كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

مدح خالد بن صفوان رجلاً فقال: قريع المنطق، جزيل الألفاظ، عربي اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثيرة الطلاوة، صموتاً قؤولاً، يهنأ الجرب، ويداوي الدبر، ويقل الحز، ويطبق المفصل، لم يكن بالبرم في مروءته، ولا بالهذر في منطقه، متبوعاً غير تابع.
كأنه علم في رأسه نار دخل سهل بن هارون على الرشيد، فوجده يضاحك ابنه المأمون، فقال: اللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتى يكون كل يوم من أيام موفياً على أمسه، مقصراً على غده؛ فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسن وأجوده، ومن الحديث أصحه وأبلغه، ومن البيان أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه؟ قال سهل: يا أمير المؤمنين، ما ظننت أن أحداً تقدمني سبقني إلى هذا المعنى؛ فقال: بل أعشى همدان حيث يقول:
وجدتك أمس خير بني لؤي ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون، فدخل عليه يوماً والناس عنده على منازلهم، فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب؛ فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع، فقال لهم: ما لك تسمعون ولا تعون، وتفهمون ولا تعجبون، وتعجبون ولا تصفون، أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير، مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمهم، وعجمهم كعرب بني تميم، ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء؛ قال: فرجع له المأمون إلى رأيه الأول.
وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان، قال زياد: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على الحجاج ولا أحب إليه منه.
حدث الشيباني قال: أقام المنصور صالحاً ابنه، فتكلم في أمر فأحسن، فقال شبيب بن شيبة: تالله ما رأيت كاليوم أبين بياناً، ولا أعرب لساناً، ولا أربط جأشاً، ولا أبل ريقاً، ولا أحسن طريقاً، وحق لمن كان المنصور أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوماً، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح. قال: فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعده المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة: فمنها الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر، فأشبه منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه، ثم نزل.
وقال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه: تكلم بحاجتك قال: يا أمير المؤمنين، بهر الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك؛ قال: فعلى رسلك، فإنا لا نحب مدح المشاهدة، ولا تزكية اللقاء؛ قال: يا أمير المؤمنين، لست أمدحك، ولكن أحمد الله على النعمة فيك، قال: حسبك فقد أبلغت.
ودخل رجل على المنصور، فقال له: تكلم بحاجتك؛ فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين؛ قال: تكلم بحاجتك، فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين؛ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإن سؤال لزين، وما لامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين. قال: فاحسن جائزته وأكرمه.
حدث إبراهيم بن السندي قال:

دخل العماني على المأمون، وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج؛ فقال له: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان رائقان. قال: فغدا علي في زي الأعراب فأنشده، ثم دنا فقبل يده، وقال: قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزهما، وأنشد مروان، وقبلت يده وأخذت جائزته؛ وأنشدت المنصور، ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته؛ وأنشدت المهدي، ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته؛ إلى كثير من أشباه الخلفاء، وكبراء الأمراء، والسادة الرؤساء، فلا والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت فيهم أبهى منظراً، ولا أحسن وجهاً، ولا أنعم كفاً، ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. قال: فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه بوجهه وبشره فبسطه، حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه.
حدث العتبي عن سفيان بن عينية قال: قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق، فنظر إلى شاب منهم يتحوش للكلام، فقال: أكبروا أكبروا؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس بالسن، ولو كان الأمر كله بالسن لكان في المسلمين من أهو أسن منك؛ فقال عمر: صدقت رحمك الله تكلم؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا، وقدمت علينا بلادنا، وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك؛ قال: فما أنتم؟ قال: وفد الشكر؛ قال: فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فإن ناساً خدعهم الثناء، وغرهم شكر الناس فهلكوا، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم، فألقى عمر رأسه على صدره.

التنصل والاعتذار
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يقبل من متنصل عذراً صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض. وقال صلى الله عليه وسلم: المعترف بالذنب كمن لا ذنب له.
وقال: الاعتراف يهدم الاقتراف.
وقال الشاعر:
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً ... إليك فلم تغفر له فلك الذنب
واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي فقال: قد عذرتك غير معتذر، إن المحاذير يشوبها الكذب.
واعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى، فقال: قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار، وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن.
وقال إبراهيم الموصلي: سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له وهو يقول: أحتج إليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النية.
وقال رجل لبعض الملوك: أنا من لا يحاجك عن نفسه، ولا يغالطك في جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهة عفوك، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزلة.
وقال الحسن بن وهب:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالود الذي بيننا ... أن يفسد الأول بالآخر
وكتب الحسن بن وعب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر ما أحسن العفو كله ... ولا سيما عن قائل: ليس لي عذر
وقال آخر:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
خير الخليطين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً من لانتصرا
وقالت الحكماء: ليس من العدل سرعة العذل.
وقال الأحنف بن قيس: رب ملوم لا ذنب له.
وقال آخر: لعل له عذراً وأنت تلوم وقال حبيب:
البر بي منك وطى العذر عندك لي ... فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم
وقال آخر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب
ومن قولنا في هذا المعنى:
عذيري من طول البكا لوعة الأسى ... وليس لمن لا يقبل العذر من عذر
وقال آخر:
فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو عندك للذي ... أتيت به أهلاً فأنت له أهل
ومن الناس من لا يرى الاعتذار ويقول: إياك وما يعتذر منه.

وقالوا: ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنباً.
وقال الشاعر محمود الوراق:
إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن أطراح العذر خير من العذر
قال ابن شهاب الزهري: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سناً، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له؛ فقال: لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الأشعث؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن مثلك إذا عفا لم يعدد، وإذا صفح لم يثرب. فأعجبه ذلك، وقال: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة؛ قال: عند من طلبت؟ قلت: سعيد بن المسيب؛ وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب؛ قال: فأين أنت من عروة بن الزبير؟ فإنه بحر لا تكدره الدلاء. فلما انصرفت من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات.
ودخل ابن السماك على محمد بن سليمان بن علي فرآه معرضاً عنه، فقال: مالي أرى الأمير كالعاتب علي؟ قال: ذلك لشيء بلغني عنك كرهته؛ قال: إذاً لا أبالي؛ قال: ولم؟ قال: لأنه إذا كان ذنباً غفرته، وإن كان باطلاً لم تقبله.
ودخل جرير بن عبد الله على أبي جعفر المنصور، وكان واجداً عليه، فقال له: تكلم بحجتك؛ فقال؛ لو كان لي ذنب تكلمت بعذري، ولكن عفو أمير المؤمنين أحب إلي من براءتي.
وأتي موسى الهادي برجل، فجعل يقرعه بذنوبه؛ فقال: يا أمير المؤمنين إن اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري ذنباً لم أجنه، ولكني أقول:
فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون، فقال له المأمون: إن العدل من عدله أبو العباس، وقد كان وصفك بما وصفك به، ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي بلغك عني تحميل علي، ولو كان كذلك لقلت: نعم، كما بلغك، فأخذت بحظي من الله في الصدق، واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة عفوه؛ قال: صدقت.
محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال: كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات النصرة، فجار فيها وظلم، فكثر الشاكي له والداعي عليه، ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين رجلاً من جلة البصريين، فعزله المأمون، وجلس لهم مجلساً خاصاً، وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم. فكان مما حفظ من كلامه، أن قال: يا أمير المؤمنين، لو أن أحداً ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: " ومنهم من يلمزك فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " فأعجب المأمون جوابه، واستجزل مقاله، وخلى سبيله.
محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال: قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود: دخلت على الواثق، فقال لي: ما زال قوم في ثلبك ونقصك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين. " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ، والله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذل من كنت ناصره، ولا ضاع من كنت حافظه، فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت أبا عبد الله:
وسعى إلي بعيب عزة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها
قال أبو العيناء: قلت لأحمد بن أبي داود: إن قوماً تظافروا علي؛ قال: " يد الله فوق أيديهم " . قلت: إنهم عدد وأنا واحد؛ قال: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة " . قلت: إن للقوم مكراً؛ قال: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " .
قال أبو العيناء: فحدثت بها الحديث أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي داود إلا أن القرآن أنزل عليه.
قال: وهجا نهار بن توسعة قتيبة بن مسلم، وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلب، فقال:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح
فبدلت بعده قرداً نطوف به ... كأنما وجهه بالخل منضوح
فطلبه فهرب منه، ثم دخل عليه بكتاب أمه، فقال له: ويحك! بأي وجه تلقاني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك. فقر به ووصله وأحسن إليه.
وأقبل المنصور يوماً راكباً والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب، فقام الناس إليه ولم يقم، فاستشاط المنصور غيظاً وغضباً ودعا به، فقال: ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله تعالى لم فعلت، ويسألك عنه لم رضيت، وقد كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسكن غضبه وقر به وقضى حوائجه.

يحيى بن أكثم قال: إني عند المأمون يوماً، حتى أتي برجل ترعد فرائصه، فلما مثل بين يديه، قال له المأمون: كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي؛ قال له: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك علي؟ فنظر المأمون إلي وقال متمثلاً:
فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لكثرة مال أو علو مكان
لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
ثم التفت إلى الرجل، فقال له: هلا قلت كما قال أصرم بن حميد:
رشحت حمدي حتى إنني رجل ... كلي بكل ثناء فيك مشتغل
خولت شكري ما خولت من نعم ... فحر شكري لما خولتني خول

الاستعطاف والاعتراف
لما سخط المهدي على يعقوب بن داود، قال له: يا يعقوب؛ قال: لبيك يا أمير المؤمنين، تلبية مكروب لموجدتك؛ قال: ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعاً، وأبعد من ذكرك إذا كنت خاملاً، وألبسك من نعمتي ما لم أجد بها يدين من الشكر، فكيف رأيت الله أظهر عليك، ورد إليك مني؟ قال: إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب، وإن كان مما استخرجته دفائن الباغين فعائذ بفضلك؛ فقال: والله لولا الحنث في دمك بما تقدم لك، لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً، ثم أمر به إلى الحبس. فتولى وهو يقول: الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودة رحم، وأنت بها جدير.
أخذت الشعراء معنى قول المهدي: لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً، فقال معلي الطائي:
طوقته بالحسام طوق ردى ... ما يستطيع عليه شد أزرار
وقال حبيب:
طوقته بالحسام طوق داهية ... أغناه عن مس طوقه بيده
ومن قولنا:
طوقته بالحسام منصلتا ... آخر طوق يكون في عنقه
ولما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد، أذن له بالدخول عليه، فلما مثل بين يديه، قال: الحمد الله الذي سهل لي سبيل الكرامة بلقائك، ورد على النعمة بوجه الرضا منك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولين: فقد جعلك الله، وله الحمد، تثبت تحرجاً عند الغضب، وتمتن تطولاً بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلاً بالعفو.
ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي - وهو الذي يقال له ابن شكلة - أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه، قال: ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو للتقوى، وقد جعل الله كل ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقك. قال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك، فأشارا علي به؛ قال: أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك، وما جرت عليه عادة السياسة فقد فعلا، ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله، ثم استعبر باكياً؛ قال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته؛ ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي، فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغاني عفوه، ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب، وحرمة الأب بعد الأب، قال المأمون: لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن زلتك، لبلغك إليه حسن توصلك، ولطيف تنصلك.
وكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما.
وقال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلب وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره؛ قال: يا أمير المؤمنين، والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك، ولرحمي أمس من أرحامهم، وقد قال كما قال يوسف لإخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه المنة وممتثل لها؛ قال: هيهات، تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك؛ قال: يا أمير المؤمنين، فوالله للسلم أحق بإقالة العثرة؛ وغفران الزلة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك، يقول الله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " إلى " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " . فهي للناس يا أمير المؤمنين سنة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس، وريت بك زنادي، فلا برح نادماً من القادرين من أهلك وأمثالك.
العتبي عن أبيه قال:

قبض مروان بن محمد من معاوية بن عمرو بن عتبة ماله بالفرسان، وقال: إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك: إني أقطعتك بستاني، والبستان لا يكون إلا غامراً، وأنا مسلم إليك الغامر وقابض منك العامر؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهوداً على ما ادعيته، وشفعاء فيما طلبته، يسألونك بإحسانك إلي، مكافأة إحسان سلفي إليهم، فشفع فينا الأموات واحفظ منا القرابات، واجعل مجلسك هذا مجلساً يلزم من بعدنا شكره؛ قال: لا والله إلا أن أجعلها طعمة مني لك، لا قطيعة من عمك لأبيك؛ قال: قد قبلت ذلك، ففعل.
العتبي قال: أمر عبد الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجودة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية فدخل عليه عمر بن عتبة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أدنى حقك معتب، وبعضه فادح لنا، ولنا من حقك علينا حق عليك، بإكرام سلفنا لسلفك، فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليهم، وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك؛ قال: عبد الملك: إنما ما يستحق عطيتي من استعطاها، فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه، فسنكله إلى نفسه، ثم أمر له بعطيته.
فبلغ ذلك خالداً فقال: أبا لحرمان يهددني! يد الله فوق يده باسطة، وعطاء الله دونه مبذول، فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها.
العتبي قال: حدثنا طارق بن المبارك عن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة قال: جاءت دولة المسودة، وأنا حديث السن كثير العيال متفرق المال، فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شعرت فيها، فلما رأيت أمري لا يكتتم، أتيت سليمان بن علي، فاستأذنت عليه قرب المغرب، فأذن لي وهو لا يعرفني، فلما صرت إليه، قلت: أصلحك الله، لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قبلتني غانماً، وإما رددتني سالماً؛ قال: ومن أنت؟ فانتسبت له، فعرفني وقال: مرحباً، اقعد، فتكلم غانماً؛ قلت: أصلحك الله، إن الحرم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه؛ قال: فاعتمد سليمان على يديه، وسالت دموعه على خديه، ثم قال: يا بن أخي، يحقن الله دمك، ويستر حرمك، ويسلم مالك إن شاء الله، ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. فلم أزل في جوار سليمان آمناً.
وكتب سليمان إلى أبي العباس أمير المؤمنين: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم، ولم نحاربهم على أرحامهم، وقد دفت إلي منهم دافة. لم يشهروا سلاحاً، ولم يكثروا جمعاً، وقد أحسن الله إليك فأحسن، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أماناً ويأمر بإنفاذه إلي فليفعل.
فكتب لهم كتاباً منشوراً، وأنفذه إلى سليمان بن علي في كل من لجأ إليه من بني أمية، فكان يسميه أبو مسلم: كهف الأباق.
ودخل عبد الملك بن صالح يوماً على الرشيد، فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد، فقال متمثلاً:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبؤبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد وقع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، وجماجم بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً، فبي والله يسهل لكم الوعر. ويصفو لكم الكدر؛ وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمتها، فالتدارك التدارك قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. قال عبد الملك: أفذاً ما تكلمت أم توأماً يا أمير المؤمنين؟ قال: بل فذاً؛ قال اتق الله في ذي رحمك، وفي رعيتك التي استرعاك الله، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد محضت لك النصيحة، وأديت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك سبيلاً تتعاوره الأقدام، فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته، إن الكتاب لنميمة واش وبغي باغ، ينهش اللحم، ويلغ في الدم، فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق فرجته، وكنت كما قال الشاعر أخو بني كلاب:
ومقام ضيق فرجته ... بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزجل
فرضي عنه ورحب به، وقال: وريت بك زنادي.

والتفت الرشيد يوماً إلى عبد الملك بن صالح، فقال: أكفراً بالنعمة، وغدراً بالإمام؟ قال: لقد بؤت إذاً بأعباء الندم، وسعيت في استجلاب النقم، وما ذلك يا أمير المؤمنين إلا بغي باغ نافسني فيك بقديم الولاية، وحق القرابة؛ يا أمير المؤمنين، إنك خليفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على رعيته، لك عليها فرض الطاعة، وأداة النصيحة، ولها عليك التثبت في حادثها، والعدل في حكمها. فقال له هارون: تضع لي من لسانك، وترفع علي من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك، هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك؛ فقال عبد الملك: أحقاً يا قمامة؟ قال: نعم، لقد أردت قتل أمير المؤمنين والغدر به فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي من بهتني في وجهي! قال الرشيد: هذا ابنك عبد الرحمن شاهد عليك؛ قال: يا أمير المؤمنين، هو بين مأمور أو عاق، فإن كان مأموراً معذور، وإن كان عاقاً فما أخاف من عقوقه أكثر.
وقال له الرشيد يوماً، وكان معتلاً عليه: أتبقون بالرقة؟ قال: نعم، ونبرغث؛ قال له: يا بن الفاعلة، ما حملك على أن سألتك عن مسألة، فرددت علي في مسألتين، وأمر به إلى الحبس. فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين.
إبراهيم بن السندي قال: سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس، وذكر الرشيد وفعله به، فقال: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته، ولا نصبت له ولا أردته، ولو أردته لكان إلي أسرع من الماء إلى الحدور، ومن النار إلى يبس العرفج، وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لم أعرف؛ ولكن حين رآني للملك قميناً، وللخلافة خطيراً، ورأي لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفساً تكمل لخصالها، وتستحقها بفعالها - وإن كنت لم أجن تلك الخصال، ولم أصطنع تلك الفعال، ولم أترشح لها في السر، ولا أشرت إليها في الجهر - ورآها تجن حنين الوالدة الوالهة، وتميل ميل الهلوك، خاف أن ترغب إلى خير مرغب، وتنزع إلى أخصب منزع، وعاقبني عقاب من سهر في طلبها، وجهد في التماسها؛ فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق لي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه؛ وإن زعم أن لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا أن أخرج له من حد العلم والحلم والحزم، فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحاً، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً، وسواء علي أعاقبني على علمي وحلمي أم عاقبتني على نسبي وسني، وسواء علي عاقبتني على جمالي أو عاقبتني على محبة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير.
إبراهيم بن السندي قال: كنت أساير سعيد بن سلم حين قيل له: إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحاك وأمر بأخذ ماله، فارتاع بذلك وجزع؛ فقيل له: ما يروعك منه؟ فوالله ما جعل الله بينكما نسباً ولا سبباً؛ فقال: بلى، النعمة نسب بين أهلها؛ والطاعة سبب مؤكد بين الأولياء.
وبعث بعض الملوك إلى رجل وجد عليه، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إن الغضب شيطان، فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب، والتجاوز للمسيء، فلا تضق عما وسع الرعية من حلمك وعفوك. فعفا عنه، وأطلق سبيله.
ولما اتهم قتيبة بن مسلم أبا مجلز على بعض الأمر، قال: أصلح الله الأمير، تثبت فإن التثبت نصف العفو.
قال الحجاج لرجل دخل عليه: أنت صاحب الكلمة؟ قال: أبوء بالذنب وأستغفر الرب، وأسأل العافية؛ قال: قد عفونا عنك.
وأرسل بعض الملوك في رجل أراد عقوبته، فلما مثل بين يديه، قال: أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من برئي أحب إليه من سقمي، وبراءتي أحب إليه من جرمي.
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجل عن العقوبة، ونحن مقرون بالذنب، فإن تعف عني فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا.
وأمر معاوية بن أبي سفيان بعقوبة روح بن زنباع، فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تنقض مني مريرة أنت أبرمتها، أو تشمت بي عدواً أنت وقمته إلا أتى حلمك وصفحك عن خطئي وجهلي؛ فقال معاوية: خليا عنه، إذا أراد الله أمراً يسره.

وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه وأطرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحباً ناحلاً، فقال له: مذ متى اعتللت؟ فقال: ما مسني سقم، ولكني جفوت نفسي إذ جفاني الأمير، وآليت أن لا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين. فأعاده إلى حسن رأيه.
وقعد الحسن بن سهل لنعيم بن حازم، فأقبل إليه حافياً حاسراً، وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الأرض؛ فقال الحسن: على رسلك أيها الرجل، لا بأس عليك، قد تقدمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وليس للذنب بينهما موضع، ولئن وجد موضعاً فما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو.
أذنب رجل من بني هاشم ذنباً إلى المأمون، فعاتبه فيه، فقال يا أمير المؤمنين، من حمل مثل دالتي، ولبس ثوب حرمتي، ومت بمثل قرابتي، اغتفر له فوق زلتي؛ قال: صدقت يا بن عمي، وصفح عنه.
واعتذر رجل إلى المأمون من ذنب، فقال: إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها وكرمك موقوف عليها.
أخذه صريع الغواني فقال:
إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا
دخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أبي جعفر المنصور بعدما كتب أمانه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إمارتكم بكر، ودولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها، تخف على قلوبهم طاعتكم، وتسرع إلى أنفسهم محبتكم، وما زلت مستبطئاً لهذه الدعوة. فلما قام قال أبو جعفر: عجباً من كل من يأمر بقتل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدراً.
الهيثم بن عدي قال: لما انهزم عبد الله بن علي من الشام، قدم على المنصور وفد منهم، فتكلموا عنده، ثم قام الحارث فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة، ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا، واستفزت حليمنا، ونحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فقد أجرمنا، وإن تعف عنه فطالما أحسنت إلى من أساء منا؛ فقال المنصور للحرسي: هذا خطيبهم، وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة.
قال أحمد بن أبي داود: ما رأينا رجلاً نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل، فإنه كان تغلب على شاطئ الفرات، وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه، دعا بالنطع والسيف، فأحضرا؛ بجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، وكان جسيماً وسيماً، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره؛ فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها؛ فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك، وأشبههما بخلافتك، ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلى بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم من قائل: لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يسر ويشمت
قال: فتبسم المعتصم، وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد غفرت لك الصبوة، وتركتك للصبية.

وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه: إنه لو كان في صالح خدمتك، وما تعرفناه من طاعتك، وفاء يجب به الصفح عن ولدك، ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره، ولكنه نكص على عقبيه، وكفر بربه؛ قال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك، ونحن خدم نعمتك؛ تثيبنا على الإحسان فنشكر، وتعاقبنا على الإساءة فنصبر.
أبو الحسن المدائني قال: لما حج المنصور مر بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: علي بن جعفر بن محمد؛ قتلني الله إن لم أقتله، فمطل به، ثم ألح عليه فحضر، فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه؛ ثم تقرب وسلم؛ فقال: لا سلم الله عليك يا عدو الله، تعمل علي الغوائل في ملكي، قتلني الله إن لم أقتلك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان صلى الله على محمد وعليه، أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت على إرث منهم، وأحق من تأسى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه ملياً، وجعفر واقف، ثم رفع رأسه فقال: إلي أبا عبد الله، فأنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة، السليم الناحية، القليل الغائلة، ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه، وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله، ثم قال: يا ربيع، عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه؛ فقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا؛ فقلت: لا عليك، هذه مني لا منه؛ فقال: هذه أيسر، سل حاجتك؛ فقلت له: إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك، ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك، وأنا خادم سلطان، ولا غنى لي عنه، فأحب منك أن تعلمينه؛ قال: نعم، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بحفظك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلن؛ اللهم بك أدرأ في نحره، وأستعيذ بخيرك من شره، فإنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
المدائني قال: كان يزيد بن راشد خطيباً، وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد، فنذر سليمان قطع لسانه. فلما أفضت الخلافة إليه دخل عليه يزيد بن راشد، فجلس على طرف البساط مفكراً، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كن كنبي الله صلى الله عليه وسلم، ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وقدر فغفر؛ قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن راشد. فعفا عنه.
حبس الرشيد رجلاً، فلما طال حبسه كتب إليه: إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب، والحكم لله. فأطلقه.
ومر أسد بن عبد الله القسري، وهو والي خراسان بدار من دور الاستخراج ودهقان يعذب في حبسه، وحول أسد مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم؛ فقال الدهقان: يا أسد، إن كنت تعطى من يرحم فارحم من يظلم، فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم؛ يا أسد، احذر من ليس له ناصر إلا الله، واتق من لا جنة له إلا الابتهال إليه، إن الظلم مصرعه وخيم، ولا تغتر بإبطاء الغيثات من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب، وقد أملى لقوم ليزدادوا إثماً. فأمر أسد بالكف عنه.
عتب المأمون على رجل من خاصته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة، وحديث التوبة، يمحوان ما بينهما من الإساءة؛ فقال: صدقت، ورضي عنه.
وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النقمة، وكان له صاحب مطبخ، فلما قرب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه، فزوى لها الملك وجهه، وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله، فكفأ الصحفة على يديه؛ فقال الملك: علي به، فلما أتاه، قال له: قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك، فما عذرك في الثانية؟ قال: استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة، فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي؛ فقال له الملك: لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل، ما هو بمنجيك من العقوبة، اجلدوه مائة جلدة وخلوه.
الشيباني قال:

دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال: يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك بين يديك، ربيب دولتك، وسليل نعمتك، وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم؛ قال: نستمتع الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائد بفضلك، الهارب إلى كنفك وظلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك؛ ثم تكلم في حاجته فقضاها.
وقال عبيد بن أيوب، وكان يطالبه الحجاج لجناية جناها، فهرب منه وكتب إليه:
أذقني طعم النوم أو سل حقيقة ... علي فإن قامت ففصل بنانيا
خلعت فاستطار فأصبحت ... ترامى به البيد القفار تراميا
ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
أكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقال فيه أيضاً:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني جناية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
قال ابن الطثرية:
فهبني امرأ إما بريئاً علمته ... وإما مسيئاً تاب منه وأعتبا
وكنت كذي داء يبغي لدائه ... طبيباً فلما لم يجده تطببا
وقال الممزق لعمرو بن هند:
تروح وتغدو ما يحل وضينها ... إليك ابن ماء المزن وابن محرق
أحقاً أبيت اللعن أن ابن مزننا ... على غير إجرام بريقي مشرقي
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فادركني ولما أمزق
فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يحقق
وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار.
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات لما أحس بالموت وهو في حبس المتوكل برقعة إلى المتوكل، فيها:
هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم
لا تعجلن رويداً إنما دول ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم
إن المنايا وإن أصبحت ذا فرح ... تحوم حولك حوماً أيما حوم
فلما وصلت إلى المتوكل وقرأها، أمر بإطلاقه، فوجدوه ميتاً.
وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور وقد أراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين، إن الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه أوكس النصيبين، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين.
جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين قائد من قواده يقال له شهرام كلام، فقال له قائده كلمة فيها بعض الغلظ، ثم ندم على ما كان منه، فجعل يتضرع ويتنصل إليه؛ فقال له أبو مسلم: لا عليك، لسان سبق، ووهم أخطأ، وإنما الغضب شيطان، وأنا جرأتك علي بطول احتمالي منك، فإن كنت للذنب متعمداً، فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوباً، فإن العذر يسعك، وقد عفونا على كل حال. فقال: أصلح الله الأمير، إن عفو مثلك لا يكون غروراً؛ قال: أجل؛ قال: فإن عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن، وألح في الاعتذار؛ فقال له أبو مسلم: عجباً لك، إنك أسأت فأحسنت، فلما أحسنت أأسيء! دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب عليه ثم أقاله، فقال له وقد خلا مجلسه: قل أبا دلف، وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت؛ فقال يا أمير المؤمنين:
ليالي تدنو منك بالبشر مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر

فمن لي بالعين التي كنت مرة ... إلي بها في سالف الدهر تنظر
قال المأمون: لك بها رجوعك إلى المناصحة، وإقبالك على الطاعة، ثم عاد له إلى ما كان عليه.
وقال له المأمون يوماً: أنت الذي تقول:
إني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتوا العرافا
ما أراك قدمت لحق طاعة، ولا قضيت واجب حرمة؛ قال له: يا أمير المؤمنين، إنما هي نعمتك، ونحن فيها خدمك، وما هراقة دمي في طاعتك، إلا بعض ما يجب لك.
ودخل أبو دلف على المأمون، فقال: أنت الذي يقول فيك ابن جبلة:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وكذب شاعر، وملق مستجد، وليكن الذي يقول فيه ابن أخيه:
ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى ... فما الكرج بالدنيا ولا الناس قاسم
الكرج: منزل أبي دلف، وكان اسمه القاسم بن عيسى.
وقال المنصور وجعل لمعن بن زائدة: ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقاً؟ قال: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعراً لبيت قاله ألف دينار، وأنشده البيت وهو:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... فخراً إلى فخر بنو شيبان
قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد أعطيته ألف دينار، ليس على هذا البيت، ولكن على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلماً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان
قال: فاستحيا المنصور وجعل ينكت بالمخصرة، ثم رفع رأسه وقال: اجلس أبا الوليد.
أتي عبد الملك بن مروان بأعرابي سرق، فأمر بقطع يده فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها
ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فأبى إلا قطعه؛ فقالت أمه: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي؛ قال: بئس الكاسب كان لك، وهذا حد من حدود الله؛ قالت: يا أمير المؤمنين، اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها، فعفا عنه.

تذكير الملوك بذمام متقدم
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة: إنه كان لي أملان: أمل لك وأمل بك، فأما أملي لك فقد بلغته، وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه؛ قال: يكون أفضل ما رجوت وأملت، فجعله من سماره وخاصته.
الأصمعي قال: لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك، خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي؛ فقال له: يا أبرش، ما منعك أن تسجد كما سجدوا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لأنك ذهبت عنا وتركتنا؛ قال: فإن ذهبت بك معي؟ قال: أو تفعل يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم؛ قال: فالآن طاب السجود، ثم سجد.
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه:
إنا بطانتك الألى ... كنا نكابد ما نكابد
ونرى فنعرف بالعدا ... وة والبعاد لمن نباعد
ونبيت من شفق علي ... ك ربيئة والليل هاجد
هذا أوان وفاء ما ... سبقت به منك المواعد
فوقع أبو جعفر على كل بيت منها: صدقت صدقت، ثم دعاء به وألحقه بخاصته.
وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى:
وإن أولى الموالي أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن
حسن التخلص من السلطان

أبو الحسن المدائني قال: كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير، فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان، ولى عثمان بن حيان المري، وأمره بالغلظة على أهل الظنة، فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها، فقال له قائل: هذا العباس بن سهل على ما فيه، كان مع ابن الزبير وعمل له؛ فقال عثمان بن حيان: ويلي عليه، والله لأقتلنه؛ قال العباس: فبلغني ذلك، فتغيبت حتى أضر بي التغيب، فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم: ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان؟ فقالوا: والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك، وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط، فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته. قال: ففعلت، وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم: والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها، وهو يطوف في حاشيته، يتفقد مصالحها، يسحب أردية الخز، حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه، ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة، ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء، وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه، فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه، وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام، وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده؛ قال: هيه، أنت رأيت ذلك؟ قلت: أجل والله؛ قال لي: ومن أنت؟ قلت: وأنا آمن؟ قال: نعم؛ قلت: العباس بن سهل بن سعد الأنصاري، قال: مرحباً وأهلاً، أهل الشرف والحق. قال: فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية، فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه.
أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة قال: أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع، فقدم في الأسرى إلى المختار، فقال سراقة:
امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من لبى وصلى وسجد
فعفا عنه المختار وخلى سبيله. ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً، فقال له: ألم أعف عنك وأمنن عليك؟ أما والله لأقتلنك؛ قال: لا والله لا تفعل إن شاء الله؛ قال: ولم؟ قال: لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك، ثم أنشده:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... حملنا حملة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً ... وكان خروجنا بطراً وحينا
تراهم في مصفهم قليلاً ... وهم مثل الدبى لما التقينا
فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا
قال: فخلى سبيله. ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة، فأخذ أسيراً وأتي به المختار؛ فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله، هذه ثالثة؛ فقال سراقة: أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني، فأين هم لا أراهم؟ إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض، وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض؛ فقال المختار: خلوا سبيله ليخبر الناس. ثم دعا لقتاله فقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي قتالكم حتى الممات
كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فلما سقوا، قال: يا معن، أتقتل ضيفانك؟ فأمر معن بإطلاقهم.
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام، فأبى عليه، فأمر بقتله، فلما عرض عليه السيف، قال: لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ؛ فأمر له بها، فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم. فألقى الإناء من يده، وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج، قال: لك التوقف حتى أنظر في أمرك، ارفعا عنه السيف؛ فلما رفع عنه؛ قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فقال له عمر: ويحك! أسلمت خير إسلام، فما أخبرك؟ قال: خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت؛ فقال عمر: إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك. ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.

لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم؛ فقال رجل: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة؛ قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك، فعرضت دونهما، فقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه ودعوا نسبه؛ قال: ومن يعلم ما ذكرت؟ فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي، فقلت: هذا يعمله؛ قال له الحجاج: ما تقول فيما يقول؟ قال: صدق، أصلح الله الأمير، وبر. قال: خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته.
عمرو بن بحر الجاحظ قال: أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله؛ فقال: أصلح الله الأمير، لي عندك يد بيضاء؛ قال: وما هي؟ قال: إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل، فلم يتحفز لك أحد، فقمت من مكاني حتى جلست فيه، ولولا محض كرمك، وشرف قدرك، ونباهة أوليتك، ما ذكرتك هذه عند مثل هذا؛ قال ابن حاتم: صدق، وأمر بإطلاقه، وولاه تلك الناحية وضمنه إياها.
ولما ظفر المأمون بأبي دلف، وكان يقطع في الجبال، أمر بضرب عنقه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أركع ركعتين؛ قال: افعل. فركع وحبر أبياتاً، ثم وقف بين يديه فقال:
بع بي الناس فإني ... خلف ممن تبيع
واتخذني لك درعاً ... قلصت عنه الدروع
وارم بي كل عدو ... فأنا السهم السريع
فأطلقه، وولاه تلك الناحية، فأصلحها.
أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك؛ قال: لا تقل يا معاوية، فإنها مصيبة؛ قال: وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام؛ فقال الأسير: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله؛ قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت، ودعوت فأحسنت، خلياً عنه.
وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه؛ فقال: أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك، وأقول: أي رب، سل هذا فيم قتلني؛ قال: أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض، أعطوه مائة ألف؛ قال الأسير: بأبي أنت وأمي. أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً؛ قال: ولم؟ قال: لقوله:
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء.
يتقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء
أمر عبد الملك بقتل رجل؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله؛ فعفا عنه.
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم، فقدم فيهم شاب، فقال: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو؛ فقال: أف لهذه الجيف، ما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل.
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله تعالى يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " . فهذا قول الله في كتابه. وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق! وأمسك عمن بقي.
الهيثم بن عدي قال: أتي الحجاج بحرورية، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟ قالوا: اقتلها، أصلح الله الأمير، ونكل بها غيرها. فتبسمت الحرورية؛ فقال لها: لم تبسمت؟ فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج، استشارهم في قتل موسى، فقالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي؛ فضحك الحجاج، وأمر بإطلاقها.
وقال معاوية ليونس الثقفي: اتق الله، لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها؛ قال: أليس بي وبك المرجع إلى الله؟ قال: نعم؛ قال: فاستغفر الله.

ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك على عقبيك؟ قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه؟ فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ.
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شئت.
وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد: ما تقول في وفي الحسين؟ قال: أعفني عافاك الله؛ قال: لا بد أن تقول؛ قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك؛ قال: قد علمت غشك وخبثك، لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض.
الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله، لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك؛ فقال له ابن يعمر: وإن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم؛ قال: اقرأ: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " إلى قوله " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى " إلى قوله " وعيسى " . فمن أقرب: عيسى من إبراهيم، وما هو ابن بنته، أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضياً حتى مات.
أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم، يعني عبد الرحمن؛ فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين، إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله، قال الله تعالى: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " . فكان عثمان منهم. ثم قال: " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " . فكان أبي منهم. ثم قال: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . فكنت أنا منهم. فقال: صدقت.
أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال: بعث إلي الحجاج فقال لي: ما اسمك؟ قال: ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي؛ قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت: حين هبط أهله؛ قال: ما تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرأ منه ما لو تبعته كفاني؛ قال: إني أريد أن أستعين بك في عملي؛ قلت: إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تدعني فهو أحب إلي، وإن تقحمني أتقحم؛ قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك، وإن وجدت غيرك لم أقحمك؛ قلت: وأخرى، أكرم الله الأمير، إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك، والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح، هذا ولست لك على عمل؛ قال: هيه، كيف قلت؟ فأعدت عليه؛ فقال: إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني، قال: فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر؛ فقال: أرشدوا الشيخ.

لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي، ومطرف بن عبد الله الشخمير، وسعيد بن جبير، وكان الشعبي ومطرف يريان التقية، وكان سعيد بن جبير لا يراها، وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه؛ فقال الحجاج للشعبي: وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر؛ فقال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء؛ قال: لله أبوك، لقد صدقت، ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلوا سبيل الشيخ. ثم قال لمطرف: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر، فخلى سبيله. ثم قال لسعيد بن جبير: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت منذ آمنت بالله، فضرب عنقه، ثم استعرض الأسرى، فمن أقر بالكفر خلى سبيله، ومن أبى قتله، حتى أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أكافر أنت؟ قال: نعم. قال: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر؛ فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج، والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته؛ فضحك الحجاج وخلى سبيله.
فلما مات الحجاج، وقام سليمان، قال الفرزدق:
لئن نفر الحجاج آل معتب ... لقوا دولة كان العدو يدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النار كلحا سبالها
وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انفتالها
ألكني إلى من كان بالصين أورمت ... به الهند ألواح عليها جلالها
هلم إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أهل العراق خبالها
لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن: اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء، ووكل به من ينخس به؛ ففعل ذلك؛ فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح، فتركه حتى ارتد إليه روحه، ثم قال له: أنت أهل لما نزل بك، ألست القائل في الوليد:
معاذ ربي أن نبقى ونفقده ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا
وقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هكذا قلت، وإنما قلت:
معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا
فنظر إليه سليمان واستضحك، ثم أمر له بصلة وخلى سبيله.
العتبي قال: كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع يحمل عليه المهدي، فلا يلتفت إليه، حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع، وقص عليه رؤياه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض؛ قال المهدي: علي به فلما دخل عليه، قال له: يا شريك، بلغني أنك فاطمي، قال له شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي، إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى؛ قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم: قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ الله؛ فماذا تقول فيما يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله؛ قال: فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله؛ قال الربيع: لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها؛ قال له شريك: يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين، وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال؟ قال المهدي: دعني من هذا، فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي، وما ذلك إلا بخلافك علي، ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً؛ قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام، وإن علامة الزندقة بينة؛ قال: وما هي؟ قال: شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي؛ قال: صدقت والله أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك.
ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع: خنت مال الله ومال أمير المؤمنين؛ قال: لو كان ذلك لأتاك سهمك.

العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان، وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط: بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم. فقال له جامع: أما إنه لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف؛ قال: أيها الأمير، إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار؛ قال الحجاج: الخيار يومئذ لله؛ قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله؛ فغضب وقال: يا هناه، إنك من محارب؛ فقال جامع:
وللحرب سمينا وكنا محارباً ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
فقال الحجاج: والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك؛ قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله؛ قال: أجل، وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع، فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق، فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأزد العراق، فلما رأوه أشرأبوا إليه، وقالوا له: ما عندك؟ دفع الله عنك؛ قال: ويحكم؛ عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم، فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم، أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم. وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، واستجار بزفر بن الحارث فأجاره.
العتبي قال: كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني؛ قد رمي عنده بالتشيع، فأمر بطلبه، فهرب منه، ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة، فهرب منه، ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد، فلما أتي بهما، قيل له: يا أمير المؤمنين، قد أتي بالرجلين؛ قال: أي الرجلين؟ قيل: أنس بن أبي شيخ، ومسلم ابن الوليد؛ فقال: الحمد لله الذي أظفرني بهما، يا غلام، أحضرهما. فلما دخلا عليه، نظر إلى مسلم، وقد تغير لونه، فرق له وقال: إيه يا مسلم، أنت القائل:
أنس الهوى ببني علي في الحشا ... وأراه يطمح عن بني العباس
قال: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
أنس الهوى ببني العمومة في الحشا ... مستوحشاً من سائر الإيناس
وإذا تكاملت الفضائل كنتم ... أولى بذلك يا بني العباس
قال: فعجب هارون من سرعة بديهته، وقال له بعض جلسائه: استبقه يا أمير المؤمنين، فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجباً؛ فقال له: قل شيئاً في أنس؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أفرخ روعي، أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك، فإني لم أدخل على خليفة قط، ثم أنشأ يقول:
تلمظ السيف من شوق إلى أنس ... فالموت يلحظ والأقدار تنتظر
فليس يبلغ منه ما يؤمله ... حتى يؤامر فيه رأيك القدر
أمضى من الموت عند قدرته ... وليس للموت عفو حين يقتدر
قال: فأجلسه هارون وراء ظهره، لئلا يرى ما هم به، حتى إذا فرغ من قتل أنس، قال له: أنشدني أشعر شعر لك، فكلما فرغ من قصيدة، قال له: التي تقول فيها الوحل، فإني رويتها وأنا صغير، فأنشده شعره الذي أوله:
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال: ويحك يا مسلم! أما رضيت أن قيدته، حتى جعلته يمشي في الوحل، ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله.
قال كسرى ليوشت المغني: وقد قتل الفهليذ تلميذه، كنت أستريح منك إليه ومنه إليك، فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي، وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة. فقال: أيها الملك، إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك، وأذهبت أنت الشطر الآخر: أليس جنايتك على نفسك، مثل جنايتي عليك؟ قال كسرى: دعوه، فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة.

يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال: دخلت يوماً على الرشيد، أمير المؤمنين، وهو متغيظ متربد، فندمت على دخولي عليه، وقد كنت أفهم غضبه في وجهه، فسلمت، فلم يرد؛ فقلت: داهية نآد، ثم أومأ إلي فجلست. فالتفت إلي وقال: لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فلقد نطق بالحكمة حيث يقول:
يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً ... عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي
أقصر فإنك من قوم أرومتهم ... في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي
يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت ... بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه
قد يرزق المر لا من فضل حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
لقد عجبت لقوم لا أصول لهم ... أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي
ما نالني من غنى يوماً ولا عدم ... إلا وقولي عليه الحمد لله
فقلت: يا أمير المؤمنين، ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه؟ قال: لعله من بني أبيك وأمك.
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية، فطلبه هشام، فهرب منه عشرين سنة، لا يستقر به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالديار وقوف زائر ... وتأن إنك غير صاغر
حتى انتهى إلى قوله:
يا مسلم بن أبي الولي ... د لميت إن شئت ناشر
غلقت حبالي من حبا ... لك ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمي ... ة والأمور إلى المصاير
والآن كنت به المصي ... ب كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله، من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت بن زيد. فأعجب لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن خبره، وما كان فيه طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه. فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته، - الحمد لله - قال هشام: نعم، الحمد لله يا هذا - قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، والذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من علم يقيناً، وأبصر مستبيناً، وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده العربي، ورسوله الأمي، أرسله والناس في هبوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم. ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة، إدلأم بي خطرها؛ وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت إلى الضلالة، وتسكعت في الظلمة والجهالة، حائداً عن الحق، قائلاً بغير صدق، فهذا مقام العائذ، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمي. ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه. فقال له هشام، وأيقن أنه الكميت: ويحك! من سن لك الغواية، وأهاب بك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً؛ وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم، وهدر رعده، وتلألأ برقه، فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت، وأسقيت، فروي ظمآنها، وامتلأ عطشانها، فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين، أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب، إذا حمرت الحدث، وعضت المغافر بالهام، عز بأسك، واستربط جأشك، مسعار هتاف، وكاف بصير بالأعداء، مغزي الخيل بالنكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب، فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء. فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة.

العتبي قال: لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق، أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة، فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض؛ فقال: أيها الأمير، إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك، فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك. فأمر به إلى الحبس؛ فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها، حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه. فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة، فقال له: إباق العبد أبقت؛ قال له: حين نمت نومة الأمة.
فقال الفرزدق في ذلك:
لما رأيت الأرض قد سد ظهرها ... فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا
خرجت ولم تمنن عليك شفاعة ... سوى حثك التقريب من آل أعوجا
ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه، فقال متمثلاً:
من يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ثم قال لهم: ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي؟ ومثل هذا قول القطامي:
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
عبد الله بن سوار قال: قال لي ربيع الحاجب: أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة؟ قلت: نعم؛ قال: فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه، فجاءه، فقال: حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة؛ قال: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين، فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق: أنا بالله وبالأمير؛ فقال مسلمة: صوت ابن هبيرة، اخرج إليه. فخرجت إليه ورجعت فأخبرته؛ فقال: أدخله، فدخل؛ فإذا رجل يميد نعاساً، فقال: أنا بالله وبالأمير؛ قال: أنا بالله وأنت بالله؛ ثم قال: أنا بالله وبالأمير؛ قال: أنا بالله وأنت بالله، حتى قالها ثلاثاً؛ ثم قال: أنا بالله، فسكت عنه، ثم قال لي: انطلق به فوضئه ولصصل، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام. فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام، فقال: شربة سويق، فشرب، وفرشت له فنام؛ وجئت إلى مسلمة فأعلمته، فغدا إلى هشام، فجلس عنده حتى إذا حان قيامه، قال: يا أمير المؤمنين، لي حاجة؛ قال: قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة؛ قال: رضيت يا أمير المؤمنين، ثم قام منصرفاً، حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع، فقال: يا أمير المؤمنين، عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء؛ قال: لا أستثني عليك؛ قال: فهو ابن هبيرة. فعفا عنه.
بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ، فأحضره. فلما وقف بين يديه جعل يتكلم؛ فقال له هشام: وتتكلم أيضاً؟ فقال الرجل: يقول الله عز وجل: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً؟ فقال هشام بن عبد الملك: ويحك! تكلم بحاجتك.

فضيلة العفو والترغيب فيه
كان للمأمون خادم، وهو صاحب وضوئه، فبينما هو يصب الماء على يديه، إذ سقط الإناء من يده، فاغتاظ المأمون عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: " والكاظمين الغيظ " . قال: قد كظمت غيظي عنك. قال: " والعافين عن الناس " . قال: قد عفوت عنك. قال: " والله يحب المحسنين " . قال: اذهب فأنت حر.
أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين، إن الله قد فعل ما تحب من الظفر، فافعل ما يحبه من العفو.
الأصمعي قال: عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز، فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: إذا أسرعت بالقتل في أكفائك، فمن تباهي بسلطانك، فاعف يعف الله عنك.

دخل ابن خريم على المهدي، وقد عتب على بعض أهل الشام، وأراد أن يغزيهم جيشاً، فقال: يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو عن الذنب، والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبة، خير لك من أن تطيعك طاعة خوف.
أمر المهدي بضرب عنق رجل، فقام إليه ابن السماك، فقال: إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق؛ قال: فما يجب عليه؟ قال: تعفو عنه، فإن كان من أجر كان لك دوني، وإن كان وزر كان علي دونك. فخلى سبيله.
كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم، فقال: إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم.
العتبي قال: وقعت دماء بين حيين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه، فقال: ما معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم، العفو، فتهادن القوم واصطلحوا.
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب: ما ظلم أحد ظلمك، ولا نصر نصرك، فهل لك في الثالثة نقلها؟ قال: وما هي؟ قال ولا عفا عفوك.
وقال المبارك بن فضالة: كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط، إذ أمر برجل أن يقتل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله: ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم، فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب. فأمر بإطلاقه.
وقال الأحنف بن قيس: أحق الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب " وتقول العرب في أمثالها: ملكت فأسجح، وارحم ترحم، وكما تدين تدان، ومن بر يوماً بر به.

بعد الهمة وشرف النفس
دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد، وعليه كساء غليظ، وخفان جاسيان، فسلم وجلس، فلم يعرفه الوليد، فقال لخادم بين يديه: سل هذا الشيخ من هو. فسأله، فقال له: اعزب؛ فعاد إلى الوليد فأخبره؛ فقال: عد إليه واسأله؛ فعاد إليه، فقال له مثل ذلك. فضحك الوليد، وقال له: من أنت؟ قال: نافع بن جبير بن مطعم.
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله؛ ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ قال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي؛ قال وبما أوصى إليك؟ قال: أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك، قال: وإني لفي كنانتك! أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها، ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها. قال: كثر الله مثلك في العشيرة؛ قال: لقد سألت الله شططا.
وقال يزيد بن المهلب: ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق، هجاني ملكاً ومدحني سوقة.
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً، فقال له: والله ما أحسنت فأحمدك، ولا أسأت فألومك، وإنك لأقرب البعداء، وأحب البغضاء.
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل: والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً، أن لا أكون قد ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد.
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري. وكان أعرابياً يسكن البادية، وكان تصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له: جنبني هجناء ولدك.
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة: قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة. فبلغ ذلك عقيل بن علفة، فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام: بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة، فقلت: قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة، وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين، ثم انصرف. فقال عمر بن عبد العزيز: من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف؟ فقال له رجل من بني مرة: والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه، نحن والله ألأم الطرفين.

أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال: سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري، قال: كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث، فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها، فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت إني رجل فروق ... بضحكة آخرها شهيق
وقال عقيل:
إني وإن سيق إلي المهر ... ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال الأصمعي: كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً، وكان يصهر إليه الخلفاء، وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه. قال: فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعد وطالماً ... على عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه: يا عملس أجز، فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: يا جرباء، أجيزي، فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخدية ... عقاراً تمشى في المطا والقوائم
قال: وما يدريك أنت ما نعت الخمر! فأخذ السيف وهوى نحوها، فاستعانت بأخيها عملس، فحال بينه وبينها.
قال: فأراد أن يضربه. قال: فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب، قالوا لهم: إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء، فإذا عقيل بارك وهو يقول:
إن بني زملوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم
والشنشنة: الطبيعة، وأخزم: فحل معروف، وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة، لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم. فكتبوا إليه:
العبد تبع كم يروم قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلل
إنا أناس لا ينام بأرضنا ... عض الرسول ببظر أم المرسل
فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً، فتذمم من قتالهم ورحل عنهم.
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهم له كأنه لا يعرفه: فقال له الفرزدق: وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا؛ قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، أسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب: قال: والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك؛ ولأهدمن دارك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب، فحاجب بن زرارة، الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها: وأما أسود العرب، فقيس بن عاصم، الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر؛ وأما أحلم العرب، فعتاب بن ورقاء الرياحي؛ وأما أفرس العرب، فالحريش بن هلال السعدي؛ أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين، فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك، فما لك عندنا شيء من خير. فرجع الفرزدق وقال:
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا ... إليك ولا من قلة في مجاشع
وقال الفرزدق في الفخر:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال الأحوص في الفخر، وهو أفخر بيت قالته العرب:
ما من مصيبة نكبة أرمى بها ... ألا تشرفني وترفع شاني
وإذا سألت عن الكرام وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان

وقال أبو عبيدة: اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج إليهم بردي محرق، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب؟ قال: العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني؛ فسكت الناس. ثم قال النعمان: هذه حالك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال: أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض، ثم قال: من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين.
ففيه يقول الفرزدق:
فما ثم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردي محرق ... بمجد معد والعديد المحصل
وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية. ومنهم بنو صفوان الذين يقول فيهم أوس بن مغراء السعدي:
ولا يريمون في التعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ... ولا تغيب إلا عند أخرانا
وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول: من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر، فسميت ذات الخمار.
وممن شرفت نفسه، وبعدت همته: طاهر بن الحسين الخراساني، وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة، وخاف المأمون أن يغدر به، امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه.
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً، لأنه كان مولى خزاعة، ويقال إنه خزاعي:
أيسومني المأمون خطة عاجز ... أوما رأى بالأمس رأس محمد
توفي على روس الخلائق مثل ما ... توفي الجبال على رؤوس القردد
إني من القوم الذين هم هم ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
وقال طاهر بن الحسين:
غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت ... وأعتبتها مني بإحدى المتالف
قتلت أمير المؤمنين وإنما ... بقيت عناء بعده للخلائف
وأصبحت في دار مقيما كما ترى ... كأني فيها من ملوك الطوائف
وقد بقيت في أم رأس فتكة ... فإما لرشد أو لرأي مخالف
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة:
عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا ... فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف
فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر ... إذا أنت منا لم تعلق بكانف
فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا ... كثول تهادى الموت عند التزاحف
ستعلم ما تجني عليك وما جنت ... يداك فلا تفخر بقتل الخلائف
وقد بقيت في أم رأسك فتكة ... سنخرجها منه بأسمر راعف
وقال عبد الله بن طاهر:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعب ... وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى ... بهواه فهو مدخول
أقصري عما لهجت به ... ففراغي عنك مشغول
سائلي، عمن تسائلني ... قد يرد الخير مسئول
أنا من تعرف نسبته ... سلفي الغر بالبهاليل
سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفيات مصاقيل
كل عضب مشرب علقا ... وغرار الحد مفلول
مصعب جدي نقيب بني ... هاشم والأمر مجبول
وحسين رأس دعوتهم ... بعده الحق مقبول
وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده قولوا
صاحب الرأي الذي حصلت ... رأيه القوم المحاصيل
حل منهم بالذرى شرفاً ... دونه عز وتبجيل

نفصح الأنباء عنه إذا ... أسكت الأنباء مجهول
سل به الجبار يوم غدا ... حوله الجرد الأبابيل
إذ علت من فوقه يده ... نوطها أبيض مصقول
أبطن المخلوع كلكله ... وحوالبه المقاويل
فثوى والترب مصرعه ... غال منه ملكه غول
وهبوا لله أنفسهم ... لا معازيل ولا ميل
ملك تجتاح صولته ... ونداه الدهر مبذول
نزعت منه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول
وتره يسعى إليه به ... ودم يجنيه مطلول
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة، وكان من أصحابه وآثرهم عنده، ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله:
من يسامي مجده قولوا
فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة:
لا يرعك القال والقيل ... كل ما بلغت تضليل
ما هوى لي كنت أعرفه ... بهوى غيرك موصول
أيخون العهد ذو ثقة ... لا يخون العهد متبول
حملتني كل لائمة ... كل ما حملت محمول
واحكمي ما شئت واحتكمي ... فحرامي لك تحليل
أين لي عنك إلى بدل ... لا بديل منك مقبول
ما لداري منك مقفرة ... وضميري منك مأهول
وبدت يوم الوداع لنا ... غادة كالشمس عطبول
تتعاطى شد مئزرها ... ونطاق الخصر محلول
شملنا إذ ذاك مجتمع ... وجناح البين مشكول
ثم ولت كي تودعنا ... كحلها بالدمع مغسول
أيها البادي بطيته ... ما لأغلاطك تحصيل
قد تأولت على جهة ... ولنا ويحك تأويل
إن دليلاك يوم غدا ... بك في الحين لضليل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول
قد يخون الرمح عامله ... وسنان الرمح مصقول
وينال الوتر طالبه ... بعد ما تسلو المثاكيل
بأخي المخلوع طلت يداً ... لم يكن في باعها طول
وبنعماه التي كفرت ... جالت الخيل الأبابيل
ويراع غير ذي شفق ... فعلت تلك الأفاعيل
يا بن بيت النار موقدها ... ما لحاذيه سراويل
من حسين وأبوه ومن ... مصعب غالتهم غول
إن خير القول أصدقه ... حين تصطك الأقاويل

مراسلات الملوك
العتبي عن أبيه قال: أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعز قريشي. فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقال له: أيها الرجل، لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك؛ فقال لها: يا هذه، دعي زوجك وما يختاره لنفسه، والله ما نحرها غيري إلا نحرته. فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها.
زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء، فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس. فقال ابن عباس: أما مالا قبلة قبله له فالكعبة؛ وأما من لا أب له فعيسى، وأما من لا عشيرة له فآدم، وأما من سار به قبره فيونس؛ وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم: فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وحية موسى؛ وأما شيء، فالرجل له عقل يعمل بعقله؛ وأما نصف شيء، فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول؛ وأما لا شيء، فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره؛ وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بزر كل شيء: فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر. فلما وصل إليه الكتاب والقارورة، قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة.
نعيم بن حماد قال:

بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته ابنه ألف ملك، والذي مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور، والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً، إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً، أما بعد، فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية، ولكنها تحية، وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام، والسلام، يعني الهدية الكتاب.
الرياشي قال: لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ فما عذرك؟ فكتب إليه: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلاً آتينا حكماً وعلماً " .
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف. فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول، ففعل، فقال عبد الله بن الحسن: إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً، يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة. فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة.
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية، وكلاب سيورية، وثياب من ثياب الهند؛ فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين، ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن للرسل فدخلوا عليه، فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا، فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله، فصلب الرسل على وجوههم، وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم؛ ثم قال لهم الحاجب: ما عندكم غير هذا؟ قالوا له: هذه سيوف قلعية لا نظير لها. فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب، فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً، كما يقط الفجل، من غير أن تنثني له شفرة، ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه، فصلب القوم على وجوههم؛ ثم قيل لهم: ما عندكم غير هذا؟ قالوا: هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته؛ فقال لهم هارون: فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم؛ ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم: فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: فنرسلها عليه، وكانت الأكلب ثلاثة، فأرسلت عليه فمزقته، فأعجب بها هارون، وقال لهم: تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا؛ قالوا: ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا؛ قال لهم: ما كنا لنبخل عليكم، ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح، ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم؛ قالوا: ما نتمنى إلا السيف؛ قال: لا سبيل إليه، ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم.
أبو جعفر البغدادي قال:

لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره، أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم، ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق، وقد واطأه على أن يسمه، وأعطاه سم ساعة، ووعده على ذلك بأموال كثيرة. فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية، قبل الهدية، وأمر بإنزال الوصيف في دار، وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً. فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه: يا سيدي، إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين؛ فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه. فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه، أمره بالوقوف عند باب المجلس، وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه، وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول، فقال: قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك، وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين، ولي عندي جواب أكتبه، إلا ما ترى من حالي، فأبلغ أمير المؤمنين السلام، وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها. فلما قدم الوصيف على المأمون، وكلمه بما كان من أميره، ووصف له الحال التي رآه فيها؛ شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه، فلم يعلمه واحد منهم؛ فقال المأمون: لكني قد فهمت معناه: أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض، فهو يخبرنا أنه عبد ذليل؛ وأما المصحف المنشور؛ فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا؛ وأما السيف المسلول، فإنه يقول: إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك، أغلقوا عنا باب ذكره، ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه. فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين، وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه، فكان أخف الناس على المأمون.
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه، وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه، فأطلقه له وكتب إليه:
أخي أنت ومولاي ... فما ترضاه أرضاه
وما تهوى من الأمر ... فإني أنا أهواه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
/كتاب الياقوتة في العلم والأدب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه: قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم، وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم، والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني، وبارع مَنطقهم، واختلاف مذاهبهم، ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب، فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا، وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطَّبيعة المَلَكية، والطبيعة البهيمية. وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح، وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته، وعظيم سُلطانه، بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض، فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر، وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر، وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة، والإرادة تُحْكم أسباب العمل، فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا، ثم فِكْرا، ثم إرادة، ثم عملا. والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ. والعلم علمان: علم حُمِل، وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ، وما استُعمل نَفع. والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان، والسمع في تقبل الأصوات، أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له، والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب، فإن زَعم زاعمِ فقال: إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم: فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه، فيكون أشدَ رأياَ، وأنبه فِطنةً، وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل، فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله، فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب.
قيل للمُهلِّب: بِمَ أدركتَ ما أدركتَ؟ قال: بالعِلم، قيل له: فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ، ولم يُدرك ما أدركت، قال: ذلك عِلم حُمِل، وهذا علم استُعْمل.
وقد قالت الحكماء: العِلمُ قائد، والعَقل سائق، والنَّفس ذَوْد، فإذا كان قائد بلا سائق هلكت " الماشية " ، وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا، وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً.

فنون العلم

قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون: مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه، وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال؟ فقال المأمون: قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ، فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ؛ ولو قلتَ أيضاَ: إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه، ولا يُسْبر قَعْره، ولا تُبلغ غايتهُ، ولا تُستقىَ أُصوله، ولا تَنْضَبط أجزاؤُه، صدقتَ، فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ، والأوكد فالأوكد، وبالفَرْض قبل النَّفل، يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ. وقد قال بعضُ الحُكماء: لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته، ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه؛ فهذا وَجهٌ لما ذكرت. وقال آخرون: عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر، وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير، وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب، فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا.
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه: العِلم علمان: عِلم الأبدان، وعِلم الأديان.
وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً، ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم.
وقال أبو يوسُف القاضي: ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة: مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة، ومَن طلب " المالَ " بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر، ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب.
وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى: العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به، فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه.
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه، وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل، قال الشاعر:
وما من كاتب إلا ستبقى ... كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه
فلا تكتب بكفِّك غير شيء ... يَسرّك في القِيامة أن تَراه
قال الأصمعيّ: وَصلت بالمًلَح، ونلْت بالغريب.
وقالوا: مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه، ومن أكثر من الشعر بذَّله، ومن أكثر من الفِقه شرَفه.
وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ:
كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا ... لو قد نبذتَ به إليك لسركا
ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب ... كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا
أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ ... كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا

الحض على طلب العلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم، فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل.
وقال عليه الصلاةُ والسلام: الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج.
وعنه صلى الله عليه وسلم: إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب، وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه.
وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام: لفَّ العِلْم حولَ عُنقك، واكتُبه في ألواح قَلبك.
وقال أيضاً: اجعل العِلْم مالَكَ، والأدب حِلْيتك.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كلِّ إنسان ما يُحْسن.
وقيل لأبي عمرو بن العَلاء: هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم؟ قال: إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم.
وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى " لبنيه " : يا بنيَّ، اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار " قوم " لا يُحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم.
وقال ملك الْهِند لولده، وكان له أربعون ولداً: يا بني، أكثِروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفاً، فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة: الفقِيه العالم، والبَطَل الشجاع، والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي.
وقال المُهَلّب لبَنِيه: إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق، أراد الزرَّاد للحرب، والورَّاق للعلم.
وقال الشاعر:
نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ ... تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ
لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه ... وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ
وقال " آخر " :
ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه ... وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ

ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهو جالس في المَقْبرة، وبيده كتاب، فقال له: ما أَجلسك هاهنا؟ قال: إنه لا أوْعظَ " مِن " قبر، ولا أَمتع من كتاب.
وقال رُؤْبة بن العجَّاج: قال لي النسِّابة البَكْري: يا رُؤبة، لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني، وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني؟ قلتُ: إني أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته؟ قلت: تُخبرني؛ قال: آفتُه النسيان، ونَكَده الكذب، وهُجْنته نشره عند غير أهله.
وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما: مَنْهومان لا يَشبعان: طالِب علم وطالب دنيا.
وقال: ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً.
وقال رجل لأبي هُريرة: أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال: كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له.
وقال عبد اللهّ بن مسعود: إن الرجل لا يُولد عالماً، وإنما العِلم بالتعلّم.
وأخذه الشاعر فقال:
تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً ... وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ
ولآخر:
تَعلم فليس المرءُ يُخلق عالماً ... وما عالمٌ أمراً كمن هو جاهلُ
ولآخر:
ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ... ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما
وقال آخر.
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ
والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر
وقال بعضً الحكماء: اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخفُّ على قَلبك، فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك.

فضيلة العلم
حَدَّثنا أيوب بن سُليمان قال حَدَّثنا عامر بن مُعاوية عن أحمد بن عِمْران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشميّ عن عبد الله بن عبد الرحمن الكُوفي عن أبي مِخْنف عن كُميل النِّخعيّ، قال: أخذ بيدي عليٌّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة، فلما أسحر تنفّس الصُّعداء، ثم قال: يا كُميل، إنّ هذه القلوب أوْعِيَة، فخيْرها أوعاها، فاحفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم ربَّاني، ومتعلَّم على سبيل نَجَاة، وهَمَج رَعَاع، أَتْباع كلّ ناعق، مع كلِّ ريح يَميلون، لم يَسْتضيئوا بنُور العِلْم، وِلم يَلْجأوا إلى رًكْن وَثيق. يا كميل: العِلم يحْرُسك وأنت تحرُس المال، والمال تَنْقصه النّفقة، والعِلم يزكو على الإنفاق، ومَنفعة المال تزول بزواله. يا كميل: محبَّة العلْم دين يُدان به، يَكِسب الإنسان الطاعةَ في حياته، وجَميل الأحدوثة بعد وَفاته. والعِلم حاكم، والمال محكوم عليه. يا كميل: مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعًلماء باقُون ما بَقي الدهر، أعيانهمُ مَفْقودة، وأمثالهم في القلوب مَوْجودة. ها إنّ هاهُنا لعِلْماً جما - وأشار بيده إلى صَدْره - لو وَجدت له حَمَلة؛ بلى أَجد لَقِناً غير مَأمون، يستَعمل " آلة " الدَّين للدُّنيا، ويَسْتظهر بِنعَم اللهّ على عِباده، وبحُجَجه على أَوْليائه، أو مُنقاداً لحملَة الحق ولا بَصِيرة له في أحنائه، يَنْقدحٍ الشكّ في قَلْبه لأوَّل عارض من شبهة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ " أو مَنهوماً باللذّة سَلِسَ القياد للشهوة، أو مُغرماً بالجمع والادخار " ، ليسا من رُعاة الدين، " في شيء " ، أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامِلِيه؛ اللهم بلَى، لا تخلو الأرضُ من قائم بحجة اللّه، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مَغموراَ، لئلاّ تبطل حًجج الله وبيّناته، وكم ذا وأين؟ أولئك " واللّه " الأقلُّون عدداَ، والأعْظمون " عند اللّه " قدراً، بهم يحفظ الله حُجَجَه " وبيِّناته " ، حتى يُودعوها نُظراءَهم، ويَزْرعوها في قلوب أشباههم، هَجمَ بهم العِلم على حَقِيقة الإيمان حتى باشَرُوا رُوح اليقين، فاستَلانوا ما آستَخْشن المترفون، وأنِسوا بما آستَوْحش منه الجاهلون، وصَحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها مًعَلَّقة بالرَّفيق الأعلى. يا كُميل: أولئك خُلفاء الله في أَرضه، والدُعاة إلى دِينه، آه آه شَوْقاً إليهم، انصرف " يا كميل " إذا شئت.

قِيل للخَلِيل بن أحمد: أيهما أفضل، العِلم أو المال؟ قال: العِلم. قيل له: فما بالُ العُلماء يَزْدحمون على أبواب الملوك، والملوك لا يَزْدحمون على أبواب العُلماء؟ قال: ذلك لِمَعْرفة العًلماء بحق المُلوك، وجَهْلِ الملوك بحق العلماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَضْل العِلم خيْر من فَضْل العبادة.
وقال عليه الصلاةُ والسلام: إن قَليلَ العَمل مع العِلْم كثير، كما أنّ كَثيرَه مع الجهل قليل.
وقال عليه الصلاةُ والسلام: يَحمل هذا العِلم من كل خَلَف عُدُولُه، يَنْفون عنهُ تحريف القائلين، وآنتحالَ اْلْمُبْطلين، وتَأْويل الجاهلين.
وقال الأحْنَف بن قيس: كاد العُلماء أنت يكونوا أرْباباً، وكلُّ عزّ لم يُوكَد بعِلْم فإلى ذُلّ ما يَصِير.
وقال أبو الأسْوَد الدُّؤليّ: الملوك حُكّام على الدُنيا، والعُلماء حُكام على الملوك وقال أبو قِلابة: مَثَل العُلماء في الأرض مَثَل النجوم في السماء، مَن تَركها ضَلّ، ومَن غابت عنه تَحَيَّر.
وقال سُفيان بن عُيينة: إنما العالم مثلُ السِّراج، مَنِ جاءَه اقتبس من عِلْمه، ولا يَنْقًصه شيئاً؛ كما لا يَنْقًص القابِس من نُور السّرَاج شيئاَ.
وفي بعض الأحاديث: إنّ الله لا يَقتل نَفْس التّقيِّ العالم جُوعاً.
وقيل للحَسَن بن أبي الْحَسن البَصْريّ:ِ لمَ صارت الْحِرْفة مَقْرونة مِع العِلْم، والثروة مَقْرونة مع الجهْل؟ فقال: ليس كما قُلتم، ولكِنْ طَلَبتم قليلاَ في قَلِيل فأعجزكم: طَلبتم المالَ وهو قليل " في الناس " في أهل العِلمْ! وهُم قَلِيل " في الناس " ، ولو نَظرتم إلى من احترق مِن أهل الجَهْل لوَجدتموهم أَكثر.
وقال الله تبارك وتعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء " و " وَمَا يَعْقِلُها إلا العاِلمُون " .
وقيل: لا تَمْنعوا العِلم أَهلَه فتَظلمُوهم، ولا تُعْطوه غير أهله فتَظْلموه. ولبعضهم:
مَنْ مَنعَ الحِكْمَة أَرْبابَها ... أَصْبح في الحُكْم لهم ظاِلمَا
وواضعُ الحِكْمة في غَيْرهم ... يكون في الحُكْم لها غاشِما
سَمِعت يوماً مثلاً سائراً ... وكنتُ في الشعر له ناظِما:
لا خير في آْلمَرْءِ إذَا ما غَدَا ... لا طالباً عِلماً ولا عَاِلمَا
وقيل لبَعض العُلماء: كيف رأيتَ العِلم؟ قال: إَذا اغتممتُ سَلوتي، وإذا سَلَوت لذاًتي.
وأنشد لسابق البرْبريّ:
العِلم زَيْن وتَشْريفٌ لصاحبه ... والجَهْل والنَّوك مَقْرُونان في قَرَنِ
ولغيره:
وإذَا طَلَبت العِلِم فاعْلَم أنَّه ... حِمْل فأَبْصر أيَّ شيء تَحْمِلُ
وإذَا علمتَ بأنّه مُتَفاضِلٌ ... فاشْغل فؤادَك بالذي هو أَفضل
الأصمعيّ قال:
أوّل العِلَم الصَّمْت، والثاني الاستماع، والثالث اْلْحِفْظ، والرابع العَمَل، والخامس نَشْرُه.
ويُقال: العالم والمُتَعَلِّم شريكان، والباقي هَمَج.
وأُنشِد:
لاَ يَنْفعُ العِلم قلباً قاسياً أَبَداً ... ولاَ يَلين لفَكِّ الماضِغ الحجُر
وقال مُعاذ بن جَبَل: تعلّموا العِلم فإنّ تَعَلَّمه حسنة، وطَلَبه عِبَادة، وبَذْلَه لأهله قُرْبة، والعِلم مَنار سَبيل أهل الجنّة، والأنيسُ في الوَحْشة، والصاحب في الغُربة، والمُحَدِّث في الخَلْوة، والدًليلُ على السًرّاء والضّرّاء، والزَّبن عند الإخلاء، والسِّلاح على الأعداء. يَرْفع اللهّ به قوماً فيجعلُهم قادةً أَئمة تُقتَفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم. والعِلم حياة القَلْب من الجهل، ومِصْباح الأبصار من الظَّلمةِ، وقوَّة الأبدان من الضّعف يبلغ بالعَبد مَنازلَ الأخيار، والدَّرجات العُلا في الدُّنيا والآخرة، الفِكْر فيه يَعدِل الصِّيامَ، ومُذاكرتُه القِيامَ، وبه تُوصَل الأرْحام، ويُعرَف الحلال من الحرام.
ولابن طَبَاطَبا العَلويّ:
" حَسُود مريض القَلْب يُخْفِي أَنِينَه ... ويُضْحِي كئيب البال عِنْدي حزينَهُ،
يَلومُ على أنْ رُحتُ في العِلم طالبَا ... أُجَمِّع من عِنْدِ الرِّجال فُنُونهُ
فأمْلك أبكارَ الكلام وعُونَه ... وأَحْفظ مِمَّا أَسْتَفِيد عُيُونه

وَيزْعُم أنّ العِلم لا يَجْلب الغِنَى ... ويُحْسن بالجهل الذميم ظُنُونه
فَيَا لائمي دَعْنِي أُغَالِ بِقِيمَتِي ... فَقِيمة كلِّ الناس ما يحْسِنُونه "
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ضبط العلم والتثبت فيه
قِيل لمحتد بن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنه: ما هذا العِلم الذي بنتَ به عن العالَم؟ قال: كنتُ إذا أخذتُ كتاباً جَعَلْته مِدْرَعة.
وقيل لرقبَةَ بن مَصْقَلة: ما أكثر شَكك؟ قال: مُحَاماةً عن اليقين.
وسأَل شُعبةُ أيوبَ السِّختيانيِّ عن حديث، فقال: أَشُكّ فيه. فقال: شَكّك أَحبُّ إليَّ من يقيني.
وقال أيُّوب: إنّ مِن أصحابي مَن أرتجي بركة دُعائه، ولا أقبَل حديثَه.
وقالت الحكماء: عَلِّم عِلْمك مَن يَجهل وتعلّم مِمَّن يعلم، فإذا فَعَلت ذلك حَفِظتَ ما عَلِمتَ، وعَلمْتَ ما جَهلت.
وسأَل إبراهيم النَّخعيُّ عامراً الشَّعبيَّ عن مَسألة، فقال: لا أَدرِي؟ فقال: هذا واللّه العاِلم، سُئِل عمّا لا يَدْرِي، فقال: لا أَدرِي.
وقال مالك بن أَنس: إذا تَرك العالم لا أدري أُصِيبت مَقاتلة.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال: لا أدري، فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم.
وقالوا: العِلْم ثلاثة: حَدِيث مُسْند، وآية مُحْكمة، ولا أَدْرِي. فجَعلوا لا أَدري مِن العِلم، إذْ كان صواباً من القول.
وقال الخَلِيل بن أحمد: إنك لا تَعْرف خَطأ مُعَلّمك حتى تَجْلِس عند غيره.
وكان الخليلُ قد غَلبت عليه الإباضية حتى جالسَ أيُّوب وقالوا: عَوَاقبُ المَكَاره محمودة.
وقالوا: الخَير كلُّه فيما أُكْرِهَت النفوسُ عليه.
انتحال العلم
قال بعض " الحكماء " : لا يَنبَغي لأحد أن يَنتحَل العِلم، فإنّ الله عزِّ وجَلَّ يقول: " ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلاً " . وقال عز وجلّ: " وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم " .
وقد ذُكر عن موسى بن عِمْران عليه السلام، أنّه لما كلّمه الله تعالى تَكليَماَ، ودَرَس التَّوارةَ وحَفِظها، حَدَّثته نفسُه: أنّ الله لم يَخلق خَلقاً أعلم منه. فهَوّن اللّه عليه نفسَه بالْخِضْر عليه السلام.
وقال مُقاتل بن سُليمان، وقد دَخَلْته أبهة العِلم: سَلُوني عمّا تحت العَرْش إلى أَسفل الُثرى. فقام إليه رجلٌ من القوم فقال: ما نسأَلك عما تحت العرش، ولا أسفل الثرّى، ولكن نسأَلك عَمَّا كان في الأرض، وذَكَرَه الله في كتابه، أَخْبرني عن كَلْب أَهل الكَهْف، ما كان لونُه؟ فأَفحمه.
وقال قَتَادة: ما سمعت شيئاً قطُّ إلا حَفِظْتُه، ولا حَفِظت شيئاً قَط فَنَسيته، ثم قال: يا غلام، هَاتِ نعلي؛ فقال: هُما في رِجْليك، فَفَضحه اللهّ.
وأَنشد أبو عَمْرو بنُ العلاء في هذا المعنِى:
مَنْ تَحَلَّى بغير ما هو فيهِ ... فضَحَتْهُ شواهدُ الامتحانِ
" وفي هذا المعنى:
مَنْ تَحَلَّى بغَير ما هو فيهِ ... شانَ ما في يَدَيْه ما يَدَّعيهِ
وإذَا قلَّلَ الدعاوَى لما في ... ه أَضافُوا إليه ما ليسَ فيه
ومَمَكّ الفَتَى سيظهر للنا ... س وإن كان دائباً يُخْفِيه
يَحْسب الذي ادَعَى ماعَدَاه ... أنه عالمٌ بما يَفْتَرِيهِ
وقالَ شَبِيب بن شَيْبة لفتى من دَوْس: لا تُنازع مَن فوقك، ولا تَقُل إلا بعِلْم، ولا تَتَعاطَ ما لم تَبْلُ، ولا يخالف لسانُكَ ما في قلبك، ولا قولُكَ فِعْلَك، ولا تَدَع الأمرَ إذا أَقبل، ولا تَطلبهُ إذا أَدْبر " .
وقال قَتَادة: حَفِظْتُ ما لم يَحفَظْ أَحَد، وأنسيتُ ما لم يَنْسَ أَحَدٌ، حَفِظت القرآن في سَبعة أشهر، وقَبَضت على لِحْيَتي وأنا أُريد قَطع ما تحت يدي فقطعتُ ما فوقها.
ومَرَّ الشَّعبيّ بالسُّدِّيّ، وهو يفسر القرآن، فقال: لو كان هذا الساعةَ نشوانَ يُضرب على استه بالطَّبل، أما كان خَيْراً له؟ وقال بعض المنتحلين:
يُجَهِّلني قَوْمي وفي عَقْد مئزَري ... تَمَنَّون أمثالاً لهم مُحكم العِلْمٍ
وما عَنَّ لي من غامِض العِلم غامض ... مَدَى الدَّهر إلا كنتُ منه على فهْم
وقال عَدِيُّ بن الرِّقاع:

وعَلِمْتُ حَتَّى ما أُسائِل عالماً ... عَنْ عِلْم واحدةٍ لكيْ أَزْدَادَها

شرائط العلم وما يصلح له
وقالوا: لا يكون العالم عالماً، حتى تكونَ فيه ثلاثُ خِصال: لا يَحْتَقر مَن دونه، ولا يَحْسد مَن فوقه، ولا يأخذ على العِلم ثَمَناً.
وقالوا: رأسُ العِلم الخوْف " من " الله تعالى.
وقيل للشَّعبي: أَفْتني أيُّها العالم؛ فقال: إنّما العاِلم مَن اتَّقى اللّه.
وقال الحسن: يكون الرجلُ عالماً ولا يكون عابداً، ويكون عابداً ولا يكون عاقلاَ.
وكان مُسلم بن يسار عالماً عابداً عاقلاً.
وقالوا: ما قُرِن شيء إلى شيء أفضل من حِلْم إلى عِلم، ومن عَفْو إلى قُدْرَة.
وقالوا: من تمام آلة العاِلم أن يكون شديدَ اْلْهَيْبة، رَزِين المَجْلس، وَقُوراً صَمُوتاً، بطيء الالتفات، قليلَ الإشارات، ساكنَ الحَرَكات، لا يَصخَب ولا يَغْضب، ولا يُبْهَر في كلامه، ولا يَمسح عُثْنونه عند كلامه في كلّ حين؛ فإنّ هذه كلّها من آفات العِيّ.
وقال الشاعر:
مَلِيء بِبُهْر وآلْتِفَاتٍ وسُعْلةٍ ... ومسحة عُثْنون وفَتْل الأصابع
ومَدَح خالدُ بن صَفْوان رجلاً، فقال: كان بديع المَنْطق، جَزْل الألفاظ، عربيّ اللسان، قليلَ الحَرَكات، حَسنَ الإشارات، حُلْوَ الشمائل. كثير الطَّلاوَة، صَمُوتاً وَقُوراً، يهنأ الجرب، ويُدَاوي الدَبر، ويُقِلَّ " " الحزّ، ويُطبِّق المَفْصِل، لم يكن بالزَمِر المُروءة، ولا الهَذِر المنطبق، مَتبوعاً غيرَ تابع.
كأنّهُ عَلَم في رأسه نارُ وقال عبد اللهّ بن المُبارك في مالك بن أنس رضي الله عنه:
يَأتَي الجوابَ فما يُراجَع هَيْبَةً ... فالسَّائلون نَوَاكِسُ الأذْقان
هَدْي الوَقار وعِزُّ سُلطان التُّقى ... فهو المَهيب وليسَ ذَا سُلْطان
وقال عبد الله بن المبارك فيه أيضاَ:
صَمُوت إذا ما الصَّمْتُ زَيَنَ أَهلَه ... وفَتَاقُ أبكار الكلام المُخَتَّم
وَعَى ما وَعَى القرانُ من كلِّ حِكمة ... وسِيطَت له الآدابُ باللَّحْم والدَّم
ودخل رجلٌ علىِ عبد الملك بن مَرْوان، وكان لا يَسأَله عن شيء إلاّ وَجد عنده منه عِلماً، فقال لهُ: أَنىَ لك هذا؟ فقال: لم أَمْنع قَطّ يا أَميرَ المؤمنين علماً أفيده، ولم أَحتقر علماً أَستفيده، وكنتُ إذَا لَقيت الرَّجُلَ أَخذتُ منه وأَعطيتُهُ.
وقالوا: لو أَنّ أَهلَ العلم صانُوا علِمَهم لَسَادُوا أهلَ الدًّنيا، لكن وَضَعُوه غيرَ مَوْضعه فقَصَّر في حقّهم أهلُ الدُّنيا.
حفظ العلم واستعماله
قال عبد الله بن مَسْعود: تعَلَّموا فإذا عَلِمْتم فاعمَلوا.
وقال مالكُ بن دِينار: العاِلم إذا لم يَعْمل بعِلمه زَلَّت مَوْعظته عن القَلْب، كما يَزل الماء عن الصفا.
وقالوا: لولا العَمَل لم يُطلب العِلم، ولولا العِلم لم يُطلب العَمَل.
وقال الطائيًّ:
ولم يَحْمدوا مِن عاِلمٍ غيرِ عامل ... ولم يَحْمدوا مِن عاملٍ غير عالم
وقال عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه: أيها الناس، تعلَّمُوا كتابَ الله تُعْرَفوا به، واْعْمَلوا به تكونوا من أهله.
وقالوا: الكلمة إذا خرجتْ من القلب وقعتْ في القلب، وإذا خرجتْ من اللّسان لم تُجَاوز الآذان.
وَرَوَى زِيَاد عن مالك قال: كًنْ عالماً أو مًتَعلّماً " أو مُسْتمعا " ، وإيَّاك والرابعة فإنها مَهلكة، ولا تكونُ عالماً حتى تكون عاملاً، ولا تكون مؤمناً حتى تكون تقيَّاً.
وقال أبو الحسن: كان " وكيع " بن الجَرَّاح يَسْتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث.
وكان الشَّعبي والزُّهري يقولان: ما سَمِعْنا حديثاً قَطُّ وسأَلْنا إعادَته.
رفع العلم وقولهم فيه
قال عبد الله بن مسعود: تَعلَّمُوا العِلم قبل أن يُرفِع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله لا يَقْبض العِلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يَقْبضه بقَبْض العُلماء.
وقال عبد الله بن عبَّاس رضوان الله عليهما، لما وُورِيَ زيدُ بن ثابت في قبره: مَن سرَّه أن يرى كيف يُقبض العلم فهكذا يُقبض.
تحامل الجاهل على العالم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وَيْل لعالم أمْرٍ من جاهله.
وقالوا: إذا أردتَ أن تُفْحم عالماً فأحْضره جاهلاً.

وقالوا: لا تُناظر جاهلاً.
وقالوا: لا تُناظر جاهلاً ولا لجوجاً، فإنه يجعل المُناظرة ذريعة إلى التعلّم بغير شكر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: آرحموا عزيزاً ذلّ، اْرحموا غنيّاً افتقر، آرحموا عالماً ضاع بين جُهًال.
وجاء كَيْسان إلى الخليل بن أَحمد يَسأله عن شيء، ففكَّر فيه الخليلُ ليُجيبه، فلما استفتح الكلام؟ قال له: لا أَدري ما تقول؛ فأنشأ الخليل يقول:
لو كنتَ تَعْلم ما أقولً عَذَرْتَتي ... أو كنتُ أَجْهل ما تقولُ عذلْتُكا
لكن جَهِلْت مَقالتي فعَذلْتَني ... وعلمتُ أنك جاهل فعَذَرْتُكا
وقال حَبِيب:
وعاذِلٍ عذلتُه في عَذْله ... فظَنَّ أنيِّ جاهلٌ مِن جَهْلِه
ما غبن المَغْبُونَ مثل عَقْلِه ... مَن لكَ يوماً بأخيك كُلِّهِ

تبجيل العلماء وتعظيمهم
الشِّعبي قال: رَكب زيدُ بن ثابت فأَخذ عبد الله بن عبَّاس بركابه، فقال: لا تَفعل بابن عَمَّ رسول الله صلى الله عليه؛ فقال: هكذا أُمِرْنا أن نَفعل بعُلمائنا. قال زيد: أرني يدك، فلما أَخرَج يدَه قبَّلها، وقال: هكذا أًمرنا أن نَفعَل بابن عمِّ نبِّينا.
وقالو: خِدْمة العاِلم عبادة.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: من حق العاِلم عليكَ إذا أتيتَه أن تُسَلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامَّة، وتَجْلس قُدَامه، ولا تشِر بيدك، ولا تَغْمِز بعَيْليْك، ولا تَقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثَوْبه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنما هو بمنزلة النَخلة المرطبة، التيِ لا يزال يَسْقط عليك منها شيء. وقالوا: إذا جلستَ إلى العاِلم فَسَلْ تَفَقُّهاَ ولا تَسَلْ تعَنَتاً.
عويص المسائل
الأوزاعيُّ عن عبد الله بن سَعد عن الصُّنابحيّ عن مُعاوية بن أبي سُفيان قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات. قال الأوزاعيّ: يعني صِعاب المسائل. وكان ابن سِيرين إذا سُئل عن مَسألة فيها أغلوطة، قال للسائل: أمْسِكها حتى نَسأل عنها أخاكَ إِبليس.
وسأل عُمَر بن قيس مالكَ بن أنَس عن مُحْرِم نزَع نَابي ثعلَب، فلم يَردّ عليه شيئاً.
وسأل عُمَرُ بن الخطّاب رضي الله عنه علي بن أبي طالب كَرَّم الله وَجْهَه، فقال: ما تَقُول في رجُل أمّه عند رجل آخر؟ فقال: يُمسك عنها، أراد عمر أنَّ الرجل يموت وأمه عند رجل آخر، وقولُ علّيٍ يُمسك عنها. يريد الزَّوج يُمسك عن أمِّ الميت حتى تَسْتَبْرِئ من طريق الميراث.
وسأل رجلٌ عُمَر بن قيس عن الْحَصاة يَجدها الإنسان في ثوبه أو في خُفّه أو في جَبْهته من حَصى المَسْجد؛ فقال: ارْم بها قال الرجلُ: زَعموا أنها تَصِيح حتى ترد إلى المسجد؛ فقال: دَعها تصيح حتى يَنْشق حلقها؟ فقال الرجل: سُبحان اللِّه! ولها حَلْق؟ قال: فمن أين تَصِيح؟ وسأل رجلٌ مالكَ بنَ أَنس عن قوله تعالى: " الرَّحْمنُ عَلَى اْلْعَرْش آسْتَوَى " كيف هذا الاستواء؟ قال: الاستواء مَعْقول والكَيْف مَجّهول، ولا أظنّك إلا رجلَ سوء.
وروى مالكُ بن أنَس الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يُدخل يدَه في الإناء حتى يَغْسِلها، فإِنَّ أحدَكم لا يَدْري أين باتت يدُه. فقال له رجل: فكيف نَصنع في المِهرَاس أبا عبد الله؟ - والمِهْراس: حَوْض مكة الذي يتَوضّأ الناس فيه - فقال: من الله العِلْم، وعلى الرسول البلاغ، ومنّا التَّسليم، أمِرُّوا الحديث.
وقيل لابن عبَّاس رضي الله عنهما: ما تقول في رجل طًلّق امرأَته عددَ نُجوم السماء؟ قال: يَكْفيه منها كوكب الجوزاء.
وسُئِل عليُّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: أين كان ربُّنا قبل أن يَخلق السماء والأرض؟ فقال: أين: تُوجب المَكان، وكان الله عزّ وجلّ ولا مكان.
التصحيف
وذكر الأصمعيّ رجلاً بالتًصحيف، فقال: كان يَسمع فيَعِي غيرَ ما يَسمع، ويَكْتب غير ما وَعى، ويَقْرأ في الكتاب غير ما هو فيه.
وذكر آخر رجلاً بالتَّصحيف، فقال: كان إذا نَسخ الكِتاب مَرَّتين عاد سُرْيانياً.
طلب العلم لغير اللّه

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أعطِي الناسُ العِلْم ومُنِعوا العَمل، وتحابُّوا بالألْسن، وتباغَضوا بالقًلوب، وتَقاطعوا في الأرحام، لعَنهم الله فأصمَهم وأعْمى أبصارَهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخْبركم بشرِّ الناس؟ قالوا: بلَى يا رسول الله؛ العُلماء إذا فَسدوا.
وقال الفُضَيل بن عِيَاض: كان العُلَمَاء رَبيعَ الناس، إذ رآهم المَريضُ لم يسرّه أن يكون صَحيحاً، وإذا نظر إليهم الفقيُر لم يَودَّ أن يكون غنياً، " وقد صاروا اليومَ فتنة للناس " .
وقال عيسى بنُ مَرْيم عليه السلام: سيكون في آخرِ الزمان عُلماء يُزَهِّدون في الدُّنيا ولا يَزهدون، ويُرَغِّبون في الآخرة ولا يَرْغَبون، يَنْهَوْن عن إتيان الوُلاة ولا ينْتهون، يُقَرِّبون الأغنياء، ويُبْعِدون الفُقراء، ويتَبسِّطون للكبراء، ويَنْقبضون عن الحُقراء، أولئك إخوانُ الشياطين وأعداء الرحمن.
وقال محمد بن واسع: لأن تَطلُب الدنيا بأَقبحَ ممّا تطلبُ به الآخرةَ خيرٌ من أن تطلبَها بأحسَن مما تطلب به الآخرةَ.
وقال الحسن: العِلْم عِلمان، عِلم في القَلْب، فذاك العِلم النافع، وعِلم في اللسان، فذاك حجّة الله على عِباده.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الزبانية لا تَخْرج إلى فَقِيه ولا إلى حَمَلة القران إِلا قالوا لهم: إليكم عنّا، دُونكم عَبدةَ الأوثان. فيَشْتكون إلى اللّه، فيقول: ليس من عَلِم كمن لم يَعلم.
وقال مالك بن دِينار: مَن طلب العِلم لنفسه فالقَلِيل منه يَكْفِيه، ومَن طَلبه للنَّاس فحوائجُ الناس كثيرة.
وقال ابن شبْرمة: ذَهب العِلم إلا غُبَّرات في أَوْعية سوء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن طلب العِلْم لأرْبَع دَخل النارَ: مَن طلبه ليُباهي به العُلماء، وليُمارِي به السُّفهاء، وليَسْتَمِيل به وُجوه الناس إليه، أو ليأخذَ به من السلطان.
وتكلّم مالكُ بن دِينار فأبْكَى أصحابَه، ثم افتقد مُصْحفه، فنظَر إلى أصحابه وكلهم يَبْكِي، فقال: وَيحكم! كلكم يبكِي، فمن أخذ هذا المُصحف؟ قال أحمد بن أبي الحَوَاريّ: قَال لي أبو سُليمان في طريق الحجّ: يا أحمد، إنَّ اللّه قال لمُوسى بن عِمْران: مُرْ ظَلمة بني إسرائيل أن لا يَذْكروني فإني لا أذكر من ذكرني منهم إلا بلَعْنة حتى يَسْكت. وَيْحك يا أحمد! بَلغني أنه من حجّ بمالٍ من غير حله ثم لبَّى قالت الله تبارك وتعالى: لا لَبيك ولا سَعْدَيْك حتى تُؤَدَي ما بيديك، فلا يؤمننا أن يُقال لنا ذلك.

باب من أخبار العلماء والأدباء
أملى أبو عبد الله محمدُ بن عبد السلام الخُشَنيّ. إنَ عبد الله بن عبَّاس سُئَل عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال: كان واللّه خيراَ كلّه مع الْحِدّة التي كانت فيه. قالوا: فأخْبرنا عن عَمر رضوانُ الله عليه. قال: كان واللّه كالطير الحذر الذي نصب فخ له فهو يخاف أن يقع فيه. قالوا فأخبرنا عن عثمان، قال: كان واللّه صواماً قواماً. قالوا: فأخبرنا عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: كان واللّه ممن حَوَى عِلْماً وحلماً؟ حَسْبك من رجل أعزَّتْه سابقتُه وقَدَّمته قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلّما أشرْف على شيء إلا نالَه. قالوا: يقال إنه كان مَحْدوداً؛ قال: أنتم تقولونه.
وذكروا أنَّ رجلا أتىَ الحسَنَ، فقال؛ أبا سَعِيد، إنهم يزعمون أنك تُبْغِض عليّاً، فبَكَى حتى اخضلت لِحْيته، ثم قال؛ كان عليُّ بنُ أبي طالب سهماً صائباً من مَرامي الله على عدوّه، ورَبَّانيَّ هذه الأمّة، وذا فَضْلها، وذا قَرابةٍ قَريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنَّئومة عن أمر اللّه، ولا بالمَلُولة في حق اللّه، ولا بالسَرُوقة لمال اللّه، أعطَى القران عزائمه ففاز منه برياض مُونِقة، وأعلام بيِّنة، ذاك عليُّ بن أبي طالب يا لُكَع.
وسُئل خالدُ بن صَفوان عن الحسَن البَصْريّ، فقال: كان أشبَهَ الناس علانيةً بسَرِيرة، وسريرة بعَلاَنِيَة، واخذَ الناس لِنَفْسه بما يَأْمُر به غيرَه. " يا له " من رجل اسْتَغنى عمَّا في أيدي الناس من دُنياهم، واحتاجُوا إلى ما في يَدَيْه من دِينهم.

ودَخل عُروة بن الزبير بُستاناً لعبد المَلِك بن مَرْوان، فقال عُروة: ما أحسنَ هذا البستان! فقال له عبدُ الملك: أنت واللّه أحسنً منه، إنَّ هذا يُؤتي أكله كلَّ عام، وأنت تُؤتي أكلك كلّ يوم.
وقال محمدُ بن شهاب الزُّهريّ: دخلتُ على عبد الملك بن مَرْوان في رجال من أهل المدينة، فرآني أَحدثَهمِ سنّاً، فقال: من أنت؟ فانتسبتُ إليه، فعَرفني، فقال: لقد كان أبوك وعمُك نعَّاقَينْ في فِتْنة ابن الزُّبير؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين، مثلُك إذا عفا يَعُدّ، وإذا صَفح لم يثرب، قال لي: أين نشأتَ؟ قلتً بالمدينة؟ قال: عند مَن طلبت؟ قلت: عند ابن يَسار وقَبِيصة ابن ذؤيب وسَعيد بن المُسيِّب؟ قال لي: وأين كنت من عُروة بن الزبير؟ فإنه بَحر لا تُكدِّره الدِّلاء.
وذُكر الصحابةُ عند الحَسَن البَصريّ، فقال: رَحِمهم اللّه، شَهدوا وغِبْنا، وعَلِموا وجَهِلنا، فما اجتمعوا عليه اتَبعنا، وما اختلفوا فيه وَقَفنا.
وقال جعفرُ بن سُليمان: سمعتُ عبدَ الرحمن بن مهديّ يقول: ما رأيتُ أَحداً أقْشفَ من شُعبة، ولا أعبدَ من سُفيان، ولا أحفظَ من ابن المُبارك.
وقال: ما رأيتُ مثلَ ثلاثة: عَطَاء بن أبي رَباح بمكة، ومحمد بن سِيرين بالعراق، ورجاء بن حَيوة بالشام.
وقيل لأهل مكة: كيف كان عَطَاء بن أبي رَباح فيكم؟ فقالوا: كان مثلَ العافية التي لا يُعرف فَضْلها حتى تُفْقد.
وكان عَطَاء بن أبي رَباح أسوَد أعوَر أفطسَ أشلّ أعرج ثم عَمِي، وأمُه سوادء تُسمَى بَرَكَة.وكان الأحنفُ بن قَيس: أعوَر أعرج، ولكنه إذا تكلّم جلا عن نفسه.
وقال الشَّعبي: لولا أنِّي زُوحمت في الرَّحم ما قامت لأحد معي قائمة، وكان تَوأماً.
وقيل لطاووس: هذا قَتادة يُريد أن يَأتِيك، قال: لئن جاء لأقومن، قيل إنه فَقِيه، قال: ابليس أفْقه منه؟ قال: " رَبِّ بِمَا أغْوَيتَني " .
وقال الشَعبيّ: القُضاة أربعة: عُمَر وعلي وعبد الله وأبو موسى.
وقال الحَسَن: ثلاثة صَحِبًوا النبي صلى الله عليه وسلم، الابن والأب والجدّ: عبد الرحمن بنُ أبي بكر بن أبي قُحافة، ومَعَن بن يَزيد بن الأخْنس السُّلميّ.
وكان عُبيد الله بن عبد الله بن عًتبة بن مَسعود فَقِيهاً شاعراً، وكان أحدَ السَّبعة من فُقهاء المدينة.
وقال الزًّهري: كنتُ إذا لقيتُ عبيد الله بن عَبد اللهّ، فكأنما أَفْجُر به بَحرْاً.
وقال عمرُ بن عبد العزيز: وددتُ لو أنّ لي مجلساً من عُبيد اللهّ بن عبد الله بن عُتبة بن مَسْعود لم يَفُتْني.
ولَقِيه سعيدُ بن المُسيِّب فقال له: أنت الفَقِيه الشاعر؟ قال: لا بدِّ للمَصْدور أن يَنْفُث.
وكتب عبيد الله بن عبد اللهّ إلى عُمَر بنِ عبد العزيز، وبلغه عنه شيء يكرهه:
أبا حَفْص أتاني عَنك قَول ... قُطعتُ به وضَاق به جَوابي
أبا حَفْص فلاَ أدْرِي أَرَغْمِي ... تُريد بما تُحاول أم عِتابي
فإنْ تك عاتباً تُعْتِبْ وإلا ... فما عُودي إذاً بيَرَاع غاب
وقد فارقتُ أعظمَ منك رُزءًا ... وواريتُ الأحِبَّة في التراب
وقد عَزًّوا علي واْسْلمَوني ... معاً فَلَبْستُ بعدهُم ثِيابي
وكان خالدُ بنُ يزيدَ بنِ مُعاوية أبو هاشم عالماً كثيرَ الدِّراسة للكتُب وربما قال الشعرَ، ومن قوله:
هَلْ أنت مُنْتِفعٌ بِعل ... مك مَرّةً والعِلم نافِعْ
ومِنٍ المُشير عليك بال ... رأي المُسدَّد أنت سامِع
الموت حَوْض لا مَحا ... لةَ فيه كلُّ الخَلْق شارع
ومِن التُّقَى فازْرَع فإن ... ك حاصِدٌ ما أنتَ زارع
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: ما ولدتْ أُميةُ مثلَ خالد بن يزيد، ما أَستَثْني عثمان ولا غيره.
وكان الحسن في جِنازة فيها نوائحُ، ومعه سَعِيدُ بن جُبير، فهمَّ سَعيد بالانصراف، فقال له الحسنُ: إنْ كنتَ كلّما رأيتَ قبيحاً تركتَ له حسناً أسرَعَ ذلك في دِينك.
وعن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة عن ابن المُبارك قال: علَمني سُفيان الثَّوْريّ اختصار الحديث.
وقال الأصمعيّ: حدَّثنا شُعبة قال: دخلتُ المدينة فإذا لمالك حَلْقة وإذا نافع قد مات قبل ذلك بسَنة، وذلك سنة ثمانيَ عشرةَ ومائة.

وقال أبو الحسن بن محمد: ما خَلق الله أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى بن مَعِين، كان يُؤتى بالأحاديث قد خلطت وقُلبت، فيقول: هذا الحديثُ لذا وذا لهذا، فيكون كما قالِ.
وقال شريك: إني لأًسمع الكلمةَ فيتغيَّر لها لَوْني.
وقال ابن المُبارك: كلّ من ذُكر لي عنه وجدتُه دون ما ذُكر إلاّ حَيْوةَ بن شرُيح وأبا عَوْن.
وكان حَيْوة بن شرُيح يَقعُد للناس، فتقول له أًمه: قُمْ يا حَيْوة ألقِ الشعيرَ للدَّجاج، فيقوم.
وقال أبو الحسن: سمع سليمان التّيمي من سُفيان الثّوريّ ثلاثة آلاف حديث.
وكان يحيى بن اليمان يَذْهب بابنه داودَ كلَّ مذهب، فقال له يوماً؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان عبد الله، ثم كان عَلْقمة، ثم كان إبراهيم، ثم كان مَنصور، ثم كان سفيان. ثم كان وَكيع، قم يا داود: يعني أنه أهلٌ للإمامة. ومات داود سنة أربع ومائتين.
وقال الحسنُ: حدّثني أبي قال: أمر الحجّاج أن لا يَؤمّ بالكوفة إلا عربيّ.
وكان يحيى بن وَثّاب يَؤمّ قومَه بني أَسَد، وهو مَوْلى لهم؛ فقالوا: اعتزل، فقال: ليس عن مِثْلي نَهى، أنا لاحِقٌ بالعَرب، فأبَوا، فأَتى الحجاجَ فقرأ؛ فقال: مَن هذا.؟ فقالوا: يحيى بن وَثّاب؛ قال: مالَه؟ قالوا: أمرتَ أن لا يؤُمّ إلا عربيّ فَنحّاه قومه؛ فقال. ليس عن مِثل هذا نَهيتُ، يُصلِّي بهم. قال: فصلّى بهم الفَجْر والظُهر والعَصر والمغْرب والعِشاء، ثم قال: اطلُبوا إماماً غيري، إنما أردتُ أن لا تَستذلّوني، فأمّا إذ صار الأمرُ إليّ، فأنا أؤمّكم؟ لا ولا كرامة.
وقال الحسن: كان يحيى بن اليَمان يُصلِّي بقومه، فتعصّب عليه قومٌ منهم. فقالوا: لا تُصلِّ بنا، لا نَرْضاك، إن تَقدَمت نَحَّيْنَاك: فجاء بالسيف فسَل منه أربَع أصابَع ثم وَضعه في اِلمحراب، وقال: لا يَدْنُو منى أحذ إلا ملأتُ السيفَ منه؛ فقالوا: بيننا وبينك شريك؛ فَقَدَموه إلى شريك فقالوا: إن هذا كان يُصَلِّي بنا وكَرِهناه؛ فقال لهم شريك: مَن هو؟ قالوا: يحيى بن اليمان؛ فقال: يا أعداء الله، وهل بالكوفة أحدٌ يُشبه يحيى؛ لا يُصلِّي بكم غيرُه. فلما حَضرتْه الوفاة، قال لابنه داود: يا بُني، كان دِيني يَذْهب مع هؤلاء، فإن اضطُروه إليك بعدي فلا تُصلِّ بهم. وقال يحيى بن اليمان: تزوَّجتُ أم داود وما كان عِنْدي ليلةَ العُرْس إلا بطِّيخة، أكلتُ أنا نِصْفها وهي نِصْفَها، وولدت داودَ، فما كان عندنا شيء نَلُفُه فيه، فاشتريتُ له كُسْوة بحبَّتَين، فلَفَفناه فيها.
وقال الحسن بن محمد: كان لعليّ ضَفِيرتان، ولابن مَسْعود ضَفِيرتان.
وذكر عبدُ الملك بن مَرْوان رَوْحا، فقال: ما أُعْطِي أحدٌ ما أُعْطِي أبو زُرْعة، أُعْطِي فِقْه الحجاز، ودَهاء أهل العراق، وطاعةَ أهل الشام.
ورُويِ أنّ مالكَ بن أَنس كان يَذْكُر عُثمان وعليَّاً وطَلْحَة والزُّبير، فيقول: واللّه ما اقتتلوا إلا على الثَّريد الأعْفر.
ذكر هذا محمدُ بن يَزيد في الكامل، " ثم " ، قال: فأمّا أبو سعيد الحَسَن البَصريّ فإنه كان يُنكر الحُكومة ولا يَرى رأيهم، وكان إذا جَلس فتمكَّن في مَجْلسه ذَكَرَ عُثمان، فترحَّم عليه ثلاثاً، ولَعن قَتلته ثلاثاً " ويقول: لو لم نَلْعنهمٍ لَلُعِنّا " ؛ ثم يَذكر عليَّاً فيقول: لم يَزل عليٌّ أميرُ المؤمنين صلواتُ الله عليه مُظَفَرا مُؤيداَ بالنعم حتى حكّم، ثم يقول: ولم تُحَكم والحق معك؟ ألا تَمْضي قُدماً لا أبا لك.
وهذه الكلمة وإن كان فيها جَفاء، فإنّ بعضَ العرب يأتي بها على معنى المَدْح، فيقول: انظر في أمر رعيَّتك لا أبا لك " وأنت على الحق " 0 وقال أعرابي:
رَبِّ العِباد ما لَنا وما لَكَا ... قد كُنْتَ تَسْقِينا فما بَدَا لَكَا
أَنْزل علينا الغَيْثَ لا أَبا لكا
وقال ابن أبي الحَوَارِيّ: قلت لسُفيان: بلغني في قول الله عزً وجلّ: " إلا مَنْ أتىَ الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " . أنَّه الذي يَلْقى اللهّ وليس في قَلبه أحد غيره. قال: فبكَى وقال: ما سمعتُ منذ ثلاثين سنةً أحسنَ من هذا.
وقال ابن المُبارك: كنتُ مع محمد بن النَّضْر الحارثيِّ في سَفِينة، فقلتُ: بأيّ شيء أَستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصَوم في السَّفر؟ قال: إنما هي المُبَادرة يا بن أخي. فجاءني واللهّ بفُتْيا غير فُتْيا إبراهيم والشَعبي.

وقال الفًضَيل بن عِيَاض: اجتمع محمدُ بن واسع ومالكُ بن دينار في مجلس بالبصرة، فقال مالكُ بن دينار: ما هو إلا الله أو النار، فقال محمد بن واسع لمَن كان عنده: كنّا نقول: ما هو إلا عَفْو الله أو النار. قال مالكُ بنُ دِينار: إنَّه ليُعْجبني أن تكون للإنسان مَعيشة قَدْر ما يَقُوته. فقال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول: وليس يُعْجبني أن يُصبح الرجل وليس له غَدَاء، وُيمسي وليس له عَشاء، وهو مع ذلك راضٍ عن الله عزّ وجلّ. فقال مالك: ما أَحْوجني إلى أن يِعظني مِثلُك.
وكان يَجلس إلى سُفيانَ فتى كثيرُ الفِكرة، طويلُ الإطراق، فأراد سُفيان أن يحرِّكه ليسمعَ كلامه، فقال: يا فتى، إن مَنْ كان قبلَنا مرُّوا على خَيْل عِتَاق وبَقينا على حَمِير دَبِرَة. قال: يا أبا عبد الله، إن كُنَا على الطريق فما أسرعَ لحُوقنا بالقوم. الأصمعي عن شُعبة قال: ما أُحدثكم عن أحدٍ ممن تَعْرفون، وممن لا تَعرفون، إلا وأيوب ويُونس وابن عَوْن " وسُليمان " خير منهم.
قال الأصمعيُّ: وحدَّثني سلام بن أبي مُطِيع؟ قال: أيوب أفقههم: وسُليمان التّيمي أعبدُهم، ويُونس أشدُّهم " زُهدا " ، عند الدَّراهم، وابن عَوْن أَضْبطهم لنفسه في الكلام.
" الأصمعيّ قال؛ حدّثنا نافع بن أبي نُعَيم عن رَبيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألفٌ عن ألف خيرٌ من واحد عن واحد، " فلان عن فلان " ينتزع السنّة من أيديكم " .
وكان إبراهيمً النَّخعيّ في طَريق فلَقِيه الأعْمَش فانصرف معه، فقال له: يا إبراهيم، إنّ الناسَ إذا رأَوْنا قالوا: أعمش وأعور قال: وما عَليك أن يَأْثموا ونؤجر؛ قال: وما عليك أن يَسْلَموا ونَسْلم.
ورَوى سُفيان الثّوريّ عن واصل الأحدب قال: قلت لإبراهيم: إن سَعيد بن جُبير يقول: " كلُّ امرأة أتزوّجها طالق " ليس بشيء. فقال له إبراهيم: قُل له يَنْقع أستَه في الماء البارد. قال: فقُلت لسعيد ما أمرني به؛ فقال: قل له: إذا مررت بوادي النَّوْكى فاحلُل به.
وقال محمد بن مُنَاذِر:
ومَنْ يَبْغ الوَصاةَ فإنّ عندي ... وَصاةً للكُهول والشباب
خذوا عن مالكٍ وعن ابن عَوْن ... ولا تَرْوُوا أحاديتَ ابن دَاب
وقال آخر:
أيّها الطالبُ عِلْما ... آيت حَمّادَ بن زِيد
فاقتَبس حِلْما وعِلما ... ثم قَيِّده بقَيْد
وقيل لأبي نُواس: قد بعثوا في أبي عُبيدة والأصمعيّ ليَجْمعوا بينهما، قال: أما أبو عُبيدة فإن مَكّنوه من سِفْره قرأ عليهم أساطير الأولين، وأمّا الأصمعيّ فبُلبل في قَفَص يُطربهم بِصَفِيره.
وذَكروا عند المَنْصور محمدَ بن إسحاق وعيسى بنَ دَأْب، فقال؛ أمّا ابن إسحاق فأَعْلم الناس بالسِّيرة، وأمّا ابن دَأْب فإذا أخرجتَه عن داحس والغَبراء لم يُحسن شيئاً. وقال المأمون رحمه الله تعالى: مَن أراد لَهْواً بلا حَرَج، فليسمع كلامَ الحَسن الظالبيّ.
وسُئل العَتّابيّ عن الحَسن الطالبيّ فقال: إنّ جَلِيسه لِطيب عشرْته لأَطربُ من الإبل على الحُداء، ومن الثَّمِل على الغِنَاء.
؟

قولهم في حملة القرآن
وقال رجلٌ لإبراهيمَ النَّخعيّ: إني أَختِمُ القران كل ثلاث، قال: ليتك تَخْتِمه كلَّ ثلاثين وتَدْري أيَّ شيء تقرأ.
وقال الحارثُ الأعْوَر: حدًثني عِليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتاب اللهّ فيه خبر ما قَبْلكم ونَبَأ ما بعدكم وحُكْم ما بَينكم، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، هو الذي لا تَزيغ به الأهواء، ولا يَشْبع منه العُلماء، ولا يَخْلَقُ على كَثْرة الردّ، ولا تَنْقضي عجائبُه، هو الذي مَن تَركه من جبّار قَصَمه اللّه، ومَن ابتغى الهَدْى في غَيْره أضَلّه اللهّ، هو حَبْل الله المَتِين، والذِّكْر العَظِيم، والصرِّاط المُسْتقيم، خًذْها إليك يا أَعْوَر.
وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم، عجّل عليك الشيبُ يا رسولَ اللهّ؟ قال: شَيّبتني هُود وأَخواتُها.
وقال عبد الله بن مَسْعود: الحَوامِيم ديباج القُرآن.
وقال: إذا رَتعتُ رَتعتُ في رياض دَمِثة أتأنّق فيهن.
وقالت عائشةُ رضي اللهّ تعالى عنها: كانت تَنْزل علينا الآيةُ في عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنَحْفظ حلالَها وحَرَامها، وأَمْرها وزَجْرها، قبل أن نَحْفظها.

وقال صلى الله عليه وسلم: سيكون في أمّتي قومٌ يَقرأون القرآن لا يجاوز تَراقِيَهم، يَمْرقون من الدين كما يَمْرُقُ السهمُ من الرميّة، هم شرُّ الخَلْقِ والخَلِيقة.
وقال: إن الزَّبانية لأسْرع إلى فُسّاق حَمَلة القرآن منهم إلى عَبَدَة الأوْثان؛ فيَشْكون إلى ربّهم، فيقول: ليس مَن عَلِمٍ كمَن لم يَعْلم.
وقال الحسن: حَمَلة القرآن ثلاثة نفر: رجلٌ اتخذه بضاعةً يَنْقُله من مِصْر إلى مصر يَطْلُب به ما عند الناس، ورجل حَفِظ حُروفه، وضيّع حُدُوده، واستدَرّ به الوُلاة، واستطال به على أهل بلده، وقد كثُر هذا الضَرب في حَملة القرآن، لا كَثّرهم الله عزَّ وجلَّ، ورجُل قرأ القرآن، فوضع دواءه على داء قَلبه، فسَهِر ليلَته، وهَمَلت عَيْناه، وتَسَرْبل الخُشوعَ، وارتدى الوَقَار، واستَشعر الحُزن، وواللّه لهذا الضَّرب من حملة القران أقلّ من الكِبْريت الأحمر، بهم يَسْقي الله الغَيْث، ويُنزِّل النَصر، ويَدْفع البَلاء.

العقل
ٍوقال سَحْبان وائل: العَقْل بالتَّجارب، لأنَّ عَقْل الغَرِيزة سُلَّم إلى عَقْل التجربة.
ولذلك قال عليُّ بن أبي طالب رِضْوانُ الله عليه: رأي الشيخ خير من مَشْهد الغُلام.
وعلى العاقل أنْ يكون عالماً بأهل زمانه " مالِكاً للسانه " مُقْبِلاً على شانه.
وقال الحسن البَصْريّ: لسانُ العاقل من وَراء قَلْبه، فإذا أراد الكلامَ تفكّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت. وقلب الأحمق من وراء لسانه فإذا أراد أن يقول قال، " فإنَّ كان له سَكَت، وإن كان عليه قال " .
وقال محمد بن الغاز: دخل رجل على سُليمان بن عبد الملك، فتكلَم عنده بكلام أعجب سُليمانَ، فأراد أن يخْتبره لينظر أعقلُه على قَدْر كلامه أم لا، فوجده مَضْعوفاً فقال: فضل العَقل على المنطِق حِكمة، وفَضْل المنطِق على العقْل هجنة، وخير الأمور ما صدقت بعضها بعضاً، وأنشد:
وما المَرْءِ ألا الأصْغرانِ لسانُه ... ومَعْقوله والجسْم خَلْق مُصورُ
فإنْ تَمر منه ما يَرُوق فربّما ... أمر مَذاقُ العَود والعُودُ أخْضر
ومن أحْسن ما قيل في هذا المعنى قولُ زهَير:
وكائن تَرَى من صامتٍ لك مُعْجِب ... زيادتُه أو نَقْصُه في التكلُّم
لسانُ الفَتى نِصْف فُؤاده ... فلم يَبْق إلاِّ صورةُ اللحْم والدَّم
وقال عليُ رضي الله عنه: العقْل في الدماغ، والضحَك في الكَبد، والرَّأْفة في الطحال، والصَّوت في الرئة.
وسئِل المُغيرة بن شعْبة عن عُمَر بن الخطاب رضوان الله عليه فقال: كان واللّه أفضلَ من أن يَخدع، وأعقلَ من أن يُخدع، وهو القائل: لستُ بِخَبٍّ والِخَبُّ لا يَخدعني.
وقال زياد: ليس العاقلُ الذي إذا وَقَع في الأمْر احتال له، ولكنّ العاقل يَحْتال للأمر حتى لا يقع فيه.
وقيل لعَمْرو بن العاص: ما العَقْل؟ فقال: الإصابةُ بالظَّن، ومَعْرفة ما يكون بما قد كان.
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: مَنْ لم يَنْفعه ظنّه لم ينفعه يَقِينه.
وقال عليُ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذَكَر ابن عبِّاس رضي الله عنهما فقال: لقد كَان ينظُر إلى الغَيْب من ستر ْرقيق.
وقالوا: العاقل فَطِن مُتغافل.
وقال مُعاوية: العَقْل مِكيال ثُلُثه فِطْنة وثلثاه تغافل.
وقال المُغِيرة بن شُعْبة لعُمَر بن الخطاب رضي الله عنه إذ عَزَله عن كتابة أبي مُوسى: أعَن عَجْز عَزَلْتَني أم عن خِيانة؟ فقال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرِهْت أن أحمل على العامة فَضْلَ عقلك.
وقال مُعاوية لعَمْرو بن العاص: ما بَلَغ من عَقْلك؟ قال: ما دخلتُ في شيء قَط إلا خَرجتُ منه؟ فقال مُعاوية: لكنّي ما دخلتُ في شيء قطُ أريد الخُرُوجَ منه.
وقال الأصمعيُ: ما سَمِعتً الحسن بنَ سهل مُذْ صار في مَرْتبة الوزارة يتَمثّل إلاّ بهذين البيتين:
وما بَقيتْ من اللَّذّات إلا ... مًحادثةُ الرِّجال ذوي العُقول
وقد كَانوا إذا ذُكِرُوا قليلاً ... فقد صارُوا أقلَّ من القَلِيل
وقال محمدُ بنُ عبد الله بن طاهر، " ويرْوي لمحمود الورّاق " :
لَعَمْرك ما بالعَقْل يكتسب الغِنَى ... ولا باكتِسَاب المال يُكتَسَب العقلُ

وكَمْ من قَليل المال يُحمد فَضْله ... وآخرَ ذىِ مال وليس له فَضْل
وما سَبقَت من جاهل قطًّ نِعْمَة ... إلى أحدٍ إلا أضّرَ بها الجَهْل
وذو اللُّبّ إن لم يُعْطِ أحمدتَ عقلَه ... وإن هو أعطَى زانه القَوْلً والفِعْلُ
وقال محمد بنُ مُناذر:
وتَرى الناسَ كثيراً فإذا ... عُدَّ أهل العَقْل قلُّوا في العَدَدْ
لا يقلُّ المَرْء في القَصْد ولا ... يَعدم القِلَة مَنْ لم يقتصد
لا تعد ْشرّاً وعِد خيراً ولا ... تُخْلِف الوَعْدَ وعَجِّل ما تَعد
لا تَقلْ شِعْراً ولا تَهْمُمْ به ... وإذا ما قُلت شِعراً فأجد
ولآخر:
يُعْرَف عَقْل المَرْءِ في أربَع ... مشيته أولها والحَرَكْ
ودوْر عَيْنيه وألفاظه ... بعدُ عليهنّ يَدُورِ الفلكَ
ورُبَّما أَخْلفن إلاّ التي ... آخرُها منهنَ سُمين لك
هَذِي دَليلات على عَقْله ... والعقلُ في أركانه كاْلمَلِك
إِنْ صحَّ صحَ المرءُ من بعده ... ويهْلِك المرءُ إذا ما هَلك
فانظرُ إلى مَخْرج تَدْبِيره ... وعقْلِهِ ليس إلى ما ملك
فرُّبما خَلَّط أهلُ الحِجَا ... وقد يكون النَّوْك في ذي النُّسك
فإنْ إمام سالَ عن فاضل ... فادلُل على العاقل لا أمَّ لك
وكان هَوْذة بن عليّ الحَنفيّ يُجيز لَطِيمة كِسْرِى في كلِّ عام - واللِّطِيمة عِير تَحْمِل الطِّيبَ والبَزّ - فوفَد على كِسرى، فسأله عن بَنِيه، فسمَّى له عدداً؛ فقال: أيهم أحب إليك؟ قال: الصَغير حتى يَكْبُر، والغائبُ حتى يرْجِع، والمَريض حتى يُفيق؟ فقال له: ما غِذاؤك في بلدك؟ قال: الخُبز؛ فقال كسرى لجلسائه: هذا عَقْل الخبز، يُفضِّله عَلَى عُقول أهل البَوادي الذين غِذَاؤهم اللَّبن والتمر.
وهوذة بن علي الحنفي هو الذي يقول فيه أعشى بكر:
مَنْ يرَ هَوْذة يَسْجُد غير مُتَّئِب ... إذا تَعصَب فوق التاجِ أو وَضَعَا
له أكاليلُ بالياقوت فَضَّلًها ... صَوَاغُها لا تَرَى عيباَ ولا طَبعا
وقال أبو عُبَيدة عن أبي عمرو: لم يَتَتوّج مَعدِّيّ قطُّ، وإنما كانت التِّيجان لليمن، فسألتُه عن هوذة بن عليّ الحنفي، فقال: إنما كانت خَرَزات تُنظم له.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هَوْذة بن عليّ يدْعوه إلى الإسلام كما كتب إلى الملوك.
وفي بعض الحديث: إنَّ الله عزَّ وجلّ لما خلق العقل، قال: أقْبِل، فأقْبل، ثم قال له: أَدْبِر، فأدبر. فقال: وعزَّتي وجَلالي ما خلقتُ خَلْقاً أحبَّ إليَّ منك ولا وَضَعتُك إلا في أحَبِّ الْخَلْق إلي.
وبالعقل أَدْرك الناس معرفةَ الله عزَّ وجلّ، ولا يشُكّ فيه أحدٌ من أهل العقول، يقول الله عز وجلّ في جميع الأُمم: " وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ " . وقال أهلُ التفسير في قول الله " قسَم لِذِي حِجْر " قالوا: لذي عَقل.
وقالوا: ظنُّ العاقل كهانة.
وقال الحسنُ البَصْريّ: لو كان للناس كلِّهم عُقول خَرِبت الدنيا.
وقال الشاعر:
يُعَد رفيِع القَوم مَن كَان عاقلاً ... وإن لم يكُن في قَوْمه بحَسيبِ
وإِنْ حل أرضاَ عاش فيها بعَقله ... وما عاقلٌ في بلده بغَريب
وقالوا: العاقل يَقِي مالَه بسُلْطانه، ونَفْسَه بماله، ودينه بنَفْسه.
وقال الأحْنف بن قيْس؛ أنا للعاقل المدبر أرْجى منِّي للأحْمق المقبل.
" قال: ولما أهْبط الله عز وجلّ آدمَ عليه السلام إلى الأرض، أتاه جبْريل عليه السلاٍم، فقال له: يا آدم، إنّ الله عزّ وجلّ قد حَبَاك بثلاث خصالٍ لتختارَ منها واحدة وتَتَخَلى عن اثنتين، قال: وما هنَّ؟ قال: الحياء والدِّين والعَقْل. قال آدم: اللّهم إنَي اخترت العقلَ. فقال جبريلُ عليه السلامُ للحياء والدين: ارتفِعَا؟ قالا: لن نَرتفع؟ قال جبريلُ عليه السلام: أعَصَيتُما؟ قالا: لا، ولكنا أمرْنا أن لا نُفارق العقلَ حيث كان.

وقال صلى الله عليه وسلم: لا تَقْتدوا بمن ليست له عُقْدة.
قال: وما خَلق الله خَلقاً أحبَّ إليه من العقل.
وكان يقال: العقل ضربان: عَقْل الطبيعة وعقل التَّجْربة، وكلاهما يُحتاج إليه ويؤدَي إلى المنفعة.
وكَان يُقال: لا يكون أحدٌ أحب إليك من وَزِيرٍ صالح وافِر العقل كامِل الأدب حَنيك السن بَصير بالأمور، فإذا ظَفِرْتَ به فلا تُباعِدْه، فإنَّ العاقلَ ليس يمانِعك نَصِيحَته وإن جَفَتْ.
وكان يقال: غَرِيزة عقل لا يَضِيعِ معها عَمَل.
وكان يقال: أجَل الأشياء أصلاَ وأحْلاها ثمرةً، صالحُ الأعمال، وحُسن الأدب، وعقل مُسْتَعمل.
وكان يقال: التجاربُ ليس لها غاية والعاقلُ منها في الزَيادة. ومما يُؤكَد هذا قولُ الشاعر:
ألم تَرَ أنَ العقلَ زينٌ لأهْله ... وأنَ كمالَ العقْل طولُ التجاربِ
ومكتوب في الْحِكمة: إنَّ العاقلَ لا يغترَّْ بمودَّة الكَذوب ولا يثِق بنَصيحته ويُقال: مَن فاته العقلُ والفُتوَّة فرَأْسُ مالِه الجَهْلُ.
ويُقال: من عَير الناسَ الشيءَ ورَضِيه لنفْسه فذاك الأحْمق نفسُه.
وكان يقال: العاقلٍ دائمُ المودَة، والأحمق سَريع القطِيعة.
وكان يقال: صَديق كل امرئ عقله وعدوُه جَهْله.
وكان يقال: المعْجبِ لَحُوح والعاقلُ منه في مَؤُونهَ. وأمَا العُجْب فإنه الجَهْل والكِبر.
وقيل: أعلى الناس بالعَفْو أقدرُهم على العُقوبة، وأنْقص الناس عقلاً مَن ظَلم من هو دونه.
ويقال: ما شيء بأحسنَ من عَقْل زانه حِلْم، وحِلْم زانه عِلم، وعِلم زانه صِدْق، وصِدْق زانه عَمَل، وعَمَل زانه رِفْق.
وكان عمر بن الخطّاب رضىِ الله عنه يقول: ليس العاقلُ من عَرف الخير من الشر، بل العاقلُ مَن عرف " خَير " الشرّين ويقال: عدوٌ عاقل أحب إلي من صديقٍ جاهل.
وكان يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم واسترسل إليه، وإياك وفراقه إذا كان كريماً، ولا عليك أن تصحب العاقل وإن كان غير محمود الكرم، لكن احترس من شين أخلاقه وانتفع بعقله، ولا تدع مواصلة الكريم وإن لم تحمد عقله، وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك، وفر الفرار كله من الأحمق اللئيم.
وكان يقال: قطيعة الأحمق مثل صلة العاقل.
وقال الحسن: ما أودع الله تعالى أمرأ عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما.
وأتى رجلٌ من بني مجاشع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست أفضل قومي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك تقي فلك دينٌ، وإن كان لك مالٌ فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة.
قال: تفاخر صفوان بن أمية مع رجل، فقال صفوان: أنا صفوان بن أمية، بخٍ بخٍ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ويلك! إن كان لك دين فإن لك حسباً، وإن كان لك عقل فإن لك أصلاً، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإلا فأنت شرٌ من حمار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
وقال: وكل الله عز وجل الحرمان بالعقل، ووكل الرزق بالجهل، ليعتبر العاقل فيعلم أن ليس له في الرزق حيلة.
وقال بزرجمهر: لا ينبغي للعاقل أن ينزل بلداً ليس فيه خمسة: سلطان قاهر، وقاضٍ عدل، وسق قائمة، ونهرٍ جارٍ، وطبيب عالم.
وقال أيضاً: العاقل لا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يسأل ما يخاف منعه، ولا يمتهن ما لا يستعين بالقدرة عليه.
سئل أعرابي: أي الأسباب أعون على تذكية العقل وأيها أعون على صلاح السيرة؟ فقال: أعونها على تذكية العقل التعلم، وأعونها على صلاح السيرة القناعة.
وسُئل عن أجود المواطن أن يُخْتبر فيه العقل، فقال: عند التّدْبير.
وسُئِل: هل يَعمل العاقلُ بغير الصَّواب؟ فقال: ما كلّ ما عُمِل بإذن العقل فهو صواب.
وسُئل: أيُّ الأشياء أدلُّ على عَقل العاقل؟ قال: حُسن التَّدْبير.
وسُئل: أي مَنافع العقل أعظم؟ قال: اجتنابُ الذّنوب.
وقال بُزُرْجَمهِر: أفْره ما يكونُ من الدّوابّ لا غِنى بها عن السَّوْط، وأَعفُّ مَن تكون منِ النساء لا غِنى بها عن الزًوْج، وأَعْقل من يكون من الرِّجال لا غِنى به عن مَشورة ذوِي الأَلباب.
سُئل أعرابيّ عن العقل متى يُعرف؟ قال: إذا نَهاك عقلُك عمّا لا يَنْبغي فأنت عاقل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: العَقْل نُور في القْلب نُفرِّق به بين الحقّ والباطل، وبالعَقْل

عُرِف الْحَلال والْحَرام، وعُرِفَت شَرائع الإسلام ومَواقع الأحكام، وجَعَله الله نُوراً في قُلوب عِبَاده يَهْديهم إلى هُدًى ويَصُدُّهم عن رَدى.
" ومِن جَلالة قَدْر العَقْل أنَّ اللهّ تعالى لم يُخاطب إلا ذَوي العُقول فقال عزَّ وجلّ: " إنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب " . وقال: " لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا " . أي عاقلا، وقال: " إِنّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لهُ قَلب " . أي لمن كان له عَقل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: العاقل يَحْلُم عمّن ظَلَم، ويَتواضع لمن هو دُونه، ويُسابق إلى البِرّ مَن فَوْقه. وإذا رأى بابَ بِرٍّ أنتهزه، وإذا عَرَضت له فِتْنة اعتَصم باللّه وتَنَكَّبَها.
وقال صلى الله عليه وسلم: قِوَام المَرْء عَقْلُه، ولا دينَ لمن لا عَقْل له.
وإذا كان العَقْل أشرَفَ أَعلاق النَّفس، وكان بقَدْر تمكُّنه فيها يكونُ سُمُوُّها لطَلَب الفضائل وعلوُّها لابتغاء المَنازل، كانت قِيمةُ كلّ امرىء عقلَه، وحِلْيَتُه التي يَحْسُن بها في أَعُين الناظرين فَضْلَه.
ولعَبْد اللهّ بن محمَّد:
تأَمَّل بعَيْنَيْكَ هذا الأنام ... وكُنْ بعضَ مَن صانه نُبْلُهُ
فحِليةُ كلَّ فتىً فَضْلُه ... وقِيمة كلَّ آمرىءٍ عقْله
ولا تتكل في طِلاب العُلا ... على نَسَب ثابتٍ أَصلُه
فما من فتىً زانَه أهلُه ... بشيءٍ وخاًلَفه فِعْلُه
ويُقال: العَقْلُ إدْراك الأشياء على حَقائقها، فَمَن أدرَك شيئاً على حقيقته فقد كَمُل عَقْله.
وقيل: العقْل مِرآه الرَّجُل.
أَخذه بعضُ الشعراء فقال:
عقْل هذا المَرْء مرآ ... ة تَرَى فيها فِعالَه
فإذا كانَ عليها ... صَدَأ فَهْوَ جَهالَه
وإذا أَخْلَصه الل ... ه صِقالاً وصَفَا له
فَهْي تُعْطِي كُلَّ حيٍّ ... ناظرٍ فيها مِثَاله
ولآخر:
لا تَراني أَبداً أُك ... رِمُ ذَا المالَ لمالهِ
لا ولا تزْرِي بمَنْ يع ... قل عِنْدِي سُوءُ حالهِ
إنما أَقضي عَلَى ذَا ... كَ وهذا بِفِعَاله
أنا كاْلمِرآةِ أَلْقَى ... كل وجهٍ بِمثاله
كيفما قَلَّبني الَدهرُ ... يَجدْني مِنْ رِجَاله
ولبعضهم:
إذا لم يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ فإنَّه ... وإن كان ذا نُبْلٍ على النَّاس هَين
وإن كان ذا عقْل أُجِلَّ لعَقْله ... وأَفضلُ عَقْل عقْلُ مَنْ يتَدَيَّن
وقال آخر:
إذا كُنتَ ذا عقْل ولم تَكُ ذا غنى ... فأنت كذِي رَحْل وليس له بَغْلُ
وإن كُنت ذا مال ولم تَكُ عاقلا ... فأَنت كذى بَغْلٍ وليس له رَحْل
ويُقال: إنّ العَقْل عينْ القَلْب، فإذا لم يَكُن للمرء عقْل كان قَلْبه أكمه.
وقال صالح بنُ جَنَاح:
ألاَ إنَّ عقْل المرء عَيْنَا فُؤادِه ... وإنْ لم يكن عقْل فلا يُبْصِر القَلبُ
وقال بعضُ الفلاسفة: الهَوَى مصاد العَقْل.
ولعبد الله بن ميحمد:
ثلاث مَنْ كنَّ فيه حَوَى الفضلَ وإن كان راغباً عن سِواها: صِحَّة العَقْل، والتَّمسُّك بالعَدْل، وتَنزيه نَفسه عن هَوَاها.
ولمحمد بن الْحَسن بن دُريد:
وآفةُ العقل الهَوَى فمنْ عَلا ... على هَوَاهُ عقلُه فَقد نَجَا
وقال بعضُ الحُكماء: ما عبد الله بشيء أحبَّ إليه من العقل، وما عُصي بشيءِ أحبَّ إليه من السَّتْر.
وقال مَسْلمة بن عبد الملك: ما قرأتُ كتاباً قطُّ لأحد إلا عرفتُ عقله منه.
وقال يحيى بن خالد: ثلاثةُ أشياء تدلُّ على عُقول أرْبابها: الكتاب يدُل على عقل كاتبه، والرسولُ يَدُل على عقل مُرْسِله، والهديَّةُ تدل على عقل مُهديها. واستعمل عمرُ بن عبدِ العزيز رجلاً، فقيل له: إنه حَدِيث السنّ ولا نراه يَضْبط عملَك؛ فأخذ العهدَ منه وقال: ما أُراك تَضبِط عملَك لحداثتك؛ فقال الفَتى:
وليس يَزيد المرءَ جهلاً ولا عَمىً ... إذا كان ذا عَقْل حداثةُ سِنَهِ
فقال عمرُ: صدق، ورَدَّ عليه عهدَه.
وقال جَثّامة بن قَيْس يَصِف عاقلاً:

بَصِيرٌ بأَعْقاب الأمور كأئما ... تُخاطِبه من كلّ أمرٍ عواقبُهُ
ولغيره في المعنى:
بَصِير بأَعقاب الأمُور كأنّما ... يَرَى بصَواب الرأْي ما هو واقعُ
وقال شَبِيبُ بن شَيْبة لخالد بنِ صَفْوان: إني لأَعْرف أمراً لا يتلاقى فيه اثنان إلا وَجب النُّجح بينهما؛ قال له خالد: ما هو؟ قال العقل، فإن العاقل لا يسأل إلا ما يجوز، ولا يردّ عما يُمكن. فقال له خالد: نعَيتَ إليَّ نفسي، إنّا أهل بَيْت لا يموتُ منّا أحدٌ حتى يرى خَلفه.
وقال عبدُ اللهّ بن الحُسن لابنه محمد، يا بني احذَر الجاهل وإن كان لك ناصحاً، كما تَحْذر العاقلَ إذا كان لك عدوًا؟ ويُوشِك الجاهلُ أن توَرطَك مَشورته في بعض اغترارك فيَسْبِقَ إليك مكْر العاقل، وإِيَّاكَ ومُعاداة الرّجال، فإنك لا تَعْلَمَنّ منها مَكْرَ حَلِيم عاقل، أو مُعاندة جاهل.
وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلواتُ الله عليه: لا مالَ أعودُ من عقل، ولا فَقر أضرُّ من جَهل.
ويُقال: لا مرُوءة لمن لا عَقلَ له.
وقال بعضُ الحًكماء: لو استغنى أحدٌ عن الأدب لاستَغْنى عنه العاقل، ولا يَنتَفع بالأدب مَن لا عَقل له، كما لا ينتَفع بالرّياضة إلا النِّجيب.
وكان يُقال: بالعقل تُنَال لذَّة الدنيا، لأنّ العاقل لا يَسْعَى إلا في ثلاث: مَزِية لمَعاش، أو مَنْفعة لمَعاد، أو لذة في غير مُحرم.
ولبعضهم:
إذا أحببتَ أقواماً فلاصِقْ ... بأهْل العَقل منهم والحَيَاء
فإنّ العقلَ ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء
لمحمّد بن يزيد:
وأفضَل قَسْم الله للمَرْء عقلًه ... وليس منَ الخَيراتِ شيءٌ يُقارِبهُ
إذا أكمل الرحْمن للمرء عقلَه ... فقد كَمُلت أخلاقُه ومآربُه
يَعِيش الفتَى بالعقلِ في النَاس إنّه ... على العقل يَجْري عِلْمهُ وتجَاربهً
ومَنْ كان غَلاَّباَ بعقل ونَجْدَةٍ ... فذُو الجَدّ في أَمْرِ المَعِيشة غالبِه
فَزَينُ الفتَى في النًاس صِحَّةُ عقله ... وإن كان مَحْصوراً عليه مَكاسِبه
وشَين الفَتى في النَّاس قِلّة عقله ... وإن كَرُمت أعراقهُ ومَناسِبهُ
ولبَعْضهم:
العقْلُ يأمر بالعَفاف وبالتُّقَى ... وإليه يَأْوِي الحِلْمُ حين يؤولُ
فإن استطعتَ فخُذْ بفَضلك فَضْلَه ... إنَّ العُقول يُرى لها تَفضيل
ولبعضهم:
إذا جمُع الآفاتُ فالبُخْل شَرها ... وشرَ منَ البُخل المواعيدُ والمَطلُ
ولا خَيرَ في عقل إذا لم يَكًن غنىً ... ولا خَيْر في غِمْدٍ إذا لم يكًن نَصْل
وإن كان للإنسان عقل فعَقْلُه ... هُو النَصْل والإنسانُ مِن بعده فَضْل
ولبَعضهم:
يُمَثَل ذو العقل في نَفْسه ... مصائبَه قبْل أن تنْزِلا
فإن نزلت بَغْتةً لم ترعه ... لِما كان في نفسه مَثَلا
رأى الهمَّ يُفْضي إلى آخِرٍ ... فَصيَّرَ آخرَه أوَّلا
" وذو الْجَهْل يَأمن أيامَه ... ويَنسى مَصارِع مَن قد خَلا "

الحكمة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخلصَ عبدٌ العملَ لله أربعين يوماً إلا ظهرت يَنابيعُ الحِكْمة من قَلْبه على لسانه.
وقال عليه الصلاةُ والسلام: الحِكْمة ضالّة المُؤْمن يأخذها ممَن سَمِعها ولا يبالي من أيَ وعاء خَرجت.
وقال عليه الصلاةُ والسلام: لا تَضَعوا الحِكْمة عِنْدَ غير أهلها فتَظلِمُوها، ولا تَمْنعوها أهلَها فَتَظْلِمُوهم.
وقال الحُكماء: لا يطلب الرجلُ حِكْمة إلا بحكمة عنده.
وقالوا: إذا وَجَدتم الحِكْمة مَطْرُوحة على السكك فخُذوها.
وفي الحديث: خُذوا الحِكْمة ولو من أَلْسِنة المُشْركين.
وقال زياد: أيها الناس لا يَمْنعكم سوءُ ما تَعْلمون منَّا أن تنَنْتفعوا بأحْسَنِ ما تسمعون منّا، فإِنَّ الشاعر يقول:
اعْمل بعِلْمي وإن قَصَّرْت في عَمَلي ... يَنْفَعْك قولِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي
نوادر من الحكمة

قيل لقُس بن ساعدة: ما أفضلُ المَعْرِفة؟ قال معْرفة الرجل نَفْسَه؛ قِيل له: فما أَفضلُ العِلْم؟ قال: وقوف المرء عند عِلْمه؛ قِيل له: فما أفضلُ المروءة؟ قال: استبقاءُ الرجل ماء وَجْهه.
وقال الحسنُ: التّقْدِير نِصْف الكَسْب، والتًّؤدة نِصف العقل، وحُسْن طَلب الحاجة نِصْف العِلْم.
وقالوا: لا عقلَ كالتَّدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَب كحُسْن الخُلق، ولا غِنى كرِضا عن اللّه، وأَحقُّ ما صبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سَبيل.
وقالوا: أفضلُ البرِّ الرّحمة، ورَأْس المودّة الاسترسالُ، ورَأس العُقوق مُكاتمة الأَدْنين، ورَأْس العَقْل الإصابة بالظنّ.
وقالوا: التفكًر نور، والغَفلة ظُلْمة، والجهالة ضَلالة، والعِلم حَياة، والأوّل سابق، والآخِر لاحِق، والسعِيد من وُعِظ بغَيْره.
حَدَّث أبو حاتم قالِ: حدّثني أبو عُبيدة قال: حدّثني غيرُ واحد من هَوازِنَ من أولي العِلم، وبعضُهم قد أدرك أبوه الجاهلية " أو جدُّه " ، قالوا: اجتمع عامر بن الظرِب العَدْواني، وحُممَة بن رافعِ الدَّوْسيّ - ويَزعمُ النُّساب أنّ ليلى بنت الظَّرب أُمُّ دوس، وزينبَ بنت الظرب أُمُ ثقيف " وهو قَيْسي " - عند مَلك من مُلوك حِمْير، فقال: تَساءَ لا حتى أَسْمع ما تقولان. فقال عامر لحُممة: أين تُحِب أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرَّثْية العَدِيم، وعند ذي الخلّة الكَريم، والمُعْسِر الغَريم، والمُسْتَضْعف الهضِيم. قال: مَن أحقُّ الناس بالمقْت؟ قال: الفَقِير المُختال، والضعيف الصوال، والعَييّ القوّال، قال: فمَن أَحق الناس بالمنّع؟ قال: الحَرِيص الكاند، والمُستميد الحاسد، والمُلْحِف الواجِد. قال: فمن أجدرُ الناس بالصَنيعة؟ قال: من إذا أُعطى شَكر، وإذا مُنِع عَذر، وإذا مُطِل صَبر، وإذا قدُم العهدُ ذكَر قال: من أكرمُ الناس عِشْرة؟ قال: من إذا قَرُب مَنَح، " وإذا بَعُد مدح " ، وإذا ظُلم صَفَح، وإذا ضُويق سَمح قال: مَن ألأم الناس؟ قال: مَن إذَا سأل خَضع، وإذا سُئل مَنع، وإذا مَلك كَنَع، ظاهِره جَشع، وباطنه طَبع. قال: فمن أحْلم الناس؟ قال: من عَفا إذا قَدَر، وأجملَ إذا انتصر، ولم تُطْغِه عِزَّة الظَّفر. قال: فمن أحزمُ الناس؟ قال: مَن لا أَخذ رقابَ الأمور بيدَيه، وجَعل العواقبَ نُصْب عَيْنَيه، ونَبذ التهيب دَبْر أُذنيه. قال: فمن أَخرقُ الناس؟ قال: مَن رَكِب الْخِطار، واعتَسف العِثَار، وأَسرعَ في البِدَار قبلَ الاقتِدار. قال: مَن أَجوَدُ الناس؟ قال: مَن بذل المجهود، ولم يأس على المعهود. قال: مَن أَبلغ الناس؟ قال: مَن جَلَّى المعنى المزِيز بالّلفظ الوجيز، وطَبَّق المفْصل قبل التَّحزيز. قال: من أنعم الناس عَيشاً؟ قال: من تحلَّى بالعَفاف، ورَضي بالكَفاف، وتجاوز ما يَخاف إلى مالا يَخاف. قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النِّعم، وسَخِط على القِسَم، واستَشعر النَّدَم، على فوْت ما لم يُحتم. قال: من أغنى الناس؟ قال: من آستَشعر الياس، وأظْهر التَّجمُّل للناس، واستكثر قليلَ النِّعم، ولمِ يَسْخط على القِسَم. قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صَمت فادًكر، ونَظر فاعتبر، وَوُعِظ فازْدَجر. قال: مَن أَجْهل الناس؟ قال: من رأى الخُرْق مَغْنما، والتَّجاوزَ مَغْرما.
وقال أبو عُبيدة: الخَلة: الحاجة، والخُلَّة: الصداقة. والكاند: الذي يَكفر النِّعمة، والكنود: الكفور، والمُسْتَمِيد: مثل المُسْتَمِير، وهو المُسْتعطِي. ومنه اشتقاق المائدة. لأنها تًمادُ. وكَنع: تَقَبَّض؟ يُقال منه: تَكَنًع جِلْدُه، إذا تَقَبَّض. يريد أنه مُمْسك بخَيل. والجَشَع: أسوأ الحِرْص. والطَّبع " الدَنس. والاعتساف: رُكوب الطريق على غير هِداية، وركوبُ الأمر على غير مَعرفة. والمَزيز: من قولهم: هذا أمزّ من هذا، أي أفضل منه وأزيد. والمُطبِّق من السيوف: الذي يُصيب المفاصل لا يجاوزها.
وقال عمرو بن العاص: ثلاثٌ لا أناة فيهنّ: المُبادرة بالعَمل الصالح، ودَفْن الميِّت، وتَزْويج الكُفْء.
وقالوا: ثلاثة لا يُندم على ما سَلف إليهم: الله عزَ وجَلّ فيما عُمل له، والمَوْلى الشَّكُور فيما أُسْدى إليه، والأرضُ الكَريمة فيما بُذر فيها.
وقالوا: ثلاثة لا بقاء لها: ظِلُّ الغَمام، وصُحْبة الأشرْار، والثًناء الكاذب.

وقالوا: ثلاثة لا تكون إلاّ في ثلاثة: الغِنَى في النَّفس، والشَّرف في التَّواضع، والكرم في التَّقوى.
وقالوا ثلاثة لا تًعرف إلا عند ثلاثة ذو البَأس لا يُعرف إلاّ عند اللقاء، وذو الأمانة لا يُعرف إلا عند الأخذ والعَطاء. والإخوان لا يُعرفون إلا عند النَّوائب.
وقالوا: مَن طلب ثلاثة لم يَسْلم من ثلاثة: مَن طلب المالَ بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس، ومَن طلب الدِّين بالفَلْسفة لم يَسلم من الزًندقة، ومَن طلب الفِقه بغرائب الحديث لم يَسلم من الكَذِب.
وقالوا: عليكم بثلاث: جالِسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العُلماء.
وقال عمرُ بن الخطّاب رضوان الله عليه: أخوفُ ما أخاف عليكم شُحٌّ مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه.
واجتمعت عُلماء العَرب والعجم على أربع كلمات: لا تحمل على ظَنِّك ما لا تُطيق، ولا تَعْمل عملاً لا يَنْفعك، ولا تَغْترّ بامرأة، ولا تَثِق بمال وإن كثر.
وقال الرِّياحي فيِ خُطبته باْلمِرْبَد: يا بَني رِياح، لا تَحْقِرُوا صغيراً تأخذون عنه، فإني أخذتُ من الثعلب رَوَغانه، ومن القِرْدَ حِكايته، ومن السِّنَّوْر ضَرَعه، ومن الكلب نُصرَته. ومن ابن آوَى حذَره؛ ولقد تعلَمت من القَمر سَيْرَ اللَّيل، ومن الشَّمس ظهور الحيِن بعد الحين.
وقالوا: ابن آدم هو العالَم الكَبير الذي جَمع الله فيه العالَم كلّه، فكان فيه بَسالة اللَّيث، وصَبْر الْحِمار، وحِرْص الخنزير، وحَذَر الغُراب، ورَوَغان الثّعلب، وضَرَع السِّنَّور، وحِكاية القِرْد، وجُبْن الصِّفْرِد.
ولما قَتَل كِسْري بُزُرْجمهرَ وجد في مِنْطقتِهِ مكْتوباً: إذا كان الغدرْ في الناس طِبَاعاً فالثقة بالناس عَجْز، وإذا كان القَدَر حقَّاً فالْحِرْص باطل، وإذا كان المَوْت راصداً فالطمأنينة حُمق.
وقال أبو عمرو بن العلاء: خُذ الخَير من أَهْله، ودَع الشرَّ لأهله.
وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: لا تَنْهَكوا وَجْه الأرض فإن شَحْمتها في وَجْهها.
وقال: بِع الحَيَوان أحسنَ ما يكون في عَيْنك.
وقال: فَرِّقوا بين المَنايا، واجعلوا من الرأس رأسين، ولا تَلبثوا بِدَرا مَعْجزة.
وقالوا: إذا قَدُمت المُصيبة تُرِكت التَّعزية، وإذا قَدُم الإخاء سَمُجَ الثَّناء.
وفي كتاب للهند: يَنْبغي للعاقل أن يَدَع التماسَ ما لا سَبِيل إليه، لئلاّ يُعدّ جاهلاً، كرَجُل أراد أن يُجري السفنَ في البرّ والعَجلَ في البَحْر، وذلك ما لا سَبيلَ إليه.
وقالوا: إحسان المُسيء أن يَكُفَّ عنك أذاه، وإساءةُ المُحسن أن يَمْنعك جَدْواه.
وقال الحسنُ البَصْريّ: اقدَعوا هذه النفوسَ فإنها طُلعة، وحادِثوها بالذِّكر فإنها سريعة الدُّثور، فإنكم إلاّ تَقْدعوها تَنزع بكم إلى شرِّ غاية.
يقول: حادثوها بالحكمة كما يُحادث السَّيف بالصِّقال، فإنها سَريعة الدُّثور يريد الصَّدأ الذي يَعْرض للسيف. واقدَعوها: من قدعتَ أنف الجمل، إذا دفعتَه. فإنها طُلَعة، يريد مُتَطلّعة إلى الأشياء.
قال أرْدشير بن بابك: إن للآذان مَجَّة، وللقلوب مَلَلا، ففَرِّقوا بين الحكمتين يَكُنْ ذلك اسْتِجماماً.

البلاغة وصفتها
قيل لعمرو بن عُبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بَلَّغك الجنَّة، وعَدَل بِك عن النار، قال السائل: ليس هذا أُريد قال: فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك، وعواقبَ غَيِّك؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع؛ ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم يحسن أن يسأل، ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول: قال: ليس هذا أُريد؛ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّا معشر " النبيين " بِكَاء - أي قليلو الكلام، وهو جمع بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله؛ قال السائل: ليس هذا أريد؟ قال: فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام؛ قال: نعم؛ قال: إنك إن أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين، وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين، وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ، ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة، كُنت قد أُوتيت فَصْلَ الخِطاب.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: مَعْرفة الوَصْل من الفَصل.

وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحَذْف الفُضُول، وتَقْرِيب البعيد.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع، ولا يُؤتى السّامع من سُوء بيَان القائل.
وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تُجيب فلا تُبطئ، وتُصيب فلا تُخْطئ. ثمّ قال: أَقِلْني يا أمير المؤمنين؛ قال: قد أَقَلْتكَ. قال: لا تُبْطئ ولا تُخطئ.
قال أبو حاتم: استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال، وتَكلّم بأوجزَ منه.
وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال، اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان، وكَثْرة الهَذَيان، ولكنها بإصابَة المَعْنى، والقَصْدِ إلى الحُجَّة. فقال له: أبا صَفْوان، ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة.
وتكلّم رَبيعة الرَّأي يوماً فأكثر " وأُعجب بالذي كان منه " وإلى جَنْبه أعرابيٌّ، فالتفتَ إليه، فقال: ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ؟ قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصواب، قال: فما تَعُدّون العِيّ؟ قال: ما كًنت فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلْقمه حَجراً.
ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم: يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل. وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام، ويُصيب الفُصول والمَعاني، بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله.
ومثله قولُهم: يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ، مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب. وآلْهِناء؛ القطران. والنُّقب: الجَرَب.
وقولهم: قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة، وأصاب عَيْن القِرْطاس. كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه.
" قيل للعَتّابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمَض من الحقّ، وتَصْوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لأعرابيّ: مَن أَبلغ الناس؟ قال: أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ فقال: نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر، وحُسْن التأليف له إذا طال.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ فقال: قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غَيْر عَجْز، والإطناب في غَيْر خَطَل.
وقيل لغيره: ما البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصَواب مع سُرعة جواب.
قيل لليُونانيّ: ما البلاغة؟ قال: تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقيل لبعضهم: مَن أبلغ الناس؟ قال: مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز.
وكان يقال: رسولُ الرجل مكان رَأْيه، وكِتَابه مكان عَقله.
وقال جَعفر بن محمد عليه السلام: سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه.
وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال: مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظاً كثيراً، فهوِ بَليغ.
وقالوا: البلاغة ما حَسُن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نَظْمه.
وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حَسناً عند استماعه، مُوجزاً عند بَدِيهته.
وقيل: البلاغة: لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير.
وقال بعضُهم: إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ، وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان: ولبعضهم:
خَيْر الكلامٍ قَليلُ ... على كَثير دَلِيلُ
والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ ... يَحويه لفظٌ طَويلُ
وقال بعضُ الكتَّاب: البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل. وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى.
قال الشاعر:
وإذا نَطقتَ فلا تكًن أَشِراً ... وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا
وقال آخر:
وما أحدٌ يكون له مَقالٌ ... فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ
وقال:
الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ ... والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول
والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته ... بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول
وقال:
إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه ... فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا
وجدتَ له على اللّهوات بَرْداً ... كبَرْد الماء حين صَفا وطابا
وقال آخر:
ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو ... لَ بطُول الإسهاب والإكثار
إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع ... نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ

وجوه البلاغة
البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه: تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة، وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان، ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه، ومنه قولُهم: لكل مَقام مَقال، ولكل كلام جَواب، ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ. فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة. وأمّا الدِّلالة: فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت، وشَواهد قائمات، كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة، ويَشهد لك بالرُّبوبية.
وقال آخر: سَل الأرضِ " فقُل " : مَن شَقَّ أنهارَكِ، وغَرَس أشجارَكِ، وجَنَى ثمارك؛ فإن لم تُجِبك إخباراَ، أجابتك اعتباراً.
وقال الشاعر:
لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيراً ... فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا
فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه ... وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا
وقال آَخر: نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح:
فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ... ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ
يُرِيد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك. وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ.
وقال حَبِيب.
الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ ... بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ
وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه، وطارفِ الكلام وتَليده، أكثر من أن يُحيط به وَصْف، أو يأتَي من ورائه نعْت.
وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه، بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة، فهو بَليغ. قالوا: قد فَهمنا الإعادة والحُبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال. أن يقول عند مَقاطع كلامه: اْسمع منِّي، وافهم عنِّي، أو يمسح عُثْنونه، أو يَفْتِل أصابعه، أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب، أو يتساءل من غير سُعلة، أو يَنبهر في كلامه.
وقال الشاعر:
مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ... ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع
وهذَا كلُّه من العيّ.
وقال أبْرويز لكاتبه: اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع، إن التُمس لها خامسة لم تُوجد، وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ، وهي: سُؤالك الشيء، وسُؤالك عن الشيء، وأمْركِ بالشيء، وإخبارك عن الشيء. فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألتَ فأَوْضح، وإِذا أمرت فأحكم، وإِذا أَخبرت فحقِّق. وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول.
يريد الكلام الذي تَقِل حروفه، وتَكثر معانيه.
وقال ربيعة الرِّأي: إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن، وما زِدْت فيه شيئاً ولا غيرت له معنى.
وقالوا: خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام.
" وقال يحيى: الكلامُ ذُو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر:
عجبت لإدْلال العَيِّ بنَفسه ... وصَمْتِ الذي قد كان بالحقِّ أَعْلَمَا
وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما ... صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما
وصف أعرابي بليغاً فقال: كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده، ولا تَنطق إلا ببَيانه.
وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال: كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل الحيّة " .
وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى، فًصول عَجيبة، وبدائع غريبة، وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى.
فصول من البلاغة
قدم قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ والياً عليها فقال: مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فَلْيَنْبِذْه، وإن كان في فيه فَليَلْفِظه، وإن كان في صَدْره فَلْيَنْفُثْه. فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل.
وقيل لأبي السَّمًال الأسديّ أيامَ مُعاوية: كيف تركتَ الناس؟ قال: تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف، وظالم لا يَنتهي.
وقيل لشَبيب بن شَيْبة عند باب الرَّشيد: كيف رأيتَ الناس؟ قال: رأيت الداخلَ راجياً، والخارج راضياً.
وقال حسّان بن ثابت في عبد الله بن عبّاس:
إذا قال لم يَتْرك مَقالا لقائلٍ ... بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا
كَفي وَشَفي ما في النُّفوس ولم يَدَعْ ... لذي إِرْبة في القَوْل جِدّاً ولا هَزْلا

ولَقي الحُسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال: القُلوب معك، والسُّيوِف عليك، والنَّصر في السماء.
وقال مُجاشع النهشلي: الحق ثَقيل، فمَن بَلَغه اكتفي، ومن جاوزًه اعتدى.
وقيل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المَشرق والمَغرب؟ فقال: مَسيرة يوم للشمس؛ قيل له: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة.
وقيل لأعْرابي: كم بين مَوْضع كذا وموضع كذا؟ قال: بَياضُ يوم وسَواد ليلة.
وشكا قوم إلى المَسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تُغفَر لكم.
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن.
وقيل لخالد بن يَزيد بن مُعاوية: ما أقربُ شيء؟ قال: الأجل؛ قيل له: فما أبعدُ شيء؟ قال: الأمل؛ قيل له: فما أوْحش شيء؟ قال: الميّت؛ قيل له: فما آنس شيء؟ قال: الصاحب المُواتي.
مَرّ عمرو بن عُبيد بسارق يُقْطع، فقال: سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية. وقيل للخليل بن أحمد: مالك تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله؟ قال: لأني كالمِسَنّ، أشْحذ ولا أقْطع.
وقيل لعَقِيل بن عًلَّفةَ: ما لَك لا تًطيل الهجاء؟ قال: يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق.
ومَرِّ خالد بن صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة، فقال: أَنْبتته الطاعة، وحَصَدته المَعْصية.
ومرَّ أَعرابيّ برجل صَلبه السلطان، فقال: مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه، ومن فارق الحق فالْجذْع راحلتُه.
ومن النطق بالدِّلالة ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك، فقال له عَدِيّ: أبيتَ اللعنَ، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ما تقول؟ قال تقول:
رب شَرْبٍ قد أناخُوا حولَنا ... يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ
ثم أضحَوْا عَصَف الدهرُ بهم ... وكذاك الدهرُ حال بعد حال
فتَنغّص على النعمان ما هو فيه.
" وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد " .
وقال رجلٌ لخالد بن صَفْوان: إنك لتًكْثر؛ قال: أكثر لضَرْبين، أحدهما فيما لا تُغني فيه القِلْة، والآخر لتمرين اللّسان، فإنَّ حَبْسه يُورِث العُقلة.
وكان خالدُ بن صَفْوان يقول: لا تكونُ بليغاً حتى تُكلِّم أمَتك السَّوداء في اللّيلة الظَّلماء في الحاجة المُهِمَة بما تَتكلَّم به في نادي قَومك.
وإنما اللّسان عُضو إذا مَرّنته مَرَن، وإذا تَركته لَكِنَ، كاليد تُخَشِّنها بِالمُمَارسة، والبَدنِ الذي تُقوِّيه برَفّع الحجر وما أشبهه، والرِّجْل إذا عُوِّدت المشي مشت.
وكان نوفلُ بن مُساحق إذا دخل على امرأته صَمت، فإذا خرج عنها تكلّم، فقالت له: إذا كنتَ عندي سكتَ، وإذا كنتَ عند الناس تَنْطِق؟ قال: إني أجلِّ عن دَقِيقك وتَدِقّين عن جَليلي.
وذكر شَبِيبُ بن شيبة خالدَ بن صَفْوان فقال: ليس له صَدِيق في السِّر، ولا عدوٌّ في العَلاَنية. وهذا كلام لا يَعرف قَدْره إلا أهلُ صناعته.
" وَوَصف رجلٌ آخرَ فقال: أتَيناه فأخرج لسانَه كأنّه مِخْراق لاعب.
ودَخل مَعن بن زائدة على المَنْصُور يُقارب خَطْوه، فقال المنصور: لقد كَبرتْ سنّك؛ قال: في طاعتك؛ قال: وإنك لَجلْد؟ قال: على أعدائك؟ قال: أرى فيك بقية؟ قال: هي لك.
وكان عبد الله بن عبَّاس بليغاً، فقال فيه مُعاوية:
إذا قال لم يَتْرك مقالاً ولم يَقِفْ ... لعِيّ وِلم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر
يُصَرِّفُ بالقول اللسانَ إذا انتحَى ... ويَنظُر في أعْطافه نَظَر الصَّقر
وتكلّم صَعْصَعَةُ بن صُوحان عند مُعاوية فَعَرِق، فقال له مُعاوية: بَهرك القولُ، قال: الجياد نَضَّاحة بالعَرَق.
وكتب ابن سَيَابة إلى عمرو بن بانة: إنَّ الدهر قد كَلَحَ فَجَرح، وطَمحَ فجَمح، وأفسد ما صَلَح، فإن لم تُعِنْ عليه فَضَح.
ومَدح رجل من طَيئ كلامَ رجل فقال: هذا الكلامُ يُكْتَفي بأُولاه، ويُشْتَفي بأًخْراه.
ووَصف أعرابيّ رجلاً فقال: إنَّ رِفْدَك لَنجيح، وإن خيرك لصَرِيح، وإن مَنْعك لمُرِيح.

ودخل إياسُ بنُ معاويةَ الشامَ وهو غلام، فقدِّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك، " وكان خَصْمه شيخاً كبيراً " . فقال له القاضي: أتقدِّم شيخاً كبيرأً؟ فقَال له إياس: الحقُّ أكبرُ منه؟ قال له: اسكت، قال. فمن يَنْطق بحُجَّتي؟ قال: ما أظنّك تقُول حقّاً حتى تقُوم؛ قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه. فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأَخبره بالخبر، فقال: اقض حاجتَه الساعة وأَخْرجه من الشام لا يُفْسِد عليّ الناسَ.
ومن الأسْجاع قولُ ابن القِرِّيّة، وقد دُعي لكلام فاحتبَسٍ القولُ عليه فقال: قد طال السَّمر، وسَقَط القَمر، واشتَدّ المَطر، فما أنتظر. فأجابه فتى من عبد القيس: قد طال الأَرَق، وسقَط الشَفق، فَلْينطق من نَطَق.
قال أحمد بنُ يوسف الكاتب: دخلتُ، على المأمون وبيده كتابٌ لعمرو بن مَسْعدة، وهو يُصَعِّد في ذُراه ويقوم مَرَّة ويَقْعد أخرى، ففعل ذلك مراراً ثم التفت إليَّ فقال: أَحْسَبك مُفكِّراً فيما رأيتَ؟ قلتُ: نعمٍ، وَقَى الله عزّ وجلّ أميرَ المؤمنين المَكاره، فقال: ليس بَمكْروه، ولكن قرأتُ كلاما نَظِير خَبرٍ خَبّرني به الرشيدُ، سمعتُه يقول: إنَّ البَلاغة لتَقاربٌ من المَعنى البَعيد وتَباعدٌ من حَشْو الكلام، ودَلالة بالقَلِيل على الكثير. فلم أتوَهّمٍ أنّ هذا الكلامَ يَسْتَتِبّ على هذه الصِّفة حتى قرأتُ هذا الكتابَ، فكان استعطافاً على الجُنْد وهو: كتابي إلى أمير المؤمنين أَيَّدَه اللّه، ومَن قِبَلي من أجناده وقُوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعةُ جًنْد تأخّرت أرزاقُهم واختّلت أحوالُهم.
فأَمر بإعطائهم ثمانيةَ أشهر.
ووَقع جَعْفر البرمكيّ إلى كُتَّابه: إن اْستطعتُم أن تكون كُتًبكم تَوْقيعات فافعلوا.
وأمره هارون الرشيد أن يَعْزل أخاه الفضلَ عن الخاتَم ويأخذَه إليه عَزْلاً لَطيفاً.
فكتب إليه: قد رَأَى أميرُ المؤمنين أن يَنْقُل خاتَم خِلافته من يمينك إلى شِمالك، فكَتب إليه الفضلُ: ما انتقلتْ عني نِعمة صارت إليك، ولا خَصَّتك دوني.
ووَقع جعفرٌ في رُقْعة رجل تنَصل إليه من ذَنب: تقدمت لك طاعة، وظَهرت منك نَصيحة، كانت بينهما نَبْوة، ولن تَغْلِب سيَئة حسَنَتين.
قال الفضْل بن يحيى لأبيه: ما لنا نُسْدِي إلى الناس المَعروف فلا نرى من السُّرور في وُجوههم عند انصرافهم ببِرنا ما نراه في وُجوههم عند آنصرافِهم ببِرَ غيرنا؟ فقال له يَحيى: إن آمال الناس فينا أطولُ منها في غيرنا، وإنما يُسَر الإنسانُ بما بَلِّغه أملَه.
قيل ليحيى: ما الكرمُ؟ قال: مَلِك في زِيّ مِسكين؟ قيل: فما الفَرْعنة؟ قال: مِسكين في بَطْش عِفريت؟ قيل: فما الجودُ؟ قال: عَفْو بعد قُدرة.
أُتي المأمونُ برجل قد وَجَب عليه الحدُّ، فقال وهو يُضرب: قَتَلتني يا أميرَ المؤمنين؟ قال: الحقَّ قَتَلك، قال: ارحَمني، قال: لستُ أرْحمَ بك ممن أوجبَ عليك الحدَ.
وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء، فأسرع يفي ذلك؟ فقال له المأمون: فإنّ الله عزّ وجلّ قد قَطع عُذْر العَجول بما مكَّنه من التثبُّت، وأَوْجب الْحُجَّة على القَلِق بما بَصَّره من فضْل الأناة. قال: أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين أن أكتُبه؟ قال: نعم، فكَتبه.
قال إبراهيمُ بن المهديّ قال لي المأمونُ: أنت الخليفة الأسْود؟ قلت: يا أميرَ المؤمنين، أنت مَنَنت عليّ بالعَفو، وقد قال عبدُ بني الْحَسْحاس:
أشعارُ عَبْد بنيِ الْحَسْحاس قُمْنَ له ... عند الفَخار مَقامَ الأصل والوَرقِ
إن كنتُ عبداَ فنَفْسي حُرِّة كَرَماً ... أَو أَسْودَ الْجلْد إني أَبْيضُ الخُلُقِ
فقال المأمون: يا عمُّ، خرّجك الهَزْل إلى الجد، ثم أنشأ يقول:
ليس يُزْرِي السواد بالرَّجلِ الشَّهم ... ولا بَالفتى الأديب الأريبِ
إن يكُن للسّواد مِنك نصِيبٌ ... فبَيَاض الأخلاق منك نَصيبي
قال المأمون: أسْتحسن من قول الحُكماء: الجودُ بَذْل المَوْجود، والبُخل بَطَر بالمَعْبود عزّ وجلّ.

قالت أُمُّ جعفر زُبيدة بنت جعفر للمأمون حين دَخلت عليه بعد قتْل ابنها: الحمد لله الذي ادّخرك لي لمَّا أثكَلني وَلَدي، ما ثكِلت ولداً كنتَ لي عوضاً منه. فلما خرجَت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما ظننتُ أن نِساءَ جُبلن على مِثل هذا الصَّبر " .
وقال أبو جَعفر لعمرو بن عُبيد: أعنِّي بأصحابك يا أبا عُثمان، قال: ارفع عَلَم الحقّ يَتْبعك أهلُه.

آفات البلاغة
قال محمد بن منصور كاتبُ إبراهيم، وكان شاعراً راوياً وطالباً للنحو عَلامة، قال سمعتُ أبا دُواد " بن جرير الإيادي " ، وجَرى شيء من ذِكْر الخُطَب وتَمْييز الكلام، فقال: تَلْخيصُ المَعاني رِفق، والاستعانة بالغَريب عَجْز، والتَّشادُق في غير أهل البادية نَقْص، والنَّظر في عُيون الناس عِيّ، ومَسُ اللِّحية هَلَع، والخُروج عما بُني عليه الكلام إسْهاب.
قال: وسمعتهُ يقول: رَأْسُ الخَطابة الطبْع، وعَمُودها الدربة، " وجناحاها رواية الكلام " ، وحَلْيُها الِإعراب، وبَهاؤها تخيّر اللَفظ، والمَحبَّة مَقرونة بقلّة الاستكراه. وأنشدني بيتاً في خُطباء إياد:
يَرْمُون بالخُطب الطِّوال وتارةً ... وَحْي المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقباءِ
وقال ابن الأعرابيّ: قلتُ للفَضْل: ما الايجاز عندك؟ قال: حَذْف الفُضول، وتَقْريب البَعيد.
وتكلم ابن السمَّاك يوماً وجارية له تَسمعِ " كلامه " ،، فلما دخل " إليها " قال لها: كيف سمعتِ كلامي؟ " قالت: ما أَحسنه! لولا أنك تُكْثِر ترْدادَه! قال: أرِدده حتى يَفهمه، مَن لم يفهمه " ؛ قالت: إلى أن تًفَهِّمه من لم يَفْهمه يكون " قد " مَلَّه من فَهمِه.
باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة
قال الله تبارك وتعالى: " وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم. وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم " .
وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشغل؟ قال: كأنك تهددني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً، قال: وانت والله لئن قلت لي عشراً لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك؟ قال: معك يَدْخل لا مَعي.
وقيل لعمرو بن عُبيد: لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك، قال: إياه فارحموا. وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ، فقال له: إن كنتَ صادقاً فغَفر اللهّ لي، وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك.
وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال: يا هذا، لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً، فإنا لا نًكافيء مَن عمى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه.
ومَرَّ المَسيح بن مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود، فقالوا له شرًّا، فقال خيراَ؛ فقيل له: إنّهم يقولون شرًّا وتقول لهم خيراً؟ فقال: كلّ واحد يُنفق مما عنده.
وقال الشاعر:
ثَالَبني عَمْرٌو وثَالبته ... فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ
قلتُ له خيراً وقال الخنى ... كل على صاحبِه كاذِب
وقال آخر.
وذي رَحِمٍ قَلّمْت أَظفار ضغنه ... بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ
إذا سُمْتهُ وَصْلَ القَرابة سامَني ... قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم
فداويتُه بالحِلْم والمَرْءُ قادرٌ ... على سَهْمه ما كان في كَفِّه السًهم
" وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم، أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر " وكتب رجل إلى صديق له، وبلَغه أنه وَقع فيه:
لئن ساءَني أن نِلْتِني بمَساءةٍ ... لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك
وأنشد طاهرُ بن عبد العزيز:
إذا ما خَليلي أَسا مَرَّةً ... وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ
ذكرتُ المقدم من فِعْلهِ ... فلم يفسد الآخرُ الأوّلا
صفة الحلم وما يصلح له

قيل للأحنف بن قيس: ممنِ تعلَّمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ، رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه؟ حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟ فواللّه ما حَل حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، أَثِمت برّبك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة، ثم أنشأ يقول:
إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي ... دَنَس يهجنه ولا أفْنُ
من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة ... والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن
خطباء حي يقول قائلُهم ... بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن
لا يفطنون لعَيْب جارهمُ ... وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ
وقال رجل للأحنف بن قَيْس: علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر، قال: هو الذُّل يا بن أَخي، أَفتصبر عليه؟ وقال الأحنف: لستُ حليماً ولكنّي أتحالم.
وقيل " له " : مَن أَحلمُ: أنت أم معاوية؟ قال: تا للّه ما رأيتُ أجهلَ منكم، إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم، وأنا أَحلُم ولا أقدِر، فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه! وقال هشامُ بن عبد الملك لخالد بنِ صَفْوان: بم بلغ فيكم الأحنفُ ما بلَغ؟ قال: إن شئتَ أخبرتُك بخَلَّة، وإن شئت بخَلَّتين، وإن شئت بثلاث قال: فما الخَلَّة؟ قال: كان أَقوى الناس على نفسه قال: فما الخلتان؟ قال: كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر؟ قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل ولا يبْغي ولا يَبْخل.
وقيل لقَيْس بن عاصم: ما الْحِلم؟ قال: أن تَصِل مَن قطَعك، وتُعْطي مَن حرَمَك، وتعفو عَمَّن ظلَمك.
وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم، ومن عَفْو إلى قُدْرة.
وقال لُقمانُ الحكيم: ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحَرْب، ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه.
وقال الشاعر:
ليْست الأحلامُ في حي الرِّضا ... إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ
وفي الحديث. أقرب ما يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب.
وقال الحسن: المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه، وتلا قولَ الله عز وجلَّ: " وَإذَا خاطَبَهُمْ الجاهلونَ قَالُوا سَلاماً " .
وقال معاوية: إني لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي، أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي، أو عوْرة لا أُواريها بسَتري.
وقال مُؤَرِّق العِجْليّ: ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا. وقال يزيدُ بن أبي حَبيب: إنما غَضَبي في نَعْليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت.
وقالوا: إذا غَضِب الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه، وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ.
وقيل للأحنف: ما الحِلْم؟ فقال: قوْل إن لم يكنِ فعل، وصَمْت إن ضَرَّ قوْل.
وقال " أمير المؤمنين " علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: مَن لانَتْ كلمته، وجبت مَحبَّتهُ.
وقال: حِلْمك على السًفيه يكثر أنصارك عليه.
وقال الأحنف: مَن لم يصبر على كلمة سَمِع كلمات.
وقال: رب غَيْظ تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه، وأنشد:
رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه ... كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض
وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره، فقال؛ لا عليك، إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً، انصرفْ إذا شئت.
وقال الشاعرُ في هذا المعنى:
لَنْ يًدْرِك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموِا ... حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام
ويُشْتَموا فترَى الألوانَ كَاسفةَ ... لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام
ولآخر:
إذا قِيلت العوراءُ أغضى كأنّه ... ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ
وأحسن بيْت في الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير:
إذا أنت لم تُعْرِض عن الجهل والخَنَى ... أصبتَ حَليماً أو أصابك جاهلُ
وقال الأحنفُ آفةُ الحِلْم الذّلّ.
وقال؛ لا حِلْم لمَن لا سَفِيه له.
وقال: ما قلَّ سُفهاء قَوْم إلا ذَلْوا. وأنشد:

لابدَّ للسًّودد من رِماح ... ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح
يُدَافعون دونه بالرَّاح ... ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح
وقال النَابغة الجعديّ:
ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له ... بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا
" ولا خَير في جَهْل إذا لم يَكُن له ... حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا "
ولمّا أنشدَ هذين البيتن للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يَفْضُض اللهّ فاك، " قال " : فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة.
وقالوا: لا يَظهر الحِلْم إلاِّ مع الانتصار، كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار.
وقال الأصمعيّ: سمعتُ أعرابيَّاً يقول: كَان سِنانُ بن أبي حارثة أحلمَ من فَرْخ الطائر؛ قلت: وما حِلْم فرخ الطائر؟ قال: إنّه يخرج من بَيْضة في رأس نِيق ولا يتحوَل حتى يتوفّر ريشه، ويَقْوى على الطيران.
" وللأشْنَنْدانيّ:
وفي اللّين ضَعْفٌ والشَّراسة هَيْبةٌ ... ومَن لا يُهَب يُحْمَل على مَرْكب وَعْرِ
وللفقر خيرٌ من غِنى في دَنَاءَةً ... ولَلْمَوتُ خيرٌ من حياة على صُغر
وما كُلَّ حين يَنْفع الْحِلْمُ أَهْلَه ... ولا كُلَّ حالٍ يَقْبُح الْجَهلُ بالصَّبر
وما بي عَلى مَن لان لي مِنْ فَظَاظَةٍ ... ولكنّني فَظّ أَبيٌّ على القَسرْ
وقَال آخر في مَدح اَلحِلْم:
إني أرى الحِلْم مَحْمُوداً عواقبُه ... والجَهْلُ أفنَى من الأقوام أقوامَا
ولسَابق:
ألمِ تَرَ أنّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ ... لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ
فكن دافناً للجهل بالحِلْم تَسْتَرح ... من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ
ولغيره:
ألاَ إنّ حِلم المَرْء أكبر نِسْبةٍ ... يُسامى بها عند الفخار كريمُ
فيا ربِّ هَبْ لي منك حَلماً فإنني ... أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم
وقال بعضً الحُكماء: ما حَلا عِنْدي أفضل من غَيْظ أتجرّعه.
وقال بعضهم:
وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى ... وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا
فَتَنْدَمَ إذ لا تَنْفَعَنْك ندامةٌ ... كما ندِم المَغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا
وقال علي عليه السلام: أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل.
سُئل كِسْرى أنو شرِوان: ما قَدْر الحِلْم؟ فقال: وكيف تَعْرِفُ قَدْر ما لم يَرَ كَمَالَه أحد.
وقال مُعاوية لخالد بن المُعَمَّر: كيف حُبُّك لعليّ بن أبي طالب عليه السلامُ؟ قال: أُحِبّه لثلاثِ خِصال: على حِلمه إذا غَضِب، وعلى صِدقة إذا قال، وعلى وَفائه إذا وَعد.
وكان يُقال: ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه استَكْمل الإيمان: من إذا غَضِب لم يُخْرِجْه غَضَبُه عن الحقّ، ومَن إذا رَضيَ لَم يُخرِجه رِضاهُ إلى الظلم والباطل، ومن إذا قَدَر لم يَتَناول ما ليس له.
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: إذا سَمعت الكلمةَ تُؤْذِيك فطَأْطِىء لها حتى تَتخطاك.
وقال الحسنُ: إنما يُعْرف الحِلم عند الغَضَب. فإذا لم تَغْضب لم تَكن حِليماً وقال الشاعر:
وليس يَتِمًّ الحِلْم لِلمَرْء راضِياً ... إذا هو عند السُّخط لم يَتَحِلَّم
كما لا يَتِمُّ الجُود للمرء مُوسِراً ... إذا هو عند العسر لم يَتَجَشَم
وقال بعضُ الحكماء: إنّ أفضلَ وادٍ تُرى به الحِلْمُ، فإذا لم تكن حَلِيماً فتحلّم، فإذا لم تكن عَلِيماً فتعلِّم، فقلَّما تشبَّه رجلٌ بقَوْم إلا كان منهم.
وقال بعضُهم: الحِلم عُدَّة على السّفيه، لأنك لا تُقابل سفيهاً بالإعراض عنه والاستخفاف بفِعْله إلا أَذْللتَه.
ويقال: ليس الحَلِيم مَن ظُلِم فَحَلُم حتى إذا قَدَر انْتَقم، ولكنَّ الحَلِيم من ظُلِم فَحَلُم ثمّ قَدَر فَعَفا.
وللأحنف أو غيره:
ولربما ضحِك الحَليمُ من الأذىَ ... وفؤادهُ من حَرِّه يَتأَوَّهُ
ولرًبَّما شَكَلَ الحليمُ لسانَهَ ... حَذَرَ الجواب وَإنّه لمُفَوَّه
وقيل: ما استَبَ اثنان إلا غَلب ألأمُهما.

وقال الأحنف: وجدتُ الحلم أنصرَ لي من اِلرِّجال.
وقال بعضهم: إيّاك وعِزَّةَ الغَضب فإنها تصَيرك إلى ذلّ الاعتذار.
وقيل: مَن حَلُم ساد، ومَن تَفهَّم ازداد.
وقال الأحنف: ما نازعني أحد قط إلا أخذتُ أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفتُ قدرَه، وإن كان دُوني أكرمتُ نفسي عنه، وإن كانَ مثلي تفَضَّلت عليه. ولقد أَحْسن الذي أخذ هذا المعنى فَنَظَمه فقال:
إذا كان دُوني مَنْ بُليت بجَهْله ... أَبَيْتُ لِنَفْسي أن تُقَارع بالجَهْل
وإن كان مثلي ثم جاء بِزَلَّة ... هَوِيتُ لصَفْحي أن يُضاف إلى العَدْل
وان كنت أدنى منه قدراً ومَنْصِباً ... عَرفت له حَقَّ التقدم والفضل
وفي مِثْله قال بعضُ الشعراء:
سأُلزِم نَفسي الصَفحَ عن كل مُذْنبٍ ... وإن كَثُرت منه إليَّ الجرائمُ
ولا الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم
فأمًا الذي فَوقي فأَعْرِف فضلَه ... وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ قائم
وأمّا الذي دوني فإن قال صُنت عن ... إجابته نَفْسي وإن لامَ لائِم
وأمّا الذين مِثْلي فإنْ زلَّ أو هَفَا ... تفضلت إنّ الفَضل للحُرّ لازم
ولأصْرم بن قَيْس، ويُقال إنها لعليّ عليه السلامُ:
أَصَمُّ عن الكَلِم المُحْفِظاتِ ... وأَحْلُمُ والحِلْمُ بي أَشْبَهُ
وإني لأَتْرُك جُلّ الكلام ... لئلاّ أُجابَ بما أَكْرَه
إذا ما اجتَررْتُ سِفاه السّفيه ... عليّ فإنِّي أنا الأسفَه
فلا تَغْتِرر برُواء الرِّجال ... وما زَخْرَفوا لك أو مَوَّهوا
فكم من فَتَى يُعْجِب الناظرين ... له أَلْسُنٌ وله أَوْجُه
ينام إذا حَضَر المَكْرُمَاتِ ... وعند الدَّناءة يستنبه
وللحَسن بن رجاء:
أُحِبُّ مكارِم الأخلاق جَهْدِي ... وأَكْره أن أَعيب وأن أُعابَا
وأَصْفَح عن سِباب النَّاس حِلْماً ... وشرُّ الناس مَن يَهْوَى السِّبابا
ومَن هَاب الرِّجالَ تَهَيَّبُوه ... ومَن حَقَر الرِّجالَ فلن يُهَابا
ومَن قَضَت الرجالُ له حُقوقاً ... ولم يَقْض الحُقوِق فما أصابَا
وقال محمد بن عليّ رضوان الله عنهما: مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه، ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه، ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى، ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه، ومَن صَبر حُمِد أمرُه، ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه، ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه، ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه.
وسأل أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلامُ كبيراً من كُبراء الفُرْس: أيُّ شيء لمُلوككمٍ كان أحمدَ عندكم؟ قال: كان لأرْدَشير فضل السَّبْق في المملكة، غير أنّ أحمدَهم سيرة أنو شروان. قال: فأيّ أخلاقِه كان أغلبَ عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان يُنتجهما عُلوّ الهمَّة.
ولمحمود بن الحسن الوَرَاق:
إنّي وَهَبْت لظاِلمي ظُلْمِيِ ... وغفَرْتُ ذاك له على عِلم
ورأيتُه أسدَى إليَّ يداَ ... لما أبان بجَهْله حِلْمي
رَجَعَتْ إساءتُه عليه وإح ... ساني إليَّ مُضاعَف الغُنْم
وغَدْوتُ ذا أَجْرٍ ومَحْمدةٍ ... وغداَ بكَسْب الظلم والإثمْ
وكأنما الإحسانُ كان له ... وأنا المُسيء إليه في الحُكْم
ما زال يَظْلمني وأَرْحَمه ... حتى رَثيتُ له من الظُّلم
ولمحمد بن زياد يَصِف حُلماء:
نَخالُهمُ في الناس صُمَّاً عن الْخَنَىِ ... وخُرْساً عن الفَحْشاء عند التَهاجُرِ
ومَرضىَ إذا لُوقُوا حياءً وعِفّةَ ... وعند الحِفَاظ كاللُّيوث الخَوادِر
كأن لهم وَصْماَ يخافون عارَه ... وما ذاك إلاّ لاتّقاء المَعاير
وله أيضاً:
وأَرْفع نفسي عنِ نًفوس وربما ... تَذلَلتُ في إكرامها لنُفوس

وإنْ رامني يوماَ خَسيسٌ بجَهْله ... أَبى اللهُ أنْ أَرْضى بعِرْضِ خَسيس
قال وهب: مَكتوب في الإنجيل: لا ينْبغي لإمام أن يكون جائراَ ومنه يُلْتَمس العَدْل، ولا سَفيهاً ومنه يُقْتبس الحلْم.
ولبعضهم:
وإذا استشارك مَنْ تَوَدّ فُقل له ... أَطِع الحَلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا
واعلم بأنَك لن تَسُود ولن ترَى ... سُبل الرًشادِ إذا أَطعتَ هَواكا
وقال آخر:
وكن مَعْدِناً للحِلم واصفَح عن الأذى ... فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ
وأَحْبِب إذا أجبتَ حُثا مُقارِباً ... فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع
وأَبْغِض إذا أبغضتَ غيرَ مُباين ... فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع، "

باب السودد
قيل لعَدِي بنِ حاتم: ما السودد؟ قال: السيد الأحمق في مالِه، الذَليل في عِرْضه، المُطَّرِح لحِقده.
وقيل لقَيْس بن عاصم: بمَ سَوَدك قومُك؟ قال: بكَفِّ الأذى، وبَذْل النًدى، ونَصْر المَوْلى.
وقال رجلٌ للأحنف، بم سوَدك قومُك وما أنت بأشرفهم بَيتاً، ولا أُصْبحهم وَجهاً، ولا أحسنهم خُلُقاً؟ قال: بخِلاف ما فيك با بنَ أخي، قال: وما ذاك؟ قال: بتركي من أَمْرك ما لا يَعْنِيني كما عناك من أَمْري ما لا يَعْنِيك.
وقال عمرُ بن الخطَاب رضي الله عنه لرجل: مَن سيِّد قَوْمك؟ قال: أنا؛ قال؛ كذبت لو كنتَ كذلك لم تَقُلْه.
وقال ابن الكَلْبي: قَدِم أوسُ بنُ حارثة بن لأم الطائي وحاتمِ بنُ عبد الله الطّائي على النُّعمان بن المُنذر، فقال لإياس بن قَبِيصة الطائيّ: أيهما أفْضل؟ قال: أبيتَ اللعنَ أيها الملك. إنِّي من أحدهما، ولكنْ سَلهما عن أَنْفسهما فإنهما يُخبرانك. فدخل عليه أوسٌ، فقال أنت أفضلُ أم حاتم؟ فقال: أبيتَ اللعن، إنّ أدنى ولد حاتم أفضلُ مني، ولو كنتُ أنا وولدي ومالي لحاتم لأنْهبَنَا في غَداة واحدة. ثم دخل عليه حاتم، فقال له: أنت أفضلُ أم أَوس؟ فقال: أبيت اللعن، إنّ أدنى ولد لأوّس أفضلُ مني. فقال النعمان: هذا واللهّ السُّودد، وأمر لكل واحد منهما بمائة من الإبل.
وسأل عبدُ الملك بن مَروانَ روح بن زِنْباع عن مالك بن مِسْمع، فقال: لو غَضِب مالكٌ لغَضِب معه مائةُ ألف سيف لا يسأله واحدٌ منهم: لم غضبتَ؟ فقال عبدُ الملك: هذا واللّه السودد.
أبو حاتم عن العُتبي قال: أهدى ملكُ اليمن سبعَ جزائر إلى مكة، وأوصى أن يَنحرها أعزُ قرشيّ بها، فأتت وأبو سفيان عَروس بهند، فقالت له هِنْد: يا هذا، لا تَشغلك النّساء عن هذه الأكرومة التي لعلّك أن تُسْبق إليها؛ فقال لها: يا هذه، ذرِي زَوْجك وما اختار لنفسه، فواللّه لا نحرها أحدٌ إلا نحرتُه. فكانت في عُقُلها حتى خرَج إليها بعد السابع فنَحرها.
ونظر رجلٌ إلى معاوية، وهو غلام صغير، فقال: إني أظنّ أنّ هذا الغلام سيسود قومَه، فسمعته أمه هِنْد فقالت: ثكِلتُه إذاً إن لم يَسُد غيرَ قومه.
وقال الهيثم بن عَدِيِّ: كانوا يقولون: إذا كان الصبيّ سابل الغُرّة، طويل الغُرْلة، مُلتاث الإزْرَة، فذاك الذي لا يُشكّ في سُودده.
ودخل ضَمْرة بن ضمْرة على النعمان بن المُنْذر، وكانت به دَمامة شديدة، فالتفت النعمانُ إلى أصحابه، وقال: تَسمع بالمُعيديّ خير من أن ترإه.
فقال: أيها الملك، إِنما المرء بأصغريه قلبِه ولسانه، فإن قال قال ببَيان، وإن قاتل قاتل بجَنَان قال: صدقت، وبحَقِّ سوّدك قومُك.
وقيل لعَرابة الأوسيّ: بم سوَّدكَ قومُك؟ قال: بأربع خلال: أَنْخَدع لهم في مالي، وأذِلّ لهم في عِرْضي، ولا أحْقِر صغيرَهم، ولا أحسُد كبيرَهم.
وفي عَرابة الأوْسيّ يقول الشَّمَّاخ، وهو " ابن " ضرِار:
رأيتُ عَرابة الأوْسي يَسمو ... إلى الخيْرَاتِ مُنقطع القَرينِ
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجْدٍ ... تلقاها عرَابة باليمين
وقالوا: يَسود الرجل بأربعة أشياء: بالعَقل والأدب والعِلم والمال.
وكان سلم بنُ نوفل سيِّدَ بني كِنانة فوَثب رجلٌ على ابنه وابن أخيه، فجَرَحهما، فأُتي به، فقال " له " : ما أمَنك من انتقامي؟ قال: فلِم سَوَّدْناك إذاً، إلا أن تكْظم الغَيظ، وتَحْلُم عن الجاهل، وتحتمل المكروه، فخلّى سبيلَه، فقال فيه الشاعر:

يُسوَّد أقوام وليسوا بسادةٍ ... بل السيّد الصِّنديد سَلم بنُ نوفل
وقال ابن الكلْبي: قال لي خالدٌ العَنْبري: ما تعُدُّون السُّودد؟ قلت: أمّا في الجاهليَّة فالرِّياسة، وأما في الإسلام فالوِلاية، وخَيْر من ذا وذاك التقوَى؛ قال: صدقت؛ كان أبي يقول: لم يُدْرِك الأوِّلُ الشرفَ إلا بالعقل، ولم يُدْرِك الآخرُ إلاّ بما أَدْرَك به الأوّل قلتً له: صدق أبوك، إنما ساد الأحنف بن قيْس بحلْمه، ومالك بن مِسْمَع بحُبّ العشيرة له، وقتُيبة بن مُسلم بدَهائه، وساد المُهَلّب بهذه الْخِلال كلّها. الأصمعي قال: قيل لأعرابيّ يقال له مُنْتَجع بن نَبْهان: ما السَّميدع؟ قال: السيّد المُوَطّأ الأكناف.
وكان عمر بن الخطاب " رضي الله عنه " يُفْرش له فِراش في بَيْته في وَقْت خلافته، فلا يجلس عليه أحد إلا العبَّاس بن عبد المطّلب، وأبو سُفيان بن حَرْب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سُفيان: كل الصيد في جَوْف الفَرأ. والفرأ: الْحِمار الوَحْشي، وهو مَهموز، وجَمعه فِراء، ومعناه: أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش.
ودخل عمرو بنُ العاص مكة، فرَأى قوماً مِن قُريش قد تحلّقوا حَلقة، فلما رَأوه رَموا بأبصارهم إليه، فعَدل إليهم، فقال: أَحْسبَكم كنتم في شيء من ذِكْرِي؟ قالوا: أجل، كنا نُمَاثِل بينكَ وبن أخيكَ هِشام، أيّكما أفضل. فقال عمرو: إنّ لهشام عليَّ أربعةً: أمه ابنة هِشام بن المُغيرة، وأُمي من قد عَرفتم؟ وكان أحبَّ الناس إلى أبيه منِّي، وقد عرفتم مَعْرفة الوالد؛ وأَسْلَم قبلي، واستُشْهِد وبقيتُ.
قال قيسُ بنِ عاصم لبَنِيه لما حضرته الوفاة: " يا بَنيَّ " ، احفَظوا عنّي فلا أحدَ أنصح لكم منّي، أمَّا إذا أنامِتُّ فسَوِّدوا كِبَارَكم ولا تُسوِّدوا صغارَكم، فيَحقر الناسُ كِبارَكم.
وقال الأحنفُ بن قيس: السُّودد مع السَّواد.
وهذا المعنى يحتمل وجهين من التفسير: أحدهما، أن يكون أراد بالسواد سوادَ الشعر، يقول: من لم يَسُد مع الحَداثة لم يَسُد مع الشيخوخة. والوجه الآخر أن يكون أَراد بالسَّواد سوادَ الناس ودَهْماءهم، يقول: من لم يَطِرْ له اسمٌ على ألسنة العامّة بالسُّودد لم يَنْفعه ما طار له في الخاصة.
وقال أَبانُ بن مَسْلمة:
ولَسنا كقَوْم مُحُدَثين سِيادةً ... يُرَى ما لها ولا تُحَسّ فَعالُها
مَساعِيهمُ مَقَصورَةٌ في بُيوتهم ... ومَسْعاتنا ذُبيانُ طُرّاً عِيالُها
الهيْثم بن عَدِيّ قال: لما اْنفرد سًفيان بن عُيينة ومات نُظراؤه من العُلماء تَكاثر الناسُ عليه، فأنشأ يقول:
خَلَت الدِّيارُ فَسُدت غَيْر َمُسَوَّد ... ومِنَ الشَّقاء تَفَردي بالسُّوددِ

سودد الرجل بنفسه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أسْرع به عَمَلُه لم يُبْطِىء به حَسَبُه، ومَن أَبطأ به عملُه لم يسرع به حسبه وقال قس بن ساعدة: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه.
وقالوا: إنما الناس بأبدانهم.
وقال الشاعر:
نفس عصام سودت عصاماً ... وعلمته الكر والإقداما
وقال عبد الله بن معاوية:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال قس بن ساعدة: لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحدٌ قبلي، ولا يردها أحدٌ بعدي، أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم عليه، وأيما رجلٌ أدعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لوم دونه كرم فالكرم أولى به.
تريد أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً وآباؤه لئام لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً وآباؤه كرامٌ لم ينفعه ذلك.
وإني وإن كنت ابن سيد عامرٍ ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ ... أبى الله أن أسمو بجدٍ ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقل له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك، قال: صدقت.

فأخذ الشاعر هذا المعنى، فقال:
ما لي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتمٍ إلى أدبي، وقال بعض المحدثين:
رأيت رجال بني دالقٍ ... ملوكاً بفضل تجاراتهم
وبربرنا عند حيطانهم ... يخوضون في ذكر أمواتهم
وما الناس إلا بأبدانهم ... وأحسابهم في حر اماتهم

المروءة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا دين إلا بمروءة.
وقال ربيعة الرأي: المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر وثلاثة في السفر، فأما التي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، ومداعبه الرفيق، وأما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة، ومروءة باطنة، فالمروءة الظاهرة الرياش، والمروءة الباطنة العفاف.
وقدم وفد على معاوية فقال لهم: ما تعدون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة، قال اسمع يا يزيد.
وقيل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى تالله وتفقد الضيعة.
وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سودداً، ونعمد العفاف وإصلاح المال مروءة.
قال الأحنف: لا مروءة لكذوب، ولا سودد لبخيل، ولا ورع لسيء الخلق وقال النبي صلى الله عليه وسلم: تجاوزوا لذوي المروآت عن عثراتهم، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وإن يده لبيد الله.
وقال العتبي عن أبيه: لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالماً، صادقاً، عاقلاً، ذا بيان، مستغيناً عن الناس.
وقال الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
وقيل لعبد الملك بن مروان: أكان مصعب بن الزبير يشرب الطلاء؟ فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شر به.
وقالوا: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تم بها أدبه ومُروءته: مَن أخذ من الدِّيك سَخاءه وشَجاعته وغَيْرته، ومن الغُراب بُكوره لطَلَب الرِّزق وشدَّة حَذَره وسَتر سِفاده.
طبقات الرجال
قال خالدُ بنُ صَفْوان: الناسُ ثلاثُ طبقات: طَبقة عُلماء، وطَبقة خُطباء، وطبقة أدباء ورِجْرِجة بين ذلك يغْلُون الأسعار، ويُضَيِّقون الأسواق، ويُكَدِّرون المِياه.
وقال الحسنِ: الرِّجال ثلاثة: فَرَجل كالغِذاء لا يُسْتغنى عنه، ورَجُل كالدَّواء لا يحتاج إِليه إلا حِيناَ بعد حِين، ورَجل كالدَّاء لا يحتاج إليه أبداً.
وقال مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير: الناسُ ثَلاثة: ناسٌ ونَسْناس وناس غُمِسوا في ماء الناس.
وقال الخليل بن أحمد: الرجالُ أربعة: فَرَجل يَدْرِيَ ويَدْري أنه يَدْري، فذلك عالم فَسَلُوه، ورجُل يَدْري ولا يَدْري أنه يَدْري فذلك النَّاسي فذَكِّروه، ورجُل لا يَدْري ويَدْري أنه لا يَدْري، فذلك الجاهلُ فعلِّموه، ورجُل لا يَدْري ولا يَدري أنه لا يَدري، فذلك الأحمقُ فارفضوه.
وقال الشاعر:
أَليس من البَلْوى بأنّك جاهل ... وأنك لا تَدْري بأنك لا تَدْري
إذا كنت لا تَدْري ولستَ كمن درَى ... فكيف إذاً تَدْرِي بأنك لا تَدْري
ولآخر:
وما الدَّاء إلا أن تُعلِّم جاهلاً ... ويَزْعُم جهلاً أنه منك أَعْلَمُ
وقال علّيّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالمٌ ربَّاني، ومُتعلِّم على سَبِيل نَجَاة، ورَعَاع هَمَجٌ يميلون مع كل ريح.
وقالت الحُكماء: الِإخوانُ ثَلاثة: فأخٌ يُخْلِص لك ودَّه، ويَبْذُلُ لك رِفْدَه، ويَستَفْرغ في مُهمِّك جُهْده؟ وأَخٌ ذو نِيّة يَقْتصر بك على حُسن نيَّته دون رِفْده ومَعُونته، وأخٌ يتَملق لك بلِسانِه ويَتَشاغَل عنك بشانه، ويُوسعكَ مِن كَذِبه وأيمانه.
وقال الشعبيّ. مَرَّ رجُل بعبد الله بن مَسعُود، فقال لأصحابه: هذا لا يَعْلم، ولا يَعْلم أنه لا يَعْلم، ولا يَتعلّمِ ممن يَعْلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كُنْ عالماَ أو مُتَعلماً ولا تكُن الثالثةَ فتَهْلِك.
الغوغاء
الغوغاء: الدَّبا، وهي صغار الجَراد، وشُبِّه بها سَوَادُ الناس.

وذُكر الغَوْغاء عند عبد الله بن عباس فقال: ما اجتَمعوا قطُّ إلا ضَرُّوا، ولا افترقوا إلا نفَعوا وقيل له: قد عَلِمْنا ما ضَرَّ اجتماعهم، فما نَفع افتراقهم؟ قال: يَذْهب الحجَّام إلى دكانه، والحداد إلى أكياره، وكل صانع إلى صِنَاعته.
ونظر عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه إلى قَوْم يَتبعون رجلاً أخذ في رِيبَة، فقال: لا مَرْحباً بهذه الوُجوه التي لا تُرَى إلا في كلِّ شرًّ.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
إنْ شِئْتَ أن يَسْوَدَّ ظَنُّك كُلُّهُ ... فأَجِلْهُ في هذا السّوَادِ الأعْظم
وقال دِعْبل:
ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم ... الله يَعْلم أَنِّي لم أَقُلْ فَنَدَا
إنِّي لأفْتح عَيْني حِينَ أَفْتَحَها ... على كَثيرٍ ولكنْ لا أرَى أحدا

الثقلاء
قالت عائشةُ أم المؤمنين رضي الله عنها: نزلتْ آيةٌ في الثُّقلاء: " فإذا طَعمتُمْ فِانْتَشرًوا ولا مًسْتَأْنِسِين لِحَديث " .
وقال الشعبي: مَن فاتَتْه رَكْعتا الفَجْر فَلْيلعن الثقلاء.
وقيل لجالينوس: بِمَ صار الرجلُ الثقيلُ أثقلَ من الْحِمْل الثقيل؟ فقال: لأنّ الرجلَ الثقيل إنما ثِقَلُه على القَلْب دون الجَوارح. والحِمْل الثَّقيل يَسْتَعِين فيه المرء بالجَوَارح.
وقال سَهْل بن هارون: من ثَقل عليك بنَفْسه، وغمك بسُؤاله، فأَعِرْه أُذناً صَمَّاء، وعيناً عمياء.
وكان أبو هُرَيرة إِذا استثَقل رجلاً، قال: اللهم اغْفِر له وأرِحْنا منه.
وكان الأعمشُ إِذا حَضر مَجلسه ثقيلٌ يقول:
فما الفِيلُ تَحْمِلُه مَيِّتاً ... بأثقلَ من بَعْض جُلاسِنَا
وقال أبو حَنِيفة للأعمش، وأتاه عائِداً في مرضه: لَوْلا أن أثْقُل عليك أبا محمَد لعُدْتك واللّهِ في كلّ يوم مَرّتين، فقال له الأعمش: والله يا بن أخي، أنتَ ثَقِيل عليّ وأنتَ في بَيْتك، فكيف لو جئتني في كلّ يوم مَرَّتين.
وذكر رجلٌ ثقيلاً كان يَجْلِس إليه، فقال: واللّه إِني لُأبْغِضُ شِقِّي الذي يليه إذا جَلس إلِيّ.
ونقَشَ رجل على خاتَمه: أَبْرَمْتَ فَقُم. فكان إذا جَلس إليه ثقيلٌ ناوَله إِيَّاه وقال: اقرأ ما على هذا الخاتم.
وكان حَمّاد بن سَلمة إذا رأى من يَستَثقله قال: " رَبَّنَا اكشفْ عَنَا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنونَ " .
وقال بشّار العُقَيليّ في ثَقِيل يُكنى أبا عِمْران:
رُبمَّا يَثْقُل الجَلِيسُ وإنْ كا ... نَ حنيفاً في كِفّة الميزانِ
ولقد قلتُ إذْ أطل عَلَى القَوْ ... م ثَقِيل يُرْبي عَلَى ثَهْلان
كيفَ لا تَحْمِل الأمانَةَ أُرْض ... حَمَلَتْ فوقَها أبا عُمْران
ولآخر:
أنتَ يا هذا ثَقِيلُ ... وثقيل وثقيل
أنتَ في المَنْظَر إنْسا ... ن وفي الميزان فيل
وقال الحَسَن بن هانئ في رجل ثَقِيل:
ثَقِيل يُطَالِعُنا من أمَمْ ... إذا سره رغم أنفي ألم
أقوله له إذا بَدَا لا بَدَا ... ولا حملته إلينا قدم
فَقدتُ خيالَك لا مِن عَمىٍ ... وصوت كلامك لا من صمم
وله فيه:
وما أظنَ القِلاَصَ مُنْجِيتي ... منك ولا الفلك أيها الرجل
ولو رَكِبْت البرَاق أدْرَكني ... منك على نَأي دَارِك الثَقَل
هل لك فيما ملكته هِبةً ... تَاخذه جُمْلة وتَرْتَحِل
وله فيه:
يا مَن على الجُلاس كالفَتْق ... كلامُك التًخْديش في الحَلْق
هل لك في مالي وما قد حَوَت ... يَدَاي من جِلٍّ ومن دق
تَأخُذه منّي كذا فِدْيةً ... واذْهب ففي البُعد وفي السحْق
وله فيه:
ألا يا جبل المَقْت ال ... ذي أرسىَ فما يَبْرحْ
لقد أكثرتُ تَفكِيري ... فما أدْرِي لما تَصْلُحْ
فما تصلح أنْ تُهْجَىَ ... ولا تَصلحُ أن تُمْدَح
أَهْدى رجلٌ من الثُقلاء إلى رجل من الظُرفاء جَمَلاَ، ثم نزَل عليه حتى أبْرمه، فقال فيه:
يا مبرماً أهدى جَمَلْ ... خُذْ وانصرف ألفيْ جَمَل

قالَ وما أوْقارُها ... قلتُ زَبِيبٌ وعَسَلْ
قال ومَن يَقُودها ... قلتُ له ألْفَا رَجُل
قال ومَن يَسُوقها ... قلتُ له ألْفَا بَطَل
قال وما لِباسُهم ... قلتُ حُلِيً وحُلَل
قال وما سِلاحُهم ... قلتُ سُيوف وأَسَل
قال عَبِيد لي إذن ... قلتُ نَعم ثم خَوَل
قال بهذا فاكتُبوا ... إذن عليكم لي سِجل
قلت له ألْفي سِجل ... فاضمَنْ لنا أن تَرْتَحل
قال وقد أضجرتُكم ... قلتُ أَجَل ثم أَجل
قال وقد أبرَمتُكم ... قلتُ له الأمر جَلَل
قال وقد أثقلتكم ... قلتُ له فوق الثَقل
قال فإني راحلٌ ... قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل
يا كوكبَ الشُؤم ومَن ... أرْبَى على نحْس زُحَل
يا جبلاً مِن جَبَلٍ ... في جَبَلٍ فوق جبَل
وقال الحَمْدوني في رجل بَغِيض مَقِيت:
أيابن البَغِيضة وابن البَغِيضِ ... ومَن هو في البُغض لا يُلْحَق
سألتًك بالله إلا صَدَقْت ... وعِلْمي بأنكَ لا تَصدق
أتبغضُ نَفسك مِن بُغضها ... وإلا فأنتَ إذن أحْمَقُ
وله فيه:
في حمير الناس إن كُن ... تَ من الناس تُعَدُّ
ولقد أُنبئت: إبلي ... س إذا راك يَصُد
ولحبيب الطائي في مثله، أي في رجل مَقِيت:
يا مَن تَبَرَّمت الدنيا بطَلعته ... كما تَبَرَّمت الأجفان بالرَّمدِ
يَمشي على الأرض مختالا فأَحْسِبه ... لبُغْض طَلعته يَمشي على كَبِدي
لو أنّ في الأرض جُزءاً من سَماجتِه ... لم يَقْدَم الموْتُ إشفاقاً على أحد
وللحسن بن هانئ في الفضل الرًقاشيّ:
رأيتُ الرقاشيِّ في مَوْضِع ... وكان إليَّ بغيضاً مقيتا
فقال اقترِح بعض ما تَشْتَهِي ... فقلتُ اقترحتُ عليك السُّكوتا
وأنشد الشَعبيُّ:
إنّي بُلِيتُ بمَعشر ... نَوْكَى أخفهمُ ثقيلْ
بُلْهٌ إذَا جالستهُم ... صَدِئَتْ لقُرْبهمُ العُقول
لا يُفْهموني قولهم ... ويَدِقُّ عنهم ما أقول
فَهُمُ كثِيرٌ بي كما ... أنيِّ بقُرْبهم قليل
وقال العُتْبيّ: كتب الكِسائيّ إلى الرّقاشي:
شَكَوْتَ إلينا مَجَانينَكم ... وأشْكُو إليك مَجَانيننا
وأنشأتَ تَذْكر قُذّاركم ... فأنتِنْ وأَقْذِرْ بمَنْ عِنْدنا
فلَوْلا السَّلامة كُنًا كَهُم ... ولوْلا البَلاء لكانوا كَنَا
وقال حبيب الطائي:
وصاحبٍ لي مَلِلت صُحبَته ... أفقَدَني اللهّ شَخْصَه عَجِلاَ
سَرَقْتًُ سِكِّينه وخاتَمه ... أقطع ما بيننا فما فَعلا
وقال حبيب:
يا مَن لهُ في وَجْهه إذ بَدَا ... كنُوز قارُون من البُغْض
لو فر شيء قطٌّ مِن شكله ... فرَّ إذاً بعضك من بَعْض
كوْنُك في صُلْبِ أبينا، الّذِي ... أهبطنا جمعاً إلى الأرْض
وقال أبو حاتم:
وأنشدني أبو زَيْد الأنصاريّ النًحوي صاحبُ النَّوادر:
وَجْهُ يحيى يدْعو إلى البَصْق فيه ... غير أنِّي أَصون عنه بُصاقي
قال أبو حاتم: وأنشدني العُتبيّ:
له وَجْه يَحلّ البَصقُ فيه ... ويَحْرُم أن يُلقَّى بالتَّحيَّة
قال وأنشدني:
قميصُ أبي أميِّة ما عَلِمتم ... وأوْسَخُ منه جِلْدُ أبي أُمَيَّه

التفاؤل بالأسماء
سأَل عُمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يَسْتعين به على عمل عن اسمه واسم أبيه. فقال: ظالم بن سُراقة، فقال: تَظْلم أنت ويَسْرِق أبوك؟ ولم يَسْتَعِن به في شيء.

وأقبل رجلٌ إلى عُمَر بن الخطاب فقال له عمر: ما اسمك؟ فقال: شِهاب ابن حُرْقة، قال: ممَّن؟ قال: من أهل حَرة النار، قال: وأين مَسكنك؟ قال: بذات لَظى، قال: اذهب فإن أهلَك قد احترقوا. فكان كما قال عمر رضي الله عنه. ولقي عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه مَسْروق بن الأجْدع، فقال له: من أنتَ؟ قال: مَسْروق بن الأجدع. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأجدع شيطان.
وروى سُفيان عن هشام الدَسْتُوائيّ عن يحيى بن أبي كَثير قال: كَتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه: لا تُبْردوا بريداً إلا حَسَن الوجه، حَسَنَ الاسم.
ولمَّا فرغ المُهلّب بن أبي صُفْرة من حرب الأزارقة وجه بالفتْح إلى الحجاج رجلاً يقال له مالك بن بَشِير؟ فلما دخل على الحجّاج، قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بَشِير، محال: مُلْك وبِشارة.
وقال الشاعر:
وإذا تكُون كريهةٌ فَرَّجْتها ... أدعو بأسْلم مَرَّةً ورَباح
يُريد التَّطيّر بأسْلم ورَباح، للسَّلامة والرِّبح.
الرّياشي عن الأصمعيّ قال: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينه على رجل من الأنصار، فصاح الرجلً بغُلامَيه: يا سالم ويا يسار؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: سَلِمت لنا الدّار في يُسْر.
وقال سَعيد بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وَهب المَخْزومي: قَدِم جَدِّي حَزْن بن أبي وَهْب على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف اسمُك؟ قال: حَزْن، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل مَهْل؟ قال: ما كنتُ لأدع اسماً سَمّتني به أُمِّي قال: سَعِيد: فإِنا لَنَجد تلك الحزُونة في أخْلاقنا إلى اليوم.
وإنما تَطيّرت العرب من الغُراب للغُربة، إذ كان اسمُه مُشْتَقًّا منها.
وقال أبو الشِّيص:
أشاقَكَ والليلً مُلْقِي الجرَانِ ... غُرابٌ يَنُوحِ على غُصْن بَانِ
وفي نَعَبات الغُراب اغتِراب ... وفي البَان بينٌ بَعيد التَّدَاني
ولآخر في السَّفَرْجل:
أَهْدَى إليه سَفَرْجلاً فتَطيَّرا ... منه فظَلّ مُفَكِّرا مستعبرا
خَوْفَ الفِراق لأنّ شَطْر هِجَائه ... سَفَر وحَقّ له بأن يَتَطَيًّرَا
ولآخر في السَّوْسن:
ياذا الَّذي أهدئ لنا السَّوْسَنا ... ما كنتَ في إهدائه مُحْسِنَا
شَطْرُ اْسمه سَوء فقد سُؤْتَني ... يالَيت أنِّي لم أَر َالسَّوسَنا
ولآخرَ في الأتْرُج:
أَهْدَى إليه حبِيبُه أُتْرُجّة ... فَبَكَى وأشْفَق من عِيافة زَاجرِ
خافَ التَّبدّل والتَّلوُّن إنّها ... لَوْنان باطنُها خلافُ الظّاهر
وقال الطائي في الحَمام:
هُنّ الحَمام فإن كَسَرتَ عِيافةً ... مِن حائِهنّ فإنهن حِمامُ
وكان أشعبُ يَختلف إلى قَيْنة بالمَدينة، فلمّا أراد الخُروِج سألها أن تُعْطِيه خاتَم ذَهب في يَدِها ليَذكرها به، قالت: إن ذَهب، وأَخاف أن تذْهب، ولكن هذا العُود فلعلّك أن تعود.

باب الطيرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يَكاد يَسْلم منهنّ أحد: الطِّيرة والظنّ والحَسد، قيل: فما المَخْرج منهنّ يا رسولَ اللّه؟ قال: إذا تَطيَّرت فلا تَرْجع، وإذا ظَننت فلا تًحقِّق، وإذا حَسَدت فلا تَبْغ.
وقال أبو حاتم: السانح ما وَلاك مَيامِنه، والبارِح ما وَلاك ميَاسره، والجابه ما استقبلك من تُجاهك، والقَعِيد الذي يَأْتيك من خَلْفك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا عَدْوَى ولا طِيَرة.
وقال: ليس منا مَن تَطيّر.
وقال: إذا رَأَى أحدُكم الطِّيرة فقال: اللَهمّ لا طَير إلا طَيْرك، ولا خَيْر إلا خيْرك، ولا إله غَيْرك، لم تَضره.
وقد كانت العَرب تتطيّر، ويَأْتي ذلك في أشعارهم، وقال بعضهم:
وما صَدَقَتك الطير يوم لَقِيتَنا ... وما كان مَنْ دَلاك فينا بخَابِر
وقال حسّان رضي الله تعالى عنه:
يا ليتَ شِعْرِي ولَيت الطَّير تُخْبرني ... ما كان بين علي وابن عفَّانا
لتَسمعنَّ وَشيكاً في ديارِهُم ... الله أكْبر يا ثاراتِ عُثْمانا
وقال الحَسَن بن هانئ:

قامَ الأمير بأمر الله في البَشَر ... واسْتَقْبل المُلْك في مَسْتَقبل الثمر
فالطَير تُخْبِرنا والطَّيُر صادقةٌ ... عن طِيبِ عَيْش وعن طًول من العُمر
وقال الشَّيْباني: لما قَدِم قُتيبة بن مُسْلم والياً على خُراسان، قام خَطِيباً، فسَقطت المِخْصَرَة من يَدِه فتطيّر بها أهلً خُراسان، فقال: أيها الناس، ليس كما ظَننتم ولكنه كما قال الشاعر:
فأَلْقت عَصاها واستَقْرّت بها النَّوى ... كما قَر عَيْناً بالإيابِ المَسَافُر

اتخاذ الإخوان وما يجب لهم
رَوَى الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كَثير أنّ داود قال لابنه سُليمان عليهما السلام: يا بُنيّ لا تَستَقلّ عَدوَاً واحداَ ولا تَستَكْثِر أَلف صَديق، ولا تَستَبدل بأخٍ قديم أخاً مُستَحدثاً ما استَقام لك.
وفي الحديث المرفوع: المَرْء كَثير بأَخيه.
وقاد شَبيب بن شَيْبة؟ إخوان الصَّفاء خير مكاسب الدُّنيا، هم زِينةٌ في الرِّخَاء، وعدَّة في البَلاء، ومَعُونة على الأعداء.
وأنشد ابن الأعرابيّ:
لَعَمْرك ما مالُ الفَتَى بذَخيرة ... ولكن إخوانَ الصَّفاء الذَّخائرُ
وقال الأحْنف بن قَيْس: خَيْرُ الإخوان إن استغنيت عنه لم يَزِدك في المَودَّة، وإن احتَجْت إليه لم يَنْقُصك منها، وإن كُوثِرت عَضدك، وإن استرفدت رفَدَك، وأنشد:
أخوكَ الذي إن تَدْعُه لِمُلِمِّة ... يُجِبْك وإنْ تَغْضب إلى السًيف يَغْضب
ولآخر:
أخَاكَ أَخَاكَ إنّ مَن لا أخاً له ... كَساعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْر سِلاح
وإنّ ابن عَمّ المَرْء فاعْلَم جَناحُه ... وهل يًنْهض البازِي بغَيْر جَنَاح
ومما يَجب للصدًيق على الصَّديق النصيحةُ جَهْده. فقد قالوا: صدِيق الرجل مِرْآته تُريه حَسناتِه وسيّآته.
وقالوا الصَّدِيق من صَدَقك وُدّه، وبَذَل لك رِفْدَه.
" وقالوا: أربعة لا تعرَف إلاّ عِنْد أربعة: لا يُعرف الشجاع إلا عند الحَرْب، ولا الحَلِيم إلا عند الغَضب، ولا الأمين إلا عند الأخذ والعَطاء، ولا الأخوانُ إلا عَند النَّوائب " .
وقالوا: خير الإخوان مَن أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك.
وقال الشاعر:
فإنّ أوْلَى المَوالي أن توَاليه ... عند السُّرور لمَن واساكَ في الحَزَنِ
إن الكرِامَ إذا مَا أُسهَلوا ذَكَرُوا ... مَن كان يأَلَفَهُم في المنزل الخَشِن
ولآخر:
البرُّ من كَرَم الطبيعة ... والمَنّ مَفْسدة الصنيعة
تَرْكُ التعهُّد للصَّدي ... ق يكون داعيةَ القطيعة
أنشد محمدُ بن يزيد المبرِّد لعبد الصَّمد بن المُعذَّل في الحَسْن بن إبراهيم.
يا من فَدَت نَفْسَه نَفْسي ومن جُعُلت ... له وِقَاءً لِمَا يخشى وأَخْشاهُ
أبْلِغ أخاكَ وان شَط المَزَار به ... أنِّي وإنْ كُنتُ لا ألقاه ألقاه
وأنّ طَرْفيَ مَوْصول برؤيته ... وإنْ تَباعد عن مَثْواي مَثْواه
اللّه يعْلَم أنّي لستُ أذْكُره ... وكيف يَذكره مَن ليس يَنْساه
عًدُّوا فهل حَسَنٌ لم يَحْوِه حَسَن ... وهَلْ فتَى عَدَلت جَدْواه جَدْوَاه
فالدهر يَفْنى ولا تَفْنى مَكارمه ... والقَطْر يُحْمىَ ولا تُحْصىَ عَطَايَاه
وقيل لبعض الوُلاة: كم صديقاً لك؟ قال: لا أدْري، الدُّنيا مُقْبِلة عليَّ والناس كلِّهم أصدقائيِ، وإنما أَعرف ذلك إذا أدبرَتْ عنِّي.
ولمّا صارت الخِلافة إلى المَنْصور كَتب إليه رجلٌ من إخوانه كتاباً فيه هذه الأبيات:
انا بِطَانُتك الآلي ... كُنَّا نُكابِد ما تُكابِدْ
ونُرَى فنُعْرف بالعَدا ... وَة والبِعاد لمَن تُباعد
ونبيت في شَفَق عَلَي ... ك رَبيئةً والليلُ هاجِد
أصناف الإخوِان

قال العَتّابي: الإخوانُ ثلاثة أصناف: فرْع بائنٌ من أصله، وأصل مُتَّصل بفَرْعه، وفَرْع ليس له أصل. فأمّا الفرع البائن من أصله، فإخاءٌ بُني على مودّة ثم انقطعت فحُفِظ على ذمام الصُّحبة؛ وأمّا الأصل المتَّصل بفَرْعه، فإخاءٌ أصله الكرم وأغصانه التَقوى؛ وأمّا الفرع الذي لا أصل له، فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الصاحب رُقْعة في قميصك فانظر بم تُرَقِّعه.
ويقال: من علامة الصَّديق أن يكون لصَديق صديقه صديقاً ولعدوه عدوَّاً.
وقَدِم دِحْية الكَلْبيّ على أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ، فما زال يَذْكر مُعاوية ويطْريه في مجلسه؛ فقال عليٌّ عليه السلام:
صَديقُ عَدُوِّي داخلٌ في عَدَاوَاتي ... وإنِّي لمَن وَدَّ الصّديقَ وَدودُ
فلا تَقْرَباً منّي وأنت صَديقُه ... فإنّ الذي بين القُلوب بعيدُ
وفي هذا المعنى قول العتابيّ:
تَودُّ عدوِّي ثم تَزْعُم أنني ... صديقُك إنّ الرَّأي عنك لعازِبُ
وليس أخي مَن دوني رَأْيَ عَيْنه ... ولكنْ أخي مَن دوني وهو غائبُ
وقال آخر:
ليس الصديقُ الذي إن زَلَّ صاحبُه ... يوماً رَأَى الذنبَ منه غيرَ مغْفِورِ
وإنْ أَضاع له حَقَاً فعاتَبه ... فيه أتاه بتَزْوِيق المَعاذِير
إنّ الصًديق الذي ألقاه يَعذِر لي ... ما ليس صاحبُه فيه بمَعْذور
وقال الآخر:
كم مِن أخ لم يَلدِهْ أبُوكا ... وأخ أبوهُ أبوكَ قد يَجْفُوكا
صافِ الكِرَامَ إذا أَردتَ إخاءَهم ... واعْلَم بأنّ أخا الحِفاظ أُخوكا
والناسُ ما استغنيتَ كُنتَ أخاهُمُ ... وإذَا افتقرتَ إليهمُ رَفَضًوكا
وقال بعضهم:
أخوك الذي إن قمتَ بالسًيْف عامِداً ... لتَضْرِبَه لم يَسْتغشَّك في الوُدِّ
وإنْ جئتَ تَبْغي كفّه لتُبينَها ... لبادَر إشفاقاً عليك من الرَّدّ
يرى أنَّه في الودّ وانٍ مقَصرٌِّ ... على أنَّه قد زادَ فيه على الجَهْد
وقال آخر:
إنْ كنتَ مُتَّخذاً خَلِيلاً ... فتَنَقَّ واْنتَقد الخَلِيلاَ
مَن لم يكُن لك منصفًا ... في الوُدّ فابغ به بَدِيلا
ولقَلَّما تَلْقى اللَّئيمَ ... عليك إلا مستطيلا
وللعَطوِيّ:
صُنِ الوًدً إلاِّ عَن الاكرمين ... ومَن بمُؤَاخاتِه تَشْرُفُ
ولا تغتررْ مِن ذَوِي خلَة ... بما مَوّهوا لكَ أَوْ زَخْرفوا
وكم من أخ ظاهر ودًّه ... ضَمِيرُ مَودّته أَحْيَف
إذا أنت عاتبتَه في الإخا ... ءِ تنكر منه الذي تَعْرِف
وكتب العباس بن جَرير إلى الحَسن بن مَخْلد:
ارعَ الإِخاءَ أبا مُحم ... د للَّذي يصْفو وصُنْهُ
وإذا رأيتَ مُنافِساً ... في نيل مكرمةٍ فكنه
إنَ الصديقَ هو الذي ... يرعاك حيث تغيب عنه
فإذا كشفت إخاءَهُ ... أحمدتَ ما كشفت منه
مِثْل الحُسام إذا انتضا ... هُ أخُو الحفيظة لم يخنه
يسعى لما تسْعى له ... كرماً وإنْ لم تَسْتَعِنْهُ
وقال آخر:
خَيْرُ إخوانِكَ آْلمشارك في المر ... وأَين الشرِيكُ في المرّ أَيْنَا
الَّذِي إنْ شهدتَ زادَك في البرّ ... وإن غِبْتَ كان أذْناً وعَيْنا
وقال آخر:
ومِنَ البَلاء أخٌ جنايتُه ... عَلَق بنا ولغَيْرنا سَلَبُهْ
ولآخر:
إذا رأيتُ انحرافاً من أخِي ثِقةٍ ... ضاقتْ عليّ برُحب الأرض أوْطانِي
فإن صددتُ بوَجْهي كَيْ أكافئَه ... فالعَين غَضْبَى وقَلْبي غير غضبان
وكتب بعضُهم إلى محمد بن بَشّار:
مَن لم يُرِدْك فلا تردهُ ... لِتَكُنْ كَمَنْ لم تَسْتَفِدْه
باعِدْ أخاكَ لبُعْده ... وإذا دَنا شِبْراً فزِده
كم من أخٍ لك يا بنَ بَشّ ... ا رٍ وأُمُّك لم تَلِدْه

وأخِي مُناسَبة يَسُو ... ءُك، غَيْبُه لم تفتقده
فأجابه محمد بن بَشّار:
غَلِطَ الفَتى في قَوْله: ... مَن لم يُرِدْك فَلا تُرده
مَنْ يَأْنس الإخْوان لم ... يَبْدَ العِتابَ ولم يُعِدْه
عاتِبْ أخاك إذا هَفا ... واعْطِفْ بِودك واسْتَعِدْه
وإذا أتاك بِعَيْبِهِ ... واشٍ فقُل لم تَعْتمده

معاتبة الصديق واستبقاء مودته
قالت الحكماء: مما يجب للصَّديق على الصديق الإغْضاء عن زلاّته، والتَّجاوز عن سيّآته، فإن رجع وأعتب وإلاّ عاتبتَه بلا إكثار، فإنّ كثرَة العتاب مَدْرجة للقَطِيعة.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه: لا تَقْطع أخاك على ارتياب، ولا تهجره دون استِعْتاب.
وقال أبو الدَّرداء: مَن لك بأَخيك كلّه.
وقالوا؛ أيّ الرجال المُهذَّب.
وقال بشّار العُقَيْليّ:
إذا أنتَ لم تَشْرب مِراراً على القَذَى ... ظَمِئْتَ وأيُ النَّاس تَصْفو مَشارِبُه
وقالوا: مُعاتبة الأخ خَيرٌ من فَقْدِه.
وقال الشاعر:
إذا ذَهب العِتاب فليْسَ ودٌ ... ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِي العِتَابُ
ولمحمد بن أَبان:
إذا أنَا لم أَصْبِرْ على الذَّنب مِن أخٍ ... وكنتُ أُجازيه فأَين التفاضلُ
" إذا ما دهاني مِفْصلٌ فقطعتًهَ ... بَقيتُ وما لي للنُّهوص مَفاصل، "
ولكنْ أُدَاويه فإنْ صَحَّ سرًّني وإنْ هو أَعْيا كان فيه تحامل وقال الأحنف: مِن حَقّ الصَّديق أن يَتَحَمَل ثلاثاً: ظُلم الغضب، وظُلم الدالّة، وظُلم الهَفوة.
لعبد الله بن مُعاوية:
ولستُ ببَادي صاحبِي بقَطِيعة ... ولستُ بمُفْشٍ سِرَّه حين يغْضبُ
عَليك بإخوان الثِّقَات فإنهم ... قليلٌ فَصِلْهم دُون مَن كنت تَصْحَب
وما الخِدْن إلا مَن صَفا لك وُدّه ... ومَن هو ذو نُصْح وأنت مُغَيَّب
ما يستجلب الإخاء
والمودة ولين الكلمة
قال عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: مَن لانت كَلِمته وَجَبت محبّتُه. وأنشد: كيفَ أصبحتَ كيف أمْسيتَ ممَّا يُنْبِتُ الوُدّ في فُؤاد الكَرِيم وعَلَى الصديقِ ألا يلقَى صديقه إلا بما يُحب، ولا يًؤذِي جليسَه، فيما هو عنه بمَعْزِل، ولا يأتي ما يَعيب مِثْلَه، ولا يَعيب ما يأتي شَكْلَه. وقد قال المتوكّل اللّيثي:
لا تنهَ عَن خُلُقِ وَتأْتِيَ مِثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ
وقال عمرً بن الخَطّاب رضي الله عَنه: ثلاث تثبت لك الوًدَّ في صَدْرِ أخيك: أن تَبدأه بالسَّلام، وتُوسع له في المَجْلس، وتَدْعوه بأحبّ الأسماء إليه.
وقال: ليس شيءٌ أبلغَ في خَيْر ولا شَرّ من صاحب.
وقال الشاعر:
إن كُنتَ تبغي الأَمْرَ أو أصلَه ... وشاهداً يُخْبر عن غائبِ
فاعْتَبِر الأرضَ بأَشْباهها ... واعْتَبر الصّاحب بالصَّاحب
لعَدِيّ بن زَيد:
عَنِ المَرْء لا تَسَلْ وسَلْ عَن قَرِينه ... فكُلُّ قَرِين بالمُقارن يَقْتَدِي
و لعمرو بن جَمِيل التَغْلَبي:
سأصبر من صَديقي إنْ جَفَاني ... على كلّ الأذَى إلا الهَوَانَا
فإنّ الحُرَّ يَأنَف في خَلاءِ ... وإن حَضر الجماعةَ أن يُهانَا
وقال رجلٌ لمُطِيع بن إياس: جِئّتُك خاطباً مَوَدَّتك؛ قال: قد زَوَّجتكها على شرط أن تجعل صَداقها أن لا تَسمع فيَّ مقالَ الناس.
ويقال في المَثَل: مَن لم يَزْدَرِد الرّيق لم يَستكثر من الصديق.
وما أحسنَ ما قال إبراهيمُ بن العبَّاس:
يا صديقيِ الذي بَذَلْت له الو ... دَّ وأنزلتُه على أحشائي
إنّ عَيْناَ أقْذَيْتهَا لتراعي ... ك على ما بها مِن الإقذاءِ
ما بها حاجةٌ إليك ولكنْ ... هي مَعْقودة بحَبْل الوَفاء
ولابن أبي حازم:
ارْضَ من المَرْءِ في مَوَدَّته ... بما يُؤدي إليكَ ظاهرُه
مَن يَكْشِف الناسَ لا يَرى أحداً ... تَصِحّ منه له سَرائرُه

توشِك أن لا تتم وَصْل أخٍ ... في كلّ زَلاّته تُنافِره
إنْ ساءَني صاحِبي احْتملْتُ وإن ... سرَّ فإني أخوه شاكِرُه
أصفح عَنْ ذَنْبه وإِن طَلَب ال ... عُذْرَ فإنّي عليه عَاذِرُه
ولغيره:
لعمري لئن أبطأت عَنْك فلم أزَل ... لأحْداث دَهْرٍ لا يزال يَعُوقُ
لقد أصبحتْ نَفْسي علي شَفِيقةً ... ومِثْلي على أهل الوَفاء شَفِيق
أسرَّ بما فيه سُرُورك إنَّني ... جَدِير بمكنون الإخاء حَقِيق
عدَوّ لمن عاديتَ سَلْم مُساِلمٌ ... لكل آمرئ يَهْوى هواكَ صَدِيق
ولأبي عبد الله بن عُرْفة:
هُمًومُ رجالٍ في أمور كَثيرةٍ ... وهَمِّي من الدِّنيا صديق مُساعِدُ
يكون كرُوح بين جِسْمين فُرِّقَا ... فَجِسْماهما جِسْمان والرُّوح واحِد
قال بعض الحكماء: الإخاء جَوْهرة رقيقة، وهي ما لم تُوَقِّها وتَحْرُسها مُعرَّضة للآفات، فَرُض الإخاء بالحدّ له حتى تَصل إلى قُربه، وبالكَظْم حتى يَعْتذِر إليك مَن ظَلَمك، وبالرِّضى حتى لا تَسْتَكْثر من نَفْسك الفَضْل ولا من أخيك التَّقْصير.
لمحمود الوَرّاق:
لا بِرِّ أعظمُ من مُساعدةٍ ... فاشكُر أخاك علىِ مُساعَدَتِهْ
وإذا هَفا فأَقِلْه هَفْوَته ... حتى يَعودَ أخاَ كعادته
فالصفح عن زَلَل الصّديق وإن ... أَعْياك خيرٌ من مُعاندته
لعبد الصمد بن المُعذَّل:
مَن لم يُدرِك ولم ترده ... لم يستفدك ولم تُفِدْه
قَرِّبْ صدِيقَك ما نَأى ... وَزِدِ التقارُب واستزده
وإذا وَهَتْ أركان ودٍّ ... من أَخي ثِقَة فَشِدْهُ

فضل الصداقة على القرابة
قيل لبُزرجمهر: مَن أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: ما أحِبّ أخي إلا إذا كان لي صديقاً.
وقال أكثم بن صَيفيّ: القرابة تحتاج إلى مودَة، والمودَة لا تحتاج إلى قرابة.
وقال عبد الله بن عبّاس: القرابة تقْطع، والمعروف يُكْفر، وما رأيتً كتقارب القلوب.
وقالوا: إيَّاكم ومَن تكْرهه قلوُبكم فإن القُلوب تُجَارِي القلوب.
وقال عبد الله بنً طاهر الخُراسانيّ:
أميل مع الذِّمام على ابن أمِّيِ ... وأحْمِل للصديق على الشِّقِيقِ
وإن ألفيتَني مَلِكاً مُطاعاَ ... فإنك واجدِي عبدَ الصَّديق
أفرِّق بين معروفي ومَنِّي ... وأجمع بين مالي والحُقوق
وقال حَبيب الطائي:
ولقد سَبَرتُ الناس ثم خَبرتُهمِ ... ووصفتُ ما وَصفوا من الأسباب
فإذا القرابةُ لا تُقَرِّب قاطعاً ... وإِذا المودَة أقرب الأنساب
وللمبرِّد:
ما القرْبُ إلا لمن صحَت مَوَدَّته ... ولم يَخُنْك وليس القُرْبً للنسَبِ
كم مِن قَريب دَوِيّ الصَّدْر مُضْطَغِن ... ومن بَعيدٍ سَلِيم غير مقترب
وقالت الحًكماء: رب أخ لك لم تَلِدْه أمك.
وقالوا: القَرِيب من قَرب نَفْعه.
وقالوا: رُبّ بعيدٍ أقرب من قَريب.
وقال آخر:
رُب بعيدَ ناصحُ الجَيْب ... وابن أبِ مُتهم الْغَيب
وقال آخر:
أخُو ثِقةٍ يُسَر ببعض شانِي ... وِإنْ لم تُدْنِه مني قَرَابهْ
أحَبُّ إليَّ من ألْفْي قَريب ... لَبيتُ صُدورهم لي مُسْترابه
وقال آخر:
فَصِلْ حِبَال البعيد إن وَصَل ال ... حَبْلَ وأقص القَرِيبَ إن قَطَعهْ
قد يَجمع المالَ غير ُآكله ... ويأكل المالَ غيرُ من جَمَعه
فارْض من الدهر ما أتاك به ... من قَرَّعَيْنَا بعَيْشِه نَفَعه
وقال.
لكلِّ شيء من الهُموم سَعَهْ ... والليلُ والصُّبح لا بقَاءَ معهْ
لا تَحْقِرَنّ الفقيرَ عَلَّكَ أن ... تركع يوماً والدَّهُرُ قد رفَعَه
وقال ابن هَرْمة:
للّه درُّك من فَتًى فَجعت به ... يومَ البَقيع حوادِثُ الأيام

هَشّ إذا نزَل الوُفودُ ببابه ... سَهْل الحِجاب مُؤَدَّب الخُدّام
وإِذا رأيت صديقه وشَقيقه ... لم تَدْرِ أيّهما أخو الأرحام

التحبب إلى الناس
في الحديث المَرْفوع: أحبُّ الناس إلى الله أكثرهم تَحَبُّباً إلى الناس.
وفيه أيضاً: إذا أحبَّ الله عبداً حبَّبه إلى الناس.
ومن قولنا في هذا المعنى.
وَجْهٌ عليه من الحَيَاء سَكينةٌ ... ومحبَّة تجري مع الأنفاس
وإذا أحبّ الله يوماً عبدَه ... ألقى عليه محبَّة للنّاس
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقّاص: إن الله إذا أحَبَّ عبداً حبَّبه إلى خَلْقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعْلم أنّ مالك عند الله مثلُ ما للناس عندك.
وقال أبو دُهْمان لسَعيد بن مُسلم ووقف إلى بابه فحجَبَه حيناً، ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال: إنَّ هذا الأمر الّذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يدَيْ غيرك فأمسى واللّه حديثاً، إن خيراَ فخير، وإن شراً فشر، قتحبَّب إلى عباد الله بحُسن البِشْر، وتسهيل الحجاب، ولين الجانب، فإن حُبَّ عبادِ الله مَوْصولٌ بحُب اللّه، وبُغضهم مَوْصول ببغض اللّه، لأنهم شُهداء الله على خَلْقه، ورُقباؤه على من أعوج عن سبيله. وقال الجارود: سُوء الخُلق يُفْسِد العَمل، كما يُفسد الخَلّ العَسل.
وقيل لمُعاوية: من أحبّ الناس إليك؟ قال: مَن كانت له عِنْدي يد صالحة؛ قيل له: ثم مَن؟ قال: من كانت لي عِنْده يدٌ صالحة.
وقال محمدُ بن يزيد النَّحوي: أتيتُ الخليلَ فوجدته جالساً على طُنْفسة صَغِيرة، فوسَّع لي وكَرِهتُ أن أُضيِّق عليه، فانقبضتُ، فأخذ بِعَضُدي وقَرَّبي إلى نَفْسه، وقال: إنه لا يَضِيق سَمُّ الخياطَ بمُتحابين، ولا تَسَع الدنيا مُتباغضين.
ومن قَولنا في هذا المَعنى.
صِل من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبةً ... فأَطيبُ العَيْش وَصلٌ بين إلْفين
واقْطَعْ حَبائل خِدْنٍ لا تُلائمه ... فربِّما ضاقتِ الدُّنيا بإثْنين
صفة المحبة
أبو بكر الورَّاق قال: سأل المأمونُ عبد الله بنَ طاهر ذا الرِّياستين عن الحبّ ما هو، فقال: يا أمير المؤمنين إذا تقادحتْ جواهر النُّفوس المُتقاطعة بوَصْل المُشاكلة انبعثت منها لمْحَة نور تَسْتضيء بها بواطنُ الأعضاء، فتحرّك لإشراقها طَبائع الحَياة، فيتصوَّر من ذلك خَلْق حاضر للنَّفس، مُتَّصِل بخَواطِرها يُسمى الحب.
وسُئل حمَّاد الراوية عن الحبّ، فقال: شَجرة أصلُها الفِكْر، وعُروقها الذِّكر، وأغصانُها السَّهر، وأوراقُها الأسقام، وثمرتُها المنيّة.
وقال مُعاذ بن سَهْل: الحبُّ أصعبُ ما ركب، وأسْكر، ما شُرب، وأَفْظع ما لُقِي، وأحْلَى ما اشتُهي، وأَوْجع ما بَطَن، وأشهى ما عَلَن، وهو كما قال الشاعر:
وللحُب آياتٌ إذا هي صَرّحت ... تَبَدَّت علاماتٌ لها غُرَرٌ صفْرُ
فباطِنُه سُقْم وظاهِرُه جَوَى ... وأوَّلُه ذكر وآخره فكر
وقالوا: لا يكن حُبّك كَلَفا، ولا بغْضك سَرَفا.
وقال بشَّار العُقَيْليِّ.
هل تَعْلَمِينَ وَراء الحُبّ مَنزلةً ... تُدْني إليكِ فإنّ الحبَّ أقصَانِي
وقال غيرُه:
أُحِبّكِ حُبا لو تحبينَ مِثْلَه ... أصابك من وَجْدٍ عليّ جُنُونُ
لَطِيفاً مع الأحْشاء أمّا نهارُه ... فدَمْعٌ وأمّا لَيْلُه فأنِين
مواصلتك لمن كان يواصل أباك
من حديث ابن أبي شَيْبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَقْطع مَن كان يواصلُ أباك تُطفيء بذلك نُورَه، فإنّ وُدَّك وُدُّ أبيك.
وقال عبدُ الله بن مَسعود: مِن بِرّ الحيِّ بالميِّت أن يَصِل مَن كان يصلُ أباه.
وقال أبو بكر: الحبُّ والبغضُ يُتوارثَان.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: لا تقْتنِ من كلب سَوْء جِرْواً.
وقال الشاعر:
تَرْجُو الوليدَ وقد أعياك والدُه ... وما رَجاؤُك بعد الوالدِ الوَلدَا

واجتمع عندَ مَلِك من ملوك العرب. تميمُ بن مُرّ وبكر بن وائل، فوقَعت بينهما مُنازعة ومُفاخرة، فقالا: أيُّها الملك، أعطِنا سَيْفين نتجالد بهما بين يَدَيك حتى تَعلم أيُّنا أجْلد. فأمر الملكُ فنُحِت لهما سَيفان من عُودين، فأعطاهما " إياهما " ، فجعلاَ يَضْطربان مَليًّا من النهار، فقال بكرُ بن وائل:
لو كانَ سيفانَا حديداً قَطَعا
قال تميم بن مُرّ:
أو نحتا من جَنْدل تَصًدّعا
وحال الملكُ بينهما، فقال تميم بن مُرّ لبكر بن وائل:
أُساجِلك العَداوَةَ ما بَقِينا
فقال له بكر:
وإنْ مِتْنا نُوَرِّثها البَنِينا
فيًقال إن عداوة بكر وتميم من أجل ذلك إلى اليوم.
أبو زيد: قال أبو عُبيدة: بُني دُكَان بسجستان بَنَتْه بكر بن وائل، فهَدَّمته تميم، ثم بنته تميم فهَدَّمته بكر، فتواقعوَا في ذلك أربعةً وعشرين وَقعة. فقال ابن حِلِّزة اليَشْكُري في ذلك:
قَرَبي ياخَليُّ وَيحْكِ دِرْعي ... لَقِحَت حَرْبُنا وحربُ تميم
إخْوة قرّشوا الذُّنوب علينا ... في حديث من دهرِهم وقَدِيم
طَلبُوا صُلْحنا ولاتَ أوَانٍ ... إنَّ ما يَطلبون فوق النُّجُوم

الحسد
قال علي رضي الله عنه: لا راحةَ لِحَسُود، ولا إخَاء لمَلُول، ولا مُحِبَّ لسَيىِّء الخُلًق.
وقال الحسن: ما رَأيت ظالماً أشبهَ بمظلوم من حاسِد، نَفَس دائم، وحُزن لازم، وغم لايَنْفد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كاد الحَسد يَغْلِب القَدَر.
وقال مُعاوية: كلُّ الناس أَقْدِر أُرْضِيهم إلا حاسدَ نِعْمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
وقال الشاعر:
كلُّ العَداوة قد تُرْجَى إماتتُها ... إلا عَدَاوَةَ مَن عاداكَ مِن حَسَدِ
وقال عبد الله بن مَسعود: لا تُعادُوا نِعَم الله؛ قيل له: ومن يُعادي نِعَم اللّه؟ قال: الذين يحْسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فِضله. يقول الله في بعض الكتب: الحَسُود عدوُّ نِعْمَتي، مُتَسخِّطٌ لقَضَائي، غيرُ راض بِقسْمَتي.
ويقال: الحَسَد أوّل ذَنْب عصي الله به في الَسماء، وأوّل ذَنْبِ عُصي الله به في الأرض؟ فأمّا في السماء فحَسدُ إبليس لآدمَ، وأما في الأرض فَحَسدَ قابيلَ هابيل. وقال بعضُ أهل التفسير، في قوله تعالى: " رَبًنَا أَرِنَا الَّلذَيْنِ أَضلأَنَا مِنَ اْلْجنِّ والإنْس نَجْعَلهما تحتَ أقدامِنا ليَكُونَا من الأسْفَلِين " . إنه أراد بالذي من الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل، وذلك أن إبليس أولُ من سَنَّ الكفر، وقابيل أوّل من سَنَّ القتل؛ وإنما كان أصل ذلك كله الحسد.
ولأبي العتاهية:
فيا رَبِّ إنّ الناس لا يُنْصفونني ... وكيفَ ولَوْ أَنصفتُهم ظَلَمُوني
وإنْ كانَ لي شيءٌ تَصدِّوْا لأخْذه ... وإن جئت أبْغِي سَيْبهم مَنَعُوني
وإن نالَهُمِ بَذْلي فلا شُكْرَ عِنْدهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شَتَمُوني
وإن طَرَقتْني نِقْمَةٌ فَرِحُوا بها ... وإن صَحِبَتنِي نِعْمَةٌ حَسَدُوني
سَأَمْنَع قلْبِي أن يَحنَّ إليهُم ... وأحْجُب عنهم ناظِري وجُفُوني
أبو عُبيدة مَعمر بن اَلمُثنِّي قال: مَرّ قيس بن زُهير ببلاد غَطَفان، فرأَى ثَرْوَةً وعدداً، فكَرِه ذلك، فقيل له: أيسوؤك ما يَسرُّ الناس؟ قال: إِنك لا تَدْري أنّ مع النِّعمة والثروة التَّحاسدَ والتخاذلَ، وأنَّ معِ القلّة التحاسد والتناصُر.
وكان يقال: ما أثْرَى قَوْم قطُّ إلا تَحاسدوا وتخاذلوا.
وقال بعضُ الحكماء: ألزَم الناس للكآبة أربعة: رجل حديد، ورجل حَسُود، وخَلِيط الأدباء وهو غيرُ أدِيب، وحَكِيم مُحَقَّر لدى الأقْوام.
عليّ بن بِشْر المَرُّوزيّ قال: كتب إليَّ ابن المبارك هذه الأبياتَ:
كلَّ العَدَاوة قد ترْجَى إماتَتُها ... إلا عَداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ
فإِنّ في القَلْبِ منها عُقْدَةً عُقِدَتْ ... وليس يَفْتحها راقٍ إلى الأبدِ
إلا الإَله فإن يَرْحم تُحَلّ به ... وإنْ أباه فلا تَرْجُوه من أحد

سُئِلَ بعضُ الحُكماء: أيّ أعدائك لا تُحِبّ أن يَعُود لك صديقاً؟ قال " : الحاسِد الذي لا يَرُدّه إلى " مودتي " إلا زوالُ نِعْمتي.
وقال سُلَيمان التَّيْمِيّ: الحَسد يُضعِف اليَقِين، ويُسْهِر العَينْ، ويُثِرُ الهمّ.
الأحنفُ بن قَيْس صَلِّى على حارثة بن قُدَامة السَّعْديّ، فقال: رَحمك اللهّ، كنتَ لا تحْسُد غَنياً ولا تحقر فقيراَ.
وكان يُقال: لا يُوجَد الحُرُّ حَرِيصاً، ولا الكَرِيم حَسُداً.
وقال بعضُ الحُكماء: أجهدُ البَلاء أن تَظْهَرَ الخَلَّة، وتَطُوِل المُدَّة، وتَعْجِز الحِيلة، ثم لا تعْدَم صَدِيقاً مُوَلِّيا، وابن عمٍّ شامتاً وجاراً حاسِداَ، ووليًّا قد تَحَوَّل عدوًّا، وزَوْجة مُخْتلِعة، وجارية مُسْتَبِيعة، وعَبداً يَحْقِرك، وولداً يَنتهرك، فانظُر أين مَوْضِع جَهْدك في الهرَب: لرجل من قُريش:
حَسَدُوا النعمةَ لمَّا ظَهَرت ... فَرمَوْها بأباطيل الكَلِمْ
وإذا ما الله أَسْدَى نِعْمَةً ... لم يَضِرْها قولُ أعداءِ النِّعَم
وقيل: إذا سرك أن تَسْلم من الحاسد فعَمِّ عليه أمْرَك.
وكانت عائشةُ رضى اللهّ عنها تتمثّل بهذين البيتين:
إذا ما الدهر جَرَّ على أناس ... حوادثَه أناخَ بآخرِينَا
فقُلْ للشَّامِتين بنا أفِيقُوا ... سيَلْقى الشامِتون كما لَقِينا
ولبعضهم:
إياك والحسدَ الذي هو آفةٌ ... فَتَوَقَّه وتَوَقَّ غِيرة مَنْ حَسد
إِنَّ الحَسُودَ إذا أرك مَوَدَّةً ... بالقَوْل فهو لك العَدُوُّ المُجْتَهِدْ
الليثً بن سَعْد قال: بَلَغني أنَّ إبليس لقي نُوحًا صلى الله عليه وسلم، فقال له إبليس: اتّق الحَسْد والشح، فإني حَسَدتُ آدمَ فخرجتُ من الجنة، وشَحَّ آدم على شَجرة واحدة مُنِع منها حتى خَرج من الجنًة.
وقال الحسنُ: أصول الشَّرِّ " ثلاثة " وفُروعه ستَّة، فالأصول الثلاثة: الحَسَد، والحِرْص، وحُبًّ الدُّنيا. والفُروع الستة: " حُبّ النوم، وحُبّ الشِّبع، وحُبُّ الراحة، وحُبُّ الرئاسة وحُبُّ الثناء، وحُبُّ الفَخْر.
وقال الحسن: يَحْسُد أحدُهم أخاه حتى يَقَعَ في سَرِيرته وما يَعْرِف علانِيَته، ويَلُومه على ما لا يَعْلمه منه، وَيتعلم منه في الصّداقة ما يُعَيِّره به إذا كانت العداوة، واللّه ما أرى هذا بمُسْلِم.
ابن أبي الدُّنيا قال: بَلغني عن عُمر بن ذَرّ أنه قال: اللهم من أرادنا بشّرٍ فاكفِناه بأيِّ حُكمَيْك شِئت، إمّا بتَوْبة وإمّا براحة. قال ابن عباس: ما حسدتُ أحداً على هاتين " الكلمتين " .
وقال ابن عبَّاس: لا تَحْقِرَنَ كلمة الحكمة أن تَسْمعها من الفاجر، فإنما مَثَلُه كما قال الأول: رُبَّ رَمْيَة من غير رام.
وقال بعضُ الحكماء: ما أمحقَ للإيمان، ولا أهتكَ للستر من الحسد، وذلك أنّ الحاسدَ مًعاند لحكم الله. باغٍ على عباده، عاتٍ على ربه، يَعْتَدّ نِعم اللهّ نِقَما، ومَزِيده غِيَرا، وعَدْل قضائة حَيْفا، للناس حال وله حال، ليس يهدأ، ولا يَنام جَشَعه، ولا ينْفعه عَيْشُه، مُحْتقر لِنَعم الله عليه، مُتسخِّط ما جرت به أقدارُه، لا يَبردُ غَليله، ولا تُؤْمَن غوائله، إن سالمتَه وَتَرَك، وأن وَاصلتَه قَطَعك، وإن صَرَمتْه سَبَقك.
ذُكِر حاسدٌ عند بعض الحكماء فقال: يا عَجَبا لرجل أسلكه الشيطانُ مهاوِي الضَّلالة، وأورده قُحَم الهَلَكة، فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد، إن أنالها من أحب مِن عِباده أشْعِر قلبُه الأسف على ما لم يُقْدَر له، وأغاره الكَلَفُ بما لم يكن لِينالَه.
أنشدني فتًى بالرَّملة:
اصبر على حَاسَد الحَسو ... د فإنّ صَبْرَكَ قاتلُه
النَّارُ تأكل بعضها ... إن لم تَجدْ ما تاكله
وقال عبدُ الملك بن مَرْوان للحجاح: إنه ليس منَ أحدٍ إلا وهو يَعرف عَيب نفسه، فصفْ لي عيوبك. قال: أعفِنى يا أمير المؤمنين؛ قال: لستُ أفعل؛ قال: أنا لَجُوج لَدُود حَقُود حَسُود؛ قال: ما في إبليس شرٌ من هذا.
وقال المنصور لسُليمان بنِ مُعاوية المُهلَبي: ما أسرع الناسَ إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العَرَانين تَلْقَاها مُحَسِّدةً ... ولن تَرَى للئام الناس حُسَّادَا
وأنشد أبو موسى لنَصرْ بن سيار:

إِنِّي نشأتُ وحُسَّادي ذَوُو عَدَدٍ ... يا ذا المَعارج لا تَنْقُص لهم عَدَدَا
إنْ يَحْسُدًوني على حُسْنِ البَلاَء بهم ... فمِثْل حُسْن بَلاَئي جر لي حَسدا
وقال آخر:
إن يَحْسُدُوني فإنّي غيرُ لائمهم ... قبْلي من الناس أهل الفضل قد حُسِدُوا
فَدَام لي ولهم ما بي وما بهم ... وما أكثرْنا غَيظاً بما يَجِد
وقال آخر:
إنَ الغُراب وكان يَمشي مِشْيَةً ... فيما مضى من سالف الأحْوَالِ
حَسَد القطَاة فَرَام يمشي مَشْيَها ... فأصابَه ضَرْبٌ من العُقًال
" فأضلّ مِشْيته وأخطأ مَشْيها ... فلذاك كنِّوه أبا مِرْقال "
وقال حبيب الطائي:
وإذا أراد الله نَشرَ فَضيلةٍ ... طُوِيت، أتاح لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النار فيما جاوَرَت ... ما كان يُعْرف طِيبُ عَرْف العُودِ
وقال محمد بن مُناذر:
بأيُها العَائبي وما بيَ من ... عَيْبِ ألا تَرْعَوِي وتَزْدَجِرُ
هلْ لك عِندي وِتْرٌ فتَطْلُبَه ... أم أنتَ مما أتيتَ مُعتَذِرُ
إِنْ يَكُ قَسْمُ الإله فَضّلني ... وأنت صَلْدٌ ما فيك معْتَصر
فالحمدُ والشُّكر والثَناء له ... وَللْحَسود الترَابُ والْحَجَرُ
فما الذي يَجتني جَليسُك أوْ ... يَبْدُو لهُ منك حين يَختبر
اقرأ لنا سورة تُذَكرنا ... فإنّ خيْرَ المواعِظ السُوَرُ
أو صِف لنا الحُكم في فرائضنا ... ما تَسْتَحِق الأنثى أو الذَكَر
أوِ ارْوِ فِقْهًا تُحيى القُلوبَ به ... جاء َبه عن نبينا الأثَرُ
أو مِن أعاجيب جاهِليتنا ... فإنها حِكمةٌ ومُخْتَبر
أو آرْوِ عن فارس لنا مثلاً ... فإن أمثالَها لنا عِبَرُ
فإن تكن قد جَهِلت ذاك وذا ... ففيكَ للناظِرينِ مُعْتَبَر
فغَنً صوتاً تُشْجَى النفوس به ... وبعضُ ما قد أتيت يُغتفر
الأصمعيّ قال: كان رجلٌ من أهل البصرة بذيئاً شِرِّيراً، يؤذي جيرانه ويَشتم أعراضهم، فأتاهُ رجلٌ فوَعظه، فقال له: ما بالُ جيرانك يَشكونك؟ قال: إنهم يَحسدُونني؛ قال له: على أيّ شيء يَحسدُونك؟ قال: على الصَلْب، قال: وكيف ذاك؟ قال: أَقْبِلْ معي. فأقبل معه إلى جيرانه، فقعد مُتحازِناً، فقالوا له: ما لَك؟ قال: طَرَق الليلة كتاب مُعاوية أنا أصلب أنا ومالك بن المنذر وفلان وفلان - فذكر رجالاً من أشراف أهل البصْرَة - فوَثبوا عليه، وقالوا: يا عدوّ اللهّ، أنت تُصْلب مع هؤلاء ولا كرامةَ لك! فالتفت إلى الرجل فقال: أما تراهم قد حَسدوني، على الصَّلب، فكيف لو كان خيراً! وقيل لأبي عاصم النبيل: إنّ يحيى بن سَعيد يَحْسُدك وربما قَرَّضك، فأَنشأَ يقول:
فلستَ بحيٍّ ولا ميتٍ ... إذا لم تُعادَ ولم تُحْسَدِ

محاسدة الأقارب
كتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ: مُر ذَوي القَرَابات أن يتزَاورُوا ولا يتجاورُوا.
وقال أكثم بن صَيْفيّ: تباعَدُوا في الدار تقاربُوا في المودَّة.
وقالوا: أَزْهدُ الناس في عالمٍ أهلُه.
فَرَج بن سلام قال: وَقف أميِّة بن الأسكر عِلى ابن عم له فقال:
نَشَدْتُك بالبَيت الذي طافَ حولَه ... رجالٌ بَنوه من لؤَيّ بن غالبِ
فإنك قد جَرَّبتني فوجدتنيِ ... أُعينك في الجُلّى وأكفيك جانبي
وإن دبَّ من قومي إليك عداوةً ... عقاربهُم دبَّت إليهم عَقارِبي
قال أكذلك أنتَ؟ قال: نعم، قال: فما بالُ مِئبرك لا يزال إليَّ دسيسا؟ قال: لا أعود؛ قال: قد رضيتُ، وعفا الله عما سلف وقال يحيى بن سعيد: من أراد أن يَبِين عملُه، ويَظهر علمُه، فَلْيَجلس في غير مَجْلس رهْطه.
وقالوا الأقارب هم العقارب.

وقيل لعطاء بن مصعب: كيف غلبتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك؟ قال: كنتُ بعيدَ الدار منهم، غريب الاسم، عظيمَ الكِبْر، صغير الجرْم، كثيرَ الالتوإء، فقرّبني إليهم تبعُّدِي منهم، ورغَّبهم فيّ رَغبتي عنهم، وليس للقرباء طَرافة الغرباء.
وقال رجلٌ لخالد بنِ صَفْوان: إنِّي أحبك؛ قال: وما يَمنعك من ذلك ولستُ لك بجار ولا أخٍ ولا ابن عم. يريد أن الحسد مُوكل بالأدنى فالأدنى.
الشِّيباني قال: خَرجِ أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين متنزِّها بالأنبار فأمعن في نزهتة وانتبذ من أصحابه، فوافي خباءً لأعرَابيّ. فقال له الأعرابيّ: ممن الرجل؟ قال: مِن كِنانة؟ قال: من أيّ كِنانة قال: من أبغض كِنانة إلى كِنانة؛ قال: فأنت إذاً من قُريش؟ قال: نعم؛ قال: فمن أيّ قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قُريش؛ قال: فأنت إذاً من ولد عبد المطلب؛ قال: نعم؛ قال: فمن أيّ وَلد عبد المطّلب أنت؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المُطلب؛ قال: فأنت إذاً أميرُ المؤمنين، السلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته. فاستحسنَ ما رأى منه وأمر له بجائزة.
وقال ذو الإصبع العَدْوَانيّ.
ليَ ابن عمٍٍّ على ما كان من خُلُق ... مُحاسِدٌ ليَ أقليه ويَقْلِيني
أزْرَى بنا أنّنا شالتْ نعامتُنا ... فخالني عُونهَ أو خِلْتُه دوني
يا عمرو إلا تَدَعْ شَتْمي ومَنقصتي ... أضربْك حتى تقول الهامةُ اسقوني
ماذا عَلَيّ وإن كنتم ذَوِي رَحَمِي ... أن لا أُحبَّكُم إن لم تُحبوني
لا أسألُ الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضَمِيري لهم من ذاك يكْفيني
وقال آخر:
مهلاً بني عمِّنا مهلاً مَوالينا ... لاتَنْبِشًوا بيننا ما كان مَدْفوناً
لا تَطمعوا أن تًهينونا ونُكْرمكم ... وأن نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤذونا
الله يعلم أنا لانحبًّكمُ ... ولا نَلومكُم إن لم تحِبُّونا
وقال آخر:
ولقد سَبرت الناسَ ثم خَبرتهم ... ووصفت ما وصفوا من الأسبابِ
فإذا القرابة لا تقَرّب قاطعا ... وإذا المودة أقرب الأنساب

المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه
قالوا: أَقرب القرابة المُشاكلة، وقالوا: الصاحب المُناسب.
وقال حبيب:
وقُلت أخي؟ قالوا أخٌ من قرابة؟ ... فقلت لهم إنّ الشُكول أقاربُ
وقال أيضاً:
ذو الودّ منِّي وذو القُرْبى بمنزلةٍ ... وإخْوَتي أُسوةٌ عندي وإخواني
عِصابةٌ جَاوَرَتْ آدابُهم أَدبي ... فهُم وإن فُرِّقوا في الأرض جِيرانَي
وقال أيضاً:
إنْ نَفْتَرِقْ نَسَبًا يُؤلِّفْ بيننا ... أدبٌ أَقمناه مُقام الوالد
أو نَخْتلف فالوَصْلُ منَّا ماؤه ... عَذب تَحدَّر من غَمَامٍ واحد
وقال آخر:
إنَّ النفوس لأجْنادٌ مُجَنًدَة ... بالإذْن من رَبِّنا تَجْري وتَخْتلفُ
فما تَعارفَ منها فهو مُؤتلِفٌ ... وما تَناكر منها فهو مُختلف
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنفس أجْناد مُجنَّدة، وإنها لتتَشامّ في الهَوَى كما تتَشام الخَيْل، فما تعارف منها ائتلف، وما تَناكر منها اختلف.
وقال صلى الله عليه وسلم: الصاحبُ رُقْعة في الثَّوب، فَلينظر الإنسان بم يَرْقع ثوبه.
وقال عليه الصلاة والسلام: امتحنوا الناس بإِخوانهم.
وقال الشاعر:
فاعتبر الأرضَ بأشباهها ... واعتبر الصاحبَ بالصاحبِ
وقيل: كلُ إلْف إلى إلْفه يَنزع وقال الشاعر:
والإلْفُ ينزع نحو الآلِفين كما ... طَيْرُ السماء على ألاًفها تَقَعُ
وقال امرؤ القيس:
أجارتَنا إِنا غَريبان هاهنا ... وكل غَريب للغريب نَسِيبُ
وقال آخر:
إذا كنت في قَوْم فصاحِبْ خِيارَهم ... ولا تَصْحب الأرْدى فتردىَ مع الرّدِي
عن المرْء لا تَسأل وسَلْ عن قَرينه ... فكل قَرِين بالمُقارِن يَقْتدي
وقال آخر:
اصحبْ ذَوِي الفَضل وأهْل الدِّين ... فالمرْءُ مَنسوبٌ إلى القرينِ

أيوب بن سُليمان قال: حدَّثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم، قال: بينما سُليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح، إذ مَرّ بنَسْر واقع على قَصْر، فقال له: كم لك مذ وقعتَ هاهنا؟ قال: سبعمائة سنة؛ قال: فمن بَنى هذا القصر؟ قال: لا أدريِ، هكذا وجدتُه؟ ثم نظر فإذا فيه كتاب مَنْقور بأبيات من شعر وهي:
خرجنا من قُرَى اصطَخْرٍ ... إلى القصر فقلناهَ
فمن يسأل عن القصر ... فمبنيا وَجَدناه
فلا تصحب أخا السَّوْء ... وإِيَّاكَ وإياه
فكم من جاهلٍ أردى ... حَكِيما حي آخاه
يُقاس المرْءُ بالمرْء ... إذا ما المرْءُ ماشاه
وفي الناس منٍ الناس ... مقاييسٌ وأشباه
وفي العيَن غِنى للعَين ... أن تَنطق أفواه

السعاية والبغي
قال اللهّ تعالى ذِكْرُه: " يَا أيُّهَا الناسُ إِنَمَا بَغْيًكُمْ على أنْفُسِكم " . وقال عزَ وجل: " ثَم بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنًهُ الله " .
وقال الشاعر:
فلا تسبق إلى أحدٍ بِبَغْيٍ ... فإِنَّ البَغْي مَصرعه وخيم
وقال العتَّابي:
بَغَيْت فلم تَقَع إلاّ صَرِيعاً ... كذاك البَغْي يَصرع كلَّ باغِي
وقال المأمون يوماَ لبعض وَلده: إياك وأن تُصْغي لاستماعٍ قول السُّعاة، فإنه ما سَعى رجلٌ برجل إلا انحطّ من قَدْرِه عندي ما لا يتلافاه أبداً.
ووقَّع في رُقعة ساعٍ: سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين.
ووقّع في رًقعة رجل سعَى إليه ببعض عُمَّاله: قد سَمِعنا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فانصرفْ رَحمك اللّه.
فكان إذا ذُكر عند السُّعاة، قال: ما ظَنُّكم بقوْمٍ يَلعنهم الله على الصِّدق؟ وسعَى رجلٌ إلى بلال بن أبي بُردة، فقال له: انصَرف حتى أَكْشِفَ عما ذكرت.
ثم كشف عن ذلك فإذا هو لغير رِشْدَة، فقال: أنا أبو عمرو وما كَذبْتُ ولا كُذِبت.
حدثني أبي عن جدّي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السًاعي لِغَيْر رِشْدة.
وسأل رجلٌ عبدَ الملك الخَلْوَة، فقال لأصحابه: إذا شِئْتم فقُوموا. فلما تَهَيَّأَ الرجل للكلام، قال له: إيّاك أن تَمْدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تَكْذِبني، فإنه لا رَأْي لكَذُوب، أو تَسْعى إليً بأحد، وإن شئتَ أَقلتُك؟ قال: أَقِلْني.
ودخل رجلٌ على الوليد بن عبد الملك، وهو والي دِمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة؟ فقال: إِن كانت لنا فاذكُرْها، وإن كانت لِغَيرنا فلا حاجةَ لنا فيها؟ قال: جارٌ لي عَصىَ وفَرَّ مِنْ بَعْثه؛ قال: أما أنت فتُخبِر أنَّك جارُ سَوْء، وإِن شئتَ أرْسلنا معك، فإن كنتَ صادقاً أقصَيناك، وإِن كنتَ كاذباً عاقبناك، وإِن شئتَ تارَكناك، قال: تَارِكْني.
وفي سِيَر العجم: أنّ رجلاً وَشىَ برجل إلى الإسكندر، فقال: أتًحِب أن تَقْبل مِنه عليك ومِنك عليه؟ قال: لا، قال: فكُفَّ الشر يُكَفُّ عنك الشرُّ.
وقال الشاعر:
إذا الواشي نَعَى يومًا صدِيقا ... فلا تَدَع الصديق لقَوْلِ واشي
وقال ذو الرِّياستين: قَبول النَّمِيمة شَرٌ من النميمة، لأنّ النميمة دِلالة، والقَبُول إجازة، وليس مَن دَلَّ على شيء كمن قَبِله وأجازه.
ذُكِر السُّعاة عند المأمون، فقال لرجل ممن حَضر،: لو لم يكن من عَيْبهم إلا أنّهم أَصدق ما يكونون أبغضُ ما يكونون إلى الله تعالى " لكَفَاهُم " .
وعاتب مُصْعبُ بن الزبير الأحنفَ في شيء، فأنكره، فقال: أَخْبَرني الثقةُ؛ قال: كلا، إنّ الثقة لا يُبلغِ.
وقد جَعل اللهّ السامع شريك القائل. فقال: " سًمّاعُون للكَذِب أَكَّالُون للسُّحْتِ " .
وقيل: حَسْبك من شّرٍ سماعُه.
وقال الشاعر:
لَعمركَ ما سبَّ الأمير عدوُّه ... ولكنَّما سَبَّ الأمير المُبَلغُ
وقال آخر:
لا تقبلنَّ نَميمةً بُلِّغتَها ... وتحفَظَنَّ مِن الذي أنباكَهَا
إنّ الذي أنباك عنه نَميمةً ... سَيَدِبُّ عنك بمثلها قد حاكها
لا تنقشنَّ برِجْل غيرك شَوْكةً ... فَتَفي برِجْلك رجْلَ مَن قد شاكَها
وقال دِعْبل:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16