كتاب : البرهان في علوم القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
الثالث
أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة
وأورد الزمخشري بأنه لا يمنع فعلان صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه فَعْلى كغضبان وغضبى وما لم يكن مؤنثه فعلى ينصرف كندمان وندمانة وتبعه ابن عساكر بأن رحمن وإن لم يكن له مؤنث على فعلى فليس له مؤنث فعلانة لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه ف إذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس وكل ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف
قال الجويني: وهذا فيه ضعف في الظاهر وإن كان حسنا في الحقيقة لأنه إذا لم يشبه غضبان ولم يشبه ندمان من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن الأصل الصرف بل كان ينبغي أن يقال ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف ولا يصح أن يقال ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا لأن الصرف ليس بالشبه إنما هو بالأصل وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد
قلت: والتقدير الذي نقلناه عن ابن عساكر يدفع هذا عن الزمخشري نعم أنكر ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله بـ "الرحمن" لزيادة الألف والنون في منع الصرف وقال لم يمثل به غيره ولا ينبغي التمثيل به فإنه اسم علم بالغلبة لله مختص به وما كان كذلك لم يجرد من " ال " ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا مثل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة
قال وقد أُنْكِر على الشاطبي
*تبارك رحمانا رحيما وموئلا*
لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة
ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب فذكر أنه من تعنتهم في كفرهم كما سبق
ما جاء على فعيل
وأما "فعيل" فعند النحاة أنه من صيغ المبالغة والتكرار كرحيم وسميع وقدير وخبير وحفيظ وحكيم وحليم وعليم فإنه محول عن "فاعل" بالنسبة وهو إنما يكون كذلك للفاعل لا للمفعول به بدليل قولهم قتيل وجريح والقتل لا يتفاوت
وقد يجيء في معنى الجمع كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} وقوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} وغير ذلك
ومن المشكل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فإن النفي متوجه على الخبر وهو صيغة مبالغة ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل فلا يلزم نفي أصل النسيان وهو كالسؤال الآتي في {ظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}
ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة ويختص هذا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله
ما جاء على فعّال
وأما "فعال" فنحو غفار ومنان وتواب ووهاب {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ونحو: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ونحو: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}
ومن المشكل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وتقريره: أنه لا يلزم من نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم والواقع نفيه قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا:
أحدهما : أن "ظلاما" وإن كان يراد به الكثرة لكنه جاء في مقابلة العبيد وهو جمع كثرة إذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا
ويرشح هذا الجواب أنه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر: {عَلاَّ مُ الْغُيُوبِ} فقابل صيغة "فَعَّال" بالجمع وقال في موضع آخر: { عَالِمُ الْغَيْبِ} فقابل صيغة "فاعل" الدالة على أصل الفعل بالواحد وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة على الأنبياء
وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة وليس النزاع في تفضيل الجمع على الواحد
الثاني: أنه نفى الظلم الكثير فينتفي القليل ضرورة لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع كان الظلم القليل في المنفعة أكثر
الثالث: أنه على النسب واختاره ابن مالك وحكاه في شرح الكافية عن المحققين أي: "ذا ظلم" كقوله: "وليس بنبال" أي: بذي نبل أي: لا ينسب إلي الظلم فيكون من باب بزاز وعطار
الرابع: أن فعالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقوله طرفة:
ولست بِحَلاَّلِ التَّلاع مخافةً
ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القوم أَرْفِدِ
لا يريد أنه يحل التلاع قليلا لأن ذلك يدفعه قوله: "يسترفد القوم أرفد" هذا يدل على نفي الحال في كل حال لأن تمام المدح لا يحصل بإيراد الكثرة
الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه وقد جل عنه لكان كثيرا لاستغنائه عنه كما يقال زلة العالم كبيرة
ذكره الحريري في الدرة قال: وإليه أشار المخزومي في قوله:
كفوفة الظفر تخَفْىَ من حقارتها
ومثلها في سواد العين مشهور
السادس: أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد ويصدق بنفي كل واحد ويعيَّن الثاني في الآية للدليل الخارجي وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
السابع: أنه أراد ليس بظالم ليس بظالم ليس بظالم فجعل في مقابلة ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ}
الثامن: أنه جواب لمن قال ظلام والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم كما إذا خرج مخرج الغالب
التاسع : أنه قال: "بظلام" لأنه قد يظن أن من يعذب غيره عذابا شديدا ظلام قبل الفحص عن جرم الذنب
العاشر: أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة فيها وغير المبالغة سواء في الإثبات جرى النفي على ذلك
الحادي عشر: أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلاما للعبيد من ولاة الجور
وأما "فُعَال" بالتخفيف والتشديد نحو عجاب وكبار قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال : {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال المعري في "اللامع العزيزي": "فَعيل" إذا أريد به المبالغة نقل به إلى "فُعال" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّال" ذلك من عجيب وعُجَاب وعُجَّاب وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي
{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَّابٌ} بالتشديد وقالوا طَويل وطُوّال ويقال نسب قريب وقُراب وهو أبلغ قال الحارث بن ظالم:
وكنت إذا رأيت بني لُؤَي
عرفت الودَّ والنسب القُرابا
ما جاء على فَعُول
وأما "فَعُول" كغفور وشكور وودود فمنه قوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
وقوله تعالى في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}
وقد أطربني قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقلت: الحمد لله الذي ما قال "الشاكر" فإن قيل: قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } كيف غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران؟
قلت: هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي فأجاب بأن نعم الله على عباده كثيرة وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل وكل كفر يأتي في مقابلتها عظيم فجاء شكور بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعول" على وجه المبالغة فتهلل وجه الصاحب
ما جاء على فَعِل
وأما "فَعِل" فقوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}
وقوله تعالى: {كَذَّابٌ أَشِرٌ} قرن "فَعِلا" بفَعَّال
ما جاء على فَعُل
وأما "فَعُل" فيكون صفة كقوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} اللبد الكثير وقوله تعالى: {إِنَّهَا َلإِحْدَى الْكُبَرِ}
ويكون مصدر كهُدى وتُقى ويكون معدولا عن "أَفْعَل" من كذا كقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كما قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}
ما جاء على فُعْلى
وأما فُعْلى فيكون اسما كالشورى والرجعى قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وقال تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى في تأنيث الأسوأ قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ}
قال الفارسي: يحتمل السوءى تأويلين:
أحدهما: أن يكون تأنيث "الأسوأ" والمعنى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون
السوءى على هذا خارجة من الصلة فتنصب على الموضع وموضع "أن" نصب فإنه مفعول له أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لتكذيبهم
الثاني: أن يكون السوأى مصدرا مثل الرُجعَى وعلى هذا فهي داخلة في الصلة ومنتصبة بأساءوا كقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ويكون {أَنْ كَذَّبُوا} نصبا لأنه خبر كان
ويجوز في إعراب {السُّوأَى}وجه ثالث وهو: أن يكون في موضع رفع صفة "العاقبة" وتقديرها: ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب
و"الفُعْلى" في هذا الباب وإن كانت في الأصل صفة بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} وقوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} فجرت صفة على موصوفها فإنها في كثير من الأمور تجري مجرى الأسماء كالأبطح والأجرع والأدهم
المجلد الثالث
تابع النوع السادس والأربعون
...القسم الحادي عشر: المثنى وإرادة الواحد .
كقوله تعالى: {يخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وإنما تخرج الحلية من الملح وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب الهذلي حيث قال يذكر الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج
والفرات لا يدوم فوقها وإنما يدوم الأجاج.
وقال أبو علي في قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إن ظاهر اللفظ يقتضي أن يكون من مكة والطائف جميعا ولما لم يمكن أن يكون منهما دل المعنى على تقدير"رجل من إحدى القريتين".
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} أي في إحداهن.
وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} والناسي كان يوشع بدليل قوله لموسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ولكن أضيف النسيان لهما جميعا لسكوت موسى عنه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} والتعجيل يكون في اليوم الثاني وقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قيل إنه من هذا أيضا وإن موضع الإثم والتعجيل يجعل المتأخر الذي لم يقصر مثل ما جعل للمقصر ويحتمل أن يراد:لا يقولن أحدهما لصاحبه أنت مقصر فيكون المعنى لا يؤثم أحدهما صاحبه.
وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} أي أحدهما على أحد القولين.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فالجناح على الزوج لأنه أخذ ما أعطى قال أبو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من ذلك جازت الفدية وليس الشرط أن يجتمعا على عدم الإقامة.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قيل هو خطاب للملك وقال المبرد: ثناه على"ألق"والمعنى: ألق ألق وكذلك القول في"قفا"وخالفه أبو إسحاق وقال بل هو مخاطبة للملكين.
وقال الفراء في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال: يخاطب الإنسان مخاطبه بالتثنية.
وجعل منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقوله تعالى: {جَنَّتَيْنِ} فقيل: جنة واحدة بدليل قوله تعالى آخر الآية: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} فأفرد بعد ما ثنى.
وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} فإنه ما ثنى هنا إلا للإشعار بأن لها وجهين وأنك إذا نظرت عن يمينك ويسارك رأيت في كلتا الناحيتين ما يملآ عينيك قرة وصدرك مسرة.
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم فهو من باب"والنجوم الطوالع" قاله أبو الحسن وحكاه عنه ابن جني في كتاب "القد" وعليه حمل ابن جني وغيره قول امرئ القيس:
*قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*
.
ويؤيده قوله بعده:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
وقول الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما ... سحابة موت بالسيوف الصوارم
وإنما هو مربد البصرة فقط.
وقوله: "ودار لها بالرقمتين".
وقوله: "ببطن المكتين".
وقول جرير:
لما مررت بالديرين ارقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
قالوا: أراد "دير الوليد" فثناه باعتبار ما حوله.
القسم الثاني عشر. إطلاق الجمع وإرادة الواحد.
كقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} إلى قوله: {فَذَرْهُمْ.
فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قال أبو بكر الصيرفي: فهذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إذ لا نبي معه ولا بعده.
ومثله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية وهذا مما لا شريك فيه والحكمة في التعبير بصيغة الجمع أنه لما كانت تصاريف أقضيته سبحانه وتعالى تجري على أيدي خلقه نزلت أفعالهم منزلة قبول القول بمورد الجمع.
وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}.
وفيه نظر من جهة أنه يحتمل مخاطبة رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا.
ومنه: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وغير ذلك وقد تقدم في وجوه المخاطبات.
ومنه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} والمراد جبريل.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والمراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} والمراد بهم ابن مسعود الثقفي وإنما.
جاز إطلاق لفظ "الناس" على الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى: {إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} والقائل ذلك رءوسهم وقيل: المراد بالناس ركب من عبد القيس دسهم أبو سفيان إلى المسلمين وضمن لهم عليه جعلا قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما.
القسم الثالث عشر: إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع.
كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} فإنه وإن كان لفظه لفظ التثنية فهو جمع والمعنى "كرات" لأن البصر لا يحسر إلا بالجمع.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
القسم الرابع عشر: التكرار على وجه التأكيد.
وهو مصدر كرر إذا ردد وأعاد هو "تَفْعال" بفتح التاء وليس بقياس بخلاف التفعيل.
وقال الكوفيون: هو مصدر "فَعَّل" والألف عوض من الياء في التفعيل والأول مذهب سيبويه.
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ظنا أنه لا فائدة له وليس كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إذا تعلق بعضه ببعض وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيدا وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه أو الاجتهاد في الدعاء عليه حيث تقصد الدعاء وإنما نزل القرآن بلسانهم وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة وكلها داعية إلى الشهوات ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قال في "الكشاف" أي سهلناه للادكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد.
ثم تارة يكون التكرار مرتين كقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
وقوله: {أََوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
وقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}.
وفائدته العظمى التقرير وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر.
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقال: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى خشية تناسي الأول لطول العهد به.
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
فأعاد قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} لا لتقرير الأول بل لغرض آخر لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها ومعنى الثاني أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني.
وأخر في الأول لأن الكلام أولا في الفعل وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
واعلم أنه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل أما إذا وافق الأصل فلا ولهذا لا يتجه سؤالهم لم كرر "إياك" في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فقيل إنما كررت للتأكيد كما تقول "بين زبد وبين عمرو مال".
وقيل إنما كررت لارتفاع أن يتوهم إذا حذفت أن مفعول "نستعين" ضمير متصل واقع بعد الفعل فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود بتقديم المعمول على عامله.
والتحقيق أن السؤال غير متجه لأن هنا عاملين متغايرين كل منهما يقتضي معمولا فإذا ذكر معمول كل واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله والحذف خلاف الأصل فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره ولا حاجة إلى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره.
فوائد التكرير.
وله فوائد:.
أحدها: التأكيد،واعلم أن التكرير أبلغ من التأكيد لأنه وقع في تكرار التأسيس وهو أبلغ من التأكيد فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: {كَلاَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إن الثانية تأسيس لا تأكيد لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء فقال: وفي {ثُمَّ} تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وكذا قوله: {مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} يحتمل أن يكون منه وأن يكون من المتماثلين.
والحاصل أنه:هل هو إنذار تأكيد أو إنذاران؟ إن قلت":سوف تعلم ثم سوف تعلم "كان أجود منه بغير عطف لتجريه على غالب استعمال التأكيد ولعدم احتماله لتعدد المخبر به.
وأطلق بدر الدين بن مالك في شرح" الخلاصة "أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف ولم تختص بثم وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص وليس كذلك فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإن المأمور فيهما واحد كما قاله النحاس والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ عز الدين ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون" التقوى "الأولى مصروفة لشيء غير" التقوى "الثانية مع شأن إرادته.
وقولهم:إنه تأكيد فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الإنشاء لا أنه تأكيد لفظي ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف ولما فصل بينه وبين غيره: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ}.
فإن قلت:"اتقوا" الثانية معطوفة على "ولتنظر".
أجيب بأنهم قد اتفقوا على أن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} لا على قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهو نظير ما نحن فيه.
وقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ويحتمل أن يكون "اصطفاءين" و"ذكرين" وهو الأقرب في الذكر لأنه محل طلب فيه تكرار الذكر.
وكقوله تعالى حكاية عن موسى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كرر "أولئك".
وكذلك قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكذا قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي} إلى قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} كررت "أن" في أربع مواضيع تأكيدا.
وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه قوله.
تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} فإنه كرر فيه النداء لذلك.
الثالث: إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فهذا تكرار للأول ألا ترى أن لما لا تجيء بالفاء!.
ومثله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}.
ومنه قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فقوله: {أَنَّكُمْ} الثاني بناء على الأول إذ كارا به خشية تناسيه.
وقوله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
وكذلك قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
بغير {إِنَّا} وفي غيره من مواضع ذكر {إِنَّا كَذَلِكَ} لأنه يبنى على ما سبقه في هذه القصة من قوله {إِنَّا كَذَلِكَ} فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا ولأن التأكيد بالنسبة فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء وهذا أسلوب غريب وقل في القرآن وجوده وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ كالمبتدأ وحروف الشرطين الواقعين في الماضي والمضارع ويستغنى عنه عند أمر محذور التناسي.
وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل بأن تتقدم التفاصيل والجزئيات في القرآن فإذا خشى عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجملي كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ} إلى قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فقوله "فبظلم" بيان لذكر الجملي على ما سبق في القول من التفصيل وذلك أن الظلم جملى على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الانبياء {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} والقول على مريم بالبهتان ودعوى قتل المسيح عليه السلام إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين وهما قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} إلى قوله: {شَهِيداً} وأنه لما ذكر بالبناء جملى الظلم من قوله "فبظلم" لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوى عليه ذكر حينئد متعلق الجملى من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن بلى معموله فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} هو متعلق بقوله: {فَبِظُلْمٍ} وقد اشتمل الظلم على كل ما تقدم قبله كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرمات الآخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كل واحد ثم ذكر العام المنطوي عليها فهذا تعميم بعد تخصيص ثم ذكرت جزئيات آخر بخصوصها فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية وهو التعميم بعد التخصيص ثم التخصيص بعد التعميم ثم البناء بعد الاعتراض.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً} فقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هو المقتضى الاول المتقدم وقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هو المقتضى الثاني وهو البناء لأنه المذكر بالمقتضى الأول الذي هو "لولا" خشية تناسيه فهو مبنى على الأول ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} ورودا واحدا من حيث أخذا معا كأنهما مقتضى منفرد من حيث هما واحد بالنوع وهو الشرط الماضي فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} بناء على قوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ} نظر في المضارعة وأما قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فيجوز أن يكون تكريرا ويجوز أن يكون الكلام عند قوله: {وَأَصْلَحُوا} ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا.
وقد جعل ابن المنير من هذا القسم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ثم قال: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}.
وقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} ونازعه العراق لأن المعاد فيهما أخص من الأول وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخص منه كما بينا.
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ِ}.
وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}.
وقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}.
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وذكر "ثم" في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير بل هو مستمر دائما.
السادس: التعجب كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض على حد قاتله الله ما أشجعه!.
السابع: لتعدد المتعلق كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإنها وأن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه وهي أنواع مختلفة وصور شتى.
فإن قيل فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها فما معنى قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} وأي نعمة هنا! وإنما هو وعيد.
قيل: إن نعم الله فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها نظير أنعمه على ما وعده وبشر من ثوابه على طاعته ليرغبوا فيها ويحرصوا عليها وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها وعليه قول بعض حكماء الشعراء:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.
فإن قيل: فإذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.
قلت: إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.
وقد تكلف لتوجيه العدة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة قال الكرماني جاءت آية واحدة في هذه السورة كررت نيفا وثلاثين مرة لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان لأن لها ثمانية أبواب وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم فأعظم النقم جهنم ولها سبعة أبواب وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثقلين.
وقال غيره: نبه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدة أمهات النعم وأفرد سبعا منها للتخويف وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء حيث اتصلت بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فكانت خمس عشرة أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك ايضا فاستكملت إحدى وثلاثين.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عشر مرات لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فصار كأنه قال عقب كل قصة ويل للمكذبين بهذه القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فأثبت الويل لمن كذب بها.
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها وجعل للكفار في مقابلة كل مثل من الثواب ويل ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في ثمانية مواضع لأجل الوعظ فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد.
وأما قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله :{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل بالمفهوم على إيمان الأقل فكانت العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن وهما مرتبتان كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى :{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الآية، لأن علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه فإن المعاملات الإلهية للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية البرزخية ثم الحشرية كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغايقة بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة وفي [ثم] دلالة على الترقي إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار وفي المنذر به على التنويع.
ومنه تكرار :{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} قال الزمخشري: كرر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها وأن كلا من تلك الانباء مستحق باعتبار يختص به وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة ومنه قوله تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها.
يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن علي رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: إني أجد في القرآن تكرارا وذكر له ذلك فأجابه الحسن بما حاصله: إن الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلهتنا شهرا فجاء النفي متوجها إلى ذلك والمقصود أن هذه ليست من التكرار في شيء بل هي بالحذف والاختصار أليق وذلك لأن قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل وقوله :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} ،أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} في الحال ما أعبد في المستقبل.
والحاصل أن القصد نفى عبادته لآلهتهم في الآزمنة الثلاثة الحال والماضي والاستقبال والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ولا بد من نفيه لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر وهو أن الجملة الأولى فعلية والثانية أسمية وقولك: لا أفعله، ولا أنا فاعله، أحسن من قولك لا أفعله، ولا أفعله. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كما في قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}.{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. والمعنى أنه تبرأ من فعله ومن الاتصاف به وهو أبلغ في النفي وأما المشركون فلم ينتف عنهم الا بصيغة واحدة، وهي قوله :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الموضعين.
وفرق آخر وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} وقال في النفي عنهم :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عائد في حقه بين الجملتين وقال لا أعبد ما تعبدون بالمضارع وفي الثاني :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} بالماضي فإن المضارع يدل على الدوام بخلاف الماضي فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة ما أنا عابد له البتة ففيه كمال.
براءته ودوامها مما عبدوه ولو مرة بخلاف قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فإن النفي من جنس الاثبات وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة1 لن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل النفاق أشد إنكارا له لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قريش قالوا ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة :{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} والاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه :{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.
وقال صاحب [الينبوع]:لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.
وقال المفسرون في غريب القرآن: هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين فكرر للتأكيد وتشديد الوعيد.
ويحتمل أن يكون [الحين] في الأوليين يوم بدر، و[الحين] في هاتين يوم فتح مكة.
ومن فوائد قوله تعال في الأوليين :{ وَأَبْصِرْهُمْ } وفي هاتين { وَأَبْصِرْ } أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا فما تضمنت التشفي بهم قيل له :{وَأَبْصِرْهُمْ} ،وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم فلم يكن وفقا للتشفي بهم بل كان في استسلامهم وإسلامهم لعينه قرة ولقلبه مسرة فقيل له :{ أَبْصِرْ }.
ويحتمل على هذا إن شاء الله أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه :{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي يبصرون منك عليهم بالأمان ومننا عليهم بالإيمان.
ومنه قوله تعالى :{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وللتكرار [هنا] فائدتان:.
إحداهما: أن التحريم قد يكون في الطرفين ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو ارتدت الزوجية قبل الدخول يحرم النكاح من الطرفين والمانع من جهتهما فذكر الله سبحانه الثانية ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما.
والثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي ولهذا أتى فيها بالاسم الدال على الثبوت والثانية في المستقبل ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.
ومنه تكرار الإضراب.
واعلم أن بل إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.
وهو أما أن يقع في كلام الخلق ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم أو أن الثاني أولى.
وإما أن يقع في كلام الله تعالى وهو ضربان:.
أحدهما: أن يكون ما فيها من الرد راجعا إلى العباد كقوله تعالى :{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}.
والثاني: أن يكون إبطالا ولكنه على أنه قد انقضى وقته وأن الذي بعده أولى بالذكر كقوله تعالى :{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}.{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.
وزعم ابن مالك في شرح [الكافية ] أن [بل] حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لإبطال وهو مردود بما سبق وبقوله :{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ،فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الازواج.
ومنه قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، .
فالأول للمطلقين والثاني للشهود، نحو: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ،أولها للأزواج وآخرها للأولياء .
ومنه تكرار الأمثال، كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة ثناه الله تعالى.
قال الزمخشري:" والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته"، قال:" ولذلك أخر وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ".
ومنه تكرار القصص في القرآن كقصة إبليس في السجود لآدم وقصة موسى وغيره من الأنبياء، قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه، قال ابن العربي في القواصم:" ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة موسى في سبعين آية". انتهى.
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا ألا ترى أنه ذكر الحية1 في عصا موسى عليه السلام وذكرها في موضع آخر ثعبانا ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكمون عنه ما نزل بعد صدور الاولين وكان أكثر من آمن به مهاجريا فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين وكذلك سائر القصص فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة القوم وزيادة [تأكيد وتبصرة]، لآخرين وهم الحاضرون وعبر عن هذا ابن الجوزي وغيره.
الثالثة: تسليته لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى :{وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.
الرابعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الاحكام فلهذا كررت القصص دون الأحكام.
السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا، قال ابن فارس:" وهذا هو الصحيح".
السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} ،فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}إيتونا أنتم بسورة من مثله فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه.
الثامنة: أن القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ فأن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ثم قسم تلك الاجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة:.
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ولا أحدث مللا فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ليخرج بذلك الكلام أن.
تكون ألفاظه واحدة بأعيانها فيكون شيئا معادا فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ - لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في أخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد وقد كان المشركون في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم وبيان وجوه التأليف فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ولا يقع على كلامه عدد، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } وكقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} الآية.
وقال القفال في تفسيره: ذكر الله في أقاصيص بني اسرئيل وجوها من المقاصد:.
أحدها: الدلالة على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني: تعديد النعم على بني إسرائيل وما من الله على أسلافهم من الكرامة والفضل كالنجاة من آل فرعون وفرق البحر لهم وما أنزل عليه في التيه من المن والسلوى وتفجر الحجر وتظليل الغمام.
الثالث إخبار الله نبيه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء فكأنه تعالى يقول إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من العذاب بسببه فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرابع تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نزول العذاب بهم كما نزل بأسلافهم
وهنا سؤالان
أحدهما ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه السلام وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من القصص
والجواب من وجوه
الأول فيها من تشبيب النسوة به وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتن بأبدع الناس جمالا وأرفعهم مثالا فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإعضاء والستر عن ذلك وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثا مرفوعا النهي عن تعليم النساء سورة يوسف
الثاني أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص فإن مآلها إلى الوبال كقصة إبليس وقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم فلما اختصت هذه القصة في سائر القصص بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص
الثالث قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إنما كرر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم
إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبيا.
السؤال الثاني : أنه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى في سورة الأعراف وهود والشعراء ولم يذكر معهم قصة إبراهيم وإنما ذكرها في سورة الأنبياء ومريم والعنكبوت والصافات.
والسر في ذلك أن تلك السور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم ونجاء الرسل وأتباعهم وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ولهذا سميت سورة الأنبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وبدأ بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد وإبراهيم أكرمهم على الله وهو خير البرية وهو أب أكثرهم وليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله تعالى في سورةالأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}.
وأما سورة العنكبوت فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين نصره لهم وحاجتهم إلى الجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة إبراهيم لأنها من النمط الأول.
وكذلك في سورة الصافات قال فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ،وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة، إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر قصة إلياس دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.
وقد روى أن الله رفع إلياس وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة فإن إلياس لم يقم بينهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث الله في كل أمة نذيرا والله سبحانه لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر ذلك عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما وفي هذا ظهور برهانه وآياته حيث أذلهم ونصره {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} وهذا من جنس المجاهد [الذي يعرض عدوه والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] قتل عدوه، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا ولم يوجد في حق إبراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرسل فإنهم إذا علموا حصل المقصود وقد يتوب منهم من تاب كما جرى لقوم يونس فهذا والله أعلم هو السر في أنه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء لأنها ليست من جنس واقعتهم.
فإن قيل: فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟.
فالجواب: أما حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ،وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم فعوقبوا وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما،.
ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب إذ الدنيا ليس دار الجزاء العام وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أرادوا عداوة أحد من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام إذ عصمه الله من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن إبراهيم عليه السلام خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء وأهل مدين الظلم في الاموال مع الشرك وقوم لوط استحلال الفاحشة ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد.
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم كقوله تعالى: { أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} ، فأعاد ذكر الأنهار مع كل صنف، وكان يكفي أن يقال فيها: أنهار من ماء، ومن لبن، ومن خمر، ومن.
عسل. لكن لما كانت الأنهار من الماء حقيقة وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت: فهلا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة ؟قيل: لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة وهو قريب في المنع من الذي قبله.
فائدة في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ.
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لمعناه، كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} فإنه لما أعيد اللفظ غير فعّل إلى أفعل فلما ثلث ترك اللفظ أصلا، فقال: "رويدا".
وقوله تعالى: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}ثم قال:{إِمْرًا}.
قال الكسائي:" معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار، من قولهم: أمر القوم إذا كثروا".
قال الفارسي:" وأنا أستحسن قوله هذا ".
وقوله تعالى: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} ، قال الفارسي:" { وَرَاءَكُمْ } في موضع فعل الأمر أي تأخروا والمعنى ارجعوا تأخروا فهو تأكيد وليست ظرفا لأن الظروف لا يؤكد بها".
وإذا تكرر اللفظ بمرادفة جازت الإضافة كقوله تعالى: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ} والقصد المبالغة أي عذاب مضاعف وبالعطف كقوله تعالى :{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله :{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}.
القسم الخامس عشر: الزيادة في بنية الكلمة.
واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الإلفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.
ومنه قوله تعالى :{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} ،فهو أبلغ من [قادر] لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى.
وكقوله تعالى :{وَاصْطَبِرْ} فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من[ أصبر ].
وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها تكلف زيد في لفظ فعلها.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} ،فإنه أبلغ من [ يتصارخون ].
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} ولم يقل:[ وكبوا ] قال الزمخشري: والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى
في جهنم [ ينكب ] كبة مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها اللهم أجرنا منها خير مستجار!.
وقريب من هذا قول الخليل في قول العرب: صر الجندب وصرصر البازي كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة فقالوا: صر صريرا فمدوا وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.
ومنه الزيادة بالتشديد أيضا، فإن[ ستارا ]و [ غفارا ] أبلغ من [ ساتر ] [ وغافر ]ولهذا قال تعالى :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ،ومن هذا رجح بعضهم معنى [الرحمن] على معنى [الرحيم] لما فيه من زيادة البناء وهو الألف والنون وقد سبق في السادس.
ويقرب منه التضعيف - ويقال التكثير - وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف وإنما جعله متعديا تضعيفه ولهذا رد على الزمخشري في قوله تعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حيث جعل [نزلنا] هنا للتضعيف.
وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا نحو موت المال.
وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير، كقوله تعالى :{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}.
فإن قلت :{فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} مشكل على هذه القاعدة لأنه إذا كان [فعّل] للتكثير، فكيف جاء [قليلا] نعتا لمصدر [متّع] وهذا وصف كثير بقليل وإنه ممنوع.
قلت: وصفت بالقلة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء.
واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعي غير موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة، فقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ،لا يدل على كثرة صدور الكلام منه لأنه غير منقول عن ثلاثي.
وكذا قوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} يدل على كثرة القراءة على هيئة التأني والتدبر.
وكذا قوله تعالى :{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ،ليس النفي للمبالغة بل نفي أصل الفعل.
القسم السادس عشر: التفسير
وتفعله العرب في مواضع التعظيم كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى:" قرأت في تفسير الجنيدي أن قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} ، تفسير للقيوم.
وقوله تعالى :{إِِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فإن هذا تفسير للوعد.
وقوله تعالى :{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير للوعد وتبيين له لا مفعول ثان فلم يتعد الفعل منها إلا إلى واحد.
وقوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} خلقه تفسير للمثل.
وقوله تعالى :{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} ،في [يُذَبِّحُونَ] وما بعده تفسير للسوم وهو في القرآن كثير.
قال أبو الفتح بن جنى: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه كالصلة من الموصول والصفة من الموصوف وقد يجيء لبيان العلة والسبب كقوله تعالى :{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ،وليس هذا من قولهم وإلا لما حزن الرسول وإنما يجيء به لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}.
ولو جاءت الايتان على حد ما جاء قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،لكانت [ أن ] مفتوحة، لكنها جاءت على حد قوله .....
فائدة.
قيل: الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل: يكون لها موضع، إذا كان للمفسر موضع ويقرب منها ذكره تفصيلا، كما سبق في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
ومثل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}.
القسم السابع عشر: خروج اللفظ مخرج الغالب.
كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} ،فإن الحجر ليس بقيد عند العلماء، لكن فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته عند عدمها، ولهذا قال بعده: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ولم يكن في حجوركم] فدل على أن الحجر خرج مخرج العادة.
واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحل يثبت بانتفاء المجموع والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.
وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلة كان جزء العلة ثابتا فيعمل عملها.
فإن قيل: لما قال :{مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال في الآية بعدها:.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها، فما فائدة قوله تعالى :{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ؟ .
قيل: فائدته: ألا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط كما في الحجر المفهوم إذا خرج مخرج الغالب فلا تقييد فيه عند الجمهور خلافا لإمام الحرمين والشيخ عز الدين بن عبد السلام والعراقي حيث قالوا: إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف إذا لم تغلب لأن الصفة إذا كانت غالبة دلت العادة عليها فاستغنى المتكلم بالعادة عن ذكرها فلما ذكرها مع استغنائه عنها دل ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال: إنما ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وجوزوا أن الرهن لا يختص بالسفر لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون فيه غالبا فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد بحفظ مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى، وهي الرهن.
وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} ، والقصر جائز مع أمن السفر لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط وغالب أسفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم تخل من خوف العدو.
ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول.
عن الدابة والاستقبال ونحوه لا في عدد الركعات لكن ذلك شدة خوف لا خوف وسبب النزول لا يساعده.
وكقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
القسم الثامن عشر: القسم
وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قسما وإن كان فيه إخبار إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما.
ولا يكون إلا باسم معظم كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.
كقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}.
وإنما يحسن في مقام الإنكار.
فإن قيل: ما معنى القسم منه سبحانه ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الاخبار، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
فالجواب: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى النوعين حتى يبقى لهم حجة.
وقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا ثم مات.
فإن قيل: كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق؟ قيل: فيه ثلاثة أجوبة:.
أحدها: أنه حذف مضاف أي ورب الفجر ورب التين وكذلك الباقي.
والثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الاشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.
والثالث: أن الاقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه أو بمن يجله وهو فوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارىء وصانع واستحسنه ابن خالويه.
وقسمه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {لَعَمْرُكَ} ليعرف الناس عظمته عند الله، ومكانته لديه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: في[ كنز اليواقيت ]: والقسم بالشيء لايخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنعفة، فالفضيلة كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} والمنفعة نحو: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:.
أحداها : بذاته، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
والثاني: بفعله، نحو: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}.
والثالث: مفعوله، نحو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}.{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ. مَسْطُورٍ}.
وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر:
فالمظهر : كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ونحوه
والمضمر: على قسمين: قسم دلت عليه لام القسم، كقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقسم دل عليه المعنى، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} تقديره:[والله].
وقد أقسم تعالى بطوائف الملائكة في أول سورة الصافات والمرسلات والنازعات.
فوائد.
الأولى: أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل كقوله تعالى :{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}. ولا تجيء الباء والفعل محذوف إلا قليلا وعليه حمل بعضهم قوله :{يَا بُنَيَّ
لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} وقال: الباء باء القسم، وليست متعلقه بـ [تشرك] وكأنه يقول: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ} ثم ابتدأ فقال: {بِاللَّهِ} لا تشرك وحذف {لا تُشْرِكْ} لدلالة الكلام عليه: وكذلك قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} قيل: إن قوله: [بما عهد] قسم والاولى أن يقال: إنه سؤال لا قسم.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} فتقف على [لي] وتبتدىء بحق فتجعله قسما.
هذا مع قول النحويين: إن الواو فرع الباء، لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل.
الثانية: قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.
فما زادوه لفظ [إي] بمعنى [نعم] كقوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي}
ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ويكون الجواب مذكورا كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} أي [والله].
وقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به كقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ} على أحد الأقوال أن الجواب حذف لطول الكلام وتقديره: "لأعذبنهم على كفرهم".
وقيل: الجواب إن ذلك لحق.
ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أي نحلف إنك لرسول الله لأن الشهادة بمعنى اليمين بدليل قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}
وأما قوله تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ، فالأول قسم بمنزلة، [والحق] وجوابه: [لأملأن]، وقوله :{وَالْحَقَّ أَقُولُ} توكيد للقسم.
وأما قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، ثم قال :{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} قالوا: وهو جواب القسم وأصله: [لقد قتل] ثم حذف اللام وقد.
الثالثة: قال الفارسي في الحجة الألفاظ: الجارية مجرى القسم ضربان:.
أحدهما: ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه، كقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}،{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}،{فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوه من الجواب.
والثاني: ما يتعلق بجواب القسم، كقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }.
الرابعة: القسم والشرط، يدخل كل منهما على الآخر، فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط وإن عكس فبالعكس وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه والجواب له.
ومن تقدم القسم قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} ، تقديره: [والله لئن لم تنته] فاللام الداخلة على الشرط ليس بلام القسم ولكنها زائدة وتسمى الموطئة للقسم ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر أي الشرط لا يصلح أن يكون جوابا لأن الجواب لا يكون إلا خبرا.
وليس دخولها على الشرط بواجب بدليل حذفها في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم بدليل قوله تعالى :{لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.
وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ،فاللام في [ولئن] هي الموطئة للقسم واللام في {لإِلَى اللَّهِ} هي لام القسم ولم تدخل نون التوكيد على الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل:[ لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله ] فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه.
القسم التاسع عشر:إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله.
كقول العرب: لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وكقوله تعالى :{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، يعنى والجمل لا يلج في السم، فهؤلاء لا يدخلون فهو في المعنى متعلق بالحال فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة أصلا وليس للغاية هنا مفهوم ووجه التأكيد فيه كدعوى الشيء ببينه لأنه جعل ولوج الجمل في السم غاية لنفي دخولهم الجنة وتلك غاية لا توجد فلا يزال دخولهم الجنة منتفيا.
وغالي بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول فجاء بما يزيد على الآية فقال ولو أن ما بي من جوى وصبابة على جمل لم يبق في النار خالد وهذا على طريقة الشعراء في اعتبار المبالغة وإلا فمعارضات القرآن لا تجوز كما سبق التنبيه عليه.
ومنه قوله تعالى :{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فإن المعنى إن كان ما سلف في الزمن السالف يمكن رجوعه فحله ثابت لكن لا يمكن رجوعه أبدا ولا يثبت حله ابدا وهو أبلغ في النهي المجرد.
ومنه قوله تعالى :{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ،أي ولكن ليس له ولد فلا أعبد سواه.
وقوله تعالى :{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً} ، أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ومنه قوله :{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} ،فإن الناس استشكلوا وجه الاستثناء مع أنهم لا يذوقون فيها الموت مطلقا ومقتضى استثنائها من النفي أنهم يذوقونها في الجنة وليس كذلك.
ووجهة الزمخشري: بأنه من التوكيد في الدلالة والموتة الأولى لا يذوقونها أصلا إذ يستحيل عود ما وقع فلا يذوقون فيها الموت أصلا أي إن كانوا يذوقون فلا يكون ذلك إلا الموتة الأولى وإن كان إيقاع الموتة الأولى في الجنة مستحيلا فعرض بالاستثناء إلى استحالة الموت فيها.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا فإن كان منقطعا فالمعنى:[ لكن الموتة الأولى قد ذاقوها ].
ويحتمل على الاتصال أن يكون المعنى فيها أي في مقدماتها لأن الذي يرى مقامه في الجنة عند الجنة عند موته ينزل منزلة من هو فيها بتأويل الذوق على معنى المستحيل.
فهذه ثلاثة أوجه.
القسم الموفى العشرين: الاستثناء والاستدراك
ووجه التأكيد فيه أنه ثنى ذكره مرتين مرة في الجملة ومرة في التفصيل.
فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا فكأنه كان في جملتهم ثم خرج منهم كقوله تعالى :{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلاَّ إِبْلِيسَ} ،فإن فيه معنى زائدا على الاستثناء هو تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم وهو بمثابة قولك أمر الملك بكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلانا فإن الإخبار عن معصية الملك بهذا الصيغة أبلغ من قولك: أمر الملك فعصاه فلان.
وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه بالعدل فيما ضربه على أبليس من خزي الدنيا وختم عليه من عذاب الآخرة.
ومنه قوله تعالى :{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} فإن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلا على السامع ليشهد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه.
وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم للمدة ليكون أول ما يباشر السمع ذكر [الألف] واختصار اللفظ فإن لفظ القرآن أخصر من [تسعمائة وخمسين عاما] ولأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص.
ومنه قوله تعالى :{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} فإنه سبحانه لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع حيث أثبت الاستثناء المطلق، وأكده بقوله :{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع أصل الاستثناء حيث قال {عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ} أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع وهذه المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي.
وقيل: وجه الاستثناء فيه الخروج من الجنة إلى منزلة أعلى كالرضوان والرؤية ويؤيده قول بعض الصحابة:.
*وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا*
وصوبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل الزمخشري الاستثناء الأول لخروج أهل النار إلى الزمهرير أو إلى نوع آخر من العذاب بناء على مذهبه من تخليد أهل الكبائر في النار وجعل الاستثناء الثاني دالا على نجاة أهل الكبائر من العذاب فكأنه تصور أن الاستثناء الثاني لما لم يحمل على انقطاع النعيم لقوله تعالى : {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فكذا الاستثناء الأول لا يحمل على انقطاع عذاب الجحيم لتناسب أطراف الكلام.
وقال: معنى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} عقب الاستثناء الأول في مقابلة قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} عقب الثاني، أن الله تعالى يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطى لأهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له.
قيل: وما أصدق في سياق الزمخشري في هذا الموضع قول القائل:.
*حفظت شيئا وغابت عنك أشياء*
وذلك لأن ظاهر الاستثناء هو الإخراج عن حكم ما قبله ولا موجب للعدول.
عن الظاهر في الاستثناء الأول فحمل على النجاة ولما كان إنجاء المستحق العذاب محل تعجب وإنكار عقبه بقوله :{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ،أي من العذاب والإنجاء منه بفضله ولا يتوجه عليه اعتراض أحد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأما الاستثناء الثاني فلم يكن على ظاهره، كان إخراج أهل الجنة المستحقين للثواب وقطع النعيم لا يناسب إنحاء أهل النار المستحقين للعذاب، فلذا عقب بقوله :{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} بيانا للمقصود.
ورعاية هذا الباب أولى من رعاية الباب الذي توهم الزمخشري فإن حاصله يرجع إلى أن الاستثناء الثاني لما لم يكن على ما هو الظاهر في باب الاستثناء ينبغي إلا يكون الاستثناء الأول ايضا على ما هو الظاهر ولا يخفى على المنصف أنه تعسف.
وأما قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} فالمعنى لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الإنس وذلك كقولك: ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد ذلك نفي الظل عنه على التوكيد والضريع نبت ذو شوك يسمى الشبرق في حال خضرته وطراوته فإذا يبس سمى الضريع والإبل ترعاه طريا لا يابسا.
وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذم بأن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} التأكيد فيه من وجهين: على الاتصال في الاستثناء والانقطاع.
القسم الحادي والعشرون: المبالغة.
وهي أن يكون للشيء صفة ثابتة فتزيد في التعريف بمقدار شدته أو ضعفه فيدعى.
له من الزيادة في تلك الصفة ما يستبعد عند السماع أو يحيل عقله ثبوته.
ومن أحسنها قوله تعالى :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج فوقه وظلمة السحاب فوق الموج.
وقوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}،أي كادت تبلغ لأن القلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه.
وقيل: هو حقيقة وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنتفخ رئته ولا يبعد أن ينهض بالقلب نحو الحنجرة. ذكره الفراء وغيره.
أو أنها لما أتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر.
ورد ابن الانبارى تقديرا: [كادت] فإن [كاد] لا تضمر.
وقوله تعالى :{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
وقوله تعالى :{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً}.
ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه، كقوله تعالى : {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}.
وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الآعظم الأكبر للبمالغة وهو مجاز كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ،فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه على المبالغة.
وكقوله سبحانه: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازى.
ومنه ما جرى مجرى الحقيقة كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} ،فإن اقتران هذه ب يكاد صرفها إلى الحقيقة فانقلب من الامتناع إلى الإمكان.
وقد تجيء المبالغة مدمج كقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة في المقابلة وهي بالنسبة إلى المخاطب لا إلى المخاطب معناه أن علم ذلك متعذر عندكم وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة.
وأما قوله تعالى :{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية، فقيل: سببها أن اليهود جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: كيف عنفنا بهذا القول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ،ونحن قد أوتينا التوراة وفيها كلام الله وأحكامه ونور وهدى! فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التوراة قليل من كثير " ونزلت هذه الآية.
وقيل: إنما نزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}.
قال المفسرون: والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة.
وقال بعض المحققين: إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفد ولم تقتض الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور وكما قال الخضر عليه السلام: " ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس منقاره فيها ".
وعد بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب والصفح عن الذنوب والتغافل عن الزلات والستر على أهل المروءات كقوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقيل في تفسيره: أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
تنبيه:.
تحصل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز إما بالحذف وإما بحجل الشيء نفس الشيء أو يتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم ويقوم مقام أوصاف كقوله تعالى :{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}.
وقد نص سيبويه على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام.
فائدة.
[في اختلاف الأقوال في تقدير المبالغة في الكلام].
اختلف في المبالغة على أقوال:.
أحدها: إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة.
والثاني: أنها الغاية في الحسن وأعذب الكلام ما بولغ فيه وقد قال النابغة:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والثالث: وهو الأصح أنها من محاسن الكلام ولا ينحصر الحسن فيها فإن فضيلة الصدق لا تنكر ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى ولها طريقان:.
أحدهما: أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة كما في الكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها من أنواع المجاز والثاني: أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يتقضى زيادة فتترادف الصفات.
بقصد التهويل كما في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}.
القسم الثاني والعشرون: الاعتراض.
وأسماه قدامة [التفاتا]، وهو أن يؤتى في أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ولا يفوت بفواته فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين لنكتة.
وقيل: هو إرادة وصف شيئين الأول منهما قصدا والثاني بطريق الانجرار وله تعليق بالأول بضرب من التأكيد.
وعند النحاة جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد.
وقال الشيخ عز الدين في أماليه: الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة وتارة تكون مشددة لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط فهي مؤكدة وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد فهي مشددة. انتهى.
وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبية كقوله تعالى:.
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ،فإنه معترض بين: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وبين: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}.
وله أسباب:.
منها : تقرير الكلام، كقولك: فلان أحسن بفلان - ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا - وكان صوابا.
ومنه قوله تعالى :{تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} لقد علمتم اعتراض والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.
وقوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ }.{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} واعترض بقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} بين كلامها.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}.
ومنها: قصد التنزيه، كقوله تعالى :{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} فاعتراض[ سبحانه ] لغرض التنزيه والتعظيم وفيه الشناعة على من جعل البنات لله.
ومنها : قصد التبرك، وكقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
ومنها : قصد التأكيد، كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
وفيها اعتراضان، فإنه اعترض بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} بين: القسم وجوابه واعترض بقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} بين: الصفة والموصوف والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس لا سيما بقوله:{لَوْ تَعْلَمُونَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [وأولئك] الخبر [وإنا لا نضيع] اعتراض.
ومنها: كون الثاني بيانا للأول، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فإنه اعتراض وقع بين قوله: {فَأْتُوهُنَّ} وبين قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وهما متصلان معنى لأن الثاني بيان للأول كأنه قيل فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث وفيه اعتراض بأكثر من جملة.
ومنها: تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما، كقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ، فاعترض بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} بين [ووصينا] وبين الموصي به، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم لتحملها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا وبالأب مرة.
ومنها: زيادة الرد على الخصم، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} الآية. فقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وفائدته أن يقرر في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك الأنفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}.
وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فاعترض بين [إذ] وجوابها بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.
قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إلى قوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} اعتراض في اثناء الكلام وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} الآية. وذلك لأن قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ} سبب عن قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} على معنى أنه يشمئزون من توحيد الله تعالى ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة فإذا مس أحدهم ضر أو أصابته شدة تناقض في دعواه فدعا من أشمأز من ذكره وانقبض من توحيده ولجأ إليه دون الآلهة فهو اعتراض بين السبب والمسبب فقيد القول بما فيه من دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمره بذلك وبقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ثم عقبه من الوعيد العظيم أشد التأكيد وأعظمه وأبلغه،.
ولذلك كان اتصال قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} للسبب الواقع فيها وخلو الأول منه من الأمر اشتراك جملة مع جملة ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق بالجمع كقولهم قام زيد وعمرو وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الاية من اشمئزازهم ليس يقتضى التجاءهم إلى الله تعالى وإنما يقتضى إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضى إثبات التناقض وذلك أنك تقول زيد يؤمن بالله تعالى فإذا مسه الضر لجأ إليه فهذا سبب ظاهر مبنى على اطراد الأمر وتقول زيد كافر بالله فإذا مسه ضر لجأ إليه فتجيء بالفاء هنا كالأول لغرض التزام التناقض أو العكس حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء فأنت تلزمه العكس بأنك إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله.
وقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} بقوله الله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اعتراض واقع في اثناء كلام متصل وهو قوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وهو على مهيع أسلوب القرآن من ذكر الضد عقب الضد كما قيل:
*وبضدها تتبين الأشياء*
ومنها: الإدلاء بالحجة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} فاعترض بقوله: [فأسألوا] بين قوله: [نوحي إليهم] وبين قوله: [بالبينات والزبر] إظهارا لقوة الحجة عليهم.
وبهذه الآية ابن مالك على أبي علي الفارسي قوله إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة.
ورد بأن جملة الأمر دليل للجواب عند الأكثرين ونفسه عند آخرين فهو مع جملة الشرط كالجملة الواحدة نعم جوزوا في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أن يكون حالا من قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلات إن كان :{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} خبر مبتدأ محذوف وإلا فيكون بست جمل.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية: إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة: جملة الشرط [واتقوا] [وفتحنا] [وكذبوا] [وأخذناهم] [وبما كانوا يكسبون] وزعم أن [أفأمن] معطوف على {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري. وتبعه أبو حيان ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشري.
قال ابن مالك: ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان قال وإنما اعترض بأربع جمل وزعم أن من عند {وَلَوْ أَنَّ} إلى { وَالأَرْضِ} جملة لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه.
وفي القولين نظر أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل أحدها:.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وأربعة في حيز [لو] وهي [آمنوا] و[اتقوا] [وفتحنا] والمركبة مع أن وصلتها مع ثبت مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو أسمية والسادسة [ولكن كذبوا] والسابعة [فأخذناهم] والثامنة [بما كانوا يكسبون].
وأما قول المعترض: فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل أحدها [وهم لا يشعرون] لأنها حال مرتبطة بعاملها وليست مستقلة برأسها والثانية [لو] وما في حيزها جملة واحدة فعلية إن قدر:[ ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتقوا ]أو أسمية وفعلية إن قدر: إيمانهم، واتقوا ثابتان، والثالثة {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كله جملة.
وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدوا الكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} جملة واحدة لارتباط الشرط بالجزاء لفظا [ولكن كذبوا] ثانية أو ثالثة [فأخذناهم] ثالثه أو رابعة و[بما كانوا يكسبون] متعلق أخذناهم فلا يعد اعتراضا.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، فهذه ثلاث جمل معترضة بين {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} وبين {وَقِيلَ بُعْداً}.
وفيه اعتراض في اعتراض فإن [وقضي الأمر] معترض بين [غيض الماء] وبين [واستوت].
ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض كقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ثم اعترض تسلية لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وذكر آيات إلى أن قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يعنى قوم إبراهيم فرجع إلى الأول.
وجعل الزمخشري قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} وفي آخر الصافات معطوفا على {فَاسْتَفْتِهِمْ} في أول السورة: وقال في قول بعضهم في: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} إنه حال من فاعل [قم] في أول هذه السورة هذا من بدع التفاسير وهذا الذي ذكره في الصافات منه.
ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة [إن] في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} على جواب القسم في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} حكاه الرماني.
فإن قيل: أين خبر [إن] في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} قيل: الخبر: { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}.
فوائد.
قال ابن عمرون: لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه وقد أجازه قوم في [ثم] و[أو] فتقول: زيد قائم ثم والله عمرو.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} اعتراض بين الشرط وجوابه مع أن فيه فاء والجملة مسندة لـ[يكن].
قال الطيبي: سئل الزمخشري عن قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أهو اعتراض ؟ قال: لا، لأن من شرط الاعتراض أن يكون بالواو ونحوها وأما بالفاء فلا.
وفهم صاحب:[ فرائد القلائد ]من هذا اشتراط الواو فقال: وقد ذكر الزمخشري: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه أعنى [إبراهيم] و[إذ] قال: هذا معترض لأنه اعتراض بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال وليس كما قال فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة وبدونها كقوله سبحانه: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} وقد اجتمعا في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.
القسم الثاني والعشرون: الاحتراس.
وهو أن يكون الكلام محتملا لشيء بعيد فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال، كقوله.
تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، فاحترس سبحانه بقوله:[ من غير سوء ]عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق والبرص.
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة وهو السهولة لتوهم أن ذلك لضعفهم فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علم أنها منهم تواضع ولهذا عدي الذل بعلى لتضمنه معنى العطف.
وكذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وقوله تعالى: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} احتراس بين أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بالا يشعروا بها.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها ولذلك أكد التبسم بالضحك لأنهم يقولون تبسم كتبسم الغضبان لينبه على أن تبسمه تبسم سرور.
ومثله قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} التفات إلى أنهم لا يقصدون ضرر مسلم.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ،فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان عقبهم بالدعاء عليهم ووصفهم بالظلم ليعلم أن جميعهم كان مستحقا للعذاب،.
احتراس من ضعف يوهم أن الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم مع قوله أولا: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
وأعجب احتراس وقع في القرآن قوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} الآية.
وقال حكاية عن موسى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} ،فلما نفى سبحانه عن رسوله أن يكون بالمكان الذي قضى لموسى فيه الأمر عرف المكان بالغربي ولم يقل في هذا الموضع [الأيمن] كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أدبا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن أو يسلب عنه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا لمادته ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفا لموسى فراعى في المقامين حسن الأدب معهما تعليما للأمة وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.
وقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فإنه لو اختصر لترك:[ والله يعلم ]لأن سياق الآية لتكذيبهم في دعاوي الإخلاص في الشهادة لكن حسن ذكره رفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر.
وقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يذكر الجب مع أن النعمة فيه أعظم لوجهين:
أحدهما: لئلا يستحيي إخوته والكريم يغضى ولا سيما في وقت الصفاء.
والثاني: لأن السجن كان باختياره فكان الخروج منه أعظم بخلاف الجب.
وقوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} وإنما ذكر الكهولة مع أنه لا إعجاز فيه لأنه كان في العادة أن من يتكلم في المهد أنه لا يعيش ولا يتمادى به العمر فجعل الاحتراس بقوله: [وكهلا].
ومنه قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، والسقف لا يكون إلا من فوق لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين وهما وقوله: [ عليهم ]ولفظة [خر] لأنها لا تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى سفل.
وقيل: إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط فجاء بقوله:[ مِنْ فَوْقِهِمْ ]ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم فقال:[ من فوقهم ]أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفتلوا.
وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} لأنه لما كان يحتمل معنى [كيف] و[أين] احترس بقوله: [حرثكم] لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور وينبت الزرع وهو المحل المخصوص.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها ويسلى عنها فأعلم سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك.
فائدة.
عاب قدامة على ذي الرمة قوله:
ألا يا اسلمى يا دار مَيَّ على البِلى ... ولا زال مُنْهَلًا بِجَرْعاتِك القطر
فإنه لم يحترس وهلا قال كما قال طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ...
وأجيب بأنه قدم الدعاء بالسلامة للدار.
وقيل: لم يرد بقوله: [ولا زال منهلا] اتصال الدوام بالسقيا من غير إقلاع وإنما ذلك بمثابة من يقول: ما زال فلان يزورني إذا كان متعاهدا له بالزيارة.
القسم الرابع والعشرون: التذييل.
مصدر [ذيل] للمبالغة وهي لغة جعل الشيء ذيلا للآخر. واصطلاحا أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه.
كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} ثم قال عز من قائل: {وَهَلْ.
نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} ،أي هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور فإن جعلنا الجزاء عاما كان الثاني مفيدا فائدة زائدة.
وقوله :{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}.
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ.إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
فقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} تذييل لاشتماله على..
وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ}.
وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
وجعل القاضي أبو بكر في كتابه [الإعجاز] منه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
وقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}.
ويحتمل أن يكون من التعليل.
وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} ، قوله:.
{وَكَذَلِكَ}، تذييل، أي فذلك شأن الأمم مع الرسل وقوله: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ}، جعل التذييل هنا من التفسير.
القسم الخامس والعشرون: التتميم.
وهو أن يتم الكلام فيلحق به ما يكمله إما مبالغة أو احترازا أو احتياطا وقيل هو أن يأخذ في معنى فيذكره غير مشروح وربما كان السامع لا يتأمله ليعود المتكلم إليه شارحا كقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ، فالتتميم في قوله: {عَلَى حُبِّهِ} جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه.
وكذلك قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} ،فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تتميم في غاية الحسن.
القسم السادس العشرون: الزيادة.
والأكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله ويسمونه التأكيد.
ومنهم من يسميه بالصلة ومنهم من يسميه المقحم.
قال ابن جنى: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى وبابها الحروف والأفعال.
كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}.
وقوله: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} قيل: [كان] هاهنا زائدة وإلا لم يكن فيه إعجاز لأن الرجال كلهم كانوا في المهد، وانتصب [صبيا] على الحال.
وقال ابن عصفور: هي في كلامهم زيدت في وسط الكلام للتأكيد وهي مؤكدة للماضي في [قالوا].
ومنه زيادة [أصبح] قال حازم: إن كان الأمر الذي ذكر أنه فيه أصبح يكن أمسى فيه فليست زائدة وإلا فهي زائدة كقوله: أصبح العسل حلوا.
وأجاب الرماني عن قوله:{فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}فإن العادة أن من به علة تزاد عليه بالليل يرجو الفرج عند الصباح فاستعمل [أصبح] لأن الخسران جعل لهم في الوقت الذي يرجون فيه الفرج فليست زائدة.
وهو معنى قول غيره إنها تأتي للدوام واستمرار الصفة كقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}،{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ}.
وأما قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} فهو على الأصل لظهور الصفة نهارا والمراد الدوام أيضا أي استقرت له الصفة نهاره.
واعلم أن الزيادة واللغو من عبارة البصريين والصلة والحشو من عبارة الكوفيين قال سيبويه عقب قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}: إن [ما] لغو لأنها لم تحدث شيئا.
والأوْلى اجتناب مثل هذه العبارة في كتاب الله تعالى فإن مراد النحويين بالزائد من جهة الإعراب لا من جهة المعنى فإن قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} معناه:[ما لنت لهم إلا رحمة]وهذا قد جمع نفيا وإثباتا ثم اختصر على هذه الإرادة وجمع فيه بين لفظي الإثبات وأداة النفي التي هي [ما].
وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فـ[إنما] ها هنا حرف تحقيق وتمحيق إن هنا للتحقيق وما للتمحيق فاختصر والأصل:[ ما الله اثنان فصاعدا وأنه إله واحد].
وقد اختلف في وقوع الزائد في القرآن فمنهم من أنكره قال الطرطوسي في [العمدة]: زعم المبرد وثعلب ألا صلة في القرآن والدهماء من العلماء والفقهاء والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن وقد وجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره فذكر كثيرا.
وقال ابن الخباز في التوجيه:وعند ابن السراج أنه ليس في كلام العرب زائد لأنه تكلم بغير فائدة وما جاء منه حمله على التوكيد.
ومنهم من جوزه وجعل وجوده كالعدم وهو أفسد الطرق.
وقد رد على فخر الدين الرازي قوله إن المحققين على أن المهمل لا يقع في كلام الله سبحانه فأما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فيمكن أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير: فبأي رحمة ؟فجعل الزائد مهملا وليس كذلك لأن الزائد ما أتى به لغرض التقوية والتوكيد والمهمل ما لم تضعه العرب وهو ضد المستعمل وليس المراد من الزيادة حيث - ذكرها النحويون - إهمال اللفظ ولا كونه لغوا فتحتاج إلى التنكب عن التعبير بها إلى غيرها فإنهم إنما سموا [ما] زائدة هنا لجواز تعدى العامل قبلها إلى ما بعدها لا لأنها ليس لها معنى.
وأما ما قاله في الآية: إنها للاستفهام التعجبي فقد انتقد عليه بأن قيل: تقديره: فبأي رحمة، دليل على أنه جعل [ما] مضافة للرحمة وأسماء الاستفهام التعجبي لا يضاف منها غير [أي] وإذا لم تصح الإضافة كان ما بعدها بدلا منها والمبدل من اسم الاستفهام يجب معه ذكر همزة الاستفهام وليست الهمزة مذكورة فدل على بطلان هذه الدعوى وسنبين في فصل زيادة الحروف الفائدة في ادخال [ما] ها هنا، فانظر هناك.
تنبيهات:.
الأول: أهل الصناعة يطلقون الزائد على وجوه: منها ما يتعلق به هنا وهو ما أقحم تأكيدا نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
ومعنى كونه زائدا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد فبوجوده حصل فائدة التأكيد والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة.
وسئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى ؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف قال ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعا فإذا تغير البيت بزيادة أو نقص أنكره وقال: أجد نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع عند نقصانها ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقضانه.
الثاني: حق الزيادة أن تكون في الحرف وفي الأفعال كما سبق وأما الأسماء فنص أكثر النحويين على أنها لا تزاد ووقع في كلام كثير من المفسرين الحكم عليها في بعض المواضع بالزيادة كقول الزمخشري في قوله تعالى :{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}: إن اسم الجلالة مقحم ولا يتصور مخادعتهم لله تعالى.
الثالث: حقها أن تكون آخرا وحشوا وأما وقوعها أولا فلا لما فيه من التناقض إذ قضية الزيادة إمكان اطراحها وقضية التصدير الاهتمام ومن ثم ضعف قول بعضهم بزيادة لا في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وأبعد منه قول آخر: إنها بمعنى [إلا] والظاهر أنها ردا لكلام تقدم في إنكار البعث أي ليس الأمر كما تقولون ثم قال بعده: { أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،وعليه فيجوز الوقف على [لا] وفيه بعد.
فصل: في حروف الزيادة.
الزيادة إما أن تكون لتأكيد النفي كالباء في خبر ليس وما أو للتأكيد الإيجاب كاللام الداخلة على المبتدأ.
وحروف الزيادة سبعة إن وأن ولا وما ومن والباء واللام بمعنى أنها تأتي في بعض الموارد زائدة لا أنها لازمة للزيادة ثم ليس المراد حصر الزوائد فيها فقد زادوا الكاف وغيرها بل المراد أن الأكثر في الزيادة أن تكون بها.
زيادة "إن ".
فأما إن الخفيفة فتطرد زيادتها مع ما النافية كقول امرىء القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال
أي فما حديث. فزاد [إن] للتوكيد، قال الفراء: إن الخفيفة زائدة فجمعوا بينها وبين ما النافية تأكيدا للنفي فهو بمنزلة تكرارها فهو عند الفراء من التأكيد اللفظي وعند سيبويه من التأكيد المعنوي.
وقيل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيه} :أنها زائدة.
وقيل نافية والأصل:[ في الذي ما مكناكم فيه ]بدليل: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} وكأنه إنما عدل عن ما لئلا تتكرر فيثقل اللفظ.
ووهم ابن الحاجب حيث زعم أنها تزاد بعد [لما] الإيجابية وإنما تلك في [أن] المفتوحة.
زيادة "أن".
وأما أن المفتوحة فتزاد بعد لما الظرفية، كقوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} ،وإنما حكموا بزيادتها لأن [لما] ظرف زمان ومعناها وجود الشيء لوجود غيره وظروف الزمان غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد [وأنْ] المفتوحة تجعل الفعل بعدها في تأويل المفرد فلم تبق [لما] مضافة إلى الجمل فلذلك حكم بزيادتها.
وجعل الأخفش من زيادتها قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ}، {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وقيل: بل هي مصدرية والأصل:[ وما لنا في ألا نفعل كذا ]! فليست زائدة لأنها عملت النصب في المضارع.
زيادة ما.
وأما [ما] فتزاد بعد خمس كلمات من حروف الجر فتزاد بعد [من] و[عن] غير كافة لهما عن العمل وتزاد بعد الكاف ورب والباء كافة [تارة] وغير كافة أخرى.
والكافة إما أن تكف عن عمل النصب والرفع وهي المتصلة بإن وأخواتها، نحو: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} وجعلوا منها {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ،ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى [الذي] و[العلماء] خبر والعائد مستتر في [يخشى] وأطلقت [ما] على جماعة العقلاء،.
كما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وإما أن تكف عن عمل الجر كقوله تعالى :{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقيل: بل موصولة، أي[ كالذي هو لهم آلهة ].
وغير الكافة تقع بعد الجازم نحو: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} ،{أَيّاً مَا تَدْعُوا}.{أَيْنَمَا تَكُونُوا}.
وبعد الخافض حرفا كان: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}. {عَمَّا قَلِيلٍ}. {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} أو اسما نحو: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}.
وتزاد بعد أداة الشرط جازمة، كانت نحو: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}. أو غير جازمة، نحو: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ}.
وبين المتبوع وتابعه، نحو: {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً}، قال الزجاج: ما حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين.
ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود و[بعوضة] بدلا وقيل: [ما] اسم نكرة صفة لـ[مثلا] أو بدل و[بعوضة] عطف بيان.
وقيل: في قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} بأنها زائدة لمجرد تقوية الكلام، نحو:.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ}و[قليلا} في معنى النفي أو لإفادة التقليل كما في نحو:[ أكلت أكلا ما ]،وعلى هذا فيكون:[ فقليلا بعد قليل ].
زيادة "لا".
وأما [لا] فتزاد مع الواو بعد النفي، كقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ،لأن [استوى] من الأفعال التي تطلب اسمين أي لا تليق بفاعل واحد نحو [اختصم] فعلم أن [لا] زائدة. وقيل: دخلت في السيئة لتحقق أنه لاتساوي الحسنة السيئة ولا السيئة الحسنة.
وتزاد بعد [أن] المصدرية، كقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،أي ليعلم ولولا تقدير الزيادة لانعكس المعنى فزيدت [لا] لتوكيد النفي قاله ابن جنى.
واعترضه ابن ملكون، بأنه ليس هناك نفي حتى تكون هي مؤكدة له. ورد عليه السكونى بأن هنا ما معناه النفي وهو ما وقع عليه العلم من قوله:{أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ}،ويكون هذا من وقوع النفي على العلم والمراد ما وقع عليه العلم كقوله:[ ما علمت أحدا يقول ذلك إلا زيدا ]فأبدلت من الضمير الذي في [يقول] ما بعد [إلا] وإن كان البدل لا يكون إلا في النفي فكما كان النفي هنا واقعا على العلم وحكم لما وقع عليه العلم بحكمه كذلك يكون تأكيدا النفي أيضا على ما وقع علي العلم ويحكم للعلم بحكم النفي فيدخل عل العلم توكيد النفي والمراد تأكيد نفي ما دخل عليه العلم.
وإذا كانوا قد زادوا لا في الموجب المعنى لما توجه عليه فعل منفى في المعنى كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} ،المعنى [أن تسجد]، فزاد [لا] تأكيدا للنفي المعنوي الذي تضمنه [منعك] فكذلك تزاد [لا] في العلم الموجب توكيدا للنفي الذي تضمنه الموجه عليه.
قال الشلوبين: وأما زيادة [لا] في قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،فشيء متفق عليه وقد نص عليه سيبويه ولا يمكن أن تحمل الآية إلا على زيادة [لا] فيها لأن ما قبله من الكلام وما بعده يقتضيه.
ويدل عليه قراءة ابن عباس وعاصم والحميدي: { لِيَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ } وقرأ ابن مسعود وابن جبير[ لكي يعلم ]وهاتان القراءتان تفسير لزيادتها وسبب النزول يدل على ذلك ايضا وهو أن المشركين كانوا يقولون إن الأنبياء منا وكفروا مع ذلك بهم فأنزل الله تعالى: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية.
ومنه: { مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ}، بدليل الاية الأخرى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،وليس المعنى ما منعك من ترك السجود فإنه ترك فلا يستقيم التوبيخ عليه.
وقيل: ليست بزائدة من وجهين:.
أحدهما: أن التقدير ما دعاك إلى ألا تسجد لأن الصارف عن الشيء داع إلى تركه فيشتركان في كونهما من أسباب عدم الفعل.
الثاني: أن التقدير ما منعك من ألا تسجد.
وهذا أقرب مما قبله لأن فيه إبقاء المنع على أصله وعدم زيادتها أولى لأن حذف حرف الجر مع [أن] كثير كثرة لا تصل إلى المجاز والزيادة في درجته.
قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات فإن وضع [لا] نفي ما دخلت عليه فهي معارضة للإثبات ولا يخفى أن حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض أو أسقط معنى ما كان من شأنه أن يسقط.
ومنه: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا.أَلاَّ تَتَّبِعَنِ}.
وقيل: وقد تزاد قبل القسم نحو: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، أي أقسم بثبوتها.
وضُعّف في الأخيرة بأنها وقعت صدرا بخلاف ما قبلها لوقوعها بين الفا ومعطوفها.
وقيل: زيدت توطئة لنفي الجواب، أي لا أقسم بيوم القيامة فلا يتركون سدى. ورد بقوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} الآيات. فإن جوابه مثبت وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
وقيل: غير زائدة.
وقيل: هي رد لكلام قد تقدم من الكفار فإن القرآن كله كالسورة الواحدة فيجوز أن يكون الأدعاء في سورة والرد عليهم في أخرى فيجوز الوقف على [لا] هذه.
واختلف في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ}.
فقيل: زائدة ليصح المعنى لأن المحرم الشرك.
وقيل: نافية أو ناهية.
وقيل: الكلام تم عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ،ثم ابتدأ: {عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ}.
وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} ،فيمن فتح الهمزة فقيل [لا] زائدة وإلا لكان عذرا للكفار.
ورده الزجاج: بأنها نافية في قراءة الكسر4 فيجب ذلك في قراءة الفتح.
وقيل: نافية وحذف المعطوف أي وأنهم يؤمنون.
وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
وقيل: [لا] زائدة والمنع: ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة.
وعلى هذا فـ[حرام] خبر مقدم وجوبا لأن المخبر عنه أن [وصلتها].
وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ.
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} على قراءة من نصب {يَأْمُرَكُمْ} عطفا على {يُؤْتِيَهُ} فـ[لا] زائدة مؤكدة لمعنى النفي السابق.
وقيل: عطف على {يَقُولَ}، والمعنى: ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويامركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
وقيل: ليست زائدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة وأهل الكتاب عن عبادة عزيز وعيسى فلما قالوا له: أنتخذك ربا ؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
زيادة "من".
وأما [من] فإنها تزاد في الكلام الوارد بعد نفي أو شبهه، نحو: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}.{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}.{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}.
وجوز الأخفش زيادتها مطلقا محتجا بنحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}.{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}.{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
وأما [ما] في نحو قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} فـ[ما] في هذين الموضعين زائدة إلا أن فيها فائدة جليلة وهي أنه لو قال: فبرحمة من الله لنت لهم وبنقضهم لعناهم جوزنا أن اللين واللعن كانا للسببين المذكورين ولغير ذلك فلما أدخل [ما] في الموضوعين قطعنا بأن اللين لم يكن إلا للرحمة وأن اللعن لم يكن إلا لأجل نقض الميثاق.
زيادة "الباء".
وأما [الباء] فتزاد في الفاعل نحو:{كَفَى بِاللَّهِ}،أي كفى الله ونحو[ أحسن بزيد! ]إلا أنها في التعجب لازمة ويجوز حذفها في فاعل {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}،{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وإنما هو [كفى الله] و[كفانا].
وقال الزجاج: دخلت لتضمن [كفى] معنى اكتفى وهو حسن.
وفي المفعول، نحو: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لأن الفعل يتعدى بنفسه بدليل قوله :{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} ،ونحو: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}. {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}.{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}.
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}.{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}،أي يمسح السوق مسحا.
وقيل: في الأول ضمن [تُلْقُوا] معنى [تُفْضُوا].
وقيل: المعنى لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم كما يقال لا تفسد أمرك برأيك.
وقيل: في قوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} :إن الباء زائدة والمراد: [تنبت الدهن].
وفي المبتدأ، وهو قليل ومنه عند سيبويه: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}.
وقال أبو الحسن: {بِأَيِّكُمُ} متعلق باستقرار محذوف مخبر عنه بالمفتون ثم اختلف فقيل: [المفتون] مصدر بمعنى الفتنة وقيل: الباء ظرفية أي في أيكم الجنون.
وفي خبر المبتدأ، نحو: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}. وقال أبو الحسن: الباء زائدة، بدليل قوله في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
وفي خبر ليس، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
وقال ابن عصفور في [المقرب]: وتزاد في نادر كلام لا يقاس عليه، كقوله تعالى: {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. انتهى.
ومراده الآية التي أولها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} ولذا صرح به ابن أبي الربيع في القراءتين.
ويدل على الزيادة الاية التي في [الإسراء]: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ}.
وزعم ابن النحاس أنه أراد الآية الآولى، أعنى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ، فاعتذر عنه بأنه إنما قال ذلك - وإن كان في خبر ليس - لأن [ليس] هنا بدخول الهمزة عليها لم يبق معناها من النفي فصار الكلام تقريرا ويعني بقوله في [نادر] في القياس لا في الاستعمال.
زيادة "اللام".
وأما اللام، فتزاد معترضة بين الفعل ومفعوله: كقوله:
وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد
وجعل منه المبرد قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} ،والأكثرون على أنه ضمن[ ردف ]معنى: اقترب كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
واختلف في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} ،فقيل: زائدة، وقيل: للتعليل والمفعول محذوف، أي يريد الله التبيين وليبين لكم ويهديكم أي فيجمع لكم بين الأمرين.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}،في سورة الزمر: لك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في[ أردت لأن أفعل ]ولا تزاد إلا مع [أن] خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما أتت السين في [أسطاع] يعني بقطع الهمزة عوضا من ترك الأصل الذى هو [أطوع] والدليل على هذا مجيئة بغير لام، في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. انتهى.
وزيادتها في[ أردت لأن أفعل ]لم يذكره أكثر النحويين وإنما تعرضوا لها في إعراب: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}.
وتزاد لتقوية العامل الضعيف إما لتأخره نحو: {هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ،ونحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}.
أو لكونه فرعا في العمل، نحو: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}،{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}،{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}.
وقيل منه: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} ،وقيل: بل يتعلق بمستقر محذوف صفة لعدو وهي للاختصاص.
وقد اجتمع التأخر والفرعية، في نحو: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}.
وأما قوله تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} ،فإن كان [نذيرا] بمعنى المنذر، فهو مثل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وإن كان بمعنى الإنذار فاللام مثلها في:[سقيا لزيد].
وقد تجيء اللام للتوكيد بعد النفي وتسمى لام الجحود وتقع بعد [كان] مثل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} ،اللام لتأكيد النفي كالباء الداخلة في خبر [ليس]، ومعنى قولهم:[إنها للتأكيد] إنك إذا قلت: ما كنت أضربك. بغير لام، جاز أن يكون الضرب مما يجوز كونه فإذا قلت ما كنت لأضربك فاللام جعلته بمنزلة ما لا يكون أصلا.
وقد تأتي مؤكدة في موضع وتحذف في آخر لاقتضاء المقام ذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ.ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فإنه سبحانه أكد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين وأكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا وكان المتبادر العكس لأن التأكيد إنما يكون حيث الإنكار لكن في النظم وجوه:.
أحدها: أن البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكر له كالمنكر للبدهيات فلم يحتج إلى تأكيد وأما الموت فإنه وإن أقروا به لكن لما لم يعلموا ما بعده نزلوا منزلة من لم يقر به فاحتاج إلى تأكيد ذلك لأنه قد ينزل المنكر كغير المنكر إذا كان معه مالو تأمله ارتدع من الإنكار.ولما ظهر على المخاطبين من التمادى في الغفلة والإعراض عن العمل.
لما بعده والانهماك في الدنيا وهي من أمارات إنكار الموت فلهذا قال:[ميتون] ولم يقل: تموتون وإنما أكد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا لظهور أدلته المزيلة للإنكار إذا تأملوا فيها ولهذا قيل: تبعثون على الأصل، وهو الاستقبال بخلاف [تموتون].
الثاني: أن دخول اللام على ميتون أحق لأنه تعالى يرد على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن وأكده وكذب منكره كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح.
الثالث: أنه لما كان العطف يقتضى الاشتراك في الحكم استغنى به عن إعادة لفظ اللام وكأنه قيل: [لتبعثون] واستغنى بها في الثاني لذكرها في الأول.
الرابع: قال الزمخشري بولغ في تأكيد الموت تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعى كأنه مخلد ولم يؤكد جملة البعث إلا بـ[إن] لأنه أبرز بصورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا.
قلت: هذه الأجوبة من جهة المعنى وأما الصناعة فتوجب ما جاءت الاية الشريفة عليه وهو حذف اللام في [تبعثون] لأن اللام تخلص المضارع للحال فلا يجاء به مع يوم القيامة لأنه مستقبل ولأن تبعثون عامل في الظرف المستقبل.
وأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيمكن تأويلها بتقدير عامل.
ونظير هذا آية الواقعة وهي قوله سبحانه: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. وقال سبحانه في الماء: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} بغير لام، والفرق بينهما من أربعة أوجه:.
أحدها: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد وهذا كما أن الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد وإذا توعد بالقتل احتاج إلى تأكيد.
والثاني: إن جعل الحرث حطاما قلب للمادة والصورة وجعل الماء أجاجا قلب للكيفية فقط وهو أسهل وأيسر.
الثالث: أن [لو] لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق الجزاء [بالشرط] أتى باللام علما على ذلك ثم حذف الثاني للعلم بها لأن الشيء إذا علم [وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به] لم يبال بإسقاطه عن اللفظ [استغناء بمعرفة السامع] ويساوى لشهرته حذفه وإثباته مع ما في حذفه من خفة اللفظ ورشاقته لأن تقدم ذكرها - والمسافة قصيرة - يغنى عن ذكرها ثانيا.
الرابع: أن اللام أدخلت في آية المطعوم للدلالة على أنه يقدم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب ذكرها والذي قبله الزمخشري.
ومن ذلك حذف اللام في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ.
وَالرَّسُولِ} وإثباتها بعد قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية. والجواب أنك إذا عطفت على مجرور..
القسم السابع والعشرون: باب الاشتغال.
فإن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان أفخم مما إذا لم يتقدم إضمار ألا ترى أنك تجد اهتزازا في نحو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
وفي قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}.
وفي قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
وفي قوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}- لا تجد مثله إذا قلت: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وقولك: لو تملكون خزائن رحمة ربي. وقولك: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ أَعَدَّ لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} وقولك: هدى فريقا وأضل فريقا إذ الفعل المفسر في تقدير المذكور مرتين.
وكذا قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}،{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ،ونظائره، فهذه فائدة اشتغال الفعل عن المفعول بضميره.
القسم الثامن والعشرون: التعليل.
بأن يذكر الشيء معللا فإنه أبلغ من ذكره بلا علة لوجهين:.
أحدهما: أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلة المنصوصة.
الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة بخلاف غيرها وغالب التعليل في القرآن فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى وهو سؤال عن العلة.
ومنه: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}.{إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان [إن] لحسن.
والطرق الدالة على العلة أنواع:.
الأول: التصريح بلفظ الحكم كقوله تعالى: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}.
وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ،والحكمة هي العلم النافع. والعمل الصالح.
الثاني: أنه فعل كذا لكذا أو أمر بكذا لكذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا}.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ}.
{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ}.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وهو كثير.
فإن قيل: اللام فيه للعاقبة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} ،وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} ،وإنما قلنا ذلك لأن أفعال الله تعالى لا تعلل.
فالجواب أن معنى قولنا: إن أفعال الله تعالى لا تعلل أي لا تجب ولكنها لا تخلو عن الحكمة وقد أجاب الملائكة عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}بقوله:{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ولو كان فعله سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل الملائكة عن حكمته ولم يصح الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح وفرق بين العلم والحكمة،.
ولأن لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيله في حقه وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة ثم قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم فإن التقاطهم لهم إنما كان بقضائه وقدره وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم.
قاعدة تفسيرية:.
حيث دخلت واو العاطف على لام التعليل فله وجهان:.
أحدهما: أن يكون تعليلا معللة محذوف كقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} ، فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.
الثاني: أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة ليظهر صحة العطف كقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى}، التقدير: ليستدل بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى. وكقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ}، التقدير: ليتصرف فيها ولنعلمه.
والفرق بين الوجهين: أنه في الأول عطف جملة على جملة، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد.
وقد يحتملهما الكلام كقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فالتقدير على الأول ولنجعله آية فعلنا ذلك، وعلى الثاني: ولنبين للناس قدرتنا ولنجعله آية ويطرد الوجهان في نظائره ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هاهنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف وليس قبلها ما يصلح له.
فإن قلت: لم قدر المعلل مؤخرا ؟.
قلت: فائدة هذا الاسلوب هو أن يجاء بالعلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة لأنه إما أن يقدر علة أخرى ليعطف عليها فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم وإما أن يكون على تقدير معلل فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام.
الثالث: الإتيان بكي، كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ،فعلل سبحانه الفىء بين هذه الأصناف كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.
وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ،وأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة او الأرض أو المجموع ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه هين عليه وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم ولا يفرحوا بما آتاهم فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدرة كائنة ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا.
الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً}.
ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
وقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} ،أي لأجل الذكر كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً.عُذْراً أَوْ نُذْراً} ،أي للإعذار والإنذار.
وقد يكون معلولا بعلة أخرى، كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} ،فـ[ من الصواعق ] يحتمل أن تكون فيه [من] لابتداء الغاية فتتعلق بمحذوف أي خوفا من الصواعق ويجوز أن تكون معللة بمعنى اللام كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أي لغم وعلى كلا التقديرين فـ[ من الصواعق ]في محل نصب على أنه مفعول له والعامل فيه [يجعلون]. [و حذر الموت] مفعول له أيضا فالعامل فيه [من الصواعق] فـ[ من الصواعق ]علة لـ[ يجعلون ]. معلول لحذر الموت لأن المفعول الأول الذي هو [من الصواعق] يصلح جوابا لقولنا: لم يجعلون أصابعهم في آذانهم ؟ والمفعول الثاني الذي هو [حذر الموت] يصلح جوابا لقولنا: لم يخافون من الصواعق ؟فقد ظهر ذلك.
الخامس: اللام في المفعول له، وتقوم مقامه الباء، نحو: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}.
ومن، نحو: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا}.
والكاف، نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} ،وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ،وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ }أي لإرسالنا وتعليمنا.
السادس: الإتيان بإن، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.
{فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}.
وكقوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وليس هذا من قولهم لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بإن لازم.
وقد يكون علة كقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً.إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} وفيها وجهان لأهل المعاني.
أحدهما: أن سؤالهم لصرف العذاب معلل بأنه غرام أي ملازم الغريم وبأنها ساءت مستقرا ومقاما.
الثاني: أن [ساءت]. تعليل لكونه غراما.
السابع: أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}.
وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
وقوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.
كأنه قيل: لم فاضت أعينهم من الدمع ؟ قيل: للحزن، فقيل: لم حزنوا ؟ فقيل: لئلا يجدوا.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
ونظائره كثيرة. وفي ذلك طريقان:.
أحدهما: للكوفيين، أن المعنى لئلا يقولوا ولئلا تقول نفس.
الثاني: للبصريين، أن المفعول محذوف، أي كراهة أن يقولوا أو حذار أن يقولوا فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ؟فإنك إذا قدرت:[ لئلا تضل إحداهما ]لم يستقم عطف [فتذكّر] عليه وإن قدرت:[حذار أن تضل إحداهما] لم يستقم العطف أيضا لأنه لا يصح أن تكون الضلالة علة لشهادتهما.
قيل: بظهور المعنى يزول الإشكال، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت نسيت، فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة، تقول:[ أعددت هذه الخشبة ان تميل الحائط فأدعم بها]، فإنما أعددتها للدعم لا للميل، وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأدواى به ونحوه. هذا قول سيبويه والبصريين.
وقال الكوفيون: تقديره في:[ تذكِّر إحداهما الأخرى ] إن ضلت فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن.
الثامن:[ من أجل ]في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على: {مِنَ النَّادِمِينَ} وظن قوم أنه تعليل لقوله: {مِنَ النَّادِمِينَ} ،أي من أجل قتله لأخيه وهو غلط لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة.
فإن قلت: كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمة أخرى بذلك الحكم؟ وإذا كان علة فكيف كان قتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم؟.
قيل: إن الله - سبحانه - يجعل أقضيته وأقداره عللآ لأسبابه الشرعية وأمره فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمة أمره الديني لأن القتل لما كان من أعلى.
أنواع الظلم والفساد فخم أمره وعظم شأنه وجعل أنمة أعظم من أثم غيره ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها في أصل العذاب لا في وصفه.
التاسع: التعليل بلعل، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، قيل: هو تعليل لقوله:[ اعبدوا ]، وقيل لقوله:[خلقكم].
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت إلى المخاطبين.
العاشر: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر بأن وتارة بالفاء وتارة يجرد.
فالأول: كقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} إلى قوله: {خَاشِعِينَ}. وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}.
والثاني : كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
والثالث: كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} {إِنَّ الَّذِينَ.
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} الآية.
وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}.
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، أي آيات الاقتراح لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء.
وقوله :{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}.
وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} ،فأخبر سبحانه عما يمنع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه وإن عنايته وحكمته بخلقه اقضت منع ذلك بأنه لو أنزل عليه الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة جعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئته الملكية أو يجعله على هيئة البشر والأول يمنعهم من التلقي عنه والثاني لا يحصل مقصوده إذا كانوا يقولون: هو بشر لا ملك.
الثاني عشر: إخباره عن الحكم والغايات التني جعلها في خلقه وأمره، كقوله:.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الآية.
وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} الآيات.
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} . الآية.
وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز كما قيل:
يَرْمُوْنَ بِالخَطْبِ الطِوَاِل وتارة
وَحْيَ المُلاَحظ خِيْفَةَ الرُقَبَاِء
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}.
الأسلوب الثاني: الحذف.
وهو لغة الإسقاط، ومنه حذفت الشعر إذا أخذت منه.
واصطلاحا إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل. وأما قول النحويين الحذف لغير دليل، ويسمى اقتصارا، فلا تحرير فيه، لأنه لا حذف فيه بالكلية كما سنبينه فيما يلتبس به الإضمار والإيجاز.
والفرق بينهما: أن شرط الحذف والإيجاز أن يكون [في الحذف] ثم مقدر، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} بخلاف الإيجاز فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
والفرق بينه وبين الإضمار: أن شرط المضمر بقاء أثر المقدر في اللفظ، نحو: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ}.{انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}. أي ائتوا أمرا خيرا لكم وهذا لا يشترط في الحذف.
ويدل على أنه لا بد في الإضمار من ملاحظة المقدر باب الاشتقاق فإنه من أضمرت الشيء أخفيته، قال:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
وأما الحذف فمن حذفت الشيء قطعته وهو يشعر بالطرح بخلاف الإضمار ولهذا قالوا: [أن] تنصب ظاهرة ومضمرة.
ورد ابن ميمون قول النحاة: إن الفاعل يحذف في باب المصدر وقال الصواب: أن يقال: يضمر ولا يحذف لأنه عمدة في الكلام.
وقال ابن جنى في [خاطرياته]: من اتصال الفاعل بالفعل أنك تضمره في لفظ إذا عرفته نحو قم ولا تحذفه كحذف المبتدأ ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائي في ضربني وضربت قومك.
فصل: في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور.
المشهور أن الحذف مجاز وحكى إمام الحرمين في [التلخيص] عن بعضهم: أن الحذف ليس بمجاز إذ هو استعمال اللفظ في غير موضعه والحذف ليس كذلك.
وقال ابن عطية في تفسير سورة يوسف: وحذف المضاف هو عين المجاز أو معظمه وهذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر وليس كل حذف مجازا. انتهى.
وقال الزبخاني في [المعيار]: إنما يكون مجازا إذا تغير بسببه حكم،.
فأما إذا لم يتغير به حكم كقولك زيد منطلق وعمرو بحذف الخبر فلا يكون مجازا إذا لم يتغير حكم ما بقى من الكلام.
والتحقيق أنه إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك لعدم استعماله وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره - وهو المجاز العقلي - فالحذف كذلك.
فصل: في أن الحذف خلاف الأصل.
والحذف خلاف الأصل وعليه ينبني فرعان:.
أحدهما: إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أولى لأن الأصل عدم التغيير.
والثاني: إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلته أولى.
أوجه الكلام على الحذف.
ويقع الكلام في الحذف من خمسة أوجه في فائدته وفي أسبابه ثم في أدلته ثم في شروطه ثم في أقسامه.
فوائد الحذف .
الوجه الأول: في فوائده:.
فمنها: التفخيم والإعظام، لما فيه من الإبهام لذهاب الذهن في كل مذهب وتشوفه إلى ما هو المراد فيرجع قاصرا عن إدراكه فعند ذلك يعظم شأنه ويعلو في النفس مكانه ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من المراد وخلص للمذكور!.
ومنها: زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف وكلما كان الشعور بالمحذوف أعسر كان الالتذاذ به أشد وأحسن.
ومنها: زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك بخلاف غير المحذوف كما تقول في العلة المستنبطة والمنصوصة.
ومنها: طلب الإيجاز والاختصار وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
ومنها : التشجيع على الكلام ومن ثم سماه ابن جنى:[ شجاعة العربية].
ومنها : موقعه في النفس في موقعه على الذكر ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر الجرجاني: ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره. ولله در القائل:
إذا نطقت جاءت بكل مليحة وإن سكتت جاءت بكل مليح
أسباب الحذف
الثاني: في أسبابه:.
فمنها: مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر نحو الهلال والله أي هذا فحذف المبتدأ استغناء عنه بقرينة شهادة الحال إذ لو ذكره مع ذلك لكان عبثا من القول.
ومنها : التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف وأن الاشتغال بذكره يفضى إلى تفويت المهم وهذه هي فائدة باب التحذير، نحو: إياك والشر والطريق الطريق الله الله وباب الإغراء هو لزوم أمر يحمد به وقد اجتمعا في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} على التحذير أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها و[سقياها] إغراء بتقدير الزموا ناقة الله.
ومنها: التفخيم والإعظام قال حازم في [منهاج البلغاء]: إنما يحسن الحذف ما لم.
شكل به المعنى لقوة الدلالة عليه أو يقصد به تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة فيحذف ويكتفى بدلالة الحال عليه وتترك النفس تجول في الاشياء المكتفى بالحال عن ذكرها على الحال قال: وبهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل علىالنفوس ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فحذف الجواب، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه وتركت النفوس تقدر ما شأنه ولا يبلغ مع ذلك كنه ما هنالك لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
قلت ومنه: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } ما لا يعلم كنهه إلا الله قال الزمخشري وهذا من باب الاختصار ومن جوامع الكلم المتحملة مع قلتها للمعاني الكثيرة.
ومنها: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم كما حذف حرف النداء في نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} وغيره. قال سيبويه: العرب تقول لا أدر فيحذفون الياء والوجه [لا أدري] لأنه رفع وتقول:[لم أبل] فيحذفون الألف والوجه لم أبال ويقولون:[لم يك] فيحذفون النون كل ذلك يفعلونه استخفافا لكثرته في كلامهم.
ومنها: حذف نون التثنية والجمع وأثرها باق نحو: الضاربا زيدا، والضاربو زيدا. وقراءة من قرأ: {والمُقِيمِى الصَّلاةَ} كأن النون ثابتة فعلوا ذلك لاستطالة الموصول.
في الصلة، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} حذفت الياء للتخفيف.
ويحكى عن الأخفش أن المؤرج السدوسي سأله:[ عن ذلك ] فقال: لا أجيبك حتى تنام على بابي ليلة ففعل فقال له: إن عادة العرب إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه والليل لما كان لا يسري وإنما يسري فيه نقص منه حرف كما في قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} الأصل [بغية] فلما حول ونقل عن فاعل نقص منه حرف انتهى.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ونحوه. وقال الرماني: إنما حذفت الياء في الفواصل لأنها على نية الوقف وهي في ذلك كالقوافي التي لا يوقف عليها بغير ياء.
ومنها: أن يحذف صيانة له كقوله تعالى :{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} حذف المبتدأ في ثلاثة مواضع: قبل ذكر الرب، أي هو رب السموات. والله ربكم. والله رب المشرق، لأن موسى عليه السلام استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال تهيبا وتفخيما فاقتصر على ما يستدل به من أفعاله الخاصة به ليعرفه أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومنها: صيانة اللسان عنه كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي هم.
ومنها: كونه لا يصلح إلا له كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
ومنها: شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء قال الزمخشري وهو نوع من دلالةالحال التي لسانها أنطق من لسان المقال كقول رؤبة خير جواب من قال كيف أصبحت فحذف الجار وعليه حمل قراءة حمزة: {تَسَاءَلُونَ بِهِ}. لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار فقامت الشهرة مقام الذكر.
وكذا قال الفارسي متلخصا من عدم إعادة حرف الجر في المعطوف على الضمير المجرور: إنه مجرور بالجار المقدر أي و[بالأرحام] وإنما حذفت استغناء به في المضمر المجرور قبله.
فإن قلت: هذا المقدر يحيل المسألة لأنه يصير من عطف الجار والمجرور على مثله!.
قلت: إعادة الجار شرط لصحة العطف لا أنه مقصود لذاته.
أدلة الحذف.
الوجه الثالث: في أدلته :.
ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله.
والدليل تارة يدل على محذوف مطلق وتارة على محذوف معين.
فمنها: أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف،.
كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإنه يستحيل عقلا تكلم الأمكنة إلا معجزة.
ومنها: أن تدل عليه العادة الشرعية كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}.
فإن الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا إنما هما من صفات الأفعال الواقعة على الذوات فعلم أن المحذوف التناول ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند إليها الفعل وقطع النظر عنه فلذلك أنث الفعل في بعض الصور كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقول صاحب التلخيص: إن هذه الآية من باب دلالة العقل ممنوع لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية.
ومنها: أن يدل العقل عليهما أي على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ،أي أمره أو عذابه أو ملائكته لأن العقل دل على أصل الحذف ولاستحالة مجيء البارىء عقلا لأن المجيء من سمات الحدوث ودل العقل ايضا على التعيين وهو الأمر ونحوه وكلام الزمخشري يقتضي أنه لا حذف البتة، فإنه قال: هذه الآية الكريمة تمثيل مثلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه.
وكقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} ،لأنه في معرض التوحيد فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ضرورة ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها.
ومنها: أن يدل العقل على أصل الحذف وتدل عادة الناس على تعيين المحذوف، كقوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإن يوسف عليه السلام ليس ظرفا للومهن فتعين أن يكون غيره فقد دل العقل على أصل الحذف.
ثم يجوز أن يكون الظرف حبه بدليل: {شَغَفَهَا حُبّاً} أو مراودته بدليل: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} ،ولكن.
العقل لا يعين واحدا منها بل العادة دلت على أن المحذوف هو الثاني فإن الحب لا يلام عليه صاحبه لأنه يقهره ويغلبه وإنما اللوم فيما للنفس فيه اختيار وهو المراودة لقدرته على دفعها.
ومنها: أن تدل العادة على تعيين المحذوف كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} ، أي مكان قتال والمراد مكانا صالحا للقتال لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال والعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقة القتال فلذلك قدره مجاهد: [مكان قتال].
وقيل: إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة.
ومنها: أن يدل اللفظ على الحذف والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله: { بِسْمِ اللَّهِ} فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا لأن حرف الجر لا بد له من متعلق ودل الشروع على تعيينه وهو الفعل الذي جعلت التسمية في مبدئه من قراءة أو أكل أو شرب ونحوه ويقدر في كل موضع ما يليق ففي القراءة أقرأ وفي الأكل: آكل ونحوه.
وقد اختلف هل يقدر الفعل أو الاسم وعلى الأول فهل يقدر عام كالابتداء أو خاص كما ذكرنا ؟.
ومنها: اللغة كضربت فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدي لا بد له من مفعول نعم هي تدل على أصل الحدث لا تعيينه وكذلك حذف المبتدأ والخبر.
ومنها: تقدم ما يدل على المحذوف وما في سياقه كقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، وفي موضع آخر نحو: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} وفي موضع:.
{أَلاَّ تَسْجُدَ}. وكقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي هذا، بدليل ظهوره في سورة إبراهيم فقال تعالى :{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} ونظائره.
ومنها: اعتضاده بسبب النزول، كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فإنه لا بد فيه من تقدير فقال زيد بن أسلم أي قمتم من المضاجع يعني النوم وقال غيره إنما يعني إذا قمتم محدثين.
واحتج لزيد بأن هذه الآية إنما نزلت بسبب فقدان عائشة رضي الله عنها عقدها فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم فلم يجدوه فأنزل الله هذه الاية.
وبما رجح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة بعد قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} الأولى أن يحمل قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} معنى غير الحدث لما فيه من زيادة الفائدة فتكون الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث، فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.
شروط الحذف.
الوجه الرابع: في شروطه.
فمنها: أن تكون في المذكور دلالة على المحذوف إما من لفظه أو من سياقه وإلا لم يتمكن من معرفته فيصير اللفظ مخلا بالفهم ولئلا يصير الكلام لغزا فيهج في الفصاحة وهو معنى قولهم: لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى.
وتلك الدلالة مقالية وحالية.
فالمقالية قد تحصل من إعراب اللفظ وذلك كما إذا كان منصوبا فيعلم أنه لا بد له.
من ناصب وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدرا نحو: أهلا وسهلا ومرحبا أي وجدت أهلا وسلكت سهلا وصادفت رحبا. ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدَ لِلَّهِ} على قراءة النصب. وكذلك قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} والتقدير: احمدوا الحمد واحفظوا الأرحام، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}.{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}.
والحالية قد تحصل من النظر إلى المعنى والنظر والعلم، فإنه لا يتم إلا بمحذوف وهذا يكون أحسن حالا من النظم الأول لزيادة عمومه كما في قوله فلان يحل ويربط أي يحل الأمور ويربطها أي ذو تصرف.
وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير، كقولهم في: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} :إن التقدير لأنا أقسم لأن فعل الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} التقدير لا تفتأ لأنه لو كان الجواب مثبتا لدخلت اللام والنون كقوله: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنّ}.
وهذا كله عند قيام دليل واحد وقد يكون هنا أدلة يتعدد التقدير بحسبها كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فإنه يحتمل ثلاثة أمور أحدها كمن لم يزين له سوء عمله والمعنى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ.
حَسَناً} من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما كمن لم يزين له!! ثم كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل له ذلك، قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ثانيها: تقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات فحذف الخبر لدلالة {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
ثالثها: تقدير:[ كمن هداه الله ]،فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} واعلم أن هذا الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها نحو :{قَالُوا سَلاماً} أي سلمنا سلاما أو أحد ركنيها نحو :{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } أي سلام عليكم أنتم قوم منكرون فحذف خبر الأولى ومتبدأ الثانية.
وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل، ولكن يشترط ألا يكون في حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ كما في حذف العائد المنصوب ونحوه.
وشرط ابن مالك في حذف الجار ايضا أمن اللبس ومنع الحذف في نحو: رغبت أن تفعل أو عن أن تفعل لإشكال المراد يعد الحذف.
وأورد عليه {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ،فحذف الحرف.
وجوابه أن النساء يشتملن على وصفين وصف الرغبة فيهن وعنهن فحذف للتعميم.
وشرط بعضهم في الدليل اللفظي أن يكون على وفق المحذوف. وأنكر قول الفراء في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أن التقدير: بلى حسبنا قادرين والحساب المذكور بمعنى الظن والمحذوف بمعنى العلم إذ التردد في الإعادة كفر فلا يكون مأمورا به.
ويجاب بأن الحساب المقدر بمعنى الجزم والاعتقاد لا بمعنى الظن وتقديره بذلك أولى لموافقته الملفوظ.
وقد يدل على المحذوف ذكره في مواضع أخر:.
منها: وهو أقواها، كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي أمره بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
وقوله في آل عمران: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} ،أي كعرض بدليل التصريح به في آية الحديد.
وفيه إيجاز بليغ فإنه إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول! كقوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}.
وقيل: إنما أراد التعظيم والسعة لأحقية العرض، كقوله:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المظلوم كفة حابل
ومنها: ألا يكون الفعل طالبا له بنفسه، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل ومفعول ما لم يسم فاعله واسم كان وأخواتها وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض.
ومنها: قال أبو الفتح بن جنى ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في الوسط لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه،قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} وقال الطائي الكبير:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوراض دونه، ولذلك تجد الإعلال عند التصريفيين بالحذف منها فحذفوا الفاء في المصادر من باب وعد نحو العدة والزنة والهبة واللام في نحواليد والدم والفم والأب والأخ وقلما تجد الحذف في العين لما ذكرنا وبهذا يظهر لطف هذه اللغة العربية.
تنبيهات:.
الأول: قد توجب صناعة النحو التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه كما في قوله" لا إله إلا الله " فإن الخبر محذوف وقدره النحاة: [موجود] أو [لنا].
وأنكره الإمام فخر الدين وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير وتقديرهم فاسد لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر.
ولا معنى لهذا الإنكار فإن تقدير [في الوجود] يستلزم نفي كل إله غير الله قطعا فإن العدم لا كلام فيه فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة. ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهرا أو مقدرا وإنما يقدر النحوي القواعد حقها وإن كان المعنى مفهوما وتقديرهم هنا أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث.
اللفظ مثالا، لا من حيث المعنى ولهم تقديران إعرابي وهو الذي خفي على المعترض ومعنوي وهو الذي ألزمه وهو غير لازم.
ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطراوة: إن الخبر في هذا [إلا الله] وكيف يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة!.
الثاني: اعتبر أبو الحسن في الحذف التدريج حيث أمكن ولهذا قال في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} إن أصل الكلام: [يوم لا تجزي فيه] فحذف حرف الجر فصار [تجزيه] ثم حذف الضمير فصار [تجزي].
وهذا ملاطفة في الصناعة، ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة.
وقال أبو الفتح في [المحتسب]: وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد.
الثالث: المشهور في قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ} ،أنه معطوف على جملة محذوفة التقدير:[ فضرب فانفجرت ]ودل [انفجرت] على المحذوف لأنه يعلم من الانفجار أنه قد ضرب.
وكذا: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} ،إذ لا جائز أن يحصل الانفجار والانفلاق دون ضرب.
وابن عصفور يقول في مثل هذا: إن حرف العطف المذكور مع المعطوف هو الذي كان مع المعطوف عليه وإن المحذوف هو المعطوف عليه وحذف حرف العطف من المعطوف
فالفاء في [انفلق] هو فاء الفعل المحذوف وهو [ضرب] فذكرت فاؤه وحذف فعلها وذكر فعل [انفلق] وحذفت فاؤه ليدل المذكور على المحذوف وهو تحيل غريب.
أقسام الحذف.
الخامس: في أقسامه:.
الأول: الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي، كقوله:
*درس المنا بمتالع فأبان*
أي المنازل وأنكر صاحب [المثل السائر] ورود هذا النوع في القرآن العظيم وليس كما قال.
وقد جعل منه بعضهم فواتح السور لأن كل حرف منها يدل على اسم من أسماء الله تعالى كما روى ابن عباس:" [الم] معناه:[ أنا الله أعلم وأرى ]و [المص] أنا لله أعلم وأفصل وكذا الباقي.
وقيل في قوله:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}:إن الباء هنا أول كلمة [بعض] ثم حذف الباقي كقوله:
*قلت لها قفي لنا قالت قاف*
أي وقفت، وفي الحديث: " كفى بالسيف شا " أي شاهدا.
وقال الزمخشري في قوله:{من الله}في القسم: إنها [أيمن] التي تستعمل في القسم حذفت نونها.
ومن هذا الترخيم ومنه قراءة بعضهم:[ يا مال ]على لغة من ينتظر ولما سمعها بعض السلف قال ما أشغل أهل النار عن الترخيم وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
الثاني: الاكتفاء وهو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر ويخص بالارتباط العطفي غالبا فإن الارتباط خمسة أنواع وجودي ولزومي وخبري وجوابي وعطفي.
ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق بل لأن فيه نكتة تقتضى الاقتصار عليه.
والمشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي والبرد هكذا قدروه. وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحر بالذكر وأجابوا بأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم لأنه أشد من البرد عندهم.
والحق أن الآية ليست من هذا القسم فإن البرد ذكر الامتنان بوقايته قبل ذلك صريحا في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ.
الْجِبَالِ أَكْنَاناً} وقوله في صدر السورة: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً} ،فإن هذه وقاية الحر، ثم قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} ،فهذه وقاية البرد على عادة العرب ؟.
قيل: لأن ما تقدم بالنسبة إلى المساكن وهذه إلى الملابس، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} لم يذكره السهيلي، وفيه الجوابان السابقان.
وأمثلة هذا القسم كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.
فإنه قيل: المراد:[ وما تحرك ]وإنما آثر ذكر السكون لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون ولأن السكون هو الأصل والحركة طارئة.
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} تقدير: [والشر] إذ مصادر الأمور كلها بيده جل جلاله وإنما آثر ذكر الخير لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم إليه أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ولأنه يجب في باب الأدب إلا يضاف إلى الله تعالى كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والشر ليس إليك" .
وقيل: إن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان جبريل من فتح بلاد الروم وفارس ووعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بذلك فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال.
وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ،أي والشهادة لأن الإيمان بكل منهما واجب وآثر الغيب لأنه أبدع ولأنه يستلزمالإيمان بالشهادة من غير عكس.
ومثله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً.عَالِمُ الْغَيْبِ} ،أي والشهادة بدليل التصريح به في موضع آخر.
وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ،فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات والرعد والبرق وطوى الباقي.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أي والبر، وإنما آثر ذكر البحر لأن ضرره أشد.
وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،أي والمغارب.
وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} أي ولا غير إلحاف.
وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} ،أي وأخرى غير قائمة.
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ،أي والمؤمنين.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ،أي والكافرين. قاله ابن الأنباري، ويؤيده قوله: {هُدىً لِلنَّاسِ}.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ،قيل: المعنى وآخر كافر به فحذف المعطوف لدلالة قوة الكلام من جهة أن أول الكفر وآخره سواء وخصت الأولوية بالذكر لقبحها بالابتداء.
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ} ،أي ويبسطن قاله الفارسي.
وحكى في [التذكرة] عن بعض أهل التأويل في قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى} أن المعنى:[ أكاد أظهرها أخفيها لتجزي ]، فحذف [أظهرها] لدلالة [أخفيها عليه].
قال: وعندي أن المعنى:[ أزيل خفاءها ]،فلا حذف.
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ،أي بين أحد وأحد.
وقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ،أي ومن أنفق بعده وقاتل لأن الاستواء يطلب اثنين وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه ألا تراه قال بعده: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}.
وقوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} ،أي ومن لا يستنكف ولا يستكبر بدليل التقسيم بعده بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}.
وقوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ،فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين.
وقوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، الاكتفاء بجهتين عن سائرها.
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ،أي ولم تعبدني.
وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ،أي ولا والد بدليل أنه أوجب للأخت النصف وإنما يكون ذلك مع فقد الأب فإن الأب يسقطها.
وقوله: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه [أما] إذ وضعها لتفصيل كلام مجمل وأقل أقسامها قسمان ولا ينفك عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما والتقدير: وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين. والثاني في آل عمران:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله:{إِلاَّ اللَّهَ}هذا أحد القسمين والقسم الثاني ما بعده، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون.
وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ،أي وفعلا غير الذي أمروا به لأنهم أمروا بشيئين: بأن يدخلوا الباب سجدا وبأن يقولوا حطة فبدلوا القول في [حنطة] [حطة] وبدلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم ولم يدخلوا ساجدين والمعنى إرادتنا حطة أي حط عنا ذنوبنا.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ.وَلا الظِّلُّ.
وَلا الْحَرُورُ} ،قال ابن عطية: دخول [لا] على نية التكرار كأنه قال ولا الظلمات ولا النور ولا النور والظلمات واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل بمذكور الكلام على متروكه.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.
فإن قيل: ليس للفجر خيط أسود إنما الأسود من الليل.
فأجيب: إن {مِنَ الْفَجْرِ} متصل بقوله:{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}والمعنى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل لكن حذف [من الليل] لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الفجر في موضعه لأنه لا يصح أن يكون [من الفجر] متعلقا بالخيط الأسود ولو وقع [من الفجر] في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت الدلالة على المحذوف وهو [من الليل] فحذف [من الليل] للإختصار وآخر [من الفجر] للدلالة عليه.
الثالث: من هذا قسم يسمى الضمير والتمثيل، وأعني بالضمير أن يضمر من القول المجاور لبيان أحد جزأيه كقول الفقيه: النبيذ مسكر فهو حرام فإنه أضمر [وكل مسكر حرام].
ويكون في القياس الاستثنائي، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ،وقد شهد الحسن والعيان أنهم ما انفضوا من حوله وهي المضمرة وانتفى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فظ غليط القلب.
وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ،المعنى لو أفهمتهم لما أجدى فيهم التفهيم فكيف وقد سلبوا القوة الفاهمة فعلم بذلك أنهم مع انتفاء الفهم أحق بفقد القبول والهداية.
الرابع: أن يستدل بالفعل لشيئين وهو في الحقيقة لأحدهما فيضمر للآخر فعل يناسبه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي واعتقدوا الإيمان.
وقوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي وشموا لها زفيرا.
وقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، والصلوات لا تهدم فالتقدير: ولتركت صلوات.
وقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} فالفاكهة ولحم الطير والحور العين لا تطوف وإنما يطاف بها.
وأما قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ،فنقل ابن فارس عن البصريين أن الواو بمعنى [مع] أي شركائكم كما يقال: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أي مع فصيلها.
وقال الآخرون: أجمعوا أمركم وادعوا شهداءكم، اعتبارا بقوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ}.
واعلم أن تقدير فعل محذوف للثاني ليصح العطف هو قول الفارسي والفراء وجماعة من البصريين والكوفيين لتعذر العطف. وذهب أبو عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم إلى أن ذلك من عطف المفردات وتضمين العامل معنى ينتظم المعطوف والمعطوف عليه جميعا،.
فيقدر آثروا الدار والإيمان ويبقى النظر في أنه أيهما أولى ترجيح الإضمار أو التضمين ؟.
واختار الشيخ أبو حيان تفصيلا حسنا وهو: إن كان العامل الأول تصح نسبته إلى الاسم الذي يليه حقيقة كان الثاني محمولا على الإضمار لأنه أكثر من التضمين نحو:[ يجدع الله أنفه وعينيه ]،أي ويفقأ عينيه فنسبة الجدع إلى الأنف حقيقة وإن كان لا يصح فيه ذلك كان العامل مضمنا معنى ما يصح نسبته إليه لأنه لا يمكن الإضمار كقولهم:
*علفتها تبنا وماء باردا*
وجعل ابن مالك من هذا القبيل قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} قال: لأن فعل أمر المخاطب لا يعمل في الظاهر فهو على معنى:[ اسكن أنت ولتسكن زوجك ]لأن شرط المعطوف أن يكون صالحا لأن يعمل فيه ما عمل في المعطوف عليه وهذا متعذر هنا لأنه لا يقال: [اسكن زوجك].
ومنه قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ} ولا يصح أن يكون [مولود] معطوفا على [والدة] لأجل تاء المضارعة أو للأمر فالواجب في ذلك أن تقدر مرفوعا بمقدر من جنس المذكور أي ولا يضار مولود له.
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ}، قال الفراء: التقدير: [وسخرنا له الطير] عطفا على قوله: {فَضْلاً} وقيل: هو مفعول معه، ومن رفعه فقيل: على المضمر في [ آتى ]،.
وجاز ذلك لطول الكلام بقوله:[ معه ]، وقيل: بإضمار فعل أي ولتؤوب معه الطير.
الخامس: أن يقتضى الكلام شيئين فيقتصر على أحدهما لأنه المقصود، كقوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ولم يقل: وهارون لأن موسى المقصود المتحمل أعباء الرسالة كذا قاله ابن عطية.
وغاص الزمخشري فقال: أراد أن يتم الكلام فيقول: [وهارون] ولكنه نكل عن خطاب هارون توقيا لفصاحته وحدة جوابه ووقع خطابه إذ الفصاحة تنكل الخصم عن الخصم للجدل وتنكبه عن معارضته.
السادس: أن يذكر شيئان ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
ويبقى عليه سؤال وهو أنه لم أوثر ذكر التجارة ؟ وهلا أوثر اللهو ؟.
وجوابه ما قال الراغب في تفسير سورة البقرة: إن التجارة لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت فيهم هذه الآية أعيد الضمير إليها. ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة ما لا يشغله اللهو.
واختلف في مواضع: منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ،فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة وأعاد الضمير.
على الفضة وحدها، لأنها أقرب المذكورين ولأن الفضة أكثر وجودا في أيديالناس والحاجة إليها أمس فيكون كنزها أكثر وقيل أعاد الضمير على المعنى لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال.
ونظيره: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ،لأن الطائفة جماعة. وقيل: من عادة العرب إذا ذكرت شيئين مشتركين في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما استغناء بذكره عن الاخر اتكالا على فهم السامع كقول حسان:
إن شَرْح الشباب والشعر الأسـ ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل:[ يعاصا ].
ومنها قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} وقد جعل ابن لأنباري في كتاب [الهاءات] ضمير {لَمْ تَرَوْهَا} راجعا إلى الجنود.
ونقل عن قتادة قال: هم الملائكة. والأشبه أن يأتي هنا بما سبق.
ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فقيل [أحق] خبر عنهما وسهل إفراد الضمير بعدم إفراد [أحق] وأن إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله.
وقيل: [أحق] خبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
وقيل: العكس، وإنما أفرد الضمير لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد كما جاء في الحديث: "قل ومن يعص الله ورسوله". قال الزمخشري: قد يقصدون ذكر الشيء.
فيذكرون قبله ما هو سبب منه ثم يعطفونه عليه مضافا إلى ضميره وليس لهم قصد إلى الأول كقوله سرني زيد وحسن حاله والمواد حسن ماله وفائدة هذا الدلالة على قوة الاختصاص بذكر المعنى ورسول الله أحق أن يرضوه ويدل عليه ما تقدمه من قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ}، ولهذا وحد الضمير ولم يثن.
ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}.
ومنها قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ،فقيل: الضمير للصلاة لأنها أقرب المذكورين وقيل أعاده على المعنى وهو الاستعانة المفهومة من استعينوا.
وقيل: المعنى على التثنيةوحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} ،وهو نظير آية الجمعة كما سبق.
وفي هاتين الآيتين لطيفتان: وهما أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في آية الجمعة على التجارة وإن كانت أبعد ومؤنثة ايضا لأنها أجذب للقلوب عن طاعة الله من اللهو لأن المشتغلين بالتجارة أكثر من المشتغلين باللهو أو لأنها أكثر نفعا من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومه كما جاء في صحيح البخاري :" أقبلت عير يوم الجمعة " ،وأعاده في قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير فتدبر ذلك.
وأما قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي بذلك القول.
السابع: الحذف المقابلي: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحدف من واحد منهما مقابلة لدلالة الاخر عليه، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} ، الأصل فإن افتريته فعلى إجرامي وأنتم براء منه وعليكم إجرامكم وأنا برىء مما تجرمون فنسبة قوله تعالى: [إجرامي] وهو الأول إلى قوله: {وعليكم إجرامكم} - وهو الثالث - كنسبة قوله: {وأنتم براء منه}- وهو الثاني - إلى قوله:{وعليكم إجرامكم}- وهو الثالث -كنسبة قوله:{وأنتم براء منه}- وهو الثاني - إلى قوله تعالى: {وَأَنَا بَرِىءٌ مِمَا تُجْرِمُونُ} ،وهو الرابع،واكتفى من كل متناسبين بأحدهما.
ومنه قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ}، تقديره: إن أرسل فليأتنا بآية كما ارسل الأولون فأتوا بآية.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، تقديره كما قال المفسرون:" ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم فلا يعذبهم "، عند ذلك يكون مطلق قوله: فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيدا بمدة الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، فتقديره: لا تقربوهن حتى يطهرن ويطهرن فإذا طهرن وتطهرن فآتوهن وهو قول مركب من أربعة اجزاء نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه.
وأعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتطهر جميعا وهو مذهب الشافعي.
ومنه قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، تقديره:[ أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج ]، إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق فلذلك بقى القانون فيه الذي هو نسبة الأول إلى الثالث ونسبة الثاني إلى الرابع علىحالة الأكثرية فلم يتغير عن موضعه ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني وبين الثالث والرابع وهي نسبة النظير كقوله:
وإني لتعروني لذكراكِ هِزَّةٌ كما انتفض العصفور بَلَّلَة القَطْرُ
أي هزة بعد انتفاضة كما انتفض العصفور بلله القطر ثم اهتز. كذا قاله جماعة.
وأنكره ابن الصائغ، وقال: هذا التقدير لا يحتاج إليه ولو يكون لكان خلفا وإنما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها، و[يخرج] مجزوم على الجواب فاحتاج أن تقدر جوابا لازما وشرطا ملزوما حذفا لأنهما نظير ما ثبت لكن وقع في تقدير ما لا يفيد لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل لكنه قد يقدره تقديرا بعيدا وهو أدخلها تدخل كما هي وأخرجها تخرج بيضاء وهو بعد ذلك ضعيف فيقال له: لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالفعل فإذا قيل: إن جاءني زيدا أكرمته فهذا اللازم بالوضع وليس بالضرورة والإكرام لازم للمجيء بل لوضع المتكلم فالموضوع هنا أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى ألا ترى أنه لا يلزم من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد فإن قال: لم أرد هذا وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج قيل هذا من المعلوم الذي لا معنى للتنصيص عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}.
أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوط ومخلوطا به أي تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} الآية، فإن مقتضى التقسيم اللفظي من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه وهو صاحب الجنة ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار فحذف من كل ما أثبت نظيره في الأخرى.
قيل: ومنه قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً} ،قال سيبويه [في باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى]: لم يشبهوا بالناعق وإنما شبهوا بالمنعوق به وإنما المعنى: ومثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى. انتهى.
والذي أحوجه إلى هذا التقدير أنه لما شبه الذين كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،- وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي وليس بمتعين لجواز ألا يراد به الداعي بل الناعق من الحيوان - شبههم في تألهم وتأتيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه من أنهم يدعون مالا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده فيكون ثم حذف.
وقيل: ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من الأول بالثالث لنسبة بينهما وذلك أنه اكتفى بالذي ينعق -وهو الثالث المشبه به - عن المشبه وهو الكناية المضاف إليها في قوله: ومثلك وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة وهو الذي غلط من وضعه في هذا النوع وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي على ما سلف.
وقد قال الصفار: هذا الذي صار إليه سيبويه - من أنه حذف من الأول المعطوف عليه ومن الثاني المعطوف - ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة لأن فيه حدفا كثيرا مع إبقاء حرف العطف وهو الواو ألا ترى أن ما قبلها مستأنف والأصل مثلك ومثلهم إلا أن يدعى أن الأصل ومثلك ومثلهم ثم حذف [مثلك] والواو التي عطفت ما بعدها وبقيت الواو الأولى ويزعم أن الكلام ربط مع ما قبله بالواو وليس بينهما ارتباط وفيه ما ترى.
وقال ابن الحجاج: عندي أنه لا حذف في الآية والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم لاصنام بالذي ينعق بما لا يسمع فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه والكفار على هذا داعون وعلى التأويل الأول. مدعوون.
ونظيرها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فإن فيه جملتين حذف نصف كل واحدة منهما اكتفاء بنصف الآخرى وأصل الكلام: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي سويا على صراط مستقيم أمن يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا !.
وإنما قلنا: إن أصله هكذا لأن أفعل التفضيل لا بد في معناه من المفضل عليه.
وهاهنا وقع السؤال عمن في نفس الأمر هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك أهدى من هذا ؟فلا بد من ملاحظة أربعة أمور وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى والذي حذف من هذه مذكور في تلك والذي حذف من تلك مذكور في هذه فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة ثم ترك أمر آخر لم يتعرض له وهو الجواب الصحيح لهذين الاستفهامين وأيهما هو الآهدى لم يذكره في الآية أصلا اعتمادا على أن العقل يقول الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا على وجهه.
وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
فائدة.
قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وقد يعكس وقد يحتمل اللفظ الأمرين.
فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} في قراءة من رفع [ملائكته] أي إن الله يصلي فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وليس عطفا عليه.
والثاني: كقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، أي ما يشاء.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، أي برىء أيضا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}.
وقوله: {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ لم يحضن} ، أي كذلك.
وجعل منه ابو الفتح قوله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}التقدير: وأبصر بهم لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه، حيث كان بلفظ الفضلة وإن كان ممتنعا في الفاعل.
وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا إن الجار والمجرور في أسمع بهم وأبصر في محل الرفع فإن قلنا في محل النصب فلا.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، والتقدير خلقهن الله فحذف [خلقهن] لقرينة تقدمت في السؤال.
وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل: [إنا كذلك] اختيارا واستغناء عنه بقوله فيما سبق [إنا كذلك].
والثالث: كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ،فقد قيل: إن [أحق] خبر عن اسم الله تعالى وقيل: بالعكس.
وأما قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}، فالفائدة في إعادة الجار والمجرور أعنى [بها] لأنه لو حذف من الثاني لم يحصل الربط لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا أو كالمفعول الثاني لـ[ سمعتم ]، ولو حذف من الأول لم يكن نصا على أن الكفر يتعلق بالإثبات لجواز أن يكون متعلق الأول غير متعلق الثاني..
الثامن: الاختزال، وهو الافتعال من خزله قطع وسطه ثم نقل في الإصطلاح إلى حذف كلمة أو أكثر. وهي إما اسم أو فعل أو حرف.
الأول: الاسم.
" حذف المبتدأ ".
فمنه حذف المبتدأ، كقوله تعالى:[ ثلاثة ]و[ خمسة ]،و[ سبعة ]،أي هم ثلاثة وهم خمسةوهم سبعة.
وقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ}، أي إحداهما، بدليل قوله بعده: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}.
وقوله: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ}، أي هذا بلاغ.
وقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، أي هم عباد.
وعلى هذا قال أبو علي: قوله تعالى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} ، أي هي النار.
وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.النَّارُ}، أي هو النار.
ويمكن أن يكون [النار] في الآيتين مبتدأ والخبر الجملة التي بعدها ويمكن في الثانية أن تكون النار بدلا من [سوء العذاب].
وقوله: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ،أي ساحر.
وقوله: {إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} ،أي هذا الحق من ربكم وليس هذا كما يضلنه بعض الجهال أي قل القول الحق فإنه لو أريد هذا لنصب [الحق] والمراد: إثبات أن القرآن حق ولهذا قال:{مِنْ رَبِّكُمْ}، وليس المراد هنا قول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}.
وقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} ، أي هذه سورة.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، أي فعمله لنفسه وإساءته عليها.
وقوله: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}، أي فهو يئوس.
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ.مَتَاعٌ قَلِيلٌ}، أي تقلبهم متاع أو ذاك متاع.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ.نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}، أي والحطمة نار الله.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ، أي كل واحدة منها كالقصر فيكون من باب قول: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، أي كل واحدمنهم والمحوج إلى ذلك أنه لا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد والقصر هو البيت من أدم كان يضرب.
على المال، ويؤيده قوله: {جِمَالَتٌ صُفْرٌ}، أفلا تراه كيف شبهه بالجماعة أي كل واحدة من الشرر كالجمل لجماعاته فجماعاته إذن مثل الجمالات الصفر وكذلك الأول شررة منه كالقصر قاله أبو الفتح بن جنى.
وأما قوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ}، فقيل: إن [ثلاثة] خير مبتدأ محذوف تقديره:[ آلهتنا ثلاثة ].
واعترض باستلزامه إثبات الإلهية لانصراف النفي الداخل على المبتدأ او الخبر إلى المعنى المستفاد من الخبر لا إلى معنى المبتدأ وحينئذ يقتضى نفى عدة الآلهة لا نفى وجودهم.
قيل: وهو مردود لأن نفي كون آلهتهم ثلاثة يصدق بالا يكون للآلهة الثلاثة وجود بالكلية لأنه من السالبة المحصلة فمعناه: ليس آلهتكم ثلاثة وذلك يصدق بألا يكون لهم آلهة وإنما حذف إيذانا بالنهي عن مطلق العدد المفهم للمساواة بوجه ما فما ظنك بمن صرح بالشركة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وقال سبحانه: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فأفهم أنه لو وجد الإله يكون غيره معه خطأ لإفهامه مساواة ما كقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ولزم من نفي الثلاثة لامتناع المساواة المعلومة عقلا والمدلول عليها بقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} نفي الشركة مطلقا فإن تخصيص النهي وقع في مقابلة الفعل ودليلا عليه فإنهم كانوا يقولون في الله وعيسى وأمه: ثلاثة.
ونحوه في الخروج على السبب: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}.
وقال صاحب [إسفار الصباح]: الوجه تقدير كون ثلاثة أو في [الوجود] ثم حذف الخبر الذي هو [لنا] أو في الوجود الحذف المطرد وما دل عليه توحيد لا إله إلا الله.
ثم حذف المبتدأ حذف الموصوف كالعدد إذا كان معلوما كقولك: عندي ثلاثة أي دراهم وقد علم بقرينة قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
وقد عورض هذا بأن نفي وجود ثلاثة لا ينفى وجود إلهين. وأجيب بأن تقديره [آلهتنا ثلاثة] يوجب ثبوت الآلهة وتقدير [لنا آلهة] لا يوجب ثبوت إلهين.
فعورض بأنه كما لا يوجبه فلا ينفيه.
فأجيب بأنه إذا لم ينفه فقد نفاه ما بعده من قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
فعورض بأن ما بعده إن نفي ثبوت إلهين فكيف ثبوت آلهة !.
فأجاب بأنه لا ينفيه ولكن يناقضه لأن تقدير آلهتنا ثلاثة يثبت وجود إلهين لانصراف النفي في الخبر عنه بخلاف تقدير:[ لنا آلهة ثلاثة ]، فإنه لا يثبت وجود إلهين لانصراف النفي إلى أصل الإثبات للآلهة.
وفي أجوبة هذه المقدمات نظر.
قلت: وذكر ابن جني أن الآية من حذف المضاف أي ثالث ثلاثة لقوله في موضع آخر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}.
حذف الخبر.
نحو: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، أي دائم.
وقوله في سورة ص بعد ذكر من اقتص ذكره من الأنبياء، فقال: {هَذَا ذِكْرٌ} ثم لما ذكر مصيرهم إلى الجنة وما أعد لهم فيها من النعيم قال: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ.هَذَا} قد أشارت الآية إلى مآل أمر الطاغين ومنه يفهم الخبر.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي أهذا خير أمن جعل صدره ضيقا حرجا وقسا قلبه فحذف بدليل قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّه}.
وقوله تعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ}.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} قال سيبويه: الخبر محذوف أي فيما أتلوه السارق والسارقة وجاء [فاقطعوا] جملة أخرى. وكذا قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فيما نقص لكم.
وقال غيره: السارق مبتدأ فاقطعوا خبره وجاز ذلك لأن الاسم عام فإنه لا يريد.
به سارقا مخصوصا فصار كأسماء الشرط تدخل الفاء في خبرها لعمومها وإنما قدر سيبويه ذلك لجعل الخبر أمرا وإذا ثبت الإضمار فالفاء داخلة في موضعها تربط بين الجملتين ومما يدل على أنه على الإضمار إجماع القراء على الرفع مع أن الأمر الاختياري فيه النصب قال وقد قرأ ناس بالنصب ارتكانا للوجه القوي في العربية ولكن أبت العامة إلا الرفع. وكذا قال في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: مثل، هنا خبر مبتدأ محذوف أي فيما نقض عليكم مثل الجنة وكذا قال أيضا في قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}: إنه على الإضمار.
وقد رد بأنه أي ضرورة تدعو إليه هنا فإنه إنما صرنا إليه في السارق ونحوه لتقديره دخول الفاء في الخبر فاحتيج للإضمار حتى تكون الفاء على بابها في الربط وأما هذا فقد وصل بفعل هو بمنزلة الذي يأتيك فله درهم.
وأجاب الصفار بأن الذي حمله على هذا أن الأمر دائر مع الضرورة كيف كان لأنه إذا أضمر فقد تكلف وإن لم يضمر كان الاسم مرفوعا وبعده الأمر فهو قليل بالنظر [إلى للذين يأتيانها ]فكيفما عمل لم يخل من قبح.
وإن قدر منصوبا وجاء القرآن بالألف على لغة من يقول [الزيدان] في جميع الأحوال وقع أيضا في محذور آخر فلهذا قدره هذا التقدير لأن الإضمار مع الرفع يتكافآن.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} الخبر محذوف أي يعذبون ويجوز أن يكون الخبر: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}.
وقوله: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} ، فأنتم مبتدأ والخبر محذوف أي حاضرون وهو لازم الحذف هنا.
وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، أي حل لكم كذلك.
وأما قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، أما على قراءة التنوين فلا حذف لأنه يجعله مبتدأ [وابن الله ]خبر حكاية عن مقالة اليهود وأما على قراءة من لم ينون فقيل: إنه صفة والخبر محذوف أي عزيز ابن الله إلهنا وقيل: بل المبتدأ محذوف أي إلهنا عزيز وابن صفة.
ورد بوجهين:.
أحدهما: أنه لا يطابق:{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.
والثاني: أنه يلزم عليه أن يكون التكذيب ليس عائدا إلى البنوة فكذب لأن صدق الخبر وكذبه راجع إلى نسبة الخبر لا إلى الصف فلو قيل زيد القائم فقيه فكذب انصرف التكذيب لإسناد فقهه لا لوصفه بالقائم.
وفيه نظر لأن الصفة ليست إنشاء فهي خبر إلا أنها غير تامة الإفادة فيصح تكذيبها والأولى تقويته وأن يقال الصفة والإضافة ونحوهما في المسند إليه لواحق بصورة الإفراد أي يريد أن يصوره بهيئة خاصة ويحكم عليه كذلك لكن لا سبيل إلى كذبها مع أنها تصورت فالوجه أن يقال: إن كذب الصفة بإسناد مسندها إلى.
معدوم الثبوت ونظير هذه المسألة في الفقه ما لو قال والله لا أشرب ماء هذا الكوز ولا ماء فيه.
وقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} خبر الجملة أي حكى فيه لفظهم أي قالوا هذه العبارة القبيحة وحينئذ فلا يقدر خبر ولا مبتدأ.
وقيل: [ابن الله] خبر وحذف التنوين من [عزير] للعجمة والعلمية.
وقيل: حذف تنوينه لالتقاء الساكنين لأن الصفة مع الموصوف كشىء واحد كقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.اللَّهُ الصَّمَدُ} على إراد التنوين بل هنا أوضح لأنه في جملة واحدة.
وقيل:[ ابن الله ]نعت ولا محذوف وكأن الله تعالى حكى أنهم ذكروا هذا اللفظ إنكارا عليهم إلا أن فيه نعتا لأن سيبويه قال إن قلت وضعته العرب لتحكى به ما كان كلاما لا قولا وأيضا إنه لا يطابق قوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} والظاهر أنه خبر والقولان منقولان.
والصحيح في هذه القراءة أنه ليس الغرض إلا أن اليهود قد بلغوا في رسوخ الاعتقاد في هذا الشيء إلى أن يذكرون هذا النكر كما تقول في قوم تغالوا في تعظيم صاحبهم أراهم اعتقدوا فيه أمرا عظيما ثابتا يقولون: زيد الأمير !.
ما يحتمل الأمرين.
قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يحتمل حذف الخبر أي أجمل أو حذف المبتدأ أي فأمري صبر جميل وهذا أولى لوجود قرينة حالية - هي قيام الصبر به - دالة على.
المحذوف وعدم قرينة حالية أو مقالية تدل على خصوص الخبر وأن الكلام مسوق للإخبار بحصول الصبر له واتصافه به وحذف المبتدأ يحصل ذلك دون حذف الخبر لأن معناه أن الصبر الجميل أجمل ممن لأن المتكلم متلبس به.
وكذلك يقوله من لم يكن وصفا له ولأن الصبر مصدر والمصادر معناها الإخبار فإذا حمل على حذف المبتدأ فقد أجرى على أصل معناه من استعماله خبرا وإذا حمل على حذف الخبر فقد أخرج عن أصل معناه.
ومثاله قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي أمثل أو أولى لكم من هذا أو أمركم الذي يطلب منكم.
ومثله قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} إما أن يقدر فيما أوحينا إليك سورة أو هذه سورة.
وقد يحذفان جملة كقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الاية.
حذف الفاعل.
المشهور امتناعه إلا في ثلاثة مواضع:.
أحدها: إذا بنى الفعل للمفعول.
ثانيها: في المصدر إذا لم يذكر معه الفاعل مظهرا يكون محذوفا ولا يكون مضمرا نحو :{أَوْ إِطْعَامٌ}.
ثالثها: إذا لاقى الفاعل ساكنا من كلمة أخرى كقولك للجماعة: اضرب القوم، وللمخاطبة: اضرب القوم.
وجوز الكسائي حذفه مطلقا إذا ما وجد ما يدل عليه كقوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي بلغت الروح.
وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس.
{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يعنى العذاب، لقوله قبله :{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}.
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} تقديره: فلما جاء الرسول سليمان.
والحق أنه في المذكورات مضمر لا محذوف وقد سبق الفرق بينهما.
أما حذفه وإقامة المفعول مقامه مع بناء الفعل للمفعول فله أسباب:.
منها: العلم به، كقوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} ونحن نعلم أن الله خالقه.
قال ابن جنى: وضابطه أن يكون الغرض إنما هو الإعلام بوقوع الفعل بالمفعول ولا غرض في إبانة الفاعل من هو.
ومنها : تعظيمه كقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} إذ كان الذي قضاه عظيم القدر.
وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ}.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزمخشري في كشافه القديم: هذا أدل على كبرياء المنزل وجلالة شأنه من القراءة الشاذة [ أَنْزِلَ ] مبنيا للفاعل كما تقول الملك أمر بكذا ورسم بكذا وخاصة إذا كان الفعل فعلا لا يقدر عليه إلا الله كقوله:{وَ قُضِيَ الأَمْرُ}قال: كأن طى ذكر الفاعل كالواجب لأمرين:.
أحدهما: أنه إن تعين الفاعل وعلم أن الفعل مما لا يتولاه إلا هو وحده كان ذكره فضلا ولغوا.
والثاني: الإيذان بأنه منه غير مشارك ولا مدافع عن الاستئثار به والتفرد بإيجاده وايضا فما في ذلك من مصير أن أسمه جدير بأن يصان ويرتفع به عن الابتذال والامتهان وعن الحسن لولا أني مأذون لي في ذكر اسمه لربأت به عن مسلك الطعام والشراب.
ومنها: مناسبة الفواصل، نحو:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}ولم يقل يجزيها.
ومنها: مناسبة ما تقدمه، كقوله في سورة براءة :{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ، لأن قبلها: {وَإِذَا أَنْزِلَتْ سُورَةٌ} على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله: {وَطُبِعَ} ليناسب بالختام المطلع بخلاف قوله فيما بعدها: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فإنه لم يقع قبلها ما يقتضى البناء فجاءت على الأصل.
حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وهو كثير، قال ابن جنى: وفي القرآن منه زهاء ألف موضع وأما أبو الحسن فلا يقيس عليه ثم رده بكثرة المجاز في اللغة وحذف المضاف مجاز. انتهى.
وشرط المبرد في كتاب [ما اتفق لفظه واختلف معناه] لجوازه وجود دليل على المحذوف من عقل أو قرينة نحو: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } ، أي أهلها قال: ولا يجوز على هذا أن نقول: جاء زيد وأنت تريد غلام زيد لأن المجيء يكون له ولا دليل [في مثل هذا] على المحذوف.
وقال الزمخشري في الكشاف القديم: لا يستقيم تقدير حذف المضاف في كل موضع ولا يقدم عليه إلا بدليل واضح وفي غير ملبس كقوله: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }.
وضعف بذلك قول من قدر في قوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أنه على حذف مضاف.
فإن قلت: كما لا يجوز مجيئه لايجوز خداعه فحين جرك إلى تقدير المضاف امتناع مجيئه فهلا جرك إلى مثله امتناع خداعه !.
قلت: يجوز في اعتقاد المنافقين تصور خداعه فكان الموضع ملبسا فلا يقدر. انتهى.
فمنه قوله تعالى: { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر } أي رحمته ويخاف عذابه.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي: سد يأجوج ومأجوج.
{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أي: شعر الرأس.
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } أي بقراءة صلاتك ولا تخافت بقراءتها.
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّه ِ} أي بر من آمن بالله.
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ } أي ناحيتها والجهة التي هو فيها.
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي هل يسمعون دعاءكم بدليل الآية الآخرى {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}.
{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِمْ}، أي من آل فرعون.
{إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي ضعف عذابهما.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أي ومثل واعظ الذين كفروا كناعق الأنعام.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي مثل أمهاتهم.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي شكر رزقكم. وقيل: تجعلون التكذيب شكر رزقكم.
وقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك.
وقوله: {أَمَانَاتِكُمْ} أي ذوي أماناتكم كالمودع والمعير والموكل.
والشريك ومن يدك في ماله أمانة لا يد ضمان ويجوز أن لا حذف فيه لأن [خنت] من باب [أعطيت] فيتعدى إلى مفعولين ويقتصر على أحدهما.
وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ، أي أهل مدين بدليل قوله:{ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي أهل القرية وأهل العير.
وقيل: فيه وجهان: أحدهما: أن القرية يراد بها نفس الجماعة، والثاني: أن المراد الأبنية نفسها لأن المخاطب نبي صاحب معجزة.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ويجوز أن يقدر الحج حج أشهر معلومات.
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} أي أمر ربك.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل قال الراغب: إنه على بابه فإن في ذكر العجل تنبيها على أنه لفرط محبتهم صار صورة العجل في قلوبهم لا تمحى.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ} فإرم اسم لموضع وهو في موضع جر إلا أنه منع الصرف للعملية والتأنيث أما للعلمية فواضح وأما التأنيث فلقوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ}.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي بسؤالها فحذف المضاف ولم يكفروا بالسؤال إنما كفروا بربهم المسئول عنه فلما كان السؤال سببا للكفر فيما سألوا عنه نسب الكفر إليه على الاتساع.
وقيل: الهاء الهاء عائدة على غير ما تقدم لقوة هذا الكلام بدليل أن الفعل تعدى بنفسه والأول بغيره وإنما هذه الآية كناية عما سأل قوم موسى وقوم عيسى من الآيات ثم كفروا فمعنى السؤال الأول والثان الاستفهام ومعنى الثالث طلب الشيء.
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، أي تناولها لأن الاحكام لا تتعلق بالأجرام إلا بتأويل الأفعال.
وقيل: إن الميتة يعبر بها عن تناولها فلا حذف ولو كان ثم حذف لم يؤنث الفعل ولأن المركب إنما يحذف إذا كان للكلام دلالة غير الدلالة الإفرادية والمفهوم من هذا التركيب التناول من غير تقدير فيكون اللفظ موضوعا له والمشهور في الأصول أنه من محال الحذف.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ، فهاهنا إضمار لأن قائلا لو قال:[ من عمل صالحا جعلته في جملة الصالحين ] لم يكن فائدة وإنما المعنى لندخلنهم في زمرة الصالحين.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أي ذا قراطيس أو مكتوبا في قراطيس {تُبْدُونَهَا} أي تبدون مكتوبها.
وقوله: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} ليس المعنى تخفونها إخفاء كثيرا ولكن التقدير: تخفون كثيرا من إنكار ذي القراطيس أي يكتمونه فلا يظهرونه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي.
الْكِتَابِ}. ويدل له قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}.
وقوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، أي بقدر مياهها.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، أي هم بدفعها أي عن نفسه في هذا التأويل بتنزيله يوسف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما لا يليق به لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الصغائر والكبائر وعليه فينبغي الوقف على قوله :{لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}.
تنبيه.
في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه.
اعلم أن المضاف إذا علم جاز حذفه مع الالتفات إليه فيعامل معاملة الملفوظ به من عود الضمير عليه ومع اطراحه يصير الحكم في عود الضمير للقائم مقامه.
فمثال استهلاكه حكمه وتناسى أمره قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} : فإن الضمير في [يغشاه] عائد على المضاف المحذوف بتقدير أو كذى ظلمات.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} أي كمثل ذوي صيب ولهذا رجع الضمير إليه مجموعا في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} ولو لم يراع لأفرده أيضا.
وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ولولا ذلك لحذفت التاء لأن القوم مذكر ومنه قول حسان:
يسقون من وَرَدَ البريصَ عليهم بَرَدَىَ يُصَفِّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ
بالياء أي ماء بردى ولو راعى المذكور لأتى بالتاء.
قالوا: وقد جاء في آية واحدة مراعاة التأنيث والمحذوف وهي قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أنث الضمير في [أهلكناها] و[فجاءها] لإعادتهما على القرية المؤنثة وهي الثابتة ثم قال: { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فأتى بضمير من يعقل حملا على [أهلها] المحذوف.
وفي تأويل إعادة الضمير على التأنيث وجهان: أحدهما: أنه لما قام مقام المحذوف صارت المعاملة معه والثاني: أن يقدر في الثاني حذف المضاف كما قدر في الأول فإذا قلت: سألت القرية وضربتها فمعناه وضربت أهلها فحذف المضاف كما حذف من الأول إذ وجه الجواز قائم.
وقيل: هنا مضاف محذوف والمعنى أهلكنا أهلها وبياتا حال منهم أي مبيتين و{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} جملة معطوفة عليها ومحلها النصب.
وأنكر الشلوبين مراعاة المحذوف وأول ما سبق على أنه من باب الحمل على المعنى ونقله عن المحققين لأن القوم جماعة ولهذا يؤنث تأنيث الجمع نحو هي الرجال وجمع التكسير عندهم مؤنث وأسماء الجموع تجري مجراها وعلى هذا جاء التأنيث لا على الحذف وكذا القول في البيت.
وفي قراءة بعضهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} قدروه عرض الآخرة والأحسن أن يقدر ثواب الآخرة لأن العرض لا يبقى بخلاف الثواب.
حذف المضاف إليه.
وهو أقل استعمالا كقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وكذا كل ما قطع عن الإضافة مما وجبت إضافته معنى لا لفظا كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، أي من قبل ذلك ومن بعده.
حذف المضاف والمضاف إليه.
قد يضاف المضاف إلى مضاف فيحذف الأول والثاني ويبقى الثالث كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي بدل شكر رزقكم.
وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.} أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
وقيل: الرزق في الآية الأولى الحظ والنصيب فلا حاجة إلى تقدير وكذلك قدرت الثانية [كالذي] حالا من الهاء والميم في [أعينهم] لأن المضاف بعض فلا تقدير.
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وقدره أبو الفتح في المحتسب على أفعال أهل النار.
وأما قوله:{مِنَ الْمَوْتِ} فالتقدير من مداناة الموت أو مقاربته ولا ينكر عسره على الإنسان ولكن إذا دفع إلى أمر هابه.
ومثله الآية الاخرى: {ينْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}.
وقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}، أي من أثر حافر فرس الرسول.
وقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، أي من أموال كفار أهل القرى.
وقوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي من أفعال ذوي تقوى القلوب وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآية، فإن التقدير كمثل ذوي صيب فحذف المضاف والمضاف إليه أما حذف المضاف فلقرينة عطفه على{كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وأما المضاف إليه فلدلالة:{جْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه فأعاد الضمير عليه مجموعا وإنما صير إلى هذا التقدير لأن التشبيه بين صفة المنافقين وصفة ذوي الصيب لا بين صف المنافقين وذوي الصيب.
حذف الجار والمجرور.
كقوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً} أي بسيء {وَآخَرَ سَيِّئاً} أي بصالح.
وكذا بعد أفعل التفضيل كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي من كل شيء.
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي من السر وكلام الزمخشري في المفصل يقتضي أنه مما قطع3 فيه عن متعلقة قصدا لنفي الزيادة نحو فلان يعطى ليكون كالفعل المتعدي إذا جعل قاصر للمبالغة فعلى هذا لا يكون من الحذف فإنه قال أفعل التفضيل له معنيان أحدهما أن يراد أنه زائد على المضاف إليه في الجملة التي هو وهم فيها شركاء والثاني أن يوجد مطلقا له الزيادة فيها إطلاقا ثم يضاف للتفضيل على المضاف إليه لكن بمجرد التخصيص كما يضاف ما لا تفضيل فيه نحو قولك الناقص والأشج أعدلا بني مروان كأنك قلت: عادلا. انتهى.
حذف الموصوف.
يشترط فيه أمران:.
أحدهما: كون الصفة خاصة بالموصوف حتى يحصل العلم بالموصوف فمتى كانت الصفة عامة امتنع حذف الموصوف نص عليه سيبويه في آخر باب ترجمة [هذا باب مجارى أواخر الكلم العربية] وكذلك نص عليه أرسطاطا ليس في كتابه الخطابة.
الثاني: أن يعتمد على مجرد الصفة من حيث هي لتعلق غرض السياق كقوله تعالى:{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فإن الاعتماد في سياق القول على مجرد الصفة لتعلق غرض القول من المدح أو الذم بها.
كقوله تعالى :{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي حور قاصرات.
وقوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي وجنة دانية.
وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي العبد الشكور.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أي القوم المتقين.
وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي سفينة ذات ألواح.
وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي الأمة القيمة.
وقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا سابغات.
وقوله: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي يا أيها الرجل الساحر.
وقوله: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} أي القوم المؤمنون.
وقوله: {وَعَمِلَ صَالِحاً} أي عملا صالحا.
حذف الصفة.
وأكثر ما يرد للتفخيم والتعظيم في النكرات وكأن التنكير حينئذ علم عليه كقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أي وزنا نافعا.
وقوله: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي من جوع شديد وخوف عظيم.
وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي شيء نافع.
وقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ} أي سلطت عليه.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي جامعا لأكمل كل صفات الرسل.
وقوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي صالحة وقيل إنها قراءة ابن عباس وفيه بحث وهو أنا لا نسلم الإضمار بل هو عام مخصوص.
وقوله: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي كثير بدليل ما قبله ويجيء في العرف.
كقوله تعالى :{الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي المبين.
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي الناس الذين يعادونكم.
وقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الناجين.
وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي قومك المعاندون.
ومنه: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أي من أولى الضرر، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أي من غير أولي الضرر.
قاله ابن مالك وغيره وبهذا التقدير يزل إشكال التكرار من الآية.
وقوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} أي لم أتل عليكم فيه شيئا فحذفت الصفة أو الحال قيل والعمر هنا أربعون سنة.
حذف المعطوف.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}، {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} التقدير أعموا! أمكثوا !! أكفرتم!!.
وقوله: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه بدليل قوله: { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه بدليل قوله لنبيتنه وأهله وما روى أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله وعلى هذا فقولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} كذب في الإخبار وأوهموا قومهم أنهم قتلوه وأهله سرا ولم يشعر بهم أحد وقالوا تلك المقالة يوهمون أنهم صادقون وهم كاذبون.
ويحتمل أن يكون من حذف المعطوف عليه أي ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله وقال بعض المتأخرين أصله ما شهدنا مهلك أهلك بالخطاب ثم عدل عنه إلى الغيبة فلا حذف.
وقد يحذف المعطوف مع حرف العطف مثل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي أمرنا مترفيها فخالفوا الأمر ففسقوا وبهذا التقدير يزول الإشكال من الاية وأنه ليس الفسق مأمورا به. ويحتمل أن يكون {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} صفة للقرية لا جوابا لقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} التقدير وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ويكون إذا على هذا لم يأت لها جوابا ظاهر استغناء بالسياق كما في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
حذف المعطوف عليه.
{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي لو ملكا ولو افتدى به.
ويجوز حذفه مع حرف العطف كقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فعدة.
وقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فانفلق التقدير: فضرب فانفلق فحذف المعطوف عليه وهو ضرب وحرف العطف وهو الفاء المتصلة انفلق فصار:[ فانفلق ] فالفاء الداخلة على انفلق هي الفاء التي كانت متصلة بـ[ضرب] وأما المتصلة بـ[انفلق] فمحذوفة.
كذا زعم ابن عصفور والأبذي قالوا والذي دل على ذلك أن حرف العطف إنما نوى به مشاركة الأول للثاني فإذا حذف أحد اللفظين أعنى لفظ المعطوف أو المعطوف عليه ينبغي ألا يؤتى به ليزول ما أتى به من أجله.
وقال ابن الضائع: ليس هذا من الحذف بل من إقامة المعطوف مقام المعطوف عليه لأنه سببه ويقام السبب كثيرا مقام مسببه وليس ما بعدها معطوفا على الجواب بل صار هو الجواب بدليل: {فَانْبَجَسَتْ} هو جواب الأمر.
حذف المبدل منه.
اختلفوا فيه وخرج عليه قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}.
حذف الموصول .
قوله: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي والذي أنزل إليكم لأن [الذي أنزل إلينا] ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا ولذلك أعيدت [ما] بعد [ما].
في قوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو نظير قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.
وقوله: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
وقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي من له.
وشرط ابن مالك في بعض كتبه لجواب الحذف كونه معطوفا على موصول آخر ويؤيده هذه الآية قال: ولا يحذف موصول حرفي إلا [أن] كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}.
حذف المخصوص في باب نعم إذا علم من سياق الكلام.
كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} التقدير نعم العبد أيوب أو نعم العبد هو لأن القصة في ذكر أيوب فإن قدرت نعم العبد هو لم يكن هو عائدا على العبد بل على أيوب.
وكذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} فسليمان هو المخصوص الممدوح وإنما لم يكرر لأنه تقدم منصوبا.
وكذلك قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي نحن.
وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي الجنة أو دارهم.
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي عقباهم.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي أجرهم.
وقال: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي من ضره أقرب من نفعه وقال تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي إيمانكم بما أنزل عليكم وكفركم بما وراءه.
وقد يحذف الفاعل والمخصوص كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئس البدل إبليس وذريته ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فبها ونعمت " أي نعمت الرخصة.
حذف الضمير المنصوب المتصل.
يقع في أربعة أبواب:.
أحدها: الصلة، كقوله تعالى: {هَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً:}.
الثاني: الصفة، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً،} أي فيه، بدليل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ولذلك يقدر في الجمل المعطوف على الأولى لأن حكمهن حكمها، فالتقدير: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فيه.
ثم اختلفوا فقال الأخفش: حذفت على التدريج أي حذف العطف فاتصل الضمير فحذف وقال سيبويه حذفا معا لأول وهلة.
وقيل: عدى الفعل إلى الضمير أولا اتساعا وهو قول الفارسي.
وجعل الواحدي من هذا قوله تعالى :{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً}، أي منه وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ما للظالمين منه.
وفيه نظر، أما الأولى فلأن [يغني] جملة قد أضيف إليها أسم الزمان وليست صفة.
وقد نصوا على أن عود ضمير إلى المضاف من الجملة التي أضيف إليها الظرف غير جائز حتى قال ابن السراج: فإن قلت أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة لأن الجملة حينئذ صفة ولا يضاف موصوف إلى صفته قال ابن مالك وهذا مما خفي على أكثر النحويين. وأما الثانية فكأنه يريد أن {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} صفة ليوم المضاف إليها الأزمنة وذلك متعذر لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة والظاهر أن الجملة حال منه ثم حذف العائد المجرور [في] كما يحذف من الصفة.
الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وَكُلٌ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال .
تنبيه.
[عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف].
قال ابن الشجري: أقوى هذه الأمور في الحذف الصلة لطول الكلام فيها لأنه اربع كلمات نحو: جاء الذي ضربت وهو الموصول والفعل والفاعل والمفعول ثم الصفة لأن الموصوف قائم بنفسه وإنما أتى بالصفة للتوضيح ثم الخبر لانفصاله عن المبتدأ باعتبار أنه محكوم عليه.
ووجه التفاوت أن الصفة رتبة متوسطة بين الصلة والخبر لأن الموصول وصلته كالكلمة الواحدة ولهذا لا يفصل بينهما والصفة دونها في ذلك ولهذا يكثر حذف الموصوف وإقامة الصفةمقامه والخبر دون ذلك فكان الحذف آكد في الصلة من الصفة لأن هناك شيئين يدلان على الحذف الصفة تستدعي موصوفا والعامل يستدعيه أيضا.
ويستحسن ابن مالك هذا الكلام ولم يتكلم على الحال لرجوعه إلى الصفة.
حذف المفعول.
وهو ضربان:.
أحدهما: أن يكون مقصودا مع الحذف فينوى لدليل ويقدر في كل موضع ما يليق ب، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يريده.
{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي غشاها إياه.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر}.
{لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ}.
{وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وكل هذا على حذف ضمير المفعول وهو مراد حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة ولولا إرادة المفعول وهو الضمير لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول وذلك لا يجوز.
وكان في حكم المنطوق به فالدلالة عليه من وجهين اقتضاء الفعل له واقتضاء الصلة إذا كان العائد.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ} في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء أي ما عملته بدليل قراءة الباقين فـ "ما" في موضع خفض للعطف على [ ثَمَرِهِ ].
ويجوز أن تكون [ما] نافية والمعنى ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم فيكون أبلغ في الامتنان ويقوى ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، وعلى هذا فلا تكون الهاء مراده لأنها غير موصولة.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} وهو فاسد لأن [شرب] يتعدى بنفسه.
والغرض حينئذ بالحذف أمور:.
منها: قصد الاختصار عند قيام القرائن والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}، لظهور أن المراد أرني ذاتك ويحتمل أن يكون هاب المواجهة بذلك ثم براه الشوق ويجوز أن يكون أخر ليأتي به مع الأصرح لئلا يتكرر هذا المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا.
ومنه قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} الظاهر أنه متعد حذف مفعوله أي تأجرني نفسك.
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ.
الرِّعَاءُ} فمن قرأ بكسر الدال من {يُصْدِرَ} فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع والأقرب أنه من الضرب الثاني كما سنبينه فيه إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} أي أنفسكم.
وقوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي فذوقوا العذاب.
وقوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أي ناسا أو فريقا.
وقوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} أي شيئا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي غير السموات.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} على أن الدعاء بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي سموه الله أو سموه الرحمن ايا ما تسموه فله الاسماء الحسنى إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدى لواحد لزم الشرك إن كان مسمى الله غير مسمى الرحمن وعطف الشيء على نفسه إن كان عينه.
ومنها: قصد الاحتقار كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي الكفار.
ومنها: قصد التعميم ولا سيما إذا كان في حيز النفي كقوله تعالى: { وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وكذا {مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وكثيرا ما يعترى الحذف في رءوس الآى نحو: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} و{ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
{أَفَلا تَسْمَعُونَ}.
{أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وكذا كل موضع كان الغرض إثبات المعنى الذي دل عليه الفعل لفاعل غير متعلق بغيره.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي كل أحد لأن الدعوة عامة والهداية خاصة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فكال ووزن يتعديان إلى مفعولين: أحدهما باللام والتقدير: كالوا ووزنوا لهم وحذف المفعول الثاني لقصد التعميم.
وما ذكرناه من كون [هم] منصوبا في الموضع بعد اللام هو الظاهر وقرره ابن الشجري في أماليه، قال: وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن [هم] ضمير مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك خرجوا هم ف هم على هذا التأويل عائد على المطففين.
ويدل على بطلان هذا القول أمران:.
أحدهما: عدم ثبوت الألف في [كالوهم] و[وزنوهم] ولو كان كما قال لأثبتوها في خط المصحف كما أثبتوها في قوله تعالى: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} {قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} ونحوه.
والثاني: أن تقدم ذكر الناس يدل على أن الضمير راجع إليهم فالمعنى: {إِِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون.
وجعل الزمخشري من حذف المفعول قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي في المصر وعند أبي على أن الشهر ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر.
ومنها: تقدم مثله في اللفظ كقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ويثبت ما يشاء.
فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة جاز حذفه لدلالة ما ذكر عليه كقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ}.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي غير السموات.
وقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ، أي ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده.
وقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي أبصرهم، بدليل قوله :{وَأَبْصِرْهُمْ}.
وسبق عن ابن ظفر السر في ذكر المفعول في الأول وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة.
أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم بدر فلما تضمنت التشفي قيل: [أبصرهم].
وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم فلم يكن وقتا للتشفي بل للبروز فقيل له: [أبصر] والمعنى: فسيبصرون منك عليهم.
وقوله: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ}، أي وعدكم ربكم فحذف لدلالة قوله قبله: {وَمَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} قاله الزمخشري.
وقد يقال: أطلق ذلك ليتناول كل ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة لأنهم كانوا يكذبون بذلك أجمع ولأن الموعود كله مما ساءهم وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك ليكون من الضرب الآتي.
وقوله :{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ}.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي ما قلاك فحذف المفعول لأن فواصل الآي على الألف.
ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف قبله أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه فحذف لدلالة {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ}.
ومنها: البيان بعد الإبهام كما في مفعول المشيئة والإرادة، فإنهم لا يكادون يذكرونه كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}.
{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}.
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ}.
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}.
التقدير: لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل.
وشرط ابن النحوية في حذفه دخول أداة الشرط عليه كما سبق من قوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}.
{ولَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}.
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مثيلة الجواب ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطراد حذف مفعولها صرح به الزمخشري في تفسير سورة البقرة وابن الزملكاني في البرهان والتنوخي في الاقصى كقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وإنما حذفه لأن في الآية قبلها ما يدل على أنهم أمروا لكذب وهو بزعمهم إطفاء نور الله فلو ذكر أيضا لكان
كالمتكرر فحذف وفسر بقوله: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وكان في الحذف تنبيه على هذا المعنى الغريب.
وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فإن التقدير كما قاله عبد القاهر الجرجاني: ولو شئنا أن نؤتي كل نفس هداها لآتيناها لا يصح إلا على ذلك لأنه إن لم يقدر هذا المفعول أدى والعياذ بالله إلى أمر عظيم وهو نفي أن يكون لله مشيئة على الإطلاق لأن من شأن [لو] أن يكون الإثبات بعدها نفيا ألا ترى أنك إذا قلت لو جئتني أعطيتك كان المعنى على أنه لم يكن مجىء ولا إعطاء وأما قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فقدره النحويون: فلم نشأ فلم نرفعه.
وقال ابن الخباز: الصواب أن يكون التقدير: [فلم نرفعه فلم نشأ] لأن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم فوجود الملزوم يوجب وجود اللازم فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع ومن نفي الرفع نفي المشيئة وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم ولا وجود اللازم وجود الملزوم. انتهى.
ويؤيده قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فإن المقصود انتفاء وجود الآلهة لانتفاء لازمها وهو الفساد.
ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأول شرطا للثاني لأنهم عدوا [لو] من حروف الشرط وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط وقد يكون الشرط مساويا للمشروط بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط ومن عدمه عدمه. والمقصود في الآية تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس.
وأوضح منه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} جعل انتفاء الملزوم سببا لانتفاء اللازم لأن كذبوا ملزوم عدم الإيمان والتقوى فأخذهم بذلك ملزوم عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم. والفاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} للسببية وجعل التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم ولعل ذلك يختلف باختلاف المواد ووقوع الأفراد مع أن القول ما قاله ابن الخباز وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة وذلك لا يقدح في القضية الكلية ألا ترى أنا نقول: الموجبة الكلية لا تنعكس كلية مع أنها تنعكس كلية في بعض المواضع كقولنا كل إنسان ناطق ولا يعد ذلك مبطلا للقاعدة.
تنبيهان.
التنبيه الأول: متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة؟.
يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور:.
أحدها: ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا فإنه لا يحذف، كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} الآية. أراد رد قول الكفار: [اتخذ الله ولدا] بما يطابقه في اللفظ ليكون أبلغ في الرد لأنه لو حذفه فقال: [لو أراد الله لاصطفى] لم يظهر المعنى المراد لأن الأصطفاء قد لا يكون بمعنى التبني ولو قال: لو أراد الله لاتخذ ولدا لم يكن فيه. ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله.
ومثله صاحب كتاب [القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب.
العزيز] بقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}. وقوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}. و{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفيما ذكره نظر.
قلت: يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا إذ كان كقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً}.
الثاني : إذا احتيج لعود الضمير عليه فإنه يذكر كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ} فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه.
وقد يقال: الضمير لم يرجع عليه وإنما عاد على معمول معموله.
الثالث: أن يكون السامع منكرا لذلك أو كالمنكر فيقصد إلى أثباته عنده فإن لم يكن منكرا فالحذف.
والحاصل أن حذف مفعول [أراد] و[ شاء] لا يذكر إلا لإحد هذه الثلاثة.
التنبيه الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة.
أنكر الشيخ ابو حيان في باب عوامل الجزم من شرح التسهيل هذه القاعدة وقال غلط البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة إلا فيما إذا كان مستغربا وفي القرآن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ولهم أن يقولوا: إن المفعول هاهنا عظيم فلهذا صرح به فلا غلط.
على القوم وأما قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} فإذا جعلت [ماذا] بمعنى [الذي] فمفعول [ أراد ] متقدم عليه وإن جعلت [ذا] وحده بمعنى [الذي] فيكون مفعول [ أراد ] محذوفا وهو ضمير [ذا] ولا يجوز أن يكون [مثلا] مفعول [ أراد ] لأنه أحد معموليه ولكنه حال.
فصل.
وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق منها الصبر، نحو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}.
وقد يذكر نحو: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} قال الزمخشري في تفسير سورة الحجرات: قولهم: صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس.
ومنها: مفعول [رأى] كقوله: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}.
قال الفارسي: الوجه أن يرى هنا للتعدية لمفعولين لأن رؤية الغائب لا تكون إلا علما والمعنى عيه قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} وذكره العلم، قال: والمفعولان محذوفان فكأنه قال: فهو يرى الغائب حاضرا أو حذف كما حذف في قوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، أي تزعمونهم إياهم.
وقال ابن خروف: هو من باب الحذف لدليل لأن المعنى دال على المفعولين أي فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقا وصوابا ولا فائدة في الآية مع الاقتصار لأنه لا يعلم منه المراد وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب.
ومنها: وعد يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت قال تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ}، فـ[جانب] مفعول ثان ولا يكون ظرفا لاختصاصه والتقدير: واعدناكم إتيانه أو مكثا فيه.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فإحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني: وأنها لكم بدل منه والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ}، فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد {وليستخلفنهم} تفسير للوعد ومبين له كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الإِنْثَيَيْنِ} فالجملة الثانية تبيين للوصية لا مفعول ثان.
وأما قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين انتصاب الوعد بالمصدر وبأنه المفعول الثاني على تسمية الموعود به وعدا.
وأما قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فمما تعدى فيه [وعد].
إلى اثنين لأن [الأربعين[ لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه يعني من حيث إنه معدود فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده وليس الوعد واقعا في الأربعين بل ولا في بعضها.
ثم قدر الواحدي وغيره محذوفا مضافا إلى [الأربعين] وجعلوه المفعول الثاني فقالوا التقدير وإذ واعدنا موسى انقضاء اربعين أو تمام أربعين ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال بعضهم: ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون [أربعين] هو نفس المفعول إلى تقدير هذا المحذوف إلا أن يقال نفس الأربعين ليلة لا توعد لأنها واجبة الوقوع وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها ليترتب على الانتهاء شيء.
قلت: وقال أبو البقاء: ليس أربعين ظرفا إذ ليس المعنى وعده في أربعين.
وقال غيره: لا يجوز أن يكون ظرفا لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه ولا في بعضه.
ومنها: اتخذ تتعدى لواحد أو لاثنين، فمن الأول قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}.{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}. {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}. {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}. ومن الثاني: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}.{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى.
قال الواحدي: فأما قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}{اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ}، فالتقدير: في هذا كله اتخذوه إلها فحذف المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لوكان على ظاهره لكان من صاغ عجلا أو نحوه أو عمله بضرب من الأعمال استحق الغضب من الله لقوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}.
وفيما قاله نظر، لأن الواقع أن اولئك عبدوه فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد أن الذين اتخذوا العجل وعبدوه ولهذا جوز الشيخ أثير الدين في هذه الآيات كلها أن تكون اتخذ فيها متعدية إلى واحد قال ويكون ثم جملة محذوفة تدل على المعنى وتقديره: [وعبدتموه إلها] ورجحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدية في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ولو في موضع واحد.
الضرب الثاني:.
ألا يكون المفعول مقصودا أصلا وينزل الفعل المتعدي منزلة القاصر وذلك عند إرادة وقوع نفس الفعل فقط وجعل المحذوف نسيا منسيا كما ينسى الفاعل عند بناء لفعل فلا يذكر المفعول ولا يقدر غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كل فعل متعد لأن الفعل لا يدري تعيينه.
وبهذا يعلم أنه ليس كل ما هو لازم من موضوع الكلام مقدرا فيه كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} لأنه لم يرد الأكل من معين وإنما أراد وقوع هذين الفعلين.
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ويسمى المفعول حينئذ مماتا.
ولما كان التحقيق أنه لا يعد هذا من المحذوف فإنه لا حذف فيه بالكلية ولكن تبعناهم في العبارة نحو فلان يعطى قاصدا أنه يفعل الإعطاء وتوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل نحو هو يعطى ويمنع فإنه أعم تناولا من قولك يعطى الدرهم ويمنعه والغالب أن هذا يستعمل في النفي كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}، والآخر في الإثبات، كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى: { يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} الخ الآية حذف منها المفعول خمس مرات لأنه غير مراد وهو قوله [يسقون] وقوله [تذودان] وقوله: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} مواشيهم [فسقى لهما] غنمهما وقوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} قيل: لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى والمراد
أن الله تعالى له الإحياء والإماتة وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر وأن موسى عليه السلام وجد قوما يعانون السقي وامرأتين تعانيان الذود وأخبرتاه أنا لا نستطيع السقي فوجدا من موسى عليه السلام لهما السقي ووجد من أبيهما مكافأة على السقي وهذا مما حذف لظهور المراد وأن القصد الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقى ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأن موسى سقى بعد ذلك فأما أن المسقى غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود لأنه لو قيل: يذودان غنمهما لجاز أن يكون الإنكار لم يتوجه من موسى على الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان ذود إبل لم ينكره.
واعلم أنا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة للزمخشري فإنه قال ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنمارحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيم إبل وكذلك قولهما: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} المقصود منه السقي لا المسقى.
وجعله السكاكي من الضرب الأول، أعني مما حذف فيه للاختصار مع الإرادة والأقرب قول الزمخشري ورجح الجزري قول السكاكي أنه للاختصار فإن الغنم ليست ساقطة عن الاعتبار بالأصالة فإن فيها ضعفا عن المزاحمة والمرأتان فيهما ضعف فإذا انضم إلى ضعف المسقى ضعف الساقي كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة.
وكقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}.
وإنما ذكر المفعول في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} لأن المراد جنس الزوجين فكأنه قال: يخلق كل ذكر وكل أنثى وكان ذكره هنا أبلغ ليدل على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح.
وليس منه قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} لوجود العوض من المفعول به لفظا او هو المفعول به وهو قوله في ذريتي ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح له على الذرية إشعارا بعنايته بهم.
وقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمركم لأن سياق القول في التهديد والوعيد.
واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء:.
منها: البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق، نحو: أمرته فقام أي بالقيام وعليه قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي أمرناهم بالفسق وهو مجاز عن تمكينهم وإقدارهم.
ومنها: المبالغة بترك التقييد، نحو: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} ونفى الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به لأن المنفي في الأول نفس الفعل وفي الثاني متعلقة.
تنبيه.
قد يلحظ الأمران فيجوز الاعتباران، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أجاز الزمخشري في حذف المفعول منه الوجهين.
وكذلك في قوله في آخر سورة الحج: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ}.
حذف الحال.
كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي قائلين سلام عليكم.
قال ابن أبي الربيع: اعلم أن العرب قد تحذف الحال إذا كانت بالفعل لدلالة مصدر الفعل عليه فتقول قتلته صبرا وأتيته ركضا، قال تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} فدأبا يقدر بالفعل تقديره [تدأبون] في موضع الحال.
قال أبو علي: لا خلاف بين سيبويه وأبي العباس في الحال المحذوف الذي المصدر منصوب به وإنما الخلاف بينهما في القياس فسيبويه يذهب إلى السماع ولا يقيس والأخفش والمبرد يقيسان.
حذف المنادى.
قوله تعالى: {ألا ياسجدوا} على قراءة الكسائي بتخفيف [ألا] على أنها تنبيه و[يا] نداء والتقدير ألا يا هؤلاء اسجدوا لله ويجوز أن يكون [يا] تنبيها ولا منادى هناك وجمع بينهن تأكيدا لأن الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الآمر.
وأما على قراءة الأكثر بالتشديد فعلى أن أن الناصبة للفعل دخلت عليها لا النافية والفعل المضارع بعدها منصوب وحذفت النون علامة النصب فالفعل هنامعرب وفي تلك القراءة مبني فاعرفه.
فائدة.
[في حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم].
كثر في القرآن حذف الياء من المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو يا رب يا قوم وعلل ذلك بأن النداء باب حذف ألا ترى أنه يحذف منه التنوين وبعض الاسم للترخيم وجاء فيه إثباتها ساكنة كقراءة من قرأ {يا عبادي فاتقون} ، ومحركة بالفتح كقراءة من قرأ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، ومنقلبة عن الياء في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى}.
حذف الشرط.
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي إن قلت لهم أقيموا يقيموا.
وجعل منه الزمخشري: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}.
وجعل أبو حيان منه قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون ؟ وجواب [إن كنتم] محذوف دل عليه ما تقدم أي فلم فعلتم وكرر الشرط وجوابه مرتين للتأكيد إلا أنه حذف الشرط من الأول وبقى جوابه وحذف الجواب من الثاني وبقى شرطه انتهى.
وهو حسن إلا أنه قد كان خالف الزمخشري وأنكر قوله بحذف الشرط في: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وفي {فَانْفَجَرَتْ}، وقال: إن الشرط لا يحذف في غير الأجوبة والآن قد رجع إلى موافقته.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، تقديره: إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بمعنى إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم فعدل عن الافتخار بقتلهم فحذف لدلالة الفاعلية.
وقوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} ، تقديره: إن أرادوا أولياء فالله هو الولي بالحق لا وليَّ سواه.
حذف جواب الشرط.
قوله: { إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ
عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، أي أفلستم ظالمين بدليل قوله عقبه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقدره البغوي: من المحق منا ومن المبطل ونقله عن أكثر المفسرين.
ومن حذف جواب الفعل: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ}، تقديره: [فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم]، والفاء العاطفة على الجواب المحذوف هي المسماة عندهم بالفاء الفصيحة.
وقال صاحب المفتاح: وانظر إلى الفاء الفصيحة في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} كيف أفادت ففعلتم فتاب عليكم وقوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، تقديره: فضربوه فحيى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}.
وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ}، تقديره: فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
وقال السكاكي: هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه حتى كأنه قيل نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد تعريضا لاستثارة الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع مثله [قم يدعوك] بدل [قم فإنه يدعوك].
حذف الأجوبة.
ويكثر ذلك في جواب لو، ولولا، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} .
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} ، تقديره: في هذه المواضع [لرأيت عجبا] أو [أمرا عظيما] أو[لرأيت سوء منقلبهم] أو [لرأيت سوء حالهم].
والسر في حذفه في هذه المواضع أنها لما ربطت إحدى الجملتين بالأخرى حتى صارا جملة واحدة أوجب ذلك لها فضلا وطولا فخفف بالحذف خصوصا مع الدلالة على ذلك.
قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم ويجوز حذفه لعلم المخاطب وإنما يحذف لقصد المبالغة لأن السامع مع أقصى تخيله يذهب منه الذهن كل مذهب ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به فلا يكون له ذلك الوقع ومن ثم لا يحسن تقدير الجواب مخصوصا إلا بعد العلم بالسياق كما قدر بعض النحويين في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية، فقال: تقديره: لكان هذا القرآن.
وحكاه أبو عمرو الزاهد في الياقوتة عن ثعلب والمبرد وهو مردود لأن الآية ما سيقت لتفضيل القرآن بل سيقت في معرض ذم الكفار بدليل قوله قبلها: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، وبعدها: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فلو قدر الخبر [لما آمنوا به] لكان أشد.
ونقل الشيخ محيي الدين النووي في كتاب [رءوس المسائل] كون الجواب [كان هذا القرآن] عن الأكثرين. وفيه ما ذكرت.
وقيل: تقديره: لو قضيت أنه لا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت ورأوا ذلك لما آمنوا.
وقيل: جواب [لو] مقدم معناه: يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وهذا قول الفراء.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ، محذوف والتقدير: لنفدت هذه الاشياء وما نفدت كلمات الله. ويحتمل أن يكون [ما نفدت] هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النقاد لازما على تقدير كون ما في الأرض من شجرة أقلاما والبحر مدادا لكان لزومها على تقدير عدمها أولى.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}.