كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي
شمس الدين القرطبي
قلت: هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة. قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد؛ مثل ملك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها. وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة؛ لأن الزوج سبب للفراق.
الثامنة: - قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن محيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة؛ وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا؛ قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} ويلزم منه أن،
الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها؛ فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء. وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وهذا دليل على رفض التحديد؛ والله بحقائق الأمور عليم. وقد ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "متعها ولو بقلنسوتك". وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل علي وتظهرين الشماتة، اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال: فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها. فقالت:
متاع قليل من حبيب مفارق
فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أنى سمعت جدي - أو حدثني أبي أنه سمع جدي - يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها. وفي رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره".
التاسعة: من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز عن ابن القاسم. وقال أصبغ: لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب، والله أعلم.
العاشرة: - قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} دليل على وجوب المتعة وقرأ الجمهور {الْمُوسِعِ} بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، يقال: فلان ينفق، على قدره، أي على وسعه. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر "قدره" بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى، لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، يقول: خذ قدر كذا وقدر كذا، بمعنى. ويقرأ في كتاب الله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] وقدرها، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حركت الدال لكان جائزا. و{لمُقْتِرِ} لمقل القليل المال . و {مَتَاعَاً} نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا {بالمعروف} أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد.
الحادية عشرة: - قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله: {حَقّاً} تأكيد للوجوب. ومعنى {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين؛ فيحسنون، بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار؛ فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين. و {حَقّاً} صفة لقوله { مَتَاعَاً} أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر؛ والله أعلم.
*3*الآية: 237 {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: اختلف الناس في هذه الآية؛ فقالت فرقة منها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع؛ إذ يتناولها قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية الآية التي في "الأحزاب" لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
قلت: قول سعيد وقتادة فيه نظر؛ إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن. وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة "الأحزاب" فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض.
قوله تعالى: { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع. والنصف الجزء من اثنين؛ فيقال: نصف الماء القدح أي بلغ نصفه. ونصف الإزار الساق؛ وكل شيء بلغ نصف غيره فقد نصفه. وقرأ الجمهور "فنصف" بالرفع. وقرأت فرقة "فنصف" بنصب الفاء؛ المعنى فادفعوا نصف. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت "فنصف" بضم النون في جميع القرآن وهي لغة. وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال: نصف ونصف ونصيف،،
لغات ثلاث في النصف؛ وفي الحديث: " لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" أي نصفه. والنصيف أيضا القناع.
الثالثة: - إذا أصدقها ثم طلقها قبل الدخول ونما الصداق في يدها فقال مالك: كل عرض أصدقها أو عبد فنماؤهما لهما جميعا ونقصانه بينهما، وتواه عليهما جميعا ليس على المرأة منه شيء. فإن أصدقها عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عبدا أو دارا أو اشترت به منه أو من غيره طيبا أو شوارا أو غير ذلك مما لها التصرف فيه لجهازها وصلاح شأنها في بقائها معه فذلك كله بمنزلة ما لو أصدقها إياه، ونماؤه ونقصانه بينهما. وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه، وليس عليها أن تغرم له نصف ما قبضته منه، وإن اشترت به أو منه شيئا تختص به فعليها أن تغرم له نصف صداقها الذي قبضت منه، وكذلك لو اشترت من غيره عبدا أو دارا بالألف الذي أصدقها ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألف.
الرابعة: - لا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها وقد سمى لها أن لها ذلك المسمى كاملا والميراث، وعليها العدة.
واختلفوا في الرجل يخلو بالمرأة ولم يجامعها حتى فارقها؛ فقال الكوفيون ومالك: عليه جميع المهر، وعليها العدة؛ لخبر ابن مسعود قال: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا أن لها الميراث وعليها العدة؛ وروي مرفوعا خرجه الدارقطني وسيأتي في "النساء". والشافعي لا يوجب مهرا كاملا، ولا عدة إذا لم يكن دخول؛ لظاهر القرآن. قال شريح: لم أسمع الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق؛ وهو مذهب ابن عباس وسيأتي ما لعلمائنا في هذا في سورة "النساء" إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21].
الخامسة: - قوله تعالى : {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الآية. {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} استثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن. و"يعفون" معناه يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن. والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي،
وجب لهن عند الزوج، ولم تسقط النون مع "أن"؛ لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم، فهي ضمير وليست بعلامة إعراب فلذلك لم تسقط؛ ولأنه لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر. والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله سبحانه وتعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه؛ إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن، إذا ملكن أمر أنفسهن وكن بالغات عاقلات راشدات. وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها؛ وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز. وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا، ولا خلاف فيه فيما أعلم.
السادسة: - قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ} معطوف على الأول مبني، وهذا معرب. وقرأ الحسن "أو يعفو" ساكنة الواو، كأنه استثقل الفتحة في الواو. واختلف الناس في المراد بقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فروى الدارقطني عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وأنا أحق بالعفو منها. وتأول قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يعني نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، أي عقدة نكاحه؛ فلما أدخل اللام حذف الهاء كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] أي مأواه. قال النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب
أي أحلامهم. وكذلك قوله: {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي عقدة نكاحه. وروى الدارقطني مرفوعا من حديث قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولي عقدة النكاح الزوج". وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح. قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاوس ومجاهد،
والشعبي وسعيد بن جبير، زاد غيره ومجاهد والثوري؛ واختاره أبو حنيفة، وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلا للولي على شيء من صداقها؛ للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده. وأجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها. وأجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب، والله أعلم. ومنهم من قال هو الولي أسنده الدارقطني أيضا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، زاد غيره وعكرمة وطاوس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم. فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت، بلغت المحيض أم لم تبلغه. قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه على أبيها، والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} فذكر النسوان، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الولي فهو المراد. قال معناه مكي وذكره ابن العربي. وأيضا فإن الله تعالى قال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبين الله القسمين فقال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} أي إن كن لذلك أهلا، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الولي؛ لأن الأمر فيه إليه. وكذلك روى ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته. وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد، ولا يجوز عفوه إذا كان سفيها. فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به؛ لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم. فالجواب - أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل أب البكر يملكه خاصة دون الزوج؛ لأن المعقود عليه هو بضع البكر، ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر؛ وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي،
عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أبا أو أخا، وإن كرهت. وقرأ أبو نهيك والشعبي "أو يعفو" بإسكان الواو على التشبيه بالألف؛ ومثله قول الشاعر:
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
السابعة: - قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ابتداء وخبر، أو الأصل تعفووا أسكنت الواو الأولى لثقل حركتها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وهو خطاب للرجال والنساء في قول ابن عباس فغلب الذكور، واللام بمعنى إلى، أي أقرب إلى التقوى. وقرأ الجمهور "تعفو" بالتاء باثنتين من فوق. وقرأ أبو نهيك والشعبي "وأن يعفوا" بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح.
قلت : ولم يقرأ "وأن تعفون" بالتاء فيكون للنساء. وقرأ الجمهور {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} بضم الواو؛ وكسرها يحيى بن يعمر. وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة "ولا تناسوا الفضل" وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. قال مجاهد: الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.
الثامنة: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم.
الآية: 238 { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى : - قوله تعالى: {حَافِظُوا} خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه.،
والوسطى تأنيث الأوسط. ووسط الشيء خيره وأعدله؛ ومنه قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقد تقدم. وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أما برة وأبا
ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7]، وقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. وقرأ أبو جعفر الواسطي "والصلاة الوسطى" بالنصب على الإغراء، أي وألزموا الصلاة الوسطى: وكذلك قرأ الحلواني. وقرأ قالون عن نافع "الوصطى" بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه.
الثانية : - واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال:
الأول: أنها الظهر؛ لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام. وممن قال أنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم. ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" بالواو. وروي أنها كانت أشق على المسلمين؛ لأنها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم. وروى أبو داود عن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. وروى مالك في موطئه وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر؛ زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير.
الثاني: إنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل. قال النحاس: وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال: وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة الوسطى صلاة العصر" خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس.
الثالث: إنها المغرب؛ قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة. والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر. وروي من حديث عائشة رضي الله عتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة - أو قال - أربعين سنة".
الرابع: صلاة العشاء الآخرة؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها.
الخامس: إنها الصبح؛ لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما؛ ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، أخرجه،
الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبدالله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري. والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح وقد استدل من قال أنها الصبح بقوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح. قال أبو رجاء: صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين. وقال أنس: قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع" وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في "آل عمران" عند قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} .
السادس: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا ذكره ابن حبيب ومكي وروى مسلم عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
السابع: إنها الصبح والعصر معا. قاله الشيخ أبو بكر الأبهري؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ..." الحديث، رواه أبو هريرة. وروى جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ..." يعني العصر والفجر: ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [ق: 39]. وروى عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها "،
يعني الفجر والعصر. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى البردين دخل الجنة" كله ثابت في صحيح مسلم وغيره. وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد.
الثامن: إنها العتمة والصبح. قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه: "اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم" قاله عمر وعثمان. وروى الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا - وقال - إنهما أشد الصلاة على المنافقين" وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة؛ ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داود والترمذي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة" وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم.
التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ قاله معاذ بن جبل؛ لأن قوله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر.
العاشر: إنها غير معينة؛ قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات. ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم. فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم. وهذا اختيار مسلم لأنه أتى به في آخر الباب
*3*الآية: 239 {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى : - قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} من الخوف الذي هو الفزع. {فَرِجَالاً} أي فصلوا رجالا. {أَوْ رُكْبَاناً} معطوف عليه. والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - "بضم الجيم" وهي لغة أهل الحجاز؛ يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا؛ - حكاه الطبري وغيره - ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلي ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجله "بفتح الجيم" وأرجلة وأراجل وأراجيل. والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال.
الثانية: - لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.
الثالثة: - هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السُّموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.
الرابعة: - واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا؛ فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي
وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن فإنما يعني به الطاعة. وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. "وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون عاصين، فقيل لهذه الأمة فقوموا لله طائعين . وقال مجاهد: معنى قانتين خاشعين، والقنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح. وقال الربيع: القنوت طول القيام؛ وقاله ابن عمر وقرأ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر: 9]. وقال عليه السلام. " أفضل الصلاة طول القنوت " خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:
قانتا لله يدعو ربه ... وعلى عمدن من الناس اعتزل
وقد تقدم. وروي عن ابن عباس {قَانِتِينَ} داعين. وفي الحديث: " قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان " قال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طول قيامه. وقال السدي: {قَانِتِينَ} ساكتين؛ دليله أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام؛ وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: "إن في الصلاة شغلا". وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : {َقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء. ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت.
السادسة: - قال أبو عمر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن
الأوزاعي أنه قال: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك. وهو قول ضعيف في النظر؛ لقول الله عز وجل: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال زيد بن أرقم: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ." الحديث. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة". وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستئناف، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو مال أو ما كان بسبيل ذلك استأنف صلاته ولم يبن. هذا هو الصحيح في المسألة إن شاء الله تعالى.
واختلفوا في الكلام ساهيا فيها؛ فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الكلام فيها ساهيا لا يفسدها، غير أن مالكا قال: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها؛ وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك قال: لو أن قوما صلى بهم الإمام ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتم فأتم صلاتك؛ فالتفت إلى القوم فقال: أحق ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، قال: يصلي بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين. هذا قول ابن القاسم في كتابه المدونة وروايته عن مالك، وهو المشهور من مذهب مالك وإياه تقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن. وذكر الحارث بن مسكين قال: أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك، وغيرهم يأبونه ويقولون: إنما كان هذا في صدر الإسلام، فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها؛ وهذا هو قول العراقيين: أبي حنيفة وأصحابه والثوري فإنهم ذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان سهوا أو عمدا لصلاة كان أو لغير ذلك؛ وهو قوله إبراهيم النخعي
وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة. وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبى هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث " من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له" قالوا: وكان كثير الإرسال. وذكر علي بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال: سمعت مالكا يقول: يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني. قال: وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم. وقد روى سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع، فقال له رجل إلى جبنه: إنك لم تصل إلا ثلاثا؛ فالتفت إلى آخر فقال: أحق ما يقول هذا؟ قال: نعم، قال: تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا أن يلتفت إليه. قال أبو عمر: فكانوا يفرقون في هذه المسألة بين الإمام مع الجماعة والمنفرد فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة. للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد؛ وكان غير هؤلاء يحملون جواب ابن القاسم في المنفرد في هذه المسألة وفي الإمام ومن معه على اختلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين كما اختلف قول مالك في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه: من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه فإنه يبني. واختلف قول أحمد في هذه المسألة فذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت؛ وهذا هو قول مالك المشهور. وذكر الخرقي عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. واستثنى سحنون من أصحاب مالك أن من سلم من اثنتين في الرباعية فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه مالك في المشهور تمسكا بالحديث وحملا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام،
وعموم الشريعة، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية إذ لا دليل عليها. فإن قال قائل: فقد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" فلم لم يسبحوا؟ فيقال: لعل في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولئن كان كما ذكرت فلم يسبحوا؛ لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت؛ وقد جاء ذلك في الحديث قال: وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ فلما يكن بد من الكلام لأجل ذلك. والله أعلم.
وقد قال بعض المخالفين: قول أبي هريرة "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو ليس منهم؛ كما روي عن النزال بن سبرة أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف وأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله" وإنما عنى به أنه قال لقومه وهذا بعيد؛ فإنه لا يجوز أن يقول صلى بنا وهو إذ ذاك كافر ليس من أهل الصلاة ويكون ذلك كذبا، وحديث النزال هو كان من جملة القوم وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. وأما ما ادعته الحنفية من النسخ والإرسال فقد أجاب عن قولهم علماؤنا وغيرهم وأبطلوه، وخاصة الحافظ أبا عمر بن عبدالبر في كتابه المسمى بـ [التمهيد] وذكر أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وقدم المدينة في ذلك العام، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وشهد قصة ذي اليدين وحضرها، وأنها لم تكن قبل بدر كما زعموا، وأن ذا اليدين قتل في بدر. قال: وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكر.
الثامنة: - القنوت: القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما" الحديث،،
أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام؛ فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: " وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه قائما يصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام؛ ومعلوم أن ذلك كان منه بعد سقوطه عن فرسه؛ فعلم أن الآخر من فعله ناسخ للأول. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة الشافعي وداود بن علي، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. قال: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه ممن يعلم الناس بصلاته، وهذه الرواية غريبة عن مالك. وقال بهذا جماعة من أهل المدينة وغيرهم وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا، فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحد بعدي قاعدا ". قال: فإن كان الإمام عليلا تمت صلاة الإمام وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة؛ هذه رواية أبي مصعب في مختصره عن مالك، وعليها فيجب على من صلى قاعدا الإعادة في الوقت وبعده. وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة، وقول محمد بن الحسن في هذا مثل قول مالك المشهور. واحتج لقوله ومذهبه بالحديث الذي ذكره أبو مصعب، أخرجه الدارقطني عن جابر عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا". قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك الحديث، مرسل لا تقوم به حجة. قال أبو عمر: جابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا؟ قال محمد بن الحسن: إذا صلى الإمام المريض جالسا بقوم أصحاء ومرضى
جلوسا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام صحيحة جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن حكمه القيام باطلة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة. وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم وهم يركعون ويسجدون لم تجزهم في قولهم جميعا وأجزأت الإمام صلاته. وكان زفر يقول: تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه، كما قال الشافعي.
قلت: أما ما ذكره أبو عمر وغيره من العلماء قبله وبعده من أنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت لغيرهم خلال ذلك ممن جمع طرق الأحاديث في هذا الباب، وتكلم عليها وذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر ما ذكره ملخصا حتى يتبين لك الصواب إن شاء الله تعالى. وصحة قول من قال أن صلاة المأموم الصحيح قاعدا خلف الإمام المريض جائزة، فذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فقال: "ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم" قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله، قال: "ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتي"؟ قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتك. قال: "فإن من طاعة الله أن تطيعوني ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا". في طريقه عقبة بن أبي الصهباء وهو ثقة؛ قاله يحيى بن معين. قال أبو حاتم: في هذا الخبر بيان واضح أن صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا من طاعة الله جل وعلا التي أمر الله بها عباده، وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به: جابر بن عبدالله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد، ولم يرو عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا. وبه قال جابر بن زيد والأوزاعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق
بن إبراهيم وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. وهذه السنة رواها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وعائشة وأبو هريرة وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأبو أمامة الباهلي. وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه. وأعلى شيء احتجوا به فيه شيء رواه جابر الجعفي عن الشعبي قال قال رسول الله: " لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، ثم إن أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وما أتيته بشيء قط من رأي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه. قال أبو حاتم: وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فجاءت الأخبار فيها مجملة ومختصرة، وبعضها مفصلة مبينة؛ ففي بعضها: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر. وفي بعضها: فجلس عن يسار أبي بكر وهذا مفسر. وفيه: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدا وأبو بكر قائما. قال أبو حاتم: وأما إجمال هذا الخبر فإن عائشة حكت هذه الصلاة إلى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقعود أيضا في هذه الصلاة كما أمرهم به عند سقوطه عن فرسه؛ أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال أنبأنا يزيد بن موهب قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: " كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم
يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ". قال أبو حاتم: ففي هذا الخبر المفسر بيان واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد عن يسار أبي بكر وتحول أبو بكر مأموما يقتدى بصلاته ويكبر يسمع الناس التكبير ليقتدوا بصلاته، أمرهم صلى الله عليه وسلم حينئذ بالقعود حين رآهم قياما؛ ولما فرغ من صلاته أمرهم أيضا بالقعود إذا صلى إمامهم قاعدا.
وقد شهد جابر بن عبدالله صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، وكان سقوطه صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة آخر سنة خمس من الهجرة، وشهد هذه الصلاة في علته صلى الله عليه وسلم في غير هذا التاريخ فأدى كل خبر بلفظه؛ ألا تراه يذكر في هذه الصلاة: رفع أبو بكر صوته بالتكبير ليقتدي به الناس، وتلك الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عند سقوطه عن فرسه، لم يحتج إلى أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس تكبيره على صغر حجرة عائشة، وإنما كان رفعه صوته بالتكبير في المسجد الأعظم الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في علته؛ فلما صح ما وصفنا لم يجز أن نجعل بعض هذه الأخبار ناسخا لبعض؛ وهذه الصلاة كان خروجه إليها صلى الله عليه وسلم بين رجلين، وكان فيها إماما وصلى بهم قاعدا وأمرهم بالقعود. وأما الصلاة التي صلاها آخر عمره فكان خروجه إليها بين بريرة وثوبة، وكان فيها مأموما، وصلى قاعدا خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحا به. رواه أنس بن مالك قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا خلف أبي بكر فصلى عليه السلام صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة. وإن في خبر عبيدالله بن عبدالله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين. يريد أحدهما العباس والآخر عليا. وفي خبر مسروق عن عائشة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة وثوبة، إني لأنظر إلى نعليه تخطان في الحصى وأنظر إلى بطون قدميه؛ الحديث. فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة. قال أبو حاتم: أخبرنا محمد
بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة: أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. قال أبو حاتم: خالف شعبة بن الحجاج زائدة بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى بن أبي عائشة فجعل شعبة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وجعل زائدة النبي صلى الله عليه وسلم إماما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وهما متقنان حافظان. فكيف يجوز أن يجعل إحدى الروايتين اللتين تضادتا في الظاهر في فعل واحد ناسخا لأمر مطلق متقدم، فمن جعل أحد الخبرين ناسخا لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك الآخر من غير دليل ثبت له على صحته سوغ لخصمه أخذ ما ترك من الخبرين وترك ما أخذ منهما. ونظير هذا النوع من السنن خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وخبر أبي رافع صلى نكحها وهما حلالان فتضاد الخبران في فعل واحد في الظاهر من غير أن يكون بينهما تضاد عندنا؛ فجعل جماعة من أصحاب الحديث الخبرين اللذين رويا في نكاح ميمونة متعارضين، وذهبوا إلى خبر عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" فأخذوا به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في نكاح ميمونة، وتركوا خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم؛ فمن فعل هذا لزمه أن يقول: تضاد الخبران في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته على حسب ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجيء إلى الخبر الذي فيه الأمر بصلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا فيأخذ به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته ويترك الخبر المنفرد عنهما كما فعل ذلك في نكاح ميمونة. قال أبو حاتم: زعم بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين أن قوله: "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" أراد به وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعون فحرف الخبر عن عموم ما ورد الخبر فيه بغير دليل ثبت له على تأويله.
أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل: يعيدون؛ وهو قول أبي حنيفة. قال أبو عمر: فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه. وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة "النساء" إن شاء الله تعالى. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء.
الخامسة: - قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة؛ وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، وسيأتي هذا في "النساء" إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها، والله أعلم.
السادسة: - لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء؛ روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة . قال ابن عبدالبر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم: يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق بن راهويه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر.
وقوله تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد: "أمنتم" خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة؛ ورد الطبري على هذا القول. وقالت فرقة: "أمنتم" زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.
السابعة: - واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن؛ فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى؛ وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.
الثامنة : - قوله تعالى: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ} قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله "كما" بمعنى الشكر؛ تقول: افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. "وما" في قوله {ما لم} مفعولة بـ "علمكم".
التاسعة: - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر "آل عمران" إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم
الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في "براءة" إن شاء الله تعالى.
*3*الآية: 240 {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
فيه أربع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة "النساء" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في "البقرة": "{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} - إلى قوله – {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره: معنى قوله "وصية" أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.
قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} - إلى قوله – {مِنْ مَعْرُوفٍ} " قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام: "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول" الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا - مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد - إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه؛ قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق.
الثانية -: قوله تعالى : {وَصِيَّةً} قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر "وصية" بالرفع على الابتداء، وخبره {لأَزْوَاجِهِمْ} . ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله {لأزواجهم} صفة؛ قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله {لأَزْوَاجِهِمْ} صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله
بن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر "وصية" بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصي، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و{ لأزواجهم} على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل: المعنى أوصى الله وصية. {متاعا} أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية؛ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14 - 15] والمتاع ههنا نفقة سنتها.
الثالثة -: قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و {غَيْرَ} نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا. وقيل: نصب لأنه صفة المتاع وقيل: نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات. وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج.
الرابعة -: قوله تعالى: { فَإِنْ خَرَجْنَ} " الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال "من معروف" وهو ما يوافق الشرع. {والله عزيز} صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج.{ حَكِيمٌ} أي محكم لما يريد من أمور عباده.
الآيتان: 241 {َلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ،
242 {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}
اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري. قال الزهري: حتى للأمة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك: لكل مطلقه - اثنتين
أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله: "وللمطلقات" يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له. وقوله: { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا.
*3*الآية: 243 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "ألم تر" بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها "داوردان" فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل: سبعة، والله أعلم. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190]؛ قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل
الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية.
قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} قال الجمهور: هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس: أربعين ألفا. أبو مالك: ثلاثين ألفا. السدي: سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد: إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس: وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم. وروي أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال: إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم.
الثانية -: قوله تعالى: {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له. و"موتوا" أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين "موتوا"، والله أعلم.
الثالثة -: أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا.
قلت: وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال "رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه" وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: " بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها" قال: حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع. وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها؛ وذلك أنه عليه
السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا".
قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج
منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه. فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ". وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام.
الرابعة -: في قوله عليه السلام: "إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم.
الخامسة -: في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فناء أمتي بالطعن والطاعون" قالت: الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال: "غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط". قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء
من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف" . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ". وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: " الطاعون شهادة والمطعون شهيد". أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم.
السادسة -: قال أبو عمر: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع؛ فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك:
ولما استفز الموت كل مكذب ...
صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان؛ فسمع حاديا يحدو خلفه
لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها [سكر]. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان. فقال له عبدالعزيز: ما اسمك ؟ فقال له: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية.
الآية: 244 {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا. وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله {وَقَاتِلُوا} عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس: "وقاتلوا" أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم.
*3*الآية: 245 {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
فيه إحدى عشرة مسألة:
قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة. و" من" رفع بالابتداء، و"ذا" خبره، و"الذي" نعت لذا، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال: أخبرنا أبي إجازة قال: قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال: " نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.،
ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم: لما نزل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال: " نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ". قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال: "نعم" قال: فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده: فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: " إذا يجزيك الله به الجنة ". فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربي سبل الرشاد ... إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد ... فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي ... بالطوع لا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد ... فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد ... قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير وفرح ... مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح ... بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح ...
طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح".
قال ابن العربي: "انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره. والله أعلم.
قوله تعالى: {قَرْضاً حَسَناً} القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا ومدينا مثل ما دانا
وقال آخر:
تجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشر شرا
وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. وأصل الكلمة القطع؛ ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها. وانقرض القوم: انقطع
أثرهم وهلكوا. والقرض ههنا: اسم، ولولاه لقال ههنا إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. حسب ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني" قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " وكذا فيما قبل؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.
الرابعة - يجب على المستقرض رد القرض؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفي الخبر: "النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر" على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] الآية. وقال ههنا: "فيضاعفه له أضعافا كثيرة" وهذا لا نهاية له ولا حد.
الخامسة - ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة". قال: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير
عن قيس بن رومي قال: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال: فجاءت بها؛ فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا؛ قال: فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال: ما سمعت منك؛ قال: ما سمعت مني ؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة" قال: كذلك أنبأني ابن مسعود.
السادسة - قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثل ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه؛ لأن ذلك من باب المعروف؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر: " إن خياركم أحسنكم قضاء" رواه الأئمة: البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار: المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم.
السابعة - ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك؛ بهذا جاءت السنة: خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال:
سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك".
الثامنة - القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك". وروي عن ابن عمر: أقرض من عرضك ليوم فقرك؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى، وروي عن مالك. ابن العربي: وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ..." الحديث. وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي.
التاسعة - قوله تعالى: { حُسْناً} قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذي. وقال سهل بن عبدالله: لا يعتقد في قرضه عوضا.
العاشرة - قوله تعالى: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قرأ عاصم وغيره "فيضاعفه" بالألف ونصب الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله: {يُقْرِضُ} وقيل: على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل: بإضمار "أن" والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد {أَضْعَافاً كَثِيرَةً} لأن التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي: لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى: { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40]. قاله أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف.
الحادية عشرة - قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في "شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى". "وإليه ترجعون" وعيد فيجازي كلا بعمله.
*3*الآية: 246 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل. والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط. والملأ أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث " أحسنوا الملأ فكلكم سيروى" خرجه مسلم.
قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي من بعد وفاته. {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قاله السدي: وإنما قيل: ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها. ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته "سمعون"، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب. وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من
الناس، ويوشع هو فتى موسى. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله. وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم.
قوله تعالى : {نُقَاتِلْ} بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك.
قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ} و"عسيتم" بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر. قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة. قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في السين هي اللغة الفاشية. قال أبو علي: ووجه الكسر قول العرب: هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟. { إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا} قال الزجاج: { أَلاَّ تُقَاتِلُوا} في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة. {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الأخفش: "أن" زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلي ؟ أي ما منعك. وقيل: المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس: وهذا أجودها. "وأن" في موضع نصب. { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا} تعليل، وكذلك "وأبنائنا" أي بسبب ذرارينا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ } أي فرض عليهم. {الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم،
ربما قد تذهب "تولوا" أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها. وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فأثبتوا" رواه الأئمة. ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.
الآية: 247 {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء. وقيل: دباغا. وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي: وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا. قال وهب بن منبه: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم. قال: وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال: فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}. وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك،
لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين. والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك.
قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه. جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: "أنى" أي من أي جهة، فـ "أنى" في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا. وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني. وهذه الآية أصل فيها. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمى طالوت لطوله. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا" فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم. وقال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل. وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر. قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} . وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم : {إن آية ملكه}. ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً }. قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.
الآية: 248 {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم.
قلت: وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،
، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري. فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك. قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة. وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم. وقيل: جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. الكلبي: وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط. وقرأ زيد بن ثابت "التابوه" وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم. وروي عنه "التيبوت" ذكره النحاس. وقرأ حميد بن قيس "يحمله" بالياء.
قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ} اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة. فقوله "فيه سكينة" أي هو سبب سكون
قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه} [التوبة: 40] أي أنزل عليه ما سكن به قلبه. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم. وقال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج لها رأسان. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي. وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.
قلت : وفي صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة "الكهف" وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: " تلك السكينة تنزلت للقرآن". وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: " تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم " خرجه البخاري ومسلم. فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ} اختلف في البقية على أقوال، فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس. زاد عكرمة: ،:
التوراة. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة. وقال عطية بن سعد: وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقاله الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الأعداء. قال ابن عطية: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون. وآل الرجل قرابته. وقد تقدم.
*3*الآية: 249 {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} "فصل" معناه خرج بهم. فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع. قال وهب بن منبه: فلما فصل طالوت قالوا له أن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت: إن الله مبتليك بنهر. وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا. وقال وهب: لم يتخلف عنه إلا ذو
عذر من صغر أو كبر أو مرض. والابتلاء الاختبار. والنهَر والنهْر لغتان. واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم. قال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقرأ الجمهور "بنهر" بفتح الهاء. وقرأ مجاهد وحميد الأعرج "بنهر" بإسكان الهاء. ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:
وأحسوا قراح الماء والماء بارد
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: "حسب المرء لقيمات يقمن صلبه". وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.
قلت: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا.
الثانية: - استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله: {ِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم. ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب. وقد ذهب قوم إلى أن عبدالله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله علي وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في "النساء" إن شاء الله تعالى.
الثالثة: - قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} شرب قيل معناه كرع. ومعنى {فَلَيْسَ مِنِّي} أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان. قال السدي: كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث "من غشنا فليس منا" أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا. قال:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
هذا مهيع في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست مني.
الرابعة: - قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} يقال: طعمت الشيء أي ذقته. وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء.
الخامسة: - استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام "ومن لم يشرب منه".
السادسة: - ما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب. قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا.
السابعة: - قال ابن العربي قال أبو حنيفة: من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد. قال: وهذا فاسد؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه.
قلت: قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة. قال الجوهري وغيره: وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى [كرع] بكسر الراء يكرع كرعا. والكَرَع: ماء السماء يكرع فيه. وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه: حدثنا واصل بن عبدالأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد" وهذا نص. وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف.
الثامنة: - قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغَرف مثل الاغتراف. وقرئ "غرفة" بفتح الغين وهي مصدر، ولم يقل اغترافة لأن معنى الغرف والاغتراف واحد. والغرفة المرة الواحدة. وقرئ "غرفة" بضم الغين وهي الشيء المغترف. وقال بعض المفسرين: الغَرفة بالكف الواحد والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد. وقال علي رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:
لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
الدليف: المشي الرويد.
قلت: ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا". خرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: "لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء..." الحديث كما تقدم، وفي إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة.
التاسعة: - قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.
العاشرة: - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ} الهاء تعود على النهر، و"هو" توكيد. { وَالَّذِينَ} في موضع رفع عطفا على المضمر في "جاوزه" يقال: جاوزت المكان مجاوزة وجوازا. والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه. قال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون؛ فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل
بدر: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} . وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم فقال أولو العزم منهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}. قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا - وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا - وما جاز معه إلا مؤمن.
الحادية عشرة: - قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل.
قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته. وفي قولهم رضي الله عنهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.
قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم". فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200] وقال : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.
*3*الآية: 250 {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
قوله: {بَرَزُوا} صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع. وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل. ويقال: إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس. وقال عكرمة: في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] إلى قوله {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147] الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال: "اللهم بك أصول وأجول" وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو: " اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده على ما يأتي بيانه في "آل عمران" إن شاء الله تعالى.
*3*الآية: 251 {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي فأنزل الله عليهم النصر "فهزموهم": فكسروهم. والهزم: الكسر ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء. والهزم: ما تكسر من يابس الحطب.
قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود،
بن إيشى - بكسر الهمزة، ويقال: داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه: يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت: من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود عليه السلام فقال: أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له: هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم؛ قال بماذا ؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده. قال طالوت: الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ؟ قال: نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت: فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس: جبن الفتى فقال داود: إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي. قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم؛ قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون. قال: لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله،
وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة. وقد قيل: إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل: عينه وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم. وقيل: إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود.
قلت: وفي قول طالوت: "من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي" معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام: من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في "الأنفال" إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال: لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه. وحكي عنه أنه قال: لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه. وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه؛ هذا قول مالك. سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز ؟ فقال: ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى. وقال الشافعي: لا بأس بالمبارزة. قال ابن المنذر: المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه.
قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} قال السدي: أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون. والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت.
قوله تعالى: { مِمَّا يَشَاءُ} أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم.
قوله تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
فيه مسألتان:
الأولى -: قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ "دفاع" ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال: حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء؛ ومثله كتبه كتابا؛ ومنه {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] النحاس: وهذا حسن؛ فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع بمعنى واحد؛ مثل طرقت النعل وطارقت؛ أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف: الخرز. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} وأنكر أن يقرأ "دفاع" وقال: لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم "الله" في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله. و"دفاع" مرفوع بالابتداء عند سيبويه. "الناس" مفعول، "بعضهم" بدل من الناس، "ببعض" في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه.
الثانية -: واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل: هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق. وروي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء" ذكره الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول". وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب
وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد. وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا. قال الثعلبي وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم – {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا" خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض. حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا". أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
لولا عباد للإله ركع ... وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الأوجع
وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهله دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم". وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن. وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم
"إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء". ثم قرأ ابن عمر: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} .وقيل: هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله. {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.
الآية: 252 {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
تلك: ابتداء { آيَاتُ اللَّهِ } خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}. { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، خبر إن أي وإنك لمرسل. نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.
الآية: 253 {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} قال: "تلك" ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء. و"الرسل" نعته، وخبر الابتداء الجملة. وقيل: الرسل عطف بيان، و {فَضَّلْنَا} الخبر. وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تخيروا بين الأنبياء " و"لا تفضلوا بين أنبياء الله" رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان، وفضل،
"مشددا" إذا قال ذلك. وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى؛ فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل. وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: "لا تخيروني على موسى" على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك معنى قوله: "لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى " على معنى التواضع. وفي قوله تعالى: { وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله؛ فدل على أن قوله: "لا تفضلوني عليه" من طريق التواضع. ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني. وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة. قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم.
قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله،
ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].
قلت : وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2]. قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟. قال: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده. وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبدالحق قال: إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم ولد آدم على ربي" وقال: "أنا سيد ولد آدم " ولم يعين، وقال عليه السلام: " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وقال: "لا تفضلوني على موسى" . وقال ابن عطية: وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة. فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.
قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253] وقال {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ} [المائدة: 46]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} [النمل: 15] وقال: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر.
قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } [الفتح: 29] إلى آخر السورة. وقال: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] ثم قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [ الحديد: 10] وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال: "نعم نبي مكلم". قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى. وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.
قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت،
الشفاعة". ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. { وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه . {بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، وقد تقدم.
قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل. وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} "من" في موضع رفع بالابتداء والصفة
*3*الآية: 254 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
قال الحسن: هي الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.
قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقين: 10]. والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة بالفتح: الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة "بالكسر": واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سِيَتي القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في "النساء" اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "لا بيع فيه ولا خلة،
ولا شفاعة" بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة "إبراهيم" {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وفي "الطور ]{لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] وأنشد حسان بن ثابت:
ألا طعان ولا فرسان عادية ... إلا تجشوكم عند التنانير
وألف الاستفهام غير مغيرة عمل "لا" كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:
وما صرمتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ويروى "وما هجرتك" فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع ؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. و"لا" مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر "فيه". وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله "لا" بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع ؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و"فيه" الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج:
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقع
ف "لا" زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ...
وما فاهوا به أبدا مقيم
وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله . {وَالْكَافِرُونَ} ابتداء. {هُمُ} ابتداء ثان، {الظَّالِمُونَ} خبر الثاني، وإن شئت كانت {هم} زائدة للفصل و {الظالمون} خبر {الكافرون}. قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: {والكافرون هم الظالمون} ولم يقل والظالمون هم الكافرون.
*3*الآية: 255 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها. روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروى الأئمة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" ؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" ؟ قال قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر". زاد الترمذي الحكيم أبو عبدالله: " فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش". قال أبو عبدالله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة
تقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قال: نعم؛ قال: فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. أخرجه أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي. وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبدالله قال: فقيل لعبدالله: أهو عمر ؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر. قال أبو محمد الدارمي: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح. وقال أبو عبيدة: الخبج: الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حم - المؤمن - إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" قال: حديث غريب. وقال أبو عبدالله الترمذي الحكيم: وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة. عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت " قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: "إني لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي". وعن أبي بن كعب قال: قال الله تعالى: "يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء" قال أبو عبدالله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء. وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهي خمسون كلمة، وفي كل كلمة خمسون بركة، وهي تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية. و"الله" مبتدأ، و {لا إِلَهَ } مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و {إِلاَّ هُوَ } بدل من موضع لا إله. وقيل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على
الاستثناء. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ؟ فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة.
قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من "هو"، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و"الحي" اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء: يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم. ويقال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه. وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحي الذي لا يموت. وقال السدي: المراد بالحي الباقي. قال لبيد:
فإما تريني اليوم أصبحت سالما ... فلست بأحيا من كلاب وجعفر
وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. "القيوم" من قام؛ أي القائم بتدبير ما خلق؛ عن قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول؛ قال أمية بن أبي الصلت:
لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يقوم
قدره مهيمن قيوم
... والحشر والجنة والنعيم
إلا لأمر شأنه عظيم
قال البيهقي: ورأيت في "عيون التفسير" لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} . وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له؛ ذكره أبو بكر الأنباري. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء؛ ولا يكون قيوم فعولا؛ لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي "الحي القيام" بالألف، وروي ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ؛ قال الشاعر:
إن ذا العرش للذي يرزق النا ... س وحي عليهم قيوم
ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما؛ قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وقال السدي: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان.
قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سِنَة وسْنَة حذفت الواو
كما حذفت من يسن. والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف و"لا" توكيد.
قلت : والناس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: " وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كله يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي أحديهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان - قال - ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض" ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي
قوله تعالى : {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي بالملك فهو مالك الجميع وربه وجاءت العبارة بـ "ما" وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ الأَ بِإِذْنِهِ} "من" رفع بالابتداء و"ذا" خبره؛ و"الذي" نعت لـ "ذا"، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون "ذا" زائدة كما زيدت مع "ما" لأن "ما" مبهمة فزيدت "ذا" معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة. وفي البخاري في "باب بقية من أبواب الرؤية": إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا. وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة. وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن
حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء. وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له.
قلت: قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها؛ أجارنا الله منها. فذكر من حديث أبي سعيد الخدري: " ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم - قيل: يا رسول الله وما الجسر ؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا
فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا - وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40] " فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما" وذكر الحديث. وذكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك - أو قال ليس ذلك إليك - وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ". وذكر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود " الحديث بطوله.
قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها وقول ابن عطية: "ممن لم يصل أو وصل" يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصف الناس يوم القيامة صفوفا - وقال ابن نمير أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا ؟ فيشفع له - قال ابن نمير - ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك ؟ فيشفع له ".
وأما شفاعات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في "سبحان" إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب "التذكرة" والحمد لله.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ". وقال مجاهد: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره.
قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته؛ وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض. ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.
قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ذكر ابن عساكر في تاريخه عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله ". وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة - وهو عاصم بن أبي النجود - عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه. يقال كُرسي وكرسي والجمع الكراسي. وقال ابن عباس: كرسيه علمه. ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم؛ ومنه قيل للعلماء: الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم؛ كما يقال: أوتاد الأرض.
قال الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب
أي علماء بحوادث الأمور. وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} . قال البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وسع كرسيه} قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعجب شيء رأيته" ؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع
طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولها: " لا قدست أمة - أو كيف تقدس أمة - لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ". قال ابن عطية: في قول أبي موسى "الكرسي موضع القدمين" يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك. وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه؛ وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه. وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال: "آية الكرسي - ثم قال - يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ". أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السماوات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم.
و { يَؤُودُهُ} معناه يثقله؛ يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي؛ وإذا كانت للكرسي؛ فهو من أمر الله تعالى. و"العلي" يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء؛ تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4]. و"العظيم" صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام. وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:
فكأن الخمر العتيق من الإسـ ... ـفنط ممزوجة بماء زلال
وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ.
*3*الآية: 256 {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106]. وقرأ أبو عبدالرحمن "قد تبين الرشد من الغي" وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده؛ عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ "الرشاد" بالألف. وروي عن الحسن أيضا {الرُّشْدُ} بضم الراء والشين. {الْغَيِّ} مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق.
الثانية: - اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:
[الأول] قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73]. وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
الثاني: ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} . هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } . قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
الرابع: قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين}
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: "أبعدهما الله هما أول من كفر" فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية ثم إنه نسخ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة [براءة]. والصحيح في سبب قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في "النساء" بيانه إن شاء الله تعالى.
[وقيل] معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو القول الخامس.
[وقول سادس] وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة
والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في "براءة" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى. - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك
مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]. وقد يكون جمعا قال الله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة 257] والجمع الطواغيت. { وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} عطف. { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد: العروة الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا الله؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد. ثم قال: {لا انْفِصَامَ لَهَا} قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث "فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا" أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم؛ قال الله تعالى: {لا انْفِصَامَ لَهَا} وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة:
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من جواري الحي مفصوم
وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل "مقصوم" بالقاف فيكون بائنا باثنين. وافْصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات {سَمِيعٌ} من أجل النطق {عليم} من أجل المعتقد.
*3*الآية: 257 { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وقال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] قال قتادة: الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: قوله { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات. قال ابن عطية: فكأن هذا المعتقد أحرز نوراً في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلى الله عليه وسلم الداعي المرسل فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان إذ هو معه معد وأهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم؛ عدلا منه، لا يسأل عما يفعل. وقرأ الحسن "أولياؤهم الطواغيت" يعني الشياطين، والله أعلم.
الآية: 258 { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
فيه مسألتان:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له. وقال الفراء: "ألم تر" بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه
وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريح: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب:
وكأنه الضحاك من فتكاته ... في العالمين وأنت أفريدون
وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى [كوشا] أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر. وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. وفي قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها؛ فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم: إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: مالك لا تسجد لي قال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال له نمروذ: من ربك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد
يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت؛ فيقول: ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له: من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت؛ فلما سمعها نمروذ قال: أنا أحيي وأميت؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء؛ فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت. فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك.
قلت: وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا ؟ فقال: حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروي في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي. وقال السدي: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له: من ربك ؟ فقال: ربي
الذي يحيي ويميت. قال النمروذ: أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه.
الثانية: - هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. "إن عندكم من سلطان} [يونس: 68] أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [الأنبياء] وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] الآيات إلى قوله: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]. وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في "آل عمران". وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا:
لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة.
قراءات - قرأ علي بن أبي طالب "ألم تر" بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم. {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرأ جمهور القراء "أن أحيي" بطرح الألف التي بعد النون من "أنا" في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} [الأعراف: 188] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل. قال النحويون: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت: أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، فلا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما
قال النحاس: على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ "أنا أحيي وأميت" ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين "أنا" بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم "أنا" فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين "أن" التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما
وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى "بَهَت" بفتح الباء والهاء. قال ابن جني قرأ أبو حيوة: "فبهت الذي كفر" بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في "بهت" بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميقع "فبهت" بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة "فبهت" بكسر الهاء كغرق ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ "فبهت" بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة.
*3*الآية: 259 { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} "أو" للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية. وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو. وقرأ أبو سفيان بن حسين {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم: قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم. قال سليمان بن بريدة
وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية هو عزير. وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر: هو إرمياء وكان نبياً. وقال ابن إسحاق: إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه. قال ابن عطية: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه.
قلت : إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة "الكهف". وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم. وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى. قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه. والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي. والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. قال: وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر. وقيل من عصير. وقيل: قلة ماء هي شرابه. والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد. وحكى النقاش أن قوما قالوا: هي المؤتفكة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة. فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. وقيل: إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد. وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله
مائة عام. قال: ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ "ـهذه" إنما هي إلى القرية. وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة: القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي. وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها.
والعريش: سقف البيت. وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]. قال السدي: يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها؛ واختاره الطبري. وقال غير السدي: معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة؛ وخاوية معناها خالية؛ وأصل الخواء الخلو؛ يقال: خَوَت الدار وخَوِيَتْ تخوى خواء "ممدود" وخُوِياً: أقْوَتْ، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] أي خالية، ويقال ساقطة؛ كما يقال: "فهي خاوية على عروشها" أي ساقطة على سقفها. والخَواء الجوع لخلو البطن من الغذاء. وخوت المرأة وخويت أيضا خوًى أي خلا جوفها عند الولادة. وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام. والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل. وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده.
قوله تعالى: { قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته. وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم،
أي أنى يحيي الله موتاها. وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك.
قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ } "مائة" نصب على الظرف. والعام: السنة؛ يقال: سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال: بينهم شغل شاغل. وقال العجاج:
من مر أعوام السنين العُوَّم
وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قال الجوهري. وقال النقاش: العام مصدر كالعَوْم؛ سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك. والعوم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]. قال ابن عطية: هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقد قيل: إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له "كوشك" فعمرها في ثلاثين سنة.
قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثَهُ} معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } اختلف في القائل له "كم لبثت"؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم. وقيل: سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل. وقيل: نبي. وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت.
قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} والله أعلم. وقرأ أهل الكوفة "كم لبثت" بإدغام الثاء في التاء لقربها منها
في المخرج. فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان. قال النحاس: والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء. ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير. و"كم" في موضع نصب على الظرف.
قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: "لم أقصر ولم أنْس". ومن الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول. فعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان. فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح. قال ابن جريج وقتادة والربيع: أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحداً فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشى أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يوم. فقيل: بل لبثت مائة عام؛ ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ } وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها. {وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} قرأ ابن مسعود "وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه". وقرأ طلحة بن مصرف غيره "وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة". وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان
فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء. وقرأ طلحة بن مصرف أيضا "لم يسن" "وانظر" أدغم التاء في السين؛ فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون "يتسنه" من السنة أي لم تغيره السنون. قال الجوهري: ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفي نقصانها قولان: أحدهما الواو، والآخر الهاء. وأصلها سَنْهة مثل الجبهة؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون. ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى؛ وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار:
فليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا. واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا. وفي التصغير سنية وسنيهة. قال النحاس: من قرأ "لم يتسن" و"انظر" قال في التصغير: سُنّية وحذفت الألف للجزم، ويقف على الهاء فيقول: "لم يتسنه" تكون الهاء لبيان الحركة. قال المهدوي: ويجوز أن يكون أصله من سانَيْتُه مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت بالهاء؛ فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم؛ وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل؛ وأصل سنة على هذا سنهة. وعلى القول الأول سَنَوَة. وقيل: هو من أسِنَ الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن. أبو عمرو الشيباني: هو من قوله {حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [ الحجر: 26] فالمعنى لم يتغير. الزجاج، ليس كذلك؛ لأن قوله {مَسْنُونٍ} ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض. قال المهدوي: وأصله على قول الشيباني "يتسنن" فأبدلت إحدى
النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت. وقال مجاهد: { لم يتسنه} لم ينتن. قال النحاس: أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون. ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب؛ ومنه قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] وقوله عليه السلام " اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ". يقال منه: أسنت القوم أي أجدبوا؛ فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب، أو لم تغيره السنون والأعوام، أي هو باق على طراوته وغضارته.
قوله تعالى: { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} قال وهب بن منبه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق؛ على هذا أكثر المفسرين. وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا: وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة.
قوله تعالى: { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} قال الفراء: إنما ادخل الواو في قوله "ولنجعلك" دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة. وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا. عكرمة: وكان يوم مات ابن أربعين سنة. وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة. وروي عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة! قال: فأنا عزير؛ قالت: إن عزيرا فقدناه منذ
مائة سنة. قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد علي بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال. قالت: أشهد أنك عزير! ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عزير. وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا. قال ابن عطية: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض.
قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم "ننشرها" بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة؛ فقيل: هما لغتان في الإحياء بمعنى؛ كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها؛ إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} ويكون نشرها مثل نشر الثوب. نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت؛ قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
فكأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر. وأما قراءة "ننشزها" بالزاي فمعناه نرفعها. والنشز: المرتفع من الأرض؛ قال:
ترى الثعلب الحولي فيها كأنه ... إذا ما علا نشزا حصان مجلل
قال مكي: المعنى: انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء؛ لأن النشز الارتفاع؛ ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها؛ ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] أي ارتفعوا وانضموا. وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو،
بمعنى الانضمام دون الإحياء. فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال: هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. وقرأ النخعي "ننشزها" بفتح النون وضم الشين والزاي؛ وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة. وقرأ أبي بن كعب "ننشيها" بالياء.
والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها. وقد استعاره لبيد للإسلام فقال:
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقد تقدم أول السورة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بقطع الألف. وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده. قال قتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك: "أعلم" بقطع الألف، أي أعلم هذا. وقال الطبري: المعنى في قوله { فلما تبين له} أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.
قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي: إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ "أعلم" بقطع الألف وهم الأكثر من القراء. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن
ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
قال ابن عطية: وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر:
تذكر من أنى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
قال مكي: ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن. وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم. وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله {انظر إلى طعامك} و{انظر إلى حمارك} و{انظر إلى العظام} "فكذلك {واعلم أن الله} وقد كان ابن عباس يقرؤها "قيل اعلم" ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له: {واعلم أن الله عزيز حكيم} فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء.
الآية: 260 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس
مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: " ليس الخبر كالمعاينة" رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر. قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى. وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول.
قلت : حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي". قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: "هي أرجى آية" فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك. ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله {أو لم تؤمن} أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء: "دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس" فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ذلك محض الإيمان " إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فالشك يبعد على من
تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون "كيف" خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي. و"كيف" في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قلت: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: {أَرِنِي كَيْفَ} طلب مشاهدة الكيفية. وقال بعض أهل المعاني: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب، وهذا فاسد
مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي، وليست الألف في قوله "أو لم تؤمن" ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
والواو واو الحال. و {تُؤمِنْ} معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى.
قوله تعالى: { قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء. وقال الطبري: معنى {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليوقن، وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض. وقال السدي وابن جبير أيضا: أو لم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة. وقيل: دعا أن يريه كيف يحيي الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أني أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي.
واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد. وقيل: قول النمروذ: أنا أحيي وأميت. وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق،
قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقيل له: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قيل: هي الديك والطاووس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد. وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها
ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: "سعى" إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر "جزءا" على فعل. وعن أبي جعفر أيضا "جزا" مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهي لغات، ومعناه النصيب. "{ يَأْتِينَكَ سَعْياً} " نصب على الحال. و "{فَصُرْهُنَّ} " معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبي الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قاله توبة بن الحمير يصفه:
فلما جذبت الحبل أطت نسوعه ... بأطراف عيدان شديد سيورها
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها ... بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها
أي يقطعها. والصور: القطع. وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روي عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن. وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصْور إذا كان مائل العنق. وتقول: إني إليكم لأصور، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور
فقوله "إليك" على تأويل التقطيع متعلق بـ "خذ" ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ "صرهن" وفي الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم "فصرهن" بضم الصاد
وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم "فصرهن" بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جني: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وهر الحرب يَهُرها ويهِرها، ومنه بيت الأعشى:
ليعتورنك القول حتى تهره
إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد.
/القراءة الخامسة "صرهن" بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ؟ فعنه جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف. الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.
*3*الآية: 261 {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: - لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم. روى البستي
في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" فنزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك. وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله.
الثانية: - روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". وقال عثمان: يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما. وقيل: نزلت في نفقة التطوع. وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
الثالثة: - قوله تعالى : {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
وحبة القالب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: " فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل" والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد.
قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال: "{فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} " معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك. وقال أبو عمرو الداني: وقرأ بعضهم "مائة" بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة.
قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرأ بعضهم {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [الملك: 6] على {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "أنبتت سبع سنابل" بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو:
يا لعن الله بني السعلاة ... عمرو بن ميمون لئام النات
أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان.
الرابعة: - ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.
قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية. وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ". وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الإسناد عنه.
الخامسة: - في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة" . وروى هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التمسوا الرزق في خبايا الأرض" يعني الزرع، أخرجه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم في النخل: "هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل" . وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول:
أقول لعبدالله يوم لقيته ... وقد شد أحلاس المطي مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا
فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة ... إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا
وحكي عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.
*3*الآية: 262 {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال عبدالرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان". وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: " يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه" فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً} الآية.
الثانية: - لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، قال الله تعالى: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان: 9]. ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنه ... اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنة ... أقسم بالله لتفعلنه
قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال:
إذاً أبا حفص لأذهبنه
قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ - قال:
تكون عن حالي لتسألنه ... يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسؤول بينهنه ...
إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل. فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية: وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد.
الثالثة: - قوله تعالى: { مَنّاً وَلا أَذىً} المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ". وفي بعض طرق مسلم: " المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ". والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله: ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر، والأجر الجنة،
ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
*3*الآية: 263 { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى : قوله تعالى: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: ويجوز أن يكون { قول معروف} خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" أخرجه مسلم. فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال:
لا تدخلنك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسؤولا
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل ... فبقاء عزك أن ترى مأمولا
تلقى الكريم فتستدل ببشره ... وترى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك عن قليل صائر ...
خبرا فكن خبرا يروق جميلا
وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى ".
قلت: دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره. وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول. وقال بشر بن الحارث: رأيت عليا في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به، قال: ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله. فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول:
قد كنت ميتا فصرت حيا ... وعن قليل تصير ميتا
فاخرب بدار الفناء بيتا ... وابن بدار البقاء بيتا
الثانية : - قوله تعالى: { وَمَغْفِرَةٌ} المغفرة هنا: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل: ممن الرجل ؟ فقال له: اللهم غفرا! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل: المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى، قال معناه النقاش. وقال النحاس: هذا مشكل يبينه الإعراب. {وَمَغْفِرَةٌ} رفع بالابتداء والخبر {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} . والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، وتقديره في العربية وفعل مغفرة. ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها.
الثالثة: - قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته.
*3*الآية: 264 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: - قوله تعالى: { بِالْمَنِّ وَالأَذَى} قد تقدم معناه. وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل. وقيل: بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن. والعرب تقول لما يمن به: يد سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء. ولما يعطى عن مسألة: يد خضراء. وقال بعض البلغاء: من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال بعض الشعراء:
وصاحب سلفت منه إلي يد ... أبطا عليه مكافاتي فعاداني
لما تيقن أن الدهر حاربني ... أبدى الندامة فيما كان أولاني
وقال آخر:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنان
وقال أبو بكر الوراق فأحسن:
أحسن من كل حسن ... في كل وقت وزمن
صنيعة مربوبة ...
خالية من المنن
وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف، إذا أحصي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا – {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} .
الثانية: - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السر، لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل.
الثالثة: - قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الكاف في موضع نصب، أي إبطال "كالذي" فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء. ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي. فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس. وقيل: المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب. وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه - وإن كرر عطاءه - وأبطل فضله. وقد قيل: إنما يبطل المن ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف، فإذا من وآذى انقطع التضعيف، لأن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بههناك وانقطع زيادة التضعيف عنها، والقول الأول أظهر والله أعلم.
والصفوان جمع واحده صفوانة، قاله الأخفش. قال: وقال بعضهم: صفوان واحد، مثل حجر. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صِفْوان وصُفِي وصِفِي، وأنكره المبرد وقال: إنما صفي جمع صفا كقفا وقفي، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا، وقد تقدم. وقرأ سعيد بن المسيب والزهري "صفوان" بتحريك الفاء، وهي لغة. وحكى قطرب صفوان. قال النحاس: صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل: { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر، ولكن صفوان جمع صفاً، وصفاً بمعنى صفوان، ونظيره ورل وورلان وأخ وإخوان وكراً وكروان، كما قال الشاعر:
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير
والضعيف في العربية كِرْوان جمع كَرَوَان، وصُفِي وصِفِي جمع صفا مثل عصا. والوابل: المطر الشديد. وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى: {أخذناه أخذا وبيلا} [المزمل: 16] أي شديدا. وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد. والصلد: الأملس من الحجارة. قال الكسائي: صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة:
براق أصلاد الجبين الأجله
قال النقاش: الأصلد الأجرد بلغة هذيل. ومعنى {لا يَقْدِرُونَ} يعني المرائي والكافر والمان {عَلَى شَيْءٍ} أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب. وقيل: ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.
الآية: 265 {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} {ابْتِغَاءَ} مفعول من أجله. { وتثبيتا من أنفسهم} عطف عليه. وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية: وهو مردود، ولا يصح في {وَتَثْبِيتاً} أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و { ابْتِغَاءَ } نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو { وَتَثْبِيتاً} عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و {ابْتِغَاءَ} معناه طلب. و {مَرْضَاتِ} مصدر من رضي يرضى. {وَتَثْبِيتاً} معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد والحسن. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك. وقيل: معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: معناه واحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم: {وَتَثْبِيتاً} معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته { وَتَثْبِيتاً} مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية: وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17]، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8]. وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول: أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية: هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته. وقال النحاس:
لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما، وقول قتادة: احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال: ثبت فلانا في هذا الأمر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك. وقيل: { وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} " الجنة البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: "زوجي كليل تهامة". وقال السدي: "بربوة" أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية: وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد.
قلت: عبارة السدي ليست بشيء، لأن بناء "رَبَ و" معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالىِ. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع. وقال الفراء في قوله تعالى: { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] أي زائدة، كقولك: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم. وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه. وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، لأن قوله تعالى: { أَصَابَهَا وَابِلٌ} إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة
ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات "ربوة" بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و"ربوة" بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن. "وربوة" بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و"رباوة" بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن، وقال الشاعر:
من منزلي في روضة برباوة ... بين النخيل إلى بقيع الغرقد؟
و "رباوة" بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء: ويقال بِرَباوة وبرِباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو.
قوله تعالى: {أَصَابَهَا} يعني الربوة. "وابل" أي مطر شديد قال الشاعر:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها وابل هطل
قوله تعالى: { فَآتَتْ} أي أعطت. {أُكُلَهَا} بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى: { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25]. والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل. والأكلة: اللقمة، ومنه الحديث: " فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين " يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو "أكلها" بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل "أكل خمط" فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرأ عاصم
وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال: أَكْل وأُكُل بمعنى.{ضِعْفَيْنِ} أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين. وقال بعض أهل العلم: حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره: تقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: فالذي يصيبها طل. والطل: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة. وقال قوم منهم مجاهد: الطل: الندى. قال ابن عطية: وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس: وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت، وطَلّت وأَطَلّت. وفي الصحاح: الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه: طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع. قال بعضهم الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين.
قلت: التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم" خرجه الموطأ أيضا.
قوله تعالى: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعد ووعيد. وقرأ الزهري "يعملون" بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.
*3*الآية: 266 { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية. حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول.
قلت وروي عن ابن عباس أيضا قال: هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها. وحكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] الآية، قال: ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية. قال ابن عطية: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام. وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا.
قلت : قد روي عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا. خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل
في المعاصي حتى أحرق عمله. في رواية: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضى ذلك عمر. وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية. وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء. قال ابن عطية: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن "جنات" بالجمع. { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} تقدم ذكره. {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يريد ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت.
قوله تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} عطف ماضيا على مستقبل وهو "تكون" وقيل: "يود" فقيل: التقدير وقد أصابه الكبر. وقيل إنه محمول على المعنى، لأن المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة. وقيل: الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى "وله".
قوله تعالى: { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال الحسن: {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} ريح فيها برد شديد. الزجاج: الإعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها: الزوبعة. قال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة. ويقال: أم زوبعة، وهي ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود. وقيل: الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق. المهدوي: قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر. ابن عطية: وهذا ضعيف.
قلت: بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا. وقيل: إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء. وإما لأنها تنعصر بالرياح. وحكى ابن سيده: إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب. ابن زيد: الإعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدي: الإعصار الريح والنار السموم. ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة. قال ابن عطية: ويكون،
ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" و "إن النار اشتكت إلى ربها" الحديث. وروي عن ابن عباس وغيره: "إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء - يريد صبيانا بنات وغلمانا - فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء. وقال ابن عباس أيضا: تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
*3*الآية: 267 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
فيه إحدى عشرة مسألة:
ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد. والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة. تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افْعَلْ صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهي عنه في النقل كما هو منهي عنه في الفرض، والله أحق من اختير له. وروى البراء أن رجلا علق قِنْوَ حَشَف، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " بئسما علق" فنزلت الآية، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله. والأمر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار. وجمهور المتأولين قالوا: معنى { من طيبات} من جيد ومختار { ما كسبتم}. وقال ابن زيد: من حلال {ما كسبتم}.
الثانية: - الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتي حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه. والميراث داخل في هذا، لأن غير الوارث قد كسبه. قال سهل بن عبدالله: وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن. قال: إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا أفضل، لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن وكسبه وعن إنفاقه، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال.
الثالثة: - قال ابن خويز منداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا".
الرابعة: - قوله تعالى: { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} يعني النبات والمعادن والركاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة
أوسق زكاة". والوَسْق ستون صاعا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة. وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب. وسيأتي بيان هذا في "الأنعام" مستوفى. وأما المعدن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العجماء جرحها جُبَار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس ". قال علماؤنا: لما قال صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس " دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز، لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس، فلما قال "وفي الركاز الخمس" علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم.
والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك، لأنهم يقولون في الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب، فيها الخمس، لأنها ركاز. وقد روى عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء. وروى عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركاز قال: "الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض". عبدالله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبي حاتم. وقد روى من طريق أخرى عن أبي هريرة ولا يصح، ذكره الدارقطني. ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان
دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة.
الخامسة: - واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد، فقال مالك: ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أو في فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة. قال: وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم. وقيل: بل هو لجملة أهل الصلح. قال إسماعيل: وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله، فكان له أربعة أخماسه. وقال ابن القاسم: كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا: إن فيه الخمس ثم رجع فقال: لا أرى فيه شيئا، ثم آخر ما فارقناه أن قال: فيه الخمس. وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار: إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس. وخالفه أبو يوسف فقال: إنه للواجد دون صاحب الدار، وهو قول الثوري: وان وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس. ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين. ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا: سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لأحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول الليث وعبدالله بن نافع والشافعي وأكثر أهل العلم.
السادسة: - وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه، فقال مالك وأصحابه: لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس
أواق فضة، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه. والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا. قال سحنون في رجل له معادن: إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكى إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة. فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه. وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل، وهو قول الثوري. وذكر المزني عن الشافعي قال: وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن. قال المزني: الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه. وقال الليث بن سعد: ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" أخرجه الترمذي والدارقطني. واحتجوا أيضا بما رواه عبدالرحمن بن أنعم عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها، بعثها علي رضي الله عنه من اليمن. قال الشافعي: والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة. وحجة مالك حديث عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة. وهذا
حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة. ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه. ذكره البزار، ورواه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها. وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، ذكره البزار أيضا، وكثير مجمع على ضعفه. هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة [النحل] حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض. ويأتي في "الأنبياء" معنى قوله عليه السلام: " العجماء جرحها جبار" كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
السابعة: - قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في "النساء" إن شاء الله تعالى. ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث. وروى النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: هو الجعرور ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة. وروى الدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس قال سفيان: يعني الشيص - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاء بهذا" ؟ وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به. فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة - قال الزهري: لونين من
تمر المدينة - وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه، وسيأتي. وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبدالله "ولا تأمموا" وهما لغتان. وقرأ مسلم بن جندب "ولا تيمموا" بضم التاء وكسر الميم. وقرأ ابن كثير "تيمموا" بتشديد التاء. وفي اللفظة لغات، منها "أممت الشيء" مخففة الميم الأولى و"أممته" بشدها، و"يممته وتيممته". وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ "ولا تؤمموا" بهمزة بعد التاء المضمومة.
الثامنة: - قوله تعالى: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال الجرجاني في كتاب "نظم القرآن": قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله تعالى {الخبيث} ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: {منه تنفقون} وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع. والضمير في "منه" عائد على الخبيث وهو الدون والرديء. قال الجرجاني: وقال فريق آخر: الكلام متصل إلى قوله "منه"، فالضمير في "منه" عائد على "ما كسبتم" ويجيء "تنفقون" كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله.
التاسعة: - قوله تعالى: { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك. وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه. وروي نحوه عن علي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة. قال ابن العربي: لو كانت في الفرض لما قال "ولستم بآخذيه" لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل. وقال البراء بن عازب أيضا معناه: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لو أهدى لكم {إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي تستحي من المهدي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه. قال ابن عطية: وهذا يشبه كون الآية في التطوع. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه.
العاشرة: - قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، ومن ذلك قول الطرماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ... ل أناس يرضون بالإغماض
وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين، لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه - قال:
إلى كم وكم أشياء منك تريبني ... أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه. وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية - وأشار إليه مكي - وإما من قول العرب: أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر، كما تقول: أعمن أي أتى عمان، وأعرق أي أتى العراق، وأنجد وأغور أي أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وعنه أيضا. "تغمضوا" بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها. فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم. والثانية، وهى قراءة قتادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان. وقال أبو عمرو الداني: معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان. وحكى مكي عن الحسن "إلا أن تغمضوا" مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة أيضا "تغمضوا" بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا. قال أبو عمرو الداني: معناه إلا أن يغمض لكم، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه. وقال ابن جني: معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس. وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، إلى غير ذلك من الأمثلة. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض. وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك، إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدى أو مأخوذا في دين على قول غيره.
وقال المهدوي: ومن قرأ "تغمضوا" فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه. قال الجوهري: وغمضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت، وقال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]. يقال: أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه. و"أن" في موضع نصب، والتقدير إلا بأن.
الحادية عشرة: - قوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } نبه سبحانه وتعالى على صفة الغني، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه. و"حميد" معناه محمود في كل حال. وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في "الكتاب الأسنى" والحمد لله. قال الزجاج في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}: أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه.
*3*الآية: 268 {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:
الاولى: - قوله تعالى: { الشَّيْطَانُ} تقدم معنى الشيطان واشتقاقه فلا معنى لإعادته. و"يعدكم" معناه يخوفكم "الفقر" أي بالفقر لئلا تنفقوا. فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها. وقيل: أي بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا. وقرئ "الفُقْر" بضم الفاء وهي لغة. قال الجوهري: والفقر لغة في الفقر، مثل الضُّعف والضَّعف.
الثانية: - قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} الوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقدر بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعا. قال ابن عباس: في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان. وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان - ثم قرأ – {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ". قال: هذا حديث حسن صحيح. ويجوز في غير القرآن "ويأمركم الفحشاء" بحذف الباء، وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة. والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى.
الثالثة: - ذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه. قال ابن عطية: وليس في الآية حجة قاطعة بل المعارضة بها قوية. وروي أن في التوراة "عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة". وفي القرآن مصداقه وهو قوله: "{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. ذكره ابن عباس. { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} تقدم معناه. والمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يعطي من سعة ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة. وهما اسمان من أسمائه ذكرناهما في جملة الأسماء في "الكتاب الأسنى" والحمد لله.
*3*الآية: 269 {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} " أي يعطيها لمن يشاء من عباده. واختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة. ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره. وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك بن أنس: الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم. وقال الحسن: الحكمة الورع.
قلت: وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم. وفي البخاري: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقال هنا: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً} [البقرة: 59]. وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده: حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال: أخبرنا ثابت بن عجولان الأنصاري قال: كان يقال: إن الله يريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم. قال مروان: يعني بالحكمة القرآن.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} يقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين
من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: "{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85]. وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم. وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وسمى العلم والقرآن {خَيْراً كَثِيراً} . وقرأ الجمهور "ومن يؤت" على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب "ومن يؤت" بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة، فالفاعل اسم الله عز وجل. و"من" مفعول أول مقدم، والحكمة مفعول ثان. والألباب: العقول، واحدها لب وقد تقدم.
*3*الآية: 270 {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
شرط وجوابه، وكانت النذور من سيرة العرب تكثر منها، فذكر الله تعالى النوعين، ما يفعله المرء متبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه. وفي الآية معنى الوعد والوعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا ولا يجد له ناصرا فيه. ومعنى "يعلمه" يحصيه، قاله مجاهد. ووحد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس: التقدير {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} فإن الله يعلمها، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على "ما" كما أنشد سيبويه لامرئ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
ويكون { أو نذرتم من نذر } معطوفا عليه. قال ابن عطية: ووحد الضمير في {يعلمه} وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص.
قلت: وهذا حسن: فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر. والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر - بضم الذال - وينذر - بكسرها - . وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى.
*3*الآية: 271 { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات. قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل، لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده. قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك. وروى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إ ن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة". وفي الحديث: "صدقة السر تطفئ غضب الرب".
قال ابن العربي: وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت، فأما صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا
بأنها في السر أفضل منها في الجهر، بيد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها والمعطى إياها والناس الشاهدين لها. أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدوة.
قلت: هذا لمن قويت حاله وحسنت نيته وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل.
وأما المعطى إياها فإن السر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، فكان يأمر بقسم الزكاة في السر. قال ابن عطية: وهذا مردود، لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل.
قلت: ذكر الكيا الطبري أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقا أولى، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه، على ما هو أحد قولي الشافعي. وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات ههنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أولى لئلا يلحقه تهمة، ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التهمة. وقال المهدوي: المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء أفضل في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك، فاستحسن العلماء إظهار الفرائض لئلا يظن بأحد المنع. قال ابن عطية: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوع، لأنه ذكر الإخفاء
ومدحه والإظهار ومدحه، فيجوز أن يتوجه إليهما جميعا. وقال النقاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] الآية.
قوله تعالى: { فَنِعِمَّا هِيَ} " ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك. ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. قال دعبل الخزاعي:
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ... وإن أنعموا باكتتام
وقال سهل بن هارون:
وقال العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا أعجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء فأحسن:
زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور خطير
واختلف القراء في قول "فنعما هي" فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير {فنعما هي} بكسر النون والعين. وقرأ أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل "فنعما" بكسر النون وسكون العين. وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي "فنعما" بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكن الميم. ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي. قال النحاس: ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام. وحكى النحويون في "نعم" أربع لغات: نعم الرجل زيد، هذا الأصل. ونعم الرجل، بكسر النون لكسر العين. ونعم الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة. ونعم الرجل، وهذا أفضل اللغات، والأصل فيها نَعِم. وهي تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ "فنعما هي" فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم. والتقدير الآخر أن يكون على
اللغة الجيدة، فيكون الأصل نِعْمَ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه. وقال أبو علي: من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال ونحوه. ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في "بارئكم - و - يأمركم" فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه. قال أبو علي: وأما من قرأ "نعما" بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر:
ما أقلت قدماي إنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
قال أبو علي: و"ما" من قوله تعالى : {نِعِمَّا} في موضع نصب، وقوله {هي } تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويدلك على هذا قوله { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي الإخفاء خير. فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك، أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مثله. {وَإِنْ تُخْفُوهَا} شرط، فلذلك حذفت النون. {وَتُؤْتُوهَا } عطف عليه. والجواب {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . { وَيُكَفِّرُ} اختلف القراء في قراءته، فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتادة وابن أبي إسحاق "ونكفر" بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم. وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش "يكفر" بنصب الراء. وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء، ورواه حفص عن عاصم، وكذلك روي عن الحسن، وروي عنه بالياء والجزم. وقرأ ابن عباس "وتكفر" بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء. وقرأ
عكرمة "وتكفر" بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء. وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ "وتكفر" بالتاء ورفع الراء. وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآ بتاء ونصب الراء. فهذه تسع قراءات أبينها "ونكفر" بالنون والرفع. هذا قول الخليل وسيبويه. قال النحاس: قال سيبويه: والرفع ههنا الوجه وهو الجيد، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء. وأجاز الجزم بحمله على المعنى، لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفر عنكم. وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش "يكفر" بالياء دون واو قبلها. قال النحاس: والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء. والذي روي عن عاصم "ويكفر" بالياء والرفع يكون معناه ويكفر الله، هذا قول أبي عبيد. وقال أبو حاتم: معناه يكفر الإعطاء. وقرأ ابن عباس "وتكفر" يكون معناه وتكفر الصدقات. وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء مكفر أيضا كما ذكرنا، وحكاه مكي. وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر. والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة. وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم. فأما نصب "ونكفر" فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد. قال المهدوي: وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما الرفع فليس فيه هذا المعنى.
قلت: هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه. و"من" في قوله { مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} للتبعيض المحض. وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وعد ووعيد.
*3*الآية: 272 {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ }
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فيه ثلاث مسائل
الأولى: - قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين. روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم". فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس لك من صدقة المسلمين شيء". فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات. وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك. وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك. وحكى الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} . وقيل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام.
الثانية: - قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه
من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا. وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية. قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع. والله أعلم. وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر. ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له. ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم" يعني يوم الفطر.
قلت: وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين. وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات. قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين.
قلت : وفي التنزيل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]. فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة، لقوله عليه السلام لمعاذ: " خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم " واتفق العلماء على ذلك على ما تقدم. فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا، والله أعلم. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب. وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين. وفي صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غني وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية "الصدقات".
الثالثة: - قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} " أي يرشد من يشاء. وفي هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، كما تقدم.
قوله تعالى: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} شرط وجوابه. والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] وقوله {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. إلى غير ذلك. وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال. وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} . ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه. و"ابتغاء" هو على المفعول له. وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم. وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك ".
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} {يوف إليكم} تأكيد وبيان لقوله: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم.
*3*الآية: 273 {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
فيه عشرة مسائل:
الاولى: - قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} اللام متعلقة بقوله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء. قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء
الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصفة. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشى معه. فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناموا في المسجد". وخرج الترمذي عن البراء بن عازب {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فيضربه بعصاه فيسقط من البُسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحَشَف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]. قال: ولو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال علماؤنا: وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا. ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى: { الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} " والمعنى حبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: معنى { أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى: { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} لكون البلاد كلها كفرا مطبقا.
وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء. وقيل: معنى {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد. والأول أظهر. والله أعلم.
الثانية: - قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه. وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرضى ولا عميان. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره. وفتح السين وكسرها في "يحسبهم" لغتان. قال أبو علي: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس. و"من" في قوله "من التعفف" لابتداء الغاية. وقيل لبيان الجنس.
الثالثة: - قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل. واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب.
والسيما "مقصورة": العلامة، وقد تمد فيقال السيماء. وقد اختلف العلماء في تعيينههنا، فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع. السدي: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة
النعمة. ابن زيد: رثاثة ثيابهم. وقال قوم وحكاه مكي: أثر السجود. ابن عطية: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم.
قلت: وهده السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر "الفتح" بقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. والله أعلم. وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغني والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الإله.
الرابعة - قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} مصدر في موضع الحال أي ملحفين يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء ويقال:
وليس للملحف مثل الرد
واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر:
فظل يحفهن بقفقفيه ... ويلحفهن هفهافا ثخينا
يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه. وروى النسائي ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم { لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} .
الخامسة - واختلف العلماء في معنى قوله {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن
المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح. وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا. روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته". وفي الموطأ "عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله لنا شيئاً نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا أجد ما أعطيك" فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه يغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ". قال الأسدي: فقلت للقحة لنا خير من أوقية - قال مالك: والأوقية أربعون درهما - قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله". قال ابن عبدالبر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم. وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث. وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله
إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.
السادسة - قال ابن عبدالبر: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية. قيل لأبي عبدالله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر. قيل له: فإن تعفف ؟ قال: ذلك خير له. ثم قال: ما أظن أحدا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه. ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري "من استعف أعفه الله". وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "تعفف". قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع. قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال: "تصدقوا" ولم يقل أعطوهم. قال أبو عمر: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم " اشفعوا تؤجروا". وفيه إطلاق السؤال لغيره. والله أعلم. وقال: " ألا رجل يتصدق على هذا" ؟ قال أبو بكر: قيل له - يعني أحمد بن حنبل - فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه. ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحب إلي.
قلت: قد روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: "لا وإن كنت سائلا لا بد فاسأل الصالحين ". فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته
بالله فهو أعلى. قال إبراهيم بن أدهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا.
السابعة: - فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله. روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم رددته" ؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله ". فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته. وهذا نص. وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك". زاد النسائي - بعد قوله " خذه - فتموله أو تصدق به". وروى مسلم من حديث عبدالله بن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق". وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل. قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف " أي الإشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعله يبعث إلي بقلبك. قيل له: وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب. قيل له: هذا شديد قال: وإن كان شديدا فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلي. قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف. قال أبو عمر: الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع
عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض. وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة. وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع.
الثامنة: الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر " رواه أبو هريرة خرجه مسلم. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم " رواه مسلم أيضا.
التاسعة: - السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقاً في سؤاله فلا يفلح في رده.
العاشرة: - فإن كان محتاجاً إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي: سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلاً يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة. فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسني أخذ الثناء.
*3*الآية: 274 {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
فيه مسألة واحدة:
روي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء وعبدالله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله. وذكر ابن سعد في الطبقات قال: أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال: أنبأنا سعيد بن سنان عن يزيد بن عبدالله بن عريب عن
أبيه عن جده عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} قال: "هم أصحاب الخيل". وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالها وأرواثها عند الله يوم القيامة كذكي المسك". وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم جهراً، ذكره عبدالرزاق قال: أخبرنا عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس. ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره. وقال قتادة. هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. ومعنى {بالليل والنهار} في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى: {فَلَهُمْ} لأن في الكلام معنى الجزاء. وقد تقدم. ولا يجوز زيد فمنطلق.
*3*الآية: 275 {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
*3*الآية: 276 {مْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
*3*الآية: 277 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
*3*الآية: 278 {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
*3*الآية: 279 {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}
الايات الثلاث تضمنت أحكام الربا وجواز عقود المبيعات والوعيد لمن استحل الربا على فعلة . وفي ذلك ثمان وثلاثون مسالة:
الاولى : - قوله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} " يأكلون" يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل. والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث: " فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها " يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، خرج الحديث مسلم رحمه الله. وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده، فمرة أطلقه على كسب الحرام، كما قال الله تعالى في اليهود: {وَأَ خْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]. ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب. والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النساء، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبينه. وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم: أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه. وهذا كله محرم باتفاق الأمة.
الثانية: - أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه.
الثالثة: - روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بِمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء".
وفي حديث عبادة بن الصامت: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ". وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مُدْيٌ بمديٍ والشعير بالشعير مدي بمدي والتمر بالتمر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد وأما نسيئة فلا" . وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا، فلا يجوز منهما اثنان بواحد، وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام، وأضاف مالك إليهما السلت. وقال الليث: السلت والدخن والذرة صنف واحد، وقاله ابن وهب.
قلت : وإذا ثبتت السنة فلا قول معها. وقال عليه السلام: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ". وقوله: " البر بالبر والشعير بالشعير" دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر، ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة، ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع، بل فصل وبين، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأصحاب الحديث.
الرابعة: - كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب. وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة، حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره، قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات
الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال وإن رغم - ما أبالي إلا أصحبه في جنده في ليلة سوداء. قال حماد هذا أو نحوه. قال ابن عبدالبر: وقد روي أن هذه القصة إنما كانت لأبي الدرداء مع معاوية. ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه، ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب [الربا]. ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز، وغير نكير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد خفي على أبي بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم، فمعاوية أخرى. ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس، فقد كان وهو بحر في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد. وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر. قال قبيصة بن ذؤيب: إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة. فقال له عمر: ما أقدمك ؟ فأخبره. فقال: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك ! وكتب إلى معاوية "لا إمارة لك عليه".
الخامسة : - روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء ". قال العلماء فقوله
عليه السلام: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" إشارة إلى جنس الأصل المضروب، بدليل قوله: " الفضة بالفضة والذهب بالذهب" الحديث. والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل سواء بسواء على كل حال، على هذا جماعة أهل العلم على ما بينا. واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد.
السادسة: - لا اعتبار بما قد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضراب، خذ فضتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه، أن ذلك جائز للضرورة، وأنه قد عمل به بعض الناس. وحكاه ابن العربي في قبسه عن مالك في غير التاجر، وإن مالكا خفف في ذلك، فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا. والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له: اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأجرة، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرتها، فالذي فعل مالك أولا هو الذي يكون آخرا، ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال، وأباه سائر الفقهاء. قال ابن العربي: والحجة فيه لمالك بينة. قال أبو عمر رحمه الله: وهذا هو عين الربا الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من زاد أو ازداد فقد أربى". وقد رد ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها. وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق، وليس الربا إلا على من أراد أن يربي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه. ونسي الأبهري أصله في قطع الذرائع، وقوله
فيمن باع ثوبا بنسيئة وهو لا نية له في شرائه ثم يجده في السوق يباع: إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه، ومثله كثير، ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء. وقد قال عمر: لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا. وهذا بين لمن رزق الإنصاف وألهم رشده.
قلت: وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهم كالمتحقق، فمنع دينارا ودرهما بدينار ودرهم سدا للذريعة وحسما للتوهمات، إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا. وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع، فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب. وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنوي، وذلك أنه منع دينارا من الذهب العالي ودينارا من الذهب الدون في مقابلة العالي وألفى الدون، وهذا من دقيق نظره رحمه الله، فدل أن تلك الرواية عنه منكرة ولا تصح. والله أعلم.
السابعة: - قال الخطابي: التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير، واحدتها تبرة. والعين: المضروب من الدراهم أو الدنانير. وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب. وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها، وذلك معنى قوله: " تبرها وعينها سواء".
الثامنة: - أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مثلا بمثل. واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، والحبة الواحدة من القمح بحبتين، فمنعه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري، وهو قياس قول مالك وهو الصحيح، لأن ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا ونظرا. احتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لا تجب عليه القيمة، قال: لأنه لا مكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل.
التاسعة: - اعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا، فقال أبو حنيفة.
علة ذلك كونه مكيلا أو موزونا جنسا، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئا لا يجوز، فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا، لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبز قرصا بقرصين، لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه. وقال الشافعي: العلة كونه مطعوما جنسا. هذا قوله في الجديد، فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبر بالخبز متفاضلا ولا نسيئا، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا. ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين، ولا رمانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة، لأن ذلك كله طعام مأكول. وقال في القديم: كونه مكيلا أو موزونا. واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها، وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر. فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء. وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد". ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضراوات. قال مالك: لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا، لأنه مما يدخر، ويجوز عنده مثلا بمثل. وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: جائز بيضة ببيضتين وأكثر، لأنه مما لا يدخر، وهو قول الأوزاعي.
العاشرة: - اختلف النحاة في لفظ "الربا" فقال البصريون: هو من ذوات الواو، لأنك تقول في تثنيته: رِبَوان، قاله سيبويه. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء، لأجل الكسرة التي في أوله. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرؤون: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] قال محمد بن يزيد: كتب "الربا" في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو.
الحادية عشرة: - قوله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الجملة خبر الابتداء وهو "الذين". والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد. وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه. وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جميع أهل المحشر. ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود "لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم". قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره: قد جن هذا! وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتصبح عن غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق
وقال آخر:
لعمرك بي من حب أسماء أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. و"يتخبطه" يتفعله من خبط يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده. فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون. ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم. وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغال يجيء بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك. وقال تعالى: {يأكلون} والمراد يكسبون الربا ويفعلونه. وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص، يقال: رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون، قاله في المجمل. فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال داخل في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} .
الثانية عشرة: - في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس، وقد مضى الرد عليهم فيما تقدم من هذا الكتاب. وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً". وروي من حديث محمد بن المثنى حدثنا أبو داود حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام ". والمس: الجنون، يقال: مس الرجل وألس، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا، وذلك علامة الربا في الآخرة. وروي في حديث الإسراء: " فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة يتخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا، فإن الله تعالى يقول : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [المؤمن: 46] - قلت - يا جبريل من هؤلاء؟ قال: "هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس". والمس الجنون وكذلك الأولق والألس والرود.
الثالثة عشرة: - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه
ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية.
الرابعة عشرة: - قوله تعالى: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال: "ألا إن كل رباً موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله" . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به. وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس.
الخامسة عشرة: - قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} " هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر 1، 2] ثم استثنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]. وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحَبلَ الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه. ونظيره {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء. وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل.