُ
حُلو فًكاهَتُه خَزّ عِمَامته ... في كَفّه من رُقى إبليس مِفْتَاح
أبو حاتم عن الأصمعي قال: خَطَبَ أعرابيّ امرأة، فقالت له: سَلْ عَني بَني فلان وبَنىِ فُلان؛ قال لها: وما عِلْمهم بذلك؟ قالت: في كلهم نُكِحْت؟ قال: أراك جَلَنْفعة قد خَزَمَتْك الخزائم؛ قالت: لا، ولكن جوَالة بالرحْل عَنْتَريس. تزوّج رجل من الأعراب امرأة منهم عجوزاً ذاتَ مال، فكان يَصْبر عليها لمالِها، ثم مَلَّها وترَكها، فكتبت إليه تَسْترده، فكتب إليها يقول:
لَيس بيني وبين قَيْس عِتَاب ... غيرُ طَعْن الكُلاَ وضَرْب الرِّقاب
فكتبت إليه: إنّه واللهّ ما يُريد قيسٌ غَيْر طَعْن الكلا.
المًفَضَل الضَّبي قال: خَطَبَ أعرابي امرأة، فجَعَل يَخْطبها ويُنْعِظ، فضَرَب ذَكَرَه بيده، وقال: مَه، إليكِ يُساق الحديث، فأرسلها مَثلا. عليّ بن عبد العزيز قال: كان أبو البَيْدَاء عِنّينا، وكان يتجلّد ويقول لقومه: زَوِّجوني امرأتين، فيقال له: إنّ في واحدة كفاية؛ فيقول: أمّا لي فلا؛ فقالوا نُزَوِّجك واحدة فإن كَفَتْك وإلا زَوَجناك أخرى، فزوّجوه إعرابيَّة، فدما دَخَل بها أقام معها أسبوعاً، فلما كان في اليوم السابِع أتوه، فقالوا له: يا أبا البَيْداء، ما كان أمْرُك في اليوم الأوَل؟ قال: عَظيم جدا، قالوا: ففي الثاني؟ قال: أجَلّ وأَعظم؟ قالوا: ففي الثالث؟ قال: لا تسألوا. فأجابت المرأة مِن وراء الستر، فقالت:

كان أبو البَيْداء يَنْزُو في الوَهَقْ ... حتى إذا أدْخِلَ في البيت أبقْ
فيه غَزَال حَسن الدَّلّ خَرِق ... مارَسه حتى إذا ارفضّ العَرَق
انْكَسر المِفْتاح وانْسَدّ الغَلق
كانت لأعرابيّ امرأة لا تَرُدِّ يَد لامس، فقيل له: مالك لا تُفارقها؟ قال: إنها حسناء فلا تُفْرَك، وأمِّ بَنين فلا تترك. قال شَيْخ من الإعراب:
أنا شَيْخٌ ولي امرأة عَجُوزُ ... تُرَاودني على ما لا يَجُوزُ
تريد أنيكها في كل يَوْم ... وذلك عند أمثالي عَزيز
وقالت رَقَ إيْرُك مُذ كَبِرْنا ... فقلت لها بل اتسع القَفِيز
الأصمعي قال: قال أعرابيّ في امرأة تَزوّجها، وقد تَزوّجتْ قبله خمسةً، وتَزوّج هو قبلها أربعاً، فلاحَتْه يوماً، فقال فيها:
لو لابس الشيطانُ ما ألاَبِس ... أو مارس الغُولَ التي أمارِسُ
لأصبح الشيطانُ وهو عابسُ ... زَوَجها أربعةٌ عَمارِس
فانْفَلتوا منها ومات الخامسُ ... وساقني الحَيْنُ فها أنا السّادس
وقال فيها:
بُوَيْزِل أعوام أذاعتْ بخمسة وتَعْتَدُّني إن لم يَق اللّه ساديا
ومِنْ قَبْلِها غَيبْت في التُّرْب أَرْبعاً ... وَأَعْتَدُّها مُذ جِئْتُها في رَجائيا
كِلانا مُطِلّ مُشْرِف لِغَنيمة ... يَرَاها وَيقُضي اللهّ ما كان قاضيا
وقال أعرابيّ:
أشْكو إلى اللّه عِيَالاً دَرْدَقَا ... مُقَرْقَمِينَ وعجوزاً شَمْلَقَا
الدَّرْدَق: الصِّغار. والمُقَرْقَم: البَطيء الشَّبَاب. والشَّمْلَق: السيئة الخُلق.
قولهم في الإعراب الأصمعي قال: قلت لأعرابي، أتَهْمِز إسرائيل؟ قال: إنّي إذاً لرجلُ سَوْء؛ قلت له: أفتجرّ فِلسْطين؟ قال: إنّي إذاً لقويّ. وسَمع أعرابيّ إماماً يقرأ: وَلاَ تَنْكِحوا المُشرْكين حتَى يُؤمِنُوا. قال: ولا إن آمنوا أيضاً لن نَنْكحهم؛ فقيل له: إنه يَلْحَن وليس هكذا يُقرأ؛ فقال: أخرًوه قَبٌحَه الله لا تَجْعَلوه إماماً، فإنه يُحِلُّ ما حرَّم الله. وسمع أعرابيّ أبا المكْنُون النَحْوِيّ، وهو يقول في دُعائه يَسْتَسْقي: اللهم ربنا وإلهنا وسيدنا ومولانا، فصلِّ على محمد نبيّنا، ومَن أراد بنا سوءاً فأحِطْ ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الوَلائد، ثم أرسِخْه على هامته كرُسوخ السجًيل على هام أصحاب الفيل، اللهم اسْقِنا غَيْثاً مريئاً، مريعاً مُجَلْجِلاً مُسْحَنْفِراً هَزِجاً سَحًّا سَفُوحاً طَبَقاً غَدَقا مُثْعَنْجِرا صَخِباً نافعاً لعامّتنا وغيرَ ضارّ بخاصّتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نُوح، هذا، الطُّوفان وربِّ الكعبة، دَعني حتّى آوىَ إلى جَبلِ يَعْصِمني من الماء. الأصمعي قال: أصابت الأرضَ مجاعة، فلقيتُ رجلاً منهم خارجاً من الصَحراء كأنه جِذْع مُحْترق، فقلت له: أتقرأ مني كتاب اللهّ شيئاً؟ قال: لا؛ قلتُ: فأعلمك؟ قال: ما شئتَ؛ قلت: اقرأ: " قُل يَا أيها الكافِرُون " قال: كُلْ يا أيها الكافرون؛ قلتُ: " قُلْ يا أيها الكافرون " كما أقول لك؛ قال: ما أجد لساني يَنْطلق بذلك. قال: ورأيتُ أعرابياً ومعه بُنيّ له صَغير مُمْسِك بفَم قِرْبة، وقد خاف أن تَغْلِبه القِرْبةُ، فصاح: يا أبتِ، أدْرِك فاها غَلبَني فوها لا طاقة لي بفيها.

قولهم في الدين
قال أعرابي: الدَّيْن ذلٌ بالنهار، وهَمّ بالليل. وقال أعرابيّ في غُرَماء له يَطْلبونه بدَيْن:
جاءوا إليَّ غِضاباً يَلْغَطون معاً ... فقلت موعد كم ابن هبار
وما أوَاعدُهم إلا لأدْرَأهم ... عني فيحرجني نقضي وإمراري
وما جَلبتُ إليهم غَيرَ راحلة ... تَخْدِي بِرَحْلى وسيفٍ جَفنُه عارِي
إنّ القضاء سَيأتي دًونه زمنفاطْوِ الصَّحيفة واحفظها من النًار الأصمعي قال: كان لرجل مِنْ يَحْصًب على رجل من باهِلَة دَيْن، فلما حًلَ دَيْنُه هَرَب الأعرابيّ، وأنشأ يقول:
ذا حًلّ دَين اليَحْصُبيّ فَقُلْ له ... تَزوَدْ بزادٍ واستَعِنْ بدلِيل
سَيُصْبِحُ فَوقي أقتُم الريش واقعاً ... بقالي قَلَا أو من وراء دَبيل

الأصمعي قال: فأخبرني رجلٌ أنه رآه مَقْتُولاً بقالي قَلا وعليه نَسْر أقْتم الرِّيش. الأصمعي قال: اختصمَ أعرابياًن إلى بعض الوُلاة في دَيْن لأحدهما على صاحبه، فجعل المًدَّعَى عليه يحلف بالطّلاق والعِتاق، فقال له المدَعِي: دَعني من هذه الأيمان، واحْلف بما أقول لك: لا تَرك اللّه لك خُفّا يتبع خُفّا، ولا ظِلْفا يتبع ظِلفا، وحَتّك من أهلك حَتّ الوَرَقَ من الشّجر، إن لم يكن لي هذا الحقّ قِبلك. فأعطاه حَقَه ولم يَحْلِف له. الهَيْثَم بن عَدِيّ قال: يَمين لا يَحْلِف بها أَعرابيّ أبداً: لا أَوْرد اللّه لك صادرة، ولا أَصْدَر لك واردة، ولا حَطَطْتَ رَحْلك، ولا خَلَعتَ نَعْلَك.

قولهم في النوادر والملح
الشيباني قال: خَرَجِ أبو العبّاس أميرُ المؤمنين مُتَنَزِّها بالأنبار فأَمْعن في نُزْهَته وانتبذ من أصحابه، فوافى خِبَاءً لأعرابيّ، فقال له الأعرابي: ممَّن الرَّجل؟ قال: من كِنانة، قال: من أيّ كِنانة؟ قال: مِنْ أبغض كِنانة إلى كِنانة، قال: فأنتَ إذاً من قُريش؛ قال: نعم؛ قال: فمن أي قُرَيش؛ قال: مِن أبغض قُريش إلى قُريش؟ قال: فأنت إذاً من ولد عبد المطلب؟ قال؛ نعم؛ قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى عبد المُطلب؟ قال: فأنت إذاً أمير المؤمنين، وَوَثب إليه، فاستحسن ما رأَى منه، وأَمر له بجائزة. الشِّيبانيّ قال: خرج الحجَّاج مُتَصيِّداً بالمدينة فوقف على أَعرابيّ يرعى إبلًا له، فقال له: يا أعرابيّ، كيف. رأيتَ سِيرَة أَميركم الحجَّاج؛ قال له الأعرابيّ: غَشوم ظَلُوم لا حيّاه اللّه، فقال: فَلِم لا شَكَوْتموه إلى أمير المًؤمنين عبد الملك؟ قال: فأظْلم وأغشم. فبينما هو كذلك إذ أحاطت به الخيل، فأومأ الحجّاج إلى الأعرابي، فأخذ وحُمِلَ، فلما صار معهم، قال: مَن هذا؟ قالوا له: الحجاج، فحرَّك دابته حتى صار بالقرب منه، ثم ناداه: يا حجّاج، قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: السرّ الذي بيني وبينك أحِبُّ أن يكون مكتوماً؛ قال: فَضَحك الحجًاج، وأمر بتَخْلِية سَبيلِه: الأصمعي قال: وَلى يُوسُف بن عُمَر صاحبُ العِرَاق أعرابياً على عمل له، فأصاب عليه خِيَانةً فعَزَلَه، فلما قَدِمَ عليه قال له: يا عدوً اللهّ، أكلتَ مال اللّه، قال الأعرابيّ: فمالَ مَنْ آكُلْ إذا لم آكل مال اللهّ؟ لقد راودتُ إبليس أن يُعطيني فَلْساً واحداً فما فَعل. فَضحِك منه وخلِّى سبيله. الشّيْبَانيِّ قال: نزل عبدُ اللهّ بن جعفر إلى خيمة أعرابيّة ولها دَجاجة وقد دَجَنت عندها، فَذَبحتها وجاءتها بها إليه، فقالت: يا أبا جعفر، هذه دَجاجة لي كنت أدْجنها وأعْلِفها من قُوتي، وألمَسها في آناء الليل، فكأنما ألمَس بِنْتى زَلَّت عن كَبِدي، فَنَذرتُ للّه أن أدفنها في أكرم بُقعة تكون، فلم أجد تلك البُقعة المباركة إلا بَطنك، فأرَدت أن أدْفنها فيه. فَضَحِك عبدُ اللهّ بن جعفر وأمر لها بخمسمائة دِرْهم.
ونظر أعرابيّ إلى قَوْم يلتمسون هِلالَ شهر رَمضان، فقال: واللهّ لئنِ أريتموه لتُمْسِكُن منه بذِناب عَيْش أغبر. الأصمعي قال: رأيتُ أعرابياً واقفاً على رَكيّة مِلْحة، فقلتُ: كيف هذا الماء يا أَعرابيّ؟ قال: يُخْطِيءُ القلبَ ويُصيب الأستَ. ونظر أَعرابيّ إلى رجل سَمِين، فقال: أرى عليك قطيفةً من نَسْج أضرْاسك. قال: وسمعت أعرابياً يقول: اللهم إنّي أسألك مِيتة كمِيتة أبي خارجة أكل بَذَجاً وشَرِبَ مُعَسَّلا، ونام في الشَمس، فمات دَفيئاً شبْعان رَيّان. محمد بن وَضّاح يرفعه إلى أبي هُريرة رضي اللّه عنه. قال: دخلِ أعرابيّ المسجد والنبي جالسٌ، فقام يُصلّي، فلما فرغ قال: اللهم ارْحَمني ومحمداً ولا تَرْحَم معنا أحداً، فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام: لقد حجرْت واسعاً يا أعرابيّ. قال: وسمعت أعرابياً وهو يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي؛ فقلتُ له: مالك لا تَذْكر أباك؛ فقال أبي رجلٌ يَحتال لنفسه، وأما أُمي فبائسة ضعيفة.

أبو حاتم عن أبي زَيد قال: رأيتُ أعرابياً كأنّ أنفَه كُوز من عِظَمه، فرآنا نَضحك منه، فقال: ما يُضْحِكُكم؟ فوالله لقد كنتُ في قوم ما كنتُ فيهم إلا أفْطس. قال: وجيء بأعرابيّ إلى السُّلطان ومعه كِتاب قد كَتب فيه قصَته، وهو يقول: هاؤُم اقرؤا كِتابيه. فقيل له: يُقال هذا يومَ القيامة؛ قال: هذا والله شر من يوم القيامة، إنّ يوم القيامةِ يُؤتي بحَسَناتي وسيّأتي، وأنتم جِئتم بسيآتي وتركتم حسناتي.
قيل لأبي المِخَشّ الأعرابي: أيسرك أنك خَليفة وأن أمَتك حُرَّة؛ قال: لا والله ما يَسُرُّني؟ قيل له: ولمَ؟ قال: لأنها كانت تَذْهب الأمَة وتُضِيع الأمَّة. اشترى أعرابيّ غُلاماً، فقيل للبائع: هل فيه منِ عَيْب؟ قال: لا، إلا أنه يَبُول في الفِراش؛ قال: هذا ليس بعيب، إن وَجَدَ فِراشاَ فَلْيَبُل فيه. أخذ الحجَّاج أعرابياً لِصًّا بالمدينة فأمر بِضَرْبِه، فلما قرَعه بسَوْط قال: يا ربّ شُكْراً، حتى ضَرَبه سَبْعمائة سَوْط؟ قال: لماذا؟ قال: لكَثرة شُكرك، إنَّ اللهّ تعالى يقول: " لئن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكم " . قال: وهذا في القرآن؟ قال: نعم. فقال الأعرابي:
يا ربّ لا شكْرَ فلا تَزِدْني ... أسَأتُ في شُكْرِيَ فاعْفُ عَني
باعِد ثَوَاب الشَّاكرين مِني
مرَّ أعرابيّ بقوم وهو يَنْشد ابنَاَ له، فقالوا له: صِفْه؛ قال: كأنه دُنَيْنير، قالوا: لم نَره. ثمِ لم يَلْبث القومُ أن أقبل الأعرابيّ وعلى عُنقه جُعَل، فقالوا: هذا الذي قلت فيه كأنه دُنينير؟ فقال: القَرَنْبي في عَين أمها حَسناء. والقَرَنْبي دُوَيبة من خَشاش الأرض إذا مَسَّها أحد تقبَّضت فصارت من الكرة.
قيل لأعرابي: ما يمنعك أن تَغْزو؟ قال: واللّه إني لأبْغِضُ الموتَ على فِرَاشي، فكيف أمضي إليه رَكْضاً! وغزا أعرابيٌّ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما رَأيتَ مع رسول اللهّ في غَزاتك هذه؟ قال: وَضع عنا نصفَ الصلاة، وأرجو في الغَزاة الأخرى أن يضع النصفَ الباقي.
جَلس أعرابيّ إلى مجلس أيوب السختياني، فقيل له: يا أعرابيِّ، لعلك قَدَرِيّ؛ قال: وما القَدَري؟ فذكر له مَحاسن قولهم؛ قال: أنا ذاك، ثم ذكر له ما يَعِيب الناسُ من قَوْلهم، فقال: لستُ بذاك، قال: فلعلّك مُثبت؟ قال: وما المثبت؟ فذكر مَحاسنَهم، فقال: أنا ذاك، ثم ذكر له ما يَعِيب الناسُ منهم، فقال: لستُ بذاك! قال أيوب: هكذا يفعل العاقلُ، يأخذ من كلِّ شيء أحْسنه.
الأصمعيُ قال: سمع أعرابيّ جريراً يُنْشد:
كاد الهَوَى يَوْمَ سَلمانين يَقْتُلني ... وكاد يَقْتُلني. يوْماً بنَعْمانِ
وكاد يَقْتُلني يوماً بذي خُشُب ... وكاد يقتلني يوماً بسلمان
فقال: هذا رجل أفلت من الموًت أربعَ مَرَّات، لا يموت هذا أبداً. الشَّيبان قال: بلغني أنَ أعرابيًين ظريفَين من شياطين العَرب حَطَمتهما سَنةٌ فانحدرا إلى العِرَاق، فبينما هما يَتماشيان في السُّوق، واسم أحدهما خُنْدان، إذا فارس قد أوطأ دابَّته رِجْلَ خُنْدان، فَقَطَع إصْبعاً من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا أرش الإصبع، وكانا جائعين مَقْرُورَين، فلما صار المال بأيديهما قصدا إلى بعض الكرابج فابتاعا من الطَّعام ما اشتهيا، فلما شَبع صاح خُنْدان أنشأ يقول:
فلا غَرْثةٌ ما دام في الناس كُربَج ... وما بَقِيَتْ في رِجْل خُنْدَان إصْبَعُ
وهذا شبيه قول أعرابيًة في إبنها، وكان لها ابنٍ شديد العُرام، كثيرُ القِتال للناس، مع ضٍعْف أَسْر، ورقَّة عَظْم، فوَاثَب مرة فتىً من الأعراب، فَقَطَع الفتى أنفَهُ، فأخذت أمّه دِيَة أنفه، فَحَسُن حالها بعد فَقر مُدْقِع، ثم وَاثَب آخرً فَقَطع شَفَته، ثم أخذت دِية شَفَته، فلما رأت ما صار عندها من الإبل والبَقر والغنم والمتاع بجوارح ابنها ذكرته في أرْجوزة لها تقوِل فيها:
أحلِفُ بالمَرْوَةِ حِلْفاً والصَفَا ... أنّكَ خيرً من تَفاريق العَصَا
فقلت لأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تُقطع ساجوراً، ثم يُقطع السَّاجور أوتاداً، ثم تُقطَعِ الأوتاد أشِظه.

الأصمعيّ قال: خرج أعرابيّ إلى الحَجّ مع أصحاب له، فلما كان ببعض الطريق راجعاً ُيريد أهلَه لَقِيه ابنُ عمّ له، فسأله عن أهله ومنزله، فقال: أعلم أنّك لما خرَجتَ وكانت لك ثلاثةُ أيام وَقع في بَيْتك الحريقُ. فرَفعِ الأعرابي يديه إلى السماء، وقال: ما أحسن هذا يا ربّ! تَأْمرنا بعِمارة بيتك وتخرب أنت بُيوتنا. وخرجتْ أعرابيّة إلى الحجّ، فلما كانت ببعض الطريق عَطِبت راحلتُها، فرَفعت يديها إلى السَّماء، وقالت: يا ربّ، أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك. الأصمعي قال: عُرضت السُّجُون بعد هلاك الحجَّاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً، لم يَجب على واحد منهم قَتْل ولا صَلْب، وفيهم أعرابي أخِذ وهو يبول في أصل سُور، مدينة واسط، فكان فيمن أطلق، فانشأ يقول:
إذا ما خرَجنا من مدينة وَاسطٍ ... خَرِينا وبُلْنا لا نَخَاف عِقَابَا
ذُكر عند أعرابي الأولادُ والانتفاع بهم، فقال: زوِّجوني امرأةً أولدها ولداً أعَلِّمه الفُروسية حتى يحوى الرِّهان، والنَّزْعَ عن القوس حتى يُصيب الحَدق، وروايةَ الشِّعْر حتى يُفْحِم الفًحُول. فزوَجوه امرأة، فولدت له ابنةً، فقال فيها:
قد كنتُ أرْجو أن تكوني ذكرَا ... فَشَقَّك الرحمنُ شَقًّا مُنكَرَا
شَقًّا أبى اللهّ له أن يُجْبَرَا ... مثلِ الذي لامها أو أكْبَرَا
ثم حَمَلت حَمْلا آخرً، فدخل عليها وهي في الطَلق، وكانت تسَمَّى رَباباً، فقال:
أَيا رَبابى طَرِّقى بخَيْر ... وطَرِّقى بخصيه وأيْرِ
ولا ترِيناَ طَرَف البُظَيْر
ثم ولدت له أخرى، فَهَجَر فِراشَها. وكان يأتى جارةً لها، فقالت فيه، وكان يُكنى أبا حَمْزة:
ما لأبى حمزة لا يأتينا ... يَظَلّ في البيت الذي يَلِينَا
غضْبانَ أن لا نَلِدَ البنينا ... وإنما نَأخُذ ما أعْطِينا
فألانَهً قولها، ورَجع إليها.
وقال سعيد بن أبي الفرج: سَمِعتً أعرابياً يطوف بالبيت وٍ هو يقول:
لا هًمَّ ربَّ النِّاس حين لَبَّبُوا ... وحين راحوا من مِنى وَحَصَّبُوا
لا سقيت عَثَبْثَب وغُلَّبُ ... والمُسْتَزَارُ لا سَقاه الكَوْكَبُ
فقلت: يا أعرابي، ما لهذه المَوَاضع تَدْعو عليها في هذا الموضع، فنَظر إليِّ كالغَضْبان، وقال:
من أجل حُمّاهنَ ماتت زَيْنَبُ

قولهم في التلصص
أبو حاتم قال: أنشدنا أبو زَيد لأعرابيّ وكان لصّاً:
ثلاثُ خلال لستُ عنهنّ تائباً ... وإن لاَمَني فيهنَّ كُلُّ خَلِيل
فمنهن أني لا أزال مُعَانِقاً ... حمائلَ ماضي الشفْرتين صَقِيل
به كنتُ أستَعْدي وأعْدى صَحابتي ... إذا صَرَخ الزَحْفانِ باسم قتِيل
ومنهنّ سَوْق النًهب في ليلة الدُّجى ... يَحَارُ بها في اللَيل كُلًّ مَمِيل
وهذا المعنى سبقه إليه الأوَّل:
فلولا ثلاثٌ هُن عِيشة الفَتى ... وَجدِّك لم أحْفِلْ متى قام رامِس
فمنهنَّ سَبْقي العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مَطْلَعَ الشمْس ناعِس
ومنهنّ تَقْريطُ الجَرَاد عِنَانَه ... إذا ابتدر الشَخْص الصَّفِيَّ االَفوَارس
ومنهنَّ تَجْرِيدُ الكوَاعب كالدُّمَى ... إذا ابتز عن أكفالهنَّ الملابس
وأوَّل من قال هذا المعنى طَرفة حيث يقول:
فلولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفَتى ... وجدِّك لم أَحْفِل متى قام عًوَدِي
فمنهنِّ سَبْقِي العاذلاتِ بشَرْبة ... كُمَيْتٍ مَتى ما تُعْلَ بالماء تُزَبِد
وكَرِّي إذا نادى المُضَافُ مُحنَّباً ... كَسِيد الغَضىَ نَبَهْتَهُ المًتَوَرِّد
وتَقْصيرُ يوم الدَجن والدَجْنُ مُعْجَب ... بِبَهْكَنَة تحت الخِبَاء المُعَمّد
قولهم في الطعام
الأصمعي قال: اصطحب شَيخ وحَدَث في سَفَر، وكان لهما قُرْص في كلّ يوم

وكان الشيخُ مًنْخلع الأضراس بَطيء الأكل. وكان الحَدَث يَبْطِش بالقُرْص ثم يجلس يَشْتكي العِشْق، ويتضوّر الشيخُ جُوعاً، وكان الحَدَث يُسَمَى جَعْفَرا، فقال الشيخ:
لقد رابني من جعفر أنِّ جعفراً ... بَطِيشٌ بقرْصي ثم يَبْكي على جُمْل
فقلتُ له لو مًسَك الحرب لم تَبِت ... بَطِينًاَ ونَسّاكَ الهوى شِدَّةَ الأكْل
الأصمعي قال: أنشدني أعرابي لنفسه:
ألا ليت لي خُبْزاً تسَربل رائباً ... وخَيْلاً مِن البر في فُرْسانها الزُّبْدُ
فاطْلُب فيما بينهنَّ شهادةً ... بِمَوْت كَرِيم لا يُعَدُّ له لَحْد
الشِّيباني عن العُتبيّ عن أبيه قال: قال أعرابي: كنت أشْتهي ثريدة دَكْناء من الفُلفُل، رَقْطَاء من الحِمص، ذات حِفَافين من اللَّحْم، لها جَناحان من العُراق، أضْرب فيها كما يَضْرب وَلي السُّوء في مال اليتيم. وقال رجل لأعرابيّ: ما يسرّني لو بِتُ ضيفاً لك؟ فقال له الأعرابي: لو بِتّ ضيفاً لي لأصبحتَ أبطنَ من أمك لبل أن تَلدك بساعة.
حضر أعرابي سُفرة سُليمان بن عبد الملك، فجعل يمرِّ إلى ما بين يديه، فقال له الحاجب: مما يَلِيك فكُلْ يا أعرابي؛ فقال: مَن أجْدَب انتجع. فَشَقَّ ذلك على سُليمان، فقال للحاجب: إذا خرج عَنَّا فلا يَعُد إلينا. وشهد بعد هذا سُفْرته أعرابيّ آخرً، فمر إلى ما بين يديه أيضاًً، فقال له الحاجب: مما يَليك فكُلْ يا أعرابيّ؛ قال: مَن أخصَبَ تَخيَّر. فأعجب ذلك سليمانَ، فقرَّبه وأكرمه وقَضى حوائجه.
مرَّ أعرابي بقوم من الكَتَبة في مُتَنزه لهم وهم يأكلون، فسلم، ثم وَضع يده

يأكل معهم، فقالوا: أعرفت فينا أحداً؟ قال: بلى، عرفتُ هذا، وأشار إلى الطّعام. فقال بعض الكُتَاب يَصِف أكله: لم أرَ مِثْلَ سرطه ومَطّه قال الثاني: وأكله دَجاجة بِبطّه قال الثالث: ولَفّه رُقاقه بإقْطِه. قال الرابع: كأنّ جالينوس تحت إبْطه. فقالوا للرابع: أما الذي وَصفنا من فِعْله فمعلومِ فما يصنع جالينوس من تحت إبطه؟ قال: يًلْقِمه الجَوارش كلما خاف عليه التّخمة يهْضم بها طعامه. وقال رجل من أهل المدينة لأعرابي: ما تأكلون وما تَعافون؟ قال له الأعرابي: نأكُل كل ما دَبّ وهَبّ إلا أمّ حُبَين. قال المَدني: تَهْنيء، أمً حُبَين العافية. قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لَحْماً، فاشتَرَوْا، وطَبَخه حتى تَهَرَأ، فأكلَ منه حتىِ انتهت نفسه، ولم يبُق إلا عَظْمه، وشرَعت إليه عيون ولده، فقال: ما. أنا مُطْعمه أحداً منكم إلّا من أحْسن أكله. فقال له الأكبر: ألوكه يا أبَتِ حتى لا أدَعَ فيه للذرة مَقِيلاً؟ قال: لستَ بصاحبه، قال الآخرً: ألوكه حتى لا تَدْري ألعامه هو أم لعام أول؛ قال: لستَ بصاحبه. قال له الأصغر: أدقّه يا أبت وأجعل إدامه المخ، قال: أنت صاحبه وهو لك. بلغنيِ عن محمد بن يزيد بن مُعاوية أنه كان نازلاً بحلب على الهَيْثم بن عديِّ فَبَعث إلى ضيف له من عُذْرة أعرابي، فقال له: حَدِّث أبا عبد اللهّ بما رَأيْتَ في حَضر المسلمين من الأعاجيب؛ قال: نعم، رأيتُ أمُوراً مًعْجبة، منها: أنني دخلتُ قرْية بكر بن عاصم الهلاليّ، وإذا أنا بدُورٍ متباينة، وإذا خِصَاص بِيض بعضها إلى بعض، وإذا بها ناسٌ كثير مُقْبلون ومُدْبرون، وعليهم ثياب حَكَوْا بها أنواعَ الزَّهر، فقلت لِنَفْسي: هذا أحد العِيدين، الفِطْر أوِ الأضْحَى، ثم رَجع إليَ ما عَزُبَ من عقلي فقلت: خرجتُ من أهلي في عَقِب صَفر وقد مضىِ العِيدان قبل ذلك. فبينا أنا واقفٌ أتعجب إذ أتاني رجلٌ: فأخذ بيدي فأدْخلني بيتاً قد نُجِّد، وفي وَجهه فُرُش مُمَهَّدَة، وعليها شابّ ينال فَرْعُ شَعره كتفيه، والناسُ حولَه سماطين، فقلت في نفسي: هذا الأميرُ الذي يُحكى لنا جلوسُه وجلوسُ الناس حولَه، فقلتُ وأنا ماثلُ بين يديه: السلامُ عليك أيها الأمير ورحمة اللّه؛ قال: فجَذب رجلٌ بيدي، وقال: ليس بالأمير، اجلِس؛ قلتُ: فمن هو؟ قال: عَرُوس؛ قلت: واثُكْل أمّاه! لرُبَّ عَرُوس بالبادية قد رأيتُه أهون على أصحابه من هَن أمه. فلم ألبث أن أدْخلَت الرجالُ علينا هَنَات مُدوّرات من خَشب، أمّا ما خَف منها فتُحْمل حَمْلاً، وأما ما ثقُل فَيُدَحْرج، فوُضعت أمامنا وحًلّق القوم عليها حَلَقاً، ثم أتينا بِخِرَق بيض فألْقيت عليها، فهممتُ والله أن أسأل القومَ خِرْقة منها أرْقع بها قميصي، وذلك أني رأيتُ لها نَسْجاً مُتلاحماً لا تتبين له سَدى ولا لحْمة، فلما بَسَط القومُ أيديهم، إذا هو يتمزق سريعاً، وإذا صِنْف من الخُبْز لا أعرفه. ثم أتِينا بطعام كثير من حُلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرتُ منه وأنا لا أعلم ما في عَقِبه من التُّخم والبَشم. ثم أتينا بشراب أحْمر في عِسَاس بِيض، فلما نظرتُ إليه، قلتُ: لا حاجة لي به، لأني أخاف أن يَقْتلني، وكان إلى جانبي رجلٌ ناصح لي، أحْسن الله عني جَزاءه، كان يَنْصحني بين أهل المَجلس، فقال لي: يا أعرابي، إنك قد كثرت من الطعام، فإن لضربتَ الماء هَمى بطنك. فلما ذَكر البطنَ ذكرتُ شيئاً أوصاني به الأشْياخ، قالوا: لا تزال حيًّا ما دام بَطْنُك شديداً، فإذا اختلف فأوْصِ، فلم أزل أتداوى بذلك الشرَّاب ولا أملّه حتى داخلني به صَلف لا أعرفه من نفسي، ولا عهْد لي به، ولا اقتدار على أمري؛ وكان إلى جانبي الرجلِ الناصح لي، فجعلتْ نفسي مُحدّثني بهَتْم أسنانه مرة وَهَشْم أنفه أخرى، وأهُمّ أحياناً أن أقول له: يا بن الزَّانية. فبينا نحن كذلك، إذ هَجَم علينا شياطين أرْبعة: أحدُهم قد عَلَّق جُعْبة فارسيّة مُفَتَّحة الطّرفين، قد شُبِّكت بالخُيوط، وقد ألْبست قطعة فَرْو كأنهم يخافون عليهِا القُر، ثم بَدَا الثاني فاستخرج من كفه هنة كفَيْشلة الحِمار، فوَضعٍ طَرفها في فِيه فضرًط فيها، ثم جَسَّ على حُجْزَتها فاستخرج منها صوتاً مُشاكِلاً بعضهُ بعضاً، ثم بدا الثالثُ وعليه قميصٌ وَسخ، وقد غَرَّق رأسه بالدهن، معه مرآتان، فجعل يُمر إحداهما على الأخرى، ثم بَدَا

الرًابع عليه قَميص قَصِير وسَرَاويل قصيرة. فجعل يَقْفِزِ صُلْبه ويهزُ كَتِفيه، ثم التَبط بالأرض، فقلتُ: مَعْتوه وربِّ الكعبة، ثم ما بَرح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمْتعونا من لَهْوكم، فبَعثوا بهم إليهنَّ، وبقيتْ الأصواتُ تَدور في آذاننا. وكان مَعنا في البيت شابّ لا آبه له، فعَلَت الأصوات له بالدُّعاء، فخرج فجاء بِخَشبة في يده، عينُها في صَدْرها، فيها خُيُوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عُوداً فوضَعه على آذنه، ثم زَمّ الخيوط الظاهرة فلما أحْكمها عرَك أذنها، فنطق فُوها، فإذا هي أحسن قَيْنة رأيتُها قط، فاستخفَّني حتى قُمتُ - من مجلسي، فجلستُ إليه فقلتُ: بأبي أنتَ وأمّي، ما هذه الدَّابة؟ قال: يا أعرابيّ هذا البَرْبط؟ قلت: ما هذه الخُيُوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يَليه مثنى، والذي يليه مثلث، والذي يليه بَمّ، فقلتُ: آمنت باللهّ. وقال أعرابيّ: تَمْرنا خُرس فُطْس، يغيب فيهنَ الضِّرْس، كأنّ فاها ألسن الطَّير،ابع عليه قَميص قَصِير وسَرَاويل قصيرة. فجعل يَقْفِزِ صُلْبه ويهزُ كَتِفيه، ثم التَبط بالأرض، فقلتُ: مَعْتوه وربِّ الكعبة، ثم ما بَرح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمْتعونا من لَهْوكم، فبَعثوا بهم إليهنَّ، وبقيتْ الأصواتُ تَدور في آذاننا. وكان مَعنا في البيت شابّ لا آبه له، فعَلَت الأصوات له بالدُّعاء، فخرج فجاء بِخَشبة في يده، عينُها في صَدْرها، فيها خُيُوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عُوداً فوضَعه على آذنه، ثم زَمّ الخيوط الظاهرة فلما أحْكمها عرَك أذنها، فنطق فُوها، فإذا هي أحسن قَيْنة رأيتُها قط، فاستخفَّني حتى قُمتُ - من مجلسي، فجلستُ إليه فقلتُ: بأبي أنتَ وأمّي، ما هذه الدَّابة؟ قال: يا أعرابيّ هذا البَرْبط؟ قلت: ما هذه الخُيُوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يَليه مثنى، والذي يليه مثلث، والذي يليه بَمّ، فقلتُ: آمنت باللهّ. وقال أعرابيّ: تَمْرنا خُرس فُطْس، يغيب فيهنَ الضِّرْس، كأنّ فاها ألسن الطَّير، تقع التمرة منها في فيك فتجد حَلَاوَتها في كَعْبِك. وحضر أعرابيّ سُفْرة سُليمان بن عبد الملك، فلما أتي بالفالوذج جَعَل يُسْرع فيه، فقال سليمان: أتَدْري ما تأكْل يا أعرابي؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأجد رِيقاً هنيئاً ومُزْدَرَداً ليناً، وأظنه الصراطَ المُستقيم الذي ذَكره الله في كتابه. قال: فَضَحك سليمان، وقال: أريدك منه يا أعرابي، فإنهم يذكرون أنّه يزيد في الدَماغ؟ قال: كذَبوك يا أمير المؤمنين، لو كان كذلك لكان رأسك مثلَ رأس البَغْل. قال: ومررت بأعرابي يأكل في رَمضان، فقلت له: ألا تَصُوم يا أعرابي؟ فقال:
وصائمٍ هب يَلْحَاني فقلتُ له ... أعْمِد لِصَوْمِك واتْرُكْني وإفطاري
واظمأ فإني سأرْوى ثم سوف تَرى ... من ذا يصير إذا مِتْنا إلى النار
وحَضر سُفْرةَ سليمان أعرابيّ، فنظر إلى شَعرة في لُقْمة الأعرابي، فقال: أرى شعرة في لُقْمتك يا أعرابي؟ قال: وإنك لَتُراعيني مُرَاعاة من يُبْصِرُ الشَّعرة في لُقمتي، واللهّ لا واكلتُك أبداً، فقال اسْترها عليٌ يا أعرابي، فإنها زلّة ولا أعود إلى مثلها أبداً.

أخبار أبي مهدية الأعرابي

أبو عثمان المازني قال: قال أبو مَهْدئة: بلغنيِ أن الأعراب والأعزاب هجاؤها واحد، قلت: نعم؛ قال: فاقرأ الأعزاب أشدّ كُفْراً ونفاقاً، ولا تقرأ: الأعراب ولا يَغُرُّك العَزَب وإن صام وصلَّى. وتُوفّي بُني لأبي مهدية صغير، فقيل له: أبشر أبا مَهدية، فإنا نرجو أن يكون شَفِيع صِدْق يومَ القيامة؛ قال: لا وَكلنا اللّه إلى شَفاعته، إذاً واللّه يَكون أعيانا لساناً، وأضعَفَنا حُجة، ليته المِسْكينَ كَفَانا نَفْسه. وقيل لأبي مهديّة: أكُنتم تتوضئون بالبادية؟ قال: نعم واللّه، لقد كُنا نتوضّأ فتكفي التَوْضئة الرجل منّا الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلتْ علينا هذه الحمراء - يعني الموالي - فجعلت تُليق أستاهها كما تُلاق الدَّواة. وقيل لأبي مَهديّة: أتقرأ من كتاب اللهّ تعالى شيئاً؟ قال: نعمِ، ثم افتتح يقرأ: " والضُّحَى واللَيْل إذا سَجَى " حتى انتهى إلى " وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهَدَى " ، فالتفت إلى صاحب له فقال: إنَ هؤلاء العُلوج يقولون: وَوَجدك ضَالاً فهدى، واللّه لا أقولها أبداً. ولما أسَن أبو مهديّة وَلي جانباً من اليمامة، وكان به قَوْمٌ من اليهود أهلُ عَطاء وجِدَة فأرسل إليهم، فقال: مَا عندكم في المَسِيح؟ قالوا: قَتلناه وصَلَبْناه؛ قال: فهل غَرِمْتُم دِيَته؟ قالوا: لا؛ قال: إذاً واللهّ لا تَبْرحوا حتى تَغْرموا دِيتَه، فأرْضوه حتى كَف عنهم. وقيل لأبي مهدية، ما أصْبَرَكم معشرَ العرب على البَدْو؟ قال: كيف لا يَصْبر على البدو مَن طعامُه الشمس، وشرابه الرٌيح. ونظر أبو مَهْديّة إلى رجل يسْتَنجي ويُكثر من الماء فقال له: إلى كم تَغْسلها ويحك! أتريد أن تَشرَب فيها سَويقاً. ومات طفل لأبي مهدية، فقيل له: اصبر يا أبا مهديّة، فإنه فَرَط افترطته، وخير قدَمته، وذُخْر أحْرزته، فقال: بل وَلد دفنته، وثُكل تُعجِّلته، واللّه لئن لمِ أجْزع للنَّقص لا أفْرَح بالمَزيد. قال أبو عُبيدة: سمع أبو مَهْدِيَّة رجلاً يقول بالفارسيَّة: ذود ذود، فقال: ما يقول هذا؟ فقيل له: يقول، عَجِّل عَجِّل؛ فقال: أفلا يقول: حَيّهَلاَ؟

خبر أبي الزهراء
المُعلى بن المُثَنَّى الشّيبانيّ قال: حَدّثنا سُويد بن مَنْجوف قال: أقبل أعرابيّ من بنى تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جَيّانة السُّبيع تحته أتان له تَخُبّ، وعليه ذلاذل وأطمار من سَحْق صُوف، وقد اعتمّ بما يًشْبه ذلك، من أشْوه الناس مَنْظراً، وأقْبحهم شَكلاً، وهو يَهْدر كما يَهْدر البعيرُ، وهو يقوله: ألا سَبَد ألا لَبَد، ألا مُؤْوٍ ألا سَعْديّ ألا يَربوعي ألا دارمي؟ هَيهات هَيهات، وما يُغْنى أصْلُ حَوْض الماء صادياً مُعَنّى؟ قال سُويد: فَدَخل علينا في دَرْب الكُنَاسة فلم يجد مَنْفذاً، وقد تَبعه صِبْيان كثيرون وسَواد من سَواد الحيّ، فسمعتُ سوادياً يقول له: يا عَماه يا إبليس، متى أذن لك بالظِّهور؟ فالتفت إليهم، فقال: منذ سَرَق آباؤكم وفَسَقت أمهاتكم. قال: وكانَ معنا أبو حمَاد الخيَّاط، وكانَ من أطلب الناس لكلام الأعراب، وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي يدخل علينا، وكان مع؛ ذلك مَوْلى لبني تميمٍ، فأتيتُه فأخبرته، فخرج مبَادراً كأنّي قد أفدتُه فائدة عظيمة، وقد نَزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحِيطان، وأخذ قَوْسَه بيده، فتارة يُشير بها إلى الصبيان، وتارةً يَذُب بها الشَذا عن الأتان، وهو يقول لأتانه:
قد كُنتِ بالأمْعَز في خِصْب خَصِبْ ... ما شِئْتِ من حَمْض وماء مُنْسَكِبْ
فرَبُّكِ اليومَ ذليل قد نَصِب ... يَرَى وجوهاً حوله ما تُرْتَقب
ولا عليها نُورُ إشراق الحَسَب ... كأنها الزَنج وعُبْدان العَرَب
إلى عُجَيْل كان كالرَّغْل السرَّب ... ولو أمنْتُ اليومَ من هذا اللَجَبْ
رَمَيْتُ أفواقاً قَوِيماتِ النصُب ... الريشُ أولاها وأخراها العَقَب

قال: فلم يزل أبو حمّاد يُلْطِفه ويتَلطَف به ويُبخله إلى أن أدخله منزله، فمهَّد له وحطَه عن أتانه، ودعا بالعَلَف، فجعل الأعرابيّ يقول: أين اللَيف والنَّئِيف والوِساد والنِّجاد. يعني باللِّيف: الحَصير، وبالنَّئِيف: عُشبَة عندهم، يقال لها البُهْمَى. وبالوِساد: جِلْد عَنْز يُسْلخ ولا يُشَق ويُحْشى وَبراً وشَعراً ويُتّكأ عليه، وبالنِّجَاد، مِسْح شَعر يستظل تحته. قال: فلما نَزَع القَتب عن الأتان إذا ظهرُها قد دَبر حتى أضرِّت بنا رائحتُه. فجعل الأعرابي يتنهد ويقول:
إن تُنْحَضي أو تَدْبَرِي أو تَزْحَرِي ... فذاك من دُؤوب ليل مُسْهِرِ
أنا أبو الزهراء من آل السري ... مُشَمَّخ الأنْفِ كريم العُنْصُرِ
إذا أتيت خُطَة لم أفسَرِ
وكان يُسَمى الأعرابيّ صَلَتان بن عَوْسجة، من بني سَعْد بن دارم، ويُكْنَى بأبي الزَهرِاء. وما رأيتُ أعرابياً أعجبَ منه، كان أكثر كلامه شِعْراً، وأمْثَلَ أعرابي سمعتُه كلاماً، إلا أنه ربما جاء باللَفظة بعد الأخرى لا نَفهمها، وكان من أضْجَر الناس وأسْوأهم خُلقاً، وإذا نحن سألناه عن الشيء، قال؛ رُدوا عليّ القَوس والأتان، يظُنّ أنا نَتلاعب به، وكُنّا نجتمع معه في مجلس أبي حمّاد وما مِنا إلا من يأتيه بما يشتهيه فلا يُعْجبه ذلك، حتى أتيناه يوماً بخِرْبِز، وكانت أمامه، فلما أبصرها تأمّلها طويلاً وجعل يقول.
بُدِّلْتً والدَهْرُ قديماً بَدّلَا ... من قَيْض بَيْض القفْر فَقْعاً حَنْظلا
أخْبَثُ ما تُنْبت أرْضٌ مأكلا
فكنا نقول له: يا أبا الزًهراء، إنه ليس بحَنْظَل، ولكنه طعام هنيء مريء ونحن نَبْدؤك فيه إنْ شئتَ؛ قال: فخُذوا منه حتىِ أرى. فبدأنا نأكل وهو يَنظر لا يَطْرف، فلما رأى ذلك بَسَط يده، فأخذ واحدةً، فنزع أعلاها، وقوَّر أسْفَلها؛ فقُلنا لها: ما تُريد أن تَصْنع يا أبا الزهراء؟ فقال: إن كان السم يا بنِ أخي ففيما تَرَوْن. فلما طَعِمه استخفّه واستعذبه واستَحلاه، فلم يكن يُؤْثِرُ عليه شيئاً، وما كنا نأتيه بعدُ بغَيره، وجَعل في خِلال ذلك يقول:
هذا طَعام طَيِّب يَلينُ ... في الجَوْف والحَلْق لهُ سُكُونُ
الشَّهدُ والزّبد به مَعْجُونُ
فلما كان إلى أيام، قلتُ له: يا أبا الزهراء، هل لك في الحَمّام؟ دال: وما الحمام يا بن أخي؛ قلنا له: دارٌ فيها أبيات حارّ وفاتر وبارد، تكون في أيها شئت، تُذْهب عنك قَشَفَ السَّفَر، ويَسْقط عنك هذا الشَّعر. قال: فلم نَزل به حتى أجابنا، فأتينا به الحمَّام وأمرنا صاحب الحمّام أن لا يُدْخل علينا أحداً، فَدَخل وهو خائف مترقّب لا يَنزع يده من يد أحدنا حتى صار في داخل الحمَّام، فأمرنا مَن طَلاه بالنّورة، وكان جِلْده أشْعَر كجِلد عَنْز، فَقَلِق ونازَعَ للخُروج، وبدأ شَعره يَسْقط؛ فقلنا: أحين طاب الحمَّام وبدأ شعرك يسقط تخرُج؟ قال: يا بن أخي، وهل بقي إلا أن أنْسَلخ كما يَنْسلخ الأديم في احتدام القَيْظ، وجعل يقول:
وهل يَطيب الموتُ يا إخْواني ... هل لكُم في القَوْس والأتانِ
خذُوهما مِنِّي بلا أثمان ... وخَلَصوا المًهْجَة يا صِبياني
فاليومَ لو أبْصَرَني جيراني ... عُرْيان بل أعرَى من العرْيان
قد سَقَط الشَعْر عن الجثمان ... حُسِبت في المنظر كالشًيطان
قال: ثم خرج مُبادراً، وأتْبعَه أحداثٌ لنا لولاهم لَخَرَج بحاله تلك ما يستره شيء، ولحقناه في وَسط البيوت، فأتيناه بماء بارد، فشرب وصبَ على رأسه، فارتاح واستراح، وأنشأ يقول:
الحمدُ للمُستَحْمد القهار ... أنْقَذَني من حَر بيت النَّارِ
إلى ظَليل ساكن الأوَار ... من بعد ما أيقنت بالدَمار

قال: فدعونا بكُسوة غير كُسوته فألبسناه، وأتينا به مجلس أبي حماد وكان أبو حَماد يبيع الحِنْطة والتمرِ وجميع الحبوب، وكان يُجاوره قومٌ يَبيعون أنبِذَة التمر، وكان أبو الحسن التمّار ماهراً، فإذا خُضنا في النحو وذكرنا الرُّواسي والكِسائي وأبا زيد جعل يَنْظر بفقه الكلام، ولا يفهم التأويل فقلنا له: ما تقول يا أبا الزَّهْراء؟ فقال: يا بن أخي، إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له؛ فقال أبو الحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابَها من خَطئها؛ فقال له: ثَكلْتَ وأثْكلت، وهل تُخْطىء العرب؛ قال: بلى؛ قال: على أولئك لعنة الله، وعلى الذين أعتَقوا مثلَك، قال سُويد: وكنت أحدثَهم سنًّاً، قالت: فقلت: جُعِلت فداك، أنا رجل من بني شَيْبان وربيعة، ما نعلم أنِّا على مثل الذي أنتَ عليه من الإنكار عليهم، فقال فيهم:
يُسائلني بيَّاع تَمْرٍ وَجَرْدقٍ ... ومازِج أبْوَال له في إنائِه
عن الرَّفع بعد الخَفْض لا زال خافضاً ... ونَصْب وجَزْم صِيغ من سُوء رائه
فقلتُ له هذا كلامٌ جهلتَه ... وذو الجَهْل يروي الجهل عن نُظرائه
فقال بهذا يُعْرَف النحْو كلُّه ... يرى أنّني في العُجْم من نُظرائه
فأما تَميم أو سُلَيم وعامر ... ومَن حَل غَمْر الضَال أو في إزائه
ففيهم وعنهم يُؤثر العلم كُلُّه ... ودَع عنك من لا يهتدي لخطائه
فمن ذا الرُّؤاسيّ الذي تَذْكرونه ... ومن ذا الكِسَائي سالحٌ في كِسائه
ومَن ثالثٌ لم أسمع الدهرَ باسمه ... يُسمونه من لُؤمه سيبوائه
فكيف يُحيل القوم من كان أهلَه ... ويهْدِي له من ليس من أوْليائه
فَلَستُ لبيَّاع التُّميرات مُغْضِياً ... على الضيم إن واقفتُ بعد عَشائه
ولقد قلنا له: يا أبا الزَّهراء ... هل قرأتَ من كتاب الله شيئاً؟
قال: أي وأبيك، آيات مُفَصلات، أرَدِّدهن في الصَلوات، أباء وأمهات، وعمات وخالات ثم أنشأ يقول:
قرأتُ قَوْلَ اللّه في الكتاب ... ما أنزل الرحمنُ في الأحزاب
لعُظم ما فيها من الثوَابِ ... الكُفْر والغِلْظة في الأعراب
وأنا فاعلم من ذوي الألباب ... أومن بالله بلا ارتياب
بِعَرْشه المستور بالحِجَاب ... والمَوْتِ والبَعْث وبالحِساب
وجَنّة فيها من الثياب ... ما ليس بالبَصْرَة في حِساب
وجاحِم يَلْفح بالتهاب ... أوْجُه أهل الكُفْرو والتَّباب
ودَفْع رَحْل الطارق المنتاب ... في ليلة ساكنة الكِلاب
ولما أحضرناه ذات يومٍ جِنازة، قلنا له: يا أبا الزهراء، كيف رأيت الكوفة؟ فقال: يا بن أخي، حَضَراً حاضراً، ومَحلاً أهلاً، أنكرتُ من أفعالكم الأكيال والأوزان، وشَكْل النِّسوان، ثم نظر إلى الجبَّانة، فقال: ما هذه التِّلال يا بن أخي؟ قلت له: أجداثُ الموتى: فقال: أماتوا أم قُتلوا؟ فقلت: قد ماتوا بآجالهم، مِيتات مخُتلفات، قال: فماذا نَنْتظر نحن يا بن أخي؟ قلت: مثل الذي صاروا إليه، فاستعبر وبَكى، وجعل يقول:
يا لَهفَ نَفسي أنْ أموتَ في بَلَد ... قد غابَ عنِّي الأهْلُ فيه والوَلدْ
وكل ذي رحْم شفيق مُعْتَقدْ ... يكون ما كنتُ سقيماً كالرمد
يا ربّ يا ذا العرْش وَفِّق للرشدْ ... وَيسرِ الخيرَ لشيخ مُنْحَصِدْ
ثم لم يَلْبث إلا يسيراً حتى أخذتْه الحُمَّى والبِرْسام، فكنًا لا نُبارحه عائدين متفقدين، فبينا نحن عنده ذات يوم، وقد اشتد كَرْبه وأيقنى بالموت، جعل يقول:
أبْلِغ بناتي اليومَ أبلغ بالصُّوَى ... قد كُنَّ يأمُلْنَ إيَابي بالغِنَى
وقر تَمنَّينَ وما تُفْنى المنى ... بأنّ نَفْسي وردت حَوْض الرَّدى
يا رَبِّ يا ذا العرش في أعلى السما ... إليك قَدِّمت صيامي في الظما
ومن صلاتي في صباح ومِسَا ... فَعُدْ على شيخ كبير ذي انحِنا

كفاه ما لاقاه في الدُنيا كَفى
قلنا له: يا أبا الزَهراء، ما تأمرنا في القَوْس والأتان، وفيما قَسَم الله لك عندنا من رزق؟ فقال: يا بن أخي، أما ما قَسم اللّه لي عندكم، فمردود إليكم وأما القَوْس والأتان فَبِيعوها وتَصدَقوا بثمنهما في فقراء صَلِبَة بني تميم، وما بَقي ففي مَوَاليهم، ثم جعل يقول: اللهم اسمع دُعاء عَبدك إليك، وتضرعه بين يديك، وأعرف له حَقَّ إيمانه بك، وتَصْديقه برُسلك الذين صَليت عليهم وسلمْت، اللهم إني جانٍ مُقْترف، وهائبٌ مُعْترف، لا أدَعي بَراءة، ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي، وتجاوزك عنَي، اللهم إنك كتبت علي في الدنيا التّعب والنَّصب، وكان في قَضَائك وسابق علمك قبضُ روحي في غير أهلي وولدي، اللهم فبدِّل لي التَّعب والنَّصب رَوْحاً وريحانا وجنة نعيم فْضل كريم. ثم صار يتكلم بما لا نَفْقَهه ولا نَفْهمه، حتىِ مات رحمه اللّه. فما سمعتُ دُعاء أبلغ من دُعائه، ولا شهدتُ جنازة أكثرَ باكياَ وداعياً من جنازته، رحمه الله.

عودة إلى كلام الأعراب
وقال أعرابي يصف كساء:
َن كان ذابتً فهذا بَتِّي ... مقيِّظٌ مُصَيِّف مُشَتي
َسَجْتُه من نَعجاتٍ سِت
وقال أعرابي:
قالت سُلَيْمى ليت ليَ بَعْلاً بِمَنّ ... يَغْسِلُ أسي ويسلبني الحَزَنْ
حاجة ليس لها عِنْدي ثَمَنْ ... مشهورة قضاؤُها منه وَهَن
قالت جواري الحي يا سلمى وإنْ ... كان فقيراً معدماً قلت وإن
قال الإعرابي:
جاريتان حَلَفتْ أماهما ... وأن ليس مغبوناً من أشتراهما
والله لا أخْبركم أسماهما ... إلا بقولي هكذا هُما هُما
ما اللِّتان صادَني سهماهما ... حيا وحيا الله من حياهما
أمَاتَ رَبِّي عاجلاً أباهما ... حتى تُلاقي مُنْيتي مناهما
وقال أعرابي:
إِن لنا لَكَنَه ... مِعَنَة مِفَنَه
سمعنة نِظْرَنه ... إلا تَرَهْ تَظُنَه
السٌمْعنة النَظْرنة: المرأة التي إذا سَمِعت أو نَظرت فلم تَرَ شيئاً تَظنَت تَظنياً. وأنشد أبو عبد اللّه بن لُبانة لأعرابي:
كَرِيمةً يُحبُّها أبُوها ... مَلِيحةَ العَيْنَينْ عَذْباً فُوها
لا تُحْسِنُ السَّبَّ وإنْ سَبُّوها
قال الأصمعي: دخلتُ على هارون الرَّشيد وبين يديه بَدْرَة، فقال: يا أصمعي، إن حدثتني بحديث العَجْز فأضْحَكتني وهَبتك هذه البدرة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صَحارَى الأعراب في يوم شديد البرد والريح، إذا أنا بأعرابي قاعد إلى أجمة، قد احتملت الرّيح كِساءَه فألقته على الأجمة وهو عُريان، فقلت له: يا أعرابي، ما أجلسك ها هنا على هذه الحال؟ فقال: جارية واعدتُها يقال لها سَلمى أنا مُنتظر لها؛ فقلت وما يَمنعك من أخذ كِسائك؟ قال: العَجز يُوقفني عن أخذه؛ قلت له: فهل قلتَ في سَلْمى شيئاً؟ قال: نعم: قلتُ له: أسمعني للّه أبوك؛ قال: لا أسمعك حتى تأخذ كِسائي وتلقيه عليّ. قال: فأخذتُه فألقيته عليه، فأنشأ يقول:
لعل اللّه أن يأتي بسَلْمى ... فَيَبْطَحَها ويُلْقيني عليها
ويأتي بعد ذاك سحابُ مُزْن ... يُطَهِّرُنا ولا نَسعى إليها
فاستضحك هارون حتى استلقى على ظهره، وقال: خُذ البدرة لا بُورك لك فيها أذكروا أنّ أعرابياً أتى عَيْناً من ماءٍ صافٍ في شهر رمضان، فشرَب حتى رَوِيَ، ثم أومأ بيده إلى السماء فقال:
إنْ كُنْتَ قدَرْتَ الصِّيا ... مَ فأعْفِنا من شَهْر آب
أوْلا فإنّا مُفْطِرُو ... ن وصابرون على العَذابَ
خَلا أعرابيّ بامرأة ليفسُق بها فلم يَنْتَشر له. فقالت له: قُم خائباً؛ فقال: الخائبُ من فَتَحَ فم الجراب ولم يُكَل له دقيق. فخَجِلت ولم تَرُد جَواباً.
كتاب المجنبة في الأجوبة
قال أحمدُ بن محمد بن، عبد ربّه: قد مَضى قولُنا في كلام الأعراب خاصة

ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الْجَوابات التي هي أصعبً الَكلام كلّه مَرْكباً، وأعزُّه مَطْلباً، وأغمضه مَذْهباً، وأضيَقه مَسْلكا، لأنّ صاحبَه يُعْجل مُناجاةَ الفِكْرة، واستعمال! القَريحة؛ يُوم في بَديهة، نَقْض ما أًبْرم في رويّة؛ فهو كمن أخذت عليه الفِجَاج، وسُدَّت عليه المَخارج؛ قد تَعرّض للأسنَة، واستهدف للمَرامي؛ لا يدْرِي ما يُقْرَع به فيتأهّب له، ولا ما يَفجؤه من خَصمه فيَقْرعه بمثله. ولا سيّما إذا كان القائلُ قد أَخذ بمجامع الكلام فقاده بزِمامه، بعد أن رَوّى فيه وأحتَفل، وجَمع خواطره وأجتهد، وتَرك الرأي يَغِب حتى يَخْتمر، فقد كَرِهوا الرأي الفَطير، كما كرهوا الجوابَ الدَّبَريّ؛ فلا يزال في نَسج الكَلام واستئناسه، حتى إذا اطمأن شاردُه، وسَكن نافرُه، صكّ به خَصْمًه جُملة واحدة؟ ثم إذا قيل له: أجِب ولا تُخطىء، وأَسرع ولا تُبْطىء، ترَاه يجاوب من غير أناة ولا استعداد، يُطبّق المَفاصل، ويَنْفُذ إلى، المَقاتل، كما يُرْمَى الْجَندل بالجندل، وُيقْرَع الحديد بالحديد؟ فَيَحُل به عُراه، ويَنْقُض به مرائره، ويكون جوابُه على كلامه، كسحابة لَبّدت عَجاجة. فلا شيءَ أعضلُ من الجواب الحاضر، ولا أعزّ من الخَصْم الألدّ، الذي يَقْرع صَاحبه، ويَصْرع مُنازعه
بقول كمِثْل النار في الْحَطَب الْجَزْل
قال أبو الْحَسن: أسرعُ الناسِ جواباً عند البديهة قريش ثم بقيّة العرب؛ وأحسنُ الجواب كُلِّه ما كان حاضراً مع إصابة مَعنى وإيجاز لَفْظ. وكان يُقال: اتّقوا جوابَ عُثمانَ بنِ عفّان. وقالت النبيّ عليه الصلاةُ والسلامُ لعمرو بن الأهتم: أخبرني عن الزِّبْرِقان؛ قال: مًطَاعٌ في أدانِيه، شديدُ العارضة، مانعٌ لما وراءَ ظَهْره. قال الزِّبْرِقانُ: واللهّ يا رسولَ اللهّ، لقد عَلِم منّي أكثرَ من هذا، ولكنْ حَسَدني. قال عمروبنُ الأهتم: أمَا واللّه يا رسولَ اللهّ، إنه لَزَمِرُ المُروءة، ضَيِّق العَطَن أحمقُ الوالد، لَئيم الْخَال واللهّ يا رسولَ اللّه ما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الأخرى؟ رَضِيتً عن ابن عمِّي فقلتُ فيه أحسنَ ما فيه ولم أكْذِب، وسَخِطتُ عليه فقلت أقبحَ ما فيه ولم أكذِب. فقال النبيّ عليه الصلاةُ والسلام: إنّ من البيان سِحْراً.

جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية
وأصحابه

لمَا قَدِم عَقِيل بن أبي طالب على مُعاوية، أكْرَمه وقَربه وقَضى حوائجَه وقَضى عنه دَيْنَه، ثم قال له في بعض الأيام: والله إنّ عليًّا غَيْر حافظ لك، قَطَع قَرابتك وما وَصَلك ولا اصطنعك. قال له عَقيل: والله لقد أجزل العَطِيَّةَ وأعظمها، ووَصَل القَرابة وحَفِظها، وحَسُن ظَنُّه باللّه إذ ساء به ظَنُّك، وحَفِظ أمانَته وأصْلح رعيته إذ خُنْتم وأفسدتم وجُرْتم، فاكفُف لا أبالك، فإنه عما تقول بِمَعْزِل. وقال له مُعاوية يوماً: أبا يزيد، أنا لك خيرٌ من أخيك عليٍ. قال: صدقتَ، إن أخي آثرَ دِينَه على دُنياه، وأنت آثرتَ دُنياك على دِينك، فأنت خيرٌ لي من أخي، وأخي خيرٌ لنفسه منك. وقال له ليلةَ الهَرير: أبا يزيد، أنتَ الليلةَ معنا؟ قال: نعم، ويومَ بَدْر كنتُ معكم. وقال رجل لعَقيل: إنك لخائنٌ حيثُ تركتَ أخاك وتَرغب إلى مُعاوية. قال: أخْوَنُ منّي والله مَن سَفك دَمَه بين أخي وابن عمِّي أن يكون أحدًهما أميراً. ودَخل عَقيل على معاوية، وقد كُفَّ بَصَرُه، فأجلسه معاوية على سريره، ثم قال له: أنتم مَعْشرَ بني هاشم تُصابون في أبصاركم. قال: وأنتم معشرَ بني أميّة تُصابون في بَصائرَكم. ودَخل عُتْبة بن أبي سُفْيان، فَوَسَّع له معاوية بينه وبين عَقيل، فجلس بينهما، فقال عَقِيل، مَن هذا الذي اجلَسَ أميرُ المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمّك عُتبة. قال: أمَا إنّه إنْ كان أقربَ إليك منِّي إني لأقْرَبُ لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم منك ومنه، ومنه، وأنتما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرضٌ ونحن سماء. قال عُتبة: أبا يزيد، أنت كما وَصَفْتَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرتَ، وأميرُ المؤمنين عالم بحقّك، ولك عندنا مما تُحبّ أكثر مما لنا عِنْدك مما نَكْره. ودخل عَقِيل على مُعاويةَ، فقال لأصحابه: هذا عَقيل عمه أبو لهب. قال له عَقيل: وهذا مُعاوية عَمَتُه حمَالةُ الحَطب؛ ثم قال: يا مُعاوية إذا دخلتَ النار فاعْدِلْ ذاتَ اليَسار، فإنك سَتَجد عمّي أبا لهب مُفْترِشاً عمِّتَك حَمَّالَةِ الحَطب، فانظُر أيهما خير: الفاعلُ أو المَفْعول به؟ وقال له معاوية يوماً: ما أبين الشَّبَق فيٍ رِجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نِسائكم أبينُ يا بني أميَّة. وقال له مُعاوية يوما: والله إنّ فيكم لَخَصلة ما تُعْجِبني يا بني هاشِم؟ قال: وما هي؟ قال: لِينٌ فيكم؛ قال: لِينُ ماذا؛ قال: هو ذاك؛ قال: إيانا تُعير يا مُعاوية! أجل واللّه، إن فينا لَلِيناً من غير ضَعْف، وعِزًا من غير جَبَروت؛ وأما أنتم يا بني أمية، فإنّ لِينكم غَدْر، وعِزَكم كُفْر؛ قال مُعاوية: ما كُلَّ هذا أردنا يا أبا يزيد. قال عقيل:
لذى اللُبّ قَبْلَ اليوم ما تُقْرَع العَصَا ... وما عُلَم الإنسانُ إلا لِيَعلَما
قال معاوية:
وإنّ سِفاه الشَيخ لا حلمَ بعده ... وإنِ الفَتَى بعد السَّفاهة يَحْلَمُ
وقال مُعاوية لعَقيل بن أبي طالب: لم جَفوْتمونا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:
إني امرؤ منّي التكرّمُ شِيمةٌ ... إذا صاحبي يوماً على الهُون أضْمَرَا
ثم قال: وايم الله يا مُعاوية، لئن كانت الدُنيا مَهَّدتك مِهادَها، وأظَلَّتْك بحذافيرها، ومَدَت عليك أطْناب سُلْطانها، ما ذاك بالذي يَزيدك مِنيٍ رغبة، ولا تخشُّعاً لرهبة. قال مُعاوية: لقد نَعتها أبا يزيد نَعْتاً هش له قلبيٍ، وإني لأرْجو أن يكون اللّهُ تبارك وتعالى ما رَدّاني برداء مُلْكها، وحَبَاني بِفَضيلة عَيْشها، إلا لكرامة ادّخرها لي؛ وقد كان داودُ خليفةً، وسُليمانُ مَلِكاً، وإنما هوِ لمِثال يُحْتذى عليه، والأمور أشباه؛ وايم اللّه يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريماَ، وإلينا حَبيبا، وما أصبحتُ أضمر لك إساءة. ويقال إنّ امرأة عَقيل، وهي بنت عُتبة بن رَبيعة خالةُ معاوية، قالت لعَقيل: يا بَنِي هاشم، لا يُحبكم قَلْبي أبداً، أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمّي؛ كأن أعناقهم أباريقُ فِضَّة. قال عقيل: إذا دخلتِ جهنم فخُذي على شمالك.
جواب ابن عبّاس لمعاوية
رضي اللّه عنهما لمعاوية وأصحابه

اجتمعت قُريشُ الشام والحجاز عند مُعاوية وفيهم عبدُ اللهّ بن عبّاس، وكان جريئاً على معاوية، حَقّاراً له، فبَلغه عنه بعضُ ما غَمَّه، فقال مُعاوية: رحم اللهّ أبا سُفيان والعبّاس، كانا صَفِيَّينْ دون الناس، فَحَفِظتُ الميتَ في الحيّ والحيَّ في الميّت؛ استعملك عليٌّ يا بن عبّاس على البصرة واستعمل أخاك عًبيدَ اللّه على اليمن، واستعمل أخاك تماما على المدينة، فلما كان من الأمر ما كان هَنأتكم بما في أيديكم، ولم أكْشفكم عمّا وَعَتْ غَرائرُكم، وقلت: أخذ اليومَ وأعْطى غداً مثلَه؟ وعلمتُ أنّ بدء اللؤم يَضُر بعاقبة الكَرَم، ولو شِئْتُ لأخذتُ بحلاقيمكم، وقَيَّأتكم ما أكلتم، ولا يزال يبلغنِي عنكم مَا تَبْرُك به الإبل؟ وذُنوبكم إلينا أكثرُ من ذنوبنا إليكم: خَذلْتم عُثمان بالمدينة، وقَتلتمٍ أنصارَه يومَ الجمل، وحاربتموني بصفين؛ ولَعَمري لبنو تَيْم وعَدي أعظمُ ذُنوبا منا إليكم، إذ صَرَفوا عنكم هذا الأمْر، وسَنُّوا فيكم هذه السنّة؛ فحتى متى أُغضي الجُفون على القَذَى، وأسْحب الذُيول على الأذى، وأقول: لعل الله وعَسى! ما تقول يا بن عباس؟ قال: فتكلم ابنُ عباس فقال: رحم اللهّ أبانا وأباك، كانا صَفِيَّين مُتقارضين، لم يكن لأبي من مال إلاّ ما فَضل أباك، وكان أبوك كذلك لأبي، ولكن من هَنأ أباك بإخاء أبي أكثرُ من هنّأ أبي بإخاء أبيك؛ نَصر أبي أباك في الجاهليّة، وحَقَن دَمَه في الإسْلام؛ وأما استعمالُ علي إيانْا، فَلِنَفْسه دون هَواه، وقد استعملتَ أنت رِجالاً لهواك لا لِنَفْسك منهم ابن الحَضْرمي على البصرة، فقُتل؛ وابنُ بِشرْ بن أرْطأة على اليمن، فخان، وحبيب بن مُرَّة على الحجاز، فَرُد، والضحّاك بن قيس الفِهْري على الكُوفة، فحُصِب؛ ولو طَلبت ما عندنا وَقَيْنا أعراضنا؛ وليس الذي يبلغك عنّا بأعْظم من الذي يَبْلغنا عنك، ولو وُضع أصغرُ ذُنوبكم إلينا على مائة حَسنة لَمَحقَها، ولو وُضع أدنىَ عُذْرنا إليكم على مائة سيئة لَحَسّنها؛ وأما خَذْلُنا عثمان، فلو لَزِمنا نصره لنصرناه، وأمّا قَتْلنا أنصارَه يوم الجمل، فعلى خُروجهم مما دَخلوا فيه؛ وأما حَرْبُنا إياك بصِفِّين، فَعلى تركك الحقَّ وأدعائك الباطلَ؛ وأمّا إغراؤُك إيّانا بِتَيْم وعَدِيّ، فلو أرَدْناها ما غَلَبونا عليها، وسَكَت. فقال في ذلك ابنُ أبي لَهب:
كان ابنُ حَرْب عَظيمَ القَدْر في الناس ... حتى رَماه بما فيه ابنُ عبّاس
ما زال يُهْبِطه طَوْراً ويُصعِده ... حتى استقاد وما بالحق من باس
لم يَتْرًكَنْ خُطّةً ممّا يُذلِّله ... إلا كَواه بها في فَرْوةِ الرّأس
وقال ابنُ أبي مُليكة: ما رأيتُ مِثلَ ابنِ عبَّاس! إذا رأيتُ أصحَّ الناس، وإذا

تكلم فأعْربُ الناس، وإذا أفْتى فأفْقه الناس، ما رأيتُ أكثرَ صوابا، ولا أَحْضر جواباً من ابن عباس. ابن الكَلْبيّ قال: أقبل معاويةُ يوماً على ابن عبّاس، فقال: لو وَليتمونا ما أتيتُم إلينا ما أتينا إليكم من التَّرحيب والتَقْريب، وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصَبْري على ما صبرتُ عليه منكم؛ وإني لا أريد أمراً إلا أظْمأتم صَدَرَه، ولا آتِي مَعْروفاً إلا صَغَّرتم خَطَره، وأعْطِيكم العطيّة فيها قَضاءُ حُقوقكم فتأخذونها مُتكارهين عليها، تقولون: قد نَقَص الحقَّ دون الأَمل؛ فأيّ أملٍ بعد ألف ألف أعطيها الرجلَ منكم، ثم أكُون أسَر بإعطائها منه بأخْذها. واللّه لئن انخدعتُ لكم في مالي، وذَلَلتُ لكم في عِرْضي، أرى انخداعي كَرما، وذُلِّي حلما. ول وَليتُمونا رَضينا منكم بالانتصاف، ولا نَسألكم أموالكم، لِعِلْمِنا بحالنا وحالكم، ويكون أبْغضَها إلينا وأحبَّها إليكم أنْ نُعْفِيكم. فقال ابنُ عباس: لو وَلينا أحْسنّا المُواساة، وما ابتُلينا بالأَثرة، ثمِ لم نَغشم الحيّ، ولم نَشْتُم الميت، ولستُم بأجود منّا أكُفّا، ولا أكرَمَ أَنْفُسا، ولا أصْون لأعراض المروءة؛ ونحن واللّه أعطَى الآخرًة منكم للدُنيا، وأعطَى في الحق منكم في الباطل، وأعْطَى على التقوى منكم على الهوى؛ والقَسْمُ بالسوية والعَدْلُ في الرعية يأتيان على المُنى والأمل. ما رِضَاكم مِنَّا بالكَفَاف! فلو رَضيتم به، منَّا لم تَرْض أنفسنا به لكم والكَفَاف رِضَا مَن لا حقَّ له فلا تُبَخِّلونا حتى تَسْألونا، ولا تَلْفِظونا حتى تَذُوقونا. أبو عثمان الحِزَاميّ قال: اجتمعت بنو هاشم عند مُعاوية فأقبل عليهم، فقال: يا بني هاشم، واللهّ إنّ خَيْري لكم لمَمنْوح، وإنّ بابي لكم لمفتوح، فلا يَقْطع خَيْري عنكمٍ عِلّةٌ، ولا يُوصِد بابي دونكم مَسألة، ولما نظرتُ في أمري وأمركم رأيتُ أمراً مُختلفا، إنكم لَتَرَون أنكم أحقُّ بما في يدي منّي، وإذا أعطيتُم عطيَّة فيها قضاءُ حقّكم، قًلتم: أَعطانا دون حَقّنا، وقَصرَّ بنا عن قَدْرنا، فصِرْتُ كالمَسْلوب، المَسْلوب لا حَمْدَ له، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم. قال: فأقبل عليه ابنُ عبَّاس فقال: واللهّ ما مَنَحْتنا شيئاً حتى سألناه، ولا فَتحت لنا باباً حتى قَرَعْناه، ولئن قطعتَ عنَّا خيرَكَ للّهُ أوسع منك، ولئن أَغلقت دوننا لنكُفّن، أنسفَنا عنك. وأما هدا المالُ، فليس لك منه إلا ما لِرَجُل من المًسلمين، ولنا في كتاب اللّه حَقّان: حَق في الغنيمة، وحقٌّ في الفَيء، فالغنيمَةُ ما غَلبنا عليها، والفَيء ما اجتنيناه. ولولا حقُنا في هذا المال لم يَاتك منَّا زائر، يَحمله خُفّ ولا حافر، أكفَاك أم أَزِيدك؛ قال: كَفاني، فإنك لا تُهَرّ ولا تنبح. وقال يوماً مُعاوية، وعنده ابنُ عبّاس: إذا جاءت هاشمٌ بقَدِيمها وحَدِيثها، وجاءت بنو أميَّة بأَحْلامها وسِياستها، وبنو أسد بن عبد العُزّي بِرِفادتها ودِيَاتها، وبنو عبد الدّار بحجابها ولوائها، وبنو مَخزوم بأموالها وأَفعالها، وبنو تَيْم بصدِّيقها وجَوادها، وبنو عديّ بفاروقها ومُتفكرها، وبنو سَهْم بأرائها ودَهائها، وبنو جُمح بشَرفها وأنفتها، وبنو عامر بن لؤيّ بفارسها وقَريعها، فمن ذا يُجلي في مِضْمارها، ويَجْري إلى غايتها؟ ما تقول يا بنَ عبَّاس؟ قال: أقول: ليس حَيٌّ يَفْخرون بأمرِ إلا وإلى جَنْبهم مَنْ يَشْركهم، إلا قُريشاً فإنهم يَفْخرون بالنبوة التيِ لا يُشارَكون فيها، ولا يُساوَوْن بها، ولا يُدْفعون عنها؛ وأشْهد أن اللّه لم يجعل محمداَ من قُريش إلا وقُرِيشٌ خَيْرُ البرية، ولم يَجْعله في بني عبد المُطلب إلا وهم خَيْر بني هاشم، ما نُريد أن نفخر عليكم إلا بما تَفْخرون به، إن بنا فُتِح الأمر وبنا يُخْتم، ولك مُلْك مُعجَّل، ولنا مُؤجّل، فإِن يكن ملْكُكم قبل مُلكنا فليس بعد مُلْكنا مُلْك، لأنّا أهلُ العاقبة، والعاقبةُ للمتقين أبو مِخْنف قال: حَجّ عمرو بنُ العاص فَمَرّ بعبد اللهّ بن عباس فَحَسَده مكانه وما رأى من هَيْبة النَّاس له ومَوْقِعَه من قُلوبهم، فقال له: يا بن عبّاس، مالك إذا رَأيتني وليَّتني القَصَرة، وكانّ بين عينيك دَبْرة، وإذا كنتَ في مَلأ من الناس كُنْتَ الهَوْهاة الهُمزَة! فقال ابنُ عبّاس: لأنك من اللئام الفجرة، ولقريش الكرامٍ البَررة

لا يَنْطِقون بِباطل جَهِلوه، ولا يَكْتًمون حقّاً عَلِموه، وهم أعظمُ الناس أحْلاما، وأرفع الناس أَعْلاما. دخلتَ في قُريش ولستَ منها، فأنت الساقطُ بين فِراشين، لا في بني هاشم رَحْلُك ولا في بني عَبد شمس راحلتُك، فأنت الأثيم الزنيم، الضَّالّ المُضِلّ، حَمَلَك مُعاوية على رِقاب الناس، فأنت تَسْطو بحِلْمه وتَسْمو بكَرَمه. فقال عمرو: أما واللّه إني لَمَسْرور بك، فهل يَنفعني عندك؟ قال ابنُ عباس: حيث مال الحقُّ مِلْنا، وحيثُ سَلَكَ قصَدْنا. المدائني قال: قام عمرو بن العاص في مَوْسم من مَواسم العرب، فأطْرى مُعاوية بنَ أبي سفيان وبني أُمية وتناول بني هاشم، وذكر مَشاهده بصِفِّين، واجتمعت قُريش، فأقبل عبدُ اللّه بن عبَّاس على عَمْروِ، فقال: يا عمرو، إنك بِعْت دِينَك من مُعاوية، وأعطيتَه ما بيَدك، ومَنَّاك ما بيد غيْرك، وكان الذي أخذ منك أكثرَ من الذي أعطاك، والذي أخذتَ منه دون الذي أعطيتَه، حتى لو كانت نفسُك في يدك ألقيتَها، وكُلًّ راضٍ بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصرُ في يدك كَدَّرها عليك بالعَذْل والتنقُّص، وذكرتَ مشاهدَك بصِفِّين، فواللّه ما ثَقُلتْ علينا يومئذ وَطْأَتك، ولقد كًشِفت فيها عَوْرتُك، وإنْ كنتَ فيها لطويلَ اللِّسان، قصيرَ السِّنان، آخرً الخَيْل إذا أقبلتْ، وأولها إذا أدبرت، لك يَدان: يَدٌ لا تَبْسُطها إلى خَير وأخري لا تَقبضها عن شَرّ، ولسانٌ غادر ذو وَجْهين؛ وجهان وَجْهٌ مُوحش، وَوَجْه مُؤْنس؛ ولعمري إنّ من باع دينَه بدُنْيا غيره، لحريّ أن يطول عليها نَدمُه. لك بيانُ وفيك خطَل، ولك رَأي وفيك نَكَد، ولك قدر وفيك حَسد، وأصغر عَيْب فيك أعظم عَيْب في غَيْرك. فأجابه عمرو بن العاص: واللّه ما في قُريش أثقلُ عليّ مسئلةً، ولا أمرُّ جواباً منك، ولو استطعتُ ألا أجيبك لفعلتُ، غيرَ أني لم أَبع دِيني من مُعاوية، ولكن بِعْتُ اللّه نفْسي، ولم أنس نَصِيبي من الدُّنيا، وأما ما أخذتُ من مُعاوية وأَعطيتُه، فإنه لا تُعلَّم العَوان الخِمْرة؛ وأمّا ما أتى إليّ معاويةُ في مِصْر، فإنّ ذلك لم يُغيِّرني له؛ وأمًا خِفّة وَطْأتي عليكم بصفِّين، فلِم اسْتَثْقلتم حَياتي واستبطأتم وَفاتي؛ وأما الجُبن، فقد علمتْ قريش أنّي أولُ من يُبارز، وأمرّ من يُنازل؛ وأما طُول لساني، فإني كما قال هِشام بن الوليد لعُثمان بن عفّان رضي اللّه عنه:ا يَنْطِقون بِباطل جَهِلوه، ولا يَكْتًمون حقّاً عَلِموه، وهم أعظمُ الناس أحْلاما، وأرفع الناس أَعْلاما. دخلتَ في قُريش ولستَ منها، فأنت الساقطُ بين فِراشين، لا في بني هاشم رَحْلُك ولا في بني عَبد شمس راحلتُك، فأنت الأثيم الزنيم، الضَّالّ المُضِلّ، حَمَلَك مُعاوية على رِقاب الناس، فأنت تَسْطو بحِلْمه وتَسْمو بكَرَمه. فقال عمرو: أما واللّه إني لَمَسْرور بك، فهل يَنفعني عندك؟ قال ابنُ عباس: حيث مال الحقُّ مِلْنا، وحيثُ سَلَكَ قصَدْنا. المدائني قال: قام عمرو بن العاص في مَوْسم من مَواسم العرب، فأطْرى مُعاوية بنَ أبي سفيان وبني أُمية وتناول بني هاشم، وذكر مَشاهده بصِفِّين، واجتمعت قُريش، فأقبل عبدُ اللّه بن عبَّاس على عَمْروِ، فقال: يا عمرو، إنك بِعْت دِينَك من مُعاوية، وأعطيتَه ما بيَدك، ومَنَّاك ما بيد غيْرك، وكان الذي أخذ منك أكثرَ من الذي أعطاك، والذي أخذتَ منه دون الذي أعطيتَه، حتى لو كانت نفسُك في يدك ألقيتَها، وكُلًّ راضٍ بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصرُ في يدك كَدَّرها عليك بالعَذْل والتنقُّص، وذكرتَ مشاهدَك بصِفِّين، فواللّه ما ثَقُلتْ علينا يومئذ وَطْأَتك، ولقد كًشِفت فيها عَوْرتُك، وإنْ كنتَ فيها لطويلَ اللِّسان، قصيرَ السِّنان، آخرً الخَيْل إذا أقبلتْ، وأولها إذا أدبرت، لك يَدان: يَدٌ لا تَبْسُطها إلى خَير وأخري لا تَقبضها عن شَرّ، ولسانٌ غادر ذو وَجْهين؛ وجهان وَجْهٌ مُوحش، وَوَجْه مُؤْنس؛ ولعمري إنّ من باع دينَه بدُنْيا غيره، لحريّ أن يطول عليها نَدمُه. لك بيانُ وفيك خطَل، ولك رَأي وفيك نَكَد، ولك قدر وفيك حَسد، وأصغر عَيْب فيك أعظم عَيْب في غَيْرك. فأجابه عمرو بن العاص: واللّه ما في قُريش أثقلُ عليّ مسئلةً، ولا أمرُّ جواباً منك، ولو استطعتُ ألا أجيبك لفعلتُ، غيرَ أني لم أَبع دِيني من مُعاوية، ولكن بِعْتُ اللّه نفْسي، ولم أنس نَصِيبي من الدُّنيا، وأما ما أخذتُ من مُعاوية وأَعطيتُه، فإنه لا تُعلَّم العَوان الخِمْرة؛ وأمّا ما أتى إليّ معاويةُ في مِصْر، فإنّ ذلك لم يُغيِّرني له؛ وأمًا خِفّة وَطْأتي عليكم بصفِّين، فلِم اسْتَثْقلتم حَياتي واستبطأتم وَفاتي؛ وأما الجُبن، فقد علمتْ قريش أنّي أولُ من يُبارز، وأمرّ من يُنازل؛ وأما طُول لساني، فإني كما قال هِشام بن الوليد لعُثمان بن عفّان رضي اللّه عنه:

لسانِي طويلٌ فاحْتَرس من شَذاته ... عليك وَسَيْفي مِن لسانيَ أَطْولُ
وأما وَجْهاي ولسَاناي، فإن ألْقى كلَّ ذِي قَدْر بِقَدْره، وأرمي كَلّ نابح بحَجَره، فمن عَرف قَدْرَه كَفاني نَفسه، ومَن جَهِل قَدْرَه كَفيتُه نَفْسي. ولَعَمْري ما لأحدٍ من قُريش مثلُ قَدْرك ما خلا معاويةَ، فما يَنفعني ذلك عندك؛ وأَنشأ عمرو يقول:
بَني هاشم مالِي أراكم كأنَّكم ... بِيَ اليومَ جُهّالٌ وليس بكم جَهْلُ
ألم تَعلموا أنّي جَسورٌ على الوغَى ... سريع إلى الداعي إذا كثُر القَتْل
وأوّل مَن يَدْعو نَزال، طَبِيعةِّ ... جُبِلْتُ عليها، والطباع هو الجَبْل
وأني فَصَلتُ الأَمرَ بعد اشتباهه ... بدُومةَ إذ أعيا على الحَكَم الفَصْل
وأنيِّ لا أَعْيا بأمْرٍ أريدُه ... وأنّي إذا عَجَّت بِكَارُكم فَحْل
محمد بن سَعيد عن إبراهيم بن حُوَيْطب قال: قال عمرُو بن العاص لعبد اللّه ابن عبّاس بعد قَتْل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: إنّ هذا الأمرَ، الذي نَحن فيه وأنتم، ليس بأوّل أمر قادَه البَلاءُ، وقد بَلَغ الأمرُ بنا وبكم إلى ما تَرى، وما أبْقت لنا هذه الحربُ حَياءً ولا صَبْراً، ولسنا نقول!: ليتَ الحربَ عادتْ، لكنّا نقول: ليتَها لم تَكُن كانت، فانظُر فيما بَقِي بغير ما مَضى، فإنك رأسُ هذا الأمر بعد عليّ، فإنّك أميرٌ مًطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.

مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير
الشَّعبيّ قال: قال ابنُ الزّبير لعبد اللّه بن عبّاس: قاتلتَ أمّ المُؤمنين وحَواريَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأَفتيتَ بزواج المُتعة. فقال: أمّا أُمّ المُؤمنين فأنت أخرجتَها وأبوك وخالًك، وبنا سُمِّيت أُمَّ المؤمنين، وكُنّاها خَيرَ بَنين، فتجاوز اللّه عنها. وقاتلتَ أنت وأبوك عليًّا، فإن كان عليّ مُؤْمناً، فقد ضَلَلْتم بقتالكم المُؤمنين؛ هان كان عليّ كافراً، فقد بؤْتم بسُخْط مِن الله بفِراركم من الزَّحف؛ وأما المُتعة، فإنّ عليّا رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم رَخَّص فيها فأفتيتُ بها، ثم سمعتُه يَنهي عنها فنهيتُ عنها؟ وأولُ مجْمر سَطَع في المُتعة مِجْمر آل الزُّبير. دخل الحسنُ بن عليّ على مُعاوية، وعنده ابنُ الزُّبير وأبو سَعيد بن عَقيل ابن أبي طالب، فلما جَلس الحسنُ، قال مُعاوية: يا أبا محمد، أيهما كانَ أكبرَ: عليّ أم الزبير؛ قال: ما أَقربَ ما بينهما! عليّ كَان أسنَّ من الزُّبير، رحم اللّه عليًّا. فقال ابن الزبير: ورحم اللهّ الزبير. فتَبسّم الحسن. فقال أبو سَعيد بن عَقِيلِ بن أبي طالب: دَعْ عنك عليّا والزُّبير، إنّ عليّا دعا إلى أمر فاتّبع، وكان فيه رأساَ، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأسُ امرأةً، فلما تراءت الفِئتان والتقى الجمعان نَكَص الزُبير على عَقِيبه وأدبر مُنهزماً قبل أن يَظهر الحقُّ فيأخذَه أو يَدْحض الباطلُ فيتركه، فأدركه رجل لو قِيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه، وأخذ سَلَبه وجاء برأسه، ومَضى علي قُدُما كعادته من ابن عمّه ونبيه صلى الله عليه وسلم، فَرَحم الله علياً ولا رَحم الزُّبير. فقال ابنُ الزُّبير: أما واللّه لو أنّ غيرك تكلَم بهذا يا أبا سَعيد لَعَلِم، قال: إن الذي تُعرّض به يَرْغب عنك. وأخبرت عائشةُ بمقالتهما، فمرّ أبو سعيد بفنائها فنادتْه: يا أَحول يا خَبيث! أنت القائل لابن أختي كذا وكذا؛ فالتفت أبو سَعيد فلم يَعر شيئاً، فقال: إن الشيطان ليَرَاك من حيث لا تراه. فَضَحِكت عائشةُ وقالت: للّه أبوك! ما أخبث لسانك!

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16