كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي
شمس الدين القرطبي
عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ولم تدمر السموات والأرض. وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} ثم قال: {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" ولهذا قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال شيخنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعني خالقهن، وبقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} يعني خلقني، وبقوله: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء" يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا:
ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال نعم؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ولا في "أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه": دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا، والحديث الذي جاء فيه: "أن الناس خلقوا على طبقات" ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله: "يولد مؤمنا" أي يولد ليكون مؤمنا، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث "خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه" فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: " كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على
الكتاب الأول؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قول عليه السلام: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة". قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين". وهذا نص يرفع الخلاف، وهو أصح شيء روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة" ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم، وفي الآخرة.
قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في {النساء}. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآية: [31] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
الآية: [32] {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء: مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد؛ فإن "ناب وتاب وثاب وآب" معناه الرجوع. قال الماوردي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري:
وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب، تقول: جاءت نوبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى: {أَقِمْ وَجْهَكَ} فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمر لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص؛ فلذلك قال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد مضى هذا مبينا {في النساء والكهف} وغيرهما. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى {في الأنعام} بيانه. وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي: {فَارقُوا دِينَهُمْ } ، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد. {وَكَانُوا شِيَعاً} أي فرقا؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا؛ قاله مقاتل. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم {وَكَانُوا شِيَعاً} على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس: وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف؛ كما قال جل وعز: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ولو كان بلا حرف لجاز.
الآية: [33] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي قحط وشدة {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس: مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب، عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم؛ أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، مقبلين عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} أي عافية ونعمة. {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يشركون به في العبادة.
الآية: [34] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} قيل: هي لام كي. وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما قال جل وعز: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد. وفي مصحف عبدالله {وَلِيَتَمَتَّعُوا} ؛ أي مكناهم من ذلك لكي يتمتعوا، فهو إخبار عن غائب؛ مثل: {لِيَكْفُرُوا} . وهو على خط المصحف خطاب بعد الإخبار عن غائب؛ أي تمتعوا أيها الفاعلون لهذا.
الآية: [35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحاك: {سُلْطَاناً} أي كتابا؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس. وأضاف الكلام إلى الكتاب توسعا. وزعم الفراء أن العرب تؤنث السلطان؛ تقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة؛ أي حجة
تنطق بشرككم؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضا. وقال علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال: سلطان جمع سليط؛ مثل رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة. وقد مضى في {آل عمران}. والسلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة؛ كما قال تعالى: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية: [36] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} يعني الخصب والسعة والعافية؛ قاله يحيى ابن سلام. النقاش: النعمة والمطر. وقيل: الأمن والدعة؛ والمعنى متقارب. {فَرِحُوا بِهَا} أي بالرحمة. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي بلاء وعقوبة؛ قاله مجاهد. السدي: قحط المطر. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بما عملوا من المعاصي. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي ييأسون من الرحمة والفرج؛ قاله الجمهور. وقال الحسن: إن القنوط ترك فرائض الله سبحانه وتعالى في السر. قنط يقنط، وهي قراءة العامة. وقنط يقنط، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ومعقوب. وقرأ الأعمش: قنِط يقنَط بالكسر فيهما؛ مثل حسب يحسب. والآية صفة للكافر، يقنط عند الشدة، ويبطر عند النعمة؛ كما قيل:
كحمار السوء إن أعلفته ... رمَح الناس وإن جاع نهق
وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة؛ وقد مضى في غير موضع. فأما المؤمن فيشكر ربه عند النعمة، ويرجوه عند الشدة.
الآية: [37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق؛ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إلى القنوط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
الآية: [38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالي: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فيه ثلاث مسائل:
الأولي- لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني. والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأمته؛ لأنه قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} . وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه؛ وخير الصدقة ما كان على القريب، وفيها صلة الرحم. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" .
الثانية- واختلف في هذه الآية؛ فقيل: إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل: لا نسخ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال؛ وهو الصحيح. قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله عز وجل، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل: المراد بالقربى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وقيل: إن الأمر بالإيتاء لذي القربى على جهة الندب. قال الحسن: {حَقَّهُ} المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر. {وَالْمِسْكِينَ} قال ابن عباس: أي أطعم السائل الطواف؛ " وَابْنَ السَّبِيلِ " الضيف؛ فجعل الضيافة فرضا، وقد مضى جميع هذا مبسوطا مبينا في مواضعه والحمد لله.
الثالثة- قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي إعطاء الحق أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة. وقد تقدم في {البقرة} القول فيه.
الآية: [39] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
وقوله تعالي: {{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}
فيه أربع مسائل:
الأولي- لما ذكر ما يراد به وجهه ويثبت عليه ذكر غير ذلك من الصفة وما يراد به أيضا وجهه. وقرأ الجمهور: {آتَيْتُمْ} بالمد بمعنى أعطيتم. وقرأ ابن كثير ومجاهد وحميد بغير مد؛ بمعنى ما فعلتم من ربا ليربو؛ كما تقول: أتيت صوابا وأتيت خطأ. وأجمعوا على المد في قوله: {آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} . والربا الزيادة وقد مضى في {البقرة} معناه، وهو هناك محرم وها هنا حلال. وثبت بهذا أنه قسمان: منه حلال ومنه حرام. قال عكرمة في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قال: الربا ربوان، ربا حلال وربا حرام؛ فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه. وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له فيه أجر وليس عليه فيه إثم. وكذلك قال ابن عباس: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه؛ فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه ولكن لا إثم عليه، وفي هذا المعنى نزلت الآية. قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد: هذه آية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره؛ فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى. وقاله القاضي أبو بكر بن العربي. وفي كتاب النسائي
عن عبدالرحمن بن علقمة قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال: "أهدية أم صدقة فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل" قالوا: لا بل هدية؛ فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسألونه. وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم، وليزيدوا في أموالهم على وجه النفع لهم. وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف له لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل: كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص؛ قال الله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} فنهى أن يعطي شيئا فيأخذ أكثر منه عوضا. وقيل: إنه الربا المحرم؛ فمعنى: {لا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} على هذا القول لا يحكم به لآخذه بل هو للمأخوذ منه. قال السدي: نزلت هذه الآية في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي: صريح الآية فيمن يهب يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة. قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب ثوابها وقال: إنما أردت الثواب؛ فقال مالك: ينظر فيه؛ فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك؛ مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه؛ وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط؛ وهو قول الشافعي الآخر. قال: والهبة للثواب باطلة لا تنفعه؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصارت في معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك. ودليلنا ما رواه مالك في موطئه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى
منها. ونحوه عن علّي رضي الله عنه قال: المواهب ثلاثة: موهبة يراد بها وجه الله، وموهبة يراد بها وجوه الناس، وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها. وترجم البخاري رحمه الله "باب المكافأة في الهبة" وساق حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، وأثاب على لقحة ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب، وإنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة. خرجه الترمذي.
الثالثة- ما ذكره علّي رضي الله عنه وفصّله من الهبة صحيح؛ وذلك أن الواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه. والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها. والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له؛ وقد مضى الكلام فيه. وقال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . فأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك عند الله بفضله ورحمته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
وكذلك من يصل قرابته ليكون غنيا حتى لا يكون كلا فالنية في ذلك متبوعة؛ فإن كان ليتظاهر بذلك دنيا فليس لوجه الله، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله.
وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته؛ لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الآية.
وأما من أراذ بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد بهبته، وله أن يرجع فيها ما لم يثب بقيمتها، على مذهب ابن القاسم، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها، على ظاهر قول عمر
وعلّي، وهو قول مطرف في الواضحة: أن الهبة ما كانت قائمة العين، وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب فيها أكثر منها. وقد قيل: إنها إذا كانت قائمة العين لم تتغير فإنه يأخذ ما شاء. وقيل: تلزمه القيمة كنكاح التفويض، وأما إذا كان بعد فوت الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا؛ قاله ابن العربي.
الرابعة- قوله تعالى: {لِيَرْبُوَ} قرأ جمهور الفراء القراء؟؟ السبعة: {لِيَرْبُوَ} بالياء وإسناد الفعل إلى الربا. وقرأ نافع وحده: بضم التاء والواو ساكنة على المخاطبة؛ بمعنى تكونوا ذوي زيادات، وهذه قراءة ابن عباس والحسن وقتاده والشعبي. قال أبو حاتم: هي قراءتنا. وقرأ أبو مالك: {لتربوها} بضمير مؤنث. {فلا يربو عند الله} أي لا يزكو ولا يثيب عليه؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصا له؛ وقد تقدم في {النساء}. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} قال ابن عباس: أي من صدقة. {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي ذلك الذي يقبله ويضاعفه له عشرة أضعافه أو أكثر؛ كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وقال: 0 {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ولم يقل فأنتم المضعفون لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة؛ مثل قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وفي معنى المضعفين قولان: أحدهما: أنه تضاعف لهم الحسنات ذكرنا. والآخر: أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم؛ أي هم أصحاب أضعاف، كما يقال: فلان مقو إذا كانت إبله قوية، أو له أصحاب أقوياء. ومسمن إذا كانت إبله سمانا. ومعطش إذا كانت إبله عطاشا. ومضعف إذا كان إبله ضعيفة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" . فالمخبث: الذي أصابه خبث، يقال: فلان رديء أي هو رديء؛ في نفسه. ومردئ: أصحابه أردئاء.
الآية: [40] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ابتداء وخبر. وعاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين وأنه الخالق الرازق المميت المحيي. ثم قال على جهة الاستفهام: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا يفعل. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم نزه نفسه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والأولاد وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء، ويجعلون لهم من أموالهم.
الآية: [41] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} اختلف العلماء في معنى الفساد والبر والبحر؛ فقال قتادة والسدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: فساد البر قتل ابن آدم أخاه؛ قابيل قتل هابيل. وفي البحر بالملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. وقيل: الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة. ونحوه قال ابن عباس قال: هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. وعنه أيضا: أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. وقال عطية: فإذا قل المطر قل الغوص عنده، وأخفق الصيادون، وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ. وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش. وقيل: الفساد المعاصي وقطع السبيل والظلم؛ أي صار هذا العمل مانعا من الزرع والعمارات والتجارات؛ والمعنى كله متقارب. والبر والبحر هما المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس؛ لا ما قاله بعض العباد: أن البر اللسان، والبحر القلب؛ لظهور
ما على اللسان وخفاء ما في القلب. وقيل: البر: الفيافي، والبحر: القرى؛ قاله عكرمة. والعرب تسمي الأمصار البحار. وقال قتادة: البر أهل العمود، والبحر أهل القرى والريف. وقال ابن عباس: إن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر؛ وقاله مجاهد، قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهي بحر. وقال معناه النحاس، قال: في معناه قولان: أحدهما: ظهر الجذب في البر؛ أي في البوادي وقراها، وفي البحر أي في مدن البحر؛ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ} أي عقاب بعض {الَّذِي عَمِلُوا} ثم حذف. والقول الآخر: أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز إلا أنه على الجواب الثاني، فيكون في الكلام حذف واختصار دل عليه ما بعده، ويكون المعنى: ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهما الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعلهم يتوبون. وقال: {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لأن معظم الجزاء في الآخرة. والقراءة {لِيُذِيقَهُمْ} بالياء. وقرأ ابن عباس بالنون، وهي قراءة السلمي وابن محيصن وقنبل ويعقوب على التعظيم؛ أي نذيقهم عقوبة بعض ما عملوا.
الآية: [42] {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض ليعتبروا بمن قبلهم، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أي كافرين فأهلكوا.
الآية: [43] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم؛ يعني الإسلام. وقيل: المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ} أي لا يرده الله عنهم، فإذا لم يرده لم يتهيأ لأحد دفعه. ويجوز عند غير سيبويه {لا مَرَدَّ لَهُ} وذلك عند سيبويه بعيد، إلا أن يكون في الكلام عطف. والمراد يوم القيامة.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} قال ابن عباس: معناه يتفرقون. وقال الشاعر:
وكنا كنَدْمانَي جَذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
أي لن يتفرقا؛ نظيره قوله تعالى: {وْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. والأصل يتصدعون؛ ويقال: تصدع القوم إذا تفرقوا؛ ومنه اشتق الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس.
الآية: [44] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي جزاء كفره. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح؛ ومنه: مهد الصبي. والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. والتمهد: التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} قال: في القبر.
الآية: [45] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله؛ أي ليتميز الكافر من المسلم. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
الآية: [46] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه. وقد مضى في {الحجر} بيانه. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} يعني الغيث والخصب. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} أي في البحر عند هبوبها. وإنما زاد {أَمْرِهِ} لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها، وربما عصفت فأغرقتها بأمره. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعني الرزق بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم بالتوحيد والطاعة. وقد مضى هذا كله مبينا.
الآية: [47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي المعجزات والحجج النيرات {فَانْتَقَمْنَا} أي فكفروا فانتقمنا ممن كفر. {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {حَقّاً} نصب على خبر كان، {نَصْرُ} اسمها. وكان أبو بكر يقف على {حَقّاً} أي وكان عقابنا حقا، ثم قال: {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ابتداء وخبر؛ أي أخبر بأنه لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبرنا. وروي من حديث أبي الدرداء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يذب عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة - ثم تلا – " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " . ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم.
الآية: [48] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
الآية: [49] {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} قرأ ابن محيصن وابن كثير وحمزة والكسائي: {الرِّيَحَ} بالتوحيد. والباقون بالجمع. قال أبو عمرو: وكل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد. وقد مضى في {البقرة} معنى هذه الآية وفي غيرها. {كِسَفاً} جمع كسفة وهي القطعة. وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبدالرحمن الأعرج وابن عامر {كِسَفا} بإسكان السين، وهي أيضا جمع كسفة؛ كما يقال: سدرة وسدر؛ وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه؛ أي فترى الودق أي المطر يخرج من خلال الكسف؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء لا غير فالتذكير فيه حسن. ومن قرأ: {كِسَفاً} فالمضمر عنده عائد على السحاب. وفي قراءة الضحاك وأبي العالية وابن عباس: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ} ويجوز أن يكون خلل جمع خلال. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر. {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول المطر عليهم. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} أي يائسين مكتئبين قد ظهر الحزن عليهم لاحتباس المطر عنهم. و {مِنْ قَبْلِهِ} تكرير عند الأخفش معناه التأكيد؛ وأكثر النحويين على هذا القول؛ قاله النحاس. وقال قطرب: إن {قبل} الأولى للإنزال والثانية للمطر؛ أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل: المعنى من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع، ودل على الزرع المطر إذ بسببه يكون. ودل عليه أيضا {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} على ما يأتي. وقيل: المعنى من قبل السحاب من قبل رؤيته؛ واختار هذا القول النحاس، أي من قبل رؤية السحاب {لَمُبْلِسِينَ} أي ليائسين. وقد تقدم ذكر السحاب.
الآية: [50] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} يعني المطر؛ أي انظروا نظر استبصار واستدلال؛ أي استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزه والكسائي: {آثَارِ} بالجمع. الباقون "بالتوحيد؛ لأنه مضاف إلى مفرد. والأثر فاعل "يحيي" ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله عز وجل. ومن قرأ: {آثَارِ} بالجمع فلأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقرأ الجحدري وأبو حيوة وغيرهما: {كَيْفَ تُحْيِي الأَرْضَ} بتاء؛ ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرحمة؛ لأن أثر الرحمة يقوم مقامها فكأنه هو الرحمة؛ أي كيف تحيي الرحمة الأرض أو الآثار. "ويحيي" أي يحيي الله عز وجل أو المطر أو الأثر فيمن قرأ بالياء. و {كَيْفَ تُحْيِي الأَرْضَ} في موضع نصب على الحال على الحمل على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام والحال خبر؛ والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها. {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} استدلال بالشاهد على الغائب.
الآية: [51] { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }
قوله تعالى: {و{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً }يعني الريح، والريح يجوز تذكيره. قال محمد بن يزيد: لا يمتنع تذكير كل مؤنث غير حقيقي، نحو أعجبني الدار وشبهه. وقيل: فرأوا السحاب. وقال ابن عباس: الزرع، وهو الأثر؛ والمعنى: فرأوا الأثر مصفرا؛ واصفرار الزرع بعد اخضراره يدل على يبسه، وكذا السحاب يدل على أنه لا يمطر، والريح على أنها لا تلقح {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أي ليظلن؛ وحسن وقوع الماضي في موضع المستقبل لما في الكلام من معنى المجازاة، والمجازاة لا تكون إلا بالمستقبل؛ قاله الخليل وغيره.
الآية: [52] {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
الآية: [53] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي وضحت الحجج يا محمد؛ لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت عقولهم وعميت بصائرهم، فلا يتهيأ لك إسماعهم وهدايتهم. وهذا رد على القدرية. {إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} أي لا تسمع مواعظ الله إلا المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد وخلقت لهم الهداية. وقد مضى هذا في {النمل} ووقع قوله {بِهَادِ الْعُمْيِ} هنا بغير ياء.
الآية: [54] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ذكر استدلالا آخر على قدرته في نفس الإنسان ليعتبر. ومعنى: {مِنْ ضَعْفٍ} من نطفة ضعيفة. وقيل: {مِنْ ضَعْفٍ} أي في حال ضعف؛ وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} يعني الشبيبة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} يعني الهرم. وقرأ عاصم وحمزة: بفتح الضاد فيهن، الباقون بالضم، لغتان، والضم لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الجحدري: {مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} بالفتح فيهما؛ {ضُعْفَا} بالضم خاصة. أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. الجوهري: الضعف والضعف: خلاف القوة. وقيل: الضعف بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسد؛ ومنه الحديث في الرجل
الذي كان يخدع في البيوع: "أنه يبتاع وفي عقدته ضعف". {وَشَيْبَةً} مصدر كالشيب، والمصدر يصلح للجملة، وكذلك القول في الضعف والقوة. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} عني من قوة وضعف. {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبيره. {الَقَدِيرُ} على إرادته. وأجاز النحويون الكوفيون {من ضَعَف} بفتح العين، وكذا كل ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا.
الآية: [55] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي يحلف المشركون. {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ليس في هذا رد لعذاب القبر؛ إذ كان قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق أنه تعوذ منه، وأمر أن يتعوذ منه؛ فمن ذلك ما رواه عبدالله بن مسعود قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وهي تقول: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر" في أحاديث مشهورة خرجها مسلم والبخاري وغيرهما. وقد ذكرنا منها جملة في كتاب "التذكرة". وفي معنى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} قولان: أحدهما: أنه لا بد من خمدة قبل يوم القيامة؛ فعلى هذا قالوا: ما لبثنا غير ساعة. والقول الآخر: أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها، كما قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون. قال تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي كانوا يكذبون في الدنيا؛ يقال: أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة: ممنوعة من المطر. وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه، والقرآن يدل على غير ذلك، قال الله عز وجل : {كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ} أي كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا؛ وقال جل وعز: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقال: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا}
الآية: 56 {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} اختلف في الذين أوتوا العلم؛ فقيل الملائكة. وقيل الأنبياء. وقيل علماء الأمم. وقيل مؤمنو هذه الأمة. وقيل جميع المؤمنين؛ أي يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم لقد لبثتم في قبوركم إلى يوم البعث. والفاء في قوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} جواب لشرط محذوف دل عليه الكلام؛ مجازه: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث. وحكى يعقوب عن بعض القراء وهي قراءة الحسن: {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} بالتحريك؛ وهذا مما فيه حرف من حروف الحلق. وقيل: معنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ } في حكم الله. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث؛ قاله مقاتل وقتادة والسدي. القشيري: وعلى هذا {أُوتُوا الْعِلْمَ} بمعنى كتاب الله. وقيل: الذين حكم لهم في الكتاب بالعلم {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} أي اليوم الذي كنتم تنكرونه.
الآية: [57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفعهم العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ. وقيل: لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا حالهم حال من يستعتب ويرجع؛ يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. وسيأتي في "فصلت" بيانه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ} بالياء، والباقون بالتاء.
الآية: [58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}
الآية: [59] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
الآية: [60] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل. {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي معجزة؛ كفلق البحر والعصا وغيرهما {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} يقول الكفار إن أنتم يا معشر المؤمنين. {إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي تتبعون الباطل والسحر {كَذَلِكَ} أي كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات عن الله فكذلك {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أدلة التوحيد { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي اصبر على أذاهم فإن الله ينصرك {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يستفزنك عن دينك {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} قيل: هو النضر بن الحارث. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ يقال: استخف فلان فلانا أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغّي. وهو في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة فبني على الفتح كما يبنى الشيئان إذا ضم أحدهما إلى الآخر. {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} في موضع رفع، ومن العرب من يقول: الذون في موضع الرفع. وقد مضى في "الفاتحة".
تفسير سورة لقمان
سورة لقمانمقدمة السورة
وهي مكية، غير آيتين قال قتادة: أولهما {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس: ثلاث آيات، أولهن {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} وهي أربع وثلاثون آية.
الآية: [1] {الم}
الآية: [2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
الآية: [3] {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}
الآية: [4] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية: [5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالى: {الم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} مضى الكلام في فواتح السور. و {تِلْكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هذه تلك. ويقال: {تِيكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} بدلا من تلك. والكتاب: القرآن. والحكيم: المحكم؛ أي لا خلل فيه ولا تناقض. وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم {هُدىً وَرَحْمَةً} بالنصب على الحال؛ مثل: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي. وقرأ حمزة: {هُدىً وَرَحْمَةً} بالرفع، وهو من وجهين: أحدهما: على إضمار مبتدأ؛ لأنه أول آية. والآخر: أن يكون خبر {تِلْكَ} . والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وقيل: هم المحسنون في الدين وهو الإسلام؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في موضع الصفة، ويجوز الرفع على القطع بمعنى: هم الذين، والنصب بإضمار أعني. وقد مضى الكلام في هذه الآية والتي بعدها في {البقرة} وغيرها.
- الآية: [6] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} {من} في موضع رفع بالابتداء. و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} : الغناء؛ في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وهو ممنوع بالكتاب والسنة؛ والتقدير: من يشتري ذا لهو أو ذات لهو؛ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أو يكون التقدير: لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو.
قلت: هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية؛ اسمدي لنا؛ أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال مجاهد: الغناء والمزامير. وقد مضى في {سبحان} الكلام فيه. وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة وعلّي ابن يزيد يضعّف في الحديث؛ قاله محمد بن إسماعيل. قال ابن عطية: وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعّي.
قلت: هذا أعلى ما قيل في هذه الآية، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء. روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال: سئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فقال: الغناء والله الذي لا إله إلا هو؛ يرددها ثلاث مرات. وعن ابن عمر أنه الغناء؛ وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبدالله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب؛ وقاله مجاهد، وزاد: إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن: لهو الحديث المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل والباطل في النار. وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال: قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} أفحق هو؟! وترجم البخاري "باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك"، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} فقوله: "إذا شغل عن طاعة الله" مأخوذ من قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وعن الحسن أيضا: هو الكفر والشرك. وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم: رستم، واسفنديار؛ فكان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمد؛ حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه؛ ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وهذا القول والأول ظاهر في الشراء. وقالت طائفة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل. قال ابن عطية: فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات
"من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين" . فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: "قراء أهل الجنة" خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره: "فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". إلى غير ذلك. وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك. ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه". ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء.
الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن؛ فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربّي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو. وفي اليراعة تردد. والدف مباح. الجوهريّ: وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة. قال القشيريّ: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح" فكن يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار. وقد قيل: إن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث
الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم ترد. وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبريّ قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب؛ وهو مذهب سائر أهل المدينة؛ إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. وقال ابن خويز منداد: فأما مالك فيقال عنه: إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها. وروي عنه أنه قال: تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب، فقالت لي أمي: أي بنّي! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك، فطلب العلوم الدينية؛ فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا. قال أبو الطيب الطبري: وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة: إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه؛ إلا ما روي عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال: وأما مذهب الشافعّي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال: وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبدالعزيز إباحة الغناء، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات؛ قال: وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد؛ ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية. فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا؛ ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. قال أبو الفرج: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق.
وهذا دليل على أن الغناء محظور؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم. وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي خمر لأيتام؟ فقال: "أرِقْها". فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى. قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيدالله العنبري؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" . قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. وقد مضى في الأنعام عند قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وحسبك
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها. أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله. وقال أبو الطيب الطبري: أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز، سواء كانت حرة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته؛ ثم غلظ القول فيه فقال: فهي دياثة. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها.
الخامسة- قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قراءة العامة بضم الياء؛ أي ليضل غيره عن طريق الهدى، وإذا أضل غيره فقد ضل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق "بفتح الياء" على اللازم؛ أي ليضل هو نفسه.
{وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على {مَنْ يَشْتَرِي} ويجوز أن يكون مستأنفا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: {وَيَتَّخِذَهَا} بالنصب عطفا على {لِيُضِلَّ}. ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} والوقف على قوله: {هُزُواً} ، والهاء في {وَيَتَّخِذَهَا} كناية عن الآيات. ويجوز أن يكون كناية عن السبيل؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي شديد يهينهم قال الشاعر:
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
الآية: [7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} يعني القرآن. {وَلَّى} أي أعرض. {مُسْتَكْبِراً} نصب على الحال. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} ثقلا وصمما. وقد تقدم. {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تقدم.أيضا
الآية: [8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}
الآية: [9] {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين .{خَالِدِينَ فِيهَا} أي دائمين. {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم.
الآية: [10] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
الآية: [11] {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} تكون {تَرَوْنَهَا} في موضع خفض على النعت لـ {عَمَدٍ} فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من {السَّمَاوَاتِ} ولا عمد ثم البتة. النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا، ولا عمد ثم؛ قاله مكي. ويكون {غَيْرِ عَمَدٍ} التمام. وقد مضى في {الرعد} الكلام في هذه الآية. {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} أي جبالا ثوابت. {أَنْ تَمِيدَ} في موضع نصب؛ أي كراهية أن تميد. والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد. {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} عن ابن عباس: من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس؛ لأنهم مخلوقون من الأرض؛ قال: من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم. وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب، وظاهر القرآن يدل على ذلك.
قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر. والخلق بمعنى المخلوق؛ أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون {خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله، أي خلقها من غير شريك. {فَأَرُونِي} معاشر المشركين {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني الأصنام. {بَلِ الظَّالِمُونَ} أي المشركون {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي خسران ظاهر. {وما} استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره {ذا} وذا بمعنى الذي. و {خلق} واقع على هاء محذوفة؛ تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه؛ والجملة في موضع نصب بـ {أروني} وتضمر الهاء مع {خلق}
تعود على الذين؛ أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وعلى هذا القول تقول: ماذا تعلمت، أنحو أم شعر. ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب بـ {أروني} و {ذا} زائد؛ وعلى هذا القول يقول: ماذا تعلمت، أنحوا أم شعرا.
الآية: [12] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} مفعولان. ولم ينصرف {لُقْمَانَ} لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين؛ فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان، وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين قد زال؛ قاله النحاس. وهو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم؛ كذا نسبه محمد بن إسحاق. وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة؛ ذكره السهيلي. قال وهب: كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. الزمخشري: وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل كان من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل. وقال سعيد ابن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة؛ وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليا ولم يكن نبيا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي؛ وعلى هذا تكون الحكمة النبوة. والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى - وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل - قاضيا في بني إسرائيل، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أي عظيم الشفتين؛ قاله ابن عباس وغيره. وروي من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر
حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه، فمّن عليه بالحكمة، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق؛ فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت علّي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني؛ ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي: فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه؛ فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها. ثم نودي داود بعده فقبلها - يعني الخلافة - ولم يشترط ما اشترطه لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يوازره بحكمته؛ فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء، وأعطى داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة. وقال قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة؛ فاختار الحكمة على النبوة؛ فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها؛ فقيل كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي.
واختلف في صنعته؛ فقيل: كان خياطا؛ قاله سعيد بن المسيب، وقال لرجل أسود: لا تحزن من أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان. وقيل: كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب. وقال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وقيل: كان راعيا، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأدائي الأمانة، وصدق الحديث،
وترك ما لا يعنيني؛ قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال خالد الربعي: كان نجارا؛ فقال له سيده: اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين؛ فأتاه باللسان والقلب؛ فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبثها مضغتين؛ فألقى اللسان والقلب؛ فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب؟! فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
قلت: هذا معناه مرفوع في غير ما حديث؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" . وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة؛ منها قوله عليه السلام: "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه ورجليه..." الحديث. وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها. وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا.
قلت: وهذا أيضا مرفوع معنى، قال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" . رواه أبو هريرة خرجه البخاري. وقال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأل، فأدركته الحكمة فسكت؛ فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله. فقال له داود: بحق ما سميت حكيما.
قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فيه تقديران: أحدهما أن تكون {أن} بمعنى أي مفسرة؛ أي قلنا له اشكر. والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها؛ كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم؛ إلا أن هذا الوجه عنده بعيد. وقال الزجاج: المعنى ولقد آتينا لقمان
الحكمة لأن يشكر الله تعالى. وقيل: أي بأن اشكر لله تعالى فشكر؛ فكان حكيما بشكره لنا. والشكر لله: طاعته فيما أمر به. وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في {البقرة} وغيرها. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه؛ لأن نفع الثواب عائد إليه. {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر النعم فلم يوحد الله {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن عبادة خلقه {حَمِيدٌ} عند الخلق؛ أي محمود. وقال يحيى بن سلام: {غَنِيٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} في فعله.
الآية: [13] {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} قال السهيلي: اسم ابنه ثاران؛ في قول الطبري والقتبي. وقال الكلبي: مشكم. وقيل أنعم؛ حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما.
قلت: ودل على هذا قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم" . واختلف في قوله: {إن الشرك لظلم عظيم" فقيل: إنه من كلام لقمان. وقيل: هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى؛ ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فسكن إشفاقهم، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى؛ وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و {إذ} في موضع نصب بمعنى اذكر. وقال الزجاج
في كتابه في القرآن: إن {إذ} في موضع نصب بـ {آتينا} والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس: وأحسبه غلطا؛ لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال: {يا بُنيِّ} بكسر الياء؛ لأنها دالة على الياء المحذوفة، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده؛ وقد مضى في {هود} القول في هذا. وقوله: {يا بني} ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق؛ كما يقال للرجل: يا أخي، وللصبي هو كويس.
الآية: [14] {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
الآية: [15] {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
فيه ثماني مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان. وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه؛ أخبر الله به عنه؛ أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى. وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه؛ فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه؛ أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان. وقيل: وإذ قال لقمان لابنه، لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه؛ ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص؛ كما تقدم في {العنكبوت} وعليه جماعة المفسرين.
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب؛ ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة؛ على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.
الثانية- قوله تعالي: لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة؛ وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبّر؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "أبوك" فجعل له الّربع من المبرة كما في هذه الآية؛ وقد مضى هذا كله في {سبحان}.
الثالثة قوله تعالى: {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف. وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفّي: {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما؛ ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنى واحد. قال قعنب بن أم صاحب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها ... إن العواذل فيها الأين والوهن
يقال: وه ن يهن، ووهن يوهن ووهن، يهن؛ مثل ورم يرم. وانتصب {وَهْناً} على المصدر؛ ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر؛ أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: {وَفِصَالُهُ} وقرأ الحسن ويعقوب: {وَفِصَلُهُ} وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين؛ والمقصود من الفصال الفطام، فعبّر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميّز؛ وبه سمي الفصيل.
الرابعة- الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم؛ وقد مضى هذا في {البقرة} مستوفى.
الخامسة- قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} {أن} في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون {أن} مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، وللوالدين على نعمة التربية. وقال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل؛ كما تقدم في الآية قبلها.
السابعة- قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} نعت لمصدر محذوف؛ أي مصاحبا معروفا؛ يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و {مَعْرُوفاً} أي ما يحسن.
والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقير، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبّي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علّي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم". وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العّزى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبدالرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
الثامنة- قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} وصية لجميع العالم؛ كأن المأمور الإنسان. و {أَنَابَ} معناه مال ورجع إلى الشيء؛ وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر؛ وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبدالرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا: آمنت! قال نعم؛ فنزلت فيه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} فلما سمعها الستة آمنوا؛ فأنزل الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} . قيل: الذي أناب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر؛ فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.
الآية: [16] {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
المعنى: وقال لقمان لابنه يا بنّي. وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى. وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحّس لا يدرك لها ثقلا، إذ لا ترجح ميزانا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حّبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتباع سبيل من أناب إلّي.
قلت: ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن مسعود: "لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك" . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا؛ سبحانه لا شريك له. وروي أن ابن لقمان سأل أباه
عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية. وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات؛ أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله؛ أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه. وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى. وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف.
قوله تعالى: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال؛ أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة. ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبدالكريم الجزري {فَتَكُنْ} بكسر الكاف وشد النون، من الكّن الذي هو الشيء المغطى. وقرأ جمهور القّراء: {إِنْ تَكُ} بالتاء من فوق {مِثْقَالَ} بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روي، أو المعصية والطاعة على القول الثاني؛ ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الآية. فما زال ابنه يضطرب حتى مات؛ قاله مقاتل. والضمير في {إِنَّهَا} ضمير القصة؛ كقولك: إنها هند قائمة؛ أي القصة إنها إن تك مثقال حبة. والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته؛ بمعنى إن القصة. والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا. وقرأ نافع: {مِثْقَالَ} بالرفع، وعلى هذا {تَكُ} يرجع إلى معنى خردلة؛ أي إن تك حبة من خردل. وقيل: أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة؛ كما قال: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فأنث وإن كان المثل مذكرا؛ لأنه أراد الحسنات. ومن هذا قول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
و {تَكُ} ها هنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا.
قوله تعالى: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم؛ أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض. وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض. وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت. وقال السّدي: هي صخرة ليست في السموات والأرض، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم؛ لأنه قال: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ} وفيهما غنية عن قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} ؛ وهذا الذي قاله ممكن، ويمكن أن يقال: قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} تأكيد؛ كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وقول: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1].
الآية: [17] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولي- قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} وصّى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجر عن المنكر، وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع. ولقد أحسن من قال:
وابدأ بنفسك فانهها عن غَيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
في أبيات تقدم في {البقرة} ذكرها.
الثانية- قوله تعالي: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر؛ فهو إشعار بأن المغير أحيانا؛ وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله؛ وأما على اللزوم فلا، وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في {آل عمران والمائدة}. وقيل: أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل؛ وهذا قول حسن لأنه يعّم.
الثالثة- قوله تعالي: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} قال ابن عباس: من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره. وقيل: إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور؛ أي مما عزمه الله وأمر به؛ قاله ابن جريج. ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. وقول ابن جريج صوب.
الآية: [18] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولي- قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن: {تصاعر} بالألف بعد الصاد. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد: {تُصَعِّرْ} وقرأ الجحدري: {تُصْعر} بسكون الصاد؛ والمعنى متقارب. والصعر: الميل؛ ومنه قول الأعرابي: وقد أقام الدهر صعري، بعد أن أقمت صعره. ومنه قول عمرو بن حنّي التغلبي:
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقومِ
وأنشده الطبري: {فتقومَا} . قال ابن عطية: وهو خطأ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة. وفي بيت آخر:
أقمنا له من خّده المتصعر
قال الهروي: {لا تصاعر} أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم؛ يقال: أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه. ثم يقال للمتكبر: فيه صعر وصيد؛ فمعنى: {لا تصعر} أي لا تلزم خّدك الصعر. وفي الحديث: "يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر"
والأصعر: المعرض بوجهه كبرا؛ وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم. وفي الحديث: "كل صعار ملعون" أي كل ذي أبهة وكبر.
الثانية- معنى الآية: ولا تمل خّدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم. وهذا تأويل ابن عباس وجماعة. وقيل: هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره؛ فالمعنى: أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه. وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
قلت: ومن هذا المعنى ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه. وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك؛ وكذلك يصنع هو بك. ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك؛ فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده، وبه فسر مجاهد الآية. وقال ابن خويز منداد: قوله: {وَلا تُصَاعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة؛ ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس للإنسان أن يذل نفسه".
الثالثة- قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} أي متبخترا متكبرا، مصدر في موضع الحال، وقد مضى في {سبحان}. وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة. وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء؛ فالمرح مختال في مشيته. روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبدالله بن عبيد بن عمير قال: فجلسنا إلى عبدالله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غّرك بي! لقد كنت تمشي حولي
فّدادا. قال ابن عائذ قلت لغُضيف: ما الفدّاد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا. قال أبو عبيد: والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء. وقال صلى الله عليه وسلم: "من جّر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" . والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى؛ قاله مجاهد. وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك.
الآية: [19] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
فيه ست مسائلك:
الأولي- قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي توسّط فيه. والقصد: ما بين الإسراع والبطء؛ أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" . فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت؛ والله أعلم. وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقّدم بيانه في {الفرقان}.
الثانية- قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي انقص منه؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع؛ وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مُرْيَطاؤك! والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير. والمريطاء: ما بين السرة إلى العانة.
الثالثة- قوله تعالي: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي أقبحها وأوحشها؛ ومنه أتانا بوجه منكر. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه؛ ومن استفحاشهم
لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين؛ كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى.
الرابعة- في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير؛ لأنها عالية. وفي الصحيح عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا". وقد روي: أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا. وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة.
الخامسة- وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة؛ وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، حتى قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النعم
ويعد على الأين عدوى الظليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم
فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: {نَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار؛ فجعلهم في المثل سواء.
قوله تعالى: {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} اللام للتأكيد، ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت. ويقال: صوت تصويتا فهو مصوت. ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت؛ كقولهم: رجال مال ونال؛ أي كثير المال والنوال.
الآية: [20] {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}
الآية: [21] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم. {وَمَا فِي الأَرْضِ} عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى. {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} أي أكملها وأتمها. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: {وَأَصْبَغَ} بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا. والنعم: جمع نعمة كسدرة وسدر "بفتح الدال" وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص. الباقون: {نِعَمَهُ} على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح. وقيل: إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: "الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك". قال النحاس: وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} قال: يدخلكم الجنة. وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة. وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. وقال المحاسبي: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله
وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات. وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} تقدم مهناها في الحج وغيرها نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد. وقد مضى هذا في {الرعد}. وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول: إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس. {يُجَادِلُ} يخاصم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بغير حجة {وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد. "أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير" فيتبعونه.
الآية: [22] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}
قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وفي حديث جبريل قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} قال ابن عباس: لا إله إلا الله؛ وقد مضى في {البقرة}. وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار: {وَمَنْ يُسَلَّم}. النحاس: و {يسلَّم} في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } ومعنى: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون {يسلّم} على التكثير؛ إلا أن المستعمل
في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت. الزمخشري: قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: {وَمَنْ يُسَلّم} بالتشديد؛ يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت: ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ؟ قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له. ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي مصيرها.
الآية: [23] {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
الآية: [24] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي نجازيهم بما عملوا. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي نلجئهم ونسوقهم. {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب جهنم. ولفظ {مَن} يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: {كُفْرُهُ} ثم قال: {مَرْجِعُهُم} وما بعده على المعنى.
الآية: [25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
الآية: [26] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا ينظرون ولا يتدبرون .{لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكا وخلقا. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم. {الْحَمِيدُ} أي المحمود على صنعه.
الآية: [27] {لَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها. وقال القفال: لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق. وقد مضى الكلام في معنى {كَلِمَاتُ اللَّهِ} في آخر {الكهف}. وقال أبو علّي: المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود. وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. ومعنى نزول الآية: يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم. قال ابن عباس: إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد، كيف عنينا بهذا القول {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التوراة قليل من كثير" ونزلت هذه الآية، والآية مدنية. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن
يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر.
قلت: هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. وقال قوم: إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد! فنزلت.
قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال: والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه. وقال بعض النحويين: هو عطف على {أنّ} لأنها في موضع رفع بالابتداء. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {وَالْبَحْرُ} بالنصب على العطف على {ما} وهي اسم {أنّ} . وقيل: أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه. وقرأ ابن هرمز والحسن: {يَمُدُّهُ} ؛ من أمّد. قالت فرقة: هما بمعنى واحد. وقالت فرقة: مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول: مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه. وأمّد الشيء ما ليس منه. وقد مضى هذا في {البقرة. وآل عمران}. وقرأ جعفر بن محمد: {والبحر مداده} . {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} تقدم. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقال أبو عبيدة: البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام.
الآية: [28] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقولون {بَصِيرٌ} بما يفعلون.
الآية: [29] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
الآية: [30] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} تقدم. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع. {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال الحسن: إلى يوم القيامة. قتادة:
إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه. {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقراءة العامة {تَعْمَلُونَ} بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمّي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر. {ذَلِكَ } أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أي الشيطان؛ قاله مجاهد. وقيل: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان. {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} العلّي في مكانته، الكبير في سلطانه.
الآية: [31] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ} أي السفن {تَجْرِي} في موضع الخبر. {فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه. وقرأ ابن هرمُز: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ} جمع نعمة وهو جمع السلامة، وكان الأصل تحريك العين فأسكنت. {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} {مِنْ} للتبعيض، أي ليريكم جري السفن؛ قال يحيى بن سلام. وقال ابن شجرة: {مِنْ آيَاتِهِ} ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه. النقاش: ما يرزقهم الله منه. وقال الحسن: مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي صبار لقضائه شكور على نعمائه. وقال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن بهذه الصفة؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان. والآية: العلامة، والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء. قال الشعبّي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} وقال عليه السلام: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر"
الآية: [32] {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}
قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب؛ وقاله قتادة: جمع ظلة؛ شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها. قال النابغة في وصف بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال ... على حافاته فلق الدنان
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر. وأصله من الحركة والازدحام؛ ومنه: ماج البحر، والناس يموجون. قال كعب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
وقرأ محمد ابن الحنفية: {مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} جمع ظل. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه؛ وقد تقدم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} يعني من البحر. {إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال ابن عباس: موف بما عاهد عليه الله في البحر. النقاش: يعني عدل في العهد، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر. وقال الحسن: {مُقْتَصِدٌ} مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: {مُقْتَصِدٌ} في القول مضمر للكفر. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر. ودل على المحذوف قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار: الغدار. والختر: أسوأ الغدر. قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختار
قال الجوهري: الختر الغدر؛ يقال: ختره فهو ختار. الماوردي: وهو قول الجمهور. وقال عطية: إنه الجاحد. ويقال: ختر يختِر ويختُر "بالضم والكسر" خترا؛ ذكره القشيري، وجحد الآيات إنكار أعيانها. والجحد بالآيات إنكار دلائلها.
الآية: [33] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} يعني الكافر والمؤمن؛ أي خافوه ووحدوه. {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} تقدم معنى {يَجْزِي} في البقرة وغيرها. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحله القسم" . وقال: "من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهّن كّن له حجابا من النار" . قيل له: المعنّي بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر. والمعنّي بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي البعث {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ} أي تخدعنكم {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغّر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة؛ وفي سورة {النساء}: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين؛ أي لا تغتروا. كأنه مصدر غّر يغر غرورا. قال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة.
الآية: [34] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
زعم الفراء أن هذا معنى النفي؛ أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى. قال أبو جعفر النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} : "إنها هذه" :
قلت: قد ذكرنا في سورة {الأنعام} حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري. وفي حديث جبريل عليه السلام قال: "أخبرني عن الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا" قال: "صدقت" . لفظ أبي داود الطيالسّي. وقال عبدالله بن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، الآية إلى آخرها. وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبّي مرسل؛ فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك؛ حسبما تقدم ذكره في الأنعام. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده. وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس: إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام،
وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علّي الحول حتى أموت. قال: فأين موتك يا يهودّي؟ فقال: لا أدري. فقال ابن عباس: صدق الله. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام. ومات اليهودّي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى. قال علّي بن الحسين راوي هذا الحديث: هذا أعجب الأحاديث. وقال مقاتل: إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة، أتى النبّي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ذكره القشيري والماوردّي. وروى أبو المليح عن أبي عّزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم – {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ - إلى قوله - بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} " ذكره الماوردّي، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود بمعناه. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" مستوفى. وقراءة العامة: {وَيُنَزِّلُ} مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزه والكسائي مخففا. وقرأ أبي بن كعب: {بِأَيِّةِ أَرْضٍ} الباقون {بِأَيِّ أَرْضٍ} . قال الفراء: اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي. وقيل: أراد بالأرض المكان فذكر. قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقال الأخفش: يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية. وشبه سيبويه تأنيث {أَيِّ} بتأنيث كل في قولهم: كلتهن. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {خَبِيرٌ} نعت لـ {عَلِيمٌ} أو خبر بعد خبر. والله تعالى أعلم.
تفسير سورة السجدة
سورة السجدةمقدمة السورة
وهي مكية، غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة؛ وهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} تمام ثلاث آيات؛ قاله الكلبّي ومقاتل. وقال غيرهما: إلا خمس آيات، من قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} إلى قوله {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وهي ثلاثون آية. وقيل تسع وعشرون. وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبّي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم. تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الحديث. وخرج الدارمي أبو محمد في مسنده عن جابر بن عبدالله قال: كان النبّي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ: {الم. تَنْزِيلُ} السجدة. و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ} قال الدارمي: وأخبرنا أبو المغيرة قال حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرؤوا المنجية، وهي {الم. تَنْزِيلُ} فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها، ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي؛ فشّفعها الرب فيه وقال "اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة".
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] {الم}
الآية: [2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {الم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} الإجماع على رفع {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} ولو كان منصوبا على المصدر لجاز؛ كما قرأ الكوفيون: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} و {تَنْزِيلُ} رفع بالابتداء والخبر {لا رَيْبَ فِيهِ} . أو خبر على إضمار مبتدأ؛ أي هذا تنزيل، أو المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل. ودلت: {الم}
على ذكر الحروف. ويجوز أن يكون {لا رَيْبَ فِيهِ} في موضع الحال من {الْكِتَابِ} . و {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الخبر. قال مكّي: وهو أحسنها. {لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا شك فيه أنه من عند الله؛ فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
الآية: [3] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} هذه {أَمْ} المنقطعة التي تقّدر ببل وألف الاستفهام؛ أي بل أيقولون. وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث؛ فإنه عز وجل أثبت أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي افتعله واختلقه. {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} كذبهم في دعوى الافتراء {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} قال قتادة: يعني قريشا، كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. و {لِتُنْذِرَ} متعلق بما قبلها فلا يوقف على {مِنْ رَبِّكَ} . ويجوز أن يتعلق بمحذوف؛ التقدير: أنزله لتنذر قوما، فيجوز الوقف على {مِنْ رَبِّكَ} . و{مَا} {مَا أَتَاهُمْ} نفي. {مِنْ نَذِيرٍ} صلة. و {نَذِيرٍ} في محل الرفع، وهو المعلم المخوف. وقيل: المراد بالقوم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام؛ قاله ابن عباس ومقاتل. وقيل: كانت الحجة ثابتة لله جل وعز عليهم بإنذار من تقدم من الرسل وإن لم يروا رسولا؛ وقد تقّدم هذا المعنى.
الآية: [4] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} عرفهم كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه. ومعنى: {خَلَقَ} أبدع وأوجد بعد العدم وبعد أن لم تكن شيئا. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة. قال الحسن: من أيام الدنيا. وقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سني الدنيا. وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة؛ أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم. وذكرنا أقوال العلماء في ذلك مستوفى في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى". وليست {ثُمَّ} للترتيب وإنما هي بمعنى الواو. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أي ما للكافرين من ولي يمنع من عذابهم ولا شفيع. ويجوز الرفع على الموضع. {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} في قدرته ومخلوقاته.
الآية: [5] {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} قال ابن عباس: ينزل القضاء والقدر. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل. وروى عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن سابط قال: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل؛ صلوات الله عليهم أجمعين. فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. وقد قيل: إن العرش موضع التدبير؛ كما أن ما دون العرش موضع التفصيل؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} وما دون السموات موضع التصريف؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}
قوله تعالى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} قال يحيى بن سلام: هو جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي. وقال النقاش: هو الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. وقيل: إنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة؛ قاله ابن شجرة. وقيل: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يوم القيامة. وعلى الأقوال المتقدمة فالكناية في {يَعْرُجُ} كناية عن الملك، ولم يجر له ذكر لأنه مفهوم من المعنى، وقد جاء صريحا في {سَأَلَ سَائِلٌ} قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} والضمير في {إِلَيْهِ} يعود على السماء على لغة من يذكرها، أو على مكان الملك الذي يرجع إليه، أو على اسم الله تعالى؛ والمراد إلى الموضع الذي أقره فيه، وإذا رجعت إلى الله فقد رجعت إلى السماء، أي إلى سدرة المنتهى؛ فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض ومنها ينزل ما يهبط به إليها؛ ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم. والهاء في {مِقْدَارُهُ} راجعة إلى التدبير؛ والمعنى: كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة من سني الدنيا؛ أي يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى ملائكته، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى، ثم كذلك أبدا؛ قاله مجاهد. وقيل: الهاء للعروج. وقيل: المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة. وقيل: المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع، في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة. وقال ابن عباس: المعنى كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة؛ لأن النزول خمسمائة والصعود خمسمائة. وروي ذلك عن جماعة من المفسرين، وهو اختيار الطبري؛ ذكره المهدوّي. وهو معنى القول الأول. أي أن جبريل لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم من أيامكم؛ ذكره الزمخشري. وذكر الماوردّي على ابن عباس والضحاك أن الملك يصعد في يوم مسيرة ألف سنة. وعن قتادة أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة؛ فيكون مقدار
نزوله خمسمائة سنة، ومقدار صعوده خمسمائة على قول قتادة والسّدي. وعلى قول ابن عباس والضحاك: النزول ألف سنة، والصعود ألف سنة. {مِمَّا تَعُدُّونَ} أي مما تحسبون من أيام الدنيا. وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين؛ لأن ذلك ليس عند الله. والعرب قد تعّبر عن مدة العصر باليوم؛ كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وليس يريد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعّبر عن كل واحد من الشطرين بيوم. وقرأ ابن أبي عبلة: {يَعْرُجُ} على البناء للمفعول. وقرئ: {يَعُدُّونَ} بالياء. فأما قوله تعالى: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فمشكل مع هذه الآية. وقد سأل عبدالله بن فيروز الديلمّي عبدالله بن عباس عن هذه الآية وعن قوله: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال: أيام سمّاها سبحانه، وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. ثم سئل عنها سعيد بن المسّيب فقال: لا أدري. فأخبرته بقول ابن عباس فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني. ثم تكلم العلماء في ذلك فقيل: إن آية {سَأَلَ سَائِلٌ} هو إشارة إلى يوم القيامة، بخلاف هذه الآية. والمعنى: أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة؛ قاله ابن عباس. والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر. قال:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنه ما مقداره ألف سنة ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: أوقات القيامة مختلفة، فيعّذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مّدته خمسون ألف سنة. وقيل: مواقف القيامة خمسون موقفا؛ كل موقف ألف سنة. فمعنى: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي مقدار
وقت، أو موقف من يوم القيامة. وقال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت؛ فالمعنى: تعرج الملائكة والروح إليه في وقت كان مقداره ألف سنة، وفي وقت آخر كان مقداره خمسين ألف سنة. وعن وهب بن منّبه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: ما بين أسفل الأرض إلى العرش. وذكر الثعلبّي عن مجاهد وقتادة والضحاك في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أراد من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها جبريل. يقول تعالى: يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقوله: {إِلَيْهِ} يعني إلى المكان الذي أمرهم الله تعالى أن يعرجوا إليه. وهذا كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أراد أرض الشام. وقال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ} أي إلى المدينة. وقال أبو هريرة قال النبّي صلى الله عليه وسلم: "أتاني من ربي عز وجل برسالة ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى على الأرض لم يرفعها بعد" .
الآية: [6] {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي علم ما غاب عن الخلق وما حضرهم. و {ذَلِكَ} بمعنى أنا. حسبما تقدم بيانه في أول البقرة. وفي الكلام معنى التهديد والوعيد؛ أي أخلصوا أفعالكم وأقوالكم فإني أجازي عليها.
الآية: [7] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ}
الآية: [8] {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}
الآية: [9] {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}
قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {خَلَقَهُ} بإسكان اللام. وفتحها الباقون. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم طلبا لسهولتها. وهو فعل ماض في موضع خفض نعت لـ {شَيْءٍ} . والمعنى على ما روي عن ابن عباس: أحكم كل شيء حلقه، أي جاء به على ما أراد، لم يتغير عن إرادته. وقول آخر - أن كل شيء خلقه حسن؛ لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله؛ وهو دال على خالقه. ومن أسكن اللام فهو مصدر عند سيبويه؛ لأن قوله: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} يدل على: خلق كل شيء خلقا؛ فهو مثل: {صُنْعَ اللَّهِ} و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . وعند غيره منصوب على البدل من {كُلَّ} أي الذي أحسن خلق كل شيء. وهو مفعول ثان عند بعض النحويين، على أن يكون معنى: {أَحْسَنَ} أفهم وأعلم؛ فيتعّدى إلى مفعولين، أي أفهم كل شيء خلقه. وقيل: هو منصوب على التفسير؛ والمعنى: أحسن كل شيء خلقا. وقيل: هو منصوب بإسقاط حرف الجر، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه. وروي معناه عن ابن عباس و {أَحْسَنَ} أي أتقن وأحكم؛ فهو أحسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها. ومن هذا المعنى قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قال: أتقنه. وهو مثل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان. ويجوز: {خَلَقَهُ} بالرفع؛ على تقدير ذلك خلقه. وقيل: هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى؛ والمعنى: حسن خلق كل شيء حسن. وقيل: هو عموم في اللفظ والمعنى، أي جعل كل شيء خلقه حسنا، حتى جعل الكلب في خلقه حسنا؛ قاله ابن عباس. وقال قتادة: في است القرد حسنة.
قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} يعني آدم. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} تقّدم في {المؤمنون} وغيرها. وقال الزجاج: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضعيف.
وقال غيره: {مَهِينٍ} لا خطر له عند الناس. {ثُمَّ سَوَّاهُ} رجع إلى آدم، أي سوى خلقه. {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} ثم رجع إلى ذريته فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} وقيل: ثم جعل ذلك الماء المهين خلقا معتدلا، وركب فيه الروح وأضافه إلى نفسه تشريفا. وأيضا فإنه من فعله وخلقه كما أضاف العبد إليه بقوله: {عَبْدي} . وعبر عنه بالنفخ لأن الروح في جنس الريح. وقد مضى هذا مبينا في {النساء} وغيرها. {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ثم أنتم لا تشكرون بل تكفرون.
الآية: [10] {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} هذا قول منكري البعث؛ أي هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. وأصله من قول العرب: ضل الماء في اللبن إذا ذهب. والعرب تقول للشيء غلب عليه حتى فيه أثره: قد ضّل. قال الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الأتيّ به فضلَّ ضلالا
وقال قطرب:
معنى ضللنا غبنا في الأرض.
وأنشد قول النابغة الذبياني:
فآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأ ابن محيصن ويحيى بن يعمر: {ضَلَلْنَا} بكسر اللام، وهي لغة. قال الجوهري: وقد ضللت أضل قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون: {ضَلَلْتُ} - بكسر اللام - أضل. وهو ضال تال، وهي الضلالة والتلالة. وأضّله أي أضاعه وأهلكه. يقال: أضل الميّت إذا دفن. قال:
فآب مضلوه...... البيت
ابن السكيت. أضللت بعيري إذا ذهب منك. وضللت المسجد والدار: إذا لم تعرف موضعهما. وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى له. وفي الحديث "لعلي أضل الله" يريد أضل عنه، أي أخفى عليه، من قوله تعالى: {إِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أي خفينا. وأضله الله فضل؛ تقول: إنك تهدي الضال ولا تهدي المتضال. وقرأ الأعمش والحسن: {صَلَلْنَا} بالصاد؛ أي أنتنا. وهي قراءة علّي بن أبي طالب رضي الله عنه. النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يقال: صل اللحم وأصل، وخّم وأخّم إذا أنتن. الجوهري: صّل اللحم يصل - بالكسر - صلولا، أي أنتن، مطبوخا كان أو نيئا. قال الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدره ... لا يفسد اللحم لديه الصلول
قوله تعالى: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وأصل مثله. {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟ ويقرأ: {أئنا} . النحاس: وفي هذا سؤال صعب من العربية؛ يقال: ما العامل في {إذا} ؟ و {إن} لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. والسؤال في الاستفهام أشّد؛ لأن ما بعد الاستفهام أجدر؛ ألا يعمل فيما قبله من {إن} كيف وقد اجتمعا. فالجواب على قراءة من قرأ: {إنا} أن العامل {ضللنا} ، وعلى قراءة من قرأ: {أإنا} أن العامل مضمر، والتقدير أنبعث إذا متنا. وفيه أيضا سؤال آخر، يقال: أين جواب {إذا} على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك أن بعدها فعلا ماضيا؛ فلذلك جاز هذا. {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي ليس لهم جحود قدرة الله تعالى عن الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته ولكنهم اعتقدوا أن لا حساب عليهم، وأنهم لا يلقون الله تعالى.
الآية: [11] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
فيه مسألتان:
الأولي- قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفيهم وأنه يعيدهم. {يَتَوَفَّاكُمْ} من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعا. يقال: توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه. وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته. {مَلَكُ الْمَوْتِ} واسمه عزرائيل ومعناه عبدالله؛ كما تقدم في "البقرة". وتصرفه كله بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه. وروي في الحديث أن "البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت" كأنه يعدم حياتها؛ ذكره ابن عطية.
قلت: وقد روي خلافه، وأن ملك الموت يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة. روى جعفر بن محمد عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارفق بصاحبي فإنه مؤمن" فقال ملك الموت عليه السلام: "يا محمد، طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق. واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها" . قال جعفر بن علّي: بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلوات؛ ذكره الماوردي. وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علّي بن ثابت البغدادي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أبو محمد عبدالله بن عثمان الصفار قال حّدثنا أبو بكر حامد المصري قال حّدثنا يحيى ابن أيوب العلاف قال حدثنا سليمان بن مهير الكلابّي قال: حضرت مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله: أبا عبدالله، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ قال: فأطرق مالك طويلا ثم قال: ألها أنفس؟ قال نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها؛ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} قال ابن عطية بعد ذكره الحديث وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم. فخلق الله تعالى ملك
تفسير سورة الأحزاب
الرابعة- لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها، ولذلك قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} . وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم {طَراً زَوَّجْنَاكَهَا} . ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول. إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وسيأتي.الخامسة- المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه، وقد تقدم خبره في أول السورة. وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد. ورد مكة في شغل له، فقال: ما أسمك يا غلام؟ قال: زيد، قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمك؟ قال: سعدى، وكنت في أخوالي طي، فضمه إلى صدوه. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبدالله، فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا. فقال: "أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده" فبعث إلى زيد وقال: "هل تعرف هؤلاء"؟ قال نعما هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فأي صاحب كنت لك"؟ فبكى وقال: لم سألتني عن ذلك؟ قال: "أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت" فقال: ما أختار عليك أحدا. فجذبه عمه وقال: زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك! فقال: أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا أني وارث وموروث". فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ونزل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
تفسير سورة سبأ
سورة سبأمقدمة السورة
مكية في قول الجميع، إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآية. فقالت فرقة: هي مكية، والمراد المؤمنون أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس. وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة؛ كعبدالله بن سلام وغيره؛ قال مقاتل. وقال قتادة: هم أمة محمد
صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون أية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } { الَّذِي } في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه "الحمد لله أهل الحمد" بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله؛ إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } قيل: هو قوله تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } . وقيل: هو قوله { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فهو المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. { وَهُوَ الْحَكِيمُ } في فعله { الْخَبِيرُ } بأمرخلقه.
الآية: [2] { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }
قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } أي ما يدخل فيها من قطر وغيره، كما قال: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ } من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وغيره { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب { وَمَا يَنْزِلُ } بالنون والتشديد. { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة وأعمال العباد؛ قاله الحسن وغيره { الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } .
الآية: [3] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
الآية: [4] { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } قيل: المراد أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } { قُلْ } يا محمد { بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرؤون { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أن يبعث لخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله: { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . وقرأ حمزة والكسائي: { عَلاَّم الْغَيْبِ } على المبالغة والنعت. { يَعْزُبُ عَنْهُ } أي لا يغيب عنه، { يَعْزُبُ } أيضا. قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة. يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب. { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } أي قدر نملة صغيرة. { فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ } وفي قراءة الأعمش {ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ} بالفتح فيهما عطفا على {ذرة} . وقراءة العامة
بالرفع عطفا على { مِثْقَالُ } . { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء .{ لِيَجْزِيَ } منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي. { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بالثواب، والكافرين بالعقاب. { أُولَئِكَ } يعني المؤمنين. { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم. { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة.
الآية: [5] { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا } أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. { مُعَاجِزِينَ } مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم؛ فهؤلاء { لَهُمْ عَذَابٌ } يقال: عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } { أَلِيمٌ } قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز، فإن الله هو العذاب، قال الله تعالى: { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ } وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } يرفع الميم هنا وفي {الجاثية} نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو { مُعْجِزِينَ } مثبطين؛ أي ثبطوا الناس عن الإيمان بالمعجزات وآيات القرآن.
الآية: [6] { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل: { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل جميع المسلمين، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على { لِيَجْزِيَ } أي ليجزي وليرى، قال الزجاج والفراء. وفيه نظر،
لأن قوله: { لِيَجْزِيَ } متعلق بقول: { لَتَأْتِيَنَّكُمْ السَّاعَةُ } ، ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري.
قلت: وإذا كان { لِيَجْزِيَ } متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن عطف { وَيَرَى } عليه، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. { الَّذِِي } في موضع نصب على أنه مفعول أول لـ {يرى} {وهو الحق} مفعول ثان، و {هو} فاصلة. والكوفيون يقولون {هو} عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و { الْحَقُّ } خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني، والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الألف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قوله: كان أخوك هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الألف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله: { الْعَزِيزِ } على أنه لا يغالب. وبقوله: { الْحَمِيدِ } على أنه لا يليق به صفة العجز.
الآية: [7] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }
قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } هذا إخبار عمن قال: { لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي هل نرشدكم إلى رجل ينبكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد. البلي في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري: "فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قولهم: { هَلْ نَدُلُّكُمْ
عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } فنكروه لهم عرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على. مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و {إذا} في موضع نصب والعامل فيها { مُزِّقْتُمْ } قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها { يُنَبِّئُكُمْ } ، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد {إن} ، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ومعمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا؛ التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه { مُزِّقْتُمْ } ؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل {إذا} للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع {إذا} للمجازاة في الشعر. ومعنى { مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء؛ يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق.
الآية: [8] { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ }
قوله تعالى: { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة {مريم} عند قوله تعالى: { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } مستوفى. { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } . والافتراء الاختلاق. { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. { بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ } أي ليس الأمر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
الآية: [9] { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي { إِنْ يشَأْ يَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يُسْقِطْ } بالياء في الثلاث؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص { كِسَفاً } بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في {الإسراء} وغيرها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ } أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا {لآية} أي دلالة ظاهرة. { لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.
الآية: [10] { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً } بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. { آتَيْنَا } أعطينا. { فَضْلاً } أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } . الرابع - القوة، قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } الخامس::تسخير
الجبال والناس، قال الله تعالى: { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } . السادس: التوبة، قال الله تعالى: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } الآية. الثامن: إلانة الحديد، قال تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } . التاسع: حسن الصوت، وكان، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: { َزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: "لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" . قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى: { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالأِشْرَاقِ } قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل. قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: { أَوِّبِي مَعَهُ } أي رجعي معه؛ من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها،
وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. { وَالطَّيْرَ } بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في { أَوِّبِي } وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع { يَا جِبَالُ } أي نادينا الجبال والطير، قاله سيبويه. وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً } . النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجيين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثني بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له:"ما قولك في هذا الملك داود"؟ فقال له الملك "نعم العبد لولا خلة فيه" قال داود: "وما هي"؟ قال:"يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله". فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت
معيشة منزله، وتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر.
مسألة- في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" . وقد مضى هذا في {الأنبياء} مجودا والحمد لله.
الآية: [11] { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قوله تعالى: { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي {يقصم} بالقاف، والفاء أيضا رواية. { فِي السَّرْدِ } السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشماخ:
فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم ... كما تابعت سرد العنان الخوارز
والسراد: السير الذي يخرز به؛ قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا ... كما خرج السراد من النقال
ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سردي أي جريء، قال: لأنه يمضى قوما. وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده ... لينال طول العيش غير مروم
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داودُ أو صَنَعُ السوابغ تبَّع
قوله تعالى: { وَاعْمَلُوا صَالِحاً } أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور.
الآية: 12 { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }
قوله تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: {الريحُ} بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير
الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل . { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } . وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إما من الجن وإما من الإنس -: نحن نزلنا وما بنيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ... مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم ... بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل رفعة ... وإن نسوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ... مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم ... متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله تعالى: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } القطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدته عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته أو قال الخليل: القطر: النحاس المذاب.
قلت: دليله قراءة من قرأ: {من قطرٍ آن}. { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي بأمره { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان. { نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ السَّعِيرِ } أي في الآخرة، قال أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و {مَن} في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.
الآية: [13] { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
فيه ثماني مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم. وقال الضحاك: { مِنْ مَحَارِيبَ } أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال عدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أوكالـ ... ـبيض في الروض زهره مستنير
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: { إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } وقوله: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } أي أشرف عليهم. وفي الخبر "أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح "والتهليل لجة واحدة.
الثانية- قوله تعالى: { وَتَمَاثِيلَ } جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياه. ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور" . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {نوح} عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.
الثالثة- حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه.
قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
الرابعة- التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: { وَتَمَاثِيلَ } . وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: { وَتَمَاثِيلَ } فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقتر بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: { مَا يَشَاءُ } فاقتران المشية به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور. المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
الخامسة- مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة، ثم جاء "إلا ما كان رقما في ثوب" فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: "أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا" . ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهية لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قال ابن العربي.
السادسة- روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا" . قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه،
ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل" . وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: "أخريه عني" قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.
السابعة- قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم "ما كان رقما في ثوب"، لحديث سهل بن حنيف.
قلت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن. وقوله: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم" ولم يستثن. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم :"أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" . يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيء كان. وقد قال جل وعز: { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } على ما تقدم بيانه فأعلمه.
الثامنة- وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع
ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذاك، والله أعلم.
قوله تعالى: { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع؛ ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد؛ أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:
تروج على آل الملحق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
ويروى أيضا:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح... ... ...
ذكره النحاس.
{ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى { رَاسِيَاتٍ } ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبدالله بن الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقول:
كالجوابي لا تني مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد.
قوله تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } قد مضى معنى الشكر في {البقرة} وغيرها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: "ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود" قال فقلنا: ما هن. فقال: "العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية" . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: "يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك" فقال: "يا داود الآن عرفتني". وقد مضى هذا المعنى في سورة {إبراهيم}. وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى: {أعملوا آل داود شكرا} قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني - قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر - قال نعم، فكفاه. وقال الزهري: {أعملوا
آل داود شكرا} أي قولوا الحمد لله. و {شكرا} نصب على جهة المفعول؛ أي اعملوا عملا هو الشكر. وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } وهو المراد بقوله { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } . وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي } أن المراد بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه؛ فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" . انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان؛ فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم.
قوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } يحتمل أن يكون، مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل؛ فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } . فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.
الآية: [14] { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }
قوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ } أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } وذلك أنه كان متكئا على المنسأة "وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري" فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ } ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات؛ فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به؛ فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا؛ فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا؛ فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ قال: ولأي شيء أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم
الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد؛ ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت؛ فقال: اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب؛ فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس { تَبَيَّنَتِ الإنس أَنْ لَوْ الْجِنُّ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ } . وقرأ يعقوب في رواية رويس { بَُتُُيَّنَتِ الْجِنُّ } غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو { تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف، لغتان، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنساة من كبر ... فقدتباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر فهمز وفتح:
ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال آخر:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته ... بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
وقال آخر فسكن همزها:
وقائم قد قام من تكأته ... كقومة الشيخ إلى منسأته
وأصلها من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء وساق. وقال طرفة:
أمون كألواح الإران نسئتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة: هي العصا، ثم قرأ { مِنْسَأَتَهُ } أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم، وروي عن صعيد بن جبير {مِن} مفصولة {سأته} مهموزة مكسورة التاء؛ فقيل: إنه من سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همز سية القوس عن رؤية. قال الجوهري: سية القوس ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض عن الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز "سية القوس" وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها أرضة؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ {دابة الأَرضَ} بفتح الراء، وهو جمع الأرضة؛ ذكره الماوردي. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة "بالتحريك": دويبة تأكل الخشب؛ يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا "بالتسكين" فهي مأروضة إذا أكلتها.
قوله تعالى: { فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ } قال الزجاج: أي تبينت الجن موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خر تبينت، الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. و{أن} في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب على، تقدير حذف اللام. { مَا لَبِثُوا } أقاموا. { فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته. ولا سقيم
إلا شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين؛ ذكره الماوردي.
قلت: وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه" وقد ذكرنا هذا الحديث في {آل عمران} وذكرنا بناءه في {سبحان}.
الآية: [15] { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: "ما فعل الغطيفي"؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: "ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة
ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة" . وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {لسبأَ} بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده { فِي مَسَاكِنِهِمْ } . النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في {النمل} زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيلها العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري {لسبأْ} بإسكان الهمزة. {في مساكنهم} قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص {مسكنِهم} موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت "مسكنهم" كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ } فجاء بالسمع موحدا. وكذا { مَقْعَدِ صِدْقٍ } و {مَسْكِن} مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. {آية} اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. { جَنَّتَانِ } يجوز
أن يكون بدلا من { آيَةٌ }، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على { آيَةٌ } وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب "آية" على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها .{ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ } أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. { مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ } أي من ثمار الجنتين. { وَاشْكُرُوا لَهُ } يعني على ما رزقكم. { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. { وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول {البقرة}. وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
الآية: [16] { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ }
قوله تعالى: { فَأَعْرَضُوا } يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم "أكفر من حمار" هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: "تفرقوا أيادي سبا". وقيل: الأوس والخزرج منهم. { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي
أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام "بالضم" أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة "بالفتح". والعرم العارم؛ عن الجوهري.
قوله تعالى: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } وقرأ أبو عمرو { أُكُلٍ خَمْطٍ } بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } بالتنوين على أنه نعت لـ {ـأكُل} أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون
تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى: { وَأَثْلٍ } قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ "منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة
وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ويحتمل أن يرجع قوله { قَلِيلٍ } إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية: [17] { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ }
قوله تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا } أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع { ذَلِكَ } نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. { وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } قراءة العامة {يُجَازَى} بياء مضمومة وزاي مفتوحة، { الْكَفُورَ } رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: {نُجازِي} بالنون وكسر الزاي، {الكفورَ} بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله { جَزَيْنَاهُمْ } ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا.
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "من حوسب هلك" فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } قال :"إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك" . وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا } وفي الثاني: { وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } ومعنى {يُجَازى} : يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى {جزيناهم}. وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان {جازى} يقع بمعنى {جزى}. مجازا.
الآية: [18] { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }
قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً } قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون { بَارَكْنَا فِيهَا } بكثرة العدد. { قُرىً ظَاهِرَةً } قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى { ظَاهِرَةً }: متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل { ظَاهِرَةً } أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها { ظَاهِرَةً } لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء
ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. { سِيرُوا فِيهَا } أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } ظرفان { آمِنِينَ } نصب على الحال. وقال: { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
الآية: [19] { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
قوله تعالى: { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ } فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة { رَبَّنَا } بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. { بَاعِدْ } سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: { رَبَّنَا } كذلك على الدعاء {بَعَد} من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم
ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: { رَبُّنَا } رفعا {باعَدَ} بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس { رَبَّنَا بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري { بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا }{ رَبَّنَا } نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: { بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ورفع {بين} بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب {بين} على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. { وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أي بكفرهم { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. { شَكُورٍ } لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في {البقرة}.
الآية: [20] { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } بالتخفيف { إِبْلِيسُ } بالرفع { ظَنَّهُ } بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي "صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: { ظَنَّه } نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } وقال: { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: {صدق} بالتشديد { ظَنَّه } بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج {صدَق عليهم} بالتخفيف {إبليسَ} بالنصب { ظَنَّه } بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل {صدق} {إبليسَ} مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و{على} متعلقة بـ {صدق}، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } برفع إبليس والظن، مع التخفيف في {صدق} على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } . وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين
والنار تحرق كل شيء { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. { فَاتَّبَعُوهُ } قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. { إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ "من" على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.
الآية: [21] { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم
بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: { أَيْنَ شُرَكَائِيَ } على قولكم وعندكم، وليس قوله: { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } جواب { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ { إِلاَّ } بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: { كَانَ } زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} وغيرها. وقرأ الزهري { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } على ما لم يسم فاعله. { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية: [22] { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }
قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
الآية: [23] { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
قوله تعالى: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ } أي شفاعة الملائكة وغيرهم. { عِنْدَهُ } أي عند الله. { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } قراءة العامة { أَذِنَ } بفتح الهمزة؛ لذكر الله تعالى أولا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { أَذِنَ } بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و{مَن} يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس: خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله؛ كما قال: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: { قَالُوا الْحَقَّ } وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } فله أن يحكم في عباده بما
يريد. ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي الكلام إضمار؛ أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل: هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى؛ أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقول كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض" قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث، أمره الله تعالى". وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } قال: كان لكل قبيل من الجن مقعه من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة،
وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة؛ حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من حيث السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار! قال فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ها هنا جاء الحدث؛ فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في صورة {الحجر}، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة {الجن} بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة. وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد: في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا
حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق.وقراءة العامة { فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } . وقرأ ابن عباس { فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهم } مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرأ الحسن: {فُزغَ} مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا؛ وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى {فُزغَ} بالراء والغين المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة. وعنهما أيضا "فرغ" بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا {فُرَّغِ} بالتشديد.
الآية: [24] { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }
قوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال: قل يا محمد للمشركين { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات؛ أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع. { وَالأَرْضِ } أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا: إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد. { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال
وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض. { أَوْ إِيَّاكُمْ } معطوف على اسم {إنّ} ولو عطف على الموضع لكان {أو أنتم} ويكون { لَعَلَى هُدىً } للأول لا غير وإذا قلت: { أَوْ إِيَّاكُمْ } كان للثاني أولى، وحذفت من الأول أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } . و{ أَوْ } عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. وقال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والربابا
يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما
الآية: [25] { قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: { قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا } أي اكتسبنا، { وَلا نُسْأَلُ } نحن أيضا { عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } والله مجازي الجميع. فهذه آية مهادنة ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف وقيل: نزل هذا قبل آية السيف.
الآية: [26] { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ }
قوله تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يريد يوم القيامة { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال { وَهُوَ الْفَتَّاحُ } أي القاضي بالحق { الْعَلِيمُ } بأحوال الخلق. وهذا كله منسوخ بآية السيف.
الآية: [27] { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } يكون { أَرُونِيَ } هنا من رؤية القلب، فيكون { شُرَكَاءَ } المفعول الثالث، أي عرفوني الأصنام والأوثان التي، جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء، فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها. وجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون { شُرَكَاءَ } حالا. { كَلاَّ } أي ليس الأمر كما زعمتم. وقيل: إن { كَلاَّ } رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال: أروني الذين ألحقتم به شركاء. قالوا: هي الأصنام. فقال كلا، أي ليس له شركاء { بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
الآية: [28] { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
الآية: [29] { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
الآية: [30] { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ }
قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ } أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة؛ في الكلام تقديم وتأخير. وقال الزجاج: أي وما أرسلنا إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقيل: معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام. والهاء للمبالغة. وقيل: أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه:
كف الثوب، لأنه ضم طرفيه. { بَشِيراً } أي بالجنة لمن أطاع. { وَنَذِيراً } من النار لمن كفر. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } لا يعلمون ما عند الله وهم المشركون؛ وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا. { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } يعني موعدكم لنا بقيام الساعة. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فقال تعالى: { قُلْ } أي قل لهم يا محمد { لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } فلا يغرنكم تأخيره. والميعاد الميقات. ويعني بهذا الميعاد وقت البعث وقيل وقت حضور الموت؛ أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون حقيقة قولي. وقيل: أراد بهذا اليوم يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا في حكم الله تعالى. وأجاز النحويون { مِيعَادُ يَوْمٌ } على أن {ميعادٌ} ابتداء و {يومٌ} بدل منه، والخبر {لكم} . وأجازوا {ميعاد يوماً} يكون ظرفا، وتكون الهاء في {عنه} ترجع إلى {يوم} ولا يصح {ميعادُ يومَ لا تستأخرون} بغير تنوين، وإضافة {يوم} إلى ما بعده إذا قدرت الهاء عائدة على اليوم، لأن ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في الجملة. ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم.
الآية: [31] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ }
الآية: [32] { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ }
الآية: [33] { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يريد كفار قريش. { لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } قال سعيد عن قتادة: { وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال { وَلَوْ تَرَى } يا محمد { ِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب "لو" محذوف؛ أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا. ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} في الدنيا من الكافرين {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة والرؤساء {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة {لَوْلا أَنْتُمْ } ومن العرب من يقول {لولاكم} حكاها سيبويه؛ تكون { لَوْلا } تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز "لولاكم" لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا .{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ } هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم. {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أي مشركين مصرين على الكفر .{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما،
وهو كقوله تعالى: { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ } فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلى همي
أي نمت فيه. ونظيره: { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } وقرأ قتادة: {بل مكرُ الليلَ والنهارَ} بتنوين {مكر} ونصب { الليلَ والنهارَ } ، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرأ سعيد بن جبير {بل مكَرُّ} بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه { أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ } كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير { بل مكرُ الليلَ والنهارَ } قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما كقوله { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ } وقرأ راشد {بل مكَرَّ الليل والنهار} بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس: { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً } أي أشباها وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد؛ وأنشد:
أينما تجعلون إلي ندا ... وما أنتم لذي حسب نديد
وقد مضى هذا في {البقرة}. { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ } أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... علي حراصا لو يسرون مقتلي
وروي { يَشْرُونَ } . وقيل: { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ } أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم. قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة {يونس، وآل عمران}. وقيل: إظهارهم الندامة قولهم: { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } .
قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } الأغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال: ما له ؟؟ وغل. والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع { الَّذِينَ كَفَرُوا } إليهم. وقيل: تم الكلام عند قوله: { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } ثم ابتدأ فقال: { وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ } بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا.
الآية: [34] { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
الآية: [35] { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
الآية: [36] { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
الآية: [37] { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }
الآية: [38] { وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }
قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً } أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك. { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } أي يوسعه لمن يشاء { وَيَقْدِرُ } أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال تأكيدا: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع {قُرْبَى} نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا. وزعم الفراء أن التي تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } .
قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ! في {آل عمران
ومريم والفرقان}. و{مَن} في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في { تُقَرِّبُكُمْ } . النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله { إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يكون منصوبا عنده بـ {ينفع} . وأجاز الفراء أن يكون {مَن} في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } يعني قوله: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.
وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } قراءة العامة { جَزَاءُ الضِّعْفِ } بالإضافة. وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم {جزاءَ} منونا منصوبا {الضُعف} رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير. { جَزَاءُ الضِّعْفِ } على أن يجازوا الضعف. و { جَزَاءٌ الضِّعْفِ } مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرأ الجمهور { فِي الْغُرُفَاتِ } على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله: { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً } . الزمخشري: وقرئ { فِي الْغُرُفَاتِ } بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف {في الغرفة} على التوحيد؛ لقوله تعالى: { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ } والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف
من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك. { آمِنُونَ } أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان. { وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا } في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا. { مُعَاجِزِينَ } معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. { أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.
الآية: [39] { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } كرر تأكيدا. { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قال لي أنفق أنفق عليك..." الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر.
مسألة: روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل
من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية" . قال عبدالحميد: قلت لابن المنكدر:
"ما وقى الرجل عرضه"؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبدالحميد وثقه ابن معين.
قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء" . وقد مضى هذا المعنى في {الأعراف} مستوفى.
قوله تعالى: { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال: { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال :{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } .
الآية: [40] { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون }
الآية: [42] { قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } هذا متصل بقوله: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ } . أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب{ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} قال سعيد عن قتادة: هذا
استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين .{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي تنزيها لك. { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً }
الآية: [42] { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
قوله تعالى: { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً } أي شفاعة ونجاة. { وَلا ضَرّاً } أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.
الآية: [43] { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ }
قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } يعني القرآن. { قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ } يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. { يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ } أي أسلافكم من
الآلهة التي كانوا يعبدونها. { وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً } يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق. { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ } فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
الآية: [44] { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ }
الآية: [45] { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
قوله تعالى: { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق :{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. { وَمَا بَلَغُوا } أي ما بلغ أهل مكة { مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } تلك الأمم. والمعشار والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه. وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء. الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري.
الآية: [46] { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ } أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. { بِوَاحِدَةٍ } أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } {أَنْ} في موضع خفض على البدل من { وَاحِدَة } ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } { مَثْنَى وَفُرَادَى } أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي. وقيل: إنما قال: { مَثْنَى وَفُرَادَى } لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم. { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } . وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من
فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورَهْطُكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال: "يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي"؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
الآية: [47] { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قوله تعالى: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي جعل على تبليغ الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.
الآية: [48] { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب.
وقرأ عيسى بن عمر { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر {إن} ومثله { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } وقرئ: { الْغُيُوبِ } بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.
الآية: [49] { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }
قوله تعالى: { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ } قال سعيد عن قتادة: يريد القرآن. النحاس: والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. { وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ } قال قتادة: الشيطان؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا { وَمَا يُعِيدُ } فـ { وَمَا } نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء، كقوله: { فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } أي لا ترى.
الآية: [50] { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي. وقراءه العامة {ضَللت} بفتح اللام. وقرأ يحيى بن وثاب وغيره: { قُلْ إِنْ ضَلِلت } بكسر اللام وفتح الضاد من {أضَلُّ} ، والضلال والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت "بفتح اللام" أضل
"بكسر الضاد"، قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون {ضَلِلت} بالكسر {أضِل} ، أي إثم ضلالتي على نفسي. { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } من الحكمة والبيان { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
الآية: [51] { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ }
قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ } ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى: لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس. الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم؛ وقاله قتادة. وقال ابن مغفل: إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد ابن جبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم. { فَلا فَوْتَ } فلا نجاة؛ قاله ابن عباس. مجاهد: فلا مهرب. { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي من القبور. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس: نزلت في، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم؛ فهو الأخذ من مكان قريب.
قلت: وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب: "فبينا هم
كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا إلى المشرق؛ وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل: { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة؛ يقال: فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار: "إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع". ومن قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال: هو فزع يوم القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل: { أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } من جهنم فألقوا فيها.
الآية: [52] { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قوله تعالى: { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي القرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. الحسن: بالبعث. قتادة: بالرسول صلى الله عليه وسلم { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قال
ابن عباس والضحاك: التناوش الرجعة؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من ذلك! ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تؤوب إلي وليس ... إلى تناوشها سبيل
وقال السدي: هي التوبة؛ أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. وقيل: التناوش التناول؛ قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. قال: ومنه المناوشة في القتال؛ وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش أي ذو بطش. والتناوش. التناول: والانتياش مثله. قال الراجز:
كانت تنوش العنق انتياشا
قوله تعالى: { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يقول: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة: { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } بالهمز. النحاس: وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة؛ لأن { التَّنَاوُشُ } بالهمز البعد، فكيف يكون: وأنى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } والأصل {وُقّتت} لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال: يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد، يقال: نأشت الشيء أخذته
من بعد والنئيش: الشيء البطيء. قال الجوهري: التناؤش "بالهم" التأخر والتباعد. وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته؛ فانتأش. ويقال: فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال آخر:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر
وقال الفراء: الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب؛ مثل: ذمت الرجل وذأمته أي عبته. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال: { وَأَنَّى لَهُمُ } قال: الرد، سألوه وليس بحين رد.
الآية: [53] { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قوله تعالى: { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ } أي بالله عز وجل وقيل: بمحمد { مِنْ قَبْلُ } يعني في الدنيا. { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن؛ قال قتادة. وقيل: { وَيَقْذِفُونَ } أي يرمون في القرآن فيقولون: سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل: في محمد؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد. وقيل: أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرأ مجاهد { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } غير مسمى الفاعل، أي يرمون به. وقيل: يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم.
الآية: [54] { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }
قوله تعالى: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب. وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل {حُوِل} فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ } الأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة. { مِنْ قَبْلُ } أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة. { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ } أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. قيل: في الدين والتوحيد، والمعنى واحد. { مُرِيبٍ } أي يستراب به، يقال: أراب الرجل أي صار ذا ريبة، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال: يقال شك مريب؛ كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر؛ في التأكيد. ختمت السور، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة فاطر
سورة فاطربسم الله الرحمن الرحيم
الآية: {1} { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } يجوز في {فاطر} ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد مثله وكذا { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ } . والفاطر: الخالق. وقد مضى في {يوسف} وغيرها. والفطر. الشق عن الشيء؛ يقال: فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير طلع، فهو بعير فاطر. وتفطر الشيء تشقق. وسيف فطار، أي فيه تشقق. قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها. والفطر. حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر السموات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة. { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ } لا يجوز فيه التنوين، لأنه لما مضى. { رُسُلاً } مفعول ثان، ويقال على إضمار فعل؛ لأن {فاعلا} إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا، وإعمال على أنه مستقبل حذف التوين منه تخفيفا. وقرأ الضحاك { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } على الفصل الماضي. { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً } الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ الحسن: {جَاعلُ الملائكة} بالرفع. وقرأ خليد بن نشيط {جعل الملائكة} وكله ظاهر. { أُولِي أَجْنِحَةٍ } نعت، أي أصحاب أجنحة. { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة؛ ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلا. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه
السلام له ستمائة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: "يا محمد، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته". و {أُولُو} اسم جمع لذو، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. وقد مضى الكلام في { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } في {النساء} وأنه غير منصرف { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } أي في خلق الملائكة، في قول أكثر المفسرين؛ ذكره المهدوي. وقال الحسن: { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ } أي في أجنحة الملائكة ما يشاء. وقال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت. وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب. وقال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال: "أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا" . وقال قتادة: { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم. وقيل: الخط الحسن. وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا" . وقيل: الوجه الحسن. وقيل في الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن؛ ذكره القشيري. النقاش هو الشعر الجعد. وقيل: العقل والتمييز. وقيل: العلوم والصنائع. { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من النقصان والزيادة. الزمخشري: والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق؛ من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف.
الآية: [2] { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
قوله تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } وأجاز النحويون في غير القرآن { فَلا مُمْسِكَ } على لفظ {ما} و{لها} على المعنى. وأجازوا { وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَها } وأجازوا { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ } "بالرفع" تكون {ما} بمعنى الذي. أي إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله. وقيل: ما يأتيهم به الله من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكه، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أحد على أن يرسله. وقيل: هو الدعاء: قاله الضحاك. ابن عباس: من توبة. وقيل: من توفيق وهداية.
قلت: ولفظ الرحمة يجمع ذلك إذ هي منكرة للإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة على البدل، فهو عام في جميع ما ذكر. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } . { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم.
الآية: [3] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } معنى هذا الذكر الشكر. { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } يجوز في { غَيْرُ } الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله؛ بمعنى ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع؛ لأن المعنى: هل خاق غير الله، و{من} زائدة. والنصب على الاستثناء.
والخفض، على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق غير الله جل وعز، خلق الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } بالخفض. الباقون بالرفع. { يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ } أي المطر. { وَالأَرْضِ } أي النبات. { إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } من الإفك "بالفتح" وهو الصرف؛ يقال: ما أفكك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: من الإفك "بالكسر" وهو الكذب، ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم؛ لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون معه خالقين، على ما تقدم في غير موضع.
الآية: [4] { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }
قوله تعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } يعني كفار قريش. { فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } يعزي نبيه ويسليه صلى الله عليه وسلم وليتأسى بمن قبله في الصبر. { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف "بفتح التاء" على أنه مسمى الفاعل. واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: {أَلاَ اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [الشورى: 53] الباقون {تُرْجَع} على الفعل المجهول.
الآية: [5] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة،
حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي. { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } قال ابن السكيت وأبو حاتم: { الْغَرور } الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون {الغَرور} مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق؛ لأن "غررته" متعد، والمصدر المتعدي إنما هو على فعل؛ نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها؛ قالوا: لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. وقراءة العامة { الغَرور} "بفتح الغين" وهو الشيطان؛ أي لا يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرأ أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد بن المقع {الغُرور} "برفع الغين" وهو الباطل؛ أي لا يغرنكم الباطل. وقال ابن السكيت: والغرور "بالضم" ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غار؛ مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر "غره" كاللزوم والنهوك.
الآية: [6] { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
الآية: [7] { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
قوله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } أي فعادوه ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قوله: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } الآية. وقوله: {لأقعدن لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الآية. فأخبرنا جل وعز أن الشيطان لنا عدو مبين؛ واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب
يا مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك: يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} مجودا. و {عدُوّ} في قوله: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ } يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال؛ كما قال جل وعز: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاؤوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ } كفت {ما} {إن} عن العمل فوقع بعدها الفعل. {حزبه} أي أشياعه. { لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فهذه عداوته. { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } يكون { الَّذِينَ } بدلا { مِنْ أَصْحَابِ } فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا من { حِزْبَهُ } فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } ؛ وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تم في قوله: { مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ثم ابتدأ فقال { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } . { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي لذنوبهم. { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنة.
الآية: [8] { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
قوله تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى: { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام
عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال جل وعز: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن: "هم أرق قلوبا وأبخع طاعة" ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } : معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف؛ المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وقرأ يزيد بن القعقاع: { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ } وفي { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس؛ قال أبو قلابة. ويكون، { سُوءُ عَمَلِهِ } معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج؛ رواه عمر بن القاسم. يكون "سوء عمله" تحريف التأويل. الثالث: الشيطان؛ قال الحسن. ويكون { سُوءُ عَمَلِهِ } الإغواء. الرابع: كفار قريش؛ قاله الكلبي. ويكون { سُوءُ عَمَلِهِ } الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. { فَرَآهُ حَسَناً } أي صوابا؛ قال الكلبي. وقال: جميلا.
قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال؛ لقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وقوله: { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وقال: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } وقوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ،
وقوله في هذه الآية: { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم؛ أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن: { فَلا تَذْهَبْ } بضم التاء وكسر الهاء { نَفْسَكَ } نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان. { حَسَرَاتٍ } منصوب مفعول من أجله؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و { عَلَيْهِمْ } صلة {تذهب} ، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر؛ كما قال جرير:
مَشَقَ الهواجر لحمَهن مع السُّرى ... حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا. { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
الآية: [9] { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }
قوله تعالى: { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ } ميّت وميْت واحد، وكذا ميتة وميتة؛ هذا قول الحذاق من النحويين. وقال محمد بن يزيه: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدا، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميْت ميّت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد:
هينون لينون أيسار بنو يَسَر ... سواس مكرمة أبناء أيسار
قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميّت وميْت، وسيد وسيد. قال: { فَسُقْنَاهُ } بعد أن قال: { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ } وهو من باب تلوين الخطاب. وقال ابن عبيدة: سبيله {فَتَسُوقُه} ، لأنه قال: { فَتُثِيرُ سَحَاباً } . الزمخشري: فإن قلت: لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية؛ وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك؛ كما قال تأبط شرا:
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: {فسقنا} و{أحيينا} معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة {الرياح}. وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي {الريح} توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى .{ كَذَلِكَ النُّشُورُ } أي كذلك تحيون بعدما متم؛ من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع؛ أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا" قلت: نعم يا رسول الله. قال "فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه" وقد ذكرنا هذا الخبر في "الأعراف" وغيرها.
الآية: [10] { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }
قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها؛ لأن العزة إذا كانت تودى إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. { جَمِيعاً } منصوب على الحال. وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا.
قلت: وهذا أحسن، وروي مرفوعا على ما يأتي. { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره؛ فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ } ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لله رفعه الله" . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء. وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله { مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } : "من أراد عز الدارين فليطع العزيز . وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به؛ فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وتم الكلام. ثم تبتدئ { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله؛ لأن موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل. وقال الزجاج: يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه؛ فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله { إِلَيْهِ } أي إلى الله يصعد. وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم. وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة. وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفيه قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل ... كل قول بلا فعالٍ هباء
إن قولا بلا فعال جميل ... ونكاحا بلا ولي سواء
وقرأ الضحاك {يُصعد} بضم الياء. وقرأ. جمهور الناس {الِكلم} جمع كلمة. وقرأ أبو عبدالرحمن {الكلام} .
قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس؛ وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة؛ فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم. "والعمل الصالح يرفعه" قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث "لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة". قال ابن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف؛ فيكون قوله: { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها؛ كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي: "إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيء يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران".
قلت: ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار "أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة
إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله". فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في { يَرْفَعُهُ } ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلى أن { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب؛ فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال: { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } القرآن { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } القرآن. وقيل: تعود على الله جل وعز؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب؛ لأن العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام؛ لأن الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى؛ لأن القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الله } . وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
الثانية- ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، "وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك؛ من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود" فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: "إن الأسود شيطان" خرجه مسلم. وقد
جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } ذكر الطبري في "كتاب آداب النفوس": حدثني يونس بن عبدالأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل: { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } قال: هم أصحاب الرياء؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون {ا السَّيِّئَاتِ } مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله: { وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في {سبأ}.
الآية: [11] { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
قوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب. { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } قال: أي زوج بعضكم بعضا، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ
إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن تدبيره. { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره؛ فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي ما يكون من عمره { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في { عُمُرِهِ } ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب؛ أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير
المعمر { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة { يُنْقَصُ } بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب { يَنْقَصُ } بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شيء. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعد ولازم. وقرأ الأعرج والزهري {مِن عُمْره} بتخفيف الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحْق والسحُق. و { يَسِيرٌ } أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب. والفضل منه: يسر ولو سميت به إنسانا انصرف؛ لأنه فعيل.
الآية: [12] { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } فيه أربع مسائل:
الأولى- قال ابن عباس: { فُرَاتٌ } حلو، و { أُجَاجٌ } مر. وقرأ طلحة: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق { سَيغ شَرَابُهُ } مثل سيد وميت. { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في {النحل} الكلام فيه.
الثانية- قوله تعالى: { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما؛ لأن في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج. وقيل:
من مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
الثالث- وفي قوله: { تَلْبَسُونَهَا } ، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه؛ فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل. وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح عن أنس "فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس". الحديث.
قوله تعالى: { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في {النحل}. { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } فال مجاهد: التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة؛ كما تقدم في {البقرة}. وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } على ما آتاكم من فضله. وقيل: على ما أنجاكم من هوله.
الآية: [13] { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }
قوله تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } تقدم. { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً } تقدم في {لقمان} بيانه.
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر؛ فهو الذي يعبد. { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } يعني الأصنام. { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة؛ قاله أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة؛ وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
الآية: [14] { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
قوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا } إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم؛ كما أخبر عن عيسى بقوله: { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } هو الله جل وعز؛ أي لا أحد يخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله.
الآية: [15] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: "فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً } ، وقال: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ } ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل {الفقراء} بـ {الغنيّ} فما فائدة {الحميد} ؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر {الحميد} ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه". وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } تكون {هو} زائدة، فيكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآية: [16] { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }
الآية: [17] { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }
قوله تعالى: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } فيه حذف؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم؛ أي يفنيكم. { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أطوع منكم وأزكى. { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.أممتنع عسير تعذر .وقد مضى هذا في {إبراهيم}
الآية: [18] { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل {تَوزَر} حذفت الواو اتباعا ليزر. {وازِرةٌ} نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } فتكون { كان } بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير؛ على هذا. وخيرا فخير؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } . وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء؛ يقول: بلى يا أماه؛ فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا؛ فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } .
قوله تعالى: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: {ومن فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي إليه مرجع جميع الخلق.
الآية: [19] { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ }
الآية: [20] { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ }
الآية: [21] { وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ }
الآية: [22] { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } قال الأخفش سعيد: { وَلا } زائدة؛ والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح؛ لأن الحرور فعول من الحر، وفيه معنى التكثير، أي الحر المؤذي.
قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم" . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: "فما تجدون من الحر فمن
سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها" وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار؛ فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار؛ فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } والنار ذات حرور، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد .{ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ } قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم؛ أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: { ِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } بحذف التنوين تخفيفا؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية: [23] { إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ }
أي رسول منذر؛ فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية: [24] { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ }
قوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الآية: [25] { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
الآية: [26] { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
قوله تعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } يعني كفار قريش. { فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أنبياءهم، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. { وَبِالزُّبُرِ } أي الكتب المكتوبة. { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى، معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
الآية: [27] { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }
الآية: [28] { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } هذه الرؤية رؤية القلب والعلم؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل؛ فـ { أَنَّ } واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } هو من باب تلوين الخطاب. { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } نصبت { مُخْتَلِفاً } نعتا لـ { ثَمَرَاتٍ }. { أَلْوَانُهَا } رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل. { ثَمَرَاتٍ } لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن
رفعه؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. { بِهِ } أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد "بقسم الجيم والدال" نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد؛ قال تعالى: { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الأمر؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري { جُدَدٌ } بالضم جمع جديدة، هي الجدة؛ يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه {جَدَد } بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ } وقرئ: { وَالدَّوَابِّ } مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: { وَلا الضَّألِّينَ } لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين، فحرك ذلك أولهما، وحذف هذا آخرهما؛ قاله الزمخشري. { وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } فذكر الضمير مراعاة لـ {من} ؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة؛ مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد؛ ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال
سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب؛ أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى: { كَذَلِكَ } هنا تمام الكلام؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط
الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية – { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر؛ فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ } بالرفع { مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ } بالنصب، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآية: [29] { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }
الآية: [30] { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً } هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } قال أحمد بن يحيى: خبر { إِنَّ } { يَرْجُونَ } . { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إلى قوله { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وقوله في آخر النساء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وهناك بيناه. { إِنَّهُ غَفُورٌ } للذنوب. { شَكُورٍ } يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
الآية: [31] { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }
قوله تعالى: { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن. { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } .
الآية: [32] { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }
الآية: [33] { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
الآية: [34] { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
الآية: [35] { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } مضافا حذف كما حذف المضاف في { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم؛ فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: { وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي تزدريهم، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } قال النحاس: وقوله ثالث: يكون الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته؛ فيكون: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر؛ لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى.
قلت: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية.
الثانية- قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } أي أعطينا. والميراث، عطاء حقيقة أو مجازا؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و { الْكِتَابَ } ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. { اصْطَفَيْنَا } أي اخترنا. واشتقاقه من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا، فأبدلت التاء طاء والواو ياء. { مِنْ عِبَادِنَا } قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عباره توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وورث سليمان يرثوه. وقيل: المصطفون الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر، قال الله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } وقال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب. { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } من وقع في صغيرة. قال ابن عطية: وهذا
قول مردود من غير ما وجه. قال الضحاك: معنى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن: من أممهم، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم. والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبدالله: السابق العالم، والمقتصد المعلم، والظالم الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب. وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة، والمقتصد العارف، والسابق المحب. وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء. وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة. وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر يروى أن عابدين التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا. وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من استغنى بدينه، والسابق من استغنى بربه. وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به. وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره. وقال بعض أهل المسجد في هذا: بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط
في الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم. وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه. وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينصف. وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف؛ وهم كلهم مغفور لهم.
قلت: ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل؛ ومنه قول جابر بن حُنَي التغلبي:
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات. { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } يعني إتياننا الكتاب لهم. وقيل: ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير. وقيل: وعد الجنة لهؤلاء الثلاث فضل كبير.
الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا؛ كقوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل؛ ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته. وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدم الظالم ليدبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة