كتاب : شرح العمدة في الفقه
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
انس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي صلاة الظهر في أيام الشتاء و ما يدري أيما ذهب من النهار اكثر أو ما بقي منه رواه احمد و كتب عمر إلى أبي موسى إن صل الظهر حين تزيغ أو تزول الشمس قال الترمذي هو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و من بعدهم
فإن قيل ففي حديث جبريل أنه صلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك و كال عمر يؤخرها حتى يصير الفيء ذراعا و كتب إلى عماله بذلك
قلنا أما حديث جبريل ففي رواية جابر أنه صلى حين زالت الشمس فعلم إن ذلك الفيء هو فيء الزوال لا سيما و الفرض يتبين أول الوقت و أما حديث عمر فلعله امر بذلك في شدة الحر ليقصد الابراد بها أو
في أوقات و أمكنه يكون الفيء فيها قدر ذراع حين الزوال و لا يقال الفيء هو الظل بعد الزوال و ما قبل ذلك إنما يسمى ظلا لا فيئا لأن الشمس إذا زالت فلا بد إن يفيء الظل أدنى الفيء فيسمى الظل كله حينئذ فيئا و لا يصح إن يراد الفيء الزائد على فيء الزوال لأن ذلك لا يتميز و ليس في الحديث ما يدل عليه ثم إن ذلك إنما يصير قريبا من انتصاف الوقت و مثل ذلك لا يكون هو الأفضل في غير الحر بلا تردد
فصل
فأما في شدة الحر فان الأفضل الابراد بها لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم رواه الجماعة و للبخاري عن ابن عمر و أبي سعيد الخدري مثله و عن انس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان الحر ابرد بالصلاة و إذا كان البرد عجل رواه النسائي و البخاري بمعناه و سواء كان المصلي منفردا أو في جماعة
و سواء كان في مسجد الجماعة الذي ينتابه الناس من البعد أو من القرب و سواء كان المصلون مجتمعين أو منفردين هذا الذي دل عليه قول احمد و فعله و هو قول القاضي أخيرا و اكثر أصحابنا لعموم الحديث فانه امر بالابراد أمرا عاما معموما مقصودا و علله بعلة عامة توجد حال الصلاة و حال السعي إليها في الحر فان فيح جهنم يصيب المصلي كما يصيب الذاهب إلى الصلاة مع علمه صلى الله عليه و سلم إن اكثر المساجد إنما يصلي فيها جيرانها فلا يجوز حمل هذا الكلام على المساجد التي ينتابها الناس من البعد خاصة لأن هذه صور قليلة بالنسبة إلى غيرها فحمل العام عليها يكون حملا لها على الأقل دون الأكثر منه غير إن يكون في الكلام ما يدل عليه و ذلك لا يجوز و لأنه على هذا التقدير تكون العلة بأذى الناس بالمشي في الحر و هذه علة تنفس الحر سواء كان من فيح جهنم أو لم يكن فلما قال فان شدة الحر من فيح جهنم و علل بعلة تعلم بالوحي علم أنه قصد معنى يخفى على اكثر الناس و هو كراهة إيقاع الصلاة حال تسعير
النار كما كره إيقاعها وقت مقارنة الشيطان لها و كره الصلاة وقت الغضب من الله كما كره الصلاة في مكان الغصب لأن القلوب لا تقبل على العبادة وقت تلك الساعة كل الإقبال و لا ينزل من الرحمة ما ينزل في غير ذلك الوقت
و أيضا ما روى أبو ذر رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فأراد المؤذن إن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه و سلم ابرد ثم أراد إن يؤذن فقال له ابرد حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة متفق عليه فهذا ابراد مع اجتماع المصلين و هو نص في المسألة و لأن سبب الإبراد إنما هو في شدة الحر من فيح جهنم و تنفسها و هذا كما أنه يؤذي الناس في حال بروزهم إلى المسجد فكذلك في حال صلاتهم بل أولى كما تقدم و كما أنه يؤذي من يصلي في الجماعة فإنه يؤذي المصلي وحده
و قال القاضي في المجرد و أبو الحسن الامدي و طائفة من أصحابنا إنما يستحب الابراد لمن يصلي في مساجد الجامعات سواء كان المسجد ينتابه البعيد منه أم لا لأن الخروج إلى المسجد في الجملة مظنة المشقة في وقت القائلة فاستحب التأخير لتكثير الجماعة بخلاف المصلي وحده أو في بيته أو في القوم المجتمعين
و الأول هو الصحيح لما تقدم
و إنما يستحب الابراد في البلاد التي لها حر في الجملة سواء كان شديدا أو قليلا كبلاد الحجاز و العراق و الشام و اليمن و مصر
فأما البلاد الباردة التي لا حر فيها و إنما حرها في منزلة الربيع في غيرها مثل البلاد الشمالية و بلاد خراسان فانه لا يستحب الابراد فيها هكذا ذكره القاضي و غيره من أصحابنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة و قال فان شدة الحر من فيح جهنم
و هناك لا يشتد الحر و لا يتنفس بالبرد فيظهر هناك زمهريرها كما قال النبي صلى الله عليه و سلم إن النار اشتكت إلى ربها و قالت أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم متفق عليه و قد حكى بعض أصحابنا وجها أنه لا فرق بين البلاد الحارة و الباردة
و وجها بأن ذلك مخصوص بالبلاد التي يشتد فيها الحر
و الذي قدمناه أصوب فان الحر و البرد لا بد من وجودهما في جميع الأرض المعمورة و لولا وجودهما لما عاش الحيوان و لا نبت الشجر و لا بد أيضا إن يكون الحر في القيظ أشد منه في فصل الصيف و الربيع الذين
يسميان الربيع والخريف في كل ارض بحسبها لكن إذا كان في شدة الحر في بعض البلاد بحيث لا تكره الشمس و لا يؤذى الجالس في الصبح فليس هذا بحر شديد فلا يستحب الابراد في مثل هذه البلاد البتة و إذا كان الحر يؤذي فيها فقد اشتد الحر و إن لم يكن في ارض الحجاز
و ينبغي إن يقصد في الابراد بحيث يكون بين الفراغ منها و بين آخر الوقت فصل لأن المقصود من الابراد يحصل بذلك و لهذا فان في حديث أبي ذر حتى رأينا فيء التلول و قال عبد الله بن مسعود كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام رواه أبو داود و لأن الإبراد الشديد يخاف معه إن يفعل بعض الصلاة بعد خروج الوقت
و أم الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصليها في أول الوقت شتاء و صيفا و لم يؤخرها هو و لا أحد من أصحابه بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال و ذاك لأن الناس يجتمعون لها إذ السنة التبكير إليها ففي تأخيرها إضرار بهم و قد روي إن جهنم
تسجر كل يوم ألا الجمعة فالسبب الذي من اجله سن الابراد يكون مفقودا يوم الجمعة
و هل يستحب تأخير الظهر في غير شدة الحر على روايتين
إحداهما لا يستحب التأخير ألا في الحر و الأفضل التعجيل إذا تيقنا دخول الوقت قال أبو عبد الله في رواية كثير من أصحابه أنا اختار فيها كلها التعجيل ألا الظهر في الصيف و عشاء الآخرة أبدا و هذا اختيار الخرقي و هو الذي ذكره الشيخ و ذلك لأن الصلاة في أول الوقت افضل كما تقدم و إنما خولف في شدة الحر لمعنى يختصه فيبقى فيما سوى ذلك على استحباب التعجيل و لأن ما تقدم من تعجيل النبي صلى الله عليه و سلم صلاة الظهر مطلقا و تعجيله إياها في الشتاء من غير تفريق بين حالي الغيم و الصحو دليل على انهم لم يفهموا من حاله رعاية ذلك مع إن الشتاء مظنة الغيوم
و الرواية الثانية يؤخرها في الغيم أيضا و هذه أصرح عنه قال رضي الله عنه يؤخر الظهر في يوم الغيم و يعجل العصر و يؤخر المغرب و يعجل العشاء و قال أيضا في يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت و يعجل العصر و المغرب يؤخرها حتى يعلم انه سواد الليل و يعجل
العشاء و هذا اختيار اكثر أصحابنا لما روى سعيد في سننه عن إبراهيم النخعي قال كانوا يؤخرون الظهر و يعجلون العصر و يؤخرون المغرب في اليوم المغيم
و هذا إخبار عن أهل الكوفة من أصحاب علي و عبد الله و من بين ظهرانيهم من الصحابة و من علم حالهم علم انهم لم يكونوا يتحرون ذلك ألا تلقيا له عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن الصلاة تتكرر في كل وقت فأمر الوقت بها لا بد إن يتقدم فيه سنة و اثر و لا يجوز إن يتحروا مخالفة ما ظهر من السنة و قال ابن المنذر روينا عن عمر أنه قال إذا كان يوم غيم فعجلوا العصر و أخروا الظهر ولأن الغيم مظنة المطر و غيره من الموانع للخروج فإذا آخر الظهر و عجل العصر و أخر المغرب و عجل العشاء اكتفى لهما بخروج واحد للمشقة و لهذا قال القاضي لا يستحب التأخير لمن يصلي في بيته و قال غيره بل يستحب على ظاهر كلامه و علل بعض
أصحابنا هذه المسألة بأن الغيم في الجملة مظنة اشتباه الوقت فأخرنا الظهر و المغرب لنتيقن دخول الوقت فانهما لا يفعلان قبل وقتهما بحال و فعلهما بعد خروج الوقت جائز للعذر و هذا عذر في الجملة بخلاف العصر و العشاء فانهما يصليان قبل وقتهما في حال العذر و هذا عذر في الجملة و لا يصليان بعد وقتهما بحال و أما الفجر فلما لم يجز بحال تقديمها و لا تأخيرها استوى في حال الإشتباه الأمران و لذلك استحببنا إن نجعل الثانية من صلاتي الجمع مع تأخير الأولى ليبقى بمنزلة الجامع بين الصلاتين و أيضا فلما كانت الظهر و المغرب يحذر فعلهما قبل الوقت بكل حال و لا يحذر التأخير في جميع الأوقات و العصر و العشاء بعكس ذلك فيهما كان ما بعد عن المحذور أولى بالمراعاة و كلام احمد يدل على هذا التعليل لأنه قال في يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت و يعجل العصر و المغرب يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل و يعجل العشاء و قد جاءت الأحاديث باستحباب تعجيل العصر مع الغيم خشية الفوات كما سيأتي إن شاء الله تعالى و هذا يدل على إن الذي يحذر من تفويت العصر في الغيم لا يخاف مثله في الظهر وعلى أن مثل هذه الحال بخلاف الظهر
و على هذا فلا فرق بين المصلي وحده أو في جماعة مجتمعين أو مفترقين و على هذا المنصوص فانه يستحب تأخير المغرب و تعجيل العشاء
مع الغيم أيضا لما تقدم من الأثر و المعنى و على الرواية الأول لا يستحب
و فرق جماعة من أصحابنا فاستحبوا تأخير الظهر مع الغيم و لم يستحبوا تأخير المغرب إذا علم دخول وقتها أو غلب على الظن لأن السنة التبكير فيها و لأن وقت العشاء قريب منها فلا يشق انتظارها و لأن الخروج بعد الغروب قد يشق و لأن العشاء السنة التأخير فيها
و الصحيح المنصوص لما تقدم و قد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يؤخر المغرب و يعجل العشاء في مواضع تذكر إن شاء الله في باب الجمع و لا تعريج مع السنة على رأي احد و العشاء و إن كانت السنة فيها التأخير لكن إذا أخرت المغرب فانه ينبغي إن لا يؤخر العشاء بل يقارب بينهما كما في حال الجمع
فصل
و أما العصر فالسنة تعجيلها بكل حال في المعروف من نصوصه في
عامة جواباته و هو مذهبه الذي لا خلاف فيه بين أصحابه و قد روي عنه صالح آخر وقت العصر ما لم تغير الشمس و قال يؤخر الصلاة احب إلى آخر الوقت العصر عندي ما لم تصفر الشمس فجعل القاضي و ابنه هذه رواية ثانية بتصريحه بان آخر الوقت احب إليه و الاشبه و الله اعلم أنه إنما قصد إن القول بجواز تأخير العصر احب إلى من قول من لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار فان استحباب تأخير العصر بعيد جدا من مذهبه و له مثل هذا الكلام كثيرا ما يقول هذا احب إلى و ليس غرضه الفعل و إنما غرضه حكم الفعل
و الأصل في ذلك ما تقدم من الأمر الكلي و أيضا ما روى انس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي العصر و الشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها و الشمس مرتفعة أخرجوه
و في رواية و بعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه رواه احمد و البخاري و عن انس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم العصر فأتاه
207 - رجل من بني سلمة فقال أنا نريد إن ننحر جوزوا لنا و أنا نحب إن تحضرها قال نعم فانطلق و انطلقا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل إن تغيب الشمس رواه مسلم و الدارقطني و زاد كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العصر فيسير الراكب ستة أميال قبل إن تغيب الشمس و عن رافع بن خديج قال كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ننحر الجزور فيقسم عشر قسم ثم يطبخ فنأكل لحما نضيجا قبل مغيب الشمس متفق عليه و عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يصلي العصر و الشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس رواه الدارقطني و عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي العصر و الشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفيء بعد متفق عليه و قال البخاري و قال أبو أسامة من قعر حجرتها و لو كان يؤخرها لكانت الشمس قد مالت حتى خرجت من الحجرة و ظهر فيها الفيء لأنها ليست كبيرة
و لأن الله سبحانه امر بالمحافظة عليها خصوصا و كذلك امر رسوله بذلك و كمال المحافظة إن يصلي في أول الوقت و لا يعرض للفوات و دخول وقت الكراهة و كذلك وكد التبكير بها مع الغيم كما قد نص عليه احمد فروى عن بريدة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فقال بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فان من فاتته صلاة العصر حبط عمله رواه أحمد و ابن ماجة و روى أحمد والبخاري والنسائي من حديث أبي المليح بن أسامة قال كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال بكروا بصلاة العصر فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من ترك صلاة العصر حبط عمله
فإن قيل فقد قال تعالى و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب و إنما يقال قبل الغروب لما كان قريبا منه و في تأخيرها توسعة لوقت النفل
قلنا الصلاة المفعولة في أول الوقت هي قبل الطلوع و هي مرادة من الآية بالسنة الصحيحة و بالإجماع كصلاة الفجر المؤداة في أول وقتها هي
قبل الطلوع و قربها من غروب الشمس ليس فيه فضيلة لوجهين
أحدهما إن تأخيرها إلى حين الاصفرار لا يجوز مع أنه اقرب إلى غروبها
الثاني إن الأمر بالتسبيح قبل الغروب و كلما بعد عن الغروب كان أتم تقديما على الغروب و اقرب إلى تحقيق القبلية
و أما اتساع وقت النفل فيعارضه خشية التفويت و ما فيه من المخاطرة بالفرض
ثم ما حصل له بالصلاة في أول الوقت احب إليه من جميع النوافل فإن حدود الفرائض المسنونة و تكميل أدائها أولى بالرعاية من أصل النوافل و لهذا كان إدراك تكبيرة الإفتتاح مع الإمام أولى من الاشتغال عنها بالسنن الرواتب
و في تعجيلها اتساع وقت ذكر الله المشروع آخر النهار ثم إنا لا نسلم إن توسيع وقت النافلة مقصود بل إذا كان مقصود الشارع في ترك النافلة بعد العصر كان مقصودا مع سعة وقت الترك و كان ذلك احب إلى الله تعالى
فصل
و أما المغرب فالسنة فيها التعجيل و هذا مما أجمعت عليه الأمة و قد روى سلمة بن الاكوع إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس و توارت بالحجاب رواه الجماعة ألا النسائي و عن رافع بن خديج قال كنا نصلي المغرب مع النبي ص - فينصرف أحدنا و أنه ليبصر مواقع نبله متفق عليه و قد تقدم القول في كراهة المداومة على تأخيرها و روي إن عمر بن عبد العزيز آخر المغرب ليلة حتى رأى نجمين فأعتق رقبتين
فأما ليلة الغيم فقد تقدم إن نص الروايتين عنه و أصحهما عند اكثر أصحابنا استحباب تأخيرها كما تقدم في تأخير الظهر
فأما تأخيرها في غير ذلك فلا يستحب مطلقا و استثنى أبو الخطاب وطائفة معه تأخيرها ليلة جمع للمحرم فان السنة إن يؤخر المغرب حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة في المناسك عند بعض أهل العلم حتى لم يجوزوا إن يصلي بغير المزدلفة لكن هذا في الحقيقة تأخير الصلاة عن وقتها و نحن إنمانتكلم في تأخيرها إلى آخر الوقت فأما التأخير عن الوقت فهو الجمع بين الصلاتين و في استحبابه حيث يجوز خلاف و تفصيل يذكر
في موضعه إن شاء الله تعالى و لمن استثناها إن يقول المستحب إن يؤخر ليصلي بمزدلفة سواء جمع بينها و بين العشاء أو لم يجمع حتى لو فرضنا أنه سار سير البريد حتى وافى جمعا قبل مغيب الشفق فان السنة إن يؤخر المغرب ليصليها فيها و لو كان قبل مغيب الشفق و لمن لم يستثنها إن يقول هذه الصورة نادرة و الحكم مبني على الغالب و بالجملة فلا خلاف في المعنى و كلهم قد ذكروها في المناسك
فصل
و أما العشاء فان الأفضل تأخيرها من غير خلاف في المذهب ألا إن يشق التأخير على المصلين ألا ليلة الغيم إذا أخرت المغرب كما تقدم و ذلك لما روى ابن عباس قال اعتم النبي صلى الله عليه و سلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس و استيقظوا و رقدوا و استيقظوا فقام عمر فقال الصلاة فخرج نبي الله صلى الله عليه و سلم و قال لولا إن أشق على أمتي لأمرتهم إن يصلوها هكذا متفق عليه و قال أبو برزة كان يستحب إن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة
متفق عليه و في لفظ كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل رواه احمد و مسلم و قال جابر بن سمرة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤخر العشاء الآخرة رواه احمد و مسلم و النسائي و عن ابن عمر قال مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه و سلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فقال حين خرج أنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم و لولا إن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم امر المؤذن فأقام الصلاة و صلى رواه احمد و مسلم و أبو داود و النسائي
و عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا إن اشق على أمتي لأمرتهم إن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه رواه احمد و ابن ماجة و الترمذي و قال حديث حسن صحيح و لأن في تأخيرها فوائد علمنا منها
إن تصلى في جوف الليل و يقرب من آخره و هو الوقت الذي ينزل الله فيه إلى سماء الدنيا فيقول من يدعوني فاستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فاغفر له و قد روى عبد الله بن مسعود قال آخر رسول الله
صلى الله عليه و سلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال أما أنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم فأنزلت هذه الآية ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة حتى بلغ و الله عليم بالمتقين رواه احمد و الترمذي و لذلك استحب تأخير الوتر إلى آخره قال سبحانه أقم الصلاة و معلوم أنه إذا اشتدت الظلمة و بعد عن النهار كان هذا المعنى ابلغ و إنما لم يشرع و الله اعلم تأخيرها إلى النصف الثاني لأنه مضاف إلى اليوم الذي يليه فالتأخير إليه تأخير لما يقرب منه النهار و لأن فيه تغريرا بها إذ كانت السنة إن يصلي قبل النوم لئلا يستمر النوم إلى الفجر ولان الجمع بين استحباب تأخيرها إلى النصف الثاني و بين كراهة النوم قبلها متعذر فانه يقتضي سهر اكثر الليل و ذلك مفض إلى غلبة النعاس و تفويت مقصود الصلاة
و منها أنه إذا انتظرها فان العبد في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه و إلى هذا أشار صلى الله عليه و سلم بقوله أنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم فان أهل الكتاب ليست لهم صلاة في جوف الليل و إنما يصلون قبل طلوع الشمس و بعد زوالها و بعد غروبها و هذا المعنى لا يحتاج إليه في غيرها فانه يقدر إن يصليها في أول الوقت و يجلس ينتظر التي
بعدها فان انتظار الصلاة قبل وقتها لا سيما بعد صلاة أخرى يستحب بخلاف العشاء فانه لا صلاة بعدها تنتظر
و منها أنه إذا آخرها ختم عمله بالصلاة و نام عليها و لم يتحدث بعدها فختم عمله بخير و أمن من كراهة السمر بعدها
و منها إن الأصوات تكون قد هدأت و العيون قد رقدت و ذلك اقرب إلى نزول السكينة و اجتماع الهم على الصلاة و الخشوع فيها و بعدها عن الشواغل و ما يلهي المصلي
و منها إن يبعد العهد بأعمال النهار و حركاته و الأفكار و الوساوس الحاصلة بسبب ذلك
و يستحب تأخيرها بكل حال في إحدى الروايتين على ظاهر الحديث المتقدم عن أبي برزة و جابر بن سمرة و لأن قوله في حديث ابن عباس و أبي هريرة لولا إن اشق على أمتي لأمرتهم إن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه إنما نفي به امر الإيجاب فان السنة إنما تحصل بالإيجاب دون الاستحباب و هو يقتضي قوة استحباب التأخير إذ كان المقتضي للوجوب قائما لولا وجود المانع و سواء شق عليهم التأخير أو لم يشق فان ذلك لا يمنع الاستحباب كما في قوله عليه السلام لولا إن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة و قوله لولا إن اشق على
أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة
و الرواية الثانية إن المستحب التأخير الذي لا يشق على المأمومين غالبا فان آخرها تأخيرا يشق عليهم غالبا كره لما روى زيد بن خالد الجهني إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لولا إن اشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل رواه احمد و الترمذي و قال حديث حسن صحيح و كذلك في حديث ابن عمر لولا إن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة و قوله في حديث أبي سعيد لولا سقم السقيم و ضعف الضعيف و حاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل و قد تقدم و كذلك قوله في حديث عائشة أنه لوقتها لولا إن اشق على أمتي فان هذه الأحاديث تدل على إن وجوه المشقة على المأمومين يمنع استحباب التأخير و شرعه و على هذا بنيت قاعدة الصلاة فان الإمام يكره إن يطول على المأمومين تطويلا يفتنهم به و إن كان التطويل عبادة محضة فالتأخير الذي يفتنهم و تفوتهم الصلاة جماعة أو
توجب إن يصلوها مكثرهين متضجرين أولى إن يكره و ما في التأخير من الفضيلة إنما يقصد لو لم يفت ما هو افضل منه و إن افضل منه لكثرة الجماعة و تحصيل الجماعة للمصلين و نشاط القلوب للصلاة و تحبيب الله إلى عباده و لأن المشقة قسمان
أحدهما في خاصة الإنسان فله إن يحتمل هو المشقة لتحصل فضيلة التأخير و هذه المشقة هي المانعة من الإيجاب
و الثاني يتعدى إلى المأمومين و ليس للإمام إن يحمل الناس مشقة لم تجب عليهم و هذه هي المانعة من استحباب التأخير قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كان نبي الله صلى الله عليه و سلم يصلي الظهر بالهاجرة و العصر و الشمس نقية و المغرب إذا وجبت و العشاء أحيانا و أحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل و إذا رآهم قد ابطئوا آخر و الصبح كان يصليها بغلس متفق عليه و روى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا معاذ بن جبل قال لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال اظهر كبير الإسلام و صغيره و ليكن من أكثرها الصلاة فإنها رأس الأمر بعد الإقرار بالدين إذا كان الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر ثم اطل القراءة على قدر ما يطيق الناس و لا تملهم و تكره إليهم
امر الله ثم عجل الصلاة الأولى قبل إن تميل الشمس و صل العصر و المغرب في فصل الشتاء على ميقات واحد العصر و الشمس بيضاء مرتفعة و المغرب حين تغيب الشمس و توارى بالحجاب و صل العشاء فأعتم بها فان الليل طويل فإذا كان الصيف فأسفر بالصبح فان الليل قصير و إن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها و صل الظهر بعد إن ينقضي الظل و تحرك الرياح فان الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركوها و صل العتمة فلا تعتم بها و لا تصلها حتى يغيب الشفق
و يستحب التأخير إلى نصف الليل إذا قلنا يمتد الوقت إليه على إحدى الروايتين لأن في حديث أبي سعيد لأخرت العشاء إلى نصف الليل و قيل إنما يستحب إلى الثلث على الروايتين لأن ما بعد ذلك مختلف في كونه وقتا فلم يستحب التأخير إليه و إن قلنا أنه وقت خروجا من الخلاف
فصل و أما الفجر فإن التغليس بها افضل قال الإمام احمد التغليس في الفجر مذهبي و كان يأمر و يصلي بأصحابه بغلس إن لم يكن في التغليس مشقة على المأمومين ثم إن كان المأمومون يغلسون أو أمكن إن يعودوا التغليس من غير مشقة أو كان الوقت لا يشق فيه التغليس عليهم و لا على غيرهم أو ليس هناك جماعة تنتظر كالقوم المجتمعين و كالصلاة في المساجد المبنية على الطرقات التي ليست لها جماعة راتبة و نحو ذلك فلا يختلف المذهب أنه هو الأفضل لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من التغليس رواه الجماعة و للبخاري قال كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنات لا يعرفن من الغلس و لا يعرف بعضهن
بعضا و قد تقدم قول جابر كان يصلي الفجر بغلس و قول أبي برزة كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه و يقرأ فيها بالستين إلى المائة و قال سهل بن سعد كنت أتسحر مع أهلي ثم يكون بي سرعة إن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه البخاري و قال زيد بن ثابت تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم قدر ما بينهما قال قدر خمسين آية رواه الجماعة ألا أبا داود
و عن أبي مسعود الأنصاري إن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى إن يسفر رواه أبو داود و لأن التغليس بها عمل الخلفاء الراشدين و غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جاء ذلك عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي و ابن
مسعود و أبي موسى و ابن عمر و ابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين و ما نقل عن بعضهم من الأسفار فلعله كان لعارض و لأن التغليس صلاة في أول الوقت فهو افضل كما تقدم و فيه من الفوائد ما ذكرناه في تأخير العشاء و غير ذلك من قربها من صلا ة الليل و بعدها عن حركات النهار و انتشار الأصوات و افتتاح يومه بأداء الفرض إلى انتظار الصلاة فانه يخلفه هنا جلوس المصلي في مصلاه حتى تطلع الشمس و لأن ذلك ادعى إلى الاستيقاظ و اتساع ذكر الله المشروع أول النهار و لأن الجهر بقراءتها يلحقها في صلوات الليل فكلما كانت الظلمة أشد كان وقتها إلى الليل اقرب و إن كانت من صلوات النهار كما نص عليه الإمام احمد
و لأن إطالة القراءة فيها من السنن المؤكدة و هذا إنما يتم بالتغليس و لعل الذين اسفروا بها من الصحابة إنما اسفروا بالخروج منها لإطالة القراءة فقد روى حرب و الخلال و غيرهما إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى صلاة الفجر فقرأ سورة البقرة فقالوا كادت الشمس تطلع فقال لو
طلعت لم تجدنا غافلين و في رواية سورة آل عمران و كذلك روى السائب بن يزيد قال صليت خلف عمر الصبح فلما انصرفوا استشرفوا الشمس فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين
فان قيل فقد روى رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اسفروا بالفجر فإنه اعظم للأجر رواه الخمسة و قال الترمذي حديث حسن صحيح و قال عبد الله بن مسعود ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب و العشاء بجمع و صلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها رواه الجماعة و في رواية لمسلم بغلس و هذا يقتضي إن عادته كانت الأسفار في غير هذا الموضع إذ المراد به قبل وقتها الذي كانت عادته إن يصليها فيه فانه لم يصلها يومئذ حتى برق الفجر كما في حديث جابر و هي قبل ذلك لا تجوز إجماعا
قلنا قال الإمام احمد الأسفار عندي إن يتيقن الفجر و لم ير الأسفار التنوير يقال للمرأة أسفرت عن وجهها
و قال أيضا أسفار الفجر طلوعه و هذا لأنه يقال أسفر الفجر أضاء و أسفر وجهه حسنا أي اشرق و سفرت المرأة كشفت عن وجهها و سافر الوجه ما يظهر و منه السفر و السفر و السفير فهذه المادة حيث تصرفت فإنما معناها البيان و الظهور ومعلوم أنه إذا طلع الفجر فقد حصل البيان والظهور من الخيط الأسود من الفجر و يقال أبين من فلق الصبح و من فرق الصبح و معنى الحديث على هذا تأخيرها حتى يتيقن الفجر بحيث لا يكون فيه شك لأحد وإن جاز فعلها أول ما يبزغ به بحيث قد يحصل معه شك لبعض الناس لا سيما من يقول أنه يجوز فعلها إذا غلب على الظن دخول الوقت و إنما ذكر هذا في الفجر لأن طلوع الفجر مظنة الاشتباه لا سيما إذا اشتبه ضوءه بضوء القمر في ليالي القمر و كثيرا ما قد يصلي الفجر ثم تبين لهم إن الفجر لم يطلع و قد وقع ذلك لعدد من الصحابة و غيرهم بخلاف زوال الشمس و غروبها و لهذا و الله اعلم مد الله الأكل بالليل إلى إن يتبين الفجر و قال ثم أتموا الصيام إلى الليل فجعل
وقت الفجر منوطا بتبينه و ظهوره و هو الأسفار الذي اقر النبي صلى الله عليه و سلم به على هذا التفسير و لم يقل ثم أتموا الصيام حتى يتبين لكم الليل لان دخول الليل لا شبهة فيه فإذا أخرت حتى يظهر ضوء الفجر و يتبين كان ابعد عن الشبهة و لعله بهذا أيضا إن يتسحر الناس حتى يتبين لهم الفجر و أن لا يكفوا عن الطعام إذا اشتبه عليهم الحال
و قد جاء ذلك مأثورا عن الصحابة في قضايا متعددة فكان المؤذن و المصلي إذا لم يتبين طلوع الفجر أعاد الناس ذلك
و قد قيل إن أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلوات احتمل انهم كانوا يصلونها ما بين الفجر الأول و الثاني طلبا للأجر في تعجيلها و رغبة في الثواب فقيل لهم صلوها بعد الفجر الثاني فانه اعظم للأجر و إن كانت لا تجوز قبل الوقت لكن لما لم يصفوا الفجر و نوره فان الله يأجرهم على صلاتهم لكن الأجر الذي يسقط من الفرض اعظم و كثيرا ما يفعل الواجب على المحرم كقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة الآية وقوله : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم إلى قوله أزكى لهم و اطهر و قوله فردوه إلى الله و الرسول ذلك خير و احسن تأويلا و هذا كثير و كذلك حديث ابن مسعود فان عادته صلى الله عليه و سلم كانت تأخير
الصلاة عن طلوع الفجر قليلا بحيث يتمكن الناس من الطهارة و السعي إلى المسجد و نحو ذلك و هذا القدر لا يخل بالتقديم المستحب عندنا فإذا كان يوم مزدلفة صلاها حين برق الفجر
و قد قيل اسفروا بالفجر أراد به إطالة القراءة فيها حتى يسفر الفجر فان إطالتها اعظم للأجر فانه يستحب من إطالة القراءة فيها ما لا يستحب في سائر الصلوات فيكون الأسفار بفعلها و الخروج منها لا بنفس الابتداء فيها كما كان الخلفاء الراشدون يفعلون
و يحتمل إن يكون ذلك خطابا لمن يتأخر من المأمومين عندهم كزمان الصيف كما جاء مفسرا في حديث معاذ بن جبل
فصل
و التغليس افضل من الأسفار مطلقا في إحدى الروايتين عنه لما تقدم و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يغلس بها دائما مع أنه كان يراعي حال المأمومين في العشاء فدل على افتراقهماو الرواية الثانية التغليس افضل ألا إن يشق على المأمومين و يكون
الأسفار ارفق بهم فانه يسفر بحيث يجتمعون فقط و هذا أبين عنه و اصح عند اكثر أصحابه لما تقدم من وصية النبي صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إذا كان الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر ثم اطل القراءة على قدر ما يطيق الناس و لا تملهم و تكره إليهم امر الله و إذا كان الصيف فأسفر بالصبح فان الليل قصير و إن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها و قال الإمام احمد كان عمر إذا اجتمع الناس عجل و إذا لم يجتمعوا آخر و قد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو ذلك فروى احمد في المسند عن أبي الربيع قال قلت لابن عمر إني صليت معك ثم التفت فلا أرى وجه جليسي ثم أحيانا تسفر قال كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي و احب إن اصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصليها و لعل قوله اسفروا بالفجر فانه اعظم للأجر عنى به هذا و لأنه قد صح عنه في العشاء انهم كانوا إذا اجتمعوا عجل و إذا ابطؤا آخر فعلم أنه كان يراعي حالهم و أنه إنما كان يغلس بها لأن أصحابه كانوا يغسلون و لا يشق عليهم التغليس
ولان استحباب تأخير العشاء أكد من تأخير الفجر فانه لم تختلف الأحاديث فيه ولا اختلف الناس فيه ألا اختلافا شاذا ومع ذلك استحببنا تقديمها إذا شق على المأمومين فكذلك الفجر لكن مشقة التأخير في العشاء اكثر من مشقة التغليس بالفجر ألا إن هذا لا يمنع رعاية المشقة عند حصولها ولان التغليس بالفجر مع أسفار الجيران يفوت فضيلتين
إحداهما كثرة الجمع وهي المطلوبة لما روي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه و سلم قال صلات الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو احب إلى الله رواه احمد وأبو داود
والثانية تحصيل الجماعة للمصلي فان النبي صلى الله عليه و سلم سماها صدقة فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ولان في ذلك تفويتا للجماعة عليهم والنبي صلى الله عليه و سلم قد امر الإمام بالتخفيف خشية التنفير وان
كان طول القنوت مستحبا في نفسه ولذلك كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي لما يعلم من وجل أمه به وكان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم ولأنه يستحب انتظار الداخل في الركوع كل ذلك رعاية لحال المأمومين ولان التأخير إذا كان لمصلحة راجحة مثل الصلاة بوضوء والصلاة جماعة أو إن يكون امتثالا لأمر أبيه أو سيده أو شبه ذلك كان افضل من التقديم وهي هنا كذلك لما تقدم
فان قيل فما الفرق بين الفجر والعشاء وسائر الصلوات
قلنا الفجر والعشاء يكون النوم في بعض أوقاتهما فيشق فعلهما في وقت النوم وأما غيرهما من الصلوات فان جميع أوقاتها سواء فكان التقديم متعينا بل ربما كان في الصلاة آخر الوقت أو وسطه مشقة عليهم حتى لا ينضبط فأما هنا فان الأسفار وقت منضبط حتى لو كان جماعة في مكان قد تهيا بعضهم لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب وبعضهم لم يتهيأ استحببنا التأخير بحيث يتهيأ الجميع طردا للقاعدة
وبين الفجر والعشاء فرق وهو العشاء المستحب فيها التأخير وإنما تقدم إذا شق على المصلين تأخيرها والغالب حصول المشقة بذلك والفجر المستحب فيها التقديم و إنما يؤخر إذا شق على المأمومين تقديمها و ليس الغالب حصول المشقة بذلك و فرق بين الاستحباب
الناشىء من نفس الوقت و الاستحباب الناشىء من مصلحة المصلين و الله اعلم
فصل
تجب الصلاة بأول الوقت إذا كان من أهل الوجوب حينئذ و يستقر الوجوب بذلك في الذمة عند اكثر أصحابنا و هو المنصوص عنه و قال ابن بطة و ابن أبي موسى لا يستقر الوجوب حتى يمكنه الأداء و هو قياس إحدى الروايتين في الزكاة و الحج و الصوم و صورة ذلك إن تزول الشمس على امرأة طاهر فتحيض أو على عاقل فيجن وإن كان بعد التمكن من فعل الصلاة وجب القضاء قولا واحدا وكذلك إن كان قبل التمكن من القضاء على المشهور
و على القول الآخر لا يجب لأن هذا لم يقدر على الصلاة و لا يكلف الله نفسا ألا وسعها
و وجه الأول إن دخول الوقت سبب للوجوب فوجب إن يتعلق به و يستقر كسائر الأسباب و التمكن إنما تعتبر في لزوم الأداء لا في نفس الوجوب في الذمة بدليل ما لو دخل الوقت على نائم و لم يستيقظ حتى خرج الوقت الوقت فانه يجب عليه القضاء و إن لم يمكنه الأداء في الوقت
ثم القضاء إنما يجب إذا أمكن و إذا لم يمكن فلا شيء عليه و قد روى حرب بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال للنساء لا تنمن عن العتمة مخافة إن تحضن
فأما المسلم إذا ارتد بعد دخول الوقت فمن أصحابنا من يلحقه بالعاقل إذا جن و منهم من لا يلحقه به
و حقيقة المذهب أنا إن قلنا لا يجب عليه القضاء ما تركه قبل الردة فلا قضاء عليه بحال و إن أوجبنا عليه قضاء ما تركه في الردة و قبلها فليس من هؤلاء و إن قلنا بالمشهور أنه يقضي ما تركه قبل دون ما تركه فيها و كانت الردة بعد التمكن من الفعل لزمه القضاء لاستقرار الوجوب في الذمة و إن كانت قبل التمكن فكذلك أيضا على المشهور ففي ظاهر المذهب يجب القضاء على المرتد بكل حال
و تجب الصلاة أيضا بادراك آخر جزء من الوقت فإذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء في آخر جزء من وقت صلاة ولو أنه بقدر تكبيرة فعليهما فعلها أداء إن أمكن و ألا فقضاء من غير خلاف في المذهب
لأنهما أدركا بعض الوقت على وجه يصح بناء ما بعده عليه فأشبه من أمكنه فعل الجميع في الوقت و كذلك إن بلغ الصبي و عقل المجنون و قلنا لا صلاة عليهما
و إن كان الإدراك في وقت الثانية من المجموعتين وجبت الأولى أيضا لما ذكره الإمام احمد و غيره عن عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلت الظهر و العصر و إذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب و العشاء
و روى حرب عن أبي هريرة قال إذا طهرت قبل إن يطلع الفجر صلت المغرب و العشاء و هذا لأن مواقيت الصلاة خمسة في حال الاختيار و ثلاثة في حال العذر و الضرورة بدليل قوله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل وقوله سبحانه و أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قران الفجر و إن السنة مضت بذلك في حال
العذر حتى جاز إن يصلي الظهر و العصر ما بين الزوال إلى غروب الشمس و يصلي المغرب و العشاء ما بين الغروب إلى طلوع الفجر و هو الجمع بين الصلاتين إذا آخر الأولى بنية الجمع ثم حدث له عذر أخرهما بسببه إلى وقت الضرورة و هذا وقت الضرورة فلذلك كان مدركا للأولى بما أدرك به الثانية
و إن كان الإدراك في وقت الأولى بأن تحيض المرأة في وقت الظهر أو المغرب أو يجن الرجل فهل يجب عليهما قضاء العصر و العشاء على روايتين
إحداهما يجب القضاء لأن وقتهما واحد
و الثانية لا يجب و هي المنصورة عند أصحابنا لأن وقت الأولى إنما يكون وقتا للثانية إذا فعل الأولى فتكون الثانية تابعة لها بخلاف وقت الثانية فانه يكون وقتا للأولى فعلها أو لم يفعلها
فصل
و من لم يصل المكتوبة حتى خرج وقتها و هو من أهل فرضها لزمه القضاء على الفور لما روى انس بن مالك رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها ألا ذلك متفق عليه و في رواية لمسلم إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فان الله يقول أقم الصلاة لذكري و في لفظ من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها إن يصليها إذا ذكرها و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه رواه مسلم و غيره و عن أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة إن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليس في النوم تفريط فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها رواه الجماعة ألا البخاري فأوجب صلى الله عليه و سلم القضاء على الفور مع التأخير لعذر فمن التأخير لغير عذر أولى
فان قيل تخصيص الحكم بالناسي دليل على إن العامد بخلافه و قد قال ابن مسعود رضي الله عنه إن للصلاة وقتا كوقت الحج و هذا يدل على إن لا تفعل في غير الوقت
قلنا إنما خص النائم و الناسي إذ لا إثم عليهما في التأخير إلى حين الذكر و الانتباه بخلاف العامد فكان تأخيرها عن وقتها من الكبائر و معنى قول ابن مسعود أنه لا يحل له إن يؤخرها عن وقتها و لا يقبل منه إذا آخرها
كما قال الصديق رضي الله عنه إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار و حقا بالنهار لا يقبله بالليل و ذلك إن الله تعالى أوجب عليه إن يصلي و إن يفعل ذلك في الوقت فالإخلال بالوقت لا يوجب الإخلال بأصل الفعل بل يأتي بالصلاة و يبقى التأخير في ذمته أما إن يعذبه الله أو يتوب عليه أو يغفر له و لم يرد إن الصلاة كالحج من كل وجه فان الحج لا يفعل في غير وقته سواء أخر لعذر أو لغير عذر و الصلاة بخلاف ذلك و مثل هذا ما روي إن من افطر يوما من رمضان لم يقض عنه صيام الدهر كله و إن صامه يعني من اجل تفويت عين ذلك اليوم مع إن القضاء واجب عليه
و يدل على ذلك إن عمر و ابن مسعود و غيرهما من السلف جعلوا ترك الصلاة كفرا و تأخيرها عن وقتها إثما و معصية و فسروا بذلك قوله تعالى عن صلاتهم ساهون و قوله تعالى أضاعوا الصلاة فلو كان فعلها بعد الوقت لا يصح بحال كالوقوف بعرفة بعد وقته لكان وجود تلك الصلاة كعدمها و كان المؤخر كافرا كالتارك و قد اخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن الأمراء
الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها و امر إن يصلي خلفهم و لو كانت الصلاة فاسدة لم تصح الصلاة خلفهم كالمصلي بغير وضوء
و يجوز تأخير القضاء شيئا يسيرا لغرض صالح مثل اختيار بقعة على بقعة و انتظار جماعة يكثر بهم جمع الصلاة بل يستحب له إذا نام عنها في موضع إن ينتقل عنه إلى غيره للقضاء نص عليه و اختاره بعض أصحابنا إذا نام عنها في منزل في السفر و ذلك كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم لما فاتته صلاة الفجر في السفر و قال هذا منزل حضرنا فيه الشيطان
لأن الصلاة في مظان الشياطين كالحمام و الحش لا تجوز فالتي عرض الشيطان فيها احسن أحوالها أن يستحب ترك الصلاة فيها
و لا يجب عليه القضاء اكثر من مرة واحدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقض يوم الخندق و يوم نام عن الفجر اكثر من مرة واحدة و قد احتج احمد على ذلك بما رواه في المسند بإسناد جيد عن عمران بن حصين قال ثم امر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا
فقالوا يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد فقال أينهاكم ربكم عن الربا و يقبله منكم و هذا لأن الواجب في الذمة صلاة واحدة فلو امر بصلاتين لكان ربا
فان قيل ففي حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم أما أنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها رواه احمد و مسلم و في رواية ابن ماجة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها و لوقتها في الغد
قلنا معناه و الله اعلم فليصلها حاضرة و أكد الأمر بالمحافظة لئلا يتوهم إن الرخصة لغير المعذور و ليتحفظ من تفويت مرة أخرى و قد رواه أبو داود و لفظه من أدرك معكم في غد صلاة فليقض معها مثلها و هذا و الله اعلم توهم من بعض الرواة بما فهم من المعنى و قد علل البخاري هذه الرواية
فصل فان كثرت عليه الفوائت وجب عليه إن يقضيها بحيث لا يشق عليه في نفسه أو أهله أو ماله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم فان خاف في بدنه ضعفا أو مرضا أو انقطاعا عن معيشة أو تضرر أهله أو ضياع ماله بالمداومة على القضاء فرق القضاء بحسب طاقته
و إذا شك في قدر الفوائت فان لم يعلم كم وجب عليه بأن يقول لم اصل منذ بلغت أو إن صليت بعد بلوغي سنة و هو لا يعلم متى بلغ ثم تركت وجب عليه إن يقضي ما يتيقن وجوبه إذ الأصل براءة ذمته مما زاد على ذلك لكن الأحسن إن يحتاط فيقضي ما يتيقن به براءة ذمته
و إن علم قدر الواجب عليه و شك بقدر ما فاته منه مثل إن يقول بلغت منذ سنة و صليت بعضها و تركت الباقي فانه يجب عليه إن يقضي حتى يعلم أنه قضى جميع الفوائت لأنه متيقن لوجوب الصلاة عليه شاك في براءة ذمته منها
و كذلك من شك في فعل الصلاة في الوقت أو بعد خروج الوقت و قد أطلق طائفة من أصحابنا فيمن لم يعلم ما عليه في أنه يقضي حتى يتيقن براءة ذمته لان احمد قال فيمن ضيع الصلاة يعيد حتى لا يشك أنه قد
صلى ما ضيع و قال فيمن فرط في صلاة يوم الظهر و يوم العصر صلوات لا يعرف عينها قال يعيد حتى لا يكون في قلبه شيء و كلام احمد إنما هو فيمن يتيقن الوجوب كغالب الخلق لما قدمناه
فصل
يجوز إن يقضي الفوائت بسننها الرواتب و بدونها لأنها متأكدة و لهذا يفعلها العبد و الأجير لأنها تابعة للصلاة فأشبهت السورة في الأوليين و ما زاد على المرة من التسبيح و الاستغفار ثم إن كانت كثيرة فالأولى إن يقتصر على الفرائض لأن المبادرة إلى براءة الذمة أولى و لذلك لما قضى النبي صلى الله عليه و سلم الأربع يوم الخندق قضاهن متواليات و لم ينقل أنه قضى بينهن شيئا ألا ركعتي الفجر فان الأولى إن يقضيهما لتأكدهما و الوتر إن شاء قضاه و إن شاء لم يقضه و إن كانت الصلاة أو صلاتين فالأولى إن يقضي كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم يوم فاتته الصبح فانه قضاها بسنتها و كذا ينبغي إن يجوز له الاشتغال بالسنن المؤكدة كسننن الحاضرة و صلاة الكسوف و الاستسقاء و التراويح قبل الفوائت و إن كان الأولى المبادرة إلى الفرائض
فأما غير الرواتب من النوافل المطلقة فلا يجوز إن يشتغل بها عنه قضاء الفوائت
و هل تنعقد على روايتين مومئ إليهما
إحداهما تنعقد قال الامدي و هو ظاهر المذهب لأن النهي عنه لمعنى في غيره و لهذا تكمل فريضة العبد يوم القيامة من تنفلاته
و الثانية لا يصح لأن النهي يقتضي الفساد و قد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في وصيته لعمر و اعلم إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة و ذكره الإمام احمد في الرسالة فقال و قد جاء الحديث لا يقبل الله النافلة حتى تؤدى الفريضة و كذلك كل نافلة تشغل عن فريضة كالنفل بعد الشروع فيه بعد إقامة الصلاة و التنفل بعد ضيق وقت الحاضرة
فأما ما كان النهي عنه لمعنى في الوقت كالنافلة عند الطلوع و الغروب فلا تنعقد النية و قد روي ما يدل على انعقادها كما يذكر إن شاء الله تعالى في موضعه
فصل
و يجب الترتيب بين الفوائت و بين الحاضرة و الفوائت لما روى ابن مسعود رضي الله عنه إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء رواه احمد و النسائي و الترمذي و لأحمد و النسائي مثله من حديث أبي سعيد ألا إن النسائي لم يذكر المغرب لكنه قد صح من حديث جابر و فعله صلى الله عليه و سلم للصلوات يقتضي الوجوب لأنه خرج بيانا و امتثالا للأمر و الفعل إذا خرج امتثالا كان حكمه حكم الأمر و عن أبي جمعة بن سباع إن النبي صلى الله عليه و سلم عام الأحزاب صلى المغرب فلما خرج قال هل علم أحد منكم إني صليت العصر قالوا يا رسول الله ما صليتها فأمر بالمؤذن فأقام فصلى العصر ثم صلى المغرب رواه احمد و هذا صريح بالإعادة إذا اخل بالترتيب و هذا الحديث فيه ضعف ألا أنه يقويه إن النبي صلى الله عليه و سلم يومئذ لم يصل المغرب ألا بعد هوي من الليل و بعيد إن يكون نسيها إلى ذلك الوقت فان وقت المغرب ضيق و لأنه قد قال صلى الله عليه و سلم الفرائض صلوا كما رأيتموني اصلي على إن كثيرا من أصحابنا يجعل الأصل في جميع أفعاله الوجوب و هو إحدى الروايتين
و لأن الفائتة يجب قضاؤها على الفور لما تقدم و الحاضرة يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت فوجب الابتداء بما يجب على الفور كسائر الواجبات و لأن الفائتة الأولى استقرت في ذمته و خوطب بقضائها إذا أدركها قبل الثانية فإذا آخرها عن وقت الذكر إثم بذلك
و أما الثانية فإنما يجب عليه فعلها بعد الأولى إذ لا يكلف فعلهما معا
فان قيل هذا يقتضي وجوب الابتداء أما عدم الصحة فلا يلزم كما لو آخر الواحدة عن حين ذكره
قلنا يتوجه إن يخرج في انعقاد الثانية قبل الأولى ما خرج في انعقاد
النفل المطلق قبلها وأولى إذ النهي عنها بالمعنى في غيرها و إنما المذهب أنها لا تصح لأن هذا الترتيب مستحق في الصلاة فلم ينعقد مع الإخلال به كترتيب السجود على الركوع و لأنهما صلاتان مكتوبتان فوجب الترتيب بينهما كالمجموعتين و لأنه إذا فعل الثانية قبل الأولى فقد فعلها قبل وقت وجوبها فلم تجزه كما لو صلى الحاضرة قبل وقتها بخلاف النافلة فإنها لا تختص بوقت و لأن الفرائض من جنس واحد مختلف فوجب الترتيب بينها بخلاف النفل و لهذا يجوز له إن يتنفل قبل المجموعتين و ليس ببعض بدليل أن المغرب وتر النهار و إن الصلاة الأخرى وتر الليل فإذا قدم بعضها على بعض خرجت الصلوات عن نظمها
و سواء قلت الفوائت أو كثرت لما ذكر
فان نسي الترتيب مثل إن يصلي الظهر ثم يذكر أنه لم يصل الفجر أو أنه صلاها بغير طهارة سقط الترتيب عنه في ظاهر المذهب
و حكي عنه لا يسقط لأنه ترتيب مستحق فلم يسقط بالنسيان كترتيب السجود على الركوع و ترتيب ثانيتي الجمع على أولهما و ترتيب أعضاء الوضوء و لحديث أبي جمعة المتقدم
و وجه الأول إن النبي صلى الله عليه و سلم قال فليصلها إذا ذكرها مع علمه أنه قد لا يذكرها ألا بعد عدة صلوات و لم يفصل و لأن المنسية لا يخاطب بأدائها ألا حين ذكرها و ذلك هو الوقت المأمور بفعلها فيه و المذكورة يخاطب بها حيث الذكر فلا يجوز إن يبطل ما وجب فعله و هذا بخلاف ترتيب الأركان و الوضوء فان الأول شرط في صحة الثاني و هو مرتبط به بحيث لا يصح ألا بصحته و لا يفسد ألا بفساده فلا يصح إن يتأخر عنه و صلاتا الجمع لا يكاد يعرض فيهما نسيان بخلاف الفوائت
و أما الجاهل بوجوب الترتيب إذا بدأ بالحاضرة ثم بالفائتة ثم صلى بعد ذلك ثم علم فيجزيه ما صلى بعد الفائتة لأنه صلى معتقدا إن لا صلاة عليه و أما ما صلى قبلها فيعيده لأنه صلاة في غير موضعه و يتوجه إن يكون الجهل كالنسيان
فان ذكر الفائتة في الحاضرة فالمشهور عنه إن الترتيب لا يسقط
و عنه يسقط عن المأموم خاصة فيتم الحاضرة ثم يقضي الفائتة فقط لأن الجماعة واجبة للحاضرة و قد دخل وقتها فلا يجوز تفويتها بخلاف الإمام و المنفرد فانه يمكنهما القطع من غير تفويت شيء
و قيل يسقط مطلقا لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها و هو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي رواه الدارقطني فأمر بإتمام الحاضرة و لم يأمر بإعادتها و لأن الحاضرة بالشروع فيها صارت على الفور و تعين إتمامها فأشبه ما لو ضاق وقتها
و على المشهور يتمها المأموم ثم يصلي الفائتة ثم يعيده الحاضرة و قد حكي عنه المأموم يقطعها كالمنفرد
و الأول هو الذي نقله عنه الجماعة لما روى أبو يعلى الموصلي و أبو بكر و الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها و هو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام و المشهور أنه عن ابن عمر موقوفا و لأنه حين ذكر الفائتة صار ذلك وقتها فوجب فعلها فيه و لم يصح أ , يصلي فيه غيرها كما لو ذكر قبل الشر لكن
بدخوله مع الإمام صار ملتزما لصلاة فسن تأخيرها إلى انقضاء صلاته كما لو آخرها لسنة راتبة و أولى
و أما الإمام فانه يقطعها قال في رواية حرب ينصرف هو و يستأنف القوم الصلاة قال أبو بكر لم ينقلها غيره و بنى أبو بكر ذلك على جواز الاستخلاف و جوز ائتمام المتنفل بالمفترض و من أصحابنا من حكى في اتمام الإمام إياها روايتين و منهم من قال صارت نافلة و المأمومون خلفه مفترضون و لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل و من جوزه صحح إتمام الإمام إياها و ائتمامهم به فيها و على المنصوص قال القاضي يتمها نفلا ثم يقضي الفائتة ثم يصلي الحاضرة و قال الآمدي و اكثر الأصحاب عليه إن يقطعها فان أتمها فوجهان
أحدهما تبطل لأن بقاء الفرض في ذمته يمنع صحة غيره كالمنفرد بخلاف المأموم فإنها صحت تبعا
و الثاني يتمها نفلا
ثم بإئتمامهم به فيها وجهان و هذه الطريقة اصح و أشبه بالنص
و أما المنفرد فهل يقطعها أو يتمها على روايتين
إحداهما يتمها و هي اختيار أبي بكر قال الآمدي و هي اصح لأن الشروع يؤكد الإتمام كالسنن الرواتب
و الثانية يقطعها لأنها نافلة فلا يشتغل بها عن الفرض كالنفل المبتدأ
و إذا قلنا يقطعها فأتمها فهو جائز نص عليه و كذلك إن قلنا يتمها فقطعها جاز نص عليه لأنه تطوع و التطوع لا يلزم بالشروع و قد نص احمد على التخيير بين الأمرين و مقتضى ما ذكره بعض أصحابنا أنه يلزمه الإتمام حيث يؤمر به و لنا في الصلاة النافلة هل تلزم الشروع روايتان لكن هنا دخل فيها يعتقد أنها عليه فبان أنها ليست عليه فإلزامه بالإتمام بعيد
فصل
فان ضاق الوقت عن فعل الفائتة و الحاضرة سقط الترتيب في إحدى الروايتين
و في الأخرى لا يسقط اختارها الخلال و صاحبه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال
فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها فجعل وقت الذكر وقت الفائتة فلا يجوز إن يصلي فيه غيرها و لأن الصلاة في الوقت فرض و ليس بشرط و الترتيب فرض مشترط فكانت مراعاته أولى و قد روي في الحديث لا صلاة لمن عليه صلاة لكنه لا يعرف له اصل فعلى هذا يشتغل بقضاء الفوائت متواليات حسب الطاقة و الإمكان و إن فاته عدة من الصلوات ثم يصليهن إذا جاءت نوبتهن
و وجه الأولى و هي الصحيحة عند اكثر أصحابنا إن الوقت وقت الحاضرة فلا يجوز إن تؤخر عنه كسائر المواضع و كما لا يجوز تأخير صوم رمضان لقضاء الزمان الماضي و لأن في ذلك تفويت الصلاتين و لأن الصلاة الحاضرة في وقتها فرض متفق عليه معلوم قطعا والترتيب مما ساغ فيه الخلاف و لأن تأخير الفائتة لسنة راتبة نوع مصلحة جائز و تأخير الحاضرة عن وقتها لمثل ذلك لا يجوز و قال القاضي المسألة رواية واحدة يبدأ بالحاضرة و ذكر عن احمد ما يدل على إن الرواية الأولى مرجوع عنها فيكون في حكايتها مذهبا له الطريقتان المشهورتان
فان خالف و بدا بالفائتة ففي صحتها وجهان لأنه فعلها على الوجه
المنهي عنه لكن لم يخالف ترتيبا مستحقا كما قلنا فيما إذا صلى قبلها نافلة
و على هذا يجب عليه إن يشتغل بقضاء الفوائت إذا كثرت حتى يضيق وقت الحاضرة لأن الابتداء بالفوائت واجب و الصلاة في أول الوقت سنة هذا اشهر الروايتين
و عنه يجوز إن يصليها في أول الوقت إذا لم يتسع الوقت لفعلها مع الفوائت اختارها أبو حفص العكبري و صاحب الكتاب لأنه لا يمكنه فعل جميع الفوائت قبلها فسقط ترتيبهن عليها كماه لو ضاق الوقت عن فعل الفائتة و الحاضرة
و إذا خاف إن يضيق وقت الحاضرة عن فعلها في وقت الاختيار أو فعل بعضها بحيث لو صلى الفائتة فهو كما لو ضاق عن فعل جميعها فانه يجب عليه إن يفعلها كلها قبل دخول وقت الضرورة و كذلك لو بقي من وقتها ما لا يتسع ألا لفعل بعض صلاة فانه يبدأ بالحاضرة لقوله عليه السلام إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم
فأما الجمعة إذا خشي فوتها مثل إن يذكر الفجر و هو فيها أو عند قيامه إليها و يخشى فوتها إن اشتغل بالقضاء فانه يصليها رواية واحدة
ثم إن قلنا إن الترتيب يسقط بضيق الوقت اجزأته كغيرها و أولى لأنها لا تقضي جمعة بحال و إن قلنا لا يسقط فانه يعيدها ظهرا بعد إعادة الفائتة و قد نص علي الروايتين
فان كان الذي ذكر هو الإمام فان ذكر و هو فيها فعنه يتمها فتجزئه و من خلفه جمعة لان تبطيل جمعتهم اعظم من ضيق الوقت و نسيان الفائتة و عنه لا تجزئه و لا من خلفه كما لو ذكر في غير الجمعة فعلى هذا يعيدون جمعة إن اتسع الوقت و ألا فظهرا و قياس ما ذكروه في الجماعة أنه يعتبر اتساع الوقت
و إن ذكر قبل إحرامه فالأولى إن يستخلف و يشتغل في القضاء ثم إن أدرك معهم ما تدرك به الجمعة و ألا صلى ظهرا فان لم يفعل و صلى بهم فعلى الروايتين
و قيل إذا جاز له الاستخلاف و أمكنه بعد القضاء إن يدرك معهم ما تدرك به الجمعة لزمه ذلك
فان ذكر الفائتة في الحاضرة و ضاق الوقت عن إتمام الحاضرة و إعادة الفائتة و الحاضرة سقط الترتيب أيضا كما لو ضاق عن فعل الحاضرة و الفائتة
و قيل إنما يسقط إذا ضاق عن فعل الفائتة و إعادة الحاضرة لأن إتمام الحاضرة نفل فيجب تركه عند ضيق الوقت عنه
فأما إن أقيمت الجماعة و خشي فوتها بان لا يطمع في إدراكها و لا
إدراك جماعة أخرى إن اشتغل بالقضاء لم يسقط الترتيب لكن يتابع الإمام في صلاته ثم يقضي ثم يعيد كما لو ذكر في أثنائها
و عنه يسقط أيضا و هي اختيار أبي حفص لأن الجماعة واجبة فأشبهت الجمعة و إن لم يخش فوتها بان يمكنه القضاء ثم يصلي معهم أو مع غيرهم لم يسقط الترتيب قولا واحدا
فصل
و من نسي صلاة من يوم و ليلة لا يعلم عينها لزمه إن يصلي خمسا ينوي بكل واحدة أنها هي الفائتة قال ابن أبي موسى يصلي خمس صلوات فجرا و ظهرا و عصرا و مغربا و عشاء نص عليهو عنه ما يدل على أنه يجزيه إن يصلي فجرا و مغربا و أربع ركعات ينوي بها ما فاته بناء على إن نية التعيين لا تجب للمكتوبة
و الأول هو المذهب لأنه قد ثبت في ذمته صلاة و تعيين النية للمكتوبة هل هي فجر أو عصر أو ظهر واجب و التشهد الأخير و التسليم فرض فلا يتحقق براءة ذمته ألا بخمس صلوات على ما قلنا
فان فاتته من يوم واحد ظهر و صلاة أخرى لا يعلم هل هي الفجر أو المغرب وجب عليه الصلوات الثلاث و يبدأ بالفجر لأنه إن بدا بالظهر لم يتحقق براءة ذمته مما قبلها كمن شك في وقت الظهر هل صلى الفجر أم لا
فان نسي ظهرا من يوم و عصرا من يوم آخر لم يجب عليه ألا ظهر و عصر و إن كان قد يفضي إلى الإخلال بالترتيب في الباطن لأن الترتيب يسقط بالنسيان كما لو نسي نفس الفائتة
و يتحرى بما يبدأ بما يغلب على ظنه أنها السابقة فان استويا خير لأن ذلك اقرب إلى رعاية الترتيب في إحدى الروايتين
و في الأخرى يبدأ بالظهر كصلاتي اليوم الواحد إذ أكثر ما فيه سقوط الترتيب بالنسيان و تخرج إن يلزمه قضاء ثلاث صلوات ظهرا ثم عصرا ثم ظهرا أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا بناء على إن الترتيب لا يسقط بالنسيان و لا يتيقن الترتيب المستحق ألا بذلك قال بعض أصحابنا و هذا أقيس كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها
و الصواب ما تقدم و قد ذكر الفرق
فصل
و من شك في دخول الوقت فلا يصلي حتى يتيقن دخوله برؤية الشمس و نحوها من معرفة الساعات و حسابها فان تعذر اليقين لتغيم السماء أو لكونه في مطمورة أو أعمى في برية عمل بالاجتهاد بان يستدل على ذلك بأعمال من قراءة أو صناعة أو نحو ذلك فان اجتهد و هو قادر
على اليقين لم تصح صلاته كمن صلى بالاجتهاد عند حضور الكعبة أو عمل بالقياس مع وجود النص سواء أخطأ أو أصاب هكذا حرره القاضي و ابن عقيل و غيرهما من أصحابنا و أطلق أبو الخطاب و غيره أنه يصلي إذا تيقن أو غلب على ظنه دخوله و على كل حال فيستحب له إن يؤخر الصلاة حتى يتيقن دخول الوقت ما لم يخف خروجه و يجوز العمل فيه بغالب الظن إذا لم يمكن العلم هذا قول أصحابنا و قد كان أبو عبد الله رحمه الله أحيانا يصلي الفجر في الغيم ثم يتبين له إن الفجر لم يطلع فيعيد كما جاء مثل ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم و قد روى عنه حنبل لا يصلي حتى لا يشك في الزوال في السفر و الحضر و قال في رواية ابن منصور إذا شك في الزوال و هو في السفر فلا حتى لا يشك و لا يستيقن و هذا فيما إذا لم يمكن اليقين كما تقدم و أن حمل على ظاهره فله وجه
فان اخبره ثقة عن علم بالوقت قلده كسائر الأمور الدينية و كذلك المؤذن الثقة إذا أذن في الصحو لغير الفجر أو أذن الفجر و كان من عادته إن
لا يؤذن حتى يطلع الفجر و هذا قول اكثر أصحابنا
و قال القاضي في موضع لا يرجع إلى قول المؤذن و لا غيره حتى يغلب على ظنه دخول الوقت بمرور الزمان و نحوه ألا الأعمى خاصة فانه يرجع إلى خبر غيره
و الأول اصح لما تقدم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال المؤذن مؤتمن و غير ذلك من الأحاديث و لأن قبول قول العدل الذي لا يتهم يجوز مع إمكان حذف الواسطة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل بعضهم الرواية من بعض في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع إمكان مراجعته
و إن اخبره ثقة عن اجتهاد و لم يقلده و اجتهد كالقبلة فان اخبره عن علم كالدقائق و الساعات أو أذن مؤذن بناء على ذلك أو على إخبار عارف بذلك فهو كالإخبار عن علم
و إذا سمع الأعمى من يؤذن أو يخبر بالوقت قلده و لم يلزمه إن يسال هل اخبر بذلك عن علم أو اجتهاد لأن الظاهر أنه خبر عن علم
و من لا يمكنه الاجتهاد كالمطمور و المستيقظ في يوم غيم لا يدري أي وقت استيقظ يقلد غيره من المجتهدين
و إن اجتهد ثم تبين أنه صلى في الوقت أو بعده أجزأه و لا يضره و إن كان نواها قضاء فتبينت في الوقت أو نواها أداء فتبينت بعد الوقت لأن الصلاة المنوية هي الواجبة فوصف القضاء و الأداء و إنما يقصد به تعيين فرض الوقت
و إن تيقن أنه صلى قبل الوقت لم يجزه لما صح عن ابن عمر و أبي موسى انهما صليا يوم غيم صلاة الفجر ثم تبين أنه قبل الوقت فأعادا
و سواء تبين ذلك في الوقت أو بعد الوقت لأنه فعل العبادة قبل وجوبها فوقعت نفلا و لم يوجد بعد الوجوب ما يبرىء ذمته فبقي في عهده الوجوب و هذا في الفجر و الظهر و المغرب ظاهر فأما العصر و العشاء
و إذا ذكر في أثناء الصلاة إن الوقت لم يدخل لم تبطل صلاته لأن دخول الوقت لا يمنع التنفل بالصلاة وهي قد انعقدت نفلا لأن وصف الفرض إذا الغي بقي مطلق الصلاة و مطلق الصلاة ينصرف إلى النفل و كذلك لو تصدق أو صام يعتقده واجبا فتبين أنه لم يكن عليه فانه يقع تطوعا
و قال أبو الحسن الامدي إذا ذكر في أثناء الصلاة إن الوقت لم يدخل فهل تبطل الصلاة أو تكون نفلا على روايتين مخرجتين على من ذكر فائتة في حاضرة و هو منفرد و كذلك لو أراد إن ينقل الفرض إلى النفل لغرض صحيح و هذا ضعيف لأن ذكر الفائتة كان يمنع الابتداء بهذه الصلاة فلهذا منع استدامتها على هذه الرواية و نقل الفرض إلى النفل إنما منعه من منعه لحرمة الفرض و عدم جواز فسخ نيته و هذا مقصود هنا لأن الابتداء بالنافلة في أول وقت المكتوبة جائز و هذه الصلاة لم تنعقد فرضا قط
مسألة الشرط الثالث ستر العورة بما لا يصف البشرة
أما ستر العورة عن أعين الناظرين بما لا يصف البشرة فواجب في الجملة في الصلاة و خارج الصلاة و قد تقدم بعض هذا في باب الغسل
لقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم و حفظ الفرج يعم حفظة من مس من لا يحل له مسه بجماع و غير جماع و من النظر إليه بل قد قال بعض التابعين أنه عنى به هنا النظر لأنه قرنه بغض البصر و لأنه ذكر معه استتار النساء عن رؤية الرجال و لقوله سبحانه يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا و لباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون إلى قوله يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما و قوله و إذا فعلوا فاحشة يريد كشف السوءة و نحوه قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله امرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون و هذه الآيات كلها تتضمن فرض ستر العورة و ذم من يتدين بغير ذلك في حال من الأحوال و قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاوية بن حيدة القشيري جد بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري احفظ عورتك ألا من زوجتك أو ما ملكت يمينك
قال القوم يكون بعضهم في بعض قال إن استطعت إن لا يرنيها أحد فلا يرنيها و امر من كشف فخذه إن يغطيه و قال الفخذ عورة فعلم إن العورة يجب سترها و فرض على داخل الحمام إن لا يدخل ألا بمئزر و هذا كثير تقدم بعضه
و يجب سترها في الخلوة و غيرها ألا من حاجة و قال القاضي يكره التعري في الخلوة و لا يحرم و من أصحابنا من يحكيها على روايتين و الأول أبين في كلام احمد و أشبه بظاهر السنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاوية ابن حيدة فالله أحق إن يستحيا منه لما قال له فان كان أحدنا خاليا و نهى إن يحتبئ الرجل في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء و في
لفظ ليس على فرجه منه شيء رواه الجماعة و عن ابن عمر إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إياكم و التعري فان معكم من لا يفارقكم ألا عند الغائط و حين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم و أكرموهم رواه الترمذي و عن عتبة بن عبد الرحمن السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتى أحدكم أهله فليستتر و لا يتجردا تجرد العيرين رواه ابن ماجة و لأن الله أحق إن يستحيا منه من الناس و كذلك ملائكته و غيرهم من خليقته فتجب السترة في الخلوة كما تجب عن أعين الناس و لهذا وجبت في الصلاة خلوة و ليس الاستتار لأجل الاستخفاء من الله تعالى إذ هو سبحانه بصير لا تخفى عليه خافية و إنما ذلك ظن الذين كفروا و الذين اخبر الله عنهم بقوله ألا انهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون و ما يعلنون و لكن يعني الاستحياء منه مبلغ الجهد كما اخبر الله
تعالى عن آدم و حواء حين بدت سوآتهما أنهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة
و كما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول أيها الناس استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فاحني ظهري حياء من ربي و كذلك قال أبو موسى في الاغتسال
فصل
و أما التزين للصلاة فأمر زائد على ستر العورةو الأصل فيه الكتاب و السنة و الإجماع
أما الكتاب فقوله سبحانه و تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد أنزله الله سبحانه لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ألا الحمس و يقولون ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها ألا الحمس لفضلهم في أنفسهم و هم قريش و من دان دينها و كان من حصل له ثوب احمسي طاف فيه و من لم يحصل له ثوب احمسي طاف عريانا فان طاف في ثوبه حرم عليه فحرم الله ذلك و امر بأخذ الزينة و هي اللباس و لو كان عباءة و امر النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر إن ينادي بالناس عام حج ألا لا يطوفن بالبيت
عريان متفق عليه و كل محل للسجود فهو مسجد و هذا يدل على إن السترة للصلاة و الطواف امر مقصوده التزين لعبادة الله و لذلك جاء باسم الزينة لا باسم السترة ليبين إن مقصوده إن يتزين العبد لا إن يقتصر على مجرد الاستتار
و أما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله الصلاة حائض ألا بخمار
و قوله إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل و إذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء و غير ذلك من الأحاديث و سنذكر إن شاء الله تعالى بعضها
و أما الإجماع فقال أبو بكر ابن المنذر اجمع أهل العلم على أن على المرأة الحرة البالغة إن تخمر رأسها إذا صلت و على أنها إذا صلت و جميع رأسها مكشوف إن عليها إعادة الصلاة و كذلك حكى غيره الإجماع على اشتراط السترة في الجملة
و إذا كان مقصود السترة في الصلاة إن يتزين العبد لربه في الصلاة لأنه يناجيه فانه يجب عليه السترة عن نفسه و عن غيره فلو صلى في قميص واسع الجيب و لم يزره و لا شد وسطه بحيث يرى عورته منه في قيامه أو ركوعه لم تصح صلاته و إن كان يجوز إن يرى عورة نفسه و يمسها لما روى سلمة بن الاكوع قال قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد و اصلي و ليس علي الا قميص واحد قال فزره و إن لم تجد ألا شوكة رواه احمد و أبو داود و النسائي و عن أبي هريرة قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم إن يصلي الرجل حتى يحتزم رواه احمد و أبو داود و لذلك وجب إن تستر المرأة رأسها و إن كان يجوز إن تقعد خالية مكشوفة الرأس و لذلك وجب ستر المنكبين كما سيأتي إن شاء الله تعالى فليس كل ما جاز كشفه خارج الصلاة جاز في الصلاة إذ هي أشد و سواء سترها بنفسه أو بغيره مثل إن يكون ذو الجيب الواسع عريض اللحية أو غليظ الرقبة لا يرى عورته من جيبه لذلك أو يضع يده على خرق في السترة يستره بيده لأن المقصود السترة و قد حصل
مسالة و عورة الرجل و الأمة ما بين السرة و الركبة و الحرة كلها عورة ألا وجهها و كفيها و أم الولد و المعتق بعضها كالأمة
في هذا الكلام فصول
أحدها إن عورة الرجل ما بين السرة و الركبة و هذا اشهر الروايتين و الأخرى أنها القبل و الدبر لأن ذلك هو مفهوم من قوله تعالى لباسا يواري سوآتكم
و في قوله يحفظوا فروجهم و لما روى انس بن مالك رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه و سلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه قال حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه و سلم رواه احمد و البخاري و كذلك روي عنه من حديث عائشة و حفصة رضي الله عنهما إن أبا بكر و عمر رضي الله عنهما دخلا عليه و هو كاشف عن فخذه فلم يغطها فلما دخل عثمان غطاها و قال ألا استحي من رجل و الله إن الملائكة لتستحي منه رواه احمد
و وجه الأول ما روى جرهد الاسلمي قال مر رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي
بردة و قد انكشف فخذي فقال غط فخذك فان الفخذ عورة رواه احمد و أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن و عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبرز فخذك و لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت رواه أبو داود و ابن ماجة و عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل و فخذه خارجة فقال غط فخذك فان فخذ الرجل من عورته رواه احمد و روى الترمذي قوله الفخذ عورة و قال حديث حسن غريب و روي ذلك من وجوه أخرى يشد بعضها بعضا و لأن ستر العورة إنما وجب لما في كشفها من الفحش و القبح و هذا يشترك فيه الفخذ و غيره و لأن ما حول السوءتين من حريمهما و ستره تمام سترهما و المجاورة لها تأثير في مثل ذلك فوجب إن يعطى حكمهما
و ما نقل من كشف فخذه فهو و الله اعلم أما إن يكون منسوخا لأن أحاديثنا ناقلة حاظرة أو يكون حصل بغير قصد أو يكون المكشوف أوائل الفخذ من جهة الركبة و فوق ذلك بقليل فان الركبة و السرة ليستا من العورة
و كذلك ما دون السرة بقليل و فوق الركبة بقليل نص عليه في مواضع
و حكي عنه انهما من العورة لأنهما تمام الحد و لا يحصل تمام السترة ألا بهما فوجب سترهما كما وجب غسل جزء من الرأس و إمساك جزء من الليل
و الأول اصح لأن العمدة في ذلك على أحاديث الفخذ و هي لا تتناول الركبة و السرة و قد روى الدارقطني عن أيوب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اسفل السرة و فوق الركبتين من العورة و عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما بين السرة و الركبة عورة و هذا صريح بأنهما ليستا من العورة و قوله هما تمام الحد غير مسلم بل إذا نزل عن السرة قليلا و صعد عن الركبة قليلا جاز نص عليه لأن عادة الصحابة و العرب في زمانه صلى الله عليه و سلم كانت الاكتفاء بالمآزر و العادة انحطاطها عن السرة و قد ذكر الإمام احمد عن ابن عمر أنه كان يشد إزاره
تحت السرة
و سواء في ذلك الحر و العبد لعموم الأدلة
فصل الثاني
في عورة المرأة الحرة البالغة و جميعها عورة يجب عليها ستر بدنها في الصلاة ألا الوجه و في الكفين روايتان و ذلك لما روت عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يقبل الله صلاة حائض ألا بخمار رواه احمد و أبو داود و ابن ماجة و الترمذي و قال حديث حسن و عن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه رواه احمد و النسائي و الترمذي و قال حديث حسن صحيحو عن ابن عمر إن نساء النبي صلى الله عليه و سلم سألنه عن الذيل فقال اجعلنه شبرا فقلن إن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذراعا فكانت إحداهن إذا أرادت إن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا رواه احمد و عن أم
سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم اتصلي المرأة في درع و خمار و ليس عليها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها رواه أبو داود و الدارقطني و المشهور أنه موقوف على أم سلمة ألا أنه في حكم المرفوع لأنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم و لا يجوز إن يخفى عليها مثل هذا من امر النبي صلى الله عليه و سلم و هي مبتلاة بهذا الأمر و لا يجوز إن تفتي بخلاف ما تعلم منه صلى الله عليه و سلم
و تبث بهذه الأحاديث إن قدميها و رأسها عورة يجب سترها في الصلاة فسائر بدنها أولى
و أما الوجه فلا تستره في الصلاة إجماعا
و أما الكفان إلى الرسغين ففيهما روايتان
إحداهما انهما ليستا من العورة التي يجب سترها في الصلاة كما اختاره الشيخ رحمه الله و طائفة من أصحابنا لقوله سبحانه و لا يبدين
زينتهن ألا ما ظهر منها قال ابن عباس هو الوجه و الكفان و هو كما قال لأن الوجه و الكفين يظهران منها في عموم الأحوال و لا يمكنها سترهما مع العمل المعتاد و لأنه قال و ليضربن بخمرهن على جيوبهن فأمرهن بإرخاء الخمر على الجيوب لستر أعناقهن و صدورهن فلو كان ستر الوجه و اليدين واجبا لأمر كما أمر بستر الأعناق
و عن أسماء رضي الله تعالى عنها إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح إن يرى منها ألا هذا و هذا و أشار إلى وجهه و كفيه رواه أبو داود و ذكره الإمام احمد و قال فلا تكشف ألا وجهها و يدها و لأنه أذن للنساء في إطالة الذيول و في حديث أمر سلمة أنها تصلي في درع سابغ و لم تذكر طول الكم بأمر و لا اشتراط فدل على أنه غير مشترط و إن الصلاة تجوز معه و إن لم يكن سابغا و لأن الكف لا يجوز إن تغطيه في الإحرام بلباس مصنوع على قدر فلم يكن من العورة كالوجه و عكسه القدمان و لأنها تحتاج إلى كشفه غالبا فأشبه الوجه و لأن مباشرة المصلي باليدين مسنون كالوجه لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه خفضا و رفعا فإذا لم يكن سترهما مكروها فلا اقل من إن لا يكون واجبا
و من نصر هذه الرواية فله إن يبني ذلك على إن الوجه و الكفين ليسا بعورة مطلقا بل يجوز النظر إليهما لغير شهوة
و له إن يقول و إن كان في باب النظر فلا يلزم إن يسترا في الصلاة كالوجه و كالأمة الحسناء و نحو ذلك مما يجب ستره عن الأجانب و لا يجب ستره في الصلاة
و الثانية هما عورة و هي اختيار الخرقي و كثير من أصحابنا لقوله تعالى و لا يبدين زينتهن ألا ما ظهر منها قال عبد الله بن مسعود الزينة الظاهرة الثياب و ذلك لأن الزينة في الأصل اسم للباس و الحلية بدليل قوله تعالى خذوا زينتكم و قوله سبحانه قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده و قوله تبارك و تعالى و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن و إنما يعلم بضرب الرجل الخلخال و نحوه من الحلية و اللباس و قد نهاهن الله عن إبداء الزينة ألا ما ظهر منها و أباح لهن إبداء الزينة الخفية لذوي المحارم و معلوم إن الزينة التي تظهر في عموم الأحوال بغير اختيار المرأة هي الثياب فأما البدن فيمكنها إن تظهره و يمكنها إن تستره و نسبة الظهور إلى الزينة دليل على
أنها تظهر بغير فعل المرأة و هذا كله دليل على إن الذي ظهر من الزينة الثياب
قال احمد الزينة الظاهرة الثياب و قال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها و قد روي في حديث المرأة عورة و هذا يعم جميعها و لأن الكفين لا يكره سترهما في الصلاة فكانا من العورة كالقدمين و لقد كان القياس يقتضي إن يكون الوجه عورة لولا إن الحاجة داعية إلى كشفه في الصلاة بخلاف الكفين و لذلك اختلفت عبارة أصحابنا هل يسمى عورة أو لا فقال بعضهم ليس بعورة و قال بعضهم هو عورة و إنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة
و التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة و هو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه
و قال الامدي من أصحابنا من قال هو على الروايتين في اليدين و منهم من قال ليس بعورة رواية واحدة و هو الصحيح و هذا الخلاف الذي حكاه هو عورة في الجملة و أما صحة الصلاة مع كشفه فلا خلاف بين المسلمين بل يكره للمرأة ستره في الصلاة كما يكره للرجل حيث
يمنع من إكمال السجود و من تحقيق القراءة على ما يأتي إن شاء الله ذكره اللهم ألا إن تكون بين رجال أجانب و ربما يذكر هذا إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع
فأما المرأة المراهقة فعورتها كعورة الأمة ما لا يظهر غالبا لأن قوله عليه السلام لا يقبل الله صلاة حائض ألا بخمار يدل بتعليله و مفهومه على إن غير الحائض بخلاف ذلك و كذلك قوله في حديث أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح إن يرى منها ألا هذا و هذا دليل على انتفاء ذلك قبل بلوغ المحيض و عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت في حجري جارية فألقى علي حقوه فقال شقه بين هذه و بين الفتاة التي في حجر أم سلمة فإني لا أراها ألا قد حاضت أو لا أراهما ألا قد حاضتا رواه احمد و أبو داود
و الخنثى المشكل كالرجل في اشهر الوجهين لان الأصل براءة ذمته مما زاد على ذلك
و في الآخر هو كالمرأة لأنه لا يتبين براءة ذمته ألا بذلك و بكل حال فالمستحب له إن يستتر كالمرأة احتياطا
الفصل الثالث
في عورة الأمةو لا يختلف المذهب إن رأسها مع العنق و يديها و قدميها ليس بعورة في الصلاة و قد نص احمد على ذلك و المراد بذلك يداها إلى المرفقين و قدماها إلى الركبتين في المشهور
و قال الآمدي القدمان إلى أنصاف الساقين و تسمى هذه الأعضاء ضواحيها لأنها تضحي أي تبرز غالبا و هو بمعنى قول الفقهاء ما يظهر غالبا و ينبغي إن يكون المرفق و الركبة مما لا يظهر غالبا لأن الحد الذي بين العورة و ما ليس بعورة ملحق بالعورة كالحد الذي بين راس الحرة و وجهها فان عليها إن تستره لأن ستر الوجه لا يمكن ألا به و قد مضت السنة بالفرق بين الحرة و الأمة في باب العورة و يذكر إن شاء الله في موضعه ما يجب إن تستره إذا خيف الافتتان بها و نحو ذلك
و الأصل في ذلك إن الله سبحانه قال يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى إن يعرفن فلا يؤذين الآية و الجلابيب هي الملاحف التي تعم الرأس و البدن و تسميها العامة الأزر و تسمى الجلباب الملآة و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم
لتلبسها أختها من جلبابها أي لتعيرها طرف الجلباب تلتحف به فتلتحف امرأتان بجلباب واحد فاختص الله سبحانه بالأمر بإدناء الجلابيب أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و بناته و نساء المؤمنين و لم يذكر إماءه و لا إماء المؤمنين و لسن داخلات في نساء المؤمنين بدليل إن قوله تعالى يا نساء النبي و قوله للذين يألون من نسائهم و قوله الذين يظاهرون منكم من نسائهم إنما عنى به الأزواج خاصة و إذا لم يكن داخلات في الأمر بالالتحاف بقين على اصل الإباحة لا سيما و تخصيص المذكورات بالحكم يدل على انتفائه فيما سواهن
و كذلك قوله تعالى و لا يبدين زينتهن ألا لبعولتهن الآية لم تدخل فيه الأمة لأنه لم يستثن سيدها و لأنه قد قال أو ما ملكت إيمانهن و إنما يكون هذا للحرة و هذه كانت سنة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مع علمه بذلك فروى انس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال لما أولم النبي صلى الله عليه و سلم على صفية قال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه فقالوا إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين و إن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأ لها خلفه و مد الحجاب متفق عليه فعلم بهذا إن ما ملكت أيمانهم لم
يكونوا يحجبونهن كحجب الحرائر و إن آية الحجاب خاصة بالحرائر دون الإماء و قد روى أبو حفص بإسناده عن انس بن مالك إن عمر بن الخطاب رأى على أمة قناعا فتناولها بردته و قال لا تتبشهي بالحرائر
و عن أبي قلابة إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يدع أمة تقنع في خلافته و قال إنما القناع للحرائر و روى الاثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج و هو كما قال علي رضي الله عنه فان مثل هذا لا يجوز إن يخفى عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ظاهر فان الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس بان تصح صلاتها هكذا كان أولى و أحرى فان ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة و لأنه إذا لم يكن الاختمار واجبا عليها و لا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلوم انهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرا و لا يغيرون لهن هيئة و هذا مما لا نعلم فيه خلافا
إذا ثبت ذلك فلا يختلف المذهب أيضا إن ما بين السرة إلى الركبة منها عورة
و قد حكى جماعة من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل و هو غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا
و على الشريعة عموما فان هذا لم يقله أحد من أهل العلم و كلام احمد ابعد شيء عن هذا القول و إنما كان يفعل مثل هذا أهل الجاهلية حين كانت المرأة الحرة و الأمة تطوف بالبيت و قد سترت قبلها و دبرها تقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله ... و ما بدا منه فلا احله ...
حتى نهى الله تعالى عن ذلك و امر بأخذ الزينة عند المساجد و سمى فعلهم فاحشة و إنما وقع الوهم فيه من جهة إن بعض أصحابنا قال عورة الأمة كعورة الرجل بعد إن حكى في عورة الرجل الروايتين و إنما قصد أنها مثله في المشهور في المذهب
ثم اختلف أصحابنا فيما عدا ضواحيها و ما بين السرة و الركبة و هو الظهر و الصدر و المنكب و نحو ذلك هل هو عورة في الصلاة على وجهين
و منهم من يحكيه على روايتين لأنه قد أومأ إليهما و منهم من يقول إن المنصوص عورة
أحدهما أنه ليس بعورة كما ذكره الشيخ رحمه الله و هو قول أبن حامد و أبي الخطاب و ابن عقيل لما روى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا زوج أحدكم خادمه أو
عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة و فوق الركبة و المراد بالخادم الأمة و إذا جاز للسيد النظر إلى ذلك مع أنها حرام عليه لم يكن عورة
و الثاني هو عورة قاله القاضي في الجامع و ابنه أبو الحسين و ذكر أنه منصوص احمد و هو اختيار أبي الحسن الامدي و هو أشبه بكلام احمد و اصح لأن عليا رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج و معلوم أنها لا تخرج عارية الصدر و الظهر و لأن الفرق بين الحرة و الأمة إنما هو في القناع و نحوه كما دلت عليه الآثار و لأنهن كن قبل إن ينزل الحجاب مستويات في ستر الأبدان فلما امر الحرائر بالاحتجاب و التجلبب بقي الإماء على ما كن عليه
فأما كشف ما سوى الضواحي فلم يكن عادتهن و لم يأذن لهن في كشفه فلا معنى لإخراجه من العورة و لأن الله تعالى امر بأخذ الزينة عند كل مسجد و قميص الأمة و رداؤها من زينتها بخلاف الخمار و لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل إن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء
تكميلا للتزين بستر المنكب فكيف يأذن للامة إن تصلي و ظهرها و صدرها مكشوف مع العلم بان انكشاف ذلك منها أشد قبحا و تفاحشا من انكشاف منكب الرجل و لأن الأصل إن عورة الأمة كعورة الحرة كما إن عورة العبد كعورة الحر لكن لما كانت مظنة المهنة و الخدمة و حرمتها تنقص عن حرمة الحرة رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه و قطع شبهها بالحرة و تمييز الحرة عليها و ذلك يحصل بكشف ضواحيها من رأسها و أطرافها الأربعة فأما الظهر و الصدر فباق على الأصل
و الحديث المتقدم لا دليل فيه لأنه لا يلزم من إباحة النظر إليها بالملك إن يكون المنظور ليس بعورة فان النظر يباح من المالك و المملوك و ذوي المحارم إلى أشياء يجب سترها في الصلاة لكن نظر الزوج و السيد المباح لهما الوطء اعم من نظر غيرهما
فصل
و سواء في ذلك الأمة المزوجة و المتسراة غير المستولدة و المدبرة و المكاتبة و المعلق عتقها بصفة لأن رقهن باق بحاله و ما انعقد لهن من أسباب الحرية ليس بلازم و قد تقدم حديث انس في صفية بأنه دليل على إن السرية لم تكن تحجب حجب الزوجة هذا قول اكثر أصحابنا و قال أبو علي بن البناء حكم المكاتبة و المدبرة و المعلق عتقها بصفة حكم أم الولد و المعتق بعضها لأنه قد انعقد لهن سبب الحرية فخرجن عن محض العبودية فرجعن إلى الأصل
و أما أم الولد فقد نص احمد على أنها تصلي كما تصلي الحرة لأنه انعقد لها سبب الحرية لازما و ينجر لها من أحكام الحرية أنها لا تباع و لا توهب و لا توقف و لا ينقل الملك في رقبتها فصار فيها شائبة الحرية فغلب حكمها لوجهين
أحدهما أنه لا يمكن تمييز حق الحرية عن حق العبودية و العمل بمقتضى ما فيها من الحرية واجب و هو لا يمكن ألا بان تكون كالحرة و ما لا يتم الواجب ألا به فواجب
والثاني إن الأصل إن السترة في الأمة و الحرة سواء و إنما ترك ذلك في الأمة المحضة لما فيها من معنى الابتذال و الإمتهان و هذا غير مقصود في أم الولد
ثم اختلف أصحابنا هل هذا على سبيل الوجوب أو الاستحباب على وجهين و ذكر القاضي و أبو الخطاب و غيرهما في ذلك روايتين
إحداهما أنه على سبيل الاستحباب كما ذكره الشيخ رحمه الله و هو اختيار الخرقي و غيره فيكره لها كشف رأسها لكن لا تبطل صلاتها إن صلت مكشوفة لأنها أمة فأشبهت المكاتبة و لأنها مال بدليل أنها تقوم
بالقيمة إذا قتلت أو ماتت تحت اليد العادية فتكون كسائر الإماء وما فيها من منع التصرف في رقبتها لا يخرجها عن ذلك كالأمة الموقوفة و ما فيها من انعقاد سبب الحرية لا يوجب اخذ أحكام الحرية كالمدبرة و لقد ميزت على غيرها لما فيها من شوب الحرائر بكراهة كشف رأسها
و الثاني على سبيل الوجوب لما تقدم
و أما المعتق بعضها فهي على هذا الخلاف المذكور ألا إن القول بالوجوب هنا هو القوي عند أصحابنا لأن فيها جزءا حرا فوجب إن يعطى حكم الحرة و ذلك لا يمكن ألا بستر جميعها فيجب لأن ما لا يتم الواجب ألا به فواجب و لهذا قلنا فيما لا يمكن تقسيطه من الأحكام مثل الطلاق أنه يكمل فان المعتق نصفه يطلق ثلاثا لأنه لا يمكن إن يطلق طلقتين و ربعا
مسألة و من صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته
هذا اشهر الروايتين عن الإمام احمد
و الأخرى تصح صلاته مع التحريم و هي اختيار الخلال قال الامدي و هذا في الفرض فأما النفل فتبطل رواية واحدة لأن المقصود به القربة و هي لا تحصل بالمحرمات بخلاف الفرض فانه يقصد به القربة و براءة الذمة فإذا بطلت القربة تبقى براءة ذمته و اكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف و هو الصواب لأن منشأ القول بالصحة إن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز إن يثاب من وجه و يعاقب من وجه كما تبرأ الذمة فإنها لا تبرا ألا بامتثال الأمر و امتثال الأمر طاعة و الصلاة في الثوب الحرير ممن يحرم عليه لبسه على هذا خلاف لأن المذهب أنه حرام
و كذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير إذا قلنا أنه حرام قال أبو عبد الله السامري كل من صلى في سترة يحرم عليه لبسها و لا سترة عليه غيرها كره له ذلك و هل تبطل صلاته على روايتين و ذلك مثل المغصوب و ما اشتري بعين مال الحرام في حق الرجال و النساء و مثل الحرير و ما غالبه
الحرير و ما نسج بالذهب و نحو ذلك في حق الرجال
و وجه الإجزاء إن تحريم ذلك لا يخص الصلاة فأشبه من صلى و هو حامل ثوبا مغصوبا و لأن النهي عن الصلاة في المكان و الثوب المغصوبين ليس لمعنى في نفس الصلاة كالصلاة مع الحدث و النجاسة و إنما هو لمنع في غيرها و هو ما فيه من ظلم الغير و الانتفاع بملكه بغير إذنه و هذه جهة غير جهة العبادة فيكون مطيعا من حيث هو مصلي عاصيا من حيث هو غاصب
و وجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد متفق عليه و معنى رد أي مردود و في لفظ من صنع أمرا علي غير امرنا فهو مردود رواه احمد و هذه الصلاة ليس عليها امر الله و رسوله بل هي على غير امر الله و رسوله ولأنه منهي عن هذه الصلاة فلا يكون مأمور بها فلا يكون قد فعل ما امر به فيبقى في عهدة الأمر
و قولهم النهي لمعنى في غير المنهي عنه و هي مأمور بها من وجه آخر ليس بجيد لأن هذه الصلاة المعينة لم يأمر الله بها قط بل نهى عنها لمعنى فيها و لمعنى في غيرها فان التقرب إلى الله بالحركات المحرمة و بالزينة المحرمة توجب إن تكون المفسدة في نفس حركات الصلاة و نفس الزينة التي هي شرط الصلاة و أنه نهى عن غير هذه الصلاة لمعنى يعود إليها كما
هو منهي عن الصلاة في المكان النجس و بالثوب النجس و أولى فان اشتراط حل المكان و اللباس أولى من اشتراط طهارته لما فيه من تعلق حق الغير به يبين ذلك أنا إنما علمنا كون النجاسة مفسدة للصلاة بالنهي عنها و النهي عن لبس الحرير و لبس المغصوب و الاستقرار في المكان المغصوب أشد و لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذ لو كان فعلا صالحا صحيحا لما نهي عنه و لأن الصلاة طاعة و قربة والحركات في هذا الثوب و المكان معصية و الشيء الواحد لا يكون طاعة و معصية مع اتحاد عينه فانه جمع بين النقيضين
و حقيقة المسألة إن السترة و المكان شرط لصحة الصلاة كالطهارتين و الأركان و متى أتى بفرائض الصلاة على الوجه المنهي عنه لم يكن ما أتى به هو المفروض فلم يصح إتيانه به و بهذا يظهر الفرق بين هذا و بين من ارتكب في الصلاة محظورا لا تعلق له بواجباتها مثل لبس خاتم الذهب و حمل المغصوب فان ذلك معصية منفصلة عن العبادة و إن كانت فيها فأشبهت الظلم و البغي للصائم و المحرم فان هذه المعاصي تقابل الثواب إن كانت بقدره مع براءة الذمة من عهدة الواجب فيبقى لا له و لا عليه لا يعاقب عقوبة التارك و لا يثاب ثواب الفاعل كما في الحديث رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و رب قائم حظه من قيامه السهر أما إذا كان شرط صحة العبادة التي لا تتم ألا به أو شرط وجوبها
الذي به يمكن أداؤها أيضا مفعولا على الوجه المحرم كالماء و التراب في الوضوء و التيمم و كالزينة و البقعة في الصلاة و كالمال في الحج فانه يكون متقربا إلى الله بنفس ما حرمه و مطيعا له بقدر ما حرمه والتقرب إلى الله و الطاعة له بفعل ما حرمه محال و لا يصح و لا يجزئ
و لو كان عليه ثوبان أحدهما محرم فقال اكثر أصحابنا لا يصح أيضا لأن المباح لم يتعين ساترا سواء كان فوقانيا أو تحتانيا إذ أيهما قدر عدمه ستر الآخر و كذلك لو كان بعض الثوب مغصوبا و لم يكن ساترا لشيء من العورة لأنه تابع للساتر
و منهم من خص الروايتين بمن صلى في سترة يحرم عليه لبسها و لا سترة عليه غيرها
فأما تكة السراويل إن كانت غصبا أو حريرا فالمنصوص عن احمد التوقف عن الإعادة إذا صلى بها فتخرج على وجهين
و قال أبو بكر و القاضي و غيرهما حكمهما حكم السراويل لأنها من مصالحه
و أما عمامة الغصب و الحرير ففيها وجهان
أحدهما لا يبطل اختاره ابن عقيل و أبو محمد لأنها ليست مما
يجب للصلاة فأشبهت خاتم الذهب
و الثاني يبطل اختاره القاضي لأنها و إن لم تكن شرطا فهي من جنس الشرط لأنها لباس و هي ملحقة في الاستحباب فألحقت به في الحكم كما تلحق اللفافة الثانية و الثالثة بالأولى في قطع النباش إذ شاركتاها في الاستحباب و إن لم تحلق بها الرابعة و الخامسة لما لم تكن مستحبة
فان لم يجد غير المغصوب فهو كما لو وجد غيره إذا كان التحريم باقيا
و أما الثوب الحرير إذا لم يجد غيره فتصح صلاته فيه لزوال التحريم
و قيل هو كالصلاة في الثوب النجس إذا لم يجد طاهرا و هذا ضعيف لأن المقتضي للفساد الحرمة و قد زالت فأشبه ما لو كان المصلي فيه امرأة أو كان قد لبسه لحكة أو جرب و أولى فان لبسه عند عدم غيره جائز إجماعا
و لو كان جاهلا بأن المكان أو الثوب محرم أما لعدم علمه بأنه مغصوب كرجل صلى في مسجد مدة أو في دار ثم علم أنه مكان
مغصوب و رجل لبس ثوبا هو حرير و هو لا يعلم أنه حرير أو لعدم علمه بأن الحرير محرم أو بان القعود في هذا المكان حرام و نحو ذلك فلا إعادة عليه هنا سواء قلنا إن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين إن تكون نجسة و هنا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة و إن وجب عليه ضمان لحق ادمي
فصل
و لا فرق في المكان المغصوب أو الثوب المغصوب بين إن يكون قد غصب الرقبة بيد قاهرة أو دعوى فاجرة و بين غصب منافعها بان يدعي إجارتها دعوى كاذبة أو يسكنها مدة بدون أذن أربابها و لا فرق بين غصب القرار وغصب الهواء مثل إن يخرج روشنا أو ساباطا في موضع لا يحل له و لا فرق بين إن يجعل المغصوب دارا أو مسجدا مثل إن يغصب أرضا فيبنيها مسجدا أو يبني المسجد في الطريق الضيقة
و لا فرق بين إن يغصب جميع البقعة أو جزءا مشاعا منها مثل إن يكون بينه و بين غيره ارض مشتركة فيغصبه حصته و كذلك لو كان بعض بدنه في موضع مباح و بعضه في موضع محرم لم تصح صلاته كما لو كان بعض موضعه طاهرا و بعضه نجسا
فإن صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة لأنها مستقر له ينتقل بانتقالها ويقف بوقوفها وان صلى على فراش مغصوب كالبساط و الحصير و المصلى ففيه وجهان
و إن صلى على سرير مغصوب ففيه وجهان أظهرهما البطلان
و إن غصب مسجدا بان حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه
على جهة أخرى أو تغيير بنيته لغير الصلاة لم تصح الصلاة فيه و إن بقاه مسجدا و منع الناس من الصلاة فيه ففيه وجهان
أحدهما تصح و هو اختيار طائفة من المتأخرين قال ابن عقيل لأنه لم يصح غصبه حكما بمعنى أنه لو تلف المسجد في مدة منعه لم يلزمه ضمانه كالحر إذا غصب و إذا لم يصح غصبه حلمت صلاته فيه و لأن صلاته فيه و لبثه فيه غير محرم و إنما المحرم منع الغير منه فيكون هذا مستثنى من غصبه إياه كما استثنيت مواقيت الصلاة في حق العبد الأبق
و الثاني لا يصح و هو قول قوي لقوله سبحانه و من اظلم ممن منع مساجد الله إن يذكر فيها أسمه و سعى في خرابها أولئك ما كان لهم إن يدخلوها ألا خائفين لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم فعاقب الله سبحانه من منع المساجد إن يذكر فيها اسم الله و سعى في خرابها بمنع العمار الذين يعمرونها بذكر الله بان حكم عليه بأنه ليس له إن يدخلها ألا خائفا فيكون هذا الغاصب ممنوعا من لبثه في هذا المسجد عقوبة على منعه الناس و استثناؤه و دخوله خائفا دليل على ثبوت المنع لأنه أما إن يكون خائفا من الله تعالى إن يعاقبه و ذلك دليل على إن دخوله سبب العقوبة فيكون حراما و أما إن يكون خائفا من الخلق بتسليط الله
إياهم عليه عقوبة له و إذا كان الله قد عاقبه بان جعله لا يدخل ألا خائفا كان دخوله سببا لحصول الخوف له و الخوف عقوبة فلا يكون الدخول إليها مأذونا فيه لأن ما أذن الله فيه لم يجعله سببا للعقوبة و لأن الله تعالى منعه إن يدخل ألا معاقبا بالخوف فعلم إن الدخول ليس مباحا مع مقامه على منع غيره لأن ما أبيح لا يشترط في الإذن فيه حصول عقوبة و لأن دخول المسجد و إن كان مباحا لكن إباحة الشيء قد تكون شرطا بالكف عن محرمات تتعلق بجنسه كما قال تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام ألا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد و انتم حرم فإنما أباح الأنعام لمن يعتقد تحريم الصيد في الإحرام فمن لم يلتزم هذا التحريم لم يكن مأذونا له في ذلك المباح من جهة الشارع فكذلك الدخول إلى المسجد يجوز إن يكون مشروطا برعاية حرمته و الكف عن منع عباد الله من بيته و ذلك إن المسجد إنما أبيح له إن يدخله بوصف الاشتراك فأما دخوله بوصف الانفراد فليس بجائز كمن منع غيره من اخذ المباحات ليأخذها هو مثل إن يمنعه عن الاحتشاش و الاحتطاب و الاصطياد ثم يأخذ ما منعه منه فان هذا حرام و إن كان مباحا لو لم يمنع غيره و كذلك لو منع الناس إن يبيعوا أموالهم ليبيع هو ماله كان بيعه حراما لأنه إنما باعه على الوجه المحرم و هو بمنزلة المكره على الشراء منه
و أيضا فمن صور هذه المسألة إذا احتجر موضعا من المسجد و منع الناس من الصلاة فيه مثل المقصورة و قد كان السلف يكرهون الصلاة في المقصورة و يرون الصف الأول الذي يلي المقصورة و لولا انهم اعتقدوا
إن دخولها مع الاحتجار منهي عنه لم ينهوا عن الصلاة في مقدم المسجد بل لما كرهت الصلاة فيها صارت كأنها ليست من المسجد فكيف يصح مع هذا إن يكون دخوله و لبثه غير محرم إذا دخل على هذا الوجه
و أما قول ابن عقيل إن المسجد لو تلف في مدة منعه لم يلزمه ضمانه فليس الأمر كذلك بل المسجد عقار من العقار يضمن بالإتلاف إجماعا و يضمن بالغصب عند من يقول إن العقار يضمن بالغصب و هو المشهور في المذهب و من لم يضمنه بالغصب لم يفرق بين المسجد و غيره و لا خلاف أنه متقوم تقوم الأموال بخلاف الحر فانه ليس بمال نعم هو يشبه العبد الموقوف على خدمة الكعبة فانه ليس له مالك معين و مع هذا فهو مضمون بالغصب بلا تردد و كذلك المال الموقوف على مصالح المسجد حكمه من هذا الوجه
مسألة و لبس الحرير و الذهب مباح للنساء دون الرجال ألا عند الحاجة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحرير و الذهب هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها
هذا الحديث رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم رواه احمد و النسائي و الترمذي و صححه و رواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنه و لفظه إن نبي الله صلى الله عليه و سلم اخذ حريرا فجعله في يمينه و اخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم رواه احمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجة
و الكلام في فصلين
أحدهما في الحرير فانه حرام على الرجال كما ذكر في الحديثين المذكورين و قد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم بتحريمه فروى عمخر وأنس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من لبس الحرير في الدنيا
لم يلبسه في الآخرة متفق عليهما و أخرجه البخاري أيضا من حديث ابن الزبير و مسلم من حديث أبي أمامة و عن حذيفة بن اليمان و البراء بن عازب إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لبس الحرير و الديباج متفق عليهما و يحرم بيعه من رجل يلبسه و الإعانة على لبس الرجل إياه بتفصيل أو تخييط أو غير ذلك و الثمن و الأجرة التي تؤخذ عليه بهذا السبب من الخبائث
فأما بيعه مطلقا فيجوز إذا أمكن إن يلبسه رجل و امرأة و كذلك صنعته على وجه يشترك في لبسه الرجال و النساء مثل البندك
و أما النساء فيباح لهن لبسه للحديث المذكور و لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال أهديت للرسول صلى الله عليه و سلم حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال إني لم ابعث بها إليك لتلبسها
إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء متفق عليه و عن ابن عمر رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي بحلل فبعث إلى أسامة بن زيد بحلة فراح أسامة في حلته فنظر إليه نظرا عرف أنه قد أنكر ما صنع فقال أسامة يا رسول الله ما تنظر إلى بعثت بها إلى فقال لم ابعثه بها إليك لتلبسها و لكن بعتها لتشققها خمرا بين نسائك رواه مسلم
و من حرم عليه لبسه حرم عليه سائر وجوه الاستمتاع به مثل الجلوس عليه و الاستناد إليه و تعليقه ستورا فان لفظ اللباس يشمل ذلك بدليل قول انس و لنا حصير قد اسود من طول ما لبس و قد جاء ذلك صريحا فروى أبو إمامة أنه دخل على خالد بن يزيد فألقى له وسادة فظن أبو إمامة أنها حرير فتنحى و قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله رواه احمد و عن حذيفة بن اليمان قال نهانا النبي صلى الله عليه و سلم إن نشرب في آنية الذهب و الفضة و إن نأكل فيها و عن لبس الحرير
و الديباج و إن نجلس عليه رواه البخاري و عن البراء بن عازب إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المياثر الحمر متفق عليه و رواه الترمذي و لفظه نهى عن ركوب المياثر
و المياثر المراكب التي تكون على الرحل و السرج سميت مياثر لدثارتها و ليها و منه الوثر و الوثير و هو الفراش الطوىء
قال أبو عبيد و أما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير
و عن علي بن أبي طالب قال نهاني يعني النبي صلى الله عليه و سلم عن لبس القسي و عن الجلوس على المياثر و المياثر شيء كان يجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان رواه مسلم و لأن تحريمه إنما هو و الله اعلم لما فيه من السرف و الفخر و الخيلاء و نحو ذلك وذلك موجود في لبسه على البدن و في افتراشه و جعله ستورا بل ربما كان ذلك بغير اللبس اعظم ألا أنه ارخص فيه للنساء لأن بهن حاجة إلى التزين للبعولة في الجملة كما ارخص لهن في التحلي بالذهب و كما ارخص لهن في إطالة الثياب لمصلحة الستر و لأنهن خلقن في الأصل ناقصات
محتاجات إلى ما يتجملن به و يتزين قال سبحانه أو من ينشأ في الحلية و هو في الخصام غير مبين و يباح لهن افتراشه و الاستناد إليه كما يباح لهن لبسه على أبدانهن في المشهور من المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا
قال ابن عقيل لا يباح ذلك لأن حاجة المرأة إنما هي إلى لبسه على بدنها دون افتراشه و توسده و لأنه أحد المحرمين فلم يبح للنساء منه ألا ما تبع أبدانهن كالذهب
و وجه الأول عموم أحاديث الرخصة و لأن ذلك كله لباس و قد أبيح لهن لباس الحرير
فصل
و ما يحرم على الرجال فانه عام في حق الكبير و الصغير في المشهور من الروايتينو في الأخرى لا بأس بإلباسه الصبي لأنه غير مكلف و لأنه ضعيف العقل فأبيحت له الزينة كالمرأة كما يباح له من اللعب ما لا يباح للبالغ بحيث لا يمنع منه
و وجه الأول عموم النهي فانه قال حرام على ذكور أمتي و لم يفرق بين الكبير و الصغير و معنى التحريم في الصغير أنه يمنع منه كما يمنع من شرب الخمر و من الكذب و غير ذلك من المحرمات و إن كافله يأثم بتمكينه من ذلك و إن لكل واحد ولاية منعه من ذلك لأنه من باب النهي عن المنكر و لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال كنا ننزعه عن الغلمان و نتركه على الجواري رواه أبو داود
و معلوم انهم إنما يفعلون هذا مفرقين هذا التفريق بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم لا يقدمون على نزع لباس كانوا يلبسونه أولادهم ثم ينزعونه عن أحد الصنفين دون الآخر ألا عن توقيف و أيضا كما روي إن عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر و معه ابنه محمد عليه قميص من حرير فادخل عمر يده في جيبه فشقه فقال عبد الرحمن بن عوف فزعت الصبي أطرت قلبه فقال عمر تلبسونهم الحرير و عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود فاتاه ابن له صغير و قد ألبسته أمه قميصا من حرير و هو معجب به فقال له يا بني من ألبسك قال أمي قال أدنه فدنا منه فشقه ثم قال اذهب إلى أمك فلتلبسك ثوبا غيره و عن
سعيد بن جبير قال قدم حذيفة من سفر و على صبيانه قمص من حرير فمزقه على الغلمان و تركه على الجواري رواهن الخلال و هذا كله دليل على انهم فهموا من الحديث عموم التحريم في الرجال و عمر و حذيفة من رواة حديث التحريم فهم اعلم بمعنى ما سمعوا و لأن ذلك إجماع منهم فانه لم يبلغنا أحدا منهم ارخص فيه و عبد الرحمن لم يخالف عمر في إنكاره عليه إلباسه الحرير بل اقره على إنكاره عليه إلباسهم الحرير و إنما قال له أفزعت الصبي فعلم أنه وافق عمر على إن الصبيان ممنوعون من لبس الحرير و إن ذلك الإلباس أما يكون من فعل النساء و يكون عبد الرحمن لم يكن سمع النهي و قد روي أنه قاس ابنه على نفسه لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان قد ارخص له في لبس الحرير للحكة فقال له عمر أنه ليس مثلك و هذا دليل على إن أحدا منهم لم يفرق بين الصغير و الكبير و لأن تزيين الغلام بما تزين به الجارية ليس بجائز لأنه ليس محلا للشهوة بل يجب صونه عما يشبه به النساء و يصير به بمنزلة المخنث فإن ذلك سبب لاعتياده التشبه بالنساء و تخنيثه إذا كبر و ربما كان سببا للفتنة به إلى غير ذلك من المفاسد
و أما إلباسه الذهب فالمنصوص عنه فيه التحريم لكن أصحابنا اجروا فيه الروايتين لعدم الفرق بينه و بين الحرير
فصل
و يباح لبس الحرير و هو ما كان أربع أصابع مضمومة إذا كان تابعا لغيره مثل العلم و الرقعة في الثوب و لبنة الجيب الذي تسميه العامة الزيق و سجف الفراء و غيرها و الإزرار و كف الأكمام و الفروج به و طرف العمامة هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة جواباته
و قد روي عنه كراهة العلم لأن ابن عمر كان ينزعه من الثوب قال و هو اسهل من المصمت قال الخلال ذكر حنبل عن أبي عبد الله العلم في موضعين أحدهما توقف فيه و الآخر أباحه على رواية أصحابه و هو إجماع التابعين و ذلك لما روى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن لبس الحرير ألا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة رواه الجماعة ألا البخاري و في لفظ احمد و أبي داود و أشار بكفه و ذلك إنما
يكون إذا كانت مضمومة فإنها إذا فرقت كان موضعها اكثر من أربع أصابع لأجل الفرج و عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها أخرجت جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني و فرجيها مكفوفين به فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يلبسها كانت عند عائشة فلما قبضت عائشة قبضتها إلى فنحن نغسلها للمريض يستشفي بها رواه احمد و مسلم و هذا لفظ احمد و في رواية قالت يا جارية ناوليني جبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخرجت جبة طيالسة مكفوفة الجيب و الكمين و الفرجين بالديباج رواه أبو داود و ابن ماجة و عن معاوية بن أبي سفيان إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لبس الحرير ألا مقطعا رواه احمد
فأما اليسير المفرد كالتكة و الشرابة و المنطقة و الخيط و نحو ذلك فيحرم في المنصوص لأنه نهى عن الحرير ألا مقطعا و المقطع المفرق في غيره و كذلك قوله عليه السلام ألا موضع إصبعين او ثلاثة أو أربعة يدل على أنه موضوع في غيره و لأنه قرن الحرير بالذهب و الذهب يحرم
منفردا فكذلك الحرير و لأن الذهب و الفضة في الآنية و الذهب في اللباس إنما يباح يسيره إذا كان تابعا فكذلك يسير الحرير لأن هذه الأشياء تجتمع في السرف و الفخر و الخيلاء
و لو لبس ثيابا في كل ثوب حرير يسير بحيث لو جمع ما في جميعها صار ثوبا جاز ذلك و إن لم يجز لبس ذلك الحرير لو جمع و نسج ثوبا على حده لأن هذا هو معنى قوله نهى عن لبس الحرير ألا مقطعا فانه إذا فرق في الثياب صار مقطعا لأن كل ثوب له حكم نفسه
فصل
فان نسج مع الحرير غيره كالقطن و الكتان و الوبر و الصوف و نحو ذلك فالذي ذكره اكثر المتأخرين من أصحابنا القاضي و أصحابه و من بعدهم أنه إن كان الحرير هو الغالب حرم و إن كان الحرير هو الأقل جاز قال بعضهم قولا واحداو إن استويا فوجهان
أحدهما يحرم أيضا و هو أشبه بكلام احمد لأن الرخصة إنما جاءت في اليسير الذي هو مقدار أربعة أصابع و في الخز فألحقنا بذلك ما إذا كان الحرير هو الأقل لأن الحكم للأكثر أما إذا تتساويا فأحاديث التحريم تعمه و لم يجيء فيه رخصة و لأنه قد تعارض المبيح و الحاظر فغلب الحاظر كالمتولد من بين ما يؤكل وما لا يؤكل
و الآخر يكره و لا يحرم لما روى ابن عباس قال إنما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الثوب المصمت من الحرير قال ابن عباس فأما العلم من الحرير و سدى الثوب فلا بأس به رواه أبو داود وأحمد احتج به و لأنه قد تعارض الحاظر و المبيح فيرجع إلى الأصل و هو الحل و إذا شككنا هل هو من القسم المباح أو القسم المحرم كره لبسه و لا يثبت التحريم بالشك
و جعل بعض المتأخرين من أصحابنا الملحم و القنسي و الخز من صور الوجهين و جعل التحريم قول أبي بكر لأنه حرم الملحم و القسي
و الإباحة قول ابن البناء لأنه أباح الخز و هذا مع إن أبا بكر قال
و يلبس الخز و لا يلبس الملحم و لا الديباج و قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن لبس القسي و عن الحرير و الذهب
و أما المنصوص عن احمد و قدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم و غيره و هذا اكثر في كلامه قال اكره لباس الملحم للرجال فأما الخز فلا بأس به الخز ثخين يلي الجلد و الحرير لا يكاد يستبين من تحته و قال أيضا يكره لباس الملحم ألا الخز فانه على جلده الخز و قال لا يعجبني ألا الخز قد لبسه القوم و أما هذا الملحم المحدث فما يعجبني و سئل في موضع آخر عن الثوب سداه حرير و لحمته قطن فقال هذا يشبه بالخز لأن الخز سداه حرير و هو الذي لبسه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
و كره هذا لأن سداه قطن و هو محدث و كذلك ذكر أبو بكر و عامة قدماء الأصحاب إن الخز الذي لبسته الصحابة رضوان الله عليهم مباح و كرهوا الملحم و غيره و صرحوا بأن هذه كراهة تحريم فمن زعم إن في الخز خلافا فقد غلط
و الأصل في إباحة الخز ما روى عبد الله بن سعد عن أبيه قال رأيت رجلا نجارا على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال كسانيها
رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود و قد صح عن خلق من الصحابة انهم لبسوا الخز و ارخصوا فيه منهم عبد الرحمن بن عوف و أبو قتادة و عمران بن حصين و عائشة و الحسن بن علي و أبو هريرة و ابن عباس و ابن الزبير و ابن عمر و ابن أبي أوفى و انس بن مالك و أبو أبي الأنصاري ابن أم حرام و وابصة و مروان في أوقات متفرقة و لم ينكر ذلك أحد فصار إجماعا فثبت إباحة الخز و هو الذي يكون سداه حريرا و لحمته وبرا أو صوفا و نحوه وكذلك في حديث ابن عباس فأما العلم من الحرير وسى الثوب فلا بأس و قد احتج به احمد
و إنما كرهنا الملحم لعموم أحاديث التحريم و إنما استثني منها ما استثني و ليس في الملحم معناه كما سيأتي و لإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن
لبس القسي والقيسي ثياب مخلوطة بحرير قال البخاري في صحيحة قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي ما القسي قال ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير أمثال الاترج و قال أبو عبيد و جماعة من أهل اللغة و الحديث ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير قال بعضهم هو ضرب من ثياب كتان مخلوط بحرير يؤتى بها مصر نسبة إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس و يقال القسي القزي ابدلت الزاء سينا كما يقال السمته الحجة أي ألزمته الحجة و قيل هو منسوب إلى القسي و هو الصقيع لبياضه و نسبتها إلى المكان هو قول الخليل بن احمد و غيره فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير و ليست حريرا مصمتا و هذا ليس هو الملحم و أيضا فان الخز أخف من وجهين
أحدهما إن سداه حرير و السدى ايسر من اللحمة و هو إلذي بين ابن عباس جوازه بقوله فأما العلم من الحرير و سدى الثوب فلا بأس به
و الثاني إن الخز الثخين و الحرير مستور فيه بين الوبر فيصير الحرير بمنزلة الحشوة و يصير الذي يلي الجلد و يظهر هو الوبر و معلوم إن الحرير الباطن ليس بمنزلة الحرير الظاهر إذ ليس في الباطن سرف و لا فخر و لا خيلاء و لهذا كان الصحيح جواز حشو الجلباب و الفرش به و قد ذكر احمد
رضي الله عنه هذين الفرقين فإذا كان الحديث عاما في التحريم بل خاصا في الملحم و إنما أبيح الخز لم يجز إن يلحق به ألا ما في معناه فعلى هذا كل ما سوى الخز من الملحم يكره لذلك و الخز ما كان لحمته من الوبر و نحوه مما له ثخانة تغطي الحرير فتكون الرخصة معلقة بكون السدى حريرا و كون اللحمة من الوبر و نحوه
و قال القاضي الملحم هو الذي سداه حرير و لحمته غزل أو لحمته حرير و سداه غزل و الخز ما كانت لحمته أو سداه خزا فجعل الاعتبار بنفس ما ينسج مع الحرير من غير فرق بين السدى و اللحمة لأن احمد علل بثخانة الخز و أنه يلي الجلد و الحرير لا يكاد يستبين من تحته
و عنه إن كان السدى حريرا حل مطلقا على ما رواه صالح لحديث ابن عباس
ثم كراهة الملحم كراهة تحريم ذكره القاضي و غيره و قال غيره من أصحابنا هي كراهة تنزيه ألا إن يكون المنسوج مع الإبريسم اكثر و قد روي عن معاوية عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تركبوا الخز و لا النمار رواه أبو داود و في حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير و الخمر و المعازف و لينزلن
أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم رجل فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله و يضع العلم و يمسخ آخرين قردة و خنازير إلى يوم القيامة رواه البخاري بلفظ الحر ورواه أبو داود
قال أصحابنا و هذا محمول على خز كثير حريره أو نوع من الحرير يسمى خزا كما يسمى قزا قال بعض أصحابنا الذي يسميه الناس اليوم الخز هو ما يعملونه من سقط الحرير و مشاقته و التبر الذي يلقيه الصايغ من فمه من تقطيع الطاقات فيدقونه كالقطن ثم يغزلونه و يعملونه ثيابا و هذا حكمه حكم الحرير فظهر بهذا إن الخز اسم لثلاثة أشياء للوبر الذي ينسج مع الحرير و هو وبر الأرانب و اسم لمجموع الحرير و الوبر و اسم لرديء الحرير فالأول و الثاني هو الحلال و الثالث حرام
و أما حشو الثياب و الفرش بالحرير فالمشهور من الوجهين أنه مباح من غير كراهة لأنه لا يستبين و لا يستمتع به و ليس فيه سرف والوجه الأخر يحرم
فصل
و إذا احتاج إلى لبس الحرير لدفع حر أو برد أو ستر عورة أو تحصن
من العدو و لم يقم غيره مقامه أبيح قولا واحدا لأنه إذا أبيح للنساء لعموم حاجتهن إليه للزينة فلان يباح عند الضرورة أولى فان الضرورة الخاصة ابلغ من الحاجة العامة و لأنه إذا اضطر إلى ما حرم من الأطعمة أبيح له فكذلك المحرم من اللباس لأنهما يشتركان في الاضطرار
و إن احتاج إليه لمرض أو حكة يرجى نفع الحرير و تأثيره فيه ففيه روايتان
إحداهما لا يباح لعموم أحاديث النهي و لأنه تداو بمحرم يشتهى فأشبه التداوي بالخمر وتحمل إباحة النبي صلى الله عليه و سلم للزبير و عبد الرحمن على تخصيصهما بذلك لعلمه بانتفاء مفسدة اللبس في حقهما كما شهد لأبي بكر أنه ليس ممن يجر ثوبه خيلاء
و الثانية يباح و هي الصحيحة لما روى انس بن مالك رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه و سلم رخص للزبير بن العوام و عبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير من حكة كانت بهما رواه الجماعة و ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع ألا ما خص مع إن أحدا لم يخص بحكم ألا لسبب اختص به و هنا لم يختصا بالسبب لأن الحكة هي السبب و هي
تعرض لغيرهما كما عرضت لهما و لأن النساء ارخص لهن في لبسه للحاجة إلى التزين به فالحاجة إلى التداوي أولى بخلاف الخمر فإنها محرمة مطلقا على كل أحد و في كل حال و قد حرم قليلها و كثيرها
فصل
و في لبسه في الحرب روايتانإحداهما يحرم للعمومات فيه و لأنه يحرم في غير الحرب فحرم في الحرب كالذهب
و الأخرى يباح و هي أقوى لما روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت كانت عندي للزبير ساعدان من ديباج كان النبي صلى الله عليه و سلم أعطاهما إياه يقاتل بهما رواه احمد و روى وكيع بإسناده قال قال ناس من المهاجرين لعمر بن الخطاب إنا إذا لقينا العدو و أريناهم قد كفروا على سلاحهم بالحرير و الديباج فرأينا لذلك هيبة فقال عمر و انتم إن شئتم فكفروا على سلاحكم بالحرير و الديباج و لأن في ذلك إرهابا للعدو و كسرا لقلوبهم و إظهارا لأبهة جيش الإسلام فجاز ذلك و إن كان
فيه اختيال لأن الاختيال عند القتال غير مكروه لما روى جابر بن عتيك إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن من الخيلاء ما يحب الله و منها ما يبغض الله فالخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل في القتال و اختياله في الصدقة و الخيلاء التي يبغض الله الخيلاء في البغي أو قال في الفخر رواه احمد و أبو داود و النسائي و قد قال صلى الله عليه و سلم لأبي دجانة لما اختال يوم أحد أنها لمشية يبغضها الله ألا في هذا الموطن و قد ذكر بعض أصحابنا إن الروايتين في لبسه في دار الحرب و ذلك اعم من لبسه وقت الحرب
فصل
و لا بأس إن يوضع المصحف في كيس حرير أو ديباج نص عليه في مواضع قال القاضي
و المسألة محمولة على إن ذلك قدر يسير فلا يحرم استعماله كالطراز و الذيل و الجيب
و الصواب إقرار النص على ظاهره لأن الكيس إنما يكون اكثر من أربع أصابع و ذلك كثير و لأنه مفرد و لا فرق في المفرد بين اليسير و الكثير
كالتكة و إنما وجه ذلك إن المحرم إنما هو لباس الحرير و الاستمتاع به و وضع المصحف فيه إنما هو جعله لباسا للمصحف و وعاء له ليصان و يحفظ و ما شرع له الكسوة من شعائر الله جاز إن يكسى الحرير كالكعبة و أولى و لأن لباس الحرير إنما يكره للآدمي لما فيه من العظمة و السرف و هذا امر مطلوب لكتاب الله و بيته
و الفرق بين هذا و بين الزخرفة إن الكسوة فيها منفعة للبيت و المصحف فإذا حصلت باشرف الثياب كان ذلك تعظيما لحرمات الله بخلاف الزخرفة فانه لا منفعة فيها بل تلهي المصلين
الفصل الثاني
في الذهب و هو قسمانأحدهما لبسه
و الثاني التحلي به
أما لبسه فيحرم على الرجال لبس المنسوج بالذهب و المموه به إذا كان كثيرا لما تقدم من حديث علي و أبي موسى رضي الله عنهما و لأنه ابلغ في السرف و الفخر و الخيلاء من الحرير و الحاجة إليه اقل فيكون أولى بالتحريم
و إذا استحال لونه ففيه وجهان
أحدهما يحرم لعموم النهي
و الثاني لا يحرم لأنه قد زالت مظنة الفخر و الخيلاء
فإنه لم يحصل منه شيء إذا جمع أبيح قولا واحدا
و في يسير الذهب في اللباس مثل العلم المنسوج بالذهب روايتان مومىء إليهما
إحداهما يحرم و هو اختيار كثير من أصحابنا لعموم النهي و لأنه استعمال للذهب فحرم كاليسير في الآنية
و الثانية لا يحرم و هي اختيار أبي بكر و غيره لما روى معاوية بن أبي سفيان إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لبس الذهب ألا مقطعا رواه احمد و أبو داود و النسائي و احتج به احمد و فسر قوله ألا مقطعا باليسير و لأنه أحد الأصناف الثلاثة فحل منه اليسير التابع لغيره كيسير الحرير و يسير الفضة في الآنية
و الفرق بين يسير الذهب في الآنية و يسيره في اللباس و نحوه ظاهر لأن الآنية تحرم من الفضة و من الذهب على الرجال و النساء و اللباس يباح للنساء من الذهب و الفضة مطلقا و يباح للرجال يسير الفضة منه مفردا كالخاتم و نحوه و لا يصح إلحاق أحدهما بالآخر
و عنه رواية ثالثة أنه يباح اليسير لحاجة سواء كان مفردا أو تابعا و لا
يباح للتزين و هي المنصوصة عنه صريحا و كذلك ذكر القاضي في اللباس قال في رواية صالح و عبد الله و أبي طالب و أبي الحارث و اللفظ له إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لبس الذهب ألا مقطعا قال الشيء اليسير كشد أسنانه و ما كان مثله مما لا يتزين به الرجل فأما الخاتم و نحوه فلا و ذلك لانه قد دل ذلك على إن القطع من الذهب و هو اليسير منه مباح مطلقا لكن لا بد إن يكون لحاجة لأنه قد دلت النصوص على تحريم خاتم الذهب و نحوه
و عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم إن النبي صلى الله عليه و سلم قال من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة رواه احمد و هذا نهي عن التحلي بقليل الذهب مطلقا و مفهومه يدل على أنه لا يحرم
منه ما ليس بتحلي
القسم الثاني التحلي به فيحرم على الرجل إن يتحلى بالذهب المفرد كالخاتم و السوار و نحو ذلك لما تقدم من قوله عليه السلام هذان حرام على ذكور أمتي و لما روى البراء بن عازب و أبو هريرة رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن خاتم الذهب و عن ابن عمر رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه و سلم اتخذ خاتما من ذهب فجعله في يمينه و جعل فصه مما يلي باطن كفه فاتخذ الناس خواتيم الذهب قال فصعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر فألقاه و نهى عن التختم بالذهب متفق عليهن و جاء ذلك من عدة وجوه و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة
قال أبو زيد الأنصاري يقال ما عليها خر بصيصة أي شيء من الحلي
فأما التابع من الذهب فيباح من حلية السيف مثل القبيعة نص عليه
و عنه ما يدل على المنع لما تقدم
و الأول أصح لما روى مزيدة العصري قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح و على سيفه ذهب و فضة قال الراوي كانت قبيعة السيف فضة رواه الترمذي و ذكر احمد أنه كان لعمر بن الخطاب سيف فيه سبائك من ذهب و كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار ذهب
ثم من أصحابنا من لا يبيح ألا القبيعة قال ابن عقيل قال أصحابنا هذا في القبيعة فإما تحلية جوانبه و حمائله و منطقته بالذهب فلا يباح لأن القياس المنع مطلقا و المنصوص عن احمد الإباحة في القبيعة و غيرها من حلية السيف مثل المسمار فيه و السبائك للأثر في ذلك و لعدم الفرق
و أم تحلية غير السيف ففيه ثلاثة اوجه موميا إليها في كلامه
أحدها و هو قول القاضي و اكثر أصحابه مثل ابن عقيل و أبي الخطاب لا يباح لأن العموم و القياس يقتضي التحريم مطلقا و إنما خص من ذلك السيف للأثر فيبقى الباقي على الأصل
و الثاني و هو قول أبي بكر و غيره أنه يباح التحلي باليسير منه مطلقا
إذا كان على وجه التبع كما تقدم في اللباس و أولى
و الثالث أنه يباح في السلاح دون غيره قال الامدي فأما استعمال الذهب في سلاحه كالمسمار في السيف و السبائك فيه و قبيعة السيف و نعله فيجوز و هذا أبين في كلام احمد قال في رواية الاثرم و إبراهيم بن الحارث في الفص يخاف إن يسقط يجعل فيه مسمار من ذهب قال إنما رخص في الأسنان يعني و ما كان لضرورة قيل له قد كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب قال ذاك الآن سيف و ذلك لأن المقصود من السلاح قتال العدو و إرهابه فجاز إن يحلى بما يفيد إرهاب العدو و خيلاء المسلم تكميلا لهذا المقصود و لذلك جاز لبس الحرير حين القتال و لأن اللت و نحوه في معنى السيف على هذا القول فيخرج فيه وجهان كالفضة
أحدهما الجواز و هو قول الامدي ذكره في المنطقة و في حمائل السيف
و الثاني المنع قاله جماعة و حكاه القاضي عن احمد
و سائر مسائل التحلي في الزكاة
مسألة و من صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه اجزأه ذلك
أما الصلاة في ثوب واحد إذا ستر عورته و منكبيه فلا بأس بها لما روى جابر إن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في ثوب واحد متوشحا به متفق عليه و قال عمر بن أبي سلمة رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي في ثوب واحد متوشحا به قد ألقى طرفيه على عاتقيه رواه الجماعة لكن الأفضل إن يصلي في ثوبين لما روى أبو هريرة قال قام رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلكم يجد ثوبين رواه الجماعة ألا الترمذي زاد البخاري ثم سأل رجل عمر فقال إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى في إزار و رداء في إزار و قميص في إزار و قباء في سراويل و رداء في سراويل و قميص في سراويل و قباء في تبان و قباء في تبان و قميص قال و احسبه قال في تبان و رداء و هذا يدل على إن
عادته كانت الصلاة في ثوبين و يدل على إن الإذن في الثوب الواحد إنما وقع رخصة و ذلك لأن المقصود من اللباس التزين لله في الصلاة و لذلك جاء باسم الزينة في القران و لهذا كان تميم الداري قد اشترى حلة بألف درهم فكان يصلي فيها بالليل و قال نافع راني ابن عمر و إنا اصلي في ثوب واحد فقال ألم اكسك قلت بلى قال ارأيتك لو بعثتك في حاجة كنت تذهب هكذا قلت لا قال الله أحق إن تزين له رواه ابن بطة و يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم فالله أحق إستحياء منه
و يستحب له أيضا تخمير الرأس بالعمامة و نحوها لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي كذلك و هو من تمام الزينة و الله تعالى أحق من تزين له و قد روي عن ركانة بن عبد يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فرق ما بيننا و بين المشركين العمائم على القلانس رواه أبو داود و الترمذي و قال غريب و ليس إسناده بالقائم و عن أبي المليح قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتموا تزدادوا حلما رواه هشام بن عمار و هو مرسل و قد روى أبو حفص مرفوعا صلاة بعمامة أفضل من سبعين صلاة بغير عمامة إن الله
و ملائكته يصلون على المتعممين
و الاستحباب كذلك في حق الإمام اوكد نص عليه لأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاته و هو أحد المصلين و متقدمهم و هم ينظرون إليه و يقتدون به و لهذا كان استحباب التزين في الجماعات العامة مثل الجمعة و العيد و نحو ذلك اوكد
فصل
و إذا صلى في ثوبين فافضل ذلك ما كان اسبغ و هو القميص و الرداء ثم القميص مع السراويل ثم القميص مع الإزار ثم الرداء مع الإزار ثم الرداء مع السراويلو إنما استحببنا مع الرداء الإزار لأنه كان عادة الصحابة و لأنه لا يحكي تقاطيع الخلقة و استحببنا السراويل مع القميص لأنه استر و لا يحكي الخلقة مع القميص و قد روي عن ابن عباس قال لما اتخذ الله إبراهيم خليلا قيل وار من الأرض عورتك فاتخذ السراويلات و رواه أبو محمد الخلال مرفوعا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إبراهيم الخليل إذا صلى ذكر كلمة فكره له ربي عز و جل ذلك
فبعث جبريل فأتى بثوب فقطعه سراويل فأعطاه و خيطه و لبسه إبراهيم فقال ما استر هذا و أحسنه
و عن أبي إمامة قال قلنا يا رسول الله إن أهل الكتاب يسرولون و لا يأتزرون قال تسرولوا و اتزروا و خالفوا أهل الكتاب رواه حرب و القميص وحده افضل من الرداء لأنه استر و أوسع قالت أم سلمة كان احب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم القميص رواه احمد و أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن و الإزار وحده افضل من السراويل وحده لما تقدم
فصل
و أما إذا جرد منكبيه مع قدرته على سترتهما فلا تصح صلاته في الجملة نص عليه في مواضع و نص على أنه إذا ستر منكبا و أبدى الآخر له كره ذلك و نص في موضع على أنه لا إعادة عليه فمن أصحابنا من
اقر النص على ظاهره و قال تصح صلاته إذا ستر أحدهما دون ما إذا جردهما
و منهم من قال لا تصح حتى يسترهما لإطلاقه الكراهة لذلك و جعل النص الثاني رواية أخرى أنه تصح الصلاة بدون الستر مطلقا مع القول بوجوبه كما قالوا في المواضع المنهي عنها ومنهم من جعل الروايتين في وجوب ستر المنكبين
ثم إذا قلنا بوجوبه ففي صحة الصلاة بدونه روايتان
و عنه رواية أخرى أنه لا يكره كشف أحد المنكبين أصلا بناء على إن ذلك هو اشتمال الصماء لأنه ليس بعورة و لا يجب ستر مخارج الصلاة فأشبه الرأس
و المذهب أنه لا تصح الصلاة مع تجريد المنكبين لقوله سبحانه خذوا زينتكم عند كل مسجد و ما يستر المنكبين داخل في مسمى الزينة شرعا و عرفا فانه يفهم من ذلك ا ن لا يكون عريانا و إنما يزول التعري بستر المنكبين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء رواه البخاري و رواه مسلم و قال على عاتقيه
و عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن يصلى في لحاف لا يتوشح به و إن تصلي في سراويل ليس عليك رداء رواه أبو داود و هذا يدل على تحريم تجريد المنكبين في الصلاة و فساد الصلاة معه و عن سهل بن سعد قال كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه و سلم عاقدي أزرهم على أكتافهم كهيئة الصبيان و يقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا متفق عليه و عن جابر و أبي سعيد إن النبي صلى الله عليه و سلم قال يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر رواه احمد و لولا إن ستر المنكب واجب لم يكونوا يحافظون عليه مع ضيق الأزر و خوف بدو العورة و لوجب تكميل ستر العورة حتى يؤمن النظر إليها و لأن المقصود من الاستتار في الصلاة التزين لله بدليل أنها تجب حيث يجوز الكشف خارج الصلاة فان المرأة الحرة يجوز لها إن تقعد في بيتها مكشوفة الرأس و كذلك بين النساء و لا تجوز صلاتها ألا مختمرة و كذلك يجوز للإنسان إن ينظر إلى عورة نفسه و لا تصح صلاته كذلك و في إبداء المنكبين خروج عن التزين مطلقا و لهذا لم تجر العادات الحسنة بأن أحدا يجالس في مثل هذا الحال و لا إن
يكشفه بين الناس و الرأس بخلاف ذلك و لأن من جرد منكبيه يسمى عاريا و إن كان مختمرا و من سترهما مع عورته سمي كاسيا و إن كان بلا عمامة و التعري مكروه بين الناس لغير حاجة فجاز إن يكون شرطا في الصلاة و لهذا لم يشرع التعري ألا في الإحرام و إنما شرع كشف الرأس خاصة و نهيه صلى الله عليه و سلم إن يطوف بالبيت عريان يعم تعرية المنكبين و تعرية السوءتين
إذا ثبت هذا فإنما كرهنا كشف أحدهما أيضا لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اشتمال الصماء و معناها إبداء المنكبين كما سيأتي إن شاء الله تعالى و قرن بين إشتمال الصماء و بين الاحتباء في ثوب واحد فعلم إن كشف المنكب يشبه كشف السوءة ثم من قال من أصحابنا لا يجوز كشف واحد منهما احتج بذلك و بظاهر قوله ليس على عاتقيه منه شيء و لأنه أحد المنكبين فوجب ستره كالآخر و لقوله عليه السلام إذا كان الثوب واسعا فالتحف به و في لفظ تتعاطف به على منكبيك ثم صل و نهيه إن يصلي في لحاف لا يتوشح به و إن يصلي في سراويل
ليس عليك رداء و هذا امر بستر المنكبين
و من فرق على المنصوص قال النهي إنما جاء إن يصلي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء أو على عاتقيه فمتى ستر أحدهما فقد صار على عاتقه منه شيء وجاز أن يقال على عاتقيه منه شيء و إن كان على أحدهما كما قال تعالى و جعل القمر فيهن نورا و هو في إحداهن و قال سبحانه يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان و إنما يخرج من الملح وحده
فصل و الواجب ستر المنكب عند القاضي و غيره من أصحابنا لأمره بالتوشح
والتعاطف و الارتداء فان ذلك يقتضي السترو قال كثير منهم إذا ترك على منكبيه شيئا و لو خيطا أو حبلا أجزأ لقوله ليس على عاتقه منه شيء و قال إبراهيم النخعي كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم يجد أحدهم ثوبا يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالا ثم صلى و قال أيضا السيف بمنزلة الرداء كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلون في سيوفهم رواهما سعيد في سننه و قال بعضهم إن وضع
على عاتقه شيئا من اللباس الذي يصلح لستر أجزأه ولو كان يصف البشرة أو كان لا يستوعب العاتق فأما ما لا يقصد به الستر كالحبل والخيط فلا يجزيه
فصل ويصح النفل مع إبداء المنكبين في اشهر الروايتين
والأخرى لا يصح كالفرض لعموم الحديث ولان باب الزينة واللباس لا يفترق فيه الفرض والنفلووجه الأول إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي في الليل بالثوب الواحد بعضه على أهله والغالب إن الثوب لا يكفي لذلك مع لستر المنكبين ولان النفل يجوز قاعدا أو راكبا موميا كل ذلك تسهيلا لطريقه والعادة إن الإنسان في بيته قد يكون عاري المنكبين بخلاف الفرض فانه يشترط له اكمل الأحوال و أفضلها
فصل ويستحب للمرأة إن تصلي في ثلاثة أثواب درع وخمار وجلباب تلتحف به أو إزار تحت الدرع أو سراويل فانه افضل من الإزار لما روي عن ابن عمر أنه قال تصلي المرأة في الدرع والخمار والملحفة رواه حرب وعن عائشة أنها كانت تقوم إلى الصلاة في الخمار والإزار والدرع فتسبل الإزار فتجلبب به وكانت تقول ثلاثة أثواب لابد للمرأة منها في الصلاة إذا وجدتها الخمار والجلباب والدرع رواه سعيد و ذكر إسحاق عن ابن عمر أنها كانت تصلي في درع و خمار و إزار تحت الدرع و يذكر في الحديث يرحم الله المتسرولات و لا تضم ثيابها في حال قيامها لئلا يبدو تقاطيع خلقها
مسألة فان لم يجد ألا ما يستر عورته سترها
هذه المسألة لها صورتان
إحداهما ان لم يجد إلا ثوبا يستر عورته فقط أو منكبيه فقط فانه يستر العورة و يصلي قائما عند كثير من أصحابنا
و قال القاضي و طائفة بل يستر المنكبين و يصلي جالسا موميا لأن نص احمد في الصورة الثانية يدل على إن ستر المنكبين مع ستر العورة بالقعود أولى من ستر العورة فقط و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى إن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء و لم يفرق فمتى ستر العورة به فقد ارتكب النهي
و حمل أبو بكر والقاضي الأحاديث التي تخالف ذلك على النافلة فان ستر المنكب فيها ليس بواجب و هذا لأن ستر المنكب لا بدل له و ستر العورة له بدل و هو الجلوس بالأرض و ضم فخذيه على عورته
و الأول اصح لما روى جابر بن عبد الله إن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا صليت في ثوب واحد فان كان واسعا فالتحف به و إن كان ضيقا فاتزر به متفق عليه و في رواية لأحمد إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل و إذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء و لأن ستر العورة أولى لأنها اغلظ و افحش و هو مجمع على وجوبه
و واجب داخل الصلاة و خارجها في الفرض و النفل و ستر جميعها واجب اتفاقا بخلاف المنكب و لأنه إذا ستر المنكب فوت القيام و ستر العورة المخففة و تكميل الركوع و السجود و لا يفوت بستر العورة ألا ستر المنكب فقط و معلوم إن هذا أخف فيكون التزامه متعينا
الصورة الثانية إن يستر الثوب منكبيه و عجيزته أو عورته فالمنصوص هنا إن يستر منكبيه و عجيزته و لا يقتصر على عورته فمن أصحابنا من قال بذلك هنا و فرق بين هذه الصورة و التي قبلها لأنه هنا إذا ستر عجيزته و قعد لم يبق من عورته شيء ظاهر ألا اليسير الذي يعفى عنه من أفخاذه و لم يفته ألا القيام و لأنه يتمكن من الركوع و السجود بالأرض و يحصل له ستر المنكبين و هو واجب و الستر الواجب مقدم على القيام كما سيأتي
و ستر المنكب و إن سقط في النفل كما يسقط القيام لكن السقوط القيام فيه ثابت بالنص والإجماع والقيام يسقط عن المأموم إذا ائتم بإمام راتب قعد لمرض عارض لتحصيل الجماعة و قد علله النبي صلى الله عليه و سلم بان في ذلك تعظيما للإمام كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضا فيكون ستر المنكب اوكد منه لذلك
و قد احتج أحمد لذلك بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يعقدون
أزرهم و تبدو بعض عوراتهم في السجود فعلم إن ستر المنكب اوكد من ستر بعض العورة
و من أصحابنا من سوى بين هذه الصورة و التي قبلها في أنه يستر عورته و يصلي قائما لظاهر الخبر المتقدم و المحافظة على القيام و ستر بقية العورة أوجب من ستر المنكب لأن القيام واجب بالإجماع و العورة يجب سترها في الصلاة و خارجها و الفرض و النفل فكان أولى و هذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله تعالى
مسألة فان لم يكف جميعها ستر الفرجين فان لم يكفهما ستر أحدهما
ذلك لأن الفرجين اغلظ من غيرهما و إنما صار غيرهما عورة لمجاورتهما تبعا لهما
و كونهما عورة ثابت بالنص المتواتر و الإجماع فيكون سترهما مقدما على ستر غيرهما فان خالف و ستر غيرهما لم يصح لأنه ترك الستر الواجب فان لم يكف الفرجين ستر أحدهما أيهما كان لأن كلاهما عورة مغلظة مجمع عليها لكن ستر أيهما أولى فيه وجهان
أحدهما القبل لأنه يستقبل به القبلة و لأنه يبرز إذا صلى قائما و لأنه اغلظ بدليل إن من العلماء من يجوز استدبار القبلة دون استقبالها و لأنه يكره استقبال الشمس و القمر عند التخلي دون استدبارهما و لأن القبل عورة ناتية ظاهرة و الدبر عورة داخلة كامنة فكان ستر ما ظهر من العورة أولى
و الوجه الثاني الدبر و هو اصح بناء على صلاته جالسا افضل فيستر القبل بجلوسه و ضم فخذيه فإذا ستر الدبر أمكنه السجود بالأرض و لو ستر القبل فأما إن يسجد بالأرض فيفضي بدبره إلى السماء أو يومىء بالسجود فيفوت كمال الركن
مسألة فان عدم بكل حال صلى جالسا يومىء بالركوع و السجود و إن صلى قائما حاز
المشهور عن احمد إن العريان ينبغي له إن يصلي قاعدا يومئ بركوعه و سجوده و هو اختيار الخرقي و أبي بكر و عامة الأصحاب فان صلى قاعدا أو سجد بالأرض جاز و هو افضل من إن يصلي قائما و إن صلى قائما و سجد بالأرض جاز أيضا مع الكراهة فيهما هكذا ذكر أصحابنا
و عنه أنه يجب إن يسجد بالأرض سواء صلى قاعدا أو قائما اختاره ابن عقيل و كان أبو بكر يقول هذا قول لأبي عبد الله أول فأما القيام فلا يجب قولا واحدا
ووجه هذه الرواية إن السجود ركن في الصلاة مقصود لنفسه بل هو افضل أركانها الفعلية و هو مجمع على وجوبه فكان مراعاته أولى من مراعاة السترة و لقد كان القياس يقتضي إيجاب القيام أيضا لذلك ألا أنه أخف من السجود و لسقوطه مع القدرة في النافلة و خلف إمام الحي إذا صلى قاعدا و هو مريض يرجى برؤه و أنه يطول زمنه و إن فيه إفضاء بعورة بارزة خارجة إلى جهة القبلة فلما فحشت العورة فيه و طال زمن كشفها و خف أمره كان الاعتياض عنه بالستر أولى بخلاف السجود فان زمنه قصير و هو اعظم أركان الصلاة و لا يبدو فيه ألا عورة الدبر و هي أخف من القبل
و الأول المذهب لما روى سعيد و أبو بكر و غيرهما عن نافع عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر فخرجوا عراة قال يصلون جلوسا يومئون برؤوسهم إيماء
و لم يبلغنا عن صحابي خلافه و لأنه إذا صلى قاعدا موميا فقد أتى ببدل القيام و الركوع و السجود بل قد أتى بركوع و سجود هو بعض الركوع و السجود التامين فان الإيماء بالرأس يدخل في عموم الأمر بالركوع و السجود أو أتى ببعض الركوع و السجود الواجبين مع التمكن و هذه صلاة مشروعة في الجملة للراكب على الراحلة و المريض أيضا و أتى أيضا بمعظم الستر و هو ستر العورة المغلظة فانه إذا انضام ستر قبله بفخذيه و ستر دبره بالأرض و لم يفته ألا تكميل الأركان و تكميل الشرط المعجوز عنه و هذا غير خارج عن جنس الصلاة المشروعة
أما إذا قام و سجد بالأرض فانه يستقبل القبلة بقبله حال القيام و السماء بدبره منفرجا حال السجود و يكشف في الجملة عورته و هذه الأشياء محرمة خارج الصلاة فكيف تكون في الصلاة و لهذا لم يشرع مثل هذه الصلاة في موضع آخر أبدا لا سيما إن كان العراة جماعة أو كان العريان في فضاء من الأرض فان كشف عورته يتفاقم فحشه والستر أهم من تكميل الأركان لأنه يجب في الصلاة و خارج الصلاة و تكميل
الأركان إنما يجب في الصلاة و ما كان مقصودا في نفسه و مقصودا للصلاة فهو أولى مما يقصد في الصلاة فقط لا سيما و الستر يعم جميع أركان الصلاة و الركن ينقضي في أثنائها يوضح هذا إن تكميل الأركان واجب في غير هذا الموضع و كذلك كشف عورته و الإفضاء بها إلى اشرف الجهات محرم في غير هذا الموضع في غير الصلاة و هو في الصلاة أشد قبحا و تحريما فإذا كان هذا الموضع لا بد فيه من التزام بدل واجب أو فعل محرم كان ترك الواجب اسهل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فالمنهي عنه يجب تركه بكل حال و المأمور به إنما يجب فعله في حال دون حال و لهذا لو لم يمكنه فعل فرائض الصلاة ألا بارتكاب محرم لم يجب فعلها ألا ترى أنه لو لم يمكنه ثوب يلبسه سقط عنه حضور الجمعة و الجماعة مع إن الجمعة من اوكد الواجبات و إن شهود الجمعة و الجماعة اوكد من تكميل الأركان بدليل إن المريض الذي يمكنه إتمام الأركان في بيته و لا يمكنه إتمامها في الجماعة فإن صلاته في الجماعة افضل
و قد كان يتوجه إن لا تصح صلاته قائما لذلك و إنما صححناها لأنه يعتاض عن ستر العورة بتكميل الأركان وهو مقصود في الجملة ولأنه إذا لم يكن بد من الإخلال ببعض فروض الصلاة لم يتعين أحدها لكن الأحسن ما كان أشبه بالأصول و لأن الستر قد عجز عنه ألا بترك واجب آخر كما عجز عن تكميل الأركان ألا بترك واجب فصارت الأدلة الموجبة لأحدهما بعينه معارضة كالأخرى
و هل يصلون متربعين أو منضامين على روايتين ذكرهما الآمدي
إحداهما يتربعون كسائر من يصلي جالسا من المريض و المتنفل
و الثانية انهم ينضامون و لا يتربعون نص على ذلك و هو الصحيح لأن ذلك استر فكانت رعايته أولى من رعاية هيئة مستحبة و لهذا استحببنا للمرأة إن تنضام في ركوعها و سجودها و إن كان التفرج هو المسنون للرجال و لهذا لم يسن للمرأة بشيء من هيئات العبادات التي هي مظنة ظهورها كالرمل و الاضطباع و الرقي على الصفا و المروة و مزدلفة و رفع الصوت بالإهلال فكيف بهيئة تظهر بها العورة المغلظة من الرجل
فصل
فان لم يمكنه تكميل السجود ألا بانتفاض طهارته مثل إن يطعن في دبره فيصير الريح يتماسك في حال جلوسه فإذا سجد خرجت منه فانه يسجد بالأرض نص عليهو من أصحابنا من خرج أنه يومىء كالعريان و كإحدى الروايتين في المصلي في الموضع النجس لأن الطهارة شرط فأشبهت السترة بل هي اوكد من السترة للإجماع على وجوبها و للاختلاف في سقوطها بالعجز
بخلاف الستارة و المنصوص أقوى لأن السجود ركن مقصود لنفسه فلا يجوز تركه مع القدرة إذا لم يكن في فعله مفسدة
و الفرق بين الطهارة و الستارة إن الطهارة إنما تراد للصلاة و المقصود لا يصعب لتكميل الوسيلة و لهذا كانت الطهارة شرطا محضا لا تجب في غير الصلاة ألا إن يكون لصلاة أخرى و أما الستارة فأمر مقصود في نفسه واجب في نفسه و مقصود في الصلاة واجب لها و كشف السوءة محرم و أيضا فان من جنس الحدث الدائم ما يصلى معه كما في المستحاضة و السلس و الجريح فأما سجود الإنسان مفضيا بسوءته إلى السماء فلا عهد لنا به في الشرع
مسألة و من لم يجد ألا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلى فيهما و لا إعادة عليه
أما من لم يجد ألا ثوبا نجسا فانه يجب إن يصلي فيه
و خرج بعض أصحابنا أنه يصلي عريانا بناء على إن صلاة حامل النجاسة تجب إعادتها في رواية و صلاة العريان لا تجب إعادتها إجماعا و لأن اجتناب النجاسة يجب في البدن و الثوب و البقعة و ستر العورة يختص موضعها
و الأول هو المذهب المعروف من غير خلاف عن أبي عبد الله رضي الله عنه
ذكر ابن أبي موسى فيمن لم يجد ألا ثوبا نجسا و صلى فيه هل يعيد على روايتين و لو لم يصل فيه أعاد قولا واحدا لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة اجتناب النجاسة لأنه يجب في الصلاة و غيرها و ثبت وجوبه بالكتاب و السنة و الإجماع المتقدم و سمى الله تركه فاحشة بخلاف اجتناب النجاسة و لأن هذا الثوب يجب لبسه قبل الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كما لو لم يجد ألا ثوب حرير أو ما يستر بعض عورته و لأنه إذا تعرى سقط القيام و الركوع و السجود الكاملان و حصل الإخلال بالشرط و إذا لبس الثوب النجس لم يحصل ألا الإخلال بشرط مختلف فيه بين
السلف فكان أولى و أنها لم تجب الإعادة على العريان لأن اللباس فعل امر به و قد عجز عنه فأشبه ما لو عجز عن الاستقبال أو القراءة أو الركوع أو السجود و هو عذر غالب و اجتناب النجاسة هو من باب الترك و العجز عن أزالتها عذر نادر فلهذا فرق من فرق بينهما ألا ترى إن مفسدة التعري في الوقت لا تنجبر باللباس بعد خروج الوقت لأن مفسدته لا تختص الصلاة بخلاف حمل النجاسة فان مفسدته تختص الصلاة
فصل
و أما الإعادة ففيها روايتان حكاهما ابن أبي موسى و هو من أوثق الأصحاب نقلا و أقربهم الى نقل نصوصه و حكاهما غيره
و أما القاضي و أصحابه و من تبعهم فذكروا أنه نص هنا على الإعادة و نص في مسألة المكان النجس على عدم الإعادة
ثم اكثر هؤلاء جعلوا في المسألتين روايتين بطريق النقل و التخريج كما في نجاسة البدن المعجوز عن أزالتها و كما في عدم الماء و التراب و جعلوا هذا النص بناء على قوله بوجوب الإعادة في النجاسة المعجوز عنها و قد وافقوا في هذا التخريج لما نقله ابن أبي موسى
و على هذا فالصحيح أنه لا إعادة عليه في شيء من ذلك كما إن الصحيح إن لا إعادة في النجاسة المعجوز عن إزالتها و كما في المنسية
و المجهولة وأولى فان طهارة الحدث و السترة تسقط بالعجز و لا تسقط بالنسيان و لأن العاجز فعل ما امر كما امر و امتثال الأمر يقتضي الأجزاء بفعل المأمور به فمن امتثل ما أمره الله به فلا إعادة عليه البتة لأن الله تعالى لم يفرض على عباده ألا صلاة واحدة و قد قال لهم نبي الله صلى الله عليه و سلم لما فاتتهم الصلاة و سألوه عن الإعادة مرتين أينهاكم عن الربا و يقبله منكم فكيف بمن لم يفوت و إنما اتقى الله ما استطاع
و طرد هذا إن لا تجب الإعادة على من تيمم في الحضر لعدم الماء أو خشية أذى البرد و نحوهم و قد ثبت بالسنة الصحيحة إن المستحاضة تصلي مع وجود النجاسة و لا إعادة عليها و قد صلى عمر رضي الله عنه و جرحه يثعب دما و لم يعد و لأنا لو أوجبنا عليه الإعادة إذا صلى في ثوب نجس و لم نوجبها إذا صلى عريانا لكان التعري احسن حالا فكان ينبغي إن يصلي عريانا و قد تقدم تضعيف ذلك
و من أصحابنا من فرق بين مسألتي المكان و الثوب على ظاهر ما بلغه من النص بأنه هنا قادر على اجتناب النجاسة و على الاستتار لكن إنما يمكنه كل واحد منهما بتقريب الآخر فإذا تزاحما قدمنا اوكدهما ثم
أوجبنا القضاء لكونه قادرا على اجتناب النجاسة من بعض الوجوه بخلاف المحبوس و بكل حال فعليه إن يتقي النجاسة ما أمكن فإذا كان معه ثوبان نجسان صلى في اقلهما نجاسة
و إن كانت النجاسة في طرف ثوب كبير استتر بالطاهر منه و إن كان حاملا للنجاسة لأن محذور الحمل بدون الملاقاة اقل من محذورهما جميعا و قد تقدم حكم من لم يجد ألا ثوب حرير أو ثوبا مغصوبا
فصل
و أما من لم تمكنه الصلاة إلا في موضع نجس كالمحبوس فيه إذا لم يكن عنده ما يحتجر به فانه يصلي فيه بلا خلاف لأنه لا يقدر على غير ذلك و في الإعادة روايتانالمنصوص منهما أنه لا إعادة عليه و هي الصحيحة و كذلك كل من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها أما بأن لا يجد لها طهورا أو يجده و لا يستطيع إزالتها لكونها على جرح يضره الماء
فان قلنا يعيد على إحدى الروايتين فلأنها إحدى الطهارتين و لم يأت بها و لا ببدل عنها فأشبهت طهارة الحدث و لأنه قد ترك العبادة لعذر نادر غير متصل فأشبه صوم المستحاضة
و الأول اصح لما تقدم و لأنه شرط عجز عنه فلم تلزمه الإعادة من اجله كالسترة و القبلة حال المسايفة هكذا ينبغي إن يكون الكلام إذا حبس في المواضع المنهي عن الصلاة فيها كالحش و الحمام و الإعادة هنا اضعف لأنه في هذه الحال ليس بمنهي عن الصلاة فيها فأشبه المصلي في الثوب الحرير إذا لم يجد غيره
و إذا اقيمت الجمعة في مكان مغصوب فانه يصلي فيه و لا يحل لأحد تركها نص عليه لأن الجمعة لا تفعل ألا في مكان واحد فلو لم يشهدها لأفضى إلى تركها بالكلية و لهذا تصلي خلف كل إمام برا كان أو فاجرا و كذلك تصلى خلف الإمام و إن كان ثوبه حريرا أو مغصوبا لذلك
ثم إن أمكنه الاقتداء بالإمام في غير المكان المغصوب لم يجز الدخول إليه و ألا جاز للضرورة و لا يتفل فيه لعدم الضرورة
و إذا كان الإمام جاهلا بالغصب فان صلاته و صلاة من لم يعلم بالغصب و صلى فيها و صلاة من صلى خارجا عنها صحيحة إذا بلغوا العدد المعتبر لأن قصارى صلاة من صلى فيها عالما بالغصب إن تكون معدومة
و أما بدون ذلك ففي وجوب الإعادة روايتان خرجهما أصحابنا على الائتمام فيها بالفاسق
فأما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي إن لا تجب عليه الإعادة قولا واحدا كمن لا يجد ألا الثوب الحرير لأن لبثه فيه ليس بمحرم عليه
لأنه لم يدخل باختياره ألا إن يكون قادرا على الخروج بخلاف من لم يجد ألا الثوب المغصوب فان التحريم ثابت في حقه هذه الطريقة الصحيحة
و من أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد ألا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد ألا الثوب النجس و على هذا فمن لم يمكنه إن يصلي ألا في الموضع المغصوب فيه الروايتان و أولى و كذلك من يكره على الكون بأماكن النجس و المغصوب بحيث يخاف من الخروج منه ضررا في نفسه أو ماله ينبغي إن يكون كالمحبوس في الموضع النجس و المحبوس في الموضع النجس يجلس في صلاته على قدميه لأن ما سواهما يمكن صونه عن النجاسة من غير إخلال بركن لأن إلصاق الآليتين بالأرض حال القعود ليس بواجب و أما السجود ففيه روايتان
إحداهما أنه يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة كالعريان
و الثانية يسجد بالأرض لأنه فرض مقصود في نفسه و مجمع على افتراضه فأشبه من تنتقض طهارته بالسجود و أولى لأن طهارة الحدث اوكد من طهارة الخبث
فصل
و متى بذل للعريان إعارة سترة لزمه قبولها كما يلزمه قبول الماء إذا و هب له و الدلو و الحبل إذا أعيره
و قيل لا يجب عليه قبولها كما لا يلزمه قبولها إذا بذلت له هبة و كما لا يلزمه قبول الماء في الحج و الكفارات
و قد خرج وجه بأنه يلزمه قبول الهبة لأن العار في بقاء عورته مكشوفة اكثر من الضرر في المنة التي تلحقه لأشياء عند من قال من أصحابنا أنه يلزمه قبول المال في الحج فان قبول السترة اوكد لأن فرض السترة لا يتوقف على وجودها و إنما يتوقف على القدرة على تحصيلها كالماء في الوضوء بدليل أنه لو أمكنه تحصيل السترة من المباحات لزمه و لا يلزمه تحصيل ما يحج به من المباحات
و وجه الأول و هو المشهور إن قبول العارية لا منة فيه في الغالب بخلاف قبول الهبة فصار قبولها كقبول الماء و التراب في الطهارة و كالاسترشاد إلى طريق الجامع و وجود السترة لا يعتمد وجودها و إنما يعتمد القدرة عليها و هي حاصلة بخلاف قبول الهبة فان فيه ضررا عليه بالحق الذي يجب للواهب عليه و إمكان إلحاق المنة به
قال بعض أصحابنا و لا يجب على مالك الثوب إن يعيره إذ لا ضرورة بالعريان إليه كما لا يجب عليه إن يبذل له ماء للوضوء مع أنه يجب عليه بذل الماء للعطش و اللباس لخوف الضرر بالحر و البرد و نحو ذلك
و قياس المذهب إن هذا واجب لأن ستر العورة من الحوائج الأصلية التي لا تختص بالصلاة فمتى اضطر الإنسان إليه وجب بذله له و إن لم يخف ضررا بالتعري بخلاف الطهارة و كشف السوءة فيه ضرر على الإنسان في نفسه اعظم من كثير من الضرر الذي يلحقه في بدنه فيجب إعانته على إزالته ببذل الفضل كإغاثة الجائع و العطشان و أيضا فان هذا بذل منفعة لتكميل عبادة هي واجبة في الأصل و لا ضرر في بذلها فوجب كتعليم الجاهل ودلالة الغريب على طريق الجامع و مناولة الماء و التراب لمالكهما و توجيه الأعمى إلى القبلة بخلاف الماء فانه بذل عين و بكل حال فالمستحب إن يبذل لهم السترة لأنه إعانة على تكميل العبادة فأشبه المتصدق على الرجل بالصلاة معه جماعة و أولى
و يبدأ بإعارة النساء قبل الرجال لأن عورتهن اغلظ
فصل
و إن لم يجد ألا حشيشا أو ورقا يربطه عليه لزمه الستر به لأنه مغط للبشرة من غير ضرر فأشبه الجلود و الثياب و قد اخبر الله تعالى عن آدم و حواء أنهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و امرر النبي صلى الله عليه و سلم بمصعب بن عمير يوم أحد إن يجعل على رجليه شيء من الاذخر فإذا كان الاذخر كالثوب في ستر الميت فكذلك في ستر الحيو إن لم يجد ألا طينا ففيه وجهان
أحدهما و هو اختيار ابن عقيل أنه يلزمه إن يتطين به بدل الثوب فما سقط منه سقط حكم الوجوب فيه و تحصل السترة بما بقي
و الثاني لا يجب و هو اختيار الامدي و غيره و قيل أنه المنصوص قال احمد لأنه يتناثر و لا يبقى و هو الصواب المقطوع به لأن السلف من الصحابة و من بعدهم أمروا العراة الذين انكسر بهم المركب إن يصلوا بحسب حالهم مع العلم بأنه قد كان يمكنهم إن يجبلوا من ماء البحر
بتراب البر فيصير طينا فان اكثر السواحل يقرب منها التراب و أيضا فان هذا مثله و هو ملوث مؤذ يتناثر رطبا و يابسا فلا يحصل به مقصود الستر في الغالب و أيضا فان الفرائض من الجمعة و الجماعة تسقط إذا خيف تأذيه بمطر أو بوحل مع سخونة الهواء فكيف يؤمر بان يتطين و أيضا فسنبين إن شاء الله تعالى إنه لا يجب عليه إن يسجد على الطين فإذا سقط تكميل الركن لتلوث جبهته و يديه فتلويث جميع عورته أولى إن لا يجب
و إن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه و إن كان كدرا و كذلك إن وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأن ذلك لا يحصل مقصود الستر الواجب لكن ينبغي إن يستتر بحائط أو شجرة و نحو ذلك إذا أمكن لأن ذلك احسن من التعري في الفضاء و لذلك امر المغتسل و المتخلي إن يستتر بما أمكنه من ذلك
و إن وجد سترة تضره كالبارية لم يلزمه الاستتار بها
فصل
إذا وجد السترة في أثناء الصلاة قريبة منه استتر و بنى لأنها حينئذ وجبت عليه و ليس الاستتار بها عملا يبطل الصلاة فأشبه الأمة إذا أعتقت في الصلاة و الخمار بقربها و إن كانت السترة بعيدة منه بحيث تكون مسافتها مما يبطل الصلاة يقطعها أو كان يحتاج إلى الاستتار بها إلى عمل كثير فانه يستتر و يستأنف في ظاهر المذهب كالمتيمم إذا وجد الماء و قلنا يخرج و كالمستحاضة إذا انقطع دمها انقطاعا يوجب الوضوء
و فيه وجه مخرج على من سبقه الحدث أنه يستتر و يبني كالوجه المخرج في المتيمم و المستحاضة
و الصحيح الفرق بين من حدث المبطل له في أثناء الصلاة و من كان المبطل موجودا معه من أولها لكن لم يظهر علمه للعذر كما تقدم و إنما نظير المتوضيء هنا الأمة إذا اعتقت في أثناء الصلاة و السترة بعيدة منها أو كان المصلي مستترا فاطارت الريح سترته و احتاج ردها إلى عمل كثير فان هذا كالمتطهر الذي سبقه الحدث لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا من غير قيام المبطل بخلاف العاري و المستحاضة و المتيمم فان المبطل كان مقارنا لأول الصلاة و إنما عفي عنه للضرورة و لا ضرورة إذا زال العذر في أثناء الصلاة و لهذا قلنا إن الإمام إذا علم بحدث نفسه في أثناء الصلاة استأنف المأمومون الصلاة و لو لم يعلم حتى قضوا الصلاة لم يعيدوا
و إن وجد البعيد عن السترة من يناوله إياها من غير عمل بطلت في أحد الوجهين لانكشاف العورة زمنا طويلا بعد وجوب الستر
و لم تبطل في الآخر إذا ناوله إياها من غير تراخ و هو اختيار الامدي لأنه لم يوجد منه عمل و قد أتى بالستر على الوجه الممكن لأن وجوب الستر بالقدرة على الستر لا بنفس ظهور السترة
فصل و لا تسقط السترة بجهل وجوبها و لا نسيان لها كما تسقط بالعجز فلو نسي الاستتار و صلى أو جهل وجوبه أو أعتقت الأمة في أثناء الصلاة و لم تعلم حتى فرغت لزمتهم الإعادة قاله أصحابنا لأن الزينة من باب المأمور به فلا تسقط بالجهل و النسيان كطهارة الحدث و هذا لأن الناسي و الجاهل يجعل وجود ما فعله كعدمه لأنه معفو عنه فإذا كان قد فعل محظورا كان كأنه لم يفعله فلا إثم عليه و لا تلحقه أحكام الإثم و إذا ترك واجبا ناسيا أو جاهلا فلا إثم عليه بالترك لكنه لم يفعله فيبقى في عهدة الأمر حتى يفعله إذا كان الفعل ممكنا و بهذا يظهر الفرق بين الزينة و اجتناب النجاسة و لأن التزين هو الأمر المعتاد الغالب فتركه مع القدرة لا يكون ألا نادرا فلم يفرد بحكم
فصل
و يعفى عن يسير العورة قدرا أو زمانا فلو انكشف منها يسير و هو ما لا يفحش في النظر في جميع الصلاة أو كشفت الريح عورته فأعادها بسرعة أو انحل مئزره فربطه لم تبطل صلاته و سواء في ذلك العورة المغلظة و المخففة
ألا إن ما يعفى عنه من العورة المخففة اكثر مما يعفى عنه من المغلظة لأنه يفحش من هذا في العرف اكثر مما يفحش من هذا
و قال القاضي و غيره هما سواء في مقدار العفو
و عن احمد ما يدل على أنه لا يعفى عن يسير العورة كما لا يعفى عن يسير طهارة الحدث و لأنه يجب ستره عن العيون فاشترط ستره في الصلاة
و عنه التوقف في ظهور جميع العورة إذا أعاد الستر بسرعة
و حكي عنه إن اليسير إذا طال زمانه ابطل و إن لم يبطل الكثير إذا قصر زمانه و قال أبو الحسن التميمي إن بدت عورته وقتا و استترت وقتا فلا إعادة عليه و لم يقيده بالزمن اليسير لظاهر حديث عمرو بن سلمة
و الأول هو المشهور لما روى عمرو بن سلمة في قصة إسلام قومه لما ذكر أنه صلى بقومه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم قال و كانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي ألا تغطوا عنا أست قارئكم فقطعوا لي قميصا رواه البخاري و من احتج بهذا قال هذه قضية جرت لهؤلاء الصحابة و لا يكاد مثلها يخفى على النبي صلى الله عليه و سلم و سائر أصحابه و لم ينكر فصارت حجة من جهة إقراره و من جهة إن أحدا من
الصحابة لم ينكر ذلك و لا يقال فانتم تقولون بهذا في إمامة الصبي في الفرض لانا سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه و لأنه قد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر و كانوا يعقدون أزرهم على أكتافهم و لولا إن يسير العورة يعفى عنه لأمر الرجال بإعادة الصلاة منه كما امر النساء بغض أبصارهن عنه أو لأمر بذلك من كان يمكنه الاتزار بإزار واسع و لأمرهم بالائتزار على وجه لا يؤدي إلى كشف شيء من العورة بان يأتزروا على العورة فقط كما ذكره في الإزار الضيق فان ستر العورة أهم من ستر المنكب فان الناس قائلان قائل يقول يجب عليه إن يستر العورة و يسجد و قائل يقول يستر المنكب و يصلي جالسا مومئا فأما إن يستر المنكب و يسجد مكشوف السوءة فليس بجائز وفاقا و أيضا فان ذلك يشق عموم الاحتراز منه فان المأزر و السراويلات تنحط في العادة عن السرة قليلا و المرأة يبدوا أطراف شعرها و رسغها كثيرا و اكثر الفقراء لا تسلم أثوابهم من يسير فتق أو خرق و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد أولكلكم ثوبان فلم يوجب من السترة ألا ما يجده عامة الناس دون ما يجده ذوو اليسار و قد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يبدو بعض فخذه فعلم أنه ليس بمحرم و لأنه لما عفي عن الكثير في الزمن
اليسير فكذلك اليسير في الزمن الكثير و لأنه شرط للصلاة ليس له بدل فعفي عن يسيره كاجتناب النجاسة و طرده القبلة في الانحراف اليسير و النية في تقدمها بالزمن اليسير و لأنه إخلال بيسير من الشرائط يشق مراعاته في الجملة فعفي عنه كيسير النجاسة و طرده طهارة الحدث عفي فيها عن باطن الشعور الكثيفة لما شقت مراعاتها بخلاف البشرة الظاهرة فانه لا يشق غسلها و لأن الصلاة تصح مع كثيرها للضرورة فجاز إن تصح مع يسيرها مطلقا كالعمل الكثير و المناسبة في هذه الاقيسة ظاهرة
وحد اليسير ما لا يفحش في النظر في عرف الناس و عادتهم إذ ليس له حد في اللغة و لا في الشرع و إن كان يفحش من الفرجين ما لا يفحش من غيرهما
فصل
و العراة يصلون جماعة و يقف أمامهم وسطهم لأنهم من أهل الجماعة و هي واجبة عليهم و لأن الجماعة مشروعة في الخوف مع ما فيها من العمل الكثير و فراق الإمام و غير ذلك فلان تشرع هنا أولى و يؤمر كل واحد منهم بغض بصره كما امر النبي صلى الله عليه و سلم النساء بغض أبصارهن عن الرجالو يصلون صفا واحدا إن أمكن و إن ضاق المكان عنهم فقيل
يصلون جماعتين
و قيل بل يصلون صفوفا و هو اصح
و إن كانوا رجالا و نساء و المكان واسع صلى كل نوع لأنفسهم و إن كان ضيقا صلى الرجال و استدبرهم النساء ثم صلى النساء و استدبرهن الرجال
و إن بذلت سترة واحدة للعراة فقال أصحابنا يصلون فيها واحد بعد واحد لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة الجماعة ألا إن يخافوا ضيق الوقت فيستتر بها أحدهم و يصلي الباقون عراة
و قيل يصلون فيه واحد بعد واحد و إن فات الوقت لأن المحافظة على الشرط مع إمكانه أولى من إدراك الوقت كما لو وجد ماء لا يمكنه استعماله ألا بعد فوات الوقت أو سترة يخاف فوات الوقت إن تشاغل بالمشي إليها و الاستتار بها
و الأول مذهب لأن من خوطب بالصلاة في أول الوقت و هو عاجز عن شرط أو ركن في الحال قادرا على تحصيله بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة عن وقتها و لو جاز هذا لكان من عجز عن الطهارة أو السترة أو الركوع أو السجود و غير ذلك من الشرائط و الأركان يؤخر الصلاة إلى إن يقدر على ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه يقدر على ذلك و هذا خلاف الكتاب و السنة و الإجماع فان رعاية الشرع للوقت اعظم من رعايته
لجميع الشرائط و الأركان المعجوز عنها و لهذا لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها البتة للعجز عن بعض الأركان و متى ضاق وقت الوجوب عن تحصيل الشرط و الفعل قدم الفعل في الوقت بدون الشرط و إنما تكون المحافظة على الشرط أولى إذا كان الوجوب في آخر الوقت مثل نائم يستيقظ آخر الوقت فان الصلاة واجبة عليه حينئذ فعلها بشروطها كما لو استيقظ بعد الوقت
وأما إن وجد سترة يخاف فوت الصلاة بالمشي إليها و التشاغل بالاستتار فان كانت الصلاة قد امر بها في أول الوقت أو وسطه و السترة بعيدة بحيث لا يصل إليها ألا بعد فوت الوقت فهذا يجب عليه إن يصلي عريانا و هذه مسالة العراة المتقدمة فانه ما من عار ألا و هو يرجو الكسوة فيما بعد فان أحدا من الناس لا يكاد يبقى عاريا على الدوام و هذا لأن وقت الصلاة يتسع للاستتار و الفعل على الوجه المعتاد لو كانت السترة مكنة فإذا تعذرت سقطت
و كذلك إن استيقظ آخر الوقت و السترة بعيدة عنه بعدا لا يجب عليه طلبها منه فأما إن استيقظ آخر الوقت و السترة قريبة منه بحيث لا تجوز صلاته ألا بها فهنا لا يتسع ما بقي من الوقت للسترة و الفعل على الوجه المعتاد فلا تكون السترة متعذرة فيكون الوقت متسعا لشرائط الصلاة و أفعالها بخلاف مسألة الواحد بعد الواحد فان الوقت متسع للسترة لو كانت ممكنة و إنما السترة متعذرة و فرق بين تعذر ينشا من ضيق الوقت و تعذر ينشا من تعذر الشرط فإن نشأ من ضيق الوقت وسعه الشارع و إن نشا من تعذر الشرط على الوجه المعتاد أسقطه الشارع و لهذا لو كانوا في
سفينة أو موضع ضيق لا يمكن جميعهم الصلاة قياما صلى واحد بعد واحد ألا إن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائما و الباقون قعودا تقديما للصلاة في الوقت على ركن القيام و قد تقدم مثل هذا الكلام في الطهارة و سيجيء مثله في استقبال القبلة إن شاء الله
و إن كانت السترة ملكا لبعضهم لم تصح صلاته ألا فيها و ينبغي له إن يعيرها لسائرهم ليصلوا فيها كما تقدم ألا إن يضيق الوقت فينبغي إن يعيرها لمن هو أحق بالإمامة و إن أعارها لغيره جاز
و إن بذل الثوب لهم مطلقا و قد ضاق الوقت اقرع بينهم فمن قرع فهو أحق به ألا إن يكون أحدهم أولى بالإمامة فهو أولى به و إن كانوا رجالا و نساء فالنساء أحق و متى لم يستتروا ألا واحد لضيق الوقت أو لعدم الإعارة فانه يؤمهم الكاسي و يتقدم إمامهم قال بعض أصحابنا يستحب ذلك و قياس المذهب إن إمامته واجبة لأنه الجماعة واجبة على جميعهم و هي لا تمكن ألا كذلك ألا إن يكون أميا فانه يصلي وحده لأنه لا يجوز إن يؤمهم لأنه أمي و هم قراء أو أحدهم و لا يأتم لأنه كاسي و هم عراة
فصل
يكره السدل في الصلاة و هو إن يطرح على كتفيه ثوبا و لا يرد أحد طرفيه إلى كتفه الآخر
و قال الامدي و ابن عقيل السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه و يجره فيكون من باب إسبال الثوب
و التفسير الأول هو الصحيح و هو المنصوص عنه
و عنه إنما يكره على الإزار أما على القميص فلا حملا للنهي على اللباس الذي كانوا يعتادونه و هو الارتداء فوق المآزر و تعليلا للنهي بخشية انكشاف المنكب و ذلك مأمون على المتقمص و نحوه و قد روى أبو الزبير قال رأيت ابن عمر يسدل في الصلاة فيحمل هذا على إن عليه قميصا
و وجه الكراهة ما روى عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن السدل في الصلاة رواه احمد و أبو داود و الترمذي و إسناده حسن و عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود إن أباه كره
السدل في الصلاة قال أبو عبيدة و كان أبي يذكر إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه و رواه عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عنه و عن علي أنه رأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم رواه سعيد و رواه ابن المبارك و لفظه رأى قوما قد سدلوا في الصلاة
و عن ابن عمر أنه كان يكره السدل في الصلاة و قال إبراهيم كانوا يكرهون السدل في الصلاة رواهما سعيد و عن ابن مسعود كراهته ذكره ابن المنذر و على هذا فانه يكره السدل سواء كان تحته ثوب أو لم يكن
فان صلى سادلا قال أبو بكر إن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق و قال ابن أبي موسى في الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد
فصل و يكره اشتمال الصماء لما روى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن يحتبي الرجل الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء و إن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه يعني منه شيء متفق عليه وعن أبي سعيد قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن لبستين واللبستان اشتمال الصماء والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب و اللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه و هو جالس ليس على فرجه منه شيء رواه البخاري و عن جابر بن إن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لا ترتدوا الصماء في ثوب واحد رواه احمد و اشتمال الصماء عند احمد و أصحابه إن يضطبع بالثوب و هو إن يجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن و طرفيه فوق عاتقه الأيسر أو بالعكس لأنه كذلك جاء مفسرا في الحديث إن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب و في الآخر ليس على أحد شقيه منه شيء
و في لفظ لأبي سعيد من رواية احمد و أبي داود و اللبستان اشتمال الصماء يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر و يبرز شقه الأيمن و الأخرى إن يحتبي في ثوب واحد ليس عليه غيره يفضي بفرجه إلى السماء و في رواية إن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن و يرد طرفيه على منكبه الأيسر و هذا مكروه في الصلاة و خارج الصلاة إذا لم يكن عليه ألا الثوب الذي اشتمل به فأن كان عليه ثوب آخر من سراويل أو إزار و قميص ففي الكراهة روايتان
إحداهما يكره و هي اختيار ابن أبي موسى لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم أحدكم إن يشتمل في إزاره إذا ما صلى ألا إن يخالف بطرفيه على عاتقه رواه احمد و ذكر احمد عن ابن عباس أنه كرهه و إن كان عليه قميص و قد روى سعيد عن ابن عباس أنه كان يكره اشتمال الصماء في الصلاة و في لفظ كان يكره إن يلتحف الرجل بثوبه في الصلاة فيخرج يده من قبل صدره و لأنه تخصيص لأحد العضوين المتشابهين باللباس فكره كالمشي في نعل واحد
فان قيل الحديث المشهور مقيد بالثوب الواحد فيحمل هذا المطلق عليه و لأن الاضطباع لبسة المحرم فكيف تكون مكروهة
فيقال الاضطباع في الثوب الواحد أشد محذورا لأن فيه إبداء المنكب و يخشى معه من ظهور العورة و لا يحصل معه مقصود اللباس و لهذا لا يشرع الاضطباع للطائف طواف القدوم ألا إن يكون تحته ثوب قال احمد في رواية حنبل الاضطباع إذا كان عليك إزار أو قميص و إذا لم يكن عليك إزار و لا قميص ففعلت ذلك كانت لبسة الصماء تبين شقة الأيسر و فرجه
بل هذه اللبسة محرمة تبطل الصلاة معها قال ابن أبي موسى و غيره إن اضطبع بثوب كان تحته غيره اجزأته صلاته مع الكراهة و إن لم يكن تحته غيره أعاد الصلاة و هذا المعنى معنى قول احمد كانت لبسة الصماء تبين شقه الأيسر و فرجه و ذلك لأن هذا تبدو معه العورة غالبا و يظهر من غير إن يشعر اللابس بذلك
و الحكمة إذا كانت غالبة غير منضبطة علق الحكم بالمظنة و أقيمت مقام الحقيقة لوجودها معها غالبا و لعدم انضباطها كما أقيم النوم مقام الحدث و لأن الله امر بالزينة عند الصلاة و من لبس هذه اللبسة لم يتزين لله في الصلاة
و أما اضطباع المحرم فذلك موضع مخصوص من النهي لما كان فيه أولا من إظهار الجلد ثم صار سنة و شعارا و لهذا لا يشرع ألا في أول طواف يطوفه الأفقي خاصة و لهذا فانه إذا أراد إن يصلي ركعتي الطواف سوى ردائه
و الرواية الأخرى إنه لا يكره ألا إذا كان عليه ثوب واحد قال الامدي و غيره هو الصحيح لأن الأحاديث الصحاح المفسرة إنما هي في الثوب الواحد و قد علله في الحديث يبدو أحد شقيه و هذا مفقود في الثوبين
و من أصحابنا من قال يكره الاضطباع على المئزر و لا يكره على القميص و هذا قول قوي فان الأغلب على القوم كان الارتداء فوق المآزر و قد نهوا عن الاشتمال و لأن في ذلك كشفا للمنكب في الصلاة و هو مكروه أو مبطل لما تقدم و قد نص احمد على كراهته و لأن الذي في الحديث كراهة بروز الشق الأيمن و لو لم يكن تحته مئزر لكانت العورة قد تظهر من الناحية اليسرى فكان التعليل بكشف العورة أولى من التعليل ببروز الشق فقط
فان قيل فقد قال أبو عبيد اشتمال الصماء عند العرب إن يشتمل الرجل بثوب يجلل به جسده كله و لا يرفع منه جانبا تخرج فيه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه و لا يقدر عليه
و تفسير الفقهاء إن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه قال و الفقهاء اعلم بالتأويل
و قد ذكر أبو عبد الله السامري من أصحابنا مثل ما حكاه أبو عبيد عن العرب فقال اشتمال الصماء هو إن يلتحف بالثوب و يرفعه إلى حد جانبيه فلا يكون ليده موضع تخرج منه فلذلك تسمى الصماء قال بعض الفقهاء يحتاج أن يخرج يده من صدره فتبدو عورته
و التفسير الذي ذكرتموه مخالف لهذين قلنا
أما التفسير الذي ذكرناه فهو منصوص مفسر في الحديث و التفسير الذي حكاه أبو عبيد عن الفقهاء يدل عليه الحديث أيضا لأنه قال الصماء إن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه و هذا يعم ما إذا اضطبع بالثوب من الناحية الأخرى أو لم يضطبع فانه إذا اضطبع أبدى منكبه الأيمن و ستر منكبه الأيسر و بقي شقه الأيسر غير مستور و الصورة التي ذكر أبو عبيد يكون المنكب الأيمن مستورا و المنكب الأيسر لكن الشق الأيسر باديا و ظهور العورة فيه أشد لكن المنكبين مستوران و هذا أيضا مما يحرم و تبطل الصلاة معه بلا ريب و اشتمال الصماء يعمهما
و أما الذي نقل عن ابن عباس أنه يخرج يده من قبل صدره فان أخرجها من فوق حاشية الرداء صار مضطبعا و إن أخرجها من تحت الرداء فهو الذي ذكره أبو عبيد و أما التفسير المحكي عن العرب فهو أشبه بالاشتقاق لأن الصخرة الصماء التي لا منفذ فيها و منه الأصم و هو الذي لا ينفذ الصوت إليه و يؤيده ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن يلبس الرجل ثوبا واحدا يأخذ
بجوانبه على منكبه فتدعى الصماء
و روى احمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الصماء اشتمال اليهود و اليهود تلتحف و لا تضطبع و هذه الصورة مكروهة أيضا لما يخاف معها من انكشاف العورة و هي السدل المتقدم و ربما عرض الشيء فلا يستطيع إن يخرج يده ألا إن تبدو سوءته و هذه اللبسة مكروهة في الصلاة و خارج الصلاة
فظهر إن اشتمال الصماء يعم هذا كله لكن منه ما يحرم و يبطل و منه ما يكره فقط و منه ما اختلف فيه كما تقدم
فصل
يكره للمصلي تغطية الوجه سواء كان رجلا أو امرأة فيكره النقاب و البرقع للمرأة في الصلاة لأن مباشرة المصلي بالجبهة و الأنف أما واجب أو مؤكد الاستحباب و لأن الرجل إذا قام إلى الصلاة فان الله تعالى قبل وجهه و إن الرحمة تواجهه فينبغي له إن يباشر ذلك بوجهه من غير وقاية و قد كره له تغميض العين فتغطية الوجه أولى وقد روى الفقهاء في كتبهم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى رجلا غطى لحيته في الصلاة فقال اكشف لحيتك فان اللحية من الوجه
و يكره التلثم على الفم لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى إن يغطي الرجل فاه في الصلاة رواه أبو داود و ابن ماجة و لأنه تشبه بفعل المجوس في عبادة النيران و يخاف معه من ترك تجويد القراءة و الذكر و الدعاء لا سيما و الملك يضع فاه على فيه
و هل يكره التلثم على الأنف على روايتين
إحداهما يكره لأن ابن عمر كره تغطية الأنف و لأنه عضو في الوجه يسجد عليه فاشبه الجبهة و لأن مباشرته إذا قلنا بوجوب السجود عليه واجبة أو سنة مؤكدة فان سجد على الحائل كان مكروها و إن حسر اللثام احتاج إلى عمل و لأنه ربما حصلت معه غنة في الحروف ولأنه من الوجه و هو ابلغ من اللحية
و الثانية لا يكره تغطيته لأن النهي إنما جاء في الفم و قد روى احمد بإسناده عن قتادة حدثني عكرمة عن ابن عباس كان يغطي انفه يعني في الصلاة قال قتادة و كان سعيد بن المسيب و عطاء يكرهان
ذلك و لأنه يمكن الإفصاح بحروف القران و الذكر معه هذه طريقة الجماعة
و أما الآمدي فقال روي عنه هو ما كان على الفم والأنف
و روي عنه على الأنف فحسب فعلى قوله إذا كان على الفم وحده لم يكره و هذا غلط على المذهب
فصل
و يكره شد الوسط بالزنار و الخيط و نحو ذلك مما يشبه زي أهل الذمة في اشهر الروايتين لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في عدة مواضع
و عنه لا يكره لحديث الحزام و لأنه لم يرد في ذلك نهي
و أما ما لا يشبه شدهم كالحبل و المنديل و المنطقة التي تسميها العامة الحياصة فلا يكره نص عليه و عليه أصحابنا
و قال ابن عقيل و السامري يكره بالزنار و الحياصة و نحوها وليس بشيء بل يستحب لمن ليس تحت قميصه مئزر و لا سراويل إن يحتزم لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يصلي أحدكم ألا و هو محتزم
احتج به أحمد و عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الغنايم حتى تقسم و عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض و إن يصلي الرجل بغير حزام رواه أبو داود و ذكر احمد عن ابن عمر أنه كان يصلي و عليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه و عن الشعبي قال كان يقال شد حقويك في الصلاة و لو بعقال و عن يزيد بن الأصم مثله رواهما الخلال و قد روى حرب قال قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بخيط و يصلي قال على القباء لا بأس به و كرهه على القميص و ذهب لما أنه من زي اليهود فذكرت له السفر و أنا أشد ذلك على الوسط فرخص فيه قليلا أما المنطقة و العمامة و نحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط و قال هو أشنع فقد كره ما وافق زي أهل الكتاب و هو الخيط على القميص و نحوه و لم يكره على القباء لأنه ليس من زيهم و لم يكره ما سوى الخيط و نحوه و رخص في الخيط على القميص عند الحاجة
و كذلك ذكر القاضي قال نص احمد على كراهة الخيط على القميص لما فيه من التشبه بأهل الكتاب لأن من عادتهم شد الوسط بالزنار
و لم يكره شد القباء و المنطقة لأن هذا عادة المسلمين
و أطلق جماعة من أصحابنا الكراهة على عموم كلامه في سائر الروآيات
فصل
و يكره إسبال القميص و نحوه إسبال الرداء و إسبال السراويل و الإزار و نحوهما إذا كان على وجه الخيلاء و أطلق جماعة من أصحابنا لفظ الكراهة و صرح غير واحد منهم بان ذلك حرام و هذا هو المذهب بلا ترددقال أبو عبد الله لم احدث عن فلان كان سراويله شراك نعله و قال ما اسفل من الكعبين في النار و السراويل بمنزلة الإزار لا يجر شيئا من ثيابه
فأما إن كان على غير وجه الخيلاء بل كان على علة أو حاجة أو لم يقصد الخيلاء و التزين بطول الثوب و لا غير ذلك فعنه أنه لا بأس به و هو اختيار القاضي و غيره و قال في رواية حنبل جر الإزار و إرسال الرداء في الصلاة إذا لم يرد الخيلاء لا بأس به و قال ما اسفل من الكعبين في
النار و السراويل بمنزلة الرداء لا يجر شيئا من ثيابه
و من أصحابنا من قال لا يحرم إذا لم يقصد به الخيلاء لكن يكره و ربما يستدل بمفهوم كلام احمد في رواية ابن الحكم في جر القميص و الإزار و الرداء سواء إذا جره لموضع الحسن ليتزين به فهو الخيلاء وأما إن كان من قبح في الساقين كما صنع ابن مسعود أو علة أو شيء لم يتعمده الرجل فليس عليه من جر ثوبه خيلاء فنفى عنه الجر خيلاء فقط
و الأصل في ذلك قوله تعالى إن الله لا يحب كل مختال فخور و قوله تعالى و لا تمش في الأرض مرحا و قال سبحانه و الذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس
فذم الله سبحانه و تعالى الخيلاء و المرح و البطر و إسبال الثوب تزينا موجب لهذه الأمور و صادر عنها و عن ابن عمر رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه و سلم قال من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر إن أحد شقي إزاري يسترخي ألا إن أتعاهد ذلك منه فقال انك لست ممن يفعل ذلك خيلاء متفق عليه و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم
القيامة رواه البخاري و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الإسبال في الإزار و القميص و العمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه و في رواية لأحمد و البخاري ما اسفل من الكعبين من الإزار في النار و عن أبي هريرة قال بينما رجل يصلي مسبلا إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم اذهب فتوضأ فذهب فتوضا ثم جاء ثم قال اذهب فتوضا فقال له الرجل يا رسول الله مالك أمرته إن يتوضأ ثم سكت عنه قال أنه كان يصلي و هو مسبل إزاره و إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبلا رواه أبو داود
و عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أسبل إزاره في صلاته فليس من الله في حل و لا حرام رواه أبو داود و عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب اليم المنان بما أعطى و المسبل إزاره و المنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه احمد و مسلم و أبو داود و النسائي و هذه منصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة و المطلق منها محمول على المقيد و إنما أطلق ذلك لأن الغالب ان ذلك إنما يكون مخيلة
و من كره الإسبال مطلقا احتج بعموم النهي عن ذلك و الأمر بالتشمير فعن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي قال رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا ألا صدروا عنه قلت من هذا قالوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت عليك السلام يا رسول الله مرتين قال لا تقل عليك السلام عليك السلام تحية الميت قلت أنت رسول الله قال أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك و إن أصابك عام سنة فدعوته انبتها لك و إذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك قال قلت اعهد إلى قال لا تسبن أحدا قال فما سببت بعده حرا و لا عبدا و لا بعيرا
و لا شاة قال و لا تحقرن من المعروف و لو إن تكلم أخاك و أنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف و ارفع إزارك الى نصف الساق فان أبيت فإلى الكعبين و إياك و إسبال الأزر فإنها من المخيلة و إن الله لا يحب المخيلة و إن امرؤ شتمك و عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما و بال ذلك عليه رواه الخمسة ألا ابن ماجة و قال الترمذي حسن صحيح
و عن عبد الله بن عمر قال مررت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و في إزاري استرخاء فقال يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت اتحراها بعد فقال له بعض القوم إلى أين قال إلى أنصاف الساقين رواه مسلم و عن ابن الحنيظلة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم الرجل خريم الاسدي لولا طول جمته و إسبال إزاره فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذه شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه و رفع إزاره إلى نصف ساقيه رواه احمد و أبو داود و لأن الإسبال مظنة الخيلاء فكره كما يكره مظان سائر المحرمات
و من لم ير بذلك باسا احتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر انك لست
ممن يفعل ذلك خيلاء و عن أبي وائل إن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال له ارفع فقال له الرجل و أنت يا ابن مسعود فارفع إزارك فقال عبد الله إني لست مثلك أن لساقي حموشة و أنا أؤم الناس فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فاقبل على الرجل ضربا بالدرة و قال أترد على ابن مسعود أترد على ابن مسعود و لأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه و ما سوى ذلك فهو باق على الإباحة و أحاديث النهي مبنية على الغالب و المظنة و إنما كلامنا فيمن يتفق عنه عدم ذلك
فصل و بكل حال فالسنة تقصير الثياب وحد ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب فما كان فوق الكعب فلا بأس به و ما تحت الكعب في النار لما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه و أبي جري و ابن عمر و لما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إزره المؤمن إلى نصف الساق لا حرج عليه فيما بينه و بين الكعبين ما كان اسفل من الكعبين فهو في النار و من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه رواه احمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و عن حذيفة
رضي الله عنه قال اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضلة ساقي أو ساقي فقال هذا موضع الإزار فان أبيت فأسفر فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين رواه الخمسة ألا أبو داود قال الترمذي حديث حسن صحيح و عن سمرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم ما تحت الكعبين من الإزار في النار رواه احمد و النسائي
و أما الكعبان انفسهما فقد قال بعض أصحابنا يجوز إرخاؤه إلى اسفل الكعب و أما المنهي عنه ما نزل عن الكعب و قد قال احمد اسفل من الكعبين في النار و قال ابن حرب سألت أبا عبد الله عن القميص الطويل فقال إذا لم يصب الأرض لأن اكثر الأحاديث فيها ما كان اسفل من الكعبين في النار و عن عكرمة قال رأيت ابن عباس يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهر قدمه و يرفع من مؤخره فقلت لم تأتزر هذه الأزرة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتزرها رواه أبو داود
و قد روي عن عبد الله أنه قال لم احدث عن فلان لأن سراويله
كان على شراك نعله و هذا يقتضي كراهة ستر الكعبين أيضا لقوله في حديث حذيفة لا حق للإزار بالكعبين و قد فرق أبو بكر و غيره من أصحابنا في الاستحباب بين القميص وبين الإزار فقال يستحب أن يكون طول قميص الرجل إلى الكعبين أو إلى شراك النعلين و طول الإزار إلى مراق الساقين و قيل إلى الكعبين
و يكره تقصير الثوب الساتر عن نصف الساق قال إسحاق بن إبراهيم دخلت على أبي عبد الله و علي قميص قصير اسفل من الركبة و فوق نصف الساق فقال ايش هذا و أنكره و في رواية ايش هذا لم تشهر نفسك و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال حد آزره المؤمن بأنها إلى نصف الساق و امر بذلك و فعله ففي زيادة الكشف تعرية لما يشرع ستره لا سيما إن فعل تدينا فان ذلك تنطع و خروج عن حد السنة و استحباب لما لم يستحبه الشارع
و يكره إسبال العمامة أيضا قاله أصحابنا لما تقدم من الأحاديث العامة و قد جاء ذكرها مصرحا به في حديث ابن عمر
فصل
فأما النساء فان إطالة الذيول لهن سنة نص عليه لما روت أم سلمة أنها قالت يا رسول الله كيف يصنع النساء بذيولهن قال يرخين شبرا فقالت إذا تنكشف اقدماهن قال يرخينه ذراعا لا يزدن عليه رواه الخمسة ألا ابن ماجة و قال الترمذي حسن صحيح
و عن ابن عمر قال رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا رواه أبو داود و النسائي و في رواية لأحمد إن نساء النبي ص - سألنه عن الذيل فقال اجعلنه شبرا فقلن إن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذر فكانت إحداهن إذا أرادت إن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا
و لهذا قال أصحابنا اقل ذيل المرأة شبر و أكثره ذراع
قال بعض أصحابنا هذا في حق من مشى بين الرجال كنساء العرب اللاتي يمشين بين الحلل و الصحراء فأما نساء المدن اللاتي في بيوتهن و لا يراهن رجل أجنبي فيكون ذيلها كذيل الرجل
فصل
يكره للرجل الأحمر المشبع حمرة في جميع أنواع اللباس من الثياب و الفرش و الأكسية و آلات الدواب و الأغطية و غير ذلك و لا بأس بذلك للنساءو المعصفر المشبع من هذا النوع نص على ذلك في عدة مواضع قال و قد سئل عن لباس المعصفر المشبع اكره لباسه و سئل عن الأكسية المصبوغة كالدم فقال إذا كانت حمرة تشابه المعصفر يكره ذلك و في موضع آخر أنه كره المعصفر كراهة شديدة للرجال و قال أيضا يكره المعصفر للرجال و لا يكره للنساء وسئل عن المعصفر للنساء فلم ير به باسا و قال المروذي صبغت بطانة جبتي حمراء فقال لم صبغتها حمراء قلت للرقاع التي فيها قال و أي شيء تبالي إن يكون فيها رقاع و قال أول من لبس الثياب الحمر قارون و آل فرعون ثم قرا فخرج على
قومه في زينته
قال في ثياب حمر قلت له الثوب الأحمر تغطى به الجنازة ترى إن اخذ به قال نعم قال و امرني أبو عبد الله إن اشتري له تكة لا يكون فيها حمرة قال و أمرني إن اشتري له مدا فقال لا تكون فيه حمرة و قد نقل عنه احمد بن واصل المقرئ أنه سئل عن كساء اسود له علم احمر فقال لا بأس به قال القاضي فظاهر رواية المروذي أنه كره العلم الأحمر أجراء له مجرى طراز الذهب و ظاهر رواية المقرىء أنه لم يكرهه و أجراه مجرى الطراز الحرير
و هذه الكراهة في الجملة قول عامة الأصحاب و ذكر القاضي في موضع من خلافه و بعض من اتبعه إن المعصفر لا يكره للرجال و النساء و إن النهي كان خاصا لعلي لقوله في الحديث لم ينهه و لا إياك و إنما نهاني
و من أصحابنا من قال إنما يكره المعصفر خاصة فأما ما صبغ بالحمرة من مدر و غيره فلا بأس به سواء صبغ قبل النسج أو بعده و هذا
اختيار أبي محمد رحمه الله و قد أومأ إليه في رواية حنبل فقال قد لبس النبي صلى الله عليه و سلم بردة حمراء كذلك الترمذي في حديث الرجل الذي سلم على النبي صلى الله عليه و سلم و عليه ثوبان أحمران قال معنى هذا الحديث عند أهل العلم انهم كرهوا لبس المعصفر و رأوا إن ما صبغ بالمدر أو غير ذلك فلا بأس إذا لم يكن معصفرا و ذلك لأن المعصفر صحت في كراهته أحاديث كثيرة في حق علي و غيره للرجال دون النساء فعن عبد الله بن عمرو قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم علي ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها رواه احمد و مسلم و النسائي و في رواية لمسلم رأى النبي صلى الله عليه و سلم علي ثوبين معصفرين فقال أمك أمرتك بهذا قلت اغسلهما قال بل احرقهما
و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن النبي صلى الله عليه و سلم رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال ما هذه قال فعرفت ما كره قال فأتيت أهلي و هم يسجرون تنورهم فقذفتها ثم أتيته فأخبرته فقال ألا كسوتها بعض اهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء رواه أبو داود و ابن ماجة و قال هشام بن
الغاز المضرجة التي ليست بمشبعة و لا الموردة و قال الخطابي المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع التام و إنما هو لطخ عق به يقال تضرج الثوب إذا تلطخ بدم ونحوه و الريطة ملاة ليست بفلقتين إنما نسج واحد و قال الجوهري يقال ضرجت الثوب تضريجا إذا صبغته بالحمرة و هو دون المشبع و فوق الموردة و في رواية عن عبد الله بن عمرو قال رآني النبي صلى الله عليه و سلم و علي ثوب مصبوغ بعصفر مورد قال ما هذا فانطلقت فأحرقته فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما صنعت بثوبك فقلت أحرقته قال أفلا كسوته بعض اهلك و عن ابن عمر قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المقدم و هو المشبع بالعصفر رواه احمد و ابن ماجة و عن علي بن أبي طالب قال نهاني النبي صلى الله عليه و سلم عن التختم بالذهب وعن لباس القس و عن القراءة في الركوع و السجود و عن لباس المعصفر رواه أحمد و مسلم و في رواية صحيحة نهاني عن المعصفر المقدم
قالوا و أما الأحمر غير المعصفر فلا بأس به لما روى البراء بن عازب
قال كان النبي صلى الله عليه و سلم عظيم الجمعة إلى شحمة أذنيه و رايته في حلة حمراء لم أر شيئا قط احسن منه رواه الجماعة و عن أبي جحيفة قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم بالابطح و هو في قبة له حمراء ثم ركزت له عنزة فخرج و عليه جبة له حمراء أو حلة حمراء فكأني انظر إلى بريق ساقيه قال فصلى بنا إلى العنزة الظهر أو العصر ركعتين متفق عليه و عن عامر بن أبي هلال المزني قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يخطب بمنى على بغلة و عليه برد احمر و علي رضي الله عنه أمامه يعبر عنه رواه احمد و أبو داود و عن انس قال كان احب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الحبرة متفق عليه
و الأول هو المذهب المعروف المنصوص لما احتج به احمد من
قوله سبحانه فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون الآية قال جابر بن عبد الله في القرمز و قال إبراهيم و الحسن في ثياب حمر على لفظ احمد و قال مجاهد على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات و كذلك ذكر قتادة و ابن زيد و غيرهما أنه خرج و على دوابه و جنده الأرجوان و المعصفرات قال ابن زيد و كان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا و معلوم إن الله سبحانه و تعالى ذكر هذا في سياق الذم له و العيب لما خرج فيه من الزينة فعلم إن الثياب الحمر معيبة عند الله مذمومة و لا معنى لكراهتها ألا ذلك و عن عبد اله بن عمرو قال مر على النبي صلى الله عليه و سلم رجل و عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن و عن رافع بن خديج رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم راى الحمرة قد ظهرت فكرهها و في رواية قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم على رواحلنا و على ابلنا اكيسة فيها خيوط عهن حمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نفر ابلنا فاخذنا الاكيسة و نزعناها عنها رواه احمد و أبو داود من حديث محمد بن عمرو بن عطاء عن رجل من بني
حارثة عنه و عن حريث بن الابج السليحي ان امرأة من بني اسد قالت كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما راى المعرة رجع فلما رأت ذلك زينب علمت ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كره ما فعلت فأخذت فغسلت ثيابها و وارت كل حمرة ثم ان رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئا دخل رواه أبو داود و عن عمران بن حصين ان نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لا اركب الارجوان و لا البس المعصفر و لا البس المكفف رواه احمد و أبو داود و عن البراء بن عازب ان النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المياثر الحمر متفق عليه و عن مالك بن عمير قال كنت قاعدا عند علي قال فجاء صعصعة بن صوحان فسلم ثم قام فقال يا امير المؤمنين انهنا عما نهاك عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عن الدباء و الحنتم و المزفت و النقير و نهانا
عن القسي و الميثرة و عن الحرير و حلق الذهب رواه احمد و أبو داود و النسائي و عن علي قال نهاني رسول الله صلى الله عليه و سلم عن خاتم الذهب و عن لبس القسي و الميثرة الحمراء رواه الخمسة و قال الترمذي حديث حسن صحيح و عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال نهى عن مياثر الارجوان رواه احمد و أبو داود باسناد صحيح و في رواية عن علي قال نهاني رسول الله صلى الله عليه و سلم عن خاتم الذهب و عن لبس الحمرة و في لفظ الحمراء و عن القراءة في الركوع و السجود و في رواية عن لباس القسي و المياثر و المعصفر رواهما عبد الله بن احمد في مسند ابيه و عن أبي بردة ان عليا قال نهاني النبي صلى الله عليه و سلم ان اجعل خاتمي في هذه أو التي تليها و اوما إلى الوسطى و التي تليها و نهاني عن لبس القسي و عن جلوس على المياثر قال يعني عليا فاما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها
من مصر و الشام و اما المياثر فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان
فقد نهى صلى الله عليه و سلم عن المياثر الحمر و ذلك يقتضي ان تكون الحمرة مؤثرة في النهي و الحديث عام في المياثر الحمر سواء كانت حريرا أو لم تكن و لو كان المراد بها الحرير فتخصيصه الحمر بها دليل على ان الاحمر من الحرير أشد كراهة من غيره و ذلك يقتضي ان يكون للحمرة تأثير في الكراهة و كذلك قوله في حديث عمران لا اركب الارجوان و هو الاحمر و لالبس المعصفر ودليل على أن الحمرة مؤثرة ثم أحاديث علي في بعضها عن القسي و الميثرة الحمر والحرير و في بعضها عن القسي والمعصفرة وفي بعضها عن القسي والميثرة الحمراء وفي بعضها عن مياثر الارجوان و هي كلها دليل على ان المياثر هي الحمر و ان لم تكن حريرا و ان مناط الحكم حمرتها لا مجرد كونها حرير و ذلك ان الارجوان هو الاحمر الشديد الحمرة كان اشتقاقه من الارج و هو توهج رائحة الطيب لأن الاحمر يسطع لونه و يتوقد كما تسطع الرائحة الزكية في الارائج قال أبو عبيد الارجوان الشديد الحمرة و النهرمان دونه في الحمرة
و المفدم المشبع حمرة و المضرج دونه ثم المورد بعده ثم قول علي رضي الله عنه في حديث اخر نهى عن لبس الحمرة و الحمراء و عن الميثرة الحمراء بدل قوله المعصفر دليل على ان المعصفر إنما نهاه عنه لحمرته فتارة يعبر عنها باسمه الخاص و تارة يعبر عنه بالاسم العام الذي هو مناط الحكم و عن الحسن رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال اياكم و الحمرة فانها من احب الزينة إلى الشيطان رواه الخلال و عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الشيطان يحب الحمرة و الحمرة من زينة الشيطان
و عن سعيد بن أبي هند قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكره الحمرة و يحب الخضرة و عن ابن عمر أنه راى على ابن له ثوبا معصفرا فنهاه و ابصر على اهله ثيابا معصفرة فلم ينههم رواهن وكيع و هذان المرسلان من وجهين مختلفين و قد اعتضدا بقول الصحابة و ذلك يؤكد الاحتجاج بها و يقتضي تعاضدها على الدلالة و ايضا ان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نهى عن المعصفرة فغيره من الاحمر المشبع اولى بالنهي منه اذ ليس في المعصفر ما يكره منه سوى لونه وليس هو باشدها حمرة فغيره من الأحمر
الذي يساويه في لونه و بريقه أو يزيد عليه اولى ان ينهى عنه و التفريق بينهما تفريق بين الشيئين المتماثلين و ذلك غير جائز و ايضا فان هذا اللون يوجب الخيلاء و البطر والمرح والفخر فكان منهيا عنه كالحرير و الذهب و لهذا ابيح هذا للنساء كما ابيح لهن الحرير و الذهب
فاما الخفيف الحمرة مثل المورد و نحوه فقد ذهبت بهجته و توقده و صار قريبا من الاصفر فلا يكره و الاحاديث التي جاءت في الرخصة في الاحمر محمولة على هذا فانه يسمى احمر و ان كانت حمرته خفيفة و على ما يكون بعضه احمر مثل البرود التي فيها خطوط حمر و هذا معنى قولهم حلة حمراء
و هل هذه كراهة تحريم أو تنزيه فيه وجهان و يبنى على ذلك صحة الصلاة فيه و فيها وجهان
احدهما تصح قاله طائفة من اصحابنا لانه لم يجيء في ذلك تصريح بالتحريم و لو كان حراما لصرح بتحريمه كما صرح بتحريم الذهب و الحرير فان الفرق بينه و بين الحرير ظاهر في الحديث
و الثاني لا تصح الصلاة فيه قال ابو بكر يعيد كل من صلى في ثوب نهي عن الصلاة فيه كالمعصفر و الاحمر و الغصب و نحوه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ذلك نهيا مطلقا و موجب النهي التحريم لا سيما و قد قرنه بالقسي و بخاتم الذهب فان ظاهره يدل على ان المعصفر و الحرير و الذهب من باب واحد كيف و سبب الكراهة فيها واحد
و قد امتنع من رد السلام على لابسها و إنما يترك رد السلام المفروض على المتلبس بمعصية و قد امر عبد الله بن عمرو باتلافها و لو كان الانتفاع بها جائزا لم يامره باتلاف ماله فعلم ان ذلك كاراقة الخمر و إنما لم ياذن له في الغسل و الله اعلم لأن اللون لا يزول بالغسل مرة أو مرتين
و اما قوله في الرواية الاخرى لما اخبره أنه حرقها هلا كسوتها بعض اهلك فانه لا بأس بذلك للنساء فيحتمل ان يكون لما استاذن النبي صلى الله عليه و سلم في غسلها ليلبسها بعد الغسل اراد صلى الله عليه و سلم ان يقطع طمعه في اللبس قبل الغسل و بعده و ان يعرفه ان اتلافه المضرج و إخراجه عن ملكه هو الواجب دون الغسل فلما راه قد سمح بذلك قال فان كنت كذلك فان تعطيه بعض اهلك خير من ان تتلفه
فصل
فاما الاصفر فلا يكره سواء صبغ بزعفران أو غيره و كذلك الاحمر المورد و نحوه نص عليه في مواضع و قال لا بأس بالمورد و مكان يصبغ بالزعفران و قيل الثوب المصبوغ بالزعفران للرجل فلم ير به بأسا و هول قو اكثر أصحابة حتى جعلها الخلال رواية واحدة
و نقل صالح عنه أنه سأله ايصلي الرجل و عليه القميص المصبوغ بالنشاستج فقال قد نهى النبي صلى الله عليه و سلم ان يتزعفر الرجل و نهى عن المعصفر فاما النشاستج و الزعفران فان كان شيئا خفيفا فلا بأس و هذا يقتضي كراهة المزعفر و هو قول أبي الخطاب و أبي محمد لما روى انس ابن مالك ان النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يتزعفر الرجل رواه الجماعة وفي حديث يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له و قد احرم في جبة و هو متضمخ بخلوق اغسل عنك اثر الخلوق و اصنع في عبرتك ما كنت صانعا في حجك متفق عليه
و الاول هو الصحيح لما روي عن ابن عمر أنه كان يصبغ بالصفرة و قال رايت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبغ بها متفق عليه
و لابي داود و النسائي عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يصبغ ثيابه بالخلوق كلها حتى عمامته و لفظ أبي داود ان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصبغ بها و لم يكن شيء احب اليه منها و كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته و في
رواية لاحمد عنه أنه كان يصبغ ثيابه و يدهن بالزعفران و قال كان احب الاصباغ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يدهن به و يصبغ به ثيابه و عن قيلة بنت مخرمة انها رأت رسول الله صلى الله عليه و سلم اسمال مليتين كانتا بزعفران و قد نفضتا رواه الترمذي و قد تقدم جواز صبغة اللحية بالزعفران و قد نهى النبي صلى الله عليه و سلم ان يلبس المحرم ثوبا فيه ورس أو زعفران فدل على أنه لا ينهى عنه غير المحرم و عن يحيى بن عبد الله بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصبغ ثيابه بالزعفران حتى النمامة و عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ان الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة و عليها عمائم صفر رواهما وكيع في باب اللباس
و اما نهيه ان يتزعفر الرجل فالمراد به ان يخلق بدنه بالزعفران فان طيب الرجل ما ظهر ريحه و خفي لونه و كذلك امره للذي احرم و عليه جبة و هو متضمخ بخلوق ان ينزع عنه الجبة و يغسل عنه اثر الخلوق و قد
جاء مفسرا عن انس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى ان يزعفر الرجل جلده رواه النسائي
فصل
و لا بأس بلبس السواد في الحرب و غيرها سواء كان عمامة أو غيرها نص عليه فقال لا بأس بالعمامة السوداء في الحرب و غير الحرب لبس النبي صلى الله عليه و سلم عمامة سوداء و قال ايضا لا بأس بلبس العمامة السوداء قد لبس النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح عمامة سوداء و عم عليا بعمامة سوداء و ذلك لما روى جابر قال دخل النبي صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح و عليه عمامة سوداء رواه الحماعة الا البخاري و عن عمرو بن حريث ان النبي صلى الله عليه و سلم خطب و عليه عمامة سوداء و عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج النبي صلى الله عليه و سلم و عليه مرط مرحل من شعر اسود رواهما احمد و مسلم و عن ام خالد ابنة سعد بن العاص ان النبي صلى الله عليه و سلم البسها بيده خميصة سوداء و قال ابلى و اخلقي رواه احمد و البخاري و قد كره احمد رضي الله عنه لبس السواد في الوقت الذي كان شعار الولاة و الجند و استعفى الخليفة المتوكل من لبسه لما اراد الاجتماع به فاعفاه بعد مراجعة و كان هذا الزي اذ ذاك شعار اهل طاعة السلطان في امارة ولد العباس رضي الله عنه
و كان من لم يلبسه ربما اتهم بمعصية السلطان و الخروج عليه و القصة في ذلك مشهورة لما اظهر المتوكل احياء السنة و اطفاء ما كان الناس فيه من المحنة و اجاز ابا عبد الله و اهل بيته بالجوائز المعروفة و طلب اجتماعه به و كان يرسل اليه يستفتيه و يستشيره فاحب أبو عبد الله ان لا يدخل في شيء من امر السلطان و لم يقبل الجوائز و نهى اهل بيته عن قبولها ففي تلك المرة استعفى من لبس السواد و سأله رجل عن خياطة الخز الاسود فقال إذا علمت أنه لجندي فلا تخطه و سأله رجل أخيط السواد قال لا و سئل عن المراة تامر زوجها ان يشتري لها ثوب خز اسود فقال هو للمراة اسهل قيل له فاي شيء ترى للرجل قال لا
يروع به قيل فترى للخياط ان يخيط له قال إذا خاطه فايش قد بقي قد اعانه و قال في رجل مات و ترك سوادا و اوصى إلى رجل فقال يحرق حتى لا يروع به مسلم قيل له لصبيان ترى ان يحرق قال يحرقه الوصي و كان يعذر في لبسه من يعلم منه الخير و أنه كالمكره عليه و هذا لانه كان لباس الولاة و الامراء و اعوانهم مع ما كانوا فيه من الظلم و الكبرياء و اخافة الناس و ترويعهم و لم يكن يلبسه الا اعوان السلطان و كان الرجل المسودي إذا رؤي خيف و رعب منه لانه مظنة الترويع حتى قال بعض اهل العلم يضرب المثل بذلك ترى الرجل مطمئنا ثابت القلب ساكن الاركان فاذا عاين صاحب سواد رعب من سلطانه و دخله من الرعب ما غير لونه و رجف قلبه و استرخت قدماه و ذهب فؤاده فلما كان معونة على الظلم و الشر و ايذاء المسلمين صارت خياطته و بيعه بمنزلة بيع السلاح في الفتنة و كره ان يلبسه الرجل اذ ذاك لانه من تشبه بقوم فهو منهم و لانه يصير بذلك من اعوان الظلمة أو يخاف عليه ان يدخل في اعوانهم
و في معنى هذا كل شعار و علامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته بحيث يبقى كالسيما عليه فإنه ينبغي اجتنابها و ابعادها و كل لباس يغلب على الظن ان يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه و خياطته لمن يستعين به على المعصية و الظلم و لهذا كره بيع الخبز و اللحم لمن يعلم أنه يشرب عليه و بيع الرياحين لمن يعلم أنه يستعين به على الخمر
و الفاحشة و كذلك كل مباح في الاصل علم أنه يستعان به على معصية و هذا يختلف باختلاف الامكنة و الاوقات و الاحوال فهذه كراهة لسبب عارض
فاما لبس الجند أو غيرهم له في دار الحرب أو غيرها إذا لم يكن مظنة الظلم و لا سيما الظلمة فلا يكره البتة
و كذلك ايضا لو لبست المراة السواد تحد به على ميت أو لبسه الرجل لم يجز لبسه حدادا على الميت لانه لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الاخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ايام فهذه كراهة للاحداد حتى لو فرض ان الاحداد كان بلبس القطن أو تغيير الهيئة و نحو ذلك دخل في النهي كما يذكر ان شاء الله تعالى في موضعه
فصل
و لا يجوز لبس ما فيه صور الحيوان من الدواب و الطير و غير ذلك و لا يلبسه الرجل و لا المراة و لا يعلق ستر فيه صورة و كذلك جميع انواع اللباس الا الافتراش فانه يجوز افتراشها هذا قول اكثر اصحابنا و هو المشهور عن احمد قال في رواية صالح الصورة لا ينبغي لبسها و قال في رواية الاثرم و سئل عن الستر عليه يكون صورة قال لا و ما لم يكن له
راس فهو اهون و ان كان له راس فلا و قال ايضا إنما يكره منها ما علق و قال ايضا إنما يكره ما كان نصبا و إذا كنا تمثالا منصوبا يقطع راسه و قال في الرجل يصلي و في كمه منديل حرير فيه صور اكرهه و قال التصاوير ما كره منها فلا بأس و سئل عن الرجل يصلي على مصلى عليه تماثيل فلم ير به باسا و قال ايضا إذا كانت توطا فلا بأس بالجلوس عليها
و عنه ان الصور التي على الثياب تكره و لا تحرم قال في رواية و قد سئل عن الوليمة يرى الجدران قد سترت ايخرج قال قد خرج أبو ايوب و عبد الله بن يزيد قيل وإذا رأى على الجدران صورا يخرج فقال نعم قيل له فان كان في الستر فقال هذا اسهل من أن تكون على الجدران لا تضيق علينا و ضحك و لكن إذا راى هذا وبخهم و نهاهم فقد نص على التفريق بين الصور في الثياب فحرمها في الجدران و كرهها في الثوب
و كذلك قال ابن أبي موسى جميع التماثيل الصور في الأسرة و القباب و الجدران و غير ذلك مكروهة عنده الا انها في الرقم ايسر و تركه افضل و احسن و كذلك قال ابن عقيل يكره لبس ما فيه صور حيوان و لا
يحرم
و اما صنعتها و اتخاذها في غير الثوب و الابنية و نحوها مثل السقوف و الحيطان و الاسرة أو اصطناعها مجسدة للبنات أو غير ذلك فيحرم ذلك كله قولا واحدا و سنذكر ان شاء الله تعالى حكم الدخول في بيت فيه صور و الصلاة فيه
و من اصحابنا من جعل تعليق الستر المصور حراما قولا واحدا و جعل الخلاف في الكرهة أو التحريم في الملابس خاصة
و الصواب ان لا فرق بينهما
و من لم يحرم ذلك استدل بما روى أبو طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة الا رقما في ثوب فاستثنى الرقم في الثوب و ذلك مختص بما رقم في اللباس و الستور و نحوها لكن كره ذلك ايضا لأن في الاصل التصوير أنه محرم بالتفاق و ليس في الحديث الا استثناء ما يوجب التحريم و ذلك يكون مع الكراهة
و لما يأتي من الاحاديث الدالة على كراهة الصور المرقومة في الثياب فتحمل تلك الاحاديث على الكراهة و هذا على عدم التحريم
جمعا بينهما
و الفرق بين المرقوم في الثوب و غيره ان الصورة على غيره من الاجسام الصلبة تبقى ثابتة منتصبة على هيئة الصورة التي خلقها الله فتتحقق فيها مفسدة الصور بخلاف الصورة على الثوب فانها تلتوي و تنطوي و يتغير وضعها بطي الثوب و نشره و لا تبقى على صورة الحيوان الذي خلقه الله و فيه ابتذال لنفس الصورة فاشبهت الصورة التي توطأ و تداس
و وجه الاول ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة كلب و لا جنب رواه احمد و أبو داود و عن علي رضي الله عنه أنه قال لابي الهياج الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تدع تمثالا الا طمسته و لا قبرا مشرفا الا سويته و في رواية و لا صورة الا طلمستها رواه مسلم و غيره و عن ابن عباس رضي الله عنهما دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت فوجد فيه صورة ابراهيم و صورة مريم فقال اما هم فقد سمعوا ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة
رواه البخاري و عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها انها قالت حشوت للنبي صلى الله عليه و سلم وسادة فيها تماثيل كانها نمرقة فقام بين البابين و جعل يتغير وجهه فقلت ما لنا يا رسول الله قال ما بال هذه الوسادة قلت وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها قال اما علمت ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة و ان من صنع هذه الصور يعذب يوم القيامة فيقال احيوا ما خلقتم متفق عليه و عن عائشة انها نصبت سترا و فيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما متفق عليه و في رواية احمد فقد رايته متكئا على احداهما و فيها صورة و عن عائشة ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب الا نقضه رواه البخاري و أبو داود و احمد و لفظه لم يكن يدع
في بيته ثوبا فيه تصليب الا نقضه و رواه البرقاني و الاسماعيلي و لفظهما لم يكن يدع في بيته سترا أو ثوبا فيه تصاوير الا نقضه ورواه الخلال و لفظه كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرى ثوبا فيه تصاوير الا نقضه و هذا صريح في النهي عن الثوب و الستر و نحوهما و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اني كنت اتيتك الليلة فلم يمنعني ان ادخل البيت الذي انت فيه الا أنه في البيت تمثال رجل و كان في البيت قرام ستر فيه تماثيل و كان في البيت كلب فأمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كراس شجرة و امر بالستر يقطع فيجعل و سادتين توطان و امر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم و إذا الكلب جرو كان للحسن و الحسين تحت نضد لهم رواه احمد و أبو داود و الترمذي و صححه
و في رواية النسائي استاذن جبريل النبي صلى الله عليه و سلم فقال ادخل فقال كيف ادخل و في بيتك ستر فيه تصاوير اما ان تقطع رؤوسها أو تجعل بساطا يوطأ فانا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير
و هذه الاحاديث دالة على ان الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صور على الستور و الثياب و نحوها و إنما رخص فيما كان يوطأ لحديث عائشة
و أبي هريرة و لأن الصورة تبتذل بذلك و تهان فتزول مظنة تعظيم الصورة التي امتنعت الملائكة من الدخول لاجله
و اما نفس التصوير عملا و استعمالا فحرام في كل موضع لما روى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال احيوا ما خلقتم متفق عليه وروى البخاري عن عائشة نحوه و عن سعيد بن ابي الحسن قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال اني رجل اصور هذه التصاوير فافتني فيها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم فان كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة و ما لا نفس له متفق عليه و في رواية عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح و ليس بنافخ و من استمع إلى حديث قوم يغرون منه صب في اذنه الانك يوم القيامة قال الترمذي حديث حسن صحيح
وأما حديث أبي طلحة فالاشبه و الله اعلم ان ذلك الاستثناء فيه ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم فان ابن عباس روى عن أبي طلحة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة و في رواية و لا تماثيل و في رواية و لا تصاوير قال بعض الرواة يريد صور التماثيل التي فيها ارواح متفق عليه و كذلك مسلم من حديث سعيد بن يسار عن أبي طلحة ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا تماثيل فلو كان أبو طلحة قد سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول الا رقما في ثوب لما جاز له ان يروي اللفظ العام دون ما استثنى منه و لو رواه كذلك لحفظه عنه مثل ابن عباس و غيره فعلم ان حديثه عام كما ان احاديث علي و أبي هريرة و عائشة عامة ايضا و ان الصور التي على الثياب من الستور و نحوها مقصودة من هذا العام فان تلك احاديث صريحة في هذا و قد ذكر فيها الستر و الثياب يبين ذلك ان حديث الاستثناء مبهم محتمل إذا سيق بلفظه عن بسر بن سعيد عن
زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الانصاري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة قال بسر بن سعيد ثم اشتكى زيد فعدناه فاذا على بابه ستر فيه صورة قال فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه و سلم الم يخبرنا زيد عن الصور يوم الاول قال عبيد الله الم تسمعه حين قال الا رقما في ثوب فهذه الزيادة لم يقلها زيد كما قال أول الحديث و إنما خفض به صوته حتى سمعها عبيد الله دون بسر بن سعيد فلعله قالها من عنده و لم يرفعها في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم و كثيرا ما يدرج المحدث في حديثه زيادة يحسب المستمع انها مسوقة عمن حدث عنه يؤيد ذلك أنه اعتقد رقم الستور من جملة المستثنى منه و قد صحت الاحاديث الصحيحة الصريحة انها من جملة التي قصدت بالحديث و بان الملائكة لا تدخل بيتا هي فيه و قد روى غير واحد الحديث عن أبي طلحة دون هذه الثنيا
و ان كانت هذه الزيادة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمراد بها و الله اعلم ما رقم من الصور التي لا روح فيها أو كان يوطا و يداسس من الصور في الثياب كما جاء ذلك مفسرا بالاحاديث الاخر و قد روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الانصاري يعوده فوجد
عنده سهل بن حنيف قال فدعا أبو طلحة انسان ينزع نمطا تحته فيه تصاوير فقال له سهل لم تنزعه قال لأن فيه تصاوير و قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم ما قد علمت قال سهل أو لم يقل الا ما كان رقما في ثوب قال بلى و لكنه اطيب لنفسي رواه مالك و احمد و الترمذي و قال حديث حسن صحيح فهذا الحديث قد قال فيه ابن عبد البر هو منقطع غير متصل لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك سهل بن حنيف و لا ابا طلحة و لا حفظ عنهما و لا له عن احدهما سماع و لا له سن يدركهما به و لا خلاف ان سهل ابن حنيف مات سنة ثمان و ثلاثين بعد شهود صفين و صلى عليه علي و كبر عليه ستا و ليس كما قال ابن عبد البر
فهذا الحديث يقتضي ان ابا طلحة علم ان النبي صلى الله عليه و سلم استثنى الرقم في الثوب و ليس فيه أنه سمعه منه فيجوز أن يكون المستثنى ما كان من الثياب يوطأ و يداس أو ان تلك التصاوير لم تكن صور ما فيه روح كما فسرته سائر الاحاديث
فصل
فاما تمثيل غير الصورة فلا بأس به قال احمد و قد سئل عن الثوب الذي عليه تماثيل لا بأس بذلك لأن النهي إنما جاء في الصورة و كذلك الحيوان إذا قطع راسه أو طمس لم يبق من الصور المنهي عنها قيل لاحمد في الرجل يكتري البيت فيه تصاوير يحكه قال نعم قيل له و ان دخل حماما و راى صورة حك الراس قال نعم و قال إذا كان تمثالا منصوبا يقطع راسه و سئل عن الوصي يشتري للصبية إذا طلبت منه لعبة فقال إذا كانت صورة لم يشترها فقيل له إذا كانت يدا و رجلا فقال يحك منه كل شيء له راس فهو صورة قيل له فعائشة تقول كنت العب بالبنات قال نعم و قال ايضا لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة فاذا كان صورة فلا و قال ايضا الصورة الرأس و قال بعض اصحابنا إذا قطع رأس الصورة أو لم يكن لها رأس جاز لبس ما فيه ذلك مع الكراهة و قد اوما احمد إلى ذلك فانه سئل عن الستر يكون عليه صورة قال لا و ما لم يكن له راس فهو اهون و ان كان له راس فلا و ذلك لأن سائر الاعضاء ابعاض الحيوان ففي ابقائها ابقاء لبعض الصورة لكن لما كان الحيوان لا تبقى فيه حياة بدون الراس كان بمنزلة الشجر فزال عنه التحريم و بقيت فيه الكراهة
و وجه الاول حديث أبي هريرة المتقدم فان جبريل امر النبي صلى الله عليه و سلم
براس التمثال الذي في البيت ان يقطع و يصير كهيئة الشجرة فعلم ان الكراهة تزول بذلك و عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصورة الراس فاذا قطع الراس فليس بصورة رواه الخلال و أبو حفص و قد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها انها كانت تلعب البنات و تصنع لها لعبا تسميها خيل سليمان و إنما ذلك لانه لم يكن لها رؤس و لأن ما ليس له راس لا يكون فيه حياة و لا روح و لا نفس و إنما هو بمنزلة الشجر و نحوها و النهي إنما كان عن تصوير ذوات الارواح كما تقدم و لهذا لم يكره اصحابنا تمثيل ما لا روح له كالارتج و النارتج و الشجر و نحوها كما نص عليه احمد فانه لم يكره الا الصورة لأن النهي إنما جاء فيها خاصة
و كره بعض اصحابنا التصليب في الثوب و فسره بصورة الصليب الذي تعظمه النصار و حمل حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب الا نقضه على ذلك و لأن هذا الشكل تعظمه النصارى
و يعبدونه فصار بمنزلة الاصنام التي كان المشركون يعظمونها فكره لما فيه من التشبه بهم و كلام احمد يدل على أنه لا يكره من التماثيل سوى الصورة و كذلك كلام سائر اصحابنا فانهم قالوا بلا بأس بلبس ما فيه التماثيل التي لا تشبه ما فيه الروح و فسر القاضي و غيره حديث عائشة بالتصاوير كما رواه الخلال
مسألة الشرط الرابع الطهارة من النجاسة في بدنه و ثوبه و موضع صلاته الا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم و نحوه
الطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة في الجملة من غير خلاف نعلمه في المذهب فلو صلى بالنجاسة عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته
و في الجاهل بها و العاجز عن ازالتها روايتان كما سياتي ان شاء الله تعالى
و كذلك قال بعض اصحابنا يجب اجتناب النجاسة و هل ذلك شرط في صحة الصلاة على روايتين
اصحهما أنه شرط فمن صلى في موضع نجس حاملا للنجاسة أو اصابها ببدنه أو ثوبه عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته قولا واحدا الا النجاسة المعفو عنها و ان صلى في نجاسة بعلمه و لم يمكنه اجتنابها أو علمها و أنسيها أو لم يعلم بها الا بعد الفراغ فهل يلزمه الاعادة على روايتين
فصاحب هذه العبارة لا يسميها شرطا إذا قلنا تسقط بالعجز و الجهل و النسيان كما لا تسمى واجبات الصلاة اركانا إذا سقطت بالنسيان و إنما يسمى شرطا ما لا ما يسقط عمدا و لا نسيانا كطهارة الحدث و السترة واكثر اصحابنا يسمونها شرطا و ان قلنا تسقط بالنسيان كما عبر به الشيخ رحمه الله كما أن استقبال القبلة شرط و قد يسقط بالجهل و كما تسقط سائر الشروط ببعض الاعذار و لأن مخالفة هذا الشرط غيره من الشروط في بعض الاحكام لا يمنع اشتراكها في اكثر الاحكام و إنما سمي الشرط شرطا لتقدمه على الصلاة و وجوبه من حين الدخول فيها كاشراط الساعة و شروط الطلاق و شرط الحمل و الشروط في العقود و نحو ذلك سواء وجب في كل حال أو سقط في بعض الاحوال
و في الجملة فالخلاف في عبارة لا في معنى و إنما قلنا ان طهارة البدن من النجاسة شرط للصلاة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال تنزهوا من البول فان عامة عذاب القبر منه و قال انهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير اما
احدهما فكان لا يستتر من البول
و امر في الاستنجاء بثلاثة احجار و قال انها تجزئ عنه و نهى عن الاستنجاء بدون ثلاثة احجار و هذا كله دليل على ان إزالة النجاسة فرض
و إنما قلنا بوجوب ذلك في الثياب ايضا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لاسماء حتيه ثم اغسليه ثم صلي فيه و قال في حديث النعلين فان رأى فيهما خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما فعلق اذنه في الصلاة في الثوب و النعل على إزالة النجاسة منه و عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال
سمعت رجلا يسأل النبي صلى الله عليه و سلم اصلي في الثوب الذي آتي فيه اهلي قال نعم الا ان ترى فيه شيئا فتغسله رواه احمد و ابن ماجه فانما اباح الصلاة فيه إذا راى فيه نجاسة بعد غسله
و إنما قلنا بوجوب طهارة المكان الذي يصلي فيه لقوله سبحانه و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود و هذه تعم تطهيره من النجاسة الحسية و من الكفر و المعاصي و الاصنام و غيرها و قال تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام فعلل منعهم منه بنجاستهم فعلم ان مواضع الصلاة يجب صونها عن الانجاس و لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال جعلت لي كل ارض طيبة مسجدا و طهورا رواه الخطابي باسناد صحيح من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن انس و قال ابن المنذر ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و الطيبة هي الطاهرة فلما اختص الارض الطيبة بالذكر دل على اختصاصها بالحكم في كونها مسجدا طهورا
و لأن الحكم المعلق بوصف مناسب دليل على ان ذلك الوصف علة له فعلم ان طهارتها مؤثرة في كونها مسجدا و طهورا و لأن النبي صلى الله عليه و سلم
امرهم ان يصبوا على بول الاعرابي ذنوبا من ماء و قال ان المساجد لا تصلح لشيء من هذا فدل على وجوب تطهير موضع الصلاة و وجوب تنزيهه من النجاسات و لانه نهى عن الصلاة في الاماكن التي هي مظنة النجاسات كما سيأتي ان شاء الله تعالى فالموضع الذي قد تحقق وصول النجاسة فيه اولى ان لا تجوز فيه الصلاة و النهي يقتضي فساد المنهي عنه لا سيما إذا كان من العبادات و كان النهي لمعنى في المنهي عنه
و قد استدل كثير من المتأخرين من اصحابنا و غيرهم على وجوب تطهير الثياب بقوله سبحانه و ثيابك فطهر حملا لذلك على ظاهر اللغة التي يعرفونها فان الثياب هي الملابس و تطهيرها بان تصان عن النجاسة و تجنبها بتقصيرها و تبعيدها منها و بان تماط عنها النجاسة إذا اصابتها و قد نقل هذا عن بعض السلف لكن جماهير السلف فسروا هذه الاية بأن المراد زك نفسك و اصلح عملك قالوا و كنى بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الارجاس و الاثام و ذلك ان هذه الأية في أول سورة المدثر و هي أول ما نزل من القران بعد أول سورة اقرا و لعل الصلاة لم تكن فرضت حينئذ فضلا عن اذى الطهارتين التي هي من توابع الصلاة ثم هذه الطهارة من فروع الشريعة و تتماتها فلا تفرض الا بعد استقرار الاصول
و القواعد كسائر فروع الشريعة اذ ذاك لم تكن قد فرضت الاصول و القواعد
ثم ان الاهتمام في أول الامر بجمل الشرائع و كلياتها دون الواحد من تفاصيلها و الجزء من جزئياتها هو المعروف من طريقة القران و هو الواجب في الحكمة ثم ثياب النبي صلى الله عليه و سلم لم تعرض لها نجاسة الا ان تكون في الاحيان فتخصيصها بالذكر دون طهارة البدن و غيره مع قلة الحاجة و عدم الاختصاص بالحكم في غاية البعد و إذا حملت الاية على الطهارة من الرجس و الاثم و الكذب و الغدر و الخيانة و الفواحش كانت قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة و الكناية بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الفواحش و الكذب و الخيانة و نحو ذلك مشهور في لسان العرب غالب في عرفهم نظما و نثرا كما قال ... ثياب بني عوف طهارى نقية ...
و قال الآخر
... و اني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست و لا من خزية اتقنع ...
حتى إذا قيل فلان طاهر الثياب طاهر الذيل لم يفهم منه عند الاطلاق الا ذلك فيكون قد صار ذلك حقيقة عرفية كما صار المجيء من الغائط حقيقة في قضاء الحاجة و كما صار مسيس النساء و مباشرتهن حقيقة في الجماع فيجب حمل الكلام عليه و لذلك وجهان
احدهما ان اللباس يضاف اليه من الحكم و يقصد به الاضافة إلى الانسان نفسه للعلم بان المقصود من الثوب لا نفس الثوب و يجعل ذلك نوعا من الكناية كما قال الانصار للنبي صلى الله عليه و سلم لنمنعنك مما نمنع
منه ازرنا
الثاني ان يراد نفس تطهير الثوب لكن الطهارة في كتاب الله على قسمين طهارة حسية من الاعيان النجسة و من اسباب الحدث المعلومة
و طهارة عقلية من الاعمال الخبيثة
فالاول كقوله تعالى فيه رجال يحبون ان يتطهروا و الله يحب المطهرين نزلت في اهل قباء لما كانوا يستنجون من البول و الغائط و قوله تعالى و لا تقربوهن حتى يطهرن فاذا تطهرن فاتوهن من حيث امركم الله ان الله يحب التوابين و يحب المتطهرين
و الثاني كقوله سبحانه إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم و اطهر و قوله تعالى صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و قوله تعالى اخرجوا ال لوط من قريتكم انهم اناس يتطهرون في غير موضع و قوله سبحانه و تعالى هؤلاء بناتي هن
اطهر لكم و قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يطهركم تطهيرا و قال إنما المشركون نجس و قال و إذا سألتموهن متاعا فاسالوهن من وراء حجاب ذلكم اطهر لقلوبكم و قلوبهن إلى غير ذلك من الآيات و إذا كان كذلك فالثوب نفسه يكتسب صفة حقيقية من لابسه ان كان صالحا أو فاسقا حتى يظهر ذلك فيه إذا قوي تاثير صاحبه فيه و يظهر ذلك في مواضع الخير و مواضع الشر و لاجل الارتباط الذي بين اللباس و المقعد و بين صاحبهما امر بتطهيرهما من النجاسة و كانت طهارة الخفين طهارة للقدمين و استحب تكريم البقاع و الثياب التي عملت فيها الصالحات حتى اعد سعد رضي الله عنه جبته التي شهد فيها بدرا كفنا و استوهب بعض ازواج النبي صلى الله عليه و سلم منه بردة لتتخذها كفنا
و هذا كثير فالامر بتطهير عينه من الانجاس امر بطهارة صاحبه بالضرورة
و الاشبه و الله اعلم ان الاية تعم نوعي الطهارة و تشمل هذا كله فيكون مأمورا بتطهير الثياب المتضمنة تطهير البدن و النفس من كل ما يستقذر شرعا من الاعيان و الاخلاق و الاعمال لأن تطهيرها ان تجعل طاهرة و متى اتصل بها و بصاحبها شيء من النجاسة لم تكن مطهرة على الاطلاق
فانها متى ازيل عنها نجس دون نجس لم تكن قد طهرت حتى يزال عنها كل نجس بل كل ما امر الله باجتنابه من الارجاس وجب التطهير منه و هو داخل في عموم هذا الخطاب
يبين ذلك ان الطهارة من الخمر و البول و الدم ذلك هي من تتمة الطهارة من اكلها و شربها و تكميل لذلك المقصود و تحقيق للتنزه من الارجاس بكل طريق و إنما حرم الله سبحانه مباشرة هذه الاعيان الرجسة كما حرم ممازجتها بالاكل و الشرب لما فيها من الخبث و حرم مباشرتها بالثياب قطعا لملابستها بكل طريق و مبالغة في اجتنابها و على هذه فالحجة من الاية اندراج هذه الطهارة في العموم و بذلك تندفع تلك الأسئلة
فان قيل فقد روى عيد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما رسول الله ص - يصلي عند الكعبة و جمع قريش في مجالسهم اذ قال قائل منهم الا تنظرون إلى هذا المرء ايكم يقوم إلى جزور ال فلان فيعمد إلى فرثها و دمها و سلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه فانبعث اشقاهم فلما سجد رسول الله ص - وضعه بين كتفيه فاستضحكوا و جعل بعضهم يميل على بعض و انا قائم انظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله ص - و النبي ص - ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فاخبر فاطمة فجاءت و هي جويرية فطرحته عنه ثم اقبلت عليهم تسبهم فلما قضى النبي ص - صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم و كان إذا دعا دعا لاثا و إذا سأل سأل ثلاثا
ثم قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك و خافوا دعوته ثم قال اللهم عليك بابي جهل ابن هشام
و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة و امية بن خلف و عقبة بن أبي معيط و ذكر السابع و لم احفظه قال فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس و كان يوما حارا متفق عليه فهذا يدل ظاهره على ان اجتناب النجاسة لا يشترط لصحة الصلاة
قلنا قد قال بعض اصحابنا هذا منسوخ لانه كان بمكة في أول الامر و لعل الصلوات الخمس لم تكن فرضت حينئذ و فرض الطهارة إنما نزل بالمدينة
و ايضا فان الحكم بنجاسة الدم و نجاسة ذبائح المشركين إنما علم لما حرمت الميتة و الدم و لحم الخنزير و لعل هذا التحريم لم يكن نزل بعد
و قيل لعل النبي ص - لم يعلم ما وضعوا على ظهره حتى قضى صلاته و النجاسة إذا لم يعلم بها لم تبطل ثم أنه لم يطل الفصل لأن فاطمة جاءت فالقتها عن ظهره و اقبلت عليهم تسبهم فقد علم انهم القوا على ظهره شيئا لكن لم يدر ما هو و القي عنه بابي هو وامي لم يدر ما هو
و قيل هذا يقتضي طهارة الموضوع فوق ظهره فيفيد ان فرث الابل طاهر و الدم فانه كان دما يسيرا معفوا عنه لأن الذي يعلق بالسلا من الدم لا يكون كثيرا في العادة و اما السلا نفسه فانه كان من ذبيحة المشركين لكن لم يكن قد حرم اكل ذبائحهم و حكم بنجاستها فان المسلمين الذين كانوا بين ظهرانيهم إنما كانوات يأكلون من ذبائحهم و إنما حرم الميتة و ما اهل لغير الله به ثم انه فيما بعد حرم اللحم و حكم بنجاسته لكونه من
ذبيحة غير مسلم و لا كتابي بمنزلة الميتة و الفرث نفسه لم يتغير حكمه لانه لا يموت و إنما هو كاللبن فبقي على حاله و هذا الوجه اقرب من غيره
فصل
و يجب اجتناب حمل النجاسة و ملاقاتها بشيء من بدنه أو ثيابه و حمل ما يلاقيها
فلو كان موضع قدميه أو ركبته أو جبهته في السجود نجسا لم تصح صلاته من اجل الملاقاة و كذلك لو لاقى ثوبه نجاسة في حال قيامه أو سجوده و قال ابن عقيل ان لاقى ثوبه نجاسة يابسة على ثوب انسان في حال القيام لم تبطل صلاته لانه ليس بمعتمد على النجاسة و لا هي تابعة له فاشبه النجاسة على طرف الحصير قال و ان كان ثوبه يسقط عليها حال السجود فوجهان لأن ثوبه هنا معتمد عليها و ليس بمستتبع لها
و وجه الاول لأن مجرد الملاقاة ما هو حامل له للنجاسة مبطل بدليل ملاقاة الحائط النجس و الارض النجسة
و لو وقعت عليه نجاسة فازالها في الحال لم تبطل صلاته في المشهور لأن زمن ذلك يسير و قد حصل بغير اختياره فاشبه انكشاف العورة في الزمن اليسير و ان احتاجت إلى زمن كثير أو فصل طويل فينبغي ان يكون كمن سبقه الحدث و اولى بالبناء
و لو حمل قارورة فيها نجاسة بطلت صلاته و ان كانت مشدودة الرأس
ولو حمل شيئا من الحيونات الطاهرة كالصبي ونحوه كما حمل النبي صلى الله عليه و سلم امامة ابنة أبي العاص وكما كان الحسن يرتحله لم تبطل صلاته وان كان في جوفه نجاسة من الدم و الخمر و نحو ذلك لأن النجاسة هنا مستورة بأصل الخلقة و ما هذا سبيله من النجاسات فلا حكم له بخلاف ما في القارورة
نعم في البيضة التي فيها فروج ميت وجهان لانه من حيث هو مستور بأصل الخلقة يشبه الدم في الحيوان الطاهر و من حيث هو مستتر يشبه القارورة
و الاظهر أنه كالقارورة لأن البيضة لم تكن محلا للرطوبات و إنما عرض لها ذلك بخلاف باطن الحيوان و لأن القياس اجتناب جميع النجاسات الظاهرة و الباطنة لكن ما في باطن الحيوان تابع للطاهر و في إخراجه عنه مشقة بخلاف ما في البيضة فانه هو المتبوع و لا مشقة في إخراجه منه
فصل
و أما النجاسة المعفوا عنها فقد تقدم ذكرها قدرا و نوعا و الضابط لها في الغالب ان تكون مما يشق الاحتراز منه مشقة عامة كالدم و ما تولد منه و كاثر الاستنجاء فيعفو الشرع عن قليله رفعا للحرج و ارادة لليسر دون العسر أو ان يكون مما يخفف تنجيسه لشبهه بالطاهرات من بعض الوجوه المعتبرة كالمذي أو للخلاف في نجاسته ان جعلنا هذا مؤثرا كالنبيذ و نحوه
و اما الكثير فلا يعفى عنه لانه لا حرج في الاحتراز منه و قد بلغ بكثرته و قدره ما يبلغ غيره بجنسه و نوعه و سواء كان في موضع واحد أو موضعين من البدن أو الثوب أو المصلى فان المفترق يجمع فان كان مجموعه كثيرا ابطل و الا فلا ان كان في محل متصل
فان كان في محلين منفصلين مثل ثوبين أو ثوب و بدن أو ثوب و مصلى ضم احدهما إلى الاخر في أحد الوجهين اختاره ابن عقيل لانه صلى و معه دم كثير فاشبه ما في الثوب الواحد
و في الاخر لا يضم لأن ذلك اقل فحشا و اشق غسلا من الثوب الواحد ففي ايجاب غسله عكس لمقصود الرخصة
فصل
و إذا بسط على نجاسة شيئا طاهرا أو طينها كرهت الصلاة عليه
و صحت في اشهر الروايتين
و في الأخرى لا تصح هكذا حكاهما جماعة
و قال ابن أبي موسى و غيره من بسط على بول لم يجف أو على غائط رطب حصيرا لم تجزه الصلاة فان كانت الارض قد جفت من البول فبسط عليه حصيرا و صلى عليه اجزاه قال و لو طين مسجدا بطين فيه تراب قد بالت عليه الحمير الاهلية لم يصل فيه حتى يقلع الطين منه و كذلك لو كبس ارضه بتراب نجس لم يصل فيه حتى يزال ذلك التراب منه و على هذا فانه يفرق بين ان تكون النجاسة متصلة بالمصلى الذي يصلي عليه تابعة له و بين ان تكون منفصلة عنه لكنه ملاقية و هذا اشبه بمنصوص احمد فانه قال إذا لم تعلق نجاسة بالثوب يصلي وقال في المسجد المحشو بالقذر لإذا فرش عليه الطوابيق والآجر لا يصلي فيه الا ان يخرج عنه و ذلك لما روى عن ابن سيرين أنه سئل عن المسجد يعني على مكان نجس فقال مر ابن مسعود على قوم يكبسون مسجدهم بروث أو قذر فنهاهم عن ذلك رواه سعيد
و من قال بالمنع مطلقا قال لأن المقر شرط لصحة الصلاة فتشرط طهارته كالثوب
و لو كان في السفل نجاسة صحت الصلاة في العلو قولا واحدا من غير
كراهة لانه ليس بمستقر له بدليل أنه لو كان السفسل مغصوبا و العلو مباحا صحت الصلاة في العلو و لو كان ما تحت البساط المباح و الطين المباح مغصوبا لم تصح الصلاة قال بعض اصحابنا لأن باطن المسجد يجب لا صيانته عن النجاسة كظاهره و لو لم يمنع الصحة لما وجب ذلك كما لو كان المسجد فوق بيت لإنسان فانه لا يلزمه صونه عن النجاسة و لذلك جوز احمد بناء المسجد فوق المطهرة
و احتج اصحابنا للاول بما ذكره احمد عن أبي موسى أنه صلى على الروث و النتن و صلى و البرية إلى جانبه و قال هذا و ذاك سواء و في لفظ رواه سعيد أنه صلى في سكة المربد على الروث و النتن و البرية إلى جانبه فقيل له لو صليت في البرية فقال هذا و ذاك سواء و الحجة بهذا مبنية على أنه فرش على ذلك الروث شيئا و صلى عليه و الا فقد يكون من روث ما يؤكل لحمه و على قول ابن أبي موسى فانه يؤخذ بهذا و بقول ابن مسعود و احتجوا بانه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يصلي على حماره و هو متوجه إلى خيبر رواه مسلم و هذا حجة على من يقول بنجاسة الحمار و يسوي بينه و بين الارض و اما من لم يقل بنجاسة الحمار بين الدواب و غيرها فلا حجة عليه فيه ان صح قوله ذلك و ايضا فانه لم يحمل النجاسة و لم يلاقها فاشبه من صلى على سرير تحته
نجاسة أو في بقعة طاهرة متصلة بنجاسة و كونه شرطا للصحة من اجل الاستقرار لا يقتضي وجوب طهارته كمحل السرير
وأما باطن المسجد فيصان عن النجاسة كهوائه على ان النبي صلى الله عليه و سلم قال البصاق في المسجد خطيئة و كفارتها دفنها و كان اصحاب النبي يدفنون القمل في المسجد فعلم ان باطنه ليس كظاهره من كل وجه
و لو صلى على فراش في حشوها و بطانتها نجاسة او على بساط في باطنه نجاسة لم تنفذ إلى ظاهره أو على طابق طاهر الظاهر نجس الباطن فهو كمن فرش طاهرا على نجس على هذه الطريقة و على ما ذكره ابن أبي موسى لا يصلي على هذا المصلى مع الصلاة على المفروش على المكان النجس اليابس
فصل
و إذا صلى على حبل أو منديل في طرفه نجاسة صحت صلاته في المنصوص و قال بعض اصحابنا ان كانت النجاسة تتحرك بحركته لم تصح صلاته لانه يصير مستتبعا لها
و وجه الاول أنه لم يحمل النجاسة و لم يلاقها و لم يحمل ما يلاقيها فاشبه ما لو صلى في بقعة طاهرة من بيت في جانبه نجاسة
فان كان يحاذيها بصدره إذا ركع أو إذا سجد و لم تلاقها ثيابه صحت ايضا في المشهور
و في وجه مخرج انها لا تصح كما لو صلى على مدفن النجاسة على الرواية المتقدمة
و وجه الأول ان ما يحاذي الصدر لا يعتبر استقراره بدليل ما لو كان روزنة أو حفرة بخلاف مساجد الاعضاء السبعة فان استقرارها معتبر حتى لو وضعها على قطن منتفش و نحوه فلذلك اعتبرت طهارتها و اشترطت في رواية
فان كان المنديل أو الحبل متعلقا به في يده أو وسطه أو نحو ذلك بحيث يتبعه إذا مشى المشى لم تصح صلاته سواء تحركت النجاسة بحركته في الصلاة أو لم تتحرك لأن النجاسة إذا انتقلت لانتقاله كان مستصحبا لها و بمنزلة الحامل لها فاشبه ما لو كانت على ذيل قميصه الطويل أو طرف عمامته المحلولة و سواء كان النجس يتبع باختياره كالحيوان من الكلب و نحوه أو ليس له اختيار كالسفيه الصغير و الثوب النجس و نحو ذلك فلو
صلى و مقود الكلب بيده لم تصح صلاته و كذلك ان كان بيده مقود بغل أو حمار إذا قلنا هو نجس
و يتوجه الفرق بين ما يتبع بارادته و بين الجامد و على المعروف في المذهب لو لم يكن له من يمسك بغله أو حماره و لا يمكن ضبطه الا بامساكه فينبغي ان يكون بمنزلة العاجز عن ازالت النجاسة لأن اجتناب النجاسة هنا لا يمكن الا بضياع ماله فلم يجب كما لو يمكنه الذهاب إلى الماء الا بالخوف على ماله أو كانت عليه نجاسة و لا يمكنه غسلها الا بالخوف على ماله و أولى
و لو كان الحبل المعلق به واقعا على نجاسة يابسة لم تصح صلاته لانه حامل لما يلاقي النجاسة فاشبه ما لو القى عليها طرف ثوبه أو كمه
و ان كان الحبل مشدودا في شيء لا ينجر بجره و مشيه كحمل ميت أو حيوان نجس لا يتبعه إذا مشى و لا يقدر على جره اذا استعصى عليه كالفيل أو سفينة كبيرة فيها نجاسة أو ظرف كبير مملوء خمرا فان كان طرف الحبل متصلا بموضع نجس كمسالة الميتة و نحوها لم تصح صلاته و ان لم يكن متصلا بموضع نجس صحت كمسالة السفينة و الظرف لأن هذا ليس حاملا للنجاسة و لا مستصحبا لها و إنما هو حامل للحبل فاذا كان ملاقيا للنجاسة كان كما لو لاقاها ثوبه أو كمه بخلاف ما إذا لاقى محلا طاهرا متصلا بنجس
و من اصحابنا من قال لا فرق بين ان يكون المحل متصلا بوضع
طاهر أو نجس فلا تبطل صلاته فيهما الا إذا كان ينجر معه لانه لا يقدر على استتباع النجاسة فلا يضر حمله لما يلاقيها كما لو امسك سفينة عظيمة فيها نجاسة و امسك شجرة على غصنها نجاسة و هذا يوافق قول ابن عقيل
و قال الامدي إذا كانت النجاسة في مركب فشد حبله إلى وسطه كانت صلاته باطلة و لم يفرق بين ان يستطيع ان يجرها أو لا
مسالة فان صلى و عليه نجاسة لم يكن علم بها أو علمها ثم نسيها فصلاته صحيحة و ان علمها في الصلاة ازالها و بنى على صلاته
هذه احدى الروايتين عن الامام احمد
و الرواية الاخرى أنه يعيد صلاته سواء علمها قبل الصلاة ثم نسيها أو لم يعلم بها حتى سلم أو علمها في اثناء الصلاة هذه الطريقة المشهورة و هذه الرواية اختيار كثير من اصحابنا كابن أبي موسى و القاضي و اصحابه
و ذكر القاضي في المجرد و الامدي ان الناسي يعيد رواية واحدة لانه مفرط و قد وجبت عليه الإزالة و إنما الروايتان في الجاهل و الروايتان منصوصتان عن احمد في الجاهل بالنجاسة
فاما الناسي فليس فيه عنه نص فلذلك اختلفت الطريقتان فان قلنا يعيد مطلقا فلانها احدى الطهارتين فلم يسقط بالجهل و النسيان كطهارة الحدث و لانه شرط من شروط الصلاة فلم يسقط بالجهل و النسيان كاللباس و القبلة وإن قلنا لا يعيد و هي اختيار طائفة من اصحابنا و هي اظهر فلما روى أبو سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى فخلع نعيله
فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لم خلعتم قالوا يا رسول الله رايناك خلعت فخلعنا فقال ان جبريل اتاني فأخبرني ان بهما خبثا فاذا جاء احدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فان راى خبثا فليمسحه بالارض ثم ليصل فيهما رواه احمد و أبو داود و احتج به اسحق بن راهويه و ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم حين اخبره جبريل عليه السلام ان في نعليه قدرا كان راكعا فخلعهما و مضى في صلاته و لو اطيل حملهما بغير علم لاستانف الصلاة و لا يصح ان يقال لعله كان مخاطا أو بصاقا أو نحو ذلك مما لا يبطل الصلاة أو كان يسيرا من دم و نحوه فقد قيل أنه كان دم حلمة لأن الخبث اسم للغائط و كذلك القذر حقيقة في النجاسة
و لانه لو كانت الصلاة تصح معه لم يخلع نعليه في الصلاة فانه عبث و العبث في الصلاة مكروه جدا لا سيما و هو راكع و خلع نعليه يحتاج إلى نوع علاج و ايضا فانه صلى الله عليه و سلم قد امر المصلي ان يبصق في ثوبه إذا لم يجد مكانا يبصق فيه و كانوا إذا وجدوا يسير الدم مضوا في صلاتهم فعلم
ان حمل شيء من البصاق و نحوه و حمل شيء من يسير النجاسة المعفو عن يسيرها لا كراهة فيه و لا يشرع لازالته شيء من العمل و ايضا فقوله في الحديث فان راى خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما دليل على ان الصلاة لا تصح مع وجوده و هذا لا يكون الا في خبث هو نجس و لأن النسيان يجعل الموجود كالمعدوم و يبقى المعدوم على حاله لأن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه و المؤمنين حيث قالوا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطانا فانه قال قد فعلت رواه مسلم و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عفي لامتي عن الخطا و النسيان فان ترك المأمور به ناسيا لم
يؤاخذ بالترك و لم تبرا ذمته من عهدة الايجاب لانه لم يفعله و ان فعل المنهي عنه ناسيا كان كأنه لم يفعله فلا يضره وجوده و حمل النجاسة في الصلاة من باب المنهيات فاذا وقع كان معفوا عنه بخلاف الوضوء و الاستقبال و السترة فانها من باب المامورات فاذا لم يفعلها بقيت عليه و لهذا لم يفسد الصوم بالاكل ناسيا و من فرق بين الجاهل و الناسي ينتقض عليه بمن ذكر فائتة ثم نسيها حتى صلى الحاضرة فان حاضرته تصح في ظاهر المذهب
فان قيل فلو جهل ان النجاسة محرمة في الصلاة
قلنا ان كان ممن يعذر بهذا الجهل فسياتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى فعلى هذا إن علم النجاسة في اثناء الصلاة فابتدا الصلاة على الرواية التي توجب فيها الاعادة لأن ما مضى من صلاته كان باطلا
و على الاخرى يلقي النجاسة و يتم الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا فأشبه العاري إذا وجد السترة الا ان تحتاج ازالتها إلى عمل كثير يبطل الصلاة أو زمن طويل فقيل تبطل الصلاة كالعاري إذا وجد السترة بعيدة منه
و يتخرج في الزمن الطويل ان لا تبطل كما قيل في السترة
و يتخرج في العمل الكثير ايضا مثل ذلك كما قلنا فيمن سبقه الحدث و في العاري و المتيمم و المستحاضة على وجه
مسألة والأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها الا المقبرة و الحش و الحمام و اعطان الابل
هذا الكلام فيه فصول
الفصل الاول
ان الارض كلها مسجد لنبينا و لامته صلى الله عليه و سلم في الجملة و قد تواطات بذلك الاحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فروى أبو ذر رضي الله عنه قال سالت رسول الله صلى الله عليه و سلم أي مسجد وضع في الارض أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الاقصى قلت كم بينهما قال اربعون سنة ثم حيث ادركتك الصلاة فصل فكلها مسجد متفق عليه و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال ان النبي صلى الله عليه و سلم قال اعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر و جعلت لي الارض مسجدا و طهورا فايما رجل من امتي ادركته الصلاة فليصل حيث ادركته و احلت لي الغنائم و لم تحل لاحد قبلي و اعطيت الشفاعة و بعثت إلى الناس كافة متفق عليه
و رواه مسلم من حديث أبي هريرة و قد رواه عدة من الصحابة رضي
الله تعالى عنهم منهم أبو ذر و أبو موسى و ابن عباس و غيرهم و عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه و سلم عام غزاة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من اصحابه يحرسونه حتى إذا صلى و انصرف اليهم قال لهم لقد اعطيت الليلة خمسا ما اعطيهن احد قبلي اما انا فارسلت إلى الناس كلهم عامة و كان من قبلي إنما يرسل إلى قومه و نصرت على العدو بالرعب و لو كان بيني و بينه مسيرة شهر لملىء مني رعبا و احلت لي الغنائم كلها و كان من قبلي يعظمون اكلها كانوا يحرقونها و جعلت لي الارض مسجدا و طهورا اينما ادركتني الصلاة تمسحت و صليت و كان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم و بيعهم و الخامسة هي ما هي قيل لي سل فان كل نبي قد
سأل فاخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم و لمن شهد ان لا اله الا الله رواه احمد باسناد جيد و قد تقدم قوله في حديث حذيفة و جعلت لنا الارض كلها مسجدا و تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء
الفصل الثاني
في المواضع المستثتاة التي نهى عن الصلاة فيها و قد عد اصحابنا عشرة مواضع المقبرة و المجزرة و المزبلة و الحش و الحمام و قارعة الطريق و اعطان الابل و ظهر الكعبة و الموضع المغصوب و الموضع النجسفاما الموضع النجس و المغصوب فقد ذكرنا حكمه
و اما ثلاثة منها فقد تواطأت الاحاديث و استفاضت بالنهي عن الصلاة فيها و هي المقبرة و اعطان الابل و الحمام و سائرها جاء فيها من الاحاديث ما هو دون ذلك
اما المقبرة و الحمام فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اجعلوا من
صلاتكم في بيوتكم و لا تجعلوها قبورا رواه الجماعة و عن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تصلوا إلى القبور و لا تجلسوا عليها رواه الجماعة الا البخاري و ابن ماجه و عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قبل ان يموت بخمس و هو يقول ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم و صالحيهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك رواه مسلم
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد و عن ابن عباس و عائشة ان
النبي صلى الله عليه و سلم قال لما نزل به لعنة الله على اليهود و النصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد و عن عائشة ان ام حبيبة و ام سلمة ذكرتا للنبي ص - كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير فقال ان اولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا و صوروا فيه تلك الصور اولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة متفق على هذه الاحاديث و عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم زائرات القبور و المتخذين عليها مساجد و السرج رواه الخمسة الا ابن ماجه و صححه الترمذي و عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان من شرار الناس من تدركهم الساعة و هم احياء و من يتخذ القبور مساجد
و في لفظ و الذين يتخذون قبورهم مساجد رواه احمد باسناد صحيح
و الاحاديث في هذ المعنى كثيرة يذكر بعضها ان شاء الله في الجنائز و الحج مثل قوله صلى الله عليه و سلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد و قوله عليه السلام لا تتخذوا قبري عيدا
وأما اعطان الابل فقد تقدم في باب نواقض الوضوء النهي عن الصلاة فيها من حديث جابر بن سمرة و هو في صحيح مسلم و تقدم ايضا حديث البراء بن عازب و اسيد بن خضير و ذي
الغرة و في حديث البراء لا تصلوا فيها فانها من الشياطين و هو حديث صحيح و عن أبي هريرة رضي الله عنه فال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في اعطان الابل رواه احمد و الترمذي و صححه و في رواية لاحمد و ابن ماجه إذا لم تجدوا الا مرابض الغنم و معاطن الابل فصلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في معاطن الابل
و عن عبد الله بن المغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في اعطان الابل فانها خلقت من الشياطين رواه احمد و النسائي و ابن ماجة و في رواية لاحمد إذا حضرت الصلاة و انتم في
مرابض الغنم فصلوا و إذا حضرت و انتم في اعطان الابل فلا تصلوا فانها خلقت من الشياطين و في رواية له لا تصلوا في عطن الابل فانها من الجن خلقت الا ترون عيونها و هيئتها إذا نفرت
و اما قارعة الطريق فعن جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تصلوا على جواد الطريق و لا تنزلوا عليها فانها ماوى الحيات و السباع و لا تقضوا عليها الحوائج فانها من الملاعن رواه احمد و ابن ماجة و عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه و سلم نهى ان يصلي على قارعة الطريق أو يضرب الخلا عليها أو يبال فيها رواه ابن ماجة
و اما سائرها فروى ابن ماجه من حديث أبي صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها ظاهر بيت الله
و المقبرة و المزبلة و المجزرة و الحمام و عطن الابل و محجة الطريق و عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى ان يصلى في سبع مواطن في المجزرة و المزبلة و المقبرة و قارعة الطريق و في الحمام و في معاطن الابل و فوق ظهر بيت الله رواه عبد بن حميد و ابن ماجة و الترمذي و قال ليس اسناده بذلك القوي و قد تكلم في زيد بن جبيرة من حفظه قال و قد روى الليث ابن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله قال و حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم اشبه و اصح من حديث الليث بن سعد و عبد الله بن عمر ضعفه بعض اهل
الحديث من قبل حفظه منهم يحيى بن سعيد القطان
و هذا الكلام لا يوجب رد الحديث لوجهين
احدهما ان رواته عدول مرضيون و إنما يخاف على بعضهم من سوء حفظه و ذلك إنما يؤثر في رفع موقوف أو وصل مقطوع أو اسناد مرسل أو زيادة كلمة أو نقضصاخرى أو اختلاط حديث بحديث و شبه ذلك مما يؤتى الانسان فيه من جهة تغير حفظه اما حديث كامل طويل يحدد فيه اشياء و يحصيها جملة و تفصيلا فلا يؤتى الانسان في مثل هذا من جهة حفظه الا ان يكون اختلقه و لهذا إنما اختلفت الرواية في كونه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أو عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و إلى ذلك اشار الترمذي في كون عبد الله بن عمر تكلم فيه من جهة حفظه لكونه ادخل في اسناده عمر و الاحاديث الصحاح المشاهير قد يقع فيها اكثر من هذا على ان رواية ابن ماجه قد صرح فيها بان الليث سمعه من نافع و الاسناد اليه صالح الا ان يكون قد وقع فيه وهم و من الممكن ان يكون ابن عمر سمعه من ابيه فكان تارة يؤثره عنه و تارة يذكر النبي صلى الله عليه و سلم من غير واسطة فان ابن عمر على خصوصه و غيره من الصحابة لهم من هذا الجنس احاديث كثيرة
الوجه الثاني ان علة الحديث إذا كانت من جهة الخوف من سوء حفظ الراوي فاذا كان قد روي من وجهين مختلفين عن رجلين عدلين ادى كل منهما مثل ما ادى الاخر كان ذلك دليلا على ان كلا منهما حفظ ما حدثه و لم يخنه حفظه في هذا الموضوع و لهذا لما خشي النبي صلى الله عليه و سلم ان
لا يكون ذو اليدين ضبط ما قاله استشهد بغيره من الحاضرين و كذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في طلبه شاهدا اخر مع محمد بن مسلمة على ميراث الجدة حتى شهد المغيرة بن شعبة
و عمر رضي الله عنه في طلبه شاهدا مع أبي موسى على حديث الاستئذان لم يكن ذلك خشية ان يكون المحدث كذب فان مقادير هؤلاء عندهم كانت اجل من ان يتوهم فيهم الكذب و إنما هو خشية النسيان و عدم الضبط فاذا اعتضدت رواية برواية اخرى دل ذلك على الحفظ و الضبط و قد قال سبحانه لما امر باستشهاد امراتين ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى و اخبر النبي صلى الله عليه و سلم ان نقص عقلهن اوجب ان يكون شهادة امراتين كشهادة رجل واحد فعلم ان الضلال
الذي هو النسيان و نقص العقل الذي هو عدم الضبط ينجبر بانضمام المثل إلى المثل لا سيما إذا كان المحدث جازما بما حدثه و ليس الحديث مما يتوهم دخول الغفلة فيه و لم يعارضه ما يخالفه و لا قامت امارة على عدم حفظه بل قامت الشواهد على صحته اما بنصوص اخرى أو بقياس و قول الترمذي ليس اسناده بذلك قوي لاجل ما تكلم في حفظ زيد بن جبيرة و قد تقدم القول في مثل هذا و ذكرنا ان الكلام في الحديث تعليلا و تضعيفا شيء و ان العمل به و الاحتجاج به شيء اخر و ان اهل الحديث يريدون بالضعيف كثيرا ما لم يكن قويا صحيحا و ان كانت الحجة توجب العمل به و عبارته إنما تدل على أنه ليس بتام القوة و هذا صحيح لكن إذا انجبر هذا الضعيف بالطريق الاخرى صار بمنزلة القوي هذا كله ان كان بين الليث و بين نافع فيه العمري و ان كان قد سمعه منه فالليث حجة امام
الفصل الثالث
في الصلاة في المواضع المنهي عن الصلاة فيها و فيها روايتاناحداهما و هي ظاهر المذهب انها لا تصح و لا تجوز
و الثانية انها تكره و تستحب الاعادة و من اصحابنا من يحكي هذه الرواية بالتحريم مع الصحة و لفظ احمد فيها هو الكراهة و قد يريد بها تارة التحريم و تارة التنزيه و لذلك اختلفوا في كراهيته المطلقة على
وجهين مشهورين و من اصحابنا من يقول الروايتان في الجاهل بالنهي كم سيأتي اما ان علم بالنهي لم تصح صلاته رواية واحدة
و الصحيح ان في العالم بالنهي خلافا عنه و قد جاء ذلك صريحا عنه
فان قلنا تصح فلعموم الاحاديث الصحيحة بان الارض كلها مسجد كما تقدم و لو كان ذلك يختلف لبينه لأن تاخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز و يحمل على النهي عن هذه المواضع على الكراهة جمعا بينهما و لأن علة النهي في بعضها كونها مظنة النجاسة و في بعضها كونها محلا للشياطين و ان بها ما يشغل قلب المصلي و يخاف ان يفسد عليه صلاته و ذلك اكثر ما يوجب الكراهة و لانه موضع طاهر لا يحرم المقام فيه فاشبه الاصطبلات
و الاول اصح لأن قوله الارض كلها مسجد الا المقبرة و الحمام إخراج لها عن ان تكون مسجدا و الصلاة لا تصح الا في مسجد اعني فيما جعله الله لنا مسجدا و هذا خطاب وضع و اخبار فيه ان المقبرة و الحمام لم يجعلا مسجدا و محلا للسجود كما بين ان محل السجود هو الأرض الطيبة فإذا لم تكن مسجدا كان السجود واقعا فيها في غير موضعه فلا يكون معتدا به كما لو وقع في غير وقته أو إلى غير جهته أو في ارض خبيثة و هذا الكلام من ابلغ ما يدل على الاشتراط فانه قد يتوهم ان العبادة تصح مع التحريم
إذا كان الخطاب خطاب امر و تكليف اما إذا وقعت في المكان أو في الزمان الذي بين أنه ليس محلا لها و لا ظرفا فانها لا تصح اجماعا و ايضا فان نهيه عن صلاة المقبرة و اعطان الابل و الحمام مرة بعد مرة اوكد شيء في التحريم و الفساد لا سيما و هو نهي يختص الصلاة بمعنى في مكانها فان الرجل إذا صلى في مكان نهاه الله و رسوله ان يصلي فيه نهيا يختص الصلاة لم يفعل ما امره الله به فيبقى في عهدة الامر بل قد عصى الله و رسوله و تعدى حدوده
و ايضا لعنته صلى الله عليه و سلم من يتخذ القبور مساجد و وصيته بذلك في اخر عمره و هو يعالج سكرات الموت بعد ان نهى عن ذلك قبل موته بخمس و بيانه ان فاعلي ذلك شرار الخلق من هذه الامة و من الامم قبلها بيان عظيم لقبح هذا العمل و دلالة على أنه من الكبائر و أنه مقارب للكفر بل ربما كان كفرا صريحا و ايضا فان قوله لا تجوز الصلاة فيها صريح في التحريم و التحريم يقتضي الفساد خصوصا هنا و لذلك لا يصح ان يقال هنا بالتحريم مع الصحة و ان قلنا به في الدار المغصوبة لأن النهي هناك ليس عن خصوص الصلاة و قد يقال أنه ليس لمعنى في المنهي عنه و هنا النهي عن نفس الصلاة في المكان المخصوص لمعنى في نفس المنهي عنه و ايضا فقوله لا يجوز دليل على أنه لا يجزىء لأن العبادة الجائزة هي الماضية النافذة و ضدها الموقوفة المردودة و إذا كانت