كتاب : العقد الفريد
المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

المقدمة
كتاب اللؤلؤة في السلطان
السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا؛ وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده؛ به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل؛ وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم؛ ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه؛ واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته؛ بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة، وأجرى له من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والله عاقبة الأمور " .
وقال حذيفة بن اليمان: ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه
ومن شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم؛ ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها؛ من المعجز الذي لا يدرك، والممتنع الذي لا يملك؛ ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم.
فمن حق الإمام على رعيته أن تقضي عليه بالأغلب من فعله، والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها، وإضرابه صفحاً عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق والياً عليها: أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي صفحته لي.
وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.
وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام؛ والعمود السلطان؛ والأطناب والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضها إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إلا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .
وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة، أو خلع يداً من طاعة، مات ميتة جاهلية.
وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.

وفي كتاب للهند: أن رجلاً دخل على بعض ملوكهم، فقال أيها الملك، إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير، والكبير الخطير. ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة، لكان خرقاً مني أن أقول. ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بداً من أداء الحق إليك، وإن أنت لم تسلني ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد أخل بنفسه. وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك. فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك، لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي، وتصرف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي.
وقال عمرو بن عتبة للوليد، حين تغير الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً؟ قال: كل مقبول منك، والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوه يبغضه لنصيحته.

ما يصحب به السلطان
قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير له إذا سخط، ولا يستقل ما حمله، ولا يلحف في مسألته.
وقال أيضاً: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم؛ فإن كنت حافظاً إذا أولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك، ذليلاً إذا صرموك، راضياً إذا أسخطوك؛ تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض.
وقال الأصمعي: توصلت بالملح، وأدركت بالغريب.
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عند حمل إليه.
ولما قدم معاوية من الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا. فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد بلغته لنوفست فيه.
قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف: لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإن خنت قليلاً خنت كثيراً. واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطى. واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي: ولا تتعوض بخير شراً، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.

وقال يزيد: حدثني أبي: أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه.
وقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ، فقلت: يا يرفأ، أني سائل مسترشد، أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل يوم، قال كثير؛ فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئاً وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العين، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لكم اللحم كذلك، فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً. فسكن عن غربه، وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي.
قوله: لثتها على رأسي؛ يقال: رجل ألوث، إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث، إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة؛ يقال: لثت عمامة على رأسي؛ يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقول: صلائق، هو شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى. يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته؛ وصلقته، إذا شويته.
وقوله: غريضاً، يقول: طرياً؛ يقال: لحم غريض، تراد به: الطراءة. قال العتابي:
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: سبائك، يريد الحوارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
الصناب: صباغ يتخذ من الزبيب والخردل؛ ومنها قيل للفرس: صنابي، إذا كان ذلك اللون.
قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب
وقوله: أكسار بعير، فالكسر والعصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقول: نعى على قوم شهواتهم، أي عابهم بها ووبخهم.

ومما يصحب به السلطان: أن لا يسلم على قادم بين يديه، وإنما استن ذلك زياد، وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس، ولم يكلمه زياد شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة؟ كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجراً! قال: لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
دخل أبو سلم على أبي العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس؛ فقال له: يا أبا مسلم، هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك.
أبو حاتم عن العتبي قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك، قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال: لهذا بعثت إلي! أخوه وابنه عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له: وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا: من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقالوا: إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبد فاجعله ربا.
وقال شبيب بن شيبة: ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وقرأت في كتاب للهند: أنه أهدى لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى، وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشير له. فغمزها باللباس تغضينا بعينه، فلحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.

اختيار السلطان لأهل عمله
لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان، قال له: أوصيك بثلاثة: حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس، إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء، وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك، حيث وضعتهما فقدر ضعتهما. عمال القدر. قال: وما عمال القدر؟ قال أن نختار من كل كورة رجالا لعملك فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطأوا فهم المخطئون وأنت المصيب.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطأة: أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشني، فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة: الحسن البصري وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به. فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة، يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها، فاستقضاه.

قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية دلني على قوم من القراء أولهم فقال له: القراء ضربان: ضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم.
أيوب السختياني، قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح! وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله. فقال له روح بن زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم؛ ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشعبي. فولاه قضاء البصرة.
وسأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أبا مجلز عن رجل يوليه خراسان. فقال له: ما تقول في فلان؟ قال: مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير ويمنع القليل، و يحسد أمه، وينافس أباه، ويحقر مولاه. قال: ففلان؟ قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير.
وأراد عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه أن يستعمل رجلا. فبدر الرجل فطلب منه العمل. فقال عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله، فقال له: إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي ولاية. فقال: يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا تحصيها.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك الحياة.
وتقول النصارى: لا يختار للجثلقة إلا زاهد غير طالب لها.
وقال إياس بن معاوية: أرسل إلى إلي عمر بن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكت، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل ما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال أتقرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي. قلت إن خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها لليل. قال: و ما هي؟ قلت: دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عي. قال: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدة فإن السوط يقومك. قم قد وليتك. قال: فولاني وأعطاني مائة درهم. فهي أول مال تمولته.
وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ويزيد وهشام.
وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء، فأبى عليه. قال له: وما يمنعك؟ قال مكحول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا مولى.
ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه. فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه. والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم. فخرج إليهم، فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة.

حسن السياسة وإقامة المملكة
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته. وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً، أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري. وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وقال أردشير لابنه: يا بني: إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالملك أس والعدل حارس. والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع. يا بني، اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول.

وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي ضميره لإقامة أمر دينه. فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة الرعية، ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمه على غيره مثل حكمه على نفسه. وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية.
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي، ولا عاقبت للغضب، واستكفيت، وأثبت على الغناء لا للهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووداً لم تشبه جرأة، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول.
وذكر أعرابي أمير فقال: كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف، القوي من غير عنف.
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك. وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل.
وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أكرم قريش وابن كريمها، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته.
وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وقال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره، فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل، فيبدر إليه من يسده؛ ثم يفعل ذلك بميسرته، فتغنيه اللحظة على الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا، فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا؟ وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله، وفي بعض يوم، قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغناء، فسد جميع ما ترى.
وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمر للحرب، وجاهد عدوك، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك، وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم.
وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته، من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها، وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة.
وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك، ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه، ولكن أعطهم عطاء قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء.
ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك.

وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما، وأخرى منك تحقن دماً، وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف؛ فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً. واعلم أنك تجل من الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدر لسخطك من العقاب، كما تقدر لرضاك من الثواب.
وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل.
وقال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم. فينبغي للسلطان أن يحترس منهما.
وفي كتاب التاج: أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية: و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها، ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته. وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه، قليلاً تجربته في غيره؛ ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه.

بسط المعدلة ورد المظالم
الشيباني قال: حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم. فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي بحاجتك. فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملةعدى عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي بعد منعتها ... ظلما وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حيناً، ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
فالمجلس السبت إن يقض الجلوس لناننصفك منه وإلا المجلس الأحد
قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ثم قال: أين الخصم؟ فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى العباس ابنه - فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس. فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة.

العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه، فقال: إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم. فقال القاضي شاهديك على الجراية. فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل، وليس بيني وبينه إلا هذه السترة! قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام الحرسي فدخل على هشام فأخبره. فلم نلبث أن تقعقعت الأبواب وخرج الحرسي، وقال: هذا أمير المؤمنين. وخرج هشام، فلما نظر إليه القاضي قام، فأشار إليه وبسط له مصلى، فقعد عليه وإبراهيم بين يديه. وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنا بعضه قال: فتكلما وأحضرا البينة، فقضى القاضي على هشام بن عبد الملك. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال له هشام: هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق. فقال هشام: يا إبراهيم، استرها علي. قال: لا ستر الله علي إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها. قال: فإني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه أيام حياته ثمناً لما أخذت منه، وأذعتها بعد مماته تزيينا له.
قال: وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أرعني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك. فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة. قال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي، وهدم منزلي وحرمت عطائي. قال: هيهات! أو ما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال الله تعالى: " يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين. قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون " . قال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه. فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزل، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
وقال معاوية: إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله.
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم.
وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم، وهو والي أرض فارس: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وابسط العدل، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأظلمهم من ظلم الناس لغيره.
وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز، فلما عزله، قال له: ما جئت به؟ قال له: ما معي إلا مائة درهم وأثواب. قال: كيف ذلك؟ قال: أرسلتني إلى بلد أهله رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما علي، ورجل له ذمة الله ورسوله، فوالله ما دريت أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفاً.
وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، وما استغزر بمثل الظلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة.

صلاح الرعية بصلاح الإمام
قالت الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر.
وقال أبو حازم الأعرج: الإمام سوق، فما نفق عنده جلب إليه.
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا.
ومن أمثالهم في هذا قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها.
الأصمعي قال: كان يقال: صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء، والفقهاء.
واطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة فأنكر شيئاً، فقال لوكيله: ويحك! إن لأظنك تخونني. قال: أفتظن ذلك ولا تستيقنه؟ قال: وتفعله؟ قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله، فلعن الله شر الثلاثة.
قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه

قالت الحكماء لا ينفع الملك إلا بوزرائه وأعوانه، ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد ذلك ألا يتركوا محسناً ولا مسيئاً ما دون جزاء؛ فإنهم إذا تركوا ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وبطل العمل.
وقال الأحنف بن قيس. من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء، ومن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه.
وقال العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
وأول من سبق إلى هذا المعنى عدي بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقال آخر:
إلى الماء يسعى من يغص بريقه ... فقل أين يسعى من يغص بماء
وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقالوا: إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه.
وقالوا: ليس شيء أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول، ولا يحسن الفعل. و لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة.
وقالوا: إن السلطان إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سواء امتنع خيره من الناس، ولم ينتفع منه بمنفعة، وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح، فلا يستطيع أحد أن يدخله، وإن كان محتاجا إليه.

صفة الإمام العادل
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن رحمه الله: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً؛ يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر.

واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريداً وحيداً. فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين " إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور " ، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل. لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك مع أوزارك، وتحمل أثقالك مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. و لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي من قبلي، فلم آلك شفقة ونصحاً، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

هيبة الإمام في تواضعه
قال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك.
وقال عبد الملك بن مروان: إن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة.
و ذكر عن النجاشي أمير الحبشة: أنه أصبح يوما جالساً على الأرض والتاج على رأسه، فأعظم ذلك أساقفته، فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام، يقول له: " إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لها أتممتها عليه " . وإنى ولد لي الليلة غلام فتواضعت لذلك شكراً لله تعالى.
وقال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قوال الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
وأحسن منه عندي قول الآخر.
فتى زاده عز المهابة ذلة ... فكل عزيز عنده متواضع
وقال أبو العتاهية:
يا من تشرف بالدنيا وطينتها ... ليس التشرف رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الله نعمته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين
وقال الحسن بن هانئ في هيبة السلطان مع محبة الرعية:
إمام عليه هيبة ومحبة ... ألا حبذا ذاك المهيب المحبب
وقال آخر في الهيبة، وإن لم تكن في طريق السلطان:
بنفس من لو مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ولابن هرمة في المنصور:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
كريم له وجهان وجه لدى الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسل
فأم الذي آمنت آمنة الردى ... وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل
وليس بمعطى العفو من غير قدرة ... ويعفو إذا ما مكنته المقاتل
وقال آخر في الهيبة:
أهاشم يا فتى دين ودنيا ... ومن هوى في اللباب من اللباب
أهابك أن أبوح بذات نفسي ... وتركي للعتاب من العتاب
وقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان:
منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالشيء تكرهه وإن لم تعلم
ومن الولاة مفخم لا يتقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدم
وقال أيضا لهارون الرشيد:
وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام
وقال الحسن بن هانئ في الهيبة فأفرط:
ملك تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
ما تنطوي عنه القلوب بفجرة ... إلا يكلمه بها اللحظان
حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان

فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئاً وأحبه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه، فالنطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة. قال الشاعر:
ألا ترثي لمكتئب ... يحبك لحمه ودمه
وقال المكفوف في آل محمد عليه السلام:
أحبكم حباً على الله أجره ... تضمنه الأحشاء واللحم والدم
وفي مثل هذا قول الحسن بن هانئ:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
فإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم، على المجاز الذي ذكرناه.
ومجاز آخر: أن النطف التي أخذ الله عليها ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله، كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته، فقال: هؤلاء أهل الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء أهل النار، وبعمل أهل النار يعملون.
ومن قولنا في الهيبة:
يا من يجرد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزم
رعت العدو فما مثلت له ... إلا تفزع منك في الحلم
أضحى لك التدبير مطرداً ... مثل اطراد الفعل للاسم
رفع الحسود إليك ناظره ... فرآك مطلعاً مع النجم
أبو حاتم سهل بن محمد، قال: أنشدني العتبي للأخطل في معاوية:
تسمو العيون إلى إمام عادل ... معطى المهابة نافع ضرار
ونرى عليه إذا العيون لمحنه ... سيما الحليم وهيبة الجبار

حسن السيرة والرفق بالرعية
قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أوصاه به من الرفق بالرعية: " ولو كنت فظاً غليظ لانفضوا من حولك " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير كله.
ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب، فقال لهما: أشيرا علي. فقال له سالم: اجعل الناس أباً وأخاً وابناً، فبر أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال له محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك لست أول خليفة.
وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت؛ ما لك لا تنفذ في الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه وتكون فتنة.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة، أما بعد، فإن أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما للرعية عندك.
وقال المنصور لولده عبد الله المهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآة تريه حسناته وسيآته. واعلم أن الخليفة لا تصلحه إلا التقوى، والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وانقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه.
وقال خالد بن عبد الله القسري لبلال بن أبي بردة: لا يحملنك فضل المقدرة على شدة السطوة، ولا تطلب من رعيتك إلا ما تبذله لها، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى دين يحجزه، وحياء يكفه، وعقل يعقله، وإلى تجربة طويلة، وعين حفيظة؛ وأعراق تسري إليه، وأخلاق تسهل الأمور عليه؛ وإلى جليس شفيق، وصاحب رفيق؛ وإلى عين تبصر العواقب وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان، ولم يتعاظم ذنباً وإن عظم، ولا ثناء وإن سمح.

وكتب أردشير إلى رعيته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة، والكتاب الذين هم زينة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم، فإنا بحمد الله إليكم سالمون. فقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها، ونحن مع ذلك كاتبون بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحتكروا فيشملكم القحط، وتزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب، ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر، وقال له حين ودعه: أرسل حكيماً ولا توصه. أي بني، انظر إلى عمالك، فإن كان لهم عندكم حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها، تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق. واستشير جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى. وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة؛ فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة. ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم اعرف منازلهم منك على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا واستخلف الله عليك.
أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي، قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة، استعملت رجلاً فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه. فكتبت إليه: إن هذا أدب سوأ من قبلي. فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.

ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم
قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جده هزله، وغلب رأيه هواه، وجعل له الفكر صاحباً يحسن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده.
وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، وكان ولي عهده: يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان.
وقالوا: لا ينبغي للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل، فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع الكبير؛ فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار.
وقالوا: لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً، أو لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً، أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا تفريطا.
ومن كتاب للهند: خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور.
وقيل لملك سلب ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ فقال: دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدة بتضييع عدد، واستكفاء كل مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه، أو أثيب ثواباً لا يستوجبه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء. كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت: كان والله أحوزياً نسيج وحده، وقد أعد للأمور أقرانها.
وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر، كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه أن يخدع.
وقال عمر: لست بخب، والخب لا يخدعني.
ومر عمر رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وجص فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. فأرسل فشاطره ماله.
وكان سعد بن أبي وقاص يقال له: المستجاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سعد. فلما شاطره عمر ماله، قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو علي؟ قال: نعم. قال: إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا.

وهجا رجل الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، فقال:
ألم تر أن الله اظهر دينه ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد: اللهم اكفني يده ولسانه، فقطعت يده وبكم لسانه.
ولما عزل عمر أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله، وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله، دعا أبا موسى فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما عندك، إحداهما عقيلة، والأخرى من بنات الملوك؟ قال: أما عقيلة فإنها جارية بيني وبين الناس، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال: فما جفنتان تعملان عندك؟ قال: رزقتني شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال: فما مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال: أما أحدهما فأوفي به أهلي وديني. وأما الآخر فيتعامل الناس به. فقال: ادفع إلينا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغل، أو فاجر مبل، أرجع إلى عملك عاقصاً بقرنك، مكتسعاً بذنبك. والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك.
ثم دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت. قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده. قال: ليس لك ذلك. قال بلى والله وأوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة.
وفي حديث أبي هريرة، قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، ما سرقت مال الله. قال: فمن أين لك عشرة آلاف؟ قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك، يوسف صلوات الله عليه. قلت: إن يوسف نبي وابن نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي ويضرب ظهري وينزع مالي.
قال: ثم دعا الحارث بن كعب بن وهب فقال: ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار؟ قال: خرجت بنفقة معي فتجرت فيها. فقال: أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين! أدها. فقال: أما والله لا عملت عملاً بعدها أبداً. قال: انتظر حتى استعملك.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص، وكان عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد. وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه.
فكتب إليه: من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي. وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص، وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة. وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها. ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له. وذكرت أن عنك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك، ولم نشركك في عملك.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر، ونسقك الكلام في غير مرجع! وما يغني عنك أن تزكي نفسك، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك. فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم. أما تجمعون العار، وتورثون النار، والسلام.

فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً. فقال له عمر: أتحرمون طعامنا؟ فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته، ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر. والله لا أشرب عندك الماء، فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه. فأخذ إحداهما وترك الأخرى. فغضب عمرو بن العاص فقال: يا محمد بن مسلمة قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه، والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوراً بالذهب والفضة. قال له محمد ابن مسلمة: اسكت، والله عمر خير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار. والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها. فقال عمرو: هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال: بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على الشام بمال وأدهم، وكتب إلى أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر - يعني بالأدهم القيد - وكتب إلى عمر يقول: إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى المسلمين مقيدين بقيود حديد، أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين - وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال الفرزدق: أو لجدل الأداهم - فخرج الرسول حتى قدم على سفيان بالمال والأدهم قال: فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب، قال له: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كان علينا دين ومعونة، ولنا في بيت المال حق، فإذا أخرجت لنا شيئاً قاصصتنا به. فقال عمر: اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال: فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. فلما قدم الرسول على معاوية، قال له: رأيت أمير المؤمنين اعجب بالأدهم؟ قال: نعم، وطرح فيه أباك. قال: ولم؟ قال جاءه بالأدهم وحبس المال؛ قال: إي والله، والخطاب لو كان لطرحه فيه.
زار أبو سفيان معاوية بالشام، فلما رجع من عنده دخل على عمر. فقال: أجزنا أبا سفيان. قال: ما أصبنا شيئاً فنجيزك منه. فأخذ عمر خاتمه، فبعث به إلى هند، وقال للرسول: قل لها: يقول لك أبو سفيان: انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم. فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردهماً عليه. فقال أبو سفيان: ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر.
ولما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله، تلقاه في بعض الطريق، فوجد معه ثلاثين ألفاً، فقال: أنى لك هذا؟ قال: والله ما هو لك ولا للمسلمين، ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالاً، ما سبيله إلا بيت المال، ورفعه. فلما ولى عثمان قال لعتبة: هل لك في هذا المال فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجهاً؟ قال: والله إن بنا إليه لحاجة، ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك.
القحذمي قال: ضرب عمر رجلاً بالدرة فنادى: يا لقصي. فقال أبو سفيان: يا بن أخي، لو قبل اليوم تنادي قصياً لأتتك منها الغطاريف. فقال له عمر: اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان: ها، ووضع سبابته على فيه.
خليفة بن خياط قال: كتب يزيد بن الوليد، المعروف بالناقص - وإنما قيل له الناقص لفرط كماله - إلى مروان بن محمد - وبلغه عنه تلكؤ في بيعته - : أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته.
ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزجته إلى الصحارى، كتب إليهم أبو غسان: إلى بني الأستاه من أهل مرو، ليمسيني الماء أو لتصبحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
وكتب عبد الله بن طاهر الخراساني إلى الحسن بن عمر التغلبي: أما بعد، فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمي، ولا اللصوص تكفي، ولا الرعية ترضي، وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وأيم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجهن إليك رجالا لا تعرف مرة من جهم، ولا عدي من رهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم، واليه بخراسان: أما بعد، فإن وكيع بن حسان كان بالبصرة منه ما كان، ثم صار لصاً بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله، وولى الضبي عم مسعود بن الخطاب.
وبلغ الحجاج أن قوماً من الأعراب يفسدون الطريق، فكتب إليهم: أما بعد، فإنكم قد استخفتكم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون، ولا عن منكر تنهون، وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد، وتدع النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خراباً.
فلما أتاهم كتابه كفوا عن الطريق.

التعرض للسلطان والرد عليه
قالت الحكماء: من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه، وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان له من الشجر ومال معها من الحشيش، وما استهدف لها من الدواح العظام قصفته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقال حبيب بن أوس - وهو أحسن مل قيل في السلطان - :
هو السيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع
وقال آخر:
هو السيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وقال معاوية لأبي الجهم العدوي: أنا أكبر أم أنت؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمك يا أمير المؤمنين. قال: عند أي أزواجها؟ قال: عند حفص ابن المغيرة. قال: يا أبا الجهم، إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب العصبي، ويأخذ أخذ الأسد.
وأبو الجهم هذا هو القائل في معاوية بن أبي سفيان:
ونغضبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا
وقدم عقيبة الأسدي على معاوية، ورفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجردتمونا ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
فدعا به معاوية، فقال: ما جرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك. فقال: ما أظنك إلا صادقاً، وقضى حوائجه.
ومن حديث زياد عن مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس، فقال: أذكرك الله الذي ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا روية: سمعاً وطاعة لمن ذكر بالله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم، فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأما أنت، فوالله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قال فعوقب فصبر، وأهون بها لو كانت، وأنا أحذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومنا أخذت. ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
وقام رجل إلى هارون الرشيد، وهو يخطب بمكة، فقال: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " . فأمر به فضرب مائة سوط. فكان يئن الليل كله ويقول: الموت! الموت! فأخبر هارون الرشيد أنه رجل صالح، فأرسل إليه فاستحله فأحله.
المدائني قال: جلس الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرت الشمس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك. قال صدقت: ومن قال مثل مقالتك، فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك. من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه؟ الرياشي عن الأصمعي قال: خاطر رجل رجلاً أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمك هند! ففعل ذلك. فلما انفتل معاوية عن صلاته قال: لا يا بن أخي، إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل، فخذ ما جعلوا لك، فأخذه.
ثم خاطر أيضاً أن يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له: أيها أمير، من أبوك؟ ففعل. فقال له زياد: هذا يخبرك، وأشار إلى صاحب الشرطة، فقدمه فضرب عنقه.
فلما بلغ معاوية، قال: ما قتله غيري، ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية.

وخاطر رجل إلى أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: أيها الأمير من أمك؟ ففعل. فقال له: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت فإن كانوا جعلوا شيئاً فخذه.
دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان، فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أي ساقين، لو أنهما على جارية! فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. قال: واحدة بأخرى والبادئ أظلم.

تحلم السلطان على أهل الدين
والفضل إذا اجترءوا عليه
زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلي وإلى ابن طاوس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق. فأموا إلينا: أن اجلسا. فجلسنا. فأطرق عنا طويلاً، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله. فأمسك ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاوس. قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " . قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأ ثيابي من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه. ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه، ثم قال: ناولني هذه الدواة: فأمسك عنه. فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية الله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوماً عني قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم.
قال مالك: فما زلت أعرف لا بن طاوس فضله.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: أتظل عن ابنة فلان تروحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر! لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال: اسمعوا من أميركم.
فرج بن سلام بن أبي حاتم عن الأصمعي، قال: حدثني رجل من أهل المدينة، كان ينزل بشق بني زريق، قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدث قال: سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو بنظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من قريش، فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد وكان عامله على المدينة - قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ بالإحنة، ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر. قال: ما تقول في؟ قال: اعفني. قال: لا بد أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية. قال: فتغير وجه أي جعفر. فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال: اقعد يا بني، فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. قال: ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام، فقال: يا أمير المؤمنين، دعنا مما نحن فيه، بلغني أن لك ابنا صالحاً بالعراق، يعني المهدي. قال: أما إنك قلت ذلك، إنه الصوام القوام البعيد ما بين الطرفين. قال ثم قام ابن أبي ذئب فخرج. فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل، ولقد قال بذات نفسه.
قال الأصمعي: ابن أبي ذئب، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم.

قال: ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة، فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد؟ - وذكر قوله فلم يعجب المأمون - فقال: لقد تيست فيها وتيس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين، من التيسين أتيس. فتغير وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج، وتندم على ما كان من قوله. فلم يستقر منزله حتى أتاه رسول المأمون؛ فأيقن بالشر، ولبس ثياب أكفانه، ثم أقبل حتى دخل عليه فقربه المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا، إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني، فقال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم إذ أرسله إلى فرعون: " فقولاً له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى " . فقال: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب وأستغفر الرب. قال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت.
وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثوري، فلما دخل عليه قال: عظني أبا عبد الله قال: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ فما وجد له المنصور جواباً.
ودخل أبو النضر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: أبا النضر، إنا تأتين كتب من عند الخليفة فيها وفيها، ولا نجد بداً من إنفاذها، فما ترى؟ قال له أبو النضر: قد أتاك كتاب الله تعالى قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله.
ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي: أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري، وكان على الصائفة: إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة واقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً. ثم نادى في الناس، فقسم فيهم ما اجتمع له من الفيء.
ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي، فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذتها وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز. فرقق له الشعبي وقال له: قارب وسدد، فإنما أنت عبد مأمور. ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا ابن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه، فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر للشعبي بألفين. فقال الشعبي: رققنا فرفق لنا. فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرقها. وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها.
ونظير هذا قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد، فسكت عنه. فقال: ما لك لا تقول؟ فقال: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله. فقال له: صدقت.
وكتب أبو الدرداء إلى معاوية، أما بعد: فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد، فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذاماً له، والسلام.
أبو الحسن المدائني قال: خرج الزهري يوماً من عند هشام فقال: ما رأيت مثل أربع كلمات تكلم به اليوم إنسان عند هشام. قيل له: و ما هن؟ قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيتك فقال هاتهن. فقال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال: لا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً. قال: هات الثالثة. قال: إن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال هات الرابعة. قال: واعلم أن للأمور بغتات فكن على حذر.

قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل فاستوص به خيراً.
وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بي أبي ربيعة: ما كان يقول الكذاب في كذا وكذا؟ - يعني ابن الزبير - فقال: ما كان كذاباً. فقال له يحيى بن الحكم: من أمك يا حار؟ قال: هي التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمك.
دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبي خليفة أكرم على الله أم خليعة غير نبي؟ قل: بل نبي خليفة. قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داور عليه السلام: " يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " . فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة، فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال: إن الناس ليغووننا عن ديننا.
الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار، قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب: وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي. فقال: كذبت. فقلت: أو كذبت؟ فما أفلت بجريعة الذقن.

المشورة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار. وقدر أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي والحزم، فقال: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " .
ولما هممت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا عثمان بن أبي العاص، وكان مطاعاً فيهم، فقال لهم: لا تكونوا آخر العرب إسلاماً، وأولهم ارتداداً. فنفعهم الله برأيه.
وسئل بعض الحكماء: أي الأمور أشد تأييداً للفتى وأيتها أشد إضراراً به؟ فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبت. وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء: الاستبداد والتهاون والعجلة.
وأشار حكيم على حكيم برأي فقبله منه. فقال له: لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمره، وسهله بوعره، ويحرك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره. وقد وعيت النصح وقبلته، إذ كان مصدره من عند من لا يشك في مودته وصفاء غيبه، ونصح جيبه؛ وما زلت بحمد الله إلى الخير طريقاً واضحاً، ومناراً بيناً.
وكان عبد الله بن وهب الراسي يقول: إياكم والرأي الفطير. وكان يستعيذ بالله من الرأي الدبري.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
وأوصى ابن هبيرة ولده فقال: لا تكن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير؛ ولا تشيرن على مستبد ولا على وغد ولا على متلون ولا لجوج وخف الله في موافقة هوى المستشير. فإن النماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
وكان عامر بن الظرب حاكم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير. يريد الأناة في الرأي والتثبت فيه. ومن أمثالهم في هذا قولهم: لا رأي لمن لا يطاع.
وكان المهلب يقول: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره.
العتبي: قال: قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره، فكأنا ألف حازم.
قال الشاعر:
الرأي كالليل مسود جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
العتبي قال: أخبرني من رأى عبد الله بن عبد الأعلى، وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده. قال: ثم رأيته وإنه ليتقى كما يتقى البعير الأجرب فقال لي: يا أخا العراق، اتهمنا القوم في سريرتنا، ولم يقبلوا منا علانيتنا، ومن ورائهم وورائنا حكم عدل.

ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بهم: يا بني حنيفة بعدا لكم كما بعدت عاد وثمود. أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأني أسمع جرسه وأبصر غيبه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإني لما رأيتكم تتهمون النصيح وتسفهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة، ولا أخذكم على غرة، ولقد أمهلكم حتى مل الواعظ، ووهن الموعوظ. وكنتم كأنما يعنى بما أتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق. ومن نصيحتي الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلكم الجزع، وأصبح ما فات غير مردود، وما بقي غير مأمون.
وقال القطامي في هذا المعنى:
ومعصية الشفيق عليك مما ... تزيدك مرة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جر غاويهم سراعا
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتمبون من صدق المصاعا
وكان يقال: لا تستشر معلماً ولا حائكاً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء.
وأنشد في المعلمين:
وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل
وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها.
وكان يقال: لا رأي لحاقن، ولا حازق، وهو الذي ضغطه الخف ولا لحاقب وهو الذي يحد رزا في بطنه.
وينشد في الرأي بعد فوته:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ومن قولنا في هذا المعنى:
فلئن سمعت نصيحتي وعصيتها ... ما كنت أول ناصح معصي
وقال حبيب في بني تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم:
لم يألكم مالك صفحاً ومغفرةً ... ولو ينفخ قين الحي في فحم

حفظ الأسرار
قالت الحكماء: صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك.
وقالوا: سرك من دمك فانظر أين تريقه. يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف:
ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وقالت الحكماء: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك.
وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه حتى أفشاه.
وقال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ أجحد المخبر وأحلف للمستخبر.
وقيل لآخر: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما قلبي له إلا قبر.
وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك، أفلا أحدثك به؟ قال: لا يا بني، إنه من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً.
وفي كتاب التاج. أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحد إلا خالياً به، فإنه أموت للسر، وأحزم للرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض. فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشائه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأن الواحد رهن بما أفشي، والثاني مطلق عنه بذلك الرهن، والثالث علاوة فيه فإذا كان السر عند واجد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة وإن كان اثنين دخلت على الملك الشبهة. واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه.
ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة:
فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقب ... ولكن سرى ليس يحمله مثلي
وقال أبو محجن الثقفي:
لا تسألي الناس عن مالي وكثرته ... وسائلي الناس عن بأسي وعن خلقي

قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
وقال الحطيئة يهجو:
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا

الإذن
قال زياد لحاجبه عجلان: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأسنان، ثم على الآداب. قال فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء.
وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً، فقيل له: إنك لتباعد من الآذن جهدك. قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال:
وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... هو المنزل الأقصى إذا لم أقرب
ولست وإن أدنيت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
وقد عده قوم تجارة رابح ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وقال آخر:
رأيت أناساً يسرعون تبادراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا
ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا
وقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف ثم أذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله. فلما رآه معاوية غمه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه، فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله. وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم، ولا يزيد متزيد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه.
وقال هشام الرقاشي:
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
قدمت قبلي رجالاً ما يكون لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى
لو عد قوم وقوم كنت أقربهم ... قربى وأبعدهم من منزل الذام
حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام
قيل لمعاوية: إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس. قال: وما عليه؟ إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والسبع الهصور والجمل الصؤول، فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين؟ وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ إلا وصل إلى حاجته.
وقالوا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
وقال الشاعر:
كم من فتىً قصرت في الرزق خطوته ... أصبته بسهام الرزق قد فلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبةإذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور؛ فقال له: قد طال وقوفك في الشمس فقال: ليطول وقوفي في الظل.
ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال له: أمثلك يرضى بهذا؟ فقال:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
وفي كتاب للهند: إن السلطان لا يقرب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم، فيقرب البعيد لنفعه ويبعد القريب لضره وشبهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور، فمن أجل ضره نفي، والبازي الذي هو وحشي، فمن أجعل نفعه اقتني.
استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، وقل له يقول: السلام عليكم، أأدخل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع.
وقال النبي عليه السلام الأولى أذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع.
الحجاب
قال زياد لحاجبه: يا عجلان إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادى إلى الله في الصلاة والفلاح لا تحجبه عني، فلا سلطان لك عليه؛ وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما جاء به، ولو كان في تلك الساعة؛ ورسول الثغر، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخله علي وإن كنت في لحافي؛ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.

ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان، وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه. فقال له رجل، وأراد أن يغريه: يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك. فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني.
استأذن أبو الدرداء على معاوية فحجبه، فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا، إن دعا أجيب وإن سأل أعطي.
وقال محمود الوراق:
شاد الملوك قصورهم فتحصنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد لعزها ... وتنوقوا في قبح وجه الحاجب
فإذا تلطف للدخول عليهم ... راج تلقوه بوعد كاذب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضراعة طالباً من طالب
سعيد بن مسلم قال: كنت واليا بإرمينية فغبر أبو هفان أياما ببابي ولا أعلم به، فلما وصل إلي مثل قائماً بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة. إن الله ما يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلاً مقرباً أحب إلي من أكون مكثراً مبعداً. والله ما نسأل عملاً لا نضبطه، ولا مالاً ونحن أكثر منه. وهذت الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك كان في يد غيرك قبلك فأمسوا والله حديثاً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فتجنب إلى عباد الله، وبغضهم موصول ببغضه، لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوج عن سبيله.
أبو مسهر قال: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبت، فكتبت إليه:
إني أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أرد و لاوالله ما رد إلا العلم والأدب
فأجابني محمد بن عبد الله بن عبد كان فقال:
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب:
ليس الحجاب بمقص عنك أي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب
وقف بباب محمد بن منصور رجل من خاصته فحجب عنه، فكتب إليه:
علي أي باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشميين فطلب الإذن؛ فقيل له: تكون لك عودة فقال:
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى يظفر الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
ونظير هذا المعنى للعتابي، حيث يقول:
قد أتيناك للسلام مراراً ... غير من منا بذاك المزار
فإذا أنت في استتارك باللي ... ل على مثل حالنا بالنهار
وقف رجل بباب أبي دلف، فأقام حيناً لا يصل إليه، فتلطف برقعة أوصلها إليه، وكتب فيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على الليئم
فأجابه أبو دلف:
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
وأبواب الملوك محجبات ... فلا تستعظمن حجاب بابي
وقال حبيب الطائي في الحجاب:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته متعمداً ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
وأنشد أبو بكر بن العطار:
مالك قد حلت عن وفائك واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره
لستم ترجون للحساب ولا ... يوم تكون السماء منفطره
قد كان وجهي لديك معرفة ... فاليوم أضحى بابا من النكرة
وقال غيره:
أتيتك للتسليم لا أنني امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك
فألفيت بواباً ببابك مغرماً ... يهدم ما وطدته من فضائلك
وقد قال قوم حاجب المرء عامل ... على عرضه فاحذر خيانة عاملك
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:

أيها الراكب المغذ إلى الفض ... ل ترفق فدون فضل حجاب
ونعم هبك قد وصلت إلى الفض ... ل فهل في يديك إلا التراب
وقال آخر، وهو محمد البغدادي:
حجابك من مهابته عسير ... وخيرك في تزيده يسير
خرجت كما دخلت إليك إلا ... غبار طار في خفي كثير
وقال آخر، وهو العتابي:
حجابك ليس يشبهه حجاب ... وخيرك دون مطلبه السحاب
ونومك نوم من ورد المنايا ... فليس له إلى الدنيا إياب
وقال غيره:
أنا بالباب واقف منذ أصبح ... ت على السرج ممسكاً بعناني
وبعين البواب كل الذي بي ... ويراني كأنه لا يراني
وقال غيره:
إذا ما أتيناه في حاجة ... رفعنا الرقاع له بالقصب
له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب
وقال أبو بشير: حجبني بعض كتاب العسكر، فكتبت إليه: إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب. وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأرغب بقدرك عن هذه الخليفة، وكل من قام منزلك عظم قدره أو صغر، وحاول حجاب الخليفة، أمكنه. فتأمل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح صورة وأدنى منزلة.
وقد قلت في ذلك:
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه ... ويجهل منك الحق فالهجر أوسع
وفي الناس أبدال وفي الهجر راحة ... وفي الناس عمن لا يواتيك مقنع
وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه ... حري بجدع الأنف والأنف أسنع
وقال آخر:
يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه
كن على منهاج معرفة ... إن وجه المرء حاجبه
فيه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه
وأنشد حسين الجمل - وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه - قال:
ولعمري لئن حجبنا عن الشي ... خ فلا عن وجه هناك وجيه
لا ولا عن طعامه التافه النز ... ر الذي حوله لطام بنيه
بل حجبنا به عن الخسف والمس ... خ وذاك التبريق والتمويه
فجزى الله حاجباً لك فظاً ... كل خير عنا إذا يجزيه
فلقد سرني دخول أبي سع ... وة دوني وبعده حمدويه
إن ذبحي نذالة قد تأتى ... من صباحي بقبح تلك الوجوه
وقال أحمد بن محمد البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب:
ومستنب عن الحسن بن وهب ... وعما فيه من كرم وخير
أتاني كي أخبره بعلمي ... فقلت له سقطت على الخبير
هو الرجل المهذب غير أني ... أراه كثير إرخاء الستور
وأكثر ما يغنيه فتاه ... حسين حين يخلو للسرور:
ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
ومن قولنا في هذا المعنى:
ما بال بابك محروساً ببواب ... يحميه من طارق يأتي ومنتاب
لا يحتجب وجهك الممقوت عن أحد ... فالمقت يحجبه من غير حجاب
فاعزل عن الباب من قد ظل يحجبه ... فإن وجهك طلسم على الباب
ووقف حبيب بن أوس الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه. فكتب إليه يقول:
قل لا بن طوق رحى سعد إذ طحنت ... نوائب الدهر أعلاها وأسفلها:
أصبحت حاتمها جوداً وأحنفها ... حلماً وكيسها علماً ودغفلها
ما لي أرى القتبة البيضاء مقفلة ... دوني وقد طالما استفحت مقفلها
أظنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها

باب من الوفاء والغدر
قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي؛ فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن نفع حرمي بعد موتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي، وما عندي غير الصبر معك، حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشأ يقول:

أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
أبو الحسن المدائني قال: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب إليه أماناً وأشهد شهوداً، قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر: ما رأيك في الذي كان مني؟ قال: أمر قد فات دركه. قال: لتقولن. قال: حزم لو قتلته وحييت. قال: أو لست بحي؟ فقال: ليس بحي من أوقف نفسه موقفاً لا يوثق له بعهد ولا بعقد. قال عبد الملك: كلام لو سبق سماعه فعلى لأمسكت.
المدائني قال: لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوماً، ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال له: يا أمير المؤمنين إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها، لتسرع محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه، فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه. فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه. عجبا لمن يأمرني بقتل مثل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدراً.
وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال سلم: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ؛ قال حسبك الله أبا أمية.
قال أبو عمرو بن العلاء: كان بنو سعد بن تميم أغدر العرب، وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية: كيسان فقال فيهم الشاعر:
إذا كنت في سعد وخالك منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد
إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد

الولاية والعزل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ستحرصون على الإمارة، ثم تكون حسرة وندامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة.
وقال المغيرة بن شعبة: أحب الإمارة لثلاث وأكرهها لثلاث أحبها لرفع الأولياء، ووضع الأعداء، واسترخاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وموت العزل، وشماتة الأعداء.
وقال ولد ابن شبرمة القاضي: كنت جالساً مع أبي قبل أن يلي القضاء، فمر به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل، وهو وإلى البصرة، فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال:
أراها وإن كانت تحب كأنها ... سحابة صيف عن قريب تقشع
ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فلما ابتلى بالقضاء، قلت له يا أبت أتذكر يوم طارق؟ قال: يا بني، إنهم يجدون خلفاً من أبيك، وإن أباك حط في أهوائهم، وأكل من حلوائهم.
قيل لعبد الله بن الحسن: إن فلاناً غيرته الولاية قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغير لها، ومن ولى ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغير لها.
ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة.
وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز - فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم اكفنا شمال زياد. فخرجت في شماله قرحة فقتلته.
ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة، فقال له: ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل. قال: قد طلب العمل من هو خير منك، يوسف عليه الصلاة والسلام. قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
المدائني قال: كان بلال بن أبي بردة ملازماً لباب خالد بن عبد الله القسري، فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه، فبرم به، فقال لرجل من الشرط: إئت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له: يقول لك الأمير: ما لزومك بابي وموكبي! إني لا أوليك ولاية أبداً. فأتاه الرسول فأبلغه. فقال له بلال: هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه؟ قال: نعم. قال: قل له: والله لئن وليتني لا عزلتني. فأبلغه ذلك. فقال خالد: قاتله الله! إنه ليعد من نفسه بكفاية. فدعاه فولاه.
وأراد عمر ابن الخطاب أن يستعمل رجلاً، فبادر الرجل فطلب منه العمل. فقال له عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم من النبي ولاية، فقال له: يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها.
وطلب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده.

وتقول النصارى: لا نختار للجثلقة إلا زاهداً فيها هارباً منها غير طالب لها.
وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه. قال: كلا، إن لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة. ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها، وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإن عرفنا وعرفناه، أفسدنا عليه آخرته ودنياه.
وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية، حين كبر وخاف أن يستبدل به: أما بعد، فقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وسفهني سفهاء قريش، فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق.
فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك، فأنت أكلت شبابك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان؛ وأما ما ذكرت من سفهاء قريش، فحلماؤها أحلوك ذاك المحل؛ وأما ما ذكرت من أمر العمل، فضح رويداً يدرك الهيجا حمل وهذا مثل للعرب وقد وقع تفسيره في كتاب الأمثال.
فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة، كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له، فخرج وخرجنا معه. فلما دخل عليه قال له: يا مغيرة، كبرت سنك، ورق عظمك، ولم يبق منك شيء، ولا أراني إلا مستبدلاً بك. قال المحدث عنه: فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه، فأخبرنا بما كان من أمره قلنا له: فما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الأنفس ليغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه، فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد. فقال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا تركض على النجب، فالتفت فقال: والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل، ألقى عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

باب من أحكام القضاء
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا كان في القضاء خمس خصال فقد كمل: علم بما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم على الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل العلم والرأي.
وقال عمر بن عبد العزيز: إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه، فلعله قد فقئت عيناه جميعاً. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً في القضاء يقول فيه: إذ تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة، أو اليمين القاطعة، وإدناء الضعيف حتى يشتد قلبه؛ وينبسط لسانه. وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تتعاهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به. وآس بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء.
العتبي قال: تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داود القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد، فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي داود. فأحفظه ذلك، فقال: بإبراهيم، إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً، ولا أشرت إليه بيد؛ وليكن قصدك أمماً، وطريقك نهجاً، وريحك ساكنة. ووف مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشبه بك، وأشكل لمذهبك في محتدك وعظم خاطرك. ولا تعجل، فرب عجلة تهب ريثاً، والله يعصمك من الزلل، وخطل القول والعمل، ويتم نعمته عليك ما أتمها على أبوك من قبل، إن ربك حكيم عليم. قال إبراهيم: أصلحك الله، أمرت بسداد، وحضضت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يلثم مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه؛ فإن الغضب لا يزال يستفز بمودة فيردني مثلك بحلمه، وقد رهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك يقوم بأرش الجناية، ولن يتلف مال أفاد موعظة. وبالله التوفيق.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري - رواها ابن عيينة - :

أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك الخصم، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق، واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة أو نسب، فإن الله عز وجل ولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان. ثم إياك والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله عز وجل بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من تخلص نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فاحذر أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متبعة، ودنيا مؤثرة. أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار، وأخف الفساق واجعلهم يداً يداً، ورجلاً رجلاً وإذا كانت بين القبائل ثائرة فنادوا: يا لفلان، فإنما تلك نجوى من الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل، وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام. واستدم النعمة بالشكر، والطاعة بالتألف، والمقدرة بالعفو، والنصرة بالتواضع والمحبة للناس، وبلغني أن ضبة تنادي: يا لضبة. وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط، ولا صرف بها شراً. فإذا جاءك كتابي هذا، فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا، وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم. وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وباشر أمورهم بنفسك، وافتح لهم بابك؛ فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً. وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة همها في السمن والسمن حتفها. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من يشقى به الناس، والسلام.
أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يغزو قوماً في البحر، فكتب إليه عمرو بن العاص، وهو عامله على مصر: يا أمير المؤمنين، إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير، دود على عود. فقال عمر: لا سألني الله عن أحد أحمله فيه.
الشعبي قال: كنت جالساً عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب، وتبكي بكاء شديداً. فقلت: أصلحك الله، ما أراها إلا مظلومة. قال: وما علمك؟ قلت: لبكائها. قال: لا تفعل، فإن أخوة يوسف جاءوا آباءهم عشاء يبكون وهم له ظالمون.
وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يحرجه المشهود عليه. فأقبل إليه رجل، فقال: يا أبا سعيد، إن إياساً رد شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا وائلة، لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو مسلم، له ما لنا وعليه ما علينا؟ فقال: يا أبا سعيد، إن الله عز وجل يقول: " ممن ترضون من الشهداء " وهذا ممن لا يرضى.
ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال: مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه. فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك. قال: بل أكلمه من مجلسي. فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك. فقال له الأشعث: لشد ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك.

وأقبل وكيع بن أبي سعود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة، فقال: مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه، ثم قال له: ما جاء بك؟ قال: لأشهد لفلان. فقال: مالك وللشهادة، إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة. قال: صدقت، وانصرف من عنده. فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك. قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب.
دخل عدي بن أرطأة على شريح، فقال: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: نائي الدار سحيق المزار. قال: قد تزوجت عندكم. قال: بالرفاء والبنين قال: وولد لي غلام. قال: ليهنئك الفارس. قال: وأردت أن أرحلها. قال: الرجل أحق بأهله قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك. قال فاحكم الآن بيننا. قال: قد فعلت قال: على من قضيت؟ قال: على ابن أمك. قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك. يريد إقراره على نفسه.
سفيان الثوري قال: جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنور، قال: بينتك. قال: ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا. قال شريح: فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها، فإن استقرت واستمرت ودرت فهي سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرت وهرت فليست بسنورك.
سفيان الثوري قال: جاء رجل إلى شريح فقال: ما تقول في شاة تأكل الدبى قال: لبن طيب وعلف مجان.
وقيل لشريح: أيهما أطيب: الجوزينق أو اللوزينق؟ قال: لست أحكم على غائب.
ودخل رجل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته، وهي من أجمل النساء، فاختصما إليه، فأدلت المرأة بحجتها وقربت بينتها. فقال الشعبي للزوج: هل عندك من مدفع؟ فأنشأ يقول:
فتن الشعبي لما ... رفع الطرف إليها
فتنته بدلال ... وبخطي حاجبيها
قال للجلواز قرب ... ها وأحضر شاهديها
فقضى جوراً على الخص ... م ولم يقض عليها
قال الشعبي: فدخلت على عبد الملك بن مروان، فلما نظر إلي تبسم وقال:
فتن الشعبي لم ... رفع الطرف إليها
ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة، وبما افترى به علي. قال: أحسنت.

كتاب الفريدة في الحروب
ومدار أمرها
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه، وما على الرعية من لزوم طاعته، وإدامة نصيحته؛ وما على السلطان من العدل في رعيته، والرفق بأهل مملكته.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها، وقود الجيوش وتدبيرها، وما على المدبر لها من إعمال الخدعة، وانتهاز الفرصة، والتماس الغرة وإذكاء العيون، وإفشاء الطلائع، واجتناب المضايق، وطول تجربته لها و لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش، وعلمه أن لا درع كالصبر، ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام، ومحمود عاقبته، ولؤم الفرار، ومذموم مغبته. والله المعين.
صفة الحرب
الحرب رحى ثقالها الصبر، وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، وثقافها الأناة، وزمامها الحذر، ولكل شيء من هذه ثمرة، فثمرة الصبر التأييد، وثمرة المكر الظفر، وثمرة الاجتهاد والتوفيق، وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال، ولكل زمان رجال، والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب، قال: مرة المذاق، إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للثم والتقبيل
وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب. فقال: أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
وقال الكميت:
والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ... ويستوون إذا ما أدبر القبل
كل بأمسيها طب مولية ... والعاملون بذي غدويها قلل
وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها:
أرى خلل الرماد جمر ... فيوشك أن يكون له ضرام
فإذا النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره.
والعرب تقول: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب:
والحرب تركب رأسها في مشهد ... عدل السفيه به بألف حليم
في ساعة لو أن لقماناً بها ... وهو الحكيم لكان غير حكيم
وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له.
ونحو هذا قول الأحنف بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا.
وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي، أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم.
وقال: أكرموا سفهاءكم، فإنهم يكفونكم النار والعار.
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وأنشد هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى هذا البيت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك. فعاش ثلاثين ومائة سنة لم تسقط له ثنية.
وقال النابغة الذبياني يصف الحرب:
تبدو كواكبه والشمس طالعة ... لا النور نور ولا الإظلام إظلام
يريد بقوله: " تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب، كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار.
قال الفرزدق: " أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله:
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يقول: الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل، لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس.
ومن قولنا في صفة الحرب:
ومغبر السماء إذا تجلى ... يغادر أرضه كالأرجوان
سموت له سمو النقع فيه ... بكل مذلق سلب السنان
وكل مشطب المتنين صاف ... كلون الملح منصلت يماني
كأن نهاره ظلماء ليل ... كواكبه من السمر اللذان
وفي صفة المعترك:
ومعترك تهز به المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكور
لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمي دونها طرف البصير
وخافقة الذرائب قد أنافت ... على حمراء ذات شباً طرير
تحوم حولها عقبان موت ... تخطفت القلوب من الصدور
بيوم راح في سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو في قتام ... رنو البكر من بين الستور
فكم قصرت من عمر طويل ... به وأطلت من عمر قصير

العمل في الحرب
قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب. قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثاً. وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات.
وقال شبيب الحروري: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع.
وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء.
وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الحيات.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب، لم يشجع.
وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية، فليصلح كل رجل منكم من شأنه، وليشد على نفسه وفرسه؛ ثم إني هازها لكم الثانية، فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه، وموضع عدوه، ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل، فاحملوا على اسم الله.
وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها - : لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها. فقلدها النعمان بن مقرن.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة، فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.

وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة، فإنها خلسة؛ وثب عند رأس الأمر، ولا تثب عند ذنبه. وإياك والعجز، فإنه أذل مركب؛ والشفيع المهين، فإنه والله أضعف وسيلة.
وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك، فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم. فقال: لا، إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم، فيجد عدوه غرة منه.
وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف، وإعداد العيون على الرصد، وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن، ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة.
وفي بعض كتب العجم: أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها، فقال: تعود القتال وكثرته، وأن يكون لها مواد من ورائها.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟ فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم تكن لي فرصة فجبان
وقال الأحنف بن قيس: إن رأيت الشر يتركك إن تركته فاتركه.
قال هدبة العذري:
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب

الصبر والإقدام في الحرب
جمعت الله تبارك وتعالى تدبير الحرب كلها في آيتين من كتابه فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " .
وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك، أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً؟ ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة.
والعرب تقول: الشجاع موقى، والجبان ملقى.
وقال أعرابي: الله نخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما جمعوا؛ وكم من منية علتها طلب الحياة، وحياة سببها التعرض للموت.
وكان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يا أهل الإسلام، إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر النصر.
وكتب أنو شروان إلى مرازبته، عليكم بأهل الشجاعة والسخاء، فإنهم أهل حسن الظن بالله.
وقالت الحكماء: استقبال الموت خير من استدباره.
وقال حسان بن ثابت:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وقال العلوي في هذا المعنى:
محرمة أكفال خيلى على القنا ... ودامية لباتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتغرق منها في الصدور صدورها
وكانوا يتمادحون بالموت قعصا، ويتهاجون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه وأول من قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
وخطب عبد الله بن الزبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه.
وقال السموأل بن عادياء:
ما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليس على غير السيوف تسيل
وقال آخر:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرة ما نذوقها
وقال الشنفرى:
فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أبغي حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
قوله: خامري أم عامر، هي الضبع. يعني بقوله: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها: خامري أم عامر، وهي الضبع وهذا اللفظ بعيد من المعنى.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ - فقال: أبالموت تخوفوني! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي.
وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعون أحداً إلى المبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عدداً، وأطيب ولداً. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم، ونمى ولدهم.
ومما يستدل به على صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير، وآل أبي طالب، وما كثر من عددهم.
وقال أبو دلف العجلي:
إني امرؤ عودني ... مهرى ركوب الغلس
يحمدني سيفي كما ... يحمد كري فرسي
سيفي بليلي قبسي ... وفي نهاري أنسى
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان:
لست لربحان ولا راح ... ولا على الجار بنباح
فإن أردت الآن موقفاً ... فبين أسياف وأرماح
ترى فتى تحت ظلال القنا ... يقبض أرواحاً بأرواح
وقال أشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول:
وسائلة بالغيب عني ولو درت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أول فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده. فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك.
وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه علي حيلي، ولم يغشني ذعر قط سلبني رأيي. قال هشام: صدقت، هذه والله البسالة.
وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتكل، ولم نقل فنذل.
وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقالت الخنساء:
نهين النفوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
وقيل لعباد بن الحصين - وكان من أشد أهل البصرة - : في أي عدة كنت تريد أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل مستأخر: وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله عنه يوم صفين.
أبت لي شيمتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة:
وقولي كلما جشأت لنفسي ... من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الذي لك لم تطاعي
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر
ومثله قول جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
وهذا البيت في شعره الذي أوله: " هاج الهوى لفؤادك المهتاج " ومدح فيه الحجاج، فلما أنشده: " قل للجبان إذا تأخر سرجه " قال: جرأت علي الناس يا بن اللخناء. قال: والله ما ألقيت لها بالاً أيها الأمير إلا وقتي هذا.
وكان عاصم بن الحدثان عالماً ذكياً وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه الرسول منهم من الجزيرة يسأله عن الأمر يختصمون فيه، فمر به الفرزدق، فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشد:
وهم إذا كسروا الجفون أكارم ... صبر وحين تحلل الأزرار
يغشون حومات المنون وإنها ... في الله عند نفوسهم لصغار
يمشون بالخطي لا يثنيهم ... والقوم إذ ركبوا الرماح تجار
فقال له الفرزدق: ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساخون فيخرجوا علينا بحقوقهم. فقال أبوه: يا فرزدق، هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين.
ونظير هذا مما يشجع الجبان قول عنترة الفوارس:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبالك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

ومن أحسن ما قالوه في الصبر قول نهشل بن حري بن ضمرة النهشلي:
ويوم كأن المصطلين بحره ... وإن لم تكن نار وقوف على جمر
صبرنا له حتى يبوخ وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر
وأحسن من هذا عندي قول حبيب:
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت إخمصيك الحشر
تردي ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأحسن من هذا القول:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
وقوله في هذا المعنى:
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أن المنية تخلق
انظر فحيث ترى السيوف لوامعاً ... أبدا ففوق (رؤوسهم تتألق
وقال الحجاج بن حكيم:
شهدن مع النبي مسومات ... حنيناً وهي دامية الحوامي
ووقعة راهط شهدت وحلت ... سنابكهن بالبلد الحرام
تعرض للطعان إذا التقينا ... خدوداً لا تعرض للطام
أخذه من قولهم: ضربة بسيف في عز، خير من لطمة في ذل.
ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر:
رويداً بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
ونظير هذا قولالآخر:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان
ومن أحسن المحدثين تشبيها في الحرب، مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد:
تلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمود
بجود بالنفس إذ ظن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقوله أيضاً:
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما تعيا الرجال به ... كالموت مستعجلاً يأتي على مهل
وقال أبو العتاهية:
كأنك عند الكر في الحرب إنما ... تفر عن السلم الذي من ورائكا
كأن المنايا ليس تجري لدى الوغى ... إذا التقت الأبطال إلا برائكا
فما آفة الآجال غيرك في الوغى ... وما آفة الأموال غير حبائكا
وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال
أحادثه بصقل كل يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
وقال أبو محلم السعدي:
تقول وصكت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجلي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيهن سنان ذو غرارين نائس
إذا هاب أقوام تقحمت غمرة ... يهاب حمياها الألد المداعس
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
وقال آخر يمدح المهلب بالصبر:
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر
وإذا أتاك مهلبي في الوغى ... في كفه سيف فنعم الناصر
ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب:
نفسي فداؤك والأبطال واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النقما
شاركت صرف المنايا في نفوسهم ... حتى تحكمت فيها مثل ما احتكما
لو تستطيع العلا جاءتك خاضعة ... حتى تقبل منك الكف والقدما
ومن قولنا في وصف الحرب:
سيوف يقيل الموت تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الكلى شرب
إذا اصطفت الرايات حمراً متونها ... ذرائبها تهفو فيهفو لها القلب
ولم تنطق الأبطال إلا بفعلها ... فألسنها عجم وأفعالها عرب

إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا ... فلقياهم طعن وتقبيلهم ضرب
ومن قولنا في رجال الحرب، وأن الوغى قد أخذت من أجسامهم فهي مثل السيوف في رقتها وصلابتها:
سيف تقلد مثله ... عطف القضيب على القضيب
هذا تجز به الرقا ... ب وذا تجز به الخطوب
ومن قولنا أيضا:
تراه في الوغى سيفاً صقيلا ... يقلب صفحتي سيف صقيل
ومن قولنا أيضاً:
سيف عليه نجاد سيف مثله ... في حده للمفسدين صلاح
ومن قولنا أيضاً في الحرب وذكر القائد:
مقيلك تحت أظلال العوالي ... وبيتك فوق صهوات الجياد
تبختر في قميص من دلاص ... وترفل في رداء من نجاد
كأنك للحرب رضيع ثدى ... غذتك بكل داهية نآد
فكم هذا التمني للمنايا ... وكم هذا التجلد للجلاد
لئن عرف الجهاد بكل عام ... فإنك طول دهرك في جهاد
وإنك حين أبت بكل سعد ... كمثل الروح آب إلى الفوائد
رأينا السيف مرتدياً بسيف ... وعاينا الجواد على الجواد
وقد وصفن الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدم إليه، ومعنى بديع لا نظير له، وذلك قولنا:
وجيش كظهر اليم تنفحه الصبا ... يعب عبوباً من قنا وقنابل
فتنزل أولاه وليس بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل
ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤوس دماء من كلى ومفاصل
يديرونها راحاً مني الروح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل
وتسمعهم أم المنية وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل
ومن قولنا في هذا:
سيف من الحتف تردى به ... يوم الوغى سيف من الحزم
مواصلاً أعداءه عن قلى ... لا صلة القربى ولا الرحم
وصل يحن الإلف من بغضه ... شوقاً إلى الهجران والصرم
حتى إذا نادمهم سيفه ... بكل كأس مرة الطعم
ترى حمياها بهاماتهم ... تغور بين الجلد والعظم
على أهازيج ظبا بينها ... ما شئت من حذف ومن خرم
طاعوا له من بعد عصيانهم ... وطاعة الأعداء عن رغم
وكم أعدوا واستعدوا له ... هيهات ليس الخضم كالقضم
ومن قولنا في شبهه:
كم ألحم في أبناء ملحمة ... ما منهم فوق متن الأرض ديار
وأورد النار من أرواح مارقة ... كادت تميز من غيظ لها النار
كأنما صال في ثنيى مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هدار
لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت ... منها على الناس آفاق وأقطار
وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ... ما يستضاء بها نور ولا نار
قاد الجياد إلى الأعداء سارية ... قباً طواها كطي العصب إضمار
ملمومة تتبارى في ململمة ... كأنها لاعتدال الخلق أفهار
تزور عند احتماس الطعن أعينها ... وهن من فرجات النقع نظار
تفوت بالثأر أقواماً وتدركه ... من آخرين إذ لم يدرك الثار
فانساب ناصر دين الله يقدمهم ... وحوله من جنود الله أنصار
كتائب تتبارى حول رايته ... وجحفل كسواد الليل جرار
قوم لهم في مكر الليل غمغمة ... تحت العجاج وإقبال وإدبار
يستقدمون كراديساً مكردسة ... كما تدفع بالتيار تيار
من كل أروع لا يرعى لها جسة ... كأنه مخدر في الغيل هصار
في قسطل من عجاج الحرب مد له ... بين السماء وبين الأرض أستار
فكم بساحتهم من شلو مصرح ... كأنه فوق ظهر الأرض إجار
كأنما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه إلى الزندين جمار
وكم على النهر أوصالاً مقسمة ... تقسمتها المنايا فهي أشطار

قد فلقت بصفيح الهند هامهم ... فهن حوامى الخيل أعشار
ومن قولنا في الحروب:
وحومة غادرت فرسانها ... في مبرك للحرب جعجاع
مستلحم بالموت مستشعر ... مفرق للشمل جماع
وبلدة صحصحت منها الربا ... بفيلق كالسيل دفاع
كأنما باضت نعام الفلا ... منهم بهام فوق أدراع
تراهم عند احتماس الوغى ... كأنهم جن بأجراع
بكل مأثور على متنه ... مثل مدب النمل في القاع
يرتد طرف العين من حده ... عن عكوكب للموت لماع
ومن قولنا في الحرب:
ورب ملتفة العوالي ... يلتمع الموت في ذراها
إذا توطت حزون أرض ... طحطحت الشم من رباها
يقودها منه ليث غاب ... إذا رأى فرصة قضاها
تمضي بآرائه سيوف ... يستبق الموت في ظباها
بيض تحل القلوب سوداً ... إذا انتضى عزمه انتضاها
تتبعه الطير في الأعادي ... تجنى كلا العشب من كلاها
أقدم إذ كاع كل ليث ... عن حومة الموت إذ رآها
فأقحم الخيل في غمار ... تفغر بالموت لهوتاها
عنت له أوجه المنايا ... فعافها القوم واشتهاها

فرسان العرب في الجاهلية والإسلام
كان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدم؛ من بني فراس بن غنم ابن مالك بن كنانة، وكان يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره.
وقال حسان بن ثابت وقد مر على قبره:
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب
لولا السفار وطول قفر مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب
وكان بنو فراس بن غنم بن كنانة أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وفيهم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب. أبدلكم الله بي من هو شر لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم. وددت والله أن لي بجميعكم - وأنتم مائة ألف - ثلثمائة من بني فراس بن غنم.
ومن فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث ابن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن عبد ود، وعمرو ابن معد يكرب.
وفي الإسلام: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والزبير وطلحة، ورجال الأنصار، وعبد الله بن خازم السلمى، وعباد بن الحصين، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروري.
وقالوا: ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم، وقطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة.
وقالوا: ذهب حاتم بالسخاء، والأحنف بن قيس بالحلم، وخريم بالنعمة، وعمير بن الحباب بالشدة.
وبينما عبد الله بن خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض. فعجب منه عبيد الله وقال: هل رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا؟ ونظر إليه. فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ، واصفر كأنه جرادة ذكر. فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن، ويتهاون بالسلطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي على الليث الورد، و يلقى الرماح بنحره، وقد اعتراه من جرذ ما ترون، أشهد أن الله على كل شيء قدير.
وكان شبيب الحروري يصيح في جنبات الجيش، فلا يلوي أحد على أحد. وفيه يقول الشاعر:
إن صاح يوماً حسبت الصخر منحدراً ... والريح عاصفة والموج يلتطم
ولما قتل أمر الحجاج بشق صدره، فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل. فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المنوخة.
ورجال الأنصار أشجع الناس. قال عبد الله بن عباس: ما استلت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت الصفوف، حتى أسلم ابنا قيلة. يعني الأوس والخزرج. وهما الأنصار من بني عمرو بن عامر، من الأزد.
العتبي قال: لما أسن أبو براء عامر بن مالك، وضعفه بنو أخيه وخرفوه، ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول:

دفعتكم عني وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل
يضعفني حلمي وكثرة جهلكم ... علي وأني لا أصول بجاهل
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين:
ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب
وقال ابن براقة الهمداني:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
وقال تأبط شراً:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يبيت بموماة ويضحي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المهالك
إذا حاص عينيه كعرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق باتك
إذا هزه في عظم قرن تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك
وقال أبو سعيد المخزومي، وكان شجاعاً:
وما يرى بنو الأغبار من رحل ... بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل
لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل
ونظير هذا قول بشار العقيلي:
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
وقال عبد الله بن الزبير: التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل فيما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو ستاً، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى آخر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بحياة ابن الزبير، إذ التقى مع الأشتر، عشرة آلاف درهم.
وذكر متمم بن نويرة أخاه مالكاً وجلده، فقال: كان يخرج في الليلة الصنبر، عليه الشملة الفلوت، بين المزادتين على الجمل الثفال. معتقل الرمح الخطي. قالوا: وأبيك إن هذا لهو اجلد.
وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن وهو على الصائفة: أن استعن في حربك بعمرو بن معد يكرب، وطليحة الأزدي، ولا تولهما من الأمر شيئاً، فإن كل صانع أعلم بصناعته.
وقال عمر بن معد يكرب يصف صبره وجلده في الحرب:
أعاذل عدني بزي ورمحي ... وكل مقلص سلس القياد
أعاذل إنما أفنى شبابي ... إجابتي الصريخ إلى المنادي
مع الأبطال حتى سل جسمي ... وأفرح عاتقي حمل النجاد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي
ومن عجب عجبت له حديث ... بديع ليس من بدع السداد
تمنى أن يلاقيني أبي ... وددت وأينما مني ودادي
تمناني وسابغتي قميصي ... كأن قتيرها حدق الجراد
وسيف من لدن كنعان عندي ... تخير نصله من عهد عاد
فلو لاقيتني للقيت ليثاً ... هصوراً ذا ظباً وشباً حداد
ولاستيقنت أن الموت حق ... وصرح شحم قلبك عن سواد
أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد
ومن قوله في قيس بن مكشوح المرادي:
تمناني على فرس ... عليه جالساً أسده
علي مفاضة كالنه ... ي أخلص ماءه جدده
فلو لاقيتني للقي ... ت ليثاً فوقه لبده
سبنتي ضيغماً هصراً ... صلخداً ناشزاً كتده
يسامي القرن إن قرن ... تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرديه ... فيخفضه فيقتصده
فيدمغه فيحطمه ... فيخضمه فيزدرده

المكيدة في الحرب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة.
وقال المهلب لبنيه: عليكم بالمكيدة في الحرب، فإنها خير من النجاة.
وكان المهلب يقول: أناة في عواقبها فوت، خير من عجلة في عواقبها درك.

وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمراً قط بحزم قط فظلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة علي، ولا أخذت أمراً قط وضيعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت العاقبة لي.
وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أي المكايد فيها أحزم؟ قال: إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق، والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء لمن يستنصح، ولا استنصاح لمن يستغش، واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وفي كتاب للهند: الحازم يحذر عدوه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولى.
وقال المأمون للفضل بن سهل. قد كان لأخي رأى لو عمل به لظفر. فقال له الفضل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة لم نخل نحن من إحدى خصلتين، إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه، فعصانا أهل هذه البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا، وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطى منه من معنا وتفرق جندنا ووهي أمرنا. فقال الفضل: الحمد الذي ستر هذا الرأي عنه وعن أصحابه.
وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة فكتب إليه: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون أن يبصره.
وكان بعض أهل التمرس يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولي الحزم فإن الجبان لا يألوا برأيه ما يقي مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشد بصيرتكم. ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان، وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج، والحسام الوالج.
وكان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها، حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها. فخرج إليه، فألطفه الإسكندر وأعظمه. فقال له: أصلح الله الملك، إن أحق من زين لك أمرك، وأعانك على كل ما هويت لأنا. وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، فأحب أن تشفعني فيهم، وأن لا تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه من العهود والمواثيق على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك أن تهدمها وتقتل أهلها. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك. فقال له: إرحل عنا.
وقيل: صالح سعيد بن العاص حصناً من حصون فارس على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، فقتلهم كلهم إلا رجلاً واحداً.
ابن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها: أن أبعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه. ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري. قال: فخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله. فقال العلج: حدثني: هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا، إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له، ولا يدرون ما تصنع بي؟ قال: فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر من رجل من نصارى غسان فعرفه فقال: يا عمرو، قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، فرجع. فقال له الملك: ما ردك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت، أعجل بهم. وبعث إلى البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت، حتى إذا أمن، قال: لا عدت لمثلها أبداً. فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج، قال له: أنت هو! قال: نعم، على ما كان من غدرك.

وقال: ولما أتي بالهرمزان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم. فقال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلك وآجلك. قال: يا أمير المؤمنين، إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة. فدعا له عمر بالسيف. فلما هم بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة ماء أفضل من قتلى على ظمأ. فأمر له عمر بشربة ماء. فلما أخذها قال له: أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم. فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: صدقت، لك التوقف عنك وأنظر في أمرك، ارفعوا عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده. قال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخرك؟ قال: كرهت أن يظن أني إنما أسلمت جزعاً من السيف، وإيثاراً لدينه بالرهبة. فقال عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك؛ ثم أمر به أن يبر ويكرم. فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس.
وهذا نظير فعل الأسير الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى فأمر بقتلهم، فقال له أتقتل الأسرى عطاشاً يا معن؟ فأمر بهم فسقوا. فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلى سبيلهم.
وذكروا أن ملك من ملوك العجم كان معروفاً ببعد الغور ويقظة الفطنة وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر إلى محاربته، فيكشف عن ثلاث خصال من حاله، فكان يقول لعيونه: انظروا هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه؟ وانظروا إلى الغنى في أي صنف هو من رعيته، أفيمن اشتد أنفه وقل شرهه؟ أم فيمن قل أنفه واشتد شرهه؟ وانظروا في أي صنفي رعيته القوام بأمره؟ أفيمن نظر ليومه وغده؟ أم من شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له لا يخدع عن أخبار رعيته، والغنى فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام بأمره من نظر ليومه وغده؛ قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك؛ قال: نار كامنة تنتظر موقد، وأضغان مزملة تنتظر مخرجاً، اقصدوا له فلا حين أحين من سلامة مع تضييع، ولا عدو أعدى من أمن أدى إلى اغترار.
وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ، ثم نزلت بابل، ثم نزل أردشير بن بابك فارس، فصارت دار مملكتهم، وصار بخراسان ملوك الهياطلة، وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بههرام ملك الفرس، وكان غزاهم. فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكابدة وحسن الإدارة، فأظهر السخط عليه، ووقع به على أعين الناس توقيعاً قبيحاً، ونكل به تنكيلاً شديداً، ثم أرسله وقد واطأه على أمر أبطنه معه وظاهره عليه. فخرج حتى أتى فيروز في طريقه، فأظهر له النزوع إليه والاستنصار به من عظيم ما يناله. فلما رأى فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه، وثق به واستنام إليه. فقال له: أنا أدلك أيها الملك على غرة القوم وعورتهم، وأعلمك مكان غفلتهم. فسلك به سبيل مهلكة معطشة. ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه. فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه، وأعطاهم موثقاً لا يغزوهم أبداً، ونصب لهم حجراً جعله حداً بينه وبينهم، وحلف لهم أن لا يجاوزه هو ولا جنوده، وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته. فمنوا عليه وأطلقوه ومن معه. فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه، فعاد إلى غزوهم ناكثاً لعهده، غادراً بذمته إلا أنه لطف في ذلك بحيلة ظنها مجزية في أيمانه، فجعل الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدمة عسكره، وتأول في ذلك أنه لا يجاوزه. فلما صار إليهم ناشدوه الله وذكروه الأيمان به، وما جعل على نفسه من عهده وذمته. فأبى إلا لجاجاً ونكثاً. فواقعوه فضفروا به، فقتلوه وقتلوا حماته، واستباحوا عسكره.
أسامة بن زيد الليثي: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقاً وهو يريد أخرى، ويقول: الحرب خدعة.
زياد عن مالك بن أنس: كان مالك عبد الله الخثعمي، وهو على الصائفة يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل، فيحمد الله تعالى ويثني عليه، ثم يقول: إني دارب بالغداة إن شاء الله تعالى درب كذا. فتتفرق الجواسيس عنه بذلك. فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقاً أخرى. فكانت الروم تسميه الثعلب.

وصايا أمراء الجيوش

كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً. فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية: بسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر، ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله لا من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند حمة النهضات، وفي شن الغارات ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً. فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، ثم قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له - يعني الرهبان - وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤسهم الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال له: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثل، ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً، ولا تقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلاً، ولا تخربن عامر، ولا تغل، ولا تبخس.
وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة. واستظهر بالزاد، وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة: وأقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك. واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني: الحمد لله الذي فض حرمتكم، وفرق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب ملككم، وأذل عزكم. فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن، واعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرن إليكم بقوم تحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا.

كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد: أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل، لما عملوا بمساخط الله، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم على منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع. وأقم ومن معك في كل جمعة يوم وليلة، حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحداً أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيراً. ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت لأرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خيره، وإن صدقك في بعضه، والغاش عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم وموافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل. فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، لا تخص بها أحداً يهوى، فيضيع من أمرك ورأيك اكثر مما حابيت به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف عليها فيه غلبة أو ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقالته، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها، فتصنع بعدوك كصنعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتيقظ من البيات جهدك. ولا تؤتي بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدو الله وعدوك. والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان.
وأوصى عبد الملك بن مروان أميراً سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا تحفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك.
وكان زياد يقول لقواده: تجنبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو: الشتاء وبطون الأودية.
وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشاً في الشتاء، فغنموا وسلموا، فقال لعباد: يا أبا حرب، أين رأى زياد من رأينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخطأت، وليس كل عورة تصاب.
العتبي قال: جاشت الروم وغزوا المسلمين براً وبحراً، فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فلما كتب له عهده قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماماً لا أعصيه. قال: اردد علي عهدي. ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فكتب له عهده، ثم قال له: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماماً أمام الحزم، فإن خالفه خالفته. فقال معاوية: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من خور، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال.

وقال دريد الصمة لمالك بن عوف النصري قائد هوازن يوم حنين: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام. مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به وقال: راعى ضأن والله؟ وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ويحك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل. فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وذهل عقلك. قال: دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني، ثم أنشأ يقول:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذ غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصروا الشعور، والحظوا الناس شزراً، وكلموهم رمزاً، واطعنوهم وخزاً.
وكان أبو مسلم يقول لقواده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وكان سعيد بن زيد يقول لبنيه: قصروا الأعنة واشحذوا الأسنة، تأكلوا القريب، ويرهبكم البعيد.
وقال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة ابني عبد الله بن الحسن، وجعل يوصيني ويكثر، قلت: يا أمير المؤمنين؛ إلى متى توصيني:
إني أنا ذاك الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي
فكل ما تطلب عندي عندي

المحاماة عن العشيرة
ومنع المستجير
قال عبد الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي: ما مبلغ عزكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم يؤمن منا. قال: فما مبلغ حفظكم؟ قال: يدفع الرجل منا عمن استجار به من غير قومه كدفاعه عن نفسه. قال عبد الملك: مثلك من يصف قومه.
وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع الغنزي: أخبرني عن مالك بن مسمع. قال له: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب. قال عبد الملك: هذا والله السؤدد.
قال: ولم يل قط مالك بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئاً للسلطان.
وكانت العرب تمتدح بالذب عن الجار فيقولون: فلان منيع الجار، حامي الذمار. نعم، حتى كان فيهم من يحمي الجراد إذا نزل في جواره، فسمي مجير الجراد.
وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
وقال آخر:
هم يمنعون الجار حتى كأنه ... كثيبة زور بين خافيتي نسر
وذكر أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان، فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانئ بن عروة المرادي: فبلغ ذلك معاوية، فهدر دم هانئ. فخرج إلى معاوية فكان في جواره، ثم حضر مجلسه وهو لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه. فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانئ بن عروة. فقال: إن هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك:
أرجل جمتي وأجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفق كميت
وأمشي في سراة بني غطيف ... إذا ما ساءني أمر أبيت
قال: أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعز مني ذلك اليوم. فقال: بم ذلك؟ قال: بالإسلام. قال: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي وعندك يا أمير المؤمنين. قال: انظر إلى ما اختانه، فخذ منه بعضاً، وسوغه بعضاً، وقد أمناه ووهبناه لك.
الشيباني قال: لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصير إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي، تفرق عن محمد من كان معه، فتغيب. فدل عليه، فأخذه وضرب عنقه وبعث برأسه إلى معاوية. وكان أول رأس طيف به في الإسلام.

وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه، فاستجار بأخواله من خثعم فغيبوه. وكان سيد خثعم يومئذ رجلاً في ظهره بزخ من كسر أصابه، فكان إذا مشى ظن الجاهل أنه يتبختر في مشيته، فذكر لمعاوية أنه عنده، فقال له: أسلم إلينا هذا الرجل: فقال: ابن اختنا لجأ إلينا لنحقن دمه، عنك يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أدعه حتى تأتيني به. قال لا والله لا أتيك به. قال: كذبت. والله لتأتيني به، إنك ما علمت لأوره. قال: أجل، إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لأحقن دمه، وأقدم ابن عمي دونه تسفك دمه. فسكت عنه معاوية وخلى بينه وبينه.
الشيباني قال: قال سعيد بن سلم: أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن دله عليه أو جاءه به مائة ألف درهم. قال: فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم إنه ظهر بمدينة السلام، فكان ظاهراً كغائب، خائفاً مترقباً. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه، فأهوى إلى مجامع ثوبه، وقال: هذا بغية أمير المؤمنين؛ فأمكن الرجل من قياده، ونظر إلى الموت أمامه. فبينما هو على الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره، فالتفت فإذا معن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد، أجرني أجارك الله؛ فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك؟ قال: بغية أمير المؤمنين، الذي أهدر دمه وأعطى لمن دل عليه مائة ألف. فقال: يا غلام، انزل عن دابتك، واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس، يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين! قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي. فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب، فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بحبس الرجل، ووجه إلى معن من يحضر به. فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه، وقربت إليه دابته، فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي، فلم يرد عليه. فقال: يا معن، أتجير علي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً! واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً، ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي، وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلاً أن تهبوا لي رجلاً واحداً استجار بي؟ فأطرق المهدي طويلاً، ثم رفع رأسه وقد سري عنه، فقال: قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فعل. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف. قال: يا أمير المؤمنين، إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم، فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف. قال: فتعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله. فأمر بتعجيلها. فدعا لأمير المؤمنين بأفضل دعاء، ثم انصرف ولحقه المال. فدعا الرجل، فقال له: خذ صلتك، والحق بأهلك، وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.

الجبن والفرار
قال عمرو بن معد يكرب: الفزعات ثلاث: فمن فزعته في رجليه، فذلك الذي لا تقله رجلاه؛ ومن كانت فزعته في رأسه، فذلك الذي يفر عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه، فذلك الذي يقاتل.
وقال الأحنف بن قيس: أسرع إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار.
وقامت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأف للجبناء! أف للجبناء! وقال الشاعر:
يفر الجبان عن أبيه وأمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
وقال خالد بن الوليد عند موته. لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هأنذا أموت حتف أنفى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
ومن أشعار الفرارين الذين حسنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن، قول الفرار السلمي:
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند
هل ينفعنى أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالها: لا تبعد
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد

وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
وهذا الذي سمعه رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسنتم كل شيء فحسن حتى الفرار.
وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك.
وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله مجاهداً فأتبعه أهل مكة يبكون، فرق وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل داراً بدارنا، أو جاراً بجارنا، ما رأينا بكم بدلا، ولكنها النقلة إلى الله. فلم يزل هنالك مجاهداً حتى مات.
وقال آخر:
قامت تشجعني هند وقد علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغي فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
وقال محمود الوراق:
أيها الفارس المشيح المغير ... إن قلبي من السلاح يطير
ليس لي قوة على رهج ... الخيل إذا ثور الغبار مثير
واستدارت رحى الحروب بقوم ... فقتيل وهارب وأسير
حيث لا ينطق الجبان من الذعر ويعلو الصياح والتكبير
أنا في مثل ذا وهذا بليد ... ولبيب في غيره بحرير
وقال أيمن بن خريم:
إن للفتنة ميطاً بيناً ... فرويد الميط منها يعتدل
فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها جهالها ... حطب النار فدعها تشتعل
ومما يحتج به الفرارون ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بداً منه، لأن النفقة فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال.
أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فنظمه في شعره حيث يقول:
كم بين قوم إنما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا
ومن الفرارين: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فر من الأزارقة وكان في عشرة آلاف، وكان قد بعث إليه المهلب: يا بن أخي، خندق على نفسك وعلى أصحابك فإني عالم بأمر الخوارج ولا تغتر. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك، وهم أهون علي من ضربة الجمل.فبيته قطري صاحب الأزارقة، فقتل من أصحابه خمسمائة وفر لا يلو على أحد. فقال فيه الشاعر:
تركت ولداننا تدمى نحورهم ... وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
ومن الفرارين: أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فر يوم مرداء هجر من أبي فديك. فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول، أيهنئونه أم يعزونه، حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحباً بالصابر المخذول، الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله تعالى حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك.
وفيه يقول الشاعر:
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
أتي الحجاج بدواب أمية قد وسم على أفخاذها عدة فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: للفرار.
وقال أبو دلامة: كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم ثان فقتله، ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم. فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟ قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه، فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان. فلما رآني فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع
" من كان ينوي أهله فلا رجع "

فلما رأيته قنعت رأسي، ووليت هارباً، ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفتكم، فدخلت في غمار الناس.
وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدو؟ قال: وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني؟ وقيل لآخر: ألا تغزو العدو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أخب إليه راكضاً.
ومما قيل في الفرارين والجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقد تقدم ذكر ذلك:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث هشام
ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
ملأت به الفرجين فارمدت به ... وثوى أحبته بشر مقام
وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان:
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
وقال فيه:
ضعيف القلب رعديد ... عظيم الخلق والمنظر
رأى في النوم عصفوراً ... فوارى نفسه أشهر
وقال آخر:
لو جرت خيل نكوصاً لجرت خيل ذفافه
هي لا خيل رجاء ... لا ولا خيل مخافه
وقال آخر:
خرجنا نريد مغاراً لنا ... وفينا زياد أبو صعصعة
فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعة
ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرماح في بني تميم:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت
ولو أن برغوثاً على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولت
ولو جمعت يوماً تميم جموعها ... على ذرة معقولة لاشمعلت
وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة، وقليلة لا عادة، كما قال زفر بن الحارث، وفر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
ولم تر مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
وفر عمر بن معد يكرب من عباس بن مرداس السلمي، وأسر أخته ريحانة. وفيها يقول عمرو:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وفر عن بني عبس، وفيهم زهير بن جذيمة العبسي، وولده شأس بن زهير، وقيس بن زهير، ومالك بن زهير فقال فيهم:
أجاعلة أم الثوير خزاية ... علي فراري إذ لقيت بني عبس
لقيت أبا شأس وشأساً ومالكاً ... وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي
لقونا فضموا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
ولما دخلنا تحت فيء رماحهم ... خبطت بكفي أطلب الأرض باللمس
وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
وقال أيضاً:
ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور
ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير
كل ما ذلك مني خلق ... وبكل أنا في الروع جدير
وابن صبح سادراً يوعدني ... ما له في الناس ما عشت مجير
وقال الحارث لامرأته، وذلك أنها نظرت إليه وهو يحد حربة يوم فتح مكة، فقالت له: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء! قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، قم أنشأ يقول:
إن يقبلوا اليوم فيما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل، فلامته امرأته فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالموتمة ... ولحقتنا بالسيوف المسلمة
يفلقن كل ساعد وجمجمة ... ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وكان أسلم بن زرعة وجهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين، وأبو بلال في أربعين رجلاً، فشدوا عليه شدة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه؛ فما دخل على ابن زياد عنفه في ذلك وقال: أتمضي في ألفين وتنهزم.

عن أربعين! فخرج عنه وهو يقول لأن يذمني ابن زياد حياً، خير من أن يمدحني ميتاً. وفي رواية أخرى: أن يشتمني الأمير وأنا حي، أحب إلي من أن يدعو لي وأنا ميت.
فقال شاعر الخوارج:
أألفا مؤمن؟ لستم كذاكم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي وكان فر يوم الحرة من جيش مسلم بن عقبة، فلما كان أيام حصار الحجاج بمكة لعبد الله بن الزبير جعل يقاتل أهل الشام ويقول:
أنا الذي فررت يوم الحرة ... والشيخ لا يفر إلا مرة
فاليوم أجزى فرة بكره ... لا بأس بالكرة بعد الفره
فلم يزل يقاتل حتى قتل.
وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قال قيس بن الخطيم:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقر عتيبة بن الحارث بن شهاب ... يوم ثبرة عن ابنه حزوة وقال:
يا حسرتا لقد لقيت حسرة ... يالتميم غشيتني غمره
نعم الفتى غادرته بثبرة ... نجيت نفسي وتركت حزرة
هل يترك الحر الكريم بكره
وفر أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات، فقال:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترعفقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد ... أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم
فلولا أدراك الشد قامت حليلتي ... تخير من خطابها وهي أيم
ولولا أرداك الشر أتلفت مهجتي ... وكاد خراش يوم ذلك ييتم
وفر خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك فقال:
بذلت لهم يا قوم حولي وقوتي ... ونصحي وما ضمت يداي من التبر
فلما تناهى الأمر بي من عدوكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الردينية السمر
فلو كان لي روحان عرضت واحداً ... لكل رديني وأبيض ذي أثر
رجع بنا القول إلى الفرارين والجبناء وما قيل فيهم.
فر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة، فقال فيه الفرزدق:
وكل بني السوداء قد فر فرة ... فلم يبق إلا فرة في است خالد
فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمرون سودانا غلاظ السواعد
وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدم قلت لست بفاعل ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو كان لي رأسان أتلفت واحداً ... ولكنه رأس إذا راح أعقما
ولو كان مبتاعاً لدى السوق مثله ... فعلت ولم أحفل بأن أتقدما
فأوتم أولاداً وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدما
وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع الجذامي: عجباً منك! كيف سودك قومك وأنت جبان غيور؟ قال: أما الجبن، فإن لي نفساً واحدة فأنا أحوطها؛ وأما الغيرة، فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره.
وقال كعب بن زهير:
بخلاً علينا وجبناً من عدوكم ... لبئست الخلتان: البخل والجبن

فضائل الخيل
قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخيل: أعرفها أدفاؤها، وأذنابها مذابها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بإناث الخيل، فإن بطونها كنز، وظهورها حرز، وأصحابها معانون عليها.
وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن اشتري فرساً أعده في سبيل الله. فقال له: اشتره أدهم؛ أو كميتاً أقرح أرثم، أو محجلاً مطلق اليمين، فإنها ميامن الخيل.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأموال أشرف؟ قال فرس يتبعها فرس في بطنها فرس.
صفة جياد الخيل
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب من الخيل الشقر.
وقال: لو جمعت خيل العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر.

وسأله رجل: أي المال خير؟ قال: سكة مأبورة، ومهرة مأمورة.
وكان عليه الصلاة والسلام يكره الشكال في الخيل.
وقالوا: إنما سميت خيلاً لاختيالها.
ووصف أعرابي فرساً فقال: إذا تركته نعس، وإذا حركته طار.
وأرسل مسلم بن عمرو لابن عم له بالشام يشتري له خيلاً. فقال له: لا علم لي بالخيل. فقال: ألست صاحب قنص؟ قال: بلى. قال: انظر كل شيء تستحسنه في الكلب في الفرس. فأتى بخيل لم يكن في العرب مثلها.
وقال بعض الضبيين في وصف فرس:
متقاذف عبل الشوى شنج النسا ... سباق أندية الجياد عميثل
وإذا تعلل بالسياط جيادها ... أعطاك نائله ولم يتعلل
سأل المهدي مطر بن دراج عن أي الخيل أفضل؟ قال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر، وإذا استعرضته قلت زافر. قال: فأي هذه أفضل؟ قال: الذي طرفه إمامه، وسوطه عنانه.
وقال آخر: الذي إذا مشى ردى، وإذا عدا دحا، وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبى، وإذا استعر استوى.
وسأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان: أي الخيل أفضل! قال: الطويل الثلاث، القصير الثلاث، العريض الثلاث، الصافي الثلاث. قال: فسر لنا. قال: أما الطويل الثلاث، فالأذن والعنق والحزام. وأما القصر الثلاث، فالصلب والعسيب والقضيب. وأما العريض الثلاث، فالجبهة والمنخر والورك؛ وأما الصافي الثلاث، فالأديم والعين والحافر.
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده. فأمر بأفراس فعرضت عليه. فقال: قدموا إليها الماء في التراس، فما شرب ولم يكتف فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس منها.
قلت: إنما المحفوظ أن عمر شك في العتاق والهجن، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره. فأمر سلمان بطست من ماء فوضع بالأرض، ثم قدم إليه الخيل فرساً فرساً، فما ثنى سنبكه وشرب هجنه، وما شرب ولم يثن سنبكه عربه.
وقال حسان بن ثابت يصف طول عنق الفرس:
بكل كميت جوزه نصف خلقه ... أقب طوال مشرف في الحوارك
وقال زهير:
وملجمنا ما أن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله
وقال آخر:
له ساقا ظليم خا ... ضب فوجئ بالرعب
حديد الطرف والمنكب ... والعرقوب والقلب
وقال آخر:
هريت قصير عذاب اللجام ... أسيل طويل عذار الرسن
لم يرد بقوله. قصير عذار اللجام قصر خده، وإنما أراد طول شق الفم. وأراد بطول عذار الرسن: طول الخد.
وقال آخر:
بكل هريت نقي الأديم ... طويل الحزام قصير اللبب
وقال أبو عبيدة يستدل على عنق الفرس برقة جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعري نواهقه، ودقة حقويه وما ظهر من أعالي أذنيه، ورقة سالفتيه وأديمه، ولين شعره. وأبين من ذلك كله لين شكير ناصيته وعرفه. وكانوا يقولون. إذا اشتد نفه، ورحب متنفسه، وطال عنقه، واشتد حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشبخت أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت، ألحق بجياد الخيل.
قيل لرجل من بني أسد: أتعرف الفرس الكريم من المقرف؟ قال: نعم؛ أما الكريم، فالجواد الجيد الذي نهز نهز العير، وأنف تأنيف السير، الذي إذا عدا اسلهب، وإذا أقبل أجلعب، وإذا انتصب اتلأب.
وأما المقرف: فإنه الذلول الحجبة، الضخم الأرنبة، الغليظ الرقبة، الكثير الجلبة، الذي إذا أرسلته قال: أمسكني، وإذا أمسكته قال: أرسلني.
وكان محمد بن السائب الكلبي يحدث: أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان بن داود عليهما السلام كانت ألف فرس ورثها عن أبيه، فلما عرضت ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب، فعرقبها إلا أفراساً لم تعرض عليه. فوفد عليه أقوام من الأزد وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم قالوا: يا نبي الله، إن أرضنا شاسعة فزودنا زاداً يبلغنا. فأعطاهم فرساً من تلك الخيل وقال: إذا نزلتم منزلاً فاحملوا عليه غلاماً واحتطبوا، فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعامكم، فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا إلى بلادهم، فقالوا. ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب. فسموه زاد الراكب. فأصل فحول العرب من نتاجه.

ويقال إن أعوج كان منها، وكان فحلاً لهلال بن عامر أنتجته أمه ببعض بيوت الحي، فنظروا إلى طرف يضع جحفلته على كاذتها على الفخذ مما يلي الحياء فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو على فرسكم، لعظم أعوج وطول قوائمه. فقاموا إليه فوجدوا المهر، فسموه أعوج.
وأخبرنا فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أغير على أهل النسار، وأعوج موثق بثمامة، فجال صاحبه في متنه، ثم زجره فاقتلع الثمامة، فخرجت تحف في متنه كالخذروف وراءه. فغدا بياض يومه وأمسى يتعشى من جميم قباء.
وقال الشاعر في وصف فرس:
وأحمر كالديباج أما سماؤه ... فريا وأما أرضه فمحول
قوله سماؤه: أعلاه؛ وأرضه: أسفله. يريد قوائمه.
وللطائي نظير هذا حيث يقول:
مبتل متن وصهوتين إلى ... حوافر صلبة له ملس
فهو لدى الروع والحلائب ذو ... أعلى مندى وأسفل يبس
أو أدهم فيه كمتة أمم ... كأنه قطعة من الغلس
صهصلق في الصهيل تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس
وقال حبيب أيضاً يصف فرساً أهداه إليه الحسن بن وهب الكاتب:
ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق
بحوافر حفر وصلب صلب ... وأشاعر شعر وحلق أحلق
وبشعلة تبدو كأن حلولها ... في صهوتيه بدو شيب المفرق
ذو ألق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
تغرى العيون به ويفلق شاعر ... في نعته عفواً وليس بمفلق
بمصعد من حسنه ومصوب ... ومجمع في خلقه ومفرق
قد سالت الأوضاح سيل قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتقى
صافي الأديم كأنما ألبسته ... من سندس ثوباً ومن إستبرق
مسود شطر مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المهرق
فكأن فارسه يصرف إذ بدا ... في متنه ابنا للصباح الأبلق
إملسه إمليده لو علقت ... في صهوتيه الصين لم تتعلق
يرقى وما هو بالسليم ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع مملق
وقال أبو سويد: شهد أبو دلف وقعة البذ وتحته فرس أدهم، وعليه نضح الدم. فاستوقفه رجل من الشعراء، وأنشد:
كم ذا تجرعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك الأدهم
في كل منبت شعرة من جلده ... نمق ينمقه الحسام المخذم
وكأنما عقد النجوم بطرفه ... وكأنه بعرى المجرة ملجم
وكأنه بين البوارق لقوة ... شقراء كاسرة طوت ما تطعم
ما تدرك الأرواح أدنى سيره ... لا بل يفوت الريح فهو مقدم
رجعته أطراف الأسنة أشقراً ... واللون أدهم حين ضرجه الدم
قال: فأمر له بعشرة آلف درهم.
ومن قولنا في وصف الفرس:
ومقربة يشقر في النقع كمتها ... ويخضر حيناً كلما بلها الرشح
تطير بلا ريش إلى كل صيحة ... وتسبح في البر الذي ما به سبح
وقال عدى بن الرقاع:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام
وطلب البحتري الشاعر من محمد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب فرساً، ووصف له أنواعاً من الخيل في شعره فقال:
لآكلفن العيس أبعد همة ... يجري إليها خائف أو مرتجى
وإلى سراة بني حميد إنهم ... أمسوا كواكب أشرقت في مذحج
والبيت لولا أن فيه فضيلة ... تعلو البيوت بفضلها لم يحجج
فأعن على غزو العدو بمنطو ... أحشاؤه طي الرداء المدرج
إما بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجج
متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرج
أو أدهم صافي الأديم كأنه ... تحت الكمى مظهر بيرندج
ضرم يهيج السوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج
خفت مواقع وطئه فلو أنه ... يجري برملة عالج لم يرهج

أو أشهب يقق يضئ وراءه ... متن كمتن اللجة المترجرج
تخفى الحجول ولو بلغن لبانه ... في أبيض متألق كالدملج
أوفى بعرف أسود متفرد ... فيما يليه وحافر فيروزجي
أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كل لون معجب بنموذج
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقاً بأحسن حلة لم تنسج
وعريض أعلى المتن لو عليته ... بالزئبق المنهال لم يترجرج
خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... أمواج تحنيب بهن مدرج
ولأنت أبعد في السماحة همة ... من أن تضن بموكف أو مسرج
وأول من شبه الخيل بالظبي والسرحان والنعامة وتبعه الشعراء وحذوا حذوه وعلى مثاله، امرؤ القيس بن حجر، فقال في الفرس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
كأن على المتنين منه إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
درير كخذروف الوليد أمره ... تتابع كفيه بخيط موصل
كميت يزل اللبد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
فأخذت الشعراء هذا التشبيه من امرئ القيس فحذوا عليه، فقال طفيل الخيل:
إني وإن قل مالي لا يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول
تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
وقال عبد الملك بن مروان لأصحابه: أي المناديل أفضل؟ فقال: بعضهم: مناديل مصر التي كأنها غرقئ البيض، وقال بعضهم: مناديل اليمن التي كأنها أنوار الربيع. فقال: ما صنعتم شيئاً، أفضل المناديل مناديل عبدة ابن الطبيب حيث يقول:
لما نزلنا ضربنا ظل أخبية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
ورداً وأشقر لم ينهئه طابخه ... ما قارب النضج منها فهو مأكول
وقد وثبنا على عوج مسومة ... أعرفهن لأيدينا مناديل

سوابق الخيل
وقال الأصمعي: ما سبق في الرهان فرس أهضم قط. وأنشد لأبي النجم:
منتفج الجوف عريض كلكله
قال: وكان هشام بن عبد الملك رجلاً مسبقاً لا يكاد يسبق، فسبقت له فرس أنثى وصلت أختها، ففرح لذلك فرحاً شديداً وقال: علي بالشعراء. قال أبو النجم: فدعينا فقيل لنا: قولوا في هذه الفرس وأختها. فسأل أصحاب النشيد النظرة حتى يقولوا فقلت له: هل لك في رجل ينقذك إذا استنسئوك؟ قال: هات. فقلت من ساعتي:
أشاع للغراء فينا ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها
وما نسينا بالطريق مهرها ... حين نقيس قدره وقدرها
وصبره إذا عدا وصبرها ... والماء يعلو نحره ونحرها
ملمومة شد المليك أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها
قد كاد هاديها يكون شطرها
قال أبو النجم: فأمر لي بجائزة وانصرفت.
أبو القاسم جعفر بن أحمد بن محمد وأبو الحسن علي بن جعفر البصري قالا: حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: أن هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة. قال الأصمعي: فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين، والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن جعفر. فجاء فرس أدهم، يقال له الربد لهارون الرشيد، سابقاً. فابتهج لذلك ابتهاجاً علم ذلك في وجهه وقال: علي بالأصمعي. فنوديت له من كل جانب. فأقبلت سريعاً حتى مثلت بين يديه. فقال: يا أصمعي، خذ بناحية الربد ثم صفه من قونسه إلى سنبكه، فإنه يقال: إن فيه عشرين اسماً ومن أسماء الطير. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشدك شعراً جامعاً لها من قول أبي حزرة. قال: فأنشدنا لله أبوك. قال: فأنشدته:
وأقب كالسرحان تم له ... ما بين هامته إلى النسر

الأقب: اللاحق المخطف البطن، وذلك يكون من خلقة، وربما حدث من هزال أو بعد قود، والأنثى قباء، والجمع: قب، والمصدر: القبب. والسرحان: الذئب، شبهه في ضموره وعدوه به، وجمعه سراحين، وقد قالوا: سراح. والهامة: أعلى الرأس، وهي أم الدماغ؛ وهي من أسماء الطير. والنسر: هو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه، كأنه النوى والحصى، وهو من أسماء الطير، وجمعه نسور.
رحبت نعامته ووفر فرخه ... وتمكن الصردان في النحر
رحبت: اتسعت. ونعامته: جلدة رأسه التي تغطى الدماغ، وهي من أسماء الطير. وقوله: ووفرة فرخه. الفرخ: هو الدماغ، وهو من أسماء الطيور. ووفر: أي تمم؛ يقال: وفرت الشيء ووفرته بالتخفيف فهو موفور. والصردانن: عرقان في أصل اللسان، يجري منهما الريق ونفس الرئة، وهما من أسماء الطير. وفي الظهر صرد أيضاً، وهو بياض يكون في موضع السرج من أثر الدبر؛ يقال: فرس صرد، إذا كان ذلك به، والنحر: موضع القلادة من الصدر، وهو البرك.
وأناف بالعصفور من سعف ... هام أشم موثق الجذر
أناف: أشرف. والعصفور: أصل منبت الناصية والعصفور أيضاً: عظم ناتئ في كل جبين والعصفور: من الغرر أيضاً، وهي التي سالت ودقت ولم تتجاوز إلى العينين ولم تستدر كالقرحة، وهو من أسماء الطير والسعف، يقال: فرس بين السعف، وهو الذي سالت ناصيته. وهام، أي سائل منتشر. وأشم: مرتفع. والشمم في الأنف: ارتفاع قصبته. ويروى: هاد أشم يريد عنقاً مرتفعاً، وجمعه: هواد، وقوله: موثق، أي شديد قوي. والجذر: الأصل من كل شيء. قال الأصمعي وغيره: هو بالفتح؛ وقال أبو عمرو بن العلاء: هو بالكسر.
وازدان بالديكين صلصله ... ونبت دجاجته عن الصدر
ازدان: افتعل، من قولك زان يزين، وكان الأصل ازتان، فقلبت التاء دالا، لقرب نخرجها من مخرج الزاي، وكذلك ازداد، من زاد يزيد. والديكان واحدهما ديك، وهو العظم الناتئ خلف الأذن، وهو الذي يقال له الخششاء والخشاء. والصلصل: بياض في طرف الناصية، ويقال: هو أصل الناصية. والدجاجة: اللحم الذي على زوره بين يديه. والديك والصلصل والدجاجة، من أسماء الطير.
والناهضان أمر جلزهما ... فكأنما عثما على كسر
الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين؛ ويقال: هو اللحم الذي يلي العضدين من أعلاهما، والجمع: نواهض، ويقال في الجمع: أنهض، على غير قياس. والناهض: فرخ القطا، وهو من أسماء الطير. وقوله: أمر جلزهما، أي فتل وأحكم؛ يقال: أمررت الحبل فهو ممر، أي فتلته. والجلز: الشد. وقوله: " فكأنما عثما على كسر " أي كأنهما كسراً ثم جبراً. يقال: عثمت يده. العثم: الجبر على عقدة وعوج؛ وعثمان، فعلان منه.
مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شيمته إلى الغر
مسحنفر الجنبين: أي منتفخهما. ملتئم، أي معتدل. وشيمته: نحره. والشيمة، أيضاً: من قولك: فرس أشيم، بين الشيمة، وهي بياض فيه؛ ويقال: أن تكون شامة أو شام في جسده. والغر في الطير يسمى الرخمة، وهي عضلة الساق.
وصفت سماناه وحافزه ... وأديمه ومنابت الشعر
السمانى: طائر، وهو موضع من الفرس لا أحفظه، إلا أن يكون أراد السمامة، وهي دائرة تكون في سالفة الفرس، وهي عنقه، والسمامة، من الطير أيضاً. والأديم: الجلد.
وسما الغراب لموقعيه معاً ... فأبين بينهما على قدر
سما الغراب، أي ارتفع، والغراب: رأس الورك. ويقال للصلوين: الغرابان، وهما مكتنفا عجب الذنب. ويقال: هما ملتقى أعالي الوركين. والموقعان، منه في أعالي الخاصرتين، فأبين، أي فرق بينهما، على قدر، أي على استواء واعتدال.
واكتن دون قبيحه خطافه ... ونأت سمامته عن الصقر
اكتن: أي استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال أنه مركب الذراعين في العضدين. والخطاف: من أسماء الطير، وهو حيث أدركت عقب الفرس إذا حرك رجليه. ويقال لهذين الموضعين من الفرس: المركلان. ونأت، أي بعدت. والسمامة: دائرة تكون في عنق الفرس، وقد ذكرناها، وهي من أسماء الطير. والصقر: أحسبها دائرة في الرأس، وما وقفت عليها، وهي من أسماء الطير.
وتقدمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحر

القطاة: مقعد الردف، وهي من أسماء الطير، والحر: من الطير، يقال إنه ذكر الحمام، وهو من الفرس، سواد يكون في ظاهر أذنيه.
وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشبر
النقوان: واحدهما نقو، والجمع. أنقاء، وهو عظم ذو مخ، وإنما عنى هاهنا عظام الوركين، لأن الخرب هو الذي تراه مثل المدهن في ورك الفرس. وهو من الطير: ذكر الحبارى. والحدأة: من الطير، وأصله الهمز، ولكنه خفف، وهي سالفة الفرس، وجمعها حداء، على وزن فعال، كما تقول: عظاءة وعظاء، ويقال: عظاية. وإذا فتحت الفاء قلت: حدأة، وهي الفأس ذات الرأسين، وجمعها: حدأ، مثل نواة ونوى، وقطاة وقطا.
يدع الرضيم إذا جرى فلقاً ... بتوائم كمواسم سمر
الرضيم: الحجارة. والفلق: المكسورة فلقاً. بتوائم: جمع توأم، وقد قالوا. تؤم، على وزن فعال، جمع توأم، وهي على غير قياس. يقول: هي مثنى مثنى، يعني حوافره.
والمواسم: جمع ميسم الحديد، من وسمت، أي إنها كمواسم الحديد في صلابتها. وقوله: سمر، أي لون الحافر، وهو أصلب الحوافر.
ركبن في محص الشوى سبط ... كفت الوثوب مشدد الأسر
الشوى، هاهنا: القوائم، والواحدة: شواة. ويقال: فرس محص الشوى، إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط: سهل. كفت الوثوب، أي مجتمع، من قولك: كفت الشيء، إذا جمعته وتممته. مشدد الأسر، أي الخلق.
قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وسبق يوماً فرس للرشيد يسمى المشمر، وكان أجراه مع أفراس للفضل وجعفر بني يحيى بن خالد البرمكي، فقال أبو العتاهية:
جاء المشمر والأفراس يقدمها ... هوناً على سرعة منها وما انتهرا
وخلق الريح حسرى وهي تتبعه ... ومر يختطف الأبصار والنظرا
وقال أبو النجم في شعر يصف الفرس، وهو أجود شعر يصف الحلبة:
ثم سمعنا برهان نأمله ... قيد له من كل أفق جحفله
فقلت للسائس قده أعجله ... وأغد لعنا في الرهان نرسله
فظل مجنوناً وظل جمله ... بين شعيبين وزاد يزمله
نعلو به الحزن ولا نسهله ... إذا علا الأخشب صاح جندله
ترنم النوح تبكي مثكله ... كأن في الصوت الذي يفصله
زمام دف يتغنى جلجله ... حتى وردنا المصر يطوى قنبله
طي التجار العصب إذ تنخله ... وقد رأينا فعلهم فنفعله
نطويه والطي الرقيق يجدله ... نضمر الشحم ولسنا نهزله
حتى إذا الليل تولى أثلجه ... وأتبع الأيدي منه أرجله
قمنا على هول شديد وجله ... نمد حبلاً فوق خط نعدله
نقوم قدم ذا وهذا أدخله ... وقام مشقوق القميص يعجله
فوق الخماسي قليلاً يفضله ... أدرك عقلاً والرهان عمله
حتى إذا أدرك خيلاً مرسله ... ثار عجاج مستطير قسطله
تنفش منه الخيل ما لا تغزله ... مراً يغطيها ومراً تنعله
مر القطا انصب عليه أجدله ... وهو رخي البال ساج وهله
قدمه مثلاً لمن يتمثله ... تطيره الجن وحينا ترجله
تسبح أخراه ويطفو أوله ... ترى الغلام ساجياً ما يركله
يعطيه ما شاء وليس يسأله ... كأنه من زبد يسربله
في كرسف النداف لولا بلله ... تخال مسكاً عله معلله
ثم تناولنا الغلام ننزله ... عن مفرع الكتفين حلو عطله
منتفج الجوف عريض كلكله ... فوافت الخيل ونحن نشكله
والجن عكاف به تقبله
وقال آخر في فرس أبي الأعور السلمي:
مر كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
" فما يمس الأرض منه حافره " وقول هذا أشبه من قول أبي نجم، لأنه يقول: " تسبح أخراه ويطفو أوله " وقال الأصمعي: إذا كان الفرس كما قال أبو النجم فحمار الكساح أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قبيح.
وقال الأصمعي كان أبو النجم وصافاً للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت. وقد غلط رؤبة أيضاً في الفرس، فقال يصف قوائمه: " يهوين شتى ويقعن وفقا "

ولما أنشده مسلم بن قتيبة. قال له: أخطأت في هذا يا أبا الجحاف، جعلته مقيداً. فقال: قربني من ذنب البعير.
وأنشد الأصمعي:
قد أطرق الحي على سابح ... أسطع مثل الصدع الأجرد
لما أتيت الحي في متنه ... كأن عرجوناً بمثنى يدي
أقبل يختال على شأوه ... يضرب في الأقرب والأبعد
كأنه سكران أو عابس ... أو ابن رب حدث المولد
وقال غيره:
أما إذا استقبلته فكأنه ... جذع سما فوق النخيل مشذب
وإذا اعترضت له استوت أقطاره وكأنه مستدبراً متصوب
وقال ابن المعتز:
وقد يحضر الهيجاء بي شنج النسا ... تكامل في أسنانه فهو قارح
له عنق يغتال طول عنانه ... وصدر إذا أعطيته الجري سابح
إذا مال عن أعطافه قلت شارب ... عناه بتصرف المدامة طافح
وقال أيضاً:
ولقد وطئت الغيث يحملني ... طرف كلون الصبح حين وقد
يمشي فيعرض في العنان كما ... صدف المعشق ذو الدلال وصد
طارت به رجل مرصعة ... رجامة لحصى الطريق ويد
فكأنه موج يسيل إذا ... أطلقته وإذا حبست جمد

الحلبة والرهان
والحلبة: مجمع الخيل. ويقال: مجتمع الخيل. ويقال: مجتمع الناس للرهان. وهو من قولك: حلب بنو فلان على بني فلان وأحلبوا، إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح، أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل الذي يمد في صدور الخيل عند الإرسال للسباق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال.
وأصل الرهان من الرهن؛ لأن الرجل يراهن يصاحبه في المسابقة، يضع هذا رهناً وهذا رهناً، فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه. والرهان: مصدر راهنته مراهنة ورهاناً، كما تقول: قاتلته مقاتلة وقتالاً. وهذا كان من أمر الجاهلية، وهو القمار المنهي عنه، فإن كان الرهن من أحدهما بشيء مسمى، على أنه إن سبق لم يكن له شيء، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا حلال، لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر. وكذلك إن جعل كل واحد منهما رهناً وأدخلا بينهما محللاً، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين، ويسمى أيضاً الدخيل، ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأولين أخذ رهنه ورهن صاحبه، فكان له طيباً، وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين معاً، وإن سبق هو لم يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعاً جواداً، لا يأمنان أن يسبقهما، وإلا فهذا قمار لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محللاً.
قال الأصمعي: السابق من الخيل: الأول، والمصلي: الثاني الذي يتلوه. قال: وإنما قيل له مصل، لأنه يكون عند صلوي السابق، وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله. ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد منهما إلى العاشر، فإنه يسمى سكيتاً. قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر، فإن الثاني اسمه المصلي، والعاشر السكيت، وما سوى ذينك يقال: الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، ثم السكيت. ويقال السكيت بالتشديد والتخفيف. فما جاء بعد ذلك لم يعتد به. والفسكل، بالكسر: الذي يجيء آخر الليل، والعامة تسميه الفسكل، بالضم. وقال أبو عبيدة: القاشور: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، وهو الفسكل، وإنما قيل للسكيت سكيت، لأنه آخر العدد الذي يقف العاد عليه. والسكت: الوقوف. هكذا كانوا يقولون، فأما اليوم فقد غيروا.
وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق قال جرير:
إذا شئتم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد فمدوا في الرهان عنانيا
ومن قولنا في هذا المعنى:
إذا جياد الخيل ماطلها المدى ... وتقطعت في شأوها المبهور
خلوا عناني في الرهان ومسحوا ... مني بغرة أبلق مشهور
وصف السلاح
كانت درع علي صدراً لا ظهر لها. فقيل له في ذلك. فقال: إذا استمكن دعوي من ظهري فلا يبقي.
ورئي الجراح بن عبد الله قد ظاهر بين درعين. فقيل له في ذلك. فقال: لست أقي بدني وإنما أقي صبري.
واشترى زيد بن حاتم أدراعاً وقال: إني لست أشتري أدراعاً وإنما أشتري أعماراً.

وقال حبيب بن المهلب لبنيه لا يقعدن أحدكم في السوق، فإن كنتم لا بد فاعلين فإلى زراد، أو سراج، أو وراق.
العتبي قال: بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة. فبعث به إليه. فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك. فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به.
وسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً عن السلام: فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له قال: ما تقول في الترس؟ قال: هو المجن الدائر. وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف. قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فما تقول في الدرع؟ قال: مثقلة للراجل، متعبة للفارس، وإنها الحصن الحصين. قال فما تقول في السيف؟ قال: هناك لا أم لك يا أمير المؤمنين. فضربه عمر بالدرة، وقال: بل لا أم لك. قال: الحمى أضرعتني لك.
الهيثم بن عدي قال: وصف سيف عمرو بن معد يكرب، الذي يقال له الصمصامة، لموسى الهادي. فدعا به، فوضع بين يديه مجرداً ثم قال لحاجبه: إيذن للشعراء. فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا فيه. فبدرهم ابن يامين فقال:
حاز صمصامة الزبيدي عمرو ... من جميع الأنام مواسي الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خبر ما أغمدت عليه الجفون
أخضر المتن بين حديه نور ... من فرند تمتد فيه العيون
أوقدت فوقه الصواعق ناراً ... ثم شابت به الذعاف القيون
فإذا ما سللته بهر الشم ... س فلم تكد تستبين
فكائن الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون
نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي ... جاء يسطو به أم يمين
فأمر له ببدرة وخرجوا.
وضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطه إلى القربوس. فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب. يريد أن العمل ليده لا لسيفه. وقال:
متى تلقني يعدو ببزي مقلص ... كميت بهيم أو أغر محجل
تلاق أمراً إن تلقه فبسيفه ... تعلمك الأيام ما كنت تجهل
وقال أبو الشيص:
ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفين من قناً ونصال
في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال
وبلغ أبا الأغر التميمي أن أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر، فوجه إليهم ابنه الأغر، وقال: يا بني، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم؛ وإياك والسيف، فإنه ظل الموت؛ واتق الرمح، فإنه رشاء المنية؛ ولا تقرب السهام، فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فبماذا أقاتل؛ قال: بما قال الشاعر:
جلاميد يملأن الأكف كأنها ... رءوس رجال حلقت في المواسم
وذكر أعرابي قوماً تحاربوا فقال: أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف، فغرت المنايا أفواهها.
وقال آخر يذكر قوماً أسروا: استنزلوهم عن الجياد بلينة الخرصان، ونزعوهم نزع الدلاء بالاشطان.
وقال أعرابي في آخرين ابتغوا قوما أغاروا عليهم: احتثوا كل جمالية عيرانة، كيما يخصفون أخفاف المطي بحوافر الخيل. حتى أدركوهم بعد ثالثة، فجعلوا المران أرشية المنايا، فاستقوا بها أرواحهم.
ومن أحسن ما قيل في السيف قول حبيب:
ونبهن مثل السيف لو لم تسله ... يدان لسلته ظباه من الغمد
وقال في صفة الرماح:
مثقفات سلبن الروم زرقتها ... والعرب سمرتها والعاشق القضفا
ومن الإفراط القبيح قول النابغة في وصف السيف:
يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد في الصفاح نار الحباحب
فذكر أنه يقد الدرع المضاعف نسجها، والفارس والفرس، ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة.
وأقبح منه في الإفراط قول الآخر:
تظل تحفر عنه إن ضرب به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقد جمع العلوي وصف الخيل والسلاح كله، فأحسن وجود حيث يقول:
بحسبي من مالي من الخيل أعيط ... سليم الشطي عاري النواهق أمعط
وأبيض من ماء الحديد مهند ... وأسمر عسال الكعوب عنطنط

وبيضاء كالضحضاح زعف مفاضة ... يكفتها عني نجاد مخطط
ومعطوفة الأطراف كبداء سمحة ... منفجة الأعضاد صفراء شوحط
فيا ليت مالي غير ما قد جمعته ... على لجة تيارها يتغطغط
ويا ليتني أمسي على الدهر ليلة ... وليس على نفسي أمير مسلط
ومن قولنا في وصف الرمح والسيف:
بكل رديني كأن سنانه ... شهاب بدا في ظلمة الليل ساطع
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه ... فهن ظبات للقلوب قوارع
وذي شطب تقضي المنايا بحكمه ... وليس لما تقضي المنية دافع
فرند إذا ما اعتن للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكف لامع
يسلل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
إذا ما التقت أمثاله في وقيعة ... هنالك ظن النفس بالنفس واقع
ومن قولنا في وصف السيف:
بكل مأثور على متنه ... مثل مدب النمل بالقاع
يرتد طرف العين من حده ... عن كوكب للموت لماع
وقال إسحاق بن خلف البهراني في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
ومن جيد صفات السيف قول الغنوي:
حسام غداة الروع ماض كأنه ... من الله في قبض النفوس رسول
كأن على إفرنده موج لجة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
كأن جيوش الذركسرن فوقه ... قرون جراد بينهن ذحول

النزع بالقوس
إبراهيم الشيباني قال: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة له بواسط في مغرم لزمه للخليفة، فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير، وقال له: اذهب إلى واسط فاشتر هذه الضيعة المعروضة، فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا فاكتب إلي أمدك بالمال. فخرج، فلما أصحر عن البيوت، لحق به أعرابي راكب على حمار معه قوس وكنانة، فقال له: إلى أين تتوجه؟ فقال: إلى واسط. قال: فهل لك في الصحبة؟ قال: نعم. فسارا حتى فوزا فعنت لهما ظباء، فقال له الأعرابي: أي هذه الظباء أحب إليك، المتقدم منها أم المتأخر فأزكيه لك؟ قال له: المتقدم. فرماه فخرمه بالسهم فاقتنصه فاشتويا وأكلا. فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي. ثم عنت لهما زفة قطا، فقال: أيها تريد فأصرعها لك؟ فأشار إلى واحدة منها. فرماها فأقصدها، ثم اشتويا وأكلا. فلما انقضى طعامهما فوق له الأعرابي سهماً ثم قال له: أين تريد أن أصيبك؟ فقال له: اتق الله عز وجل واحفظ زمام الصحبة. قال: لا بد منه. قال: اتق الله ربك واستبقني، ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالاً. قال: فاخلع ثيابك. فانسلخ من ثيابه ثوباً ثوباً حتى بقي مجرداً. قال له: اخلع أمواقك، وكان لابساً خفين مطابقين. فقال له: اتق الله في ودع الخفين أتبلغ بهما من الحر، فإن الرمضاء تحرق قدمي. قال: لا بد منه. قال: فدونك الخف، فأخلعه. فلما تناول الخف، ذكر الرجل خنجراً كان معه في الخف، فاستخرجه ثم ضرب به صدره فشقه إلى عانته وقال له: الاستقصاء فرقة: فذهبت مثلاً. وكان هذا الأعرابي من رماة الحدق.

وحدث العتبي عن بعض أشياخه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة. فأتي بأعرابي كان معروفاً بالسرق فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك. قال: عجائبي كثيرة. ومن أعجبها، أنه كان لي بعير لا يسبق، وكانت لي خيل لا تلحق، فكنت أخرج فلا أرجع خائباً، فخرجت يوما فاحترشت ضبا، فعلقته على قتبي، ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها، فقلت: يجب أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل. فلما أمسيت إذا بإبل وإذا شيخ عظيم البطن شثن الكفين ومعه عبد أسود وغد. فلما رآني رحب بي، ثم قام إلى ناقة فاحتلبها، وناولني العلبة، فشربت ما يشرب الرجل، فتناول الباقي فضرب بها جبهته، ثم احتلب تسع أينق، فشرب ألبانهن، ثم نحر حواراً فطبخه، فأكلت شيئاً، وأكل الجميع حتى ألقى عظامه بيضاً. وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها، ثم غط غطيط البكر. فقلت: هذه والله الغنيمة، ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته، ثم قرنته ببعيري وصحت به، فاتبعني الفحل واتبعته الإبل إرباباً به في قطار، فصارت خلفي كأنها حبل ممدود. فمضيت أبادر ثنية بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع، ولم أزل أضرب بعيري مرة بيدي ومرة برجلي حتى طلع الفجر، فأبصرت الثنية وإذا عليها سواد، فلما دنوت منه، إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره. فقال: أضيفنا؟ قلت: نعم. قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل؟ قلت: لا. فأخرج سهماً كأنه لسان كلب، ثم قال: انظره بين أذني الضب المعلق في القتب، ثم رماه، فصدع عظمه عن دماغه، فقال لي: ما تقول؟ قلت: أنا على رأيي الأول قال: انظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى، ثم رمى به فكأنما قدره بيده ثم وضعه بإصبعه. ثم قال: رأيك؟ فقلت: إني أحب أن أستثبت. قال: انظر هذا السهم الثالث في عكوة. ذنبه، والرابع والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطئ العكوة. قلت: أنزل آمناً؟ قال: نعم. فدفعت إليه خطام فحله وقلت: هذه إبلك لم يذهب منها وبرة، وأنا متى يرميني بسهم يقصد به قلبي. فلما تباعدت، قال: أقبل؛ فأقبلت والله فرقاً من شره لا طمعاً في خيره. فقال: ما أحسبك تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة. قلت نعم. قال فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيتك. قال: قلت: أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك، فلا والله ما رأيت أعرابياً قط أشد ضرساً، ولا أعدى رجلاً، ولا أرمى يداً، ولا أكرم عفواً، ولا أسخى نفساً منك. فصرف وجهه عني حياء، وقال: خذ الإبل برمتها مباركاً لك فيها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اركبوا وارموا. وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا.
وقال: كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث: تأديبه فرسه، ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته، فإنه حق. إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد: عامله المحتسب، والقوي به سبيل الله، أي والرامي به في سبيل الله.
وروي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
وكان أرمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال " اللهم سدد رميته، وأجب دعوته " فكان لا يرد له دعاء، ولا يخيب له سهم.
وذكر أسامة بن زيد أن شيوخاً من أسلم حدثوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم وهم يرمون ببطحان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارموا يا بني إسماعيل، فقد كان أبوكم رامياً، وأنا مع ابن الأدرع. فتعدى القوم فقالوا: يا رسول الله، من كنت معه فقد نضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارموا وأنا معكم كلكم. فانتضلوا ذلك اليوم، ثم رجعوا بالسواء ليس لأحد على أحد منهم فضل.
وقال عمر: ائتزروا وارتدوا، وانتعلوا واحتفوا، وارموا الأغراض، وألقوا الركب، وانزوا على الخيل نزوا، وعليكم بالمعدية - أو قال بالعربية - ودعوا التنعم وزي العجم.
وقال أيضاً: لن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم. يعني نزوتم على ظهور الخيل، ونزعتم بالقسي.

وجنى قوم من أهل اليمامة جناية، فأرسل السلطان إليهم جنداً من محاربة ابن زياد. فقام رجل من أهل البادية يذمر أصحابه، فقال: يا معشر العرب، ويا بني المحصنات. قاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم، فوالله إن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء، ولا نخلة خضراء إلا وضعوها بالأرض، ولاعتراكم من نشاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة، ينزعون في قسى كأنها الغبط، تئط إحداهن أطيط الزرنوق، يمعط أحدهم فيها حتى يتفرق شعر إبطيه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء منقطع فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة. فخلع قلوبهم، فطاروا رعباً.

مشاورة المهدي لأهل بيته
في حرب خراسان
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة، على أن نكثوا ببيعتهم ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتواوا بما عليهم من الخراج وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم، ويكره من عنتهم، على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم؛ تطولا بالفضل، واتساعاً بالعفو، وأخذا بالحجة، ورفقاً بالسياسة. ولذلك لم يزل، منذ حمله الله أعباء الخلافة، وقلده أمور الرعية، رفيقا بمدار سلطانه، بصيراً بأهل زمانه؛ باسطاً للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه. فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة، أثرة للحق، وقياما بالعدل، وأخذا بالحرم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال، وسألوا ما ليس لهم من الحق. ثم خلطوا احتجاجاً باعتذار، وخصومه بإقرار، وتنصلاً باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنصحهم للرعية، ثم أمر الموالى بالابتداء، وقال للعباس بن محمد أي عم؛ تعقب قولنا، وكن حكماً بيننا. وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال سلام صاحب دار المظالم: أيها المهدي: إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفذت أعمارهم، وذهبوا بها معونتنا عليها، أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سحالها، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها. فلو عجمت ما قبلهم، وكشعت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن، معاشر عمالك، وأصحاب دواوينك، فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبيراً، يبطل الآخر الأول، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم، أيها المهدي، أنت متسع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية، مؤيد البديهة موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير. إن هممت ففي عزمك مواقع الظن، وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك؛ فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة باباً رحمة، ومفتاحاً بركة، لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيل معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.

قال الربيع: أيها المهدي، أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشقة، متفاوتة السبل. فإذا ارتأيت من محكم التدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب، رأيا قد احكمه نظرك، وقلبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب الحجة طاعن، ولا دونه معلق لخصومة عائب؛ ثم خبت البرد به، وانطوت الرسل عليه، كان بالحري أن لا يصل إليهم محكمه، إلا وقد حدث منهم ما ينقضه. فما أيسر أن ترجع إليك الرسل، وترد عليك الكتب، بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصاده أمورهم، فتحدث رأياً غيره، وتبتدع تدبيراً سواه، وقد انفرجت الحلق، وتحللت العقد، واسترخى الحقاب، وامتد الزمان. ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفطر، فيما جمعتنا له، واستشرتنا فيه، من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفاً بهوى في سواك، ولا متهماً في أثره عليك، ولا ظنيناً على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محظورة، فيقدح في ملكك، ويربض الأمور لغيرك، ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه، بلزوم أمرك ما لزمه الحزم؛ وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور، واستدارة الأحوال، التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة، ونفذ العمل وأحد النظر. إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن ولي الأمور وسائس الحروب، ربما جند جنوده، وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه، ولا ضغطة حال اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها، وبعد التفرقة لها، عديماً منها، فاقداً لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفى خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والإعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم. ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق، وأبرق لهم، وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث، وجند الجنود، وكتب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش، مع أحنق قوادك عليهم، وأسوئهم أثراً فيهم. ثم ادسس الرسل وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضاً على خوف من وعيدك. وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، وأغرض أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة، فإن مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين، الذي يستلب العقول، ويسترق القلوب؛ ويسبى الآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة، أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملاً، وألطف نظراً، وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، وإتلاف الأموال، والتغرير والخطار. وليعلم المهدي - وفقه الله - أنه إن وجه لقتالهم رجلاً، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة، وتقدم على أسفار صعبة، وأموال متفرقة، وقواد غششة، إن ائتمنهم استنفذوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وبرق ضوؤه، وتمثل صوابه للعيون، وتجسد حقه في القلوب. ولكن فوق كل ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟

قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يداً، ولم ينصبوا من دونك أحداً يكدح في تغيير ملكك، ويربض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أذل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه. ولكنه قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم والياً، وجعل العدل بينك وبينهم حاكماً. طلبوا حقاً، وسألوا إنصافاً، فإن أجبت إلى دعوتهم،ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حالاً، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة الحرب، ووفرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك، وسجية حلمك، وإسجاح خليقتك، ومعدلة نظرك. فأمنت أن تنسب إلى ضعف. وأن يكون ذلك لهم فيما بقى دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته، مقرين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الجدل معهم، ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم، وأضعاف ما يدعي قبلهم. ولو نالها فحملت إليه، ووضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان ذلك مما إليه ينسب، وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه؛ وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا، وتحامل ولاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالاً لغيرهم وعظة لسواهم، فيعلم المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد، مقرنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقامة عثرتهم صفحه، واستقبالهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعاً من رأيه، ولا مستنكراً من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفواً، وأشدها وقعاً، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده صفح، وإن عظم الذنب، وجل الخطب. فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم، وضيعة عيالاتهم، براً بهم وتوسعاً لهم؛ فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. إنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، وتعرضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته، ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغير من نعمته عليهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خبل عارض، ولمم حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزد ذلك أخاه إلا رقة له، ولطفا به، واحتيالاً لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفاً عليه، وبراً به، ومرحمة له.
فقال المهدي: أما علي فقد نوى سمت الليان، وفض القلوب عن أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.

فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. الحال من القوم تنادى بمضرة شر، وخفية حقد، قد جعلوا المعاذير عليه ستراً، واتخذوا العلل من دونها حجاباً، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويثنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم. والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه جلودهم، من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال، أو شيطان فساد، لرهبوا عواقب أحوال الولاة، وغب سكون الأمور. فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم، ويكتب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم، إلا كانت دربة لفسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود، الذين أقرهم على تلك العادة، وأجراهم على ذلك الأدب، لم يبرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدربة، لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة، والمؤونة الشديدة. والرأي للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك، كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه مؤونة غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم، فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد: أيها المهدي، أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدوا أموراً قصر نظرهم عنها، لأنه لم تأت تجاربهم عليها.
وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق، والجنود أن لا تفرق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك، استصغاراً لأمرهم، واستهانة بحربهم، وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها.
وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره، وسيفه حقه، اللين بحتاً، والخير محضاً، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحيشهم إلى خيره؛ فقد ملكهم الخلع لعذرهم، ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم. فإن أجابوا دعوته، وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم، ولا شدة حال أخرجتهم، لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم، ونزوة في رؤوسهم، يستعدون بها البلاء إلى أنفسهم، ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته، ويسرعوا لإجابته باللين المحض، والخير الصراح، فذلك ما عليه الظن بهم، والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم؛ لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم، والملك الكبير، ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفكر ولا تعلمه النفوس، ثم دعا الناس إليها، ورغبهم فيها. فلولا أنه خلق ناراً لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا ولا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها، وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لما فارق طاعته، وخالف جماعته، الخوف مفرداً، والشر مجرداً؛ ليس معهما طمع يكسرهم، ولا لين يثنيهم، امتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية من الشدة، والأنفة من الذلة، والامتعاض من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، الاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان.
وقال: في قول الفضل أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان؛ قد اجتمع رأيه، وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوا من العدل.
قال المهدي: ذلك رأى.
قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين، فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب، ولكن أرى غير ذلك.

قال المهدي: لقد قلت قولاً بديعاً، خالفت به أهل بيتك جميعاً، والمرء متهم بما قال، وظنين بما ادعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة؛ فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون؛ وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسر بمدخوله لا تعلن. والطبيب الرفيق بطبه، البصير بأمره، العالم بمقدم يده، وموضع ميسمه، لا يتعجل بالدواء، حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر المسنة، ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب غيوبهم، وتكشف أغطية أمورهم، فإن انكشفت الحال له، وأفضت الأمور به، إلى تغيير حال، أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه، بدين يعتقدونه، وإثم يستحلونه، عصبهم بشدة لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت الغيوب واهتصرت الستور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة، والأمور بهم معتدلة، عن أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يدعونها، وحقوق يسألونها، بماتة سابقتهم، ودالة مناصحتهم، فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما فتقوا، ويولي عليهم من أحبوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم، فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته، بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي الحدب، الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوال رعيته. حتى يبرئ المريضة من داء علتها، ويرد الضالة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم دالة محمولة، وماتة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة، لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله؛ فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوعر بهم، ولا المكافأة بإساءتهم، لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي. وأصح في التدبير، من التأخير لها، والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا، حتى خرج خروج القدح مما قال، وانسل انسلال السيف فيما ادعى. فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنى بعده هارون. ولكن من لأعنه الخيل، وسياسة الحرب، وقادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج، وأفرطت بهم الدالة؟ قال الصالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث، وطول الفكر، أدنى فراسة رأيك، وبعض لحظات نظرك، وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل، ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم، فليس يقع اختيارك، ولا يقف نظرك، على أحد توليه أمرك، وتسند إليه ثغرك، إلا أراك الله منه ما تحب، وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار بالمشاورة في الأمر المهم.

قال محمد بن الليث: أهل خراسان، أيها المهدي، قوم ذو عزة ومنعة، وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة. فالروية عنهم عازبة، والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عذلهم، لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون إلا بالشدة، ولا يفطمون إلا بالقهر. وإن ولى المهدي عليهم وضيعاً لم تنقد له العظماء، وإن ولى أمرهم شريفاً تحامل على الضعفاء. وإن أخر المهدي أمرهم، ودافع حربهم، حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحاً يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم، بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تدخلهم، ولا عصبية تنفرهم، تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبير، والضياع العظيم، ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد، ولا يستصلحه، وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير. وليس المهدي - وفقه الله - فاطماً عاداتهم، ولا قارعاً صفاتهم، بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق، موصول بسمعك، ويد ممثلة لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا يثنى، وبازل لا يفزعه صوت الجلجل؛ تقي العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمته؛ فجعل الغرض الأقصى لعينه نصباً، والغرض الأدنى لقدمه موطئاً، فليس يغفل عملاً، ولا يتعدى أملاً، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غذي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قويم أدبك. فإن قلدته أمرهم، وحملته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم، كان قفلاً فتحه أمرك، وباباً أغلقه نهيك، فجعل العدل عليه وعليهم أميراً، والإنصاف بينه وبينهم حاكماً، فأعطاهم مالهم، وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين صدورهم، وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم، طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متمثلة في حواشي عوامهم، متمكنة من قلوب خواضهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدوه، وهذا أحدهم. والآخر عود من غيضتك، ونبعة من أرومتك، فتي السن، كهل الحلم، راجح العقل، محمود الصرامة، مأمون الخلاف، يجرد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره، بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي. فسلطه - أعزك الله - عليهم، ووجهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة سنه، وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه، واختصكم به، من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب، فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر، وأهل خراسان في حال عز على ما وصف، ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء، دخل ذلك أمران عظيمان، وخطران مهولان، أحدهما: أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه، في النهوض به والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره، والتكشف لحاله، والعلم بطباعه. والأمر الآخر: أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصوت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم، ووقوع معرفتهم، وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب، نبيه حنيك صيت، له نسب زاك، وصوت عال، قد قاد الجيوش، وساس الحروب، وتألف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمقة، ووثقوا به كل الثقة، فلو ولاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم.

قال المهدي: جانيت قصد الرمية، وأبيت إلا عصبية، إذ رأي الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد؟ قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وحده، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلفه، وستر من دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري به المقادير، من حوادث الأمور، وريب المنون، المخترمة لخوالي القرون، ومواضي الملوك، فكرهنا شسوعه عن محلة الملك، ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، وموضع الوجوه، ومجمع الأموال، التي جعلها الله عز وجل قطباً لمدار الملك، ومصيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء المروق. وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده، فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم، وهول شديد، إن تنفست الأيام بمقامه، واستدامت الحال بأيامه، حتى يقع عرض لا يستغنى فيه، أو يحدث أمر لا بد فيه منه، صار ما بعده، مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً، له تبعاً وبه متصلاً.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه. نحن - أهل البيت - نجري من أسباب القضايا، ومواقع الأمور، على سابق من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتتابعت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فبه ندبر، وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي، عقبي من بعدي، أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود.
أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله، ويعمل، فيهم حيله ثم يخرج نشطاً إليهم حنقاً عليهم يريد أن لا يدع أحد من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، إلا توطأه بحر القتل، وألبسه قناع القهر، وطوقه طوق الذل؛ ولا أحداً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول بذله. فإذا خرج مزمعاً له مجمعاً عليه، لم يسر إلا قليلاً حتى يأتيه أن قد عملت حيله. وكدحت كتبه، ونفذت مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظراً لهم، وبراً بهم، وتعطفاً عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمت الفرق بقرانها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها، وألقت بأزمتها، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه، ثم عم الجماعة بالمعدلة، وتعطف عليهم بالرحمة. فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليهم الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجه، فيضطمر عليها موجدة، ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجدها بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحر فيهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبع، حتى يخرب البلاد، ويوتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أماناً، ولا يقبل لهم عهداً، ولا يجعل لهم ذمة، لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرع جلباب الفتنة، وربض في شق العصا. ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم، ويطلب هرابهم، في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمر الأردية، وبطون الأرض، تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً، حتى يدع الديار خراباً، والنساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف في كتبناً وقتاً، ولا نصحح منع غير ما قلنا تفسيراً.

وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان توجهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها، والمقام فيها، خير للمسلمين مغبة، وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتذأب مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه. فمن يصحبه من الوزراء، ومن يختار له من الناس؟ قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن ولى عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علماً قد تثنت نحوه أعناقها، ومدت سمته أبصارها. وقد كان لقرب داره منك، ومحل جواره لك: عطل الحال، غفل الأمر، واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة، وأمراء الأمة، أن تتفقد مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله، في بره ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره، وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سبق إليهم، أغلب الأشياء عليهم، فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظراً له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته، ويستجمع رضا أمته، بأمر هو أزين لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغبة لأمره، وأجل موقعاً في قلوب رعيته، وأحمد حالاً في نفوس أهل ملته. ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله؛ ومعدلة تنتشر من أثره، ومحبة للخير وأهله. وإن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة، وفقهاء أهل كل مصر، أقواماً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان، وفتح باب المعروف، كما قد كان فتح له وسهل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصباً، ولمثنى أعطاف الرعية غاية، فحسنتك شاملة، وإساءتك نامية وأمرك ظاهر. فعليك بتقوى الله عز وجل وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه إيثارك رضاه، وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمن عترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه؛ يجدد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذهم لأولياء دينه أنصاراً، وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل، ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد. وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها، وحتوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها. قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات، أخمدت نيران الفتن، وقصمت دواعي البدع، وأذلت رقاب الجبارين، ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذلتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حتى طاعتهم، ووسيلة دالتهم، وماتة سابقتهم، وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.

أي بني: ثم عليك العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسن بذلك لربك، وتزين به في عين رعيتك، واجعل عمال القدر، وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك، ونصفة منك لرعيتك؛ وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم، فإن أحسن حمدت، وإن أساء عذرت، هؤلاء عمال القدر وولاة الحجج. فلا يضيعن عليك ما في ذلك - إذا انتشر في الآفاق، وسبق إلى الأسماع - من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلاً، وبعراً حبلك متعلقاً رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح. والآخر له دين غير مغمور، وموضع مدخول، بصير بتقلب الكلام، وتصريف الرأي، وإيحاء الأدب، ووضع الكتب عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخطوب، يضع آداباً نافعة، وآثاراً باقية؛ من تجميل محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك؛ فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي، ويرعى في خضرة جناني: ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقواماً يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد، وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلاً يهدي إلى الصواب قلبك؛ وهادياً ينطق بالحق لسانك.
وكتب في شهر ربيع الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد.

باب في مداراة العدو
في كتاب للهند: إن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا ترد بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له، كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها.
وقالوا: أزفن للقرد في دولته.
أخذه الشاعر فقال:
لا تعبدن صنماً في فاقة نزلت ... وازفن بلا حرج للقرد في زمنه
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: إذا لم تقدر أن تعض يد عدوك فقبلها.
وقال سابق البلوي:
وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً ... عليك ولن يحتال من لا يداهن
وقالت الحكماء: رأس العقل مغافصة الفرصة عند إمكانها، والانصراف عما لا سبيل إليه.
وقال الشاعر:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
التحفظ من العدو
إن أبدى لك المودة
قالت الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه، وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك. فإنما السلامة من العدو بتباعدك منه، وانقباضك عنه؛ وعند الأنس إليه والثقة به تمكنه من مقاتلك.
وقالوا: لا تطمئن إلى العدو إن أبدى لك المقاربة، وإن بسط لك وجهه وخفض لك جناحه، فإنه يتربص بك الدوائر، ويضمر لك الغوائل، ولا يرتجى صلاحاً إلا في فسادك، ولا رفعة إلا بسقوط جاهك.
كما قال الأخطل:
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر
واتخذوه عدواً إن شاهده ... وما تغيب من أخلاقه دعر
إن الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر
وفي كتاب الهند: الحازم يحذر عدوه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمعاودة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولى، والكرة إن فر.
وأوصى بعض الحكماء ملكاً فقال: لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء، وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء؛ وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه، ثم تقتله العبيد التي يملكها.
ولم يقل أحد في العدو المندمل على العداوة؛ مثل قول الأخطل:
إن الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرق يكمن حيناً ثم ينتشر
وقد أشار الحسن بن هانئ إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول:
وابن عم لا يكاشفنا ... قد لبسناه على غمره
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره
وشبهوا العدو إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة. قال ابن أخت تأبط شراً:
مطرق يرشح موتاً كما ... أطرق أفعى ينفث السم صل

وقال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال: بل معاوية قالها لعبد الله بن الزبير - : مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر؟ وفي كتاب الهند: إذا أحدث لك العدو صداقة لعلة ألجأته إليك فمع ذهاب العلة رجوع العداوة، كالماء تسخنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله بارداً: والشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مراً.
وقال دريد بن الصمة:
وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر المريض من الصحيح
وقال زهير:
وما يك في صديق أو عدو ... تخبرك العيون عن القلوب
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال في العافية والكفاية عمره، حتى يرى في عدوه ما يسره.

باب من أخبار الأزارقة
كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه: حوثرة الأقطع، فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج؛ ومعاوية بالكوفة، وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم. فقال الحسن عليه السلام: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، وما أحسب ذلك يسعني، فكيف أن أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم؟ فلما رجع الجواب إليه، وجه إليهم جيشاً أكثره من أهل الكوفة، ثم قال لأبي حوثرة: تقدم فاكفني أمر ابنك. فسار إليه أبوه، فدعاه إلى الرجوع، فأبى، فداوره فصمم. فقال له: أي بني، أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه؟ فقال له: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني. فرجع إلى معاوية فأخبره. فقال: يا أبا حوثرة، عتا هذا جداً. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة، قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه. ثم جعل يشد عليهم ويقول:
احمل على هذي الجموع حوثرة ... فعن قريب ستنال المغفره
فحمل عليه رجل من طيء فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله.
وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنكر التحكيم، وشهد النهروان ونجا فيمن نجا؛ فلما خرج من حبس ابن زياد، ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين، تجرى علينا أحكامهم، مجانيين للعدل، مفارقين للفصل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد، ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً؛ منهم: حريث بن حجل، وكهمس ابن طلق الصريمي فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى. فولوا أمرهم مرداساً. فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري، وكان له صديقاً، فقال له: يا ابن أخي، أين تريد؟ فقال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. قال: له: أعلم أحد بكم؟ قال: لا، قال: فارجع. قال: أو تخاف علي مكروها؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك. فمر به مال يحمل إلى ابن زياد، وقد بلغ أصحابه الأربعين: فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما أخذنا أعطياتنا. فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي؟ قال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة، فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة.
فوجه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين. فلما وصل إليهم، قال له مرداس: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً، وإنما هربنا من الظلم، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال: لا بد من ردكم إلى ابن زياد. قال: وإن أراد قتلنا. قال: وإن أراد قتلكم! قال: فتشرك في دمائنا. قال: نعم. فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه.
ثم وجه إليهم ابن زياد عباداً. فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي. فوادعوهم، فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم، وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد. فقال عمران بن حطان يرثي أبا بلال:

يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
أبقيتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً، ولا أوطن أنفساً على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك رب لترضى.
ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم، وكان من عتاب بن ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة، فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم:
يا بن أبي الماحوز والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار
شد أبي هريرة الهرار ... يعروكم بالليل والنهار
وهو من الرحمن في جوار
فتعاظمهم ذلك. فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس. حتى أبل من علته، فخرج إليهم، فقال: يا أعداء الله. أترون بي بأساً؟ فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية.
فلما طال الحصار على عتاب، قال لأصحابه: ما تنتظرون: إنكم والله ما تؤتون من قلة، وإنكم فرسان عشائركم، ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم، فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي. قال: فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله، فقتلوا أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء.
وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي. كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد، فاعترضا الناس، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف. فناداه الناس من بعض البيوت: الحرورية، انج بنفسك. فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط فوقف فقتلوه.
وبلغ أبا بلال خبرهما، وكان على دين الخوارج، إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس، فقال قريب، لا قربه الله من الخير؛ وزحاف، لا عفا الله عنه، فلقد ركباها عشواء مظلمة.
ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها، حتى مرا ببني علي ابن سود، من الأزد. وكانوا رماة، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي. فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي، البقيا، لا رماء بيننا. فقال رجل منهم:
لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام
فهربت عنهم الخوارج. فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة. واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم.
ثم عاد الناس إلى زياد، فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم. فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه وأتوا به زياداً، فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله.
ولزياد أخرى في الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها، ثم عراها، فلم تخرج النساء إلا بعد زياد، وكن إذا أرغمن على الخروج قلن: لولا التعرية لسارعنا.
ومن مشاهير فرسان الخوارج: عمرو القنا، من بني سعد بن زيد مناة، وعبيدة بن هلال، من بني يشكر بن بكر بن وائل، وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه؛ فشكها مع السرج وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب، وكان قال له مولاه خلاج: وددت أنا فضضنا عسكرهم، فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي - :
أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... شرقا بها الجادي كالتمثال
حتى تعانق في الكتيبة معلماً ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال
وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً ... في عصبة قسطوا مع الضلال

والمقعطر: من مشاهير فرسانهم. وقطري: أنجدهم قاطبة. وصالح بن مخراق: من بهمهم، وكذلك سعد الطلائع.
ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه، قال المهلب لأصحابه. إن الله قد أراحكم من أقران أربعة: قطري بن الفجاءة، واصلح بن مخراق. وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان.
وكانت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يرتجز:
الليل ليل فيه ويل ويل ... وسال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول
وتعرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس، والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير، واستحلال الأمانة، وقتل الأطفال. وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي: إن أعداءنا كأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المسلمون بين المشركين، وأقول: إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز، لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. وقال عبد الله بن إباض: لا نقول فيمن خالفنا، إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول، وإنما هم كفار للنعم، ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل، ودعوة الإسلام تجمعهم.
وقالت الصفرية بقول عبد الله بن إباض، ورأت القعود، حتى صارت عامتهم قعداً. وإنما سموا صفرية لإصفرار وجوههم، وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار.

كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد
قال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه، تغمده الله برحمته: قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال، وتقدم الرجال على منازلهم من الصبر والجلد، والعدة والعدد. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد، إذ كان أشرف ملابس الدنيا، وأزين حللها، وأجلها لحمد، وأدفعها لذم، وأسترها لعيب، كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري، والجواد السخي. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى تسمى بها، فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريماً من خلقه، فقد تسمى باسمه، واحتذى على صفته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
وفي الحديث المأثور: الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
وفي الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي أنتما، إن الله قد عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني.
وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت متلاف. قال: منع الجود سوء ظن بالمعبود. يقول الله عز وجل: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه وهو خير الرازقين " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
مدح الكرم وذم البخل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء.
وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويبغض سفسافها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب: من سيدكم؟ قالوا: الجد ابن قيس على بخل فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ يقول الله تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " .
وقال أكثم بن صيفى حكيم العرب: ذللوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا على خلق تذموه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر.
أخذه الشاعر فقال:
أمن خوف فقر تعجلته ... وأخرت إنفاق ما تجمع
فصرت الفقير وأنت الغني ... وما كنت تعدو الذي تصنع
وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر. فرد عليه: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع.

وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر: أيها الناس، عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه. وما ضعفت الناس عن أدائه، قوي الله على جزائه.
وأخذه من قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة. يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي.
وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إما لمصلح فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد فلا يبقى له شيء.
أخذه الشاعر فقال:
أسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيد
وقال أبو ذر رضي الله عنه: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل.
وقال بزرجمهر الفارسي: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى: أخذ الشاعر هذا المعنى فقال:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى، ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم، ومذمة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيماً.
وأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال:
من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً ... والبخل من سوء ظن المرء بالله
محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إما أن تحملني وإما أن أحملك. ففهمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري:
فأوصيكم بالله أول وهلة ... وأحسابكم، والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا
وإن أنتم أعوزتم فتعففوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا
فأمر لي بعشرين ألفاً.
وقال عبد الله بن عباس: سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقال أبو مسلم الخولاني: ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه. وما كل من قدر على المعروف كانت له نية. فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة، وأنشد:
إن المكارم كلها حسن ... والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه ... ومخبر عني ولم يرني
يأتيهم خبري وإن بعدت ... داري وبوعد عنهم وطني
إني لحر المال ممتهن ... ولحر عرضي غير ممتهن
وقال خالد بن عبد الله القسري: من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره.
وقال عمرو بن العاص: والله لرجل ذكرني، ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى، يراني موضعاً لحاجته، لأوجب علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له.
وقال عبد العزيز بن مروان: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، يده عندي أعظم من يدي عنده، وأنشد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يكن لها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه عن خناقه ... وزايله الهم الطروق المساور
وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير إني للذي ظن شاكر
وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الشكر، وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة.
أخذه بشار فنظمه فقال:
مالكي ينشق عن وجهه الجد ... ب كما انشقت الدجى عن ضياء
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
وقال زياد: كفى بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:

لقد علمت وقد قطعتني عذلاً ... ماذا من الفضل بين البخل والجود
إلا يكن ورق يوماً أروح به ... للخابطين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالاً وإما حسن مردود
قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة، فجعل طالب الرزق مثل الخابط.
وقال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها. لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه، أو لئيماً فأصون عرضي منه.
وقال أرسطو طاليس: من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك.

الترغيب في حسن الثناء
واصطناع المعروف
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك.
وقيل لبعض الحكماء: ما أفادك الدهر؟ قال العلم به. قيل: فما أحمد الأشياء؟ قال: أن تبقى للإنسان أحدوثة حسنة.
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " . إنه أراد حسن الثناء من بعده.
وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار، فطيبوا أخباركم.
أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال:
وما ابن آدم إلا ذكر صالحة ... أو ذكر سيئة يسري بها الكلم
أما سمعت بدهر باد أمته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
وقال أبو بكر محمد بن دريد:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى
وقالوا: الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته.
ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق:
يا من تجلد للزما ... ن أما زمانك منك أجلد
سلط نهاك على هوا ... ك وعد يومك ليس من غد
إن الحياة مزارع ... فازرع بها ما شئت تحصد
والناس لا يبقى سوى ... آثارهم والعين تفقد
أو ما سمعت بمن مضى ... هذا يذم وذاك يحمد
والمال إن أصلحته ... يصلح وإن أفسدت يفسد
والعلم ما وعت الصدو ... ر وليس ما في الكتب يخلد
وقال الأحنف بن قيس: ما أدخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء، شيئاً أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب.
وقالوا: تربيب المعروف أولى من اصطناعه، لأن اصطناعه نافلة، وتربيبه فريضة.
وقالوا: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بالتصغير له.
وقالت الحكماء: من تمام كرم النعم التغافل عن حجته، والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته.
وقالوا: للمعروف خصال ثلاث: تعجيله وستره وتيسيره، فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه، وسقط عنه الشكر.
وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ فقال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل: فإن لم تكن له؟ فقال: فمن كانت لي عنده يد صالحة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه، فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزاول.
أبو اليقظان قال: أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أدية، أخا أبي بلال، وقطع يده ورجله وصلبه على باب داره. فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم.
ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة.
وقال إبراهيم بن السندي: قلت لرجل من أهل الكوفة، من وجوه أهلها، كان لا يجف لبده، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء، وكان رجلاً مفوهاً، فقلت له: أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب، وهونت عليك التعب في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار؛ في فروع الأشجار؛ وسمعت خفق أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن؛ ومن شكر حر لمنعم حر، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرماً.

إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته، وهم الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن.

الجود مع الإقلال
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر.
وقال عليه الصلاة والسلام: أفضل العطية جهد المقل.
وقالت الحكماء: القليل من القليل أحمد من الكثير من الكثير.
أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلماً:
قد بعثنا إليك أكرمك الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
واستجز قلة الهدية مني ... إن جهد المقل غير قليل
وقالوا: جهد المقل أفضل من غنى المكثر.
وقال صريع الغواني:
ليس السماح لمكثر في قومه ... لكن لمقتر قومه المتحمد
وقال أبو هريرة: ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب عليه السلام، تبعته ذات يوم وأنا جائع، فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: أدخل، فدخلت. ففكر حيناً فما وجد في بيته إلا نحيا كان فيه سمن مر، فأنزله من رف لهم، فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والرب، وهو يقول:
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
وقيل لبعض الحكماء: من أجود الناس؟ قال: من جاد من قلة، وصان وجه السائل عن المذلة.
وقال حماد عجرد:
أروق بخير تؤمل للجزيل فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
بث النوال ولا نمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
وقال حاتم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
وقال عبد الملك بن مروان: ما كنت أحب أن أحداً ولدني من العرب إلا عروة بن الورد لقوله:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مس الجوع والجوع جاهد
لأني أمرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت أمرؤ عافى أنائك واحد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء بارد
ومن أحسن ما قيل في الجود والإقلال، قول أبي تمام حبيب:
فلو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ومن أفرط ما قيل في الجود، قول بكر بن النطاح:
أقول لمرتاد الندى عند مالك ... تمسك بجدوى مالك وصلاته
فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه ... فأسدى بها المعروف قبل عداته
فلو خذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
وإن لم يجز في العمر قسم لمالك ... وجاز له أعطاه من حسناته
وجاد بها من غير كفر بربه ... وأشركه في صومه وصلاته
وقال آخر في هذا المعنى وأحسن:
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... وما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الجواد
العطية قبل السؤال
قال سعيد بن العاصي: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتدئ من غير مسألة، فالمعروف عوض عن مسألة الرجل إذ بذل وجهه، فقلبه خائف، وفراصه ترتعد، وجبينه يرشح؛ لا يدري أيرجع بنجح الطلب، أم بسوء المنقلب، قد انتفع لونه، وذهب دم وجهه. اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظاً فلا تجعل لي حظاً في الآخرة.
وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جل.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة.
حبيب قال:
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها
وقال حبيب أيضاً:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16