كتاب : منار السبيل في شرح الدليل
المؤلف : ابن ضويان، إبراهيم بن محمد بن سالم
وفيه: "... ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له" متفق عليه.
"ومن أتى حدا ستر نفسه، ولم يسن أن يقر به عند الحاكم" لحديث: "إن الله ستير يحب الستر" . ومن قال لحاكم: أصبت حدا، لم يلزمه شيء ما لم يبين، نص عليه.
"وإن اجتمعت حدود لله تعالى من جنس" واحد: بأن زنى أو سرق أو شرب الخمر مرارا:
"تداخلت" فلا يحد سوى مرة. حكاه ابن المنذر: إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم، لأن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل، وهو حاصل بحد واحد، وكالكفارات من جنس.
"ومن أجناس فلا" تتداخل، كبكر زنى وسرق وشرب الخمر. ويبدأ بالأخف فالأخف: فيحد أولا لشرب، ثم لزنى، ثم لقطع، وإن كان فيها قتل: بأن كان الزاني في المثال محصنا استوفي القتل وحده، لقول ابن مسعود، رضي الله عنه: إذا اجتمع حدان أحدهما: القتل أحاط القتل بذلك رواه سعيد، ولا يعرف له مخالف من الصحابة ولأن الغرض الزجر، ومع القتل لا حاجة له.
باب حد الزنى
:"الزنى: هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر" وهو من أكبر الكبائر. قال الإمام أحمد: لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنى. وأجمعوا على تحريمه، لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} 1 وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" . قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" . قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك" متفق عليه.
"فإذا زنى المحصن وجب رجمه حتى يموت" لحديث عمر قال: إن الله بعث محمدا، صلى الله عليه وسلم، بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم متفق عليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: رجم ماعزا
ـــــــ
1 الإسراء من الآية/ 32.
والغامدية، ورجم الخلفاء بعده وهل يجلد قبله على روايتين، إحداهما: يجب للآية. وعن علي أنه ضرب سراخة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري. وفي حديث عبادة، "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" . رواه مسلم وغيره والثانية: لا جلد عليه. لما تقدم عن ابن مسعود. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وقال لأنيس "فإن اعترفت فارجمها" ولو وجب الجلد لأمر به. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: في حديث عبادة: إنه أول حد نزل، وإن حديث ماعز بعده. وعمر رجم ولم يجلد ولا يجب الرجم إلا على المحصن بإجماع أهل العلم.
"والمحصن هو من وطئ زوجته في قبلها بنكاح صحيح" لا باطل ولا فاسد، لأنه ليس بنكاح في الشرع.
"وهما حران مكلفان" فلا إحصان مع صغر أحدهما أو جنونه أو رقه، لحديث: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه مسلم. ولا يكون ثيبا إلا بذلك، ولأن الإحصان كمال فيشترط أن يكون في حال الكمال. وتصير الزوجة أيضا محصنة حيث كانا بالصفات المتقدمة حال الوطء. ولا يشترط الإسلام في الإحصان لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر برجم اليهوديين الزانيين فرجما. متفق عليه.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنى ووطء الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما، لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه.
"وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة" بلا خلاف لقوله تعالى: {... الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...} 1 وحديث عبادة مرفوعا: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" رواه مسلم.
"وغرب عاما" لما سبق، روى الترمذي عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب
"إلى مسافة القصر" لأن أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه. قاله في الكافي. وقال: وحيث رأى الإمام الزيادة في المسافة فله ذلك، لأن عمر، رضي الله عنه، غرب إلى الشام والعراق وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز، لأن مدة الحول منصوص عليها فلم يدخلها الاجتهاد، والمسافة غير منصوص عليها، فرجع فيها إلى الاجتهاد. انتهى. وتغرب امرأة مع محرم. لعموم نهيها عن السفر بلا محرم. وعليها أجرته. ويغرب غريب إلى غير وطنه.
"وإن زنى الرقيق: جلد خمسين" جلدة بكرا أو ثيبا، لقوله تعالى: {... فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ...} 2 والعذاب المذكور في القرآن: مائة جلدة، فينصرف التنصيف إليه دون غيره، والرجم لا يتأتى تنصيفه. وعن عبد الله بن عياش المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنى ورواه مالك.
"ولا يغرب" لأن تغريبه إضرار بسيده دونه ولأنه صلى الله عليه
ـــــــ
1 النور من الآية/ 2.
2 النساء من الآية/ 25.
وسلم، لم يأمر بتغريب الأمة إذا زنت في حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد وقد سبق.
"وإن زنى الذمي بمسلمة: قتل" نص عليه، لانتقاض عهده، ولما روي عن عمر، وتقدم في الجهاد.
"وإن زنى الحربي: فلا شيء عليه" من جهة الزنى لأنه مهدر الدم، ولأنه غير ملتزم بأحكامنا.
"وإن زنى المحصن بغير المحصن فلكل حده" لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن أحدهما عسيفا عند الآخر فزنى بامرأته. وفيه... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" . قال: فغدا عليها، فاعترفت فرجمها رواه الجماعة.
"ومن زنى ببهيمة عزر" ولا حد عليه، روي عن ابن عباس، وهو قول مالك والشافعي، لأنه لم يصح فيه نص، ولا حرمة له، والنفوس تعاف، وعنه: عليه الحد، لحديث ابن عباس مرفوعا: "من وقع على بهيمه فاقتلوه، واقتلوا البهيمة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وضعفه الطحاوي. وفي وجوب قتلها روايتان. وكره أحمد أكل لحمها.
"ولو تلوط" بغلام لزمه الحد، لحديث أبي موسى مرفوعا: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" وعنه: حده الرجم بكل حال، لأنه إجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في الكيفية، قاله في الشرح. وعن ابن عباس مرفوعا: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط
فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه الخمسة إلا النسائي. وفي حد من وقع على ذات محرمه بعقد أو غيره روايتان. إحداهما: حده حد الزنى لعموم الآية والأخبار. والثانية: يقتل بكل حال، لما روى البراء قال: لقيت عمي، ومعه الراية، فقلت أين تريد؟ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه بعده: أن أضرب عنقه، وآخذ ماله حسنه الترمذي، وروى ابن ماجه بإسناده مرفوعا: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه، لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.
"وشرط وجوب الحد ثلاثة:"
"أحدها: تغييب الحشفة أو قدرها" لعدمها.
"في فرج أو دبر لآدمي حي" ذكر أو أنثى لحديث ابن مسعود: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وجدت امرأة في البستان فأصبت منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت. فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 1 رواه النسائي. وعن أبي هريرة في حديث الأسلمي: فأقبل عليه في الخامسة، قال: "أنكتها" ، قال: نعم. قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟" قال: نعم وفي آخره فأمر به فرجم رواه أبو داود والدارقطني.
"الثاني: انتفاء الشبهة" لحديث عائشة مرفوعا: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة" رواه الترمذي.
ـــــــ
1 هود من الآية/ 114.
وذكر أنه قد روي موقوفا، وأنه أصح. وقال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة: أنهم قالوا مثل ذلك. وعن أبي هريرة مرفوعا: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا" رواه ابن ماجه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن الحدود تدرأ بالشبهات.
"الثالث: ثبوته إما بإقرار أربع مرات" لأن ماعز بن مالك اعترف عند النبي، صلى الله عليه وسلم الأولى، والثانية، والثالثة، فرده. فقيل له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك. فاعترف الرابعة فحبسه، ثم سأل عنه، فقالوا: لا نعلم إلا خيرا، فأمر به فرجم روي من طريق عن ابن عباس وجابر وبريدة وأبي بكر الصديق. حتى ولو كان الإقرار في مجالس لأن الغامدية أقرت عنده بذلك في مجالس رواه مسلم.
"ويستمر على إقراره" إلى تمام الحد فإن رجع أو هرب كف عنه.
وبه قال مالك والشافعي، لقول بريدة: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعزا لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما بعد الرابعة رواه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن ماعزا فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلا تركتموه" رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه.
"أو شهادة أربعة رجال عدول" ويصفونه، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ...} 1 الآية وقوله
ـــــــ
1 النور من الآية/4.
تعالى: {... فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1 فيجوز لهم النظر إليهما حال الجماع لإقامة الشهادة عليهما.
"فإن كان أحدهم غير عدل حدوا للقذف" لعدم كمال شهادتهم للآية ويشترط كونها في مجلس واحد وسواء جاؤوا جملة واحدة، أو سبق بعضهم بعضا لأن عمر، رضي الله عنه، لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنى حدهم حد القذف، لما تخلف الرابع زياد فلم يشهد ولو لم يشترط المجلس لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لوجب أن يقتل. قاله في الكافي.
"وإن شهد أربعة بزناه بفلانة، فشهد أربعة آخرون أن الشهود هم الزناة صدقوا وحد الأولون فقط" دون المشهود عليه، لقدح الآخرين في شهادتهم عليه،
"للقذف، والزنى" لأنهم شهدوا بزنى لم يثبت فهم قذفة، وثبت عليهم الزنى بشهادة الآخرين.
"وإن حملت من لا زوج لها، ولا سيد: لم يلزمها شيء" لأن عمر، رضي الله عنه: أتي بامرأة ليس لها زوج قد حملت، فسألها عمر، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، وقع علي رجل وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد رواه سعيد. وعن علي وابن عباس: إذا كان في الحد لعل، وعسى، فهو معطل ولا خلاف أن الحد يدرأ
ـــــــ
1 النساء من الآية/15.
بالشبهة، وهي متحققة هنا. وعنه: تحد إذا لم تدع شبهة، اختاره الشيخ تقي الدين، وعليه يحمل قوله: أو كان الحبل أو الاعتراف.
باب حد القذف
باب حد القذف:
وهو: الرمي بالزنى. وهو من الكبائر المحرمة، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" . قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" متفق عليه.
"ومن قذف غيره بالزنى حد للقذف. ثمانين إن كان حرا" لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 2.
"وأربعين إن كان رقيقا" لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكا افترى على حر ثمانين، فبلغ عبد الله بن عامر بن ربيعة، فقال: أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب إلى اليوم، فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو. ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك على النصف من الحر، كحد الزنى. وإن كان مبعضا فعليه بالحساب.
ـــــــ
1 النور من الآية/ 23.
2 النور من الآية/ 4.
"وإنما يجب بشروط تسعة:"
"أربعة منها في القاذف. وهو: أن يكون: بالغا، عاقلا، مختارا" فلا حد على صغير، ومجنون، ونائم، ومكره، لحديث "رفع القلم عن ثلاثة" .
"ليس بوالد للمقذوف وإن علا" فإن قذف والد ولده، وإن سفل، فلا حد عليه: أبا كان أو أما، لأنها عقوبة تجب لحق آدمي، فلم تجب لولد على والده، كالقصاص. قاله في الكافي.
"وخمسة في المقذوف. وهو كونه: حرا، مسلما، عاقلا، عفيفا عن الزنى يطأ ويوطأ مثله" لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} 1 الآية مفهومه أنه لا يجلد بقذف غير المحصن. والمحصن هو المسلم الحر العاقل العفيف عن الزنى، فلا يجب الحد على قاذف الكافر والمملوك والفاجر، لأن حرمتهم ناقصة، فلم تنهض لإيجاب الحد، ولا على قاذف المجنون والصغير الذي لا يجامع مثله، لأن زناهما لا يوجب الحد عليهما، فلا يجب الحد بالقذف به، كالوطء دون الفرج، قاله في الكافي بمعناه.
"لكن لا يحد قاذف غير البالغ حتى يبلغ" ويطالب به بعد بلوغه، إذ لا أثر لطلبه قبل البلوغ، لعدم اعتبار كلامه،
"لأن الحق في حد القذف للآدمي فلا يقام بلا طلبه" ذكره الشيخ تقي الدين إجماعا.
ـــــــ
1 النور من الآية/4.
"ومن قذف غير محصن عزر" ردعا له عن أعراض المعصومين، وكفا له عن إيذائهم.
"ويثبت الحد هنا، وفي الشرب. والتغرير بأحد أمرين. إما بإقراره مرة، أو شهادة عدلين" ويأتي في الشهادات.
فصل ويسقط حد القذف بأربعة أشياء
:"بعفو المقذوف" لما روي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم: كان إذا أصبح يقول: تصدقت بعرضي..." . الحديث رواه ابن السني. والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما وجب له، ولأنه حق له لا يقام إلا بطلبه فيسقط بعفوه، كالقصاص.
"أو بتصديقه" أي إقراره، ولو دون أربع مرات، لأن المعرة عليه بإقراره لا بالقذف.
"أو بإقامة البينة"
"أو باللعان" لما تقدم في اللعان.
"والقذف: حرام، وواجب، ومباح. فيحرم فيما تقدم" لأنه من الكبائر.
"ويجب على من يرى زوجته تزني، ثم تلد ولدا يغلب على ظنه أنه من الزنى، لشبهه به" أو يراها تزني في طهر لم يطأها فيه فيعتزلها، ثم تلده لستة أشهر فأكثر، لجريان ذلك مجرى اليقين في أن الولد من
الزنى فيلزمه قذفها ونفيه، لئلا يلحقه الولد، ويرثه ويرث أقاربه ويرثوه، وينظر إلى بناته وأخواته ونحوهن، وذلك لا يجوز فوجب نفيه إزالة لذلك، ولحديث: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" . رواه أبو داود. فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم فالرجل مثلها.
"ويباح إذا رآها تزني ولم تلد ما يلزمه نفيه" أو استفاض زناها بين الناس، أو أخبره به ثقة لا عداوة بينه وبينها، أو يرى معروفا به عندها خلوة، لأن ذلك مما يغلب على الظن زناها، ولم يجب لأنه لا ضرر على غيرها حيث لم تلد.
"وفراقها أولى" لأنه أستر ولأن قذفها يفضي إلى حلف أحدهما كاذبا إذا تلاعنا أو إقرارها فتفتضح.
فصل وصريح القذف يا منيوكة
:إن لم يفسره بفعل زوج أوسيد، فإن فسره بذلك لم يكن قذفا.
"يا منيوك، يا زاني، يا عاهر" وأصل العهر: إتيان الرجل المرأة ليلا للفجور بها، ثم غلب على الزاني، سواء جاءها أو جاءته، ليلا أو نهارا.
"يا لوطي" وهو في العرف: من يأتي الذكور، لأنه عمل قوم لوط لأن هذه الألفاظ صريحة في القذف لا تحتمل غيره، فأشبه صريح الطلاق.
"ولست ولد فلان فقذف لأمه" أي: المقول له في الظاهر من المذهب. وكذا لو نفاه عن قبيلته، لحديث الأشعث بن قيس مرفوعا: "لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته" وروي عن ابن مسعود: أنه قال: لا حد إلا في اثنتين: قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه ولأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنى أمه. قاله في الكافي.
"وكنايته: زنت يداك أو رجلاك، أو يدك، أو بدنك" لأن زنى هذه الأعضاء لا يوجب الحد، لحديث: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" .
"و: يا مخنث، يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول لزوجة شخص: فضحت زوجك، وغطيت رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره، وأفسدت فراشه" أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنى ما أنا بزان، ولا أمي بزانية ونحو ذلك. فهذا ليس بصريح في القذف. قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف أو الشتمة.
"فإن أراد بهذه الألفاظ حقيقة الزنى حد" للقذف، لأن الكناية مع نية أو قرينة كالصريح في إفادة الحكم.
"وإلا" بأن فسره بمحتمل غير القذف.
"عزر" لارتكابه معصية لا حد فيها، ولا كفارة كأن أراد بالمخنث: المتطبع بطبائع التأنيث، وبالقحبة: المتعرضة للزنى وإن له تفعله،
وبالفاجرة: الكاذبة، ونحو ذلك. وعنه: أن الحد يجب بذلك كله، لما روى سالم عن أبيه: أن رجلا قال: ما أنا بزان، ولا أمي بزانية فجلده عمر الحد وروى الأثرم: أن عثمان جلد رجلا قال لآخر: يا ابن شامة الوذر: يعرض بزنى أمه1 ولأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عرفا، فجرت مجرى الصريح. قاله في الكافي.
"ومن قذف أهل بلدة أو جماعة لا يتصور الزنى منهم عزر ولا حد" لأنه لا عار عليهم بذلك، للقطع بكذب القاذف.
"وإن كان يتصور الزنى منهم عادة، وقذف كل واحد بكلمة: فلكل واحد حد" لتعدد القذف، وتعدد محله، كما لو قذف كلا منهم من غير أن يقذف الآخر.
"وإن كان إجمالا" كقوله: هم زناة.
"فحد واحد" لقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} 2 ولم يفرق بين قذف واحد وجماعة، ولأنه قذف واحد فلا يجب به أكثر من حد. ومن قذف نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو قذف أمه كفر، وقتل حتى ولو تاب، لأن القتل هنا حد للقاذف، وحد القذف لا يسقط بالتوبة. قال الشيخ تقي الدين: وكذا لو قذف نساءه، لقدحه في دينه. ولا يكفر من قذف أبا شخص إلى آدم. نص عليه. وسأله حرب رجل افترى على رجل، فقال: يابن كذا وكذا إلى آدم وحواء فعظمه جدا، وقال عن الحد: لم يبلغني فيه شيء وذهب إلى حد واحد.
ـــــــ
1 الوذر: القطع الصغار. أي: أنها تشم مذاكير كثيرة.
2 النور من الآية/4.
باب حد المسكر
:أجمع المسلمون على تحريم الخمر لكن اختلفوا فيما يقع عليه اسمه.
وكل شراب أسكر كثيرة فقليله حرام، لعموم الآية. وعن ابن عمر مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" رواه مسلم. وقال عمر: "نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمرة: ما خامر العقل" متفق عليه. وعن ابن عمر مرفوعا: "ما أسكر كثيرة فقليله حرام" . رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني. وعن عائشة مرفوعا: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" 1. رواه أبو داود.
"من شرب مسكرا مائعا، أو استعط به، أو احتقن به، أو أكل عجينا ملتوتا به، ولو لم يسكر: حد ثمانين إن كان حرا" لأن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام رواه أحمد ومسلم. وكان بمحضر من الصحابة فاتفقوا عليه، فكان إجماعا: قاله في الكافي. وعن علي أنه قال في المشورة: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفتري رواه الجوزجاني والدارقطني.
"وأربعين إن كان رقيقا" لما روي عن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر، وأن
ـــــــ
1 في اللسان: أما الفرق، فبالسكون: فمائة وعشرون رطلا، ومنه الحديث: ما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حزام.
عمر وعثمان وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر. رواه مالك في الموطأ. واختار الشيخ تقي الدين: وجوب الحد بأكل الحشيشة سكر أو لم يسكر، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر، وإنما حدث أكلها في آخر المائة السادسة أو قريبا منها، مع ظهور سيف جنكيز خان1 قاله في الإنصاف. وعنه: أن حده أربعون، لما روى حصين بن المنذر: أن عليا جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم، أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم. وعن علي قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا، إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسنه متفق عليه. ومعناه: لم يقدره ويوقته.
"بشرط كونه مسلما مكلفا مختارا" لشربه فإن أكره عليه لم يحد، لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" . وصبره على الأذى أفضل من شربها مكرها. نص عليه.
"عالما أن كثيرة يسكر" فلا حد على جاهل بذلك، لأن الحدود تدرأ بالشبهات. وثبت عن عمر أنه قال: لا حد إلا على من علمه. وبه قال عامة أهل العلم.
ـــــــ
1 غازي تتري مغولي "1162-1227 م" بسط نفوذه على الصين شمالا، وقد حمل غزاته من آسيا المركزية حتى آسيا الوسطى محطما كل ما يمر به من البلاد الإسلامية، وكان من أبنائه تيمورلنك.
"ومن تشبه بشراب الخمر في مجلسه وآنيته حرم وعزر" قاله في الرعاية، لحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" وكذا يعزر من حضر شرب الخمر، لحديث ابن عمر مرفوعا: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه" . رواه أبو داود.
"ويحرم العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يطبخ" وإن لم يغل. نص عليه، لحديث: "اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل" رواه الشالنجي. وعن ابن عمر في العصير: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: ثلاثة حكاه أحمد وغيره وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه: اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيهراق، أو يسقى الخدم. رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وقال: معنى يسقى الخدم: يبادر به الفساد.
ويحرم عصير غلي كغليان القدر: بأن قذف بزبده. نص عليه، لما تقدم وعن أبي هريرة، قال: علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته فإذا هو ينش، فقال: "اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لم يؤمن بالله واليوم الآخر" 1 رواه أبو داود والنسائي. وإن طبخ قبل غليانه وإتيان الثلاث عليه: حل، إن ذهب ثلثاه فأكثر. نص عليه، وذكره أبو بكر إجماع المسلمين: لأن أبا موسى كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه
ـــــــ
1 النشيش: صوت غليان الماء.
وبقي ثلثه رواه النسائي، وله مثله عن عمر وأبي الدرداء. وقال البخاري: رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث، وشرب البراء وأبو جحيفة على النصف وقال أبو داود: سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه، فقال: لا بأس به قلت: إنهم يقولون: يسكر. قال: لا يسكر، لو كان يسكر ما أحله عمر، رضي الله عنه.
باب التعزير
باب التعزير:
يجب التعزير على كل مكلف. نص عليه كالحد. وقال الشيخ تقي الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا.
"يجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة" كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وإتيان المرأة المرأة، وسرقة ما لا قطع فيه، والجناية بما لا يوجب القصاص، ونحوها، لما روي عن علي، رضي الله عنه أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث قال: هن فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد.
"وهو من حقوق الله تعالى لا يحتاج في إقامته إلى مطالبة" لأنه شرع للتأديب، فللإمام إقامته إذا رآه، وله تركه إن جاء تائبا معترفا يظهر منه الندم والإقلاع، لما روى ابن مسعود: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطاها، فقال: "أصليت معنا؟" قال نعم. فتلا عليه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 1 متفق عليه.
ـــــــ
1 هود من الآية/ 114.
"إلا إذا شتم الولد والده فلا يعزر إلا بمطالبة والده" نقله في الإقناع عن الأحكام السلطانية.
"ولا يعزر الوالد بحقوق ولده" لحديث: "أنت ومالك لأبيك" .
"ولا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواط" نص عليه، لحديث أبي بردة مرفوعا: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" متفق عليه. فقدر أكثره، ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم. ويكون التعزير أيضا بالحبس، والصفع، والتوبيخ، والعزل عن الولاية، وإقامته من المجلس حسبما يراه الحاكم، لأنه صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمه، ثم خلى عنه رواه أحمد وأبو داود.
"إلا إذا وطئ أمة له فيها شرك: فيعزر بمائة سوط إلا سوطا" لما روى سعيد بن المسيب عن عمر: في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطا رواه الأثرم. واحتج به أحمد. ولينقص عن حد الزنى.
"وإذا شرب مسكرا نهار رمضان: فيعزر بعشرين مع الحد" لما روى أحمد أن عليا، رضي الله عنه، أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان، فجلده الحد وعشرين سوطا، لفطره في رمضان.
"ولا بأس بتسويد وجه من يستحق التعزير، والمناداة عليه بذنبه" قال أحمد في شاهد الزور: فيه عن عمر: يضرب ظهره، ويحلق رأسه، ويسخم وجهه، ويطاف به، ويطال حبسه1.
ـــــــ
1 وجد بهامش الأصل ما يلي: ذكر عن الشعبي كان عمر فمن بعده إذا أحذوا العاصي أقاموه للناس، ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب ابن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كف الجاني بمسمار فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف. انتهى. عتلقى.
"ويحرم حلق لحيته، وأخذ ماله" وقطع طرفه، لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك.
"ويحرم" الاستمناء باليد على الرجال والنساء لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} 1 ولحديث رواه الحسن بن عرفة في جزئه، ولأنه مباشرة تفضي إلى قطع النسل، ويعزر فاعله. قال في الكافي: ولا حد فيه، لأنه لا إيلاج فيه، فإن خشي الزنى أبيح له، لأنه يروى عن جماعة من الصحابة. انتهى. يعني: إن لم يقدر على نكاح. قال مجاهد: كانوا يأمرون فتيانهم يستغنوا به.
ـــــــ
1 المؤمنون من الآية/ 5. ووجه الاستدلال أن الله تعالى أباح للإنسان أن يتمتتع بالزوجة وبالأمة، وحظر عليه خلاف ذلك بقوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . المؤمنون/ 7.
فصل ومن الألفاظ الموجبة للتعزير
:"قوله لغيره: يا كافر يا فاسق يا فاجر يا شقي يا كلب يا حمار يا تيس يا رافضي يا خبيث يا كذاب يا خائن" يا عدو الله يا شارب الخمر يا مخنث. نص عليه.
"يا قرنان يا قواد يا ديوث يا علق" قال إبراهيم الحربي: الديوث: الذي يدخل الرجال على امرأته. وقال ثعلب: القرنان: لم أره في كلام العرب، ومعناه عند العامة: مثل معنى الديوث، أو قريبا منه. والقواد عند العامة: السمسار في الزنى. وعند الشيخ تقي الدين أن قوله:
يا علق: تعريض، ودليل ذلك ما تقدم عن علي، رضي الله عنه، ولأن ذلك معصية لا حد فيها.
"ويعزر من قال لذمي: يا حاج" لما فيه من تشبيههم في قصد كنائسهم بقصاد بيت الله الحرام.
"أو لعنه بغير موجب" لأنه ليس له ذلك إلا إن صدر منه ما يقتضيه.
باب القطع في السرقة
:أجمعوا عليه، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...} الآية1. وعن عائشة مرفوعا: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" متفق عليه.
"ويجب بثمانية شروط:"
"1- السرقة، وهي: أخذ مال الغير من مالكه أو نائبه على وجه الاختفاء، فلا قطع على منتهب" يأخذ المال على وجه الغنيمة لحديث جابر مرفوعا: "ليس على المنتهب قطع" . رواه أبو داود.
"ومختطف" وهو: الذي يختلس ال شيء ويمر به، وغاصب
"وخائن في وديعة" لحديث: "ليس على الخائن والمختلس قطع" . رواه أبو داود والترمذي وقد تكلم فيه. ولعدم دخولهم في اسم السارق.
"لكن يقطع جاحد العارية" لحديث ابن عمر: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بقطع يدها.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 38.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي مطولا. قال الإمام أحمد: لا أعرف شيئا يدفعه. وعنه: لا قطع عليه. قدمه في الكافي و المقنع، لأنه خائن فلا يقطع للخبر، كجاحد الوديعة. وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب.
"2- كونه السارق مكلفا" لأن غيره مرفوع عنه القلم.
"مختارا" لأن المكره معذور.
"عالما بأن ما سرقه يساوي نصابا" فلا قطع بسرقة منديل بطرفه نصاب مشدود لم يعلمه، ولا بسرقة جوهر يظن قيمته دون نصاب، لقول عمر: لا حد إلا على من علمه.
"3- كون المسروق مالا" لأن القطع شرع لصيانة الأموال، فلا يجب في غيرها، والأخبار مقيدة للآية. فإن سرق حرا صغيرا فلا قطع، لأنه ليس بمال. وعنه: يقطع، لحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر بيده فقطعت. رواه الدارقطني.
"لكن لا قطع بسرقة الماء" لأنه لا يتمول عادة.
"ولا بإناء فيه خمر أو ماء" لاتصاله بما لا قطع فيه.
"ولا بسرقة مصحف" لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى، ولا يحل أخذ العوض عنه. وبه قال: أبو بكر، والقاضي.
"ولا بما عليه من حلي" لأنه تابع لما لا قطع فيه. وقال أبو الخطاب:
عليه القطع بسرقة المصحف للآية، ولأنه متقوم يبلغ نصابا، أشبه كتب الفقه. قاله في الكافي. وهو قول: مالك والشافعي.
"ولا بكتب بدعة وتصاوير" لوجوب إتلافها، لأنها محرمة، أشبهت المزامير، ومثل ذلك سائر الكتب المحرمة.
"ولا بآلة لهو" كالطنبور، والمزمار، والطبل لغير الحرب ونحوها، لأنها آلة معصية كالخمر، ومثله: نرد، وشطرنج.
"ولا بصليب، أو صنم" من ذهب أو فضة، لأنه مجمع على تحريمه، أشبه الطنبور.
4-"كون المسروق نصابا، وهو: ثلاثة دراهم أو ربع دينار" فلا قطع بسرقة ما دون ذلك، لحديث عائشة مرفوعا: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا" رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وعنها مرفوعا: "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" . وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما رواه أحمد. وهذان يخصان عموم الآية. وأما حديث أبي هريرة: "لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده" . متفق عليه. فيحمل على حبل يساوي ذلك، وكذا البيضة، ويحتمل أن يراد بها بيضة السلاح، وهي تساوي ذلك، جمعا بين الأخبار، كما حكى البخاري عن الأعمش. ويحتمل أن سرقة القليل ذريعة إلى سرقة النصاب بالتدريج. ذكر معناه ابن القيم قي الهدي.
"أو ما يساوي أحدهما" لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم: "قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم" 1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعنه أيضا مرفوعا: "قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" رواه الجماعة.
"وتعتبر القيمة حال الإخراج" من الحرز، لأنه وقت الوجوب، لوجود السبب فيه.
5-"إخراجه من حرز" في قول أكثر أهل العلم، منهم: مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن الثمار، فقال: "ما أخذ من غير أكمامه و احتمل ففيه قيمته معه، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن" رواه أبو داود وابن ماجه. وفي لفظ: "ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن: فعليه القطع" 2 رواه أبو داود والنسائي وزاد: "وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال" وعن رافع بن خديج مرفوعا: "لا قطع في ثمر ولا كثر" 3 رواه الخمسة.
"فلو سرق من غير حرز فلا قطع" لفوات شرطه، كما لو أتلفه داخل الحرز بأكل أو غيره، وعليه ضمانه.
"وحرز كل مال: ما حفظ فيه عادة" لأن معناه الحفظ، ولأن
ـــــــ
1 البرنس: بضم الباء والنون: قلنسوة طويلة، كان النساء يلبسونها في صدر الإسلام.
2 الجرين: الموضع الذي يجفف فيه التمر.
3 الكثر: جمار النخل أو طلعها. قاموس.
الشرع لما اعتبر الحرز، ولم يبينه علمنا أنه رده إلى العرف، كالقبض والتفرق وإحياء الموات. قاله في الكافي.
"فنعل برجل، وعمامة على رأس: حرز" ونوم على متاع أو رداء: حرز لأن صفوان بن أمية نام في المسجد، وتوسد رداءه، فأخذ من تحت رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقطع سارقه الحديث، رواه الخمسة إلا الترمذي. وحرز الكفن: كونه على الميت في القبر، لقول عائشة، رضي الله عنها: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وروي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا.
"ويختلف الحرز بالبلدان والسلاطين" لخفاء السارق بالبلد الكبير، لسعة أقطاره أكثر من خفائه في البلد الصغير. وكذا السلطان إن كان عدلا يقيم الحدود قل السراق، فلا يحتاج الإنسان إلى زيادة حرز. وإن كان جائرا يشارك من التجأ إليه، ويذب عنهم قويت صولتهم فيحتاج أرباب الأموال إلى زيادة التحفظ، وكذا الحال مع قوته وضعفه.
"ولو اشترك جماعة في هتك الحرز، وإخراج النصاب: قطعوا جميعا" نص عليه، لوجود سبب القطع منهم، كالقتل وكما لو كان ثقيلا فحملوه. ويقطع سارق نصاب لجماعة.
"وإن هتك الحرز أحدهما، ودخل الآخر فأخرج المال: فلا قطع عليهما، ولو تواطأ" لأن الأول لم يسرق، والثاني لم يهتك الحرز. قال في الكافي: ويحتمل أن يقطع إذا كانا شريكين.
"6- انتفاء الشبهة: فلا قطع بسرقته من مال فروعه وأصوله" أما ولده: لحديث "أنت ومالك لأبيك" وأما أصوله: فلوجوب نفقة
أحدهم على الآخر، ولأن بينهم قرابة تمنع من قبول شهادة بعضهم لبعض: فلا يقطع به، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
"وزوجته" أي: لا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر رواه سعيد عن عمر بإسناد جيد. ولأن كلا منهما يرث صاحبه بغير حجب، وينبسط في ماله، أشبه الولد مع الوالد. ولا يقطع العبد بسرقته من مال سيده لما روى مالك: أن عبد الله ابن عمرو الحضرمي قال لعمر: إن عبدي سرق مرآة امرأتي، ثمنها: ستون درهما، فقال: أرسله، لأقطع عليه، غلامك أخذ متاعكم. وكان بمحضر من الصحابة، ولم ينكر فكان إجماعا. وقال ابن مسعود: "لا قطع مالك سرق مالك".
"ولا بسرقة من مال له فيه شرك، أو لأحد ممن ذكر" كأصوله وفروعه ونحوهم، لقيام الشبهة فيه بالبعض الذي لا يجب بسرقته قطع. ولا قطع على مسلم سرق من بيت المال، لذلك، ولقول عمر وابن مسعود: من سرق من بيت المال فلا قطع. ما من أحد إلا وله في هذا المال حق وروى سعيد عن علي: ليس على من سرق من بيت المال قطع وروى ابن ماجه عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقطعه، وقال: "مال الله سرق بعضه بعضا" .
"7- ثبوتها إما بشهادة عدلين" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1 والأصل عمومه لكن خولف فيما فيه دليل خاص للدليل، فبقي فيما عداه على عمومه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 282.
"ويصفانها" أي: السرقة.
"ولا تسمع قبل الدعوى" من المالك، أو من يقوم مقامه.
"أو بإقرار" السارق
"مرتين" ويصفها في كل مرة، لاحتمال ظنه وجوب القطع مع فقد بعض شروطه. وعن القاسم بن عبد الرحمن أن عليا، رضي الله عنه أتاه رجل، فقال: إني سرقت، فطرده، ثم عاد مرة أخرى، فقال: إني سرقت، فأمر به أن يقطع رواه الجوزجاني. وفي لفظ: لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين حكاه أحمد في رواية مهنا واحتج به.
"ولا يرجع حتى يقطع" ولا بأس بتلقينه الإنكار، لحديث أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتي بلص قد اعترف، فقال: "ما إخالك سرقت؟" قال بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، قال: بلى فأمر به فقطع رواه أحمد وأبو داود. ولو وجب القطع بأول مرة لم يؤخره، ولم يلقنه الإنكار. وكذا ما تقدم عن علي. وروي عن عمر، رضي الله عنه أنه أتي برجل، فقال: أسرقت؟ قل: لا فقال: لا فتركه.
"8- مطالبة المسروق منه بماله" أو مطالبة وكيله أو وليه إن كان محجورا عليه لحظه، لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل إباحة مالكه إياه أو إذنه له في دخول حرزه ونحوه مما يسقط القطع فاعتبر الطلب، لنفي هذا الاحتمال، وانتفاء الشبهة.
"ولا قطع عام مجاعة غلاء" إن لم يجد ما يشتريه أو ما يشتري به. نص عليه، لقول عمر: لا قطع في عام سنة قيل لأحمد: تقول به؟
قال: إي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة، والناس في شدة ومجاعة.
"فمتى توفرت الشروط قطعت يده اليمنى من مفصل كفه" لأن في قراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما وروي عن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع ولا مخالف لهما في الصحابة.
"وغمست وجوبا في زيت مغلي" لتنسد أفواه العروق، لئلا ينزفه الدم فيؤدي إلى موته. ولقوله صلى الله عليه وسلم في سارق: "اقطعوه واحسموه" رواه الدارقطني. وقال ابن المنذر: في إسناده مقال.
"وسن تعليقها في عنقه ثلاثة أيام إن رآه الإمام" لحديث فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه الخمسة إلا أحمد. وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو: ضعيف وفعل ذلك علي رضي الله عنه، بالذي قطعه ولأنه أبلغ في الزجر.
"فإن عاد قطعت رجله" لحديث أبي هريرة مرفوعا في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" ولأنه قول أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما من الصحابة.
"اليسرى" قياسا على القطع في المحاربة، ولأنه أرفق به ليتمكن من المشي على خشبة، ولو قطعت يمناه لم يمكنه ذلك. قاله في الكافي.
"من مفصل كعبه بترك عقبه" لما روي عن علي أنه كان يقطع من شطر القدم، ويترك له عقبا يمشي عليها.
"فإن عاد لم يقطع، وحبس حتى يموت، أو يتوب" لأن عمر، رضي
الله عنه "أتي برجل أقطع الزند والرجل قد سرق، فأمر به عمر: أن تقطع رجله، فقال علي: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1. وقد قطعت يده هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها. إما أن تعزره، إما أن تستودعه السجن. فاستودعه السجن" رواه سعيد. وعن سعيد المقبري قال: "حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتله إذا وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة؟! بأي شيء يغتسل من جنابته؟! بأي شيء يقوم لحاجته؟ فرده إلى السجن أياما، ثم أخرجه فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أولا فجلده جلدا شديدا، ثم أرسله" رواه سعيد - وعنه: تقطع يده اليسرى فإن عاد فسرق رابعة قطعت رجله اليمنى. وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر. قاله في الشرح، لحديث أبي هريرة مرفوعا: "من سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" ولأن أبا بكر وعمر قطعا اليد اليسرى في المرة الثالثة" قاله في الكافي.
"ويجتمع القطع والضمان" نص عليه، لأنهما حقان لمستحقين فجاز اجتماعهما، كالدية والكفارة في قتل الخطأ.
"فيرد ما أخذه لمالكه" إن كان باقيا، لأنه عين ماله، وإن كان تالفا فعليه ضمانه، لأنه مال آدمي تلف تحت يده عادية فوجب ضمانه.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 33.
"ويعيد ما خرب من الحرز" لأنه متعد.
"وعليه أجرة القاطع وثمن الزيت" لأن القطع حق وجب عليه الخروج منه، فكانت مؤنته عليه كسائر الحقوق، ولأن الحسم حفظ لنفسه عن التلف. وقال في الكافي وغيره: ثمن الزيت، وأجرة القاطع من بيت المال، لأنهما من المصالح العامة.
باب حد قطاع الطريق
باب حد قطاع الطريق:
"وهم: المكلفون الملتزمون" من المسلمين وأهل الذمة، وينقض به عهدهم.
"الذين يخرجون على الناس، فيأخذون أموالهم مجاهرة" فإن أخذوا مختفين فسراق، وإن اختطفوا وهربوا فمنتهبون لا قطع عليهم، لأن عادة قطاع الطريق القهر، فاعتبر ذلك فيهم.
"ويعتبر ثبوته ببينة، أو إقرار مرتين" كالسرقة.
"والحرز" بأن يأخذه من يد مستحقه وهو بالقافلة
"والنصاب" قياسا على القطع في السرقة.
"ولهم أربعة أحكام:"
"1- إن قتلوا ولم يأخذوا مالا: حتم قتلهم جميعا" وحكم الردء كالمباشر. وبه قال مالك.
"2- إن قتلوا وأخذوا مالا: حتم قتلهم وصلبهم حتى يشتهروا" ليرتدع غيرهم، ثم يغسلوا، ويكفنوا، ويصلى عليهم، ويدفنوا.
"3- إن أخذوا مالا، ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف حتما" لوجوبه لحق الله تعالى
"في آن واحد" فلا ينتظر بقطع أحدهما اندمال الآخر، لأنه تعالى أمر بقطعهما، والأمر للفور، فتقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى، لقوله: {... مِنْ خِلافٍ...} 1
"إن أخافوا الناس، ولم يأخذوا مالا: نفوا من الأرض، فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم" لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 1 قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: نزلت في قطاع الطريق من المسلمين قال في الشرح: وحكي عن ابن عمر أنها نزلت في المرتدين وقال أنس: نزلت في العرنيين الذين استاقوا إبل الصدقة، وارتدوا ولنا قوله تعالى: {... إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ...} 2 والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة عليه. انتهى. وروى الشافعي بإسناده عن ابن عباس إذا قتلوا، وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا، ولم يأخذوا المال: قتلوا، ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال، ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالا: نفوا من الأرض وروي نحوه مرفوعا. وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/33.
2 المائدة: من الآية/34.
أبا برزة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل، عليه السلام، بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال: قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال: قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل: قطعت يده ورجله من خلاف وعلم منه أن: أو، في الآية ليست للتخيير، ولا للشك بل للتنويع. وتنفى الجماعة متفرقة كل إلى جهة، لئلا يجتمعوا على المحاربة ثانيا. وعنه: النفي: التعزير بما يردع. وقيل: الحبس في غير بلدهم. وقال ابن عباس: نفيهم إذا هربوا: أن يطلبوا حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود ولأن تشريدهم يفضي إلى إغرائهم بقطع الطريق.
"ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى" من نفي، وقطع يد، ورجل وتحتم قتل، وصلب، لقوله تعالى: {...إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
"وأخذ بحقوق الآدميين" من نفس وطرف ومال، ولا أن يعفى له عنها من مستحقها، لأنه حق آدمي فلا يسقط بالتوبة، كالضمان.
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/34.
فصل ومن أريد بأذى في نفسه أو ماله
:"أو حريمه دفعه بالأسهل فالأسهل" فإن اندفع بالأسهل حرم الأصعب، لعدم الحاجة إليه.
"فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله ولا شيء عليه" وإن قتل كان شهيدا، لحديث أبي هريرة: جاء رجل، فقال: يا رسول الله: أرأيت إن جاء رجل
يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه" ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال "هو في النار" رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ أحمد أنه قال له أولا: "أنشده الله" ، قال: فإن أبى؟ قال: "قاتله" وعن ابن عمر مرفوعا: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد" رواه الخلال بإسناده. وهل يلزمه الدفع: على روايتين. قال ابن سيرين: ما أعلم أحدا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثما إلا أن يجبن. ذكره في الشرح.
"ويجب أن يدفع عن حريمه" كأمه وأخته وزوجته ونحوهن إذا أريدت بفاحشة أو قتل. نص عليه، لأنه يؤدي بذلك حق الله من الكف عن الفاحشة والعدوان، وحق نفسه بالمنع عن أهله، فلا يسعه إضاعة الحقين.
"وحريم غيره" لئلا تذهب الأنفس، وتستباح الحرم، ويسقط وجوب الدفع بإياسه من فائدته. وكره أحمد الخروج إلى صيحة ليلا، لأنه لا يدري ما يكون. وظاهر كلام الأصحاب خلافه، وهو أظهر. قاله في الفروع، لقول أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق أناس قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم، راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا" 1 متفق عليه.
"وكذا في غير الفتنة عن نفسه" لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 2 فكما يحرم عليه قتل نفسه يحرم عليه إباحة قتلها.
ـــــــ
1 الروع: الفزع.
2 البقرة من الآية/ 195.
"ونفس غيره وماله" لأنه لا يتحقق منه إيثار الشهادة، وكإحيائه ببذل طعامه. ذكره القاضي، وغيره. وأطلق الشيخ تقي الدين لزومه عن مال غيره، وقال في جند قاتلوا عربا نهبوا أموال تجار ليردوه إليهم: هم مجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم بقود، ولا دية، ولا كفارة. ذكره في الفروع. وقال في المغني و الشرح: لغيره معونته بالدفع، لقوله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وقد روى أحمد وغيره النهي عن خذلان المسلم، والأمر بنصر المظلوم فإن كان ثم فتنة لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان، رضي الله عنه. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في الفتنة "اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك" وفي لفظ: "فكن كخير ابني آدم" وفي لفظ: "فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" .
"لا مال نفسه" أي: لا يجب عليه أن يدفع عن ماله، وله بذله لمن أراده منه ظلما. وذكر القاضي أنه أفضل من الدفع عنه. قال أحمد في رواية حنبل: أرى دفعه إليه، ولا يأتي على نفسه، لأنها لا عوض لها.
"ولا يلزمه حفظه من الضياع والهلاك" ذكره القاضي وغيره.
باب قتال البغاة
:"وهم: الخارجون على الإمام بتأويل سائغ، ولهم شوكة" ولو لم يكن فيهم مطاع. سموا بغاة، لعدولهم عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين. والأصل في قتالهم قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1 وحديث: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه" رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عباس مرفوعا: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فميتته جاهلية" متفق عليه وقاتل علي، رضي الله عنه، أهل النهروان فلم ينكره أحد.
"فإن اختل شرط من ذلك" بأن لم يخرجوا على إمام، أو خرجوا عليه بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ، أو كانوا جمعا يسيرا لا شوكة لهم.
"فقطاع طريق" وتقدم حكمهم.
"ونصب الإمام فرض كفاية" لحاجة الناس لذلك، لحماية البيضة، والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقال الشيخ تقي الدين: قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم، تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر وهو: تنبيه على أنواع الاجتماع. انتهى. وكل من ثبتت
ـــــــ
1 الحجرات من الآية/9.
إمامته حرم الخروج عليه وقتاله، سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه: كإمامة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أو بعهد الإمام الذي قبله إليه: كعهد أبي بكر إلى عمر، رضي الله عنهما، أو باجتهاد أهل الحل والعقد لأن عمر جعل أمر الإمامة شورى بين ستة من الصحابة فوقع الإتفاق على عثمان، رضي الله عنه أو بقهره للناس حتى أذعنوا له، ودعوه إماما: كعبد الملك بن مروان لما خرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها، ودعوه إماما. ولأن في الخروج على من ثبتت إمامته بالقهر شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وإذهاب أموالهم.
قال أحمد في رواية العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين: فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت، ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا. وقال في الغاية: ويتجه: لا يجوز تعدد الإمام، وأنه لو تغلب كل سلطان على ناحية كزماننا فحكمه كالإمام.
"ويعتبر كونه قرشيا" لقول المهاجرين للأنصار إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش. وقال أحمد في رواية منها: لا يكون من غير قريش خليفة.
"بالغا عاقلا سميعا بصيرا ناطقا حرا ذكرا عدلا عالما ذا بصيرة كافئا ابتداء ودوما" لاحتياجه إلى ذلك في أمره ونهيه، وحربه وسياسته، وإقامة الحدود ونحو ذلك، ولأن العبد منقوص برقه مشغول بحقوق سيده. وقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث العرباض وغيره - "والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد..." . الحديث - محمول
على نحو أمير سرية. والمرأة ليست من أهل الولاية، وفي الحديث "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري.
"ولا ينعزل بفسقه" لما في ذلك من المفسدة، بخلاف القاضي، ولحديث: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" .
"وتلزمه مراسلة البغاة، وإزالة شبههم، وما يدعون من المظالم" لأن ذلك وسيلة إلى الصلح المأمور به، والرجوع إلى الحق. ولأن عليا، رضي الله عنه راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة، وأمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بقتال، وقال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة1 وروى عبد الله بن شداد أن عليا، رضي الله عنه، لما اعتزله الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف.
"فإن رجعوا وإلا لزمه قتالهم" لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 2
"ويجب على رعيته معونته" للآية، ولأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة وقاتل علي، رضي الله عنه، أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام بصفين وإذا حضر من لم يقاتل لم يجز قتله لأن عليا، رضي الله عنه، قال: إياكم وصاحب البرنس يعني: محمد بن طلحة السجاد، وكان حضر طاعة لأبيه، ولم يقاتل. ولأن القصد كفهم، وهذا قد كف نفسه. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 فلج على خصمه: غلبه.
2 الحجرات من الآية/9.
"وإذا ترك البغاة القتال حرم قتلهم، وقتل مدبرهم وجريحهم" لقول مروان: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن"1 رواه سعيد. وعن عمار نحوه. وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يا ابن أم عبد: ما حكم من بغى على أمتي؟" فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: "لا يقتل مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم" 2 وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يطلبون موليا، ولا يسلبون قتيلا ولأن المقصود دفعهم فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل.
"ولا يغنم مالهم، ولا تسبى ذراريهم" لا نعلم في ذلك خلافا بين أهل العلم، لأن مالهم مال معصوم، وذريتهم معصومون لا قتال منهم ولا بغي.
"وبجب رد ذلك إليهم" لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين، وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة. وعن علي أنه قال يوم الجمل: من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه، فعرف بعضهم قدرا مع أصحاب
ـــــــ
1 قوله: ولا يذفف: بالذال المفتوحة، بعده فاء مشددة، ثم فاء مخفضة على صيغة البناء للمجهول، وهو في معنى: يجهز. قال في القاموس: دف على الجريح: أجهز. وقال أيضا في مادة جهاز، وجهز على الجريح: كمنع، وأجهز: أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه.
2 قال صاحب اللسان: أجاز أمره يجيزه إذا أمضاه، وجعله جائزا. وفي حديث أبي ذر، رضي الله عنه "قبل أن تجيزوا علي" أي: قبل أن تقتلوني، وتنفذوا في أمركم.
علي وهو يطبخ فيها، فسأله إمهاله حتى ينطبخ الطبيخ فأبى، وكبه وأخذها.
"ولا يضمن البغاة ما أتلفوه حال الحرب" كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه للبغاة حال الحرب لأن عليا لم يضمن البغاة ما أتلفوه حال الحرب من نفس ومال وقال الزهري: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوافرون وفيهم البدريون، فأجمعوا أنه لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه ذكره أحمد في رواية الأثرم محتجا به. وإن استولوا على بلد فأقاموا الحدود، وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به لأن عليا، رضي الله عنه، لم يتبع ما فعله أهل البصرة، ولم يطالبهم ب شيء مما جباه البغاة ولأن ابن عمر، وسلمة بن الأكوع يأتيهم ساعي نجدة الحروري فيدفعون إليه زكاتهم ولأن في ترك الاحتساب بذلك ضررا عظيما على الرعايا.
"وهم في شهادتهم، وإمضاء حكم حاكمهم كأهل العدل" لأن التأويل السائغ في الشرع لا يفسق به الذاهب إليه أشبه المخطئ من الفقهاء في فرع، فيقضى بشهادة عدولهم، ولا ينقض حكم حاكمهم إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا. وإن أظهر قوم رأي الخوارج: كتكفير مرتكب الكبيرة، وسب الصحابة، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام: لم يتعرض لهم، لأن عليا سمع رجلا يقول: لا حكم إلا الله - تعريضا بالرد عليه في التحكيم - فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله،
ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال وإن عرضوا بسبب الإمام أو غيره من أهل العدل: عزروا كيلا يصرحوا، ويخرقوا الهيبة. والوجه الثاني: لا يعزرون، لما روي أن عليا كان في صلاة الفجر، فناداه رجل من الخوارج {...لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 1 فأجابه علي، رضي الله عنه: {...فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} 2 ولم يعزره.
ومن كفر أهل الحق والصحابة، واستحل دماء المسلمين بتأويل: فهم خوارج فسقة، لأن عليا قال في الحرورية لا تبدؤوهم بقتال وأجراهم مجرى البغاة، وكذلك عمر بن عبد العزيز. وذهب طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار حكمهم حكم المرتدين، لحديث أبي سعيد مرفوعا، وفيه: "...يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة" رواه البخاري. وفي لفظ: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسراهم، وإتباع مدبرهم. ومن قدر عليه.
منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل. قاله في الكافي. وقال الشيخ تقي الدين: الخوارح يقتلون ابتداء، ويجهز على جريحهم. وقال جمهور العلماء: يفرقون بينهم وبين البغاة المتأولين، وهوا لمعروف عن الصحابة، وعليه عامة الفقهاء.
ـــــــ
1 الزمر من الآية/65.
2 الروم من الآية/60.
باب حكم المرتد
باب حكم المرتد:
"وهو: من كفر بعد إسلامه" وأجمعوا على وجوب قتله إن لم يتب، لحديث ابن عباس مرفوعا: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه الجماعة إلا مسلما. وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد وغيرهم. وسواء الرجل والمرأة، لعموم الخبر. وروى الدارقطني أن امرأة - يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت.
"ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور:"
"1- بالقول: كسب الله تعالى، أو رسوله، أو ملائكته" لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد به.
"أو ادعى النبوة" أو تصديق من ادعاها، لأن ذلك تكذيب لله تعالى في قوله: {...وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 ولحديث: "لا نبي بعدي" ونحوه.
"2- أو الشركة له تعالى" لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2 وقال الشيخ تقي الدين: أو كان مبغضا لرسوله، أو
ـــــــ
1 الأحزاب من الآية/40.
2 النساء من الآية/48.
لما جاء به اتفاقا، أوجعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم ويسألهم: كفر إجماعا.
"3- بالفعل: كالسجود للصنم ونحوه" كشمس وقمر وشجر وحجر وقبر، لأنه إشراك بالله تعالى.
"وكإلقاء المصحف في قاذورة " أو ادعى اختلافه، أو القدرة على مثله لأن ذلك تكذيب له.
"4- بالاعتقاد: كاعتقاد الشريك له تعالى" أو الصاحبة، أو الولد، لقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 1.
"أو أن الزنى والخمر حلال، أو أن الخبز حرام، ونحو ذلك مما أجمع عليه إجماعا قطعيا" لأن ذلك معاندة للإسلام، وامتناع من قبول أحكامه، ومخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة.
"وبالشك في شيء من ذلك" أي: في تحريم الزنى والخمر، أو في حل الخبز ونحوه، ومثله لا يجهله لكونه نشأ بين المسلمين. وإن كان يجهله مثله، لحداثة عهده بالإسلام أو الإفاقة من جنون ونحوه: لم يكفر، وعرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر، لأن أدلة هذه الأمور ظاهرة من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله. قاله في الكافي.
"فمن ارتد، وهو مكلف مختار استتيب ثلاثة أيام" وجوبا، لما روى مالك والشافعي أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل كان من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه، قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا،
ـــــــ
1 المؤمنون من الآية/91.
وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله. اللهم إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني فلولا وجوب الاستتابة لما برئ من فعلهم. وأحاديث الأمر بقتله تحمل على ذلك جمعا بين الأخبار.
"فإن تاب فلا شيء عليه، ولا يحبط عمله" لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ...} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ...} 1 ولمفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} 2 وعن أنس مرفوعا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام.
"وإن أصر قتل بالسيف" لما تقدم، ولحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وحديث: "من بدل دينه فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله. يعني: النار" رواه البخاري وأبو داود.
"ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه" لأنه قتل لحق الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني المحصن.
"فإن قتله غيرهما أساء وعزر" لافتئاته على ولي الأمر.
"ولا ضمان" بقتل مرتد،
"ولو كان قبل استتابته" لأنه مهدر الدم بالردة في الجملة، ولا يلزم من تحريم القتل الضمان، بدليل نساء الحرب وذريتهم.
ـــــــ
1 الفرقان من الآية/ 68- 70.
2 البقرة من الآية/ 217.
"ويصح إسلام المميز" ذكرا أو أنثى إذا عقله لأن عليا، رضي الله عنه، أسلم وهو ابن ثمان سنين رواه البخاري في تاريخه. فصح إسلامه، وثبت إيمانه، وعد بذلك سابقا. وروي عنه قوله:
سبقتكمو إلى الإسلام طرا ... صبيا ما بلغت أوان حلمي
"وردته" أي: المميز، لأن من صح إسلامه صحت ردته كسائر الناس.
"لكن لا يقتل حتى يستتاب بعد بلوغه ثلاثة أيام" لأن بلوغه أول زمن صار فيه أهل العقوبة، لحديث "رفع القلم عن ثلاثة" . وتقدم.
فصل وتوبة المرتد، وكل كافر إتيانه بالشهادتين
:لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكنيسة، فإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فقرأ.. حتى إذا أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته، فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لوا أخاكم" رواه أحمد. وعن أنس أن يهوديا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" احتج به أحمد في رواية مهنا.
"مع رجوعه عما كفر به" لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقد، فلا بد من إتيانه بما يدل على رجوعه عنه.
"ولا يغني قوله: محمد رسول الله، عن كلمة التوحيد" لأنه غير موحد، فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله، ويقر بما كان يجحده.
"وقوله: أنا مسلم توبة" لأنه يتضمن الشهادتين. وعن المقداد أنه قال: يا رسول الله: أرأيت، إن لقيت رجلا من الكفار، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بصخرة، فقال: أسلمت أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: "لا تقتله، فإن قتلتة فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها" وعن عمران بن حسين قال: أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد: إني مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت قلت، وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" رواهما مسلم. قال في المغني: ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي، أو من جحد الوحدانية، وأما من كفر بجحد نبي أو كتاب، أو فريضة ونحو هذا: فلا يصير مسلما بذلك، لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون، ومنهم من هو كافر.
"وإن كتب كافر الشهادتين صار مسلما" لأن الخط كاللفظ.
"وإن قال: أسلمت، أو: أنا مسلم، أو: أنا مؤمن: صار مسلما" بذلك وإن لم يتلفظ بالشهادتين، لما تقدم.
"ولا يقبل في الدنيا بحسب الظاهر توبة زنديق، وهو: المنافق الذي يظهر الإسلام، ويخفي الكفر" لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا...} 1 والزنديق: لا يعلم تبيين رجوعه، وتوبته،
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 160.
لأنه لا يظهر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه، فإنه كان ينفي الكفرعن نفسه قبل ذلك، وقلبه لا يطلع عليه.
"ولا من تكررت ردته" لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} 1 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} 2 ولأن تكرار ردته يدل على فساد عقيدته، وقلة مبالاته بالإسلام.
"أو سب الله تعالى، أو رسوله، أو ملكا له" لعظم ذنبه جدا فيدل على فساد عقيدته. قال أحمد: لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
"وكذا من قذف نبيا أو أمه" لما في ذلك من التعرض للقدح في النبوة الموجب للكفر.
"ويقتل، حتى ولو كان كافرا فأسلم" لأن قتله حد قذفه فلا يسقط بالتوبة، كقذف غيرهما. ومن قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف.
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 137.
2 آل عمران من الآية/90.
كتاب الأطعمة
كتاب الأطعمة:
الأصل فيها الحل، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 1 وقوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} 2 وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 3
"يباح كل طعام طاهر لا مضرة فيه" لما تقدم. ويحرم مضر: كسم، لقوله تعالى: {... وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 4 والسم مما يقتل غالبا.
"إن حلف: لا يشرب" مما لا يؤكل عادة: كقشر بيض، وقرن حيوان مذكى إذا دقا. وسأله الشالنجي عن المسك يجعل في الدواء ويشرب، قال: لا بأس به.
"ويحرم النجس: كالميتة، والدم، ولحم الخنزير" لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 5 وقوله صلى الله عليه وسلم في الخمر "أكفئوها فإنها رجس" .
"والبول، والروث، ولو طاهرين" لاستقذارهما، فإن اضطر إليهما أو إلى أحدهما أبيحا، لقصة العرنيين.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/29.
2 البقرة من الآية/168.
3 المائدة من الآية/5.
4 البقرة من الآية/195.
5 المائدة من الآية/3.
"ويحرم من حيوان البر. الحمر الأهلية" لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل متفق عليه. قال أحمد: خمسة وعشرون من الصحابة كرهوها. وقال ابن عبد البر: لا خلاف اليوم في تحريمها. قال في الشرح: وألبان الحمر محرمة في قول الأكثر، ورخص فيها عطاء وطاووس. وأما الفيل: فقال أحمد، ليس هو من طعام المسلمين. وقال الحسن: هو مسخ، ولأنه مستخبث، وذو ناب من السباع.
"وما يفترس بنابه: كأسد ونمر وذئب وفهد وكلب" لحديث أبي ثعلبة الخشني نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أكل كل ذي ناب من السباع متفق عليه. وعن أبي ذر مرفوعا: "كل ذي ناب حرام" رواه مسلم. قال ابن عبد البر: هذا نص صحيح صريح يخص العموم.
"وقرد" لأن له نابا، وهو مسخ، فهو من الخبائث. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه. ذكره في الشرح.
"ودب، ونمس، وابن آوى" شبه الثعلب، ورائحته كريهة.
"وابن عرس، وسنور ولو بريا" لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنها رواه أبو داود، وابن ماجه.
"وثعلب" على الأصح،
"وسنجاب، وسمور" لأنها من السباع، فتدخل في العموم.
"ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه" في قول الأكثر.
"كعقاب، وباز، وصقر، وباشق، وحدأة، وبومة" لحديث ابن عباس
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير رواه الجماعة، إلا البخاري والترمذي.
"وما يأكل الجيف: كنسر، ورخم، وقاق" وهو العقعق، طائر نحو الحمامة طويل المذنب، فيه بياض، وسواد، نوع من الغربان.
"ولقلق" طائر نحو الأوزة، طويل العنق، يأكل الحيات.
"وغراب" بين وأبقع،1 قال عروة: ومن يأكل الغراب، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا؟! والله ما هو من الطيبات. ولإباحة قتله في الحل والحرم، ولأن هذه مستخبثة لأكلها الخبائث.
"وخفاش" وهو: الوطواط. قال أحمد: ومن يأكل الخفاش؟
"وفار" نص عليه، لكونها فويسقة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله في الحرم ولا يجوز فيه قتل صيد مأكول.
"وزنبور، ونحل، وذباب" لأنها مستخبثة غير مستطابة.
"وهدهد، وخطاف" لحديث ابن عباس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد2 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف رواه البيهقي مرسلا.
"وقنقذ ونيص" نص عليه، لحديث أبي هريرة ذكر القنفذ
ـــــــ
1 الغراب الأبقع: الذي فيه سواد وبياض.
2 الصرد: طائر ضخم الرأس، أبيض البطن، أخضر الظهر، يصطاد صغار الطير. وهو بتشديد الصاد المضمومة.
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو خبيثة من الخبائث" رواه أبو داود. والنيص مثله، لأنه يقال: هو عظيم القنافذ.
"وحية" لأن لها نابا من السباع. نص عليه.
"وحشرات" كديدان، وجعلان، وبنات وردان،1 وخنافس، ووزغ، وحرباء، وورل،2 وعقرب، وصراصر، وجرذان، وبراغيث، وقمل، وأشباهها لأنها مستخبثة، فيعمها قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3.
"ويؤكل ما تولد من مأكول طاهر: كذباب الباقلاء ودود الخل والجبن، تبعا لا انفرادا" قال أحمد في الباقلاء المدودة: تجنبه أحب إلي، وإن لم يتقذره، فأرجو. وقال عن تفتيش التمر الممدود: لا بأس به إذا علمه.
ـــــــ
1 بنت وردان: دويبة كريهة الريح، تألف الأماكن القذرة في البيوت، وهي ذات ألوان مختلفة.
2 الورل: هو دابة على خلقة الضب أعظم منه، طويل الذنب دقيقه.
3 الأعراف من الآية/157.
فصل ويباح ماعدا هذا كبهيمة الأنعام
:من إبل، وبقر، وغنم لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} 1
"والخيل" كلها. نص عليه. وروي عن ابن الزبير، لحديث جابر، وتقدم. وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/1.
"وباقي الوحش: كضبع" رخص فيه: سعد، وابن عمر، وأبو هريرة. وقال عروة بن الزبير: ما زالت العرب تأكل الضبع، لا ترى بأكله بأسا. وقال عبد الرحمن: قلت لجابر: الضبع: صيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا يخصص النهي عن كل ذي ناب من السباع جمعا بين الأخبار. وفي الروضة: لكن إن عرف بأكل الميتة فكالجلالة1.
"وزرافة" نص عليه، لأنها من الطيبات.
"وأرنب" رخص فيها أبو سعيد، وأكلها سعد بن أبي وقاص. وقال أنس أنفجنا أرنبا، فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها، فجئت إلى أبي طلحة فذبحها، وبعث بوركها، أو قال: فخذها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبله2 متفق عليه. وعن محمد بن صفوان أنه صاد أرنبين فذبحهما بمرتين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلهما رواه أحمد والنسائي، وابن ماجه.
"ووبر، ويربوع، وبقر وحش، وحمره" على اختلاف أنواعها، لأنها مستطابة.
قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم.
"وضب" وإباحته: قول عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة. ولم يعرف عن صحابي خلافه، فيكون إجماعا، قاله في الشرح. وقال
ـــــــ
1 الجلالة: بفتح الجيم وتشديد اللام المفتوحة: البهيمة التي تأكل العذرة.
2 أنفج الأرنب: أثارها من مجثمها. ومعنى فلغبوا أي: تعبوا من السر خلفها.
أبو سعيد كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة وأكله خالد بن الوليد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر متفق عليه.
"وظباء" وهي: الغزلان، على اختلاف أنواعها، لأنها مستطابة تفدى في الإحرام والحرم.
"وباقي الطير: كنعام، ودجاج" لقول أبي موسى رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج متفق عليه.
"وطاوس، وببغاء" وهي: الدرة.
"وزاغ" طائر صغير أغبر.
"وغراب زرع" وهو أسود كبير أحمر المنقار. والرجل يأكل الزرع، ويطير مع الزاغ، وكحمام بأنواعه، وعصافير وقنابر، وكركي وكروان، وبط وأوز، وأشباهها مما يلتقط الحب، ويفدى في الإحرام، لأنه مستطاب، فيتناوله عموم قوله تعالى: {... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ...} 1 وعن سفينة قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى2 رواه أبو داود.
"ويحل كل ما في البحر" لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ...} 3 وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" صححه الترمذي.
ـــــــ
1 الأعراف من الآية/157..
2 الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول عنقا يضرب به المثل في البلاهة.
3 المائدة من الآية/96.
"غير ضفدع" فيحرم. نص عليه، واحتج بالنهي عن قتله.
"وحية" لأنها من المستخبثات.
"وتمساح" نص عليه، لأن له نابا يفترس به. واختار ابن حامد والقاضي: يحرم الكوسج، لأنه ذو ناب، وهو: سمكة لها خرطوم كالمنشار، وتسمى: المقرش.
والأشهر أنه مباح: كخنزير الماء وكلبه وإنسانه، لعموم الآية والأخبار، وروى البخاري "أن الحسن بن علي ركب على سرج عليه من جلود كلاب الماء".
"وتحرم الجلالة: وهي التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها" لحديث ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها رواه أحمد وأبو داود، وفي رواية له نهى عن ركوب جلالة الإبل وعن ابن عباس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة رواه أحمد، وأبو داود. والترمذي، وصححه. وبيضها كلبنها، لأنه متولد منها.
"حتى تحبس ثلاثا، وتطعم الطاهر" لأن ابن عمر كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا وقال مالك: تحبس الناقة، والبقرة أربعين يوما، وقدمه في الكافي، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن لا يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة رواه الخلال. والبقرة في معناها، ويحبس الطائر ثلاثا، لفعل ابن عمر. والأول: المذهب ويحرم ما سقي من الزرع والثمار، أو سمد بنجس. نص عليه، لأنه يتغذى بالنجاسات كالجلالة إذا حبست،
وأطعمت الطاهر وعن ابن عباس، قال كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يدخلوها بعذرة الناس ولو لا تأثير ذلك لما اشترط عليهم تركه.
"ويكره أكل تراب وفحم وطين" لضرره، نص عليه. وغدة1.
"وأذن قلب" نص عليه. قاله في رواية عبد الله كره النبي صلى الله عليه وسلم أكل الغدة ونقل أبو طالب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أذن القلب.
"وبصل، وثوم، ونحوهما" ككراث، وفجل. صرح أحمد بأنه كرهه لمكان الصلاة، وعن جابر مرفوعا: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" متفق عليه.
"ما لم ينضج بطبخ" لحديث أبي أيوب في الطعام الذي فيه الثوم، قال فيه: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه" حسنه الترمذي. وعن علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا النهي عن أكل الثوم إلا مطبوخا رواه الترمذي. وعن عائشة قالت إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بصل رواه أبو داود. وقال عمر في خطبته في البصل والثوم: فمن أكلهما فليمتهما طبخا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.
ـــــــ
1 الغدة: لحم يحدث من داء بين الجلد واللحم، يتحرك بالتحريك.
فصل ومن اضطر جاز له أن يأكل من المحرم ما يسد رمقه فقط
:لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} 2 وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 3 فإذا أكل ما يسد رمقه. زالت الضرورة، فتزول الإباحة. وهو اختيار الخرقي. وعنه: له الشبع. اختاره أبو بكر، لأنه طعام أبيح له أكله، فجاز له الشبع منه كالحلال. ويجب الأكل. نص عليه، لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 4 وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 5 قال مسروق: من اضطر، فلم يأكل ولم يشرب فمات: دخل النار. وقيل: لا يجب لما روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملك الروم حبسه، ومعه لحم خنزير مشوي، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام، فأبى أن يأكله، وقال: لقد أحله الله لي، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ويجب تقديم السؤال على أكل المحرم، نص عليه. وقال لسائل: قم قائما ليكون لك عذر عند الله.
ـــــــ
1 البقرة: من الآية/ 173.
2 المائدة من الآية/ 3.
3 الأنعام من الآية/ 119.
4 النساء من الآية/ 29.
5 البقرة: من الآية/195.
"ومن لم يجد إلا آدميا مباح الدم: كحربي وزان محصن: فله قتله، وأكله" لأنه لا حرمة له، أشبه السباع.
"ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه" كثياب لدفع برد، ودلو وحبل لاستقاء ماء.
"وجب على ربه بذله مجانا" بلا عوض، لأنه تعالى ذم على منعه بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1 فإن احتاج ربه إليه، فهو أحق به من غيره لتميزه بالملك.
"ومن مر بثمر بستان لا حائط عليه ولا ناظر: فله من غير أن يصعد على شجرة أو يرميه بحجر أن يأكل ولا يحمل" لقول أبي زينب التميمي سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول: عمر، وابن عباس. قال عمر: يأكل ولا يتخذ خبنة2 وكون سعد أبى الأكل لا يدل على تحريمه، لأن الإنسان قد يترك المباح غناء عنه، أو تورعا، وعن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترم، وكل ما وقع، أشبعك الله وأرواك" صححه الترمذي.
وعنه: له الأكل إن كان جائعا فقط، لحديث عمر، وابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: "ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن
ـــــــ
1 الماعون من الآية/7.
2 أخبن الطعام: أخبأه في خبنة ثيابه، أي: ثنيها، والخبنة: ما يحمل في الخبنة من الطعام. والمراد هنا أن يأكل ولا يحمل معه في ثيابه.
أخذ منه من غير حاجة، فعليه غرامة مثليه: والعقوبة" قال في الشرح: وعليه أكثر الفقهاء. ولنا قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف منهم، فإن كانت محوطة، لم يجز الدخول، قال ابن عباس إن كان عليها حائطا فهو حريم، فلا تأكل1. انتهى. وكذا إن كان ثم حارس، لدلالة ذلك عن شح صاحبه به، وعدم المسامحة.
"وكذا الباقلاء، والحمص" وشبههما مما يؤكل رطبا وفي الزرع، وشرب لبن الماشية روايتان: إحداهما: يجوز. لحديث سمرة في الماشية صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم والثانية: لا يجوز، لحديث ابن عمر: "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه..." الحديث متفق عليه.
"وتجب ضيافة المسلم على المسلم في القرى دون الأمصار يوما وليلة، وتستحب ثلاثا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" . قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه، وليلته" والضيافة ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة. "ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه" قيل: يا رسول الله: كيف يؤثمه؟ قال "يقيم عنده، وليس عنده ما يقريه" وعن عقبة بن عامر: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى؟ فقال: "إذا نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف: فاقبلوا. وإن لم يفعلوا: فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له" متفق عليه. ولو لم تجب الضيافة، لم يأمرهم بالأخذ، واختص ذلك بالمسافر،
ـــــــ
1 حريم: حرز.
لقول عقبة إنك تبعثنا فننزل وبأهل القرى لقوله بقوم والقوم إنما ينصرف إلى الجماعات دون أهل الأمصار. وقال أحمد: كأنها على أهل القرى، فأما مثلنا الآن فكأن ليس مثلهم، وذلك أن أهل القرى فليس عادتهم بيع القوت ذكره في الشرح. وعنه: تجب للذمي. نقله الجماعة. وظاهر نصوصه: تجب للحاضر وفي المصر. ذكره في الفروع بمعناه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" .
باب الذكاة
باب الذكاة:
"وهي: ذبح أو نحر الحيوان المقدور عليه" فلا يباح إلا بها لأنه تعالى حرم الميتة وما لم يذك، فهو ميتة، ويباح الجراد والسمك، وما لا يعيش إلا في الماء بدونها، لحديث ابن عمر مرفوعا: "أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان: فالحوت، والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال" رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني.
"وشروطها أربعة:"
"أحدها: كون الفاعل عاقلا، مميزا قاصدا للذكاة" فلا يباح ما ذكاه مجنون، وطفل لم يميز لأنهما لا قصد لهما، ولأن الذكاة أمر يعتبر له الدين فاعتبر فيه العقل: كالغسل
"فيحل ذبح الأنثى، والقن، والجنب" لحديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت له غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمها موتاء فكسرت حجرا، فذبحتها به. فقال لهم: لا تأكلوا حتى
أسأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه، فأمر من يسأله. وإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو أرسل إليه فأمر بأكلها رواه أحمد، والبخاري ففيه إباحة ذبيحة المرأة، والأمة، والحائض، والجنب لأنه عليه السلام، لم يستفصل عنها، وفيه أيضا: إباحة الذبح بالحجر. وما خيف عليه الموت. وحل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه، وغير ذلك وقال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة المرأة والصبي.
"والكتابي" لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 قال البخاري: قال ابن عباس طعامهم: ذبائحهم ومعناه عن ابن مسعود رواه سعيد.
"إلا المرتد، والمجوسي. والوثني، والدرزي، والنصيري" لمفهوم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1 وإنما أخذت الجزية من المجوس لأن لهم شبهة كتاب.
"الثاني: الآلة فيحل الذبح بكل محدد من حجر وقصب، وخشب وعظم غير السن والظفر" نص عليه، لما تقدم. وعن رافع بن خديج مرفوعا "ما أنهر الدم فكل ليس السن والظفر" متفق عليه وعنه: لا يذكى بالعظم وبه قال النخعي، لقوله: أما السن فعظم.
"الثالث: قطع الحلقوم" أى: مجرى النفس.
"والمريء" 2 مجرى الطعام والشراب.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/5.
2 المريء: وزان كريم رأس المعدة والكرش اللازق بالحلقوم يجري فيه الطعام والشراب. وهو مهموز أو بغير همز، وياؤه مشددة.
"ويكفي قطع البعض منهما" فلا تشترط إبانتهما، لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة معه، لما روي عن عمر أنه نادى: "إن النحر في اللبة، أو الحلق لمن قدر" أخرجه سعيد، ورواه الدارقطني مرفوعا بنحوه. وعنه: ويشترط فري الودجين - وهما: عرقان محيطان بالحلقوم1 لحديث أبي هريرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي: التي تذبح، فيقطع الجلد، ولا تفري الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وذكر الشيخ تقي الدين وجها: يكفي قطع ثلاثة من الأربعة. وقال: إنه الأقوى. وسئل عمن قطع الحلقوم والودجين، لكن فوق الجوزة، فقال: هذا فيه نزاع. والصحيح: أنها تحل. انتهى. وحكاه في الإقناع عن الشيخ تقي الدين أي: سواء فوق الغلصمة أو تحتها. وجزم به في شرح المنتهى.
"فلو قطع رأسه حل" سواء من جهة وجهه وقفاه لقول علي، رضي الله عنه، فيمن ضرب وجه ثور بالسيف: تلك ذكاة وأفتى بأكلها عمران بن حصين، ولا مخالف لهما.
"ويحل ذبح ما أصابه سبب الموت: من منخنقة، ومريضة وأكيلة سبع وما صيد بشبكة، أو فخ أو أنقذه من مهلكة إن ذكاه وفيه حياة مستقرة: كتحريك يده أو رجله أو طرف عينه" لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 2 مع أن ما تقدم ذكره أسباب للموت، ولحديث كعب بن مالك المتقدم وقال ابن عباس في ذئب عدا على شاة، فوضع قصبها بالأرض.
ـــــــ
1 مفردها: ودج: بفتح الدال، والكسر فيه لغة.
2 المائدة من الآية/4.
فأدركها فذبحها بحجر، قال: يلقي ما أصاب الأرض منها، ويأكل سائرها قال أحمد: إذا مصعت1 بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو ذكره في الشرح.
"وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته" أي: قطعت أمعاؤه ونحوها مما لا تبقى معه حياة.
"فوجود حياته كعدمها" قال في الشرح: والأول أصح، لعموم الآية ولأنه صلى الله عليه وسلم، لم يستفصل في حديث، جارية كعب.
"لكن لو قطع الذابح الحلقوم، ثم رفع يده قبل قطع المريء: لم يضر إن عاد فأتم الذكاة على الفور" كما لو لم يرفعها.
"وما عجز عن ذبحه: كواقع في بئر. ومتوحش، فذكاته لجرحه في أي محل كان" روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، لحديث رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فند بعير -وكان في القوم خيل يسير- فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد 2 كأوابد الوحش: فما غلبكم منها فاصنعوا به كذا" . وفي لفظ: "فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" متفق عليه.
ـــــــ
1 مصعت الدابة بذنبها مصعا حركته من غير عدد. وطرف بصره بفتح الراء يطرف بكسرها: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر.
2 أبد الشيء: من بابي: ضرب، وقتل: يأبد ويأبد أبودأ: نفر وتوحش فهو آبد على فاعل، وأبدت الوحوش: نفرت من الإنس، فهي أوابد.
وفي حديث أبي العشراء عن أبيه مرفوعا: "لو طعنت في فخذها لأجزأك" رواه الخمسة. قال المجد: وهذا فيما لا يقدر عليه.
"الرابع: قول: بسم الله. لا يجزئ غيرها عند حركة يده بالذبح" لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} 1
"وتجزئ بغير العربية ولو أحسنها" لأن المقصود ذكر الله تعالى.
"ويسن التكبير" مع التسمية، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: "بسم الله، والله أكبر" وكان ابن عمر يقوله. قال في الشرح: ولا خلاف أن التسمية تجزئ.
"وتسقط التسمية سهوا" روي عن إبن عباس.
"لا جهلا" وعن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم، إذا لم يتعمد" أخرجه سعيد. ولحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" والآية محمولة على العمد، جمعا بين الأخبار.
"ومن ذكر" عند الذبح
"مع اسم الله تعالى اسم غيره لم تحل" الذبيحة. روي ذلك، عن علي رضي الله عنه. وحرم عليه ذلك لأنه شرك.
ـــــــ
1 الأ نعام من الآية/121.
فصل وتحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه
:إذا خرح ميتا أو متحركا كحركة المذبوح. روي عن علي، وابن عمر، لحديث جابر مرفوعا: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أبو داود بإسناد جيد. ورواه الدارقطني من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، واستحب أحمد ذبحه، ليخرج الدم الذي في جوفه. وذكر ذلك عن ابن عمر. وقال ابن المنذر: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدا خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين. انتهى.
"وإن خرج حيا حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه" نص عليه، لأنه مستقل بحياته، أشبه ما ولدته قبل ذبحها.
"ويكره الذبح بآلة كالة" لأنه تعذيب للحيوان، ولقوله صلى الله عليه وسلم "وإن ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" رواه أحمد، والنسائي وابن ماجه.
"وسلخ الحيوان، أو كسر عنقه قبل زهوق نفسه" لحديث أبي هريرة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات، منها: "لا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال" رواه الدارقطني. وقال عمر لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم، لحصوله بعد الذبح.
وقال البخاري: قال ابن عمر وابن عباس: إذا قطع الرأس فلا بأس به.
"وسن توجيهه للقبلة" لأن ابن عمر كان يستحب ذلك، لأنها أولى الجهات بالاستقبال.
"على جنبه الأيسر" والرفق به،
"والإسراع في الذبح" لما تقدم.
"وما ذبح، فغرق، أو تردى من علو، أو وطئ عليه شيء يقتله مثله: لم يحل" نص عليه. واختاره الخرقي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعدي بن حاتم: "فإن وقعت في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك" متفق عليه. ولأن ذلك يعين على الزهوق، فيحصل من سبب مبيح ومحرم، فغلب التحريم. وقال الأكثر: يحل، لحصوله بعد الذبح والحل.
كتاب الصيد والذبائح
:الأصل في إباحته: الكتاب، والسنة، والإجماع. قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 1 وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} 2 الآية وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 3 قال ابن عباس وهي: الكلاب المعلمة، والبازي، وكل ما تعلم الصيد ولحديث عدي بن حاتم وأبي ثعلبة. متفق عليهما.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 2.
2 المائدة من الآية/ 96.
3 المائدة من الآية/ 4.
"يباح لقاصده" لما تقدم.
"ويكره لهوا" لأنه عبث. فإن ظلم الناس فيه بالعدوان على زروعهم ومواشيهم ونحوها: فحرام.
"وهو أفضل مأكول" لأنه من اكتساب الحلال الذي لا شبهة فيه.
"فمن أدرك صيدا مجروحا متحركا فوق حركة مذبوح، واتسع الوقت لتذكيته: لم يبح إلا بها" لأنه مقدور على ذبحه، فلم يبح بدونه كغير الصيد.
"وإن لم يتسع، بل مات في الحال: حل" لأن عقره قد ذبحه. قال قتادة: يأكله ما لم يتوان في ذكاته، أو يتركه عمدا. ومتى أدركه ميتا: حل.
"بأربعة شروط:"
"1-كون الصائد أهلا للذكاة حال إرسال الآلة" فلا يحل صيد مجوسي، أو وثني، أو مرتد. وكذا ما شارك فيه، لأن الاصطياد كالذكاة، وقائم مقامها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أخذ الكلب ذكاة" متفق عليه. وما لا يفتقر إلى ذكاة: كالحوت والجراد، يباح إذا صاده من لا تحل ذبيحته في قول أكثر أهل العلم.
"ومن رمى صيدا فأثبته، ثم رماه ثانيا فقتله: لم يحل" لأنه صار مقدورا عليه بإثباته، فلا يباح إلا بذبحه. قال العمروشي من المالكية: وأما بندق الرصاص فهي أقوى من كل محدد، فيحل بها الصيد. قال الشيخ عبد القادر الفاسي:
وما ببندق الرصاص صيدا ... جواز أكله قد استفيدا
أفتى به والدنا الأواه ... وانعقد الإجماع من فتواه
"2- الآلة. وهي نوعان:"
"الأول: ما له حد يجرح: كسيف، وسكين، وسهم" فيشترط له ما يشترط لآلة الذكاة، ولا بد أن يجرحه. فإن قتله بثقله لم يبح، لأنه وقيذ. وإن صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده دون عرضه. قال في الشرح: المعراض: عود محدود ربما جعل في رأسه حديدة. انتهى. لحديث: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل" وعن عدى بن حاتم، قلت يا رسول الله: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصاب بعرضه فلا تأكله" متفق عليه.
"الثاني: جارحة معلمة: ككلب غير أسود" بهيم وهو الذي لا بياض فيه، فيحرم صيده. نص عليه لأنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتله، وقال: "إنه شيطان" متفق عليه. وما قتله الشيطان لا يباح. قال أحمد: لا أعلم أحدا من السلف يرخص فيه، يعني: صيد الكلب الأسود.
"وفهد، وباز، وصقر، وعقاب، وشاهين" فيباح ما قتله من الصيد، لقوله تعالى: {...وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ...} 1 قال ابن عباس: هي: الكلاب المعلمة، وكل طير تعلم الصيد، والفهود، والصقور، وأشباهها والجارح لغة: الكاسب.
"فتعليم الكلب، والفهد بثلاثة أمور: بأن يسترسل إذا أرسل.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 4.
وينزجر إذا زجر" قال في المغني، و الشرح: قبل إرساله على الصيد، أو رؤيته، أما بعد ذلك، فلا يعتبر، وقال الموفق: ولا أحسب هذه الخصال تعتبر في غير الكلب، لأن الفهد لا يكاد يجيب داعيا. وإن عد متعلما، فيكون التعليم في حقه بما يعده أهل العرف معلما.
"وإذا أمسك لم يأكل" لحديث: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" متفق عليه. وإن شرب من دمه لم يحرم. رواية واحدة.
"وتعليم الطير بأمرين: بأن يسترسل إذا أرسل ويرجع إذا وعي" ولا يعتبر ترك الأكل، لأنه إجماع الصحابة، قال معناه في الشرح، لقول ابن عباس: إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإن أكل الصقر فكل رواه الخلال. وقال أيضا لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر.
"ويشترط أن يجرح الصيد. فلو قتله بصدم أو خنق لم يبح" كالمعراض إذا قتل بثقله، ولأن الله حرم الموقوذة، ولمفهوم حديث "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه: فكل" .
"3- قصد الفعل، وهو: أن يرسل الآلة لقصد الصيد" لأن قتل الصيد أمر يعتبر له الدين، فاعتبر له القصد، كطهارة الحدث.
"فلو سمى وأرسلها لا لقصد الصيد، أو لقصده ولم يره، أو استرسل الجارح بنفسه فقتل صيدا: لم يبح" لحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه: فكل" متفق عليه. ولأن إرسال الجارح جعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتبرت التسمية معه. فإن زجره فزاد عدوه
بزجره: حل حيث سمى عند زجره، وبه قال مالك والشافعي، لأن زجره أثر في عدوه أشبه ما لو أرسله. وقال إسحاق: يؤكل إذا سمى عند انفلاته.
"4- قول: بسم الله، عند إرسال جارحه، أو رمي سلاحه" لمفهوم "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه: فكل" متفق عليه.
"ولا تسقط هنا سهوا" وهو قول: الشعبي، وأبي ثور، لقوله: "فإن وجدت معه غيره، فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر" متفق عليه. وأباحه مالك مع النسيان كالذكاة. وعنه: إن نسي على السهم أبيح دون الجارحة.
"وما رمي من صيد فوقع في ماء، أو تردى من علو، أو وطئ عليه شيء - وكل من ذلك يقتل مثله -: لم يحل" لحديث عدي بن حاتم، قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن الصيد، فقال: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل: فكل، إلا أن تجده وقع في ماء، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك؟" متفق عليه. والتردي ونحوه: كالماء في ذلك تغليبا للتحريم.
"ومثله: لو رماه بمحدد فيه سم" مع احتمال إعانته على قتله تغليبا للتحريم، لأنه الأصل. فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله.
"وإن رماه بالهواء أوعلى شجرة أو حائط فسقط ميتا حل" لأن موته بالرمي ووقوعه في الأرض لا بد منه، فلو حرم به أدى إلى أن لا يحل طير أبدا.
كتاب الأيمان
كتاب الأيمان:
جمع يمين، وهو: الحلف والقسم.
"لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى" لقوله تعالى: {...فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ...} 1 وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...} 2 وحديث "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" متفق عليه.
"أو اسم من أسمائه" لا يسمى به غيره: كقوله: والله، والرحمن، ومالك يوم الدين، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ...} 3 فجعل لفظة: الله، ولفظة الرحمن، سواء في الدعاء، فيكونان سواء في الحلف. أو يسمى به غيره، ولم ينو الحالف الغير: كالرحيم، والعظيم، والقادر، والرب، والمولى، لأنه بإطلاقه ينصرف إلى اليمين، وهذا مذهب الشافعي. قاله في الشرح.
"أو صفة من صفاته: كعزة الله، وقدرته" وعظمته، وجلاله، فتنعقد بها اليمين في قولهم جميعا. وورد القسم بها. كقول الخارج من النار: وعزتك، لا أسأل غيرها. وفي القرآن: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4
"وأمانته" لأنها صفة من صفاته. وكذا عهده، وميثاقه، لأن ذلك
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 107.
2 الأنعام من الآية/ 109.
3 الإسراء من الآية/ 110.
4 ص من الآية/ 82.
بإضافته إلى اسم الله تعالى، صار يمينا بذكر اسمه تعالى معه، وقرينة الاستعمال صارفة إليه.
"وإن قال: يمينا بالله أو قسما، أو شهادة انعقدت" لا نعلم فيه خلافا. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {...فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ...} 1 {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ...} 2 {...فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ...} 3 ولأن تقديره: أقسمت قسما بالله ونحوه.
"وتنعقد بالقرآن وبالمصحف" وبسورة منه، أو آية، لأنه صفة من صفاته تعالى. فمن حلف به، أو ب شيء منه: كان حالفا بصفته تعالى. والمصحف يتضمن القرآن، ولذلك أطلق عليه في حديث "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" وقالت عائشة: "ما بين دفتي المصحف كلام الله" وكان قتادة يحلف بالمصحف. ولم يكرهه أحمد وإسحاق.
وفيها كفارة واحدة لأنها يمين واحدة، ولأن الحلف بصفات الله، وتكرار اليمين بها لا يوجب أكثر من كفارة، وهذا أولى. وعنه: بكل آية كفارة. لأن ذلك يروى عن ابن مسعود. قال أحمد: ما أعلم شيئا يدفعه. قال في الكافي: ويحتمل أن ذلك ندب غير واجب، لأنه قال: عليه بكل آية كفارة يمين، فإن لم يمكنه، فعليه كفارة يمين. ورده إلى كفارة واحدة عند العجز دليل على أن الزائد عليها غير واجب.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/ 107.
2 الأنعام من الآية/109.
3 النور من الآية/ 6.
"وبالتوراة، ونحوها من الكتب المنزلة" كالإنجيل والزبور، لأن الإطلاق ينصرف إلى المنزل من عند الله، لا المغير والمبدل. ولا تسقط حرمة ذلك بكونه نسخ بالقرآن، كالمنسوخ حكمه من القرآن، وذلك لا يخرجه عن كونه كلام الله.
"ومن حلف بمخلوق: كالأولياء، والأنبياء عليهم السلام. أو: بالكعبة أو نحوها: حرم" قال ابن عبد البر: هذا أمر مجمع عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت" متفق عليه. وعن ابن عمر مرفوعا: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" حسنه الترمذي. وقال ابن مسعود: أن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا قال الشيخ تقي الدين: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. يشير إلى حديث ابن عمر السابق.
"ولا كفارة" ولو حنث، لأنها وجبت في الحلف بالله تعالى، صيانة لأسمائه وصفاته تعالى، وغيره لا يساويه في ذلك. ولأن الحلف بغير الله شرك. وكفارته: التوحيد، لحديث: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" وعن أبي هريرة مرفوعا: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله..." الحديث، رواه أحمد.
فصل وشروط وجوب الكفارة خمسة أشياء
:"1- كون الحالف مكلفا" فلا تجب الكفارة على نائم، وصغير ومجنون، ومغمى عليه، لأن لا قصد لهم، ولحديث: "رفع القلم عن ثلاثة..." .
"2- كونه مختارا" لليمين، فلا تنعقد من مكره، لحديث "رفع عن أمتي الخطأ و النسيان وما استكرهوا عليه" .
"3- كونه قاصدا لليمين، فلا تنعقد ممن سبق على لسانه بلا قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه" لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 الآية. وعن عائشة مرفوعا: "اللغو في اليمين: كلام الرجل في بيته: لا والله وبلى والله" رواه أبو داود، ورواه البخاري وغيره موقوفا. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لغو اليمين لا كفارة فيه. ذكره في الشرح.
"4- كونها على أمر مستقل" يمكن فيها البر والحنث. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بالإجماع: التي على المستقبل، كمن حلف ليضربن غلامه، أو لا يضربه.
"فلا كفارة على ماض. بل إن تعمد الكذب فحرام" لأنها اليمين
ـــــــ
1 البقرة من الآية/225.
الغموس، ولا كفارة لها في قول الأكثر. ذكره في الشرح، لحديث أبي هريرة مرفوعا: "خمس ليس لهن كفارة: .. ذكر منهن: الحلف على يمين فاجرة، يقتطع بها مال امرئ مسلم" .
"وإلا فلا شيء عليه" إذا لم يتعمد الكذب: كمن حلف ظانا صدق نفسه، فيبين بخلافه. لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 وهذا منه، لأنه يكثر. فلو وجبت به كفارة لشق وحصل الضرر، وهو منتف شرعا. وقال في الشرح: أكثر أهل العلم على عدم الكفارة.
"5- الحنث بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله" مختارا ذاكرا ليمينه. فإن لم يحنث فلا كفارة، لأنه لم يهتك حرمة القسم. فإن حنث مكرها أو ناسيا: فلا كفارة، لأنه غير آثم، لحديث "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واختار الشيخ تقي الدين: إن فعله ناسيا فلا حنث، ويمينه باقية.
"فإن كان عين وقتا تعين" فإن فعله فيه: بر، وإلا: حنث، لأنه مقتضى يمينه،
"وإلا لم يحنث حتى ييأس من فعله بتلف المحلوف عليه، أو موت الحالف" لقوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 2 وهو حق، ولم تأت بعد. ولقول عمر: يا رسول الله: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك آتيه العام؟" قال: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به" . الحديث. ولأن فعله ممكن في كل وقت، فلا تحقق مخالفة اليمين إلا باليأس.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/225.
2 سبأ من الآية/3.
"ومن حلف بالله لا يفعل كذا، أو ليفعلن كذا إن شاء الله، أوإن أراد الله، أوإلا أن يشاء الله، واتصل لفظا أو حكما" كقطعه بتنفس، أو سعال، أو عطاس.
"لم يحنث، فعل، أو ترك" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال: إن شاء الله: لم يحنث" رواه أحمد والترمذي وعن ابن عمر مرفوعا: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله: فلا حنث عليه" رواه الخمسة إلا أبا داود. ويعتبر نطق غير مظلوم به. نص عليه. وقال في الشرح: ويشترط أن يستثني بلسانه. لا نعلم فيه خلافا. انتهى. لقوله، عليه الصلاة والسلام: "...فقال: إن شاء الله..." . والقول باللسان. وأما المظلوم الخائف: فتكفيه نية الاستثناء، لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأول. قال القاضي:
"بشرط أن يقصد الاستثناء قبل تمام المستثنى منه" فإن سبق لسانه إليه من غير قصد: لم يصح، لأن اليمين يعتبرلها القصد، فكذلك ما يرفع حكمها. قاله في الكافي. ولحديث "إنما الأعمال بالنيات..." .
فصل ومن قال طعامي علي حرام
:"أو: إن أكلت كذا فحرام أو: إن فعلت كذا فحرام: لم يحرم" لأن اليمين على ال شيء لا تحرمه.
"وعليه إن فعل كفارة يمين" نص عليه، لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...} إلى قوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ...} 1 وسبب نزولها:
ـــــــ
1 التحريم من الآية/1-2.
أنه، عليه السلام، قال: "لن أعود إلى شرب العسل" متفق عليه. وعن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، جعل تحريم الحلال يمينا.
"ومن قال: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو يعبد الصليب، أو الشرق إن فعل كذا، أو: هو بريء من الإسلام، أو من النبي صلى الله عليه وسلم، أو: هو كافر بالله تعالى إن لم يفعل كذا: فقد ارتكب محرما" لحديث ثابت بن الضحاك مرفوعا: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال" رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن بريدة مرفوعا: "من قال: هو بريء من الإسلام: فإن كان كاذبا فهو كما قال، و إن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
"وعليه كفارة يمين إن فعل ما نفاه، أو ترك ما أثبته" لحديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الرجل يقول: هو يهودى، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء؟ فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر. وعنه: لا كفارة عليه، لأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته. وهو قول: مالك والشافعي. ذكره في الشرح.
"ومن أخبر عن نفسه بأنه حلف بالله، ولم يكن حلف: فكذبة لا كفارة فيها" نص عليه، واختاره أبو بكر.
فصل وكفارة اليمين على التخيير
:"إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام" لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} 1
"متتابعة وجوبا إن لم يكن عذر" من مرض ونحوه، لقراءة أبي، وابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} .
"ولا يصح أن يكفر الرقيق بغير الصوم" لأنه لا مال له يكفر منه.
"وعكسه الكافر" لا يكفر بالصوم، لأنه لا يصح منه.
"وإخراج الكفارة قبل الحنث وبعده سواء" روي عن عمر وابنه وغيرهما، وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير" وفي لفظ "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" متفق عليهما. وروي عن عدي بن حاتم وأبي هريرة، وأبي موسى مرفوعا نحوه. ولا تجزئ كفارة قبل الحلف إجماعا.
"ومن حنث، ولو في ألف يمين بالله تعالى، ولم يكفر: فكفارة واحدة" نص عليه، لأنها كفارات من جنس، فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها، كما لوزنى بنساء أو سرق من جماعة.
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/89.
باب جامع الأيمان
باب جامع الأيمان:
"يرجع في الأيمان إلى نية الحالف" إذا احتملها اللفظ ولم يكن ظالما. نص عليه، لحديث "...وإثما لكل امرئ ما نوى..." .
"فمن دعي لغداء، فحلف لا يتغدى: لم يحنث بغير غدائه إن قصده" أو دل عليه سبب اليمين، لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص.
"أو حلف: لا يدخل دار فلان وقال: نويت اليوم: قبل حكما" لأنه محتمل، ولا يعلم إلا منه،
"فلا يحنث بالدخول في غيره" لتعلق قصده بما نواه، فاختص الحنث به.
"ولا عدت رأيتك تدخلين دار فلان ينوي منعها فدخلتها: حنث ولو لم يرها" إلغاء لقوله: رأيتك. وإن لم ينو منعها: لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعا للفظه. قاله في الكافي.
"فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها" لدلالة ذلك على النية.
"فمن حلف: ليقضين زيدا حقه غدا، فقضاه قبله" لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه، أو اقتضاه السبب، لأن مقتضى يمينه تعجيل القضاء قبل خروج الغد، فتعلقت يمينه به، كما لو صرح به.
"أو: لا يبيع كذا إلا بمائة، فباعه بأكثر" لم يحنث، لدلالة القرينة.
"أو: لا يدخل بلد كذا لظلم فيها، فزال ودخلها" لم يحنث، تقديما للسبب على عموم لفظه. وقال القاضي: يحنث، وذكر أن أحمد نص عليه.
"أو: لا يكلم زيدا لشربه الخمر، فكلمه وقد تركه: لم يحنث في الجميع" لدلالة الحال على أن المراد ما دام كذلك، وقد انقطع ذلك.
فصل فإن عدم النية والسبب رجع إلى التعيين
:لأنه أبلغ من دلالة الاسم على مسماه، لنفيه الابهام بالكلية.
"فمن حلف: لا يدخل دار فلان هذه، فدخلها وقد باعها، أو: وهي فضاء. أو: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخا فكلمه. أو: لا أكلت هذا الرطب، فصار تمرا ثم أكله: حنث في الجميع" لأن عين المحلوف عليه باقية
فصل
"فإن عدم النية، والسبب، والتعيين: رجع إلى ما تناوله الاسم" لأنه مقتضاه، ولا صارف عنه.
"وهو ثلاثة: شرعي، فعرفي، فلغوي، فاليمين المطلقة تنصرف إلى الشرعي" لأنه المتبادر للفهم عند الإطلاق، ولذلك حمل عليه كلام الشارع حيث لا صارف.
"وتتناول الصحيح منه" بخلاف الفاسد فإنه ممنوع منه شرعا.
"فمن حلف: لا ينكح، أو لا يبيع، أو لا يشتري، فعقد عقدا فاسدا: لم يحنث" لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ...} 1 وإنما أحل الصحيح منه، وكذا النكاح.
"لكن لو قيد يمينه بممتنع الصحة، كحلفه: لا يبيع الخمر" أو الحر،
"ثم باعه: حنث بصورة ذلك" لتعذر الصحيح، فتنصرف اليمين إلى ما كان على صورته.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/275.
فصل فإن عدم الشرعي فالأيمان مبناها على العرف
:دون الحقيقة، لأنها صارت مهجورة، فلا يعرفها أكثر الناس.
"فمن حلف: لا يطأ امرأته: حنث بجماعها" لانصراف اللفظ إليه عرفا ولذلك لو حلف على ترك وطئها كان مؤليا.
"أو: لا يطأ، أو يضع قدمه في دار فلان: حنث بدخوله راكبا، أو ماشيا حافيأ. أو منتعلا" لأن ظاهر الحال أن القصد امتناعه من دخولها.
"أو: لا يدخل بيتا: حنث بدخول المسجد، والحمام، وبيت الشعر" لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} 2 وفي الحديث: "ثم يخرج إلى بيت من بيوت الله" .
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/96.
2 النور من الآية/36.
وحديث "بئس البيت الحمام" رواه أبو داود وغيره. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} 1 "أو: لا يضرب فلانة فخنقها، أو نتف شعرها، أوعضها: حنث" لوجود المقصود بالضرب، وهو التألم.
ـــــــ
1 النحل من الآية/80.
فصل فإن عدم العرف رجع إلى اللغة
:"فمن حلف: لا يأكل لحما حنث بكل لحم حتى بالمحرم: كالميتة والخنزير" ولحم السباع، وكل ما يسمى لحما، لدخوله في مسماه،
"لا بما لا يسمى لحما كالشحم ونحوه" كمخ، وكبد، وكلية وكرش، ونحوها، لأن إطلاق إسم اللحم لا يتناول شيئا من ذلك. وحديث: "أحل لنا ميتتان ودمان" يدل على أن الكبد والطحال ليسا بلحم، إلا بنية اجتناب الدسم، فيحنث بذلك، وكذا لو اقتضاه السبب.
"ولا يأكل لبنا، فأكل ولو من لبن آدمية: حنث" لأن الإسم يتناوله حقيقة وعرفا. وسواء كان حليبا، أو رائبا، مائعا أو جامدا.
"ولا يأكل رأسا ولا بيضا: حنث بكل رأس وبيض حتى برأس الجراد وبيضه" لدخوله في المسمى.
"ولا يأكل فاكهة: حنث بكل ما يتفكه به حتى بالطبخ" لأنه ينضج ويحلو ويتفكه به، فيدخل في مسمى الفاكهة.
"لا القثاء والخيار" لأنهما من الخضر،
"والزيتون" لأن المقصود زيته، ولا يتفكه به.
"والزعرور الأحمر" بخلاف الأبيض.
"ولا يتغذى فأكل بعد الزوال، أو لا يتعشى فأكل بعد نصف اليل، أو لا يتسحر فأكل قبله: لم يحنث" حيث لا نية، لأن الغداء مأخوذ من الغدوة، وهي من طلوع الفجرإلى الزوال. والعشاء من العشي، وهو: من الزوال إلى نصف الليل. والسحور من السحر، وهو: من نصف الليل إلى طلوع الفجر.
"ولا يأكل من هذه الشجرة: حنث بأكل ثمرتها فقط" لأنها التي تتبادر للذهن، فاختص اليمين بها.
"ولا يأكل من هذه البقرة: حنث بأكل شيء منها لا من لبنها وولدها" لأنهما ليسا من أجزائها.
"ولا يشرب من هذا النهر أو البئر، فاغترف بإناء وشرب: حنث" لأنهما ليسا آلتا شرب عادة، بل الشرب منهما عرفا بالاغتراف باليد أو الإناء.
"لا إن حلف: لا يشرب من هذا الإناء فاغترف منه وشرب" لأن الإناء آلة شرب، فالشرب منه حقيقة: الكرع فيه، ولم يوجد.
فصل ومن حلف لا يدخل دار فلان
:"أو لا يركب دابته: حنث بما جعله لعبده" من دار ودابة، لأنه ملك سيده،
"أو آجره أو استأجره" منها لبقاء ملكه للمؤجر، ولملكه منافع ما استأجره،
"لا بما استعاره" فلان من هذه، لأنه لا يملك منافعه، بل الإعارة إباحة بخلاف الإجارة.
"ولا يكلم إنسانا: حنث بكلام كل إنسان" ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، لأنه نكرة في سياق النفي فيعم.
"حتى بقول: اسكت" لأنه كلام، فيدخل فيما حلف على عدمه.
"ولا كلمت فلانا، فكاتبه أو راسله: حنث" لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} 1 وحديث: "ما بين دفتي المصحف كلام الله" .
"ولا بدأت فلانا بكلام فتكلما معا: لم يحنث" لأ نه لم يبدأه به حيث لم يتقدمه.
"ولا ملك له: لم يحنث بدين" لاختصاص الملك بالأعيان المالية، والدين إنما يتعين الملك فيما يقبضه منه.
ـــــــ
1 الشورى من الآية/ 51.
"ولا مال له، أو لا يملك مالا: حنث بالدين" لأنه مال تجب فيه الزكاة، ويصح التصرف فيه بالإبراء، والحوالة، ونحوهما.
"وليضربن فلانا بمائة، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة: بر" لأنه ضربه بالمائة،
"لا إن حلف ليضربنه مائة" فجمعها وضربه بها ضربة واحدة، لأن ظاهر يمينه أن يضربه مائة ضربة، ليتكرر ألمه بتكرر الضرب.
"ومن حلف: لا يسكن هذه الدار، أو ليخرجن، أو ليرحلن منها: لزمه الخروج بنفسه وأهله ومتاعه المقصود" لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة، وظاهر حاله: إرادة خروج غير المعتاد.
"فإن أقام فوق زمن يمكنه الخروج فيه عادة، ولم يخرج. حنث. فإن لم يجد مسكنا" ينتقل إليه فأقام أياما في طلب النقلة: لم يحنث، لأن إقامته لدفع الضرر لا للسكنى.
"أو أبت زوجته الخروج معه، ولا يمكنه إجبارها، فخرج وحده، لم يحنث" لوجود مقدوره من النقلة.
"وكذا البلد" إذا حلف: ليرحلن، أو ليخرجن منها،
"إلا أنه يبر بخروجه وحده إذا حلف ليخرجن منه" لأنه صدق عليه أنه خرج منه، إذا بخلاف الدار، فإن صاحبها يخرج منها في اليوم مرات، ولا يبر إذا حلف: ليرحلن من البلد، بخروجه وحده، بل بأهله ومتاعه المقصود كما تقدم.
"ولا يحنث في الجميع بالعود" إلى الدار والبلد، لأن يمينه انحلت بالخروج المحلوف عليه.
"ما لم تكن نية أو سبب" يقتضي هجران ما حلف: ليخرجن، أو ليرحلن منه: فيحنث بعوده.
"والسفر القصير: سفر يبر به من حلف: ليسافرن ويحنث به من حلف: لا يسافر" لدخوله في مسمى السفر. ونقل الأثرم عن أحمد: أقل من يوم يكون سفرا، إلا أنه لا تقصر فيه الصلاة.
"وكذا النوم اليسير" يبر به من حلف: لينامن، ويحنث به من حلف: لا ينام.
"ومن حلف: لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت: حنث" لأن إقراره على خدمته استخدام له.
"ولا يبات 1 ، أو لا يأكل ببلد كذا، فبات، أو أكل خارج بنيانه: لم يحنث" لعدم وجود المحلوف عليه.
"وفعل الوكيل كالموكل، فمن حلف: لا يفعل كذا، فوكل فيه من يفعله: حنث" لصحة إضافة الفعل إلى من فعل عنه، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} 2 وقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} 3 وإنما الحالق غيرهم. وكذا وقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} 4 ونحوه. وهذ ا فيما تدخله النيابة، بخلاف من حلف: ليطأن، أو ليأكلن، ونحوه: فلا يقوم غيره مقامه فيه.
ـــــــ
1 قال في المصباح: وبات يبات من باب تعب: لغة.
2 البقرة من الآية/196.
3 الفتح من الآية/27.
4 غافر من الآية/36.
باب النذر
باب النذر:
"وهو مكروه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء" لحديث ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن النذر، وقال: "إنه لا يرد شيئا" وفي لفظ "لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" رواه الجماعة إلا الترمذي. والنهي: للكراهة، لا التحريم، لأن الله تعالى مدح الموفين به.
"ولا يصح إلا بالقول" كالنكاح والطلاق
"من مكلف مختار" لحديث "رفع القلم عن ثلاثة..." .
"وأنواعه المنعقدة ستة أحكامها مختلفة:"
"1- النذر المطلق، كقوله: لله علي نذر، فيلزمه كفارة يمين" في قول الأكثر، لا نعلم فيه مخالفا إلا الشافعي. قاله في الشرح، لحديث عقبة بن عامر مرفوعا "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حسن صحيح غريب.
"2- نذر لجاج وغضب، كـ: إن كلمتك، أو: إن لم أعطك، أو: إن كان هذا كذا: فعلي الحج، أو العتق، أو صوم سنة، أو مالي صدقة: فيخير بين الفعل، أو كفارة يمين" لحديث عمران بن حصين: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد في سننه.
3-"نذر مباح. كـ: لله علي أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي: فيخير أيضا" بين فعله وكفارة يمين، كما لو حلف عليه. وروى أبو داود وسعيد بن منصور أن امرأة قالت: يا رسول الله: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوفي بنذرك" .
4-"نذر مكروه، كطلاق، ونحوه: فيسن أن يكفر ولا يفعله" لأن تركه أولى. وإن فعله فلا كفارة لعدم الحنث.
5-"نذر معصية: كشرب الخمر، وصوم يوم العيد: فيحرم الوفاء به" لحديث عائشة مرفوعا: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" رواه الجماعة إلا مسلما.
"ويكفر" من لم يفعله كفارة يمين. روي نحوه عن ابن مسعود، وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب. وعن عائشة مرفوعا: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" رواه الخمسة، واحتج به أحمد. فإن فعل المعصية لم يكفر. نقله مهنا، ذكره في الفروع.
"ويقضي الصوم" المنذور في يوم العيد، أو أيام التشريق بعدها، فتصح القربة، ويلغو التعيين لأنه معصية.
6-"نذر تبرر: كصلاة، وصيام ولو واجبين، واعتكاف، وصدقة، وحج، وعمرة بقصد التقرب" غير معلق بشرط، فيلزم الوفاء به في قول الأكثر.
"أو يعلق ذلك بشرط حصول نعمة، أو دفع نقمة، كـ: إن شفى الله
مريضي، أو سلم مالي فعلي كذا: فهذا يجب الوفاء به" إذا وجد شرطه. نص عليه، لحديث عائشة المتقدم. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله {... بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} 1 ومن نذر طاعة، وما ليس بطاعة: لزمه فعل الطاعة فقط، لحديث ابن عباس بينما النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه، فليجلس وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه" رواه البخاري. ويكفر لما ترك كفارة واحدة، ولو كثر، لأنه نذر واحد، لقول عقبة بن عامر: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا. مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام" رواه الخمسة، ومن نذر طاعة ومات قبل فعلها: فعلها الولي عنه استحبابا على سبيل الصلة. أفتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت: أمر أن تمشي ابنتها عنها وقال البخاري في صحيحه وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء - يعني: ثم ماتت - فقال: صلي عنها وروى سعيد أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على الولي، للأخبار. وإن نذر أن يطوف على أربع: طاف طوافين. نص عليه، وقاله ابن عباس.
فائدة: قال الشيخ تقي الدين: النذر للقبور، أو لأهلها: كالنذر
ـــــــ
1 التوبة من الآية/77.
لإبراهيم الخليل، عليه السلام، والشيخ فلان: نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع. وقال: من نذر إسراج بئر، أو مقبرة، أو جبل، أو شجرة، أو نذر له، أو لسكانه، أو المضافين إلى ذلك المكان: لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعا، ويصرف في المصالح، ما لم يعرف ربه، ومن الحسن صرفه في نظيره من المشروع. وفي لزوم الكفارة خلاف. انتهى.
فصل ومن نذر صوم شهر معين لزمه صومه متتابعا
:لأن إطلاقه يقتضي التتابع.
"فإن أفطر لغير عذر: حرم" لعموم حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" .
"ولزمه استئناف الصوم" لئلا يفوت التتابع، لأن القضاء يكون بصفة الأداء فيما يمكن.
"مع كفارة يمين لفوات المحل" فيما يصومه بعد الشهر.
"و" إن أفطر.
"لعذر: بنى" على ما صامه، وقضى ما أفطره متتابعا متصلا بتمامه،
"ويكفر لفوات التتابع" لما تقدم.
"ولو نذر شهرا مطلقا" أي: غير معين: لزمه التتابع، لأن إطلاق الشهر يقتضيه، سواء صام شهرا هلاليا، أو ثلاثين يوما بالعدد،
"أو صوما متتابعا غير مقيد بزمن: لزمه التتابع" وفاء بنذره. وإن نذر صوم أيام معدودة بغير شرط التتابع ولا نية: لم يلزمه التتابع. نص عليه، لأن الأيام لا دلالة لها على التتابع، بدليل قوله تعالى: {...فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...} 1
"فإن أفطر لغير عذر: لزمه استئنافه" ليتدارك ما تركه من التتابع المنذور بلا عذر،
"بلا كفارة" لإتيانه بالمنذور على وجهه.
"ولعذر: خير بين استئنافه، ولا شيء عليه" لإتيانه به على وجهه،
"وبين البناء، ويكفر" لأنه لم يأت بالمنذور على وجهه.
"ولمن نذر صلاة جالسا أن يصليها قائما" وظاهره: ولا كفارة، لإتيانه بالأفضل: كمن نذر صلاة المسجد الأقصى، يجزئه في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث جابر. رواه أحمد وأبو داود.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/185.
كتاب القضاء
كتاب القضاء:
الأصل في مشروعيته: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...} 1 وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...} 2 الآية وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى...} 3 الآية.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم، فأصاب: فله أجران، وإن أخطأ: فله أجر" متفق عليه. وأجمع المسلمون على مشروعيته.
"وهو فرض كفاية" لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس، وبعث عليا إلى اليمن للقضاء، وحكم الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم: فوجب نصبه.
فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحدا: تعين عليه، فإن امتنع: أجبر عليه، لأن الكفاية لا تحصل إلا به. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/49.
2 النساء من الآية65.
3 صّ من الآية/26.
وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به، وأدى الحق فيه. وفيه خطر كثير، ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه. فلذلك كان السلف يمتنعون منه. قال في الفروع: والواجب اتخاذها دينا وقربة، فإنها من أفضل القربات. وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه: لم يلزمه ما يعجز عنه. قال في الشرح: وإن وجد غيره، كره له طلبه بغير خلاف، لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تسأل الإمارة..." . الحديث، متفق عليه.
"فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا" لأنه لا يمكنه أن يباشر الخصومات في جميع البلدان بنفسه، فوجب أن يترتب في كل إقليم من يتولى فصل الخصومات بينهم، لئلا تضيع الحقوق،
"وأن يختار لذلك أفضل من يجد علما وورعا" لأن الإمام ناظر للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم.
"ويأمره بالتقوى" لأنها رأس الدين،
"وتحري العدل" أي: إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل، لأنه المقصود من القضاء. ويجتهد القاضي في إقامته.
"وتصح ولاية القضاء، والإمارة منجزة كـ: وليتك الآن، ومعلقة" بشرط، نحو قول الإمام: إن مات فلان القاضي أو الأمير، ففلان عوضه. لحديث "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة" رواه البخاري.
"وشرط لصحة التولية: كونها من إمام أو نائبه فيه" أي: القضاء،
لأنها من المصالح العامة: كعقد الذمة، ولأن الإمام صاحب الأمر والنهي، فلا يفتأت عليه في ذلك.
"وأن يعين له ما يوليه في الحكم والعمل" وهو ما يجمع بلادا وقرى متفرقة: كمصر ونواحيها، أو العراق ونواحيه،
"وبلد" كمكة، والمدينة، ليعلم محل ولايته، فيحكم فيه دون غيره وبعث عمر، رضي الله عنه، في كل مصر قاضيا وواليا ومشافهته بها إن كان حاضرا، ومكاتبته بها إن كان غائبا لأنه صلى الله عليه وسلم، كتب لعمرو بن حزم حين بعثه لليمن وكتب عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد: فإني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله قاضيا، فاسمعوا لهما وأطيعوا.
"وألفاظ التولية الصريحة سبعة: وليتك الحكم، أو قلدتكه وفوضت، أو رددت، أو جعلت إليك الحكم، واستحلفتك، واستنبتك في الحكم" فإذا وجد أحدها، وقبل المولى: انعقدت الولاية، كالبيع والنكاح.
"والكناية نحو: اعتمدت، أو عولت عليك، أو وكلتك، أو أسندت إليك: لا تنعقد بها إلا بقرينة، نحو: فاحكم أو: فتول ما عولت عليك فيه" لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا ينصرف إلى التولية إلا بقرينة تنفي الاحتمال.
فصل وتفيد ولاية الحكم العامة
:وهي: التي لم تقيد بحال دون أخرى
"فصل الخصومات، وأخذ الحق، ودفعه للمستحق، والنظر في مال اليتيم، والمجنون، والسفيه" الذين لا ولي لهم،
"و" مال
"الغائب" ما لم يكن له وكيل،
"والحجر لسفه، وفلس، والنظر في الأوقاف" التي في عمله،
"لتجري على شروطها" والنظر في مصالح طرق عمله وأفنيته،
"وتزويج من لا ولي لها" من النساء، وتصفح حال شهوده وأمنائه، ليستبدل بمن ثبت جرحه، وإقامة إمامة جمعة وعيد، ما لم يخصا بإمام، عملا بالعادة في ذلك.
"ولا يستفيد الاحتساب على الباعة ولا إلزامهم بالشرع" لأن العادة لم تجر بتولي القضاة ذلك.
"ولا ينفذ حكمه في غير محل عمله" إذا ولاه في محل خاص، فينفذ حكمه في مقيم به، وطارئ إليه، لأنه يصير من أهل ذلك المحل في كثير من الأحكام، ولا ينفذ في غيره، لأنه لم يدخل تحت ولايته. وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه مع الحاجة في قول أكثر أهل العلم. قاله في الشرح. لما روي عن عمر، رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت
على القضاء، وفرض له رزقا، ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وروي أن أبا بكر الصديق لما ولي الخلافة: أخذ الذراع وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون. ففرضوا له كل يوم درهمين وبعث عمر إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا، وابن مسعود قاضيا، وعثمان بن حنيف ماسحا، وفرض لهم كل يوم شاة: نصفها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان1 وكتب إلى معاذ بن جبل، وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام، أن: انظرا رجالا من صالحي من قبلكم، فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم، وأوسعوا عليهم من مال الله تعالى. ولا يجوز له أن يوليه على أن يحكم بمذهب إمام بعينه. لا نعلم فيه خلافا.
قاله في الشرح، لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...} 2 وإنما يظهر الحق بالدليل.
وإذا ولى الإمام قاضيا، ثم مات الإمام أو عزل: لم ينعزل القاضي، لأن الخلفاء ولوا حكاما، فلم ينعزلوا بموتهم. فإن عزله الإمام الذي ولاه، أو غيره: انعزل. لأن عمر يولي الولاة ثم يعزلهم. ومن لم يعزله عثمان بعده إلا القليل. وقال عمر، رضي الله عنه لأعزلن أبا مريم - يعني: عن قضاء البصرة - وأولي رجلا إذا رآه الفاجر فرقه. فعزله، وولى كعب ابن سوار وولى علي أبا الأسود ثم عزله، فقال: لم عزلتني، وما خنت وما جنيت؟! قال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.
ـــــــ
1 الماسح: الذي ينظر مساحة الأرض.
2 صّ من الآية26.
فصل ويشترط في القاضي عشر خصال
:"كونه بالغا، عاقلا" لأن غير المكلف تحت ولاية غيره، فلا يكون واليا على غيره.
"ذكرا" لحديث "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري. ولأنها ضعيفة الرأي، ناقصة العقل، ليست أهلا لحضور الرجال، ومحافل الخصوم.
"حرا" لأن غيره منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده.
"مسلما" لأن الإسلام شرط للعدالة.
"عدلا" فلا يجوز تولية الفاسق، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا...} 1
"سميعا" ليسمع كلام الخصمين.
"بصيرا" ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه.
"متكلما" لينطق بالفصل بين الخصوم.
"مجتهدا" ذكره ابن حزم إجماعا، لقوله تعالى: {...لِتَحْكُمَ بَيْنَ
ـــــــ
1 الحجرات من الآية/6.
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1 والمجتهد: العالم بطرق الأحكام، لحديث "القضاة ثلاثة..." . الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
"ولو" كان اجتهاده.
"في مذهب إمامه للضرورة" بأن لم يوجد مجتهد مطلق، فيراعي ألفاظ إمامه، ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، لأنهم أدرى به وقال الشيخ تقي الدين: هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل. وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره. فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد. وقال أيضا: ويحرم الحكم والفتوى بالهوى إجماعا، وبقول، أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا. ذكره في الفروع.
"فلو حكم اثنان فأكثر بينهما شخصا صالحا للقضاء: نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه الإمام أو نائبه" لحديث أبى شريح، وفيه أنه قال يا رسول الله: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. قال: "ما أحسن هذا !" رواه النسائي. وتحاكم عمر وأبي إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا.
"ويرفع الخلاف، فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق" لأن من جاز حكمه لزم كقاضي الإمام.
ـــــــ
1 النساء من الآية/105.
فصل في آداب القاضي
:"ويسن كون الحاكم قويا بلا عنف" لئلا يطمع فيه الظالم.
"لينا بلا ضعف" لئلا يهابه المحق،
"حليما" لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه الحكم
"متأنيا" لئلا تودي عجلته إلى ما لا ينبغي،
"متفطنا" متيقظا لا يؤتى من غفل. ولا يخدع لغرة، ذا ورع ونزاهة وصدق،
"عفيفا" لئلا يطمع في ميله بإطماعه،
"بصيرا بأحكام الحكام قبله" ليسهل عليه الحكم، وتتضح له طريقه. قال علي، رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى تكمل فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم وقال عمر بن عبد العزيز: سبع خلال إن فات القاضي منها واحدة فهي وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم.
"ويجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه والدخول عليه" لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر"
رواه عمر بن أبي شيبة في كتاب قضاة البصرة. وكتب عمر إلى أبي موسى واس بين الناس في وجهك، ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك وجاء رجل إلى شريح وعنده السري، فقال: أعدني على هذا الجالس إلى جنبك، فقال للسري: قم فاجلس مع خصمك، قال: إني أسمعك من مكاني، قال: قم فاجلس مع خصمك، فإن مجلسك يريبه، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر.
"إلا المسلم مع الكافر: فيقدم دخولا، ويرفع، جلوسا" لحرمة الإسلام ولما روى إبراهيم التيمي أن عليا، رضى الله عنه، حاكم يهوديا إلى شريح، فقام شريح من مجلسه، وأجلس عليا فيه، فقال علي، رضي الله عنه: لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تساووهم في المجالس" .
"ويحرم عليه أخذ الرشوة" لحديث ابن عمر، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الراشي والمرتشي صححه الترمذي. ورواه أبو هريرة، وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر، وزاد والرائش وهو: السفير بينهما. وكذا الهدية، لحديث أبي حميد الساعدي مرفوعا: "هدايا العمال غلول" رواه أحمد. وقال عمر بن عبد العزيز: كانت الهدية فيما مضى هدية، وأما اليوم فهي رشوة. قال في الفروع: وقال كعب الأحبار قرأت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكم وقال الشاعر:
إذا أتت الهدية دارقوم ... تطايرت الأمانة من كواها
إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته بشرط أن لا يكون له حكومة فيباح
قبولها، لانتفاء التهمة. واستحب القاضي التنزه عنها، لأنه لا يأمن أن تكون لحكومة منتظرة. ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لئلا يحابى فيجري مجرى الهدية. وروى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده مرفوعا: "ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا" وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان فإن احتاج لم يكره، لأن أبا بكر الصديق قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه.
"ولا يسار أحد الخصمين، أو يضيفه، أو يقوم له دون الآخر" لأنه إعانة له على خصمه، وكسر لقلبه. وروي عن علي، رضي الله عنه أنه نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه" .
"ويحرم عليه الحكم، وهو غضبان كثيرا" لحديث أبي بكر مرفوعا: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه.
"أو حاقن، أو في شدة جوع، أو عطش، أو هم. أو ملل، أو كسل، أو نعاس، أو برد مؤلم، أو حر مزعج" قياسا على الغضب، لأنه في معناه، لأن هذه الأمور تشغل قلبه، ولا يتوفر على الاجتهاد في الحكم، وتأمل الحادثة.
"فإن خالف وحكم" في حال من هذه الأحوال.
"صح إن أصاب الحق" لأن النبي صلى الله عليه وسلم، حكم في حال غضبه في حديث مخاصمة الأنصاري والزبير في شراج الحرة رواه الجماعة.
"ويحرم عليه أن يحكم بالجهل. أو هو متردد. فإن خالف وحكم: لم يصح. ولو أصاب" الحق لحديث بريدة مرفوعا: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم: فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل: فهو في النار" رواه أبو داود وابن ماجه.
"ويوصي الوكلاء والأعوان ببابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع" لئلا يضروا بالناس،
"ويجتهد أن يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والعفة والصيانة" ليكونوا أقل شرا فإن الشباب شعبة من الجنون.
"ويباح له أن يتخذ كاتبا يكتب الوقائع" وقيل: يسن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره في أمر الناس، فيشق عليه تولي الكتابة بنفسه.
"ويشترط كونه مسلما مكلفا عدلا" لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ...} 1 الآية وقال عمر: لا تؤمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الكتابة موضع أمانة فاشترط لها العدالة.
"ويسن كونه حافظا عالما" لأن فيه إعانة على أمره، وكونه جيد الخط عارفا، لئلا يفسد ما يكتبه بجهله، وكونه ورعا نزها كيلا يستمال بالطمع. وقال ابن المنذر: يكره للحاكم أن يفتي في الأحكام، كان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي.
ـــــــ
1 آل عمران من الآية/118.
باب طريق الحكم وصفته
باب طريق الحكم وصفته:
"إذا حضر إلى الحاكم خصمان: فله أن يسكت حتى يبتدئا، وله أن يقول: أيكما المدعي؟" لأنه لا تخصيص في ذلك لأحدهما.
"فإذا ادعى أحدهما: اشترط كون الدعوى معلومة" أي: ب شيء معلوم، ليتمكن الحاكم من الإلزام به، وكونها محررة لترتب الحكم عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما أقضي على نحو ما أسمع" .
"وكونها منفكة عما يكذبها" فلا يصح الدعوى على شخص بأنه قتل أو سرق من عشرين سنة، وسنه دونها.
"ثم إن كانت بدين: اشترط كونه حالا" فلا تصح بالمؤجل، لأنه لا يملك الطلب به قبل أجله.
"وإن كانت بعين: اشترط حضورها لمجلس الحكم لتعين بالإشارة" نفيا للبس.
"فإن كانت غائبة عن البلد: وصفها كصفات السلم" بأن يذكر ما يضبطها من الصفات. وإن ادعى عقارا غائبا عن البلد: ذكر موضعه وحدوده، وتكفي شهرته عندهما، وعند حاكم عن تحديده، لحديث الحضرمي والكندي.
"فإذا أتم المدعي دعواه: فإن أقر خصمه بما ادعاه، أو اعترف بسبب الحق، ثم ادعى البراءة: لم يلتفت لقوله، بل يحلف المدعي على نفي ما ادعاه" المدعى عليه من البراءة بالإبراء أو الأداء،
"ويلزمه بالحق، إلا أن يقيم" المدعى عليه
"بينة ببراءته" فيبرأ. فإن عجز عن إقامتها: حلف المدعي على بقاء حقه.
"وإن أنكر الخصم ابتداء: بأن قال لمدع قرضا أو ثمنا: ما أقرضني، أو: ما باعني، أو لا يستحق علي شيئا مما ادعاه، أو لا حق له علي: صح الجواب" لنفيه عين ما ادعى به.
"فيقول الحاكم للمدعي: هل لك بينة؟" لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله: إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، للحضرمي: "ألك بينة؟" فقال: لا. قال: "فلك يمينه" صححه الترمذي.
"فإن قال: نعم، قال له: إن شئت فأحضرها، فإذا أحضرها وشهدت سمعها، وحرم ترديده" ويكره نعسها وانتهارها، لئلا يكون وسيلة إلى الكتمان. وكان شريح يقول للشاهدين: ما أنا دعوتكما، ولا أنهاكما أن ترجعا، وما يقضي على هذا المسلم غيركما، وإني بكما أقضي اليوم، وبكما أتقي يوم القيامة.
فصل ويعتبر في البينة العدالة ظاهرا وباطنا
:لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 إلا في عقد النكاح، فتكفي العدالة ظاهرا. وعنه: تقبل شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة. واختاره: الخرقي، وأبو بكر وصاحب الروضة لقبوله صلى الله عليه وسلم، شهادة الأعرابي برؤية الهلال وقول عمر، رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض.
"وللحاكم أن يعمل بعمله فيما أقربه في مجلس حكمه" وإن لم يسمعه غيره. نص عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع..." . الحديث، رواه الجماعة.
"وفي عدالة البينة وفسقها" بغير خلاف، لئلا يتسلل لاحتياجه إلى معرفة عدالة المزكين أو جرحهم، ثم يحتاجون أيضا إلى مزكين.
"فإن ارتاب منها: فلا بد من المزكين لها" لتثبيت عدالتها.
"فإن طلب المدعي من الحاكم أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يزكي بينته: أجابه لما سأل، وانتظره ثلاثة أيام" لقول عمر في كتابه إلى أبي
ـــــــ
1 الطلاق من الآية/2.
2 البقرة من الآية/282.
موسى الأشعري واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإنه أنفى للشك، وأجلى للغم.
"فإذا أتى بالمزكين اعتبر معرفتهم لمن يزكونه بالصحبة والمعاملة" لما روى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك، فأتني بمن يعرفك. فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، قال: بأي شيء تعرفه؟ فقال: بالعدالة، قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك.
"فإن ادعى الغريم فسق المزكين، أو فسق البينة المزكاة، وأقام بذلك بينة: سمعت، وبطلت الشهادة" لأن الجرح مقدم على التعديل، لأن الجارح يخبر بأمر باطن خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر بأمر ظاهر، ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات.
"ولا يقبل من النساء تعديل ولا تجريح" لأنها شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال. ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود. قاله في الكافي. ولا يسمع جرح لم يبين سببه، بذكر قادح فيه عن رؤية، أو سماع، أو استفاضة عند الناس، لأن ذلك شهادة عن
علم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 لكن يعرض جارح بزنى أو لواط، لئلا يجب عليه الحد.
"وحيث ظهر فسق بينة المدعي، أو قال ابتداء: ليس لي بينة، قال الحاكم: ليس لك على غريمك إلا اليمين" لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث: الحضرمي والكندي "شاهداك أو يمينه" ، فقال: إنه لا يتورع من شيء، قال: "ليس لك إلا ذلك" رواه مسلم.
"فيحلف الغريم على صفة جوابه في الدعوى، ويخلى سبيله" لانقطاع الخصومة.
"ويحرم تحليفه بعد ذلك" نص عليه، لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك، لما تقدم.
"وإن كان للمدعي بينة، فله أن يقيمها بعد ذلك" لما روي عن عمر أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة هذا إن لم يكن قال: لا بينة لي، فإن قال ذلك، ثم أقامها: لم تسمع، لأنه مكذب لها.
"وإن لم يحلف الغريم: قال له الحاكم: إن لم تحلف، وإلا حكمت عليك بالنكول" نص عليه.
"ويسن تكراره ثلاثا" قطعا لحجته،
"فإن لم يحلف: قضى عليه بالنكول وألزمه الحق" لحديث ابن عمر أنه باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالما بعيبه، فأنكره ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: احلف أنك ما علمت به عيبا، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد رواه
ـــــــ
1 الزخرف من الآية/86.
أحمد. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "اليمين على المدعى عليه" فحصرها في جنبته، فلم تشرع لغيره. وقيل: ترد اليمين على الخصم، اختاره أبو الخطاب، وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني. وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالا، فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك. احلف أنها كما تقول، وخذها رواه أبو عبيد، وقال: فهذا عمر قد حكم برد اليمين، ورأى ذلك المقداد، ولم ينكره عثمان. وروى أبو عبيد أيضا عن شريح، وعبد الله بن عقبة أنهما قضيا برد اليمين. وقال علي إن رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {...أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} 1 وأما السنة فحديث القسامة انتهى.
ـــــــ
1 المائدة من الآية/108.
فصل وحكم الحاكم يرفع الخلاف لكن لا يزيل الشيء عن صفته باطنا
:لحديث: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه: فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه.
"فمتى حكم له ببينة زور بزوجية امرأة ووطء مع العلم: فكالزنا" فيجب عليه الحد بذلك، وعليها الامتناع منه ما أمكنها، فإن أكرهها فالإثم عليه دونها.
"وإن باع حنبلي متروك التسمية" عمدا من ذبيحة أو صيد،
"فحكم بصحته شافعي: نفذ" عند أصحابنا إلا أبا الخطاب. قاله في الفروع. وكذا إن حكم حنفي لحنبلي بشفعة جوار.
"ومن قلد" مجتهدا،
"في نكاح" مختلف فيه،
"صح ولم يفارق" زوجته
"بتغير اجتهاده" أي: المجتهد الذي قلده في صحته
"كالحاكم بذلك" أي: كما لو حكم له حاكم مجتهد بصحة نكاح، فتغير اجتهاده: فلا يفارق.
فصل وتصح الدعوى بحقوق الآدميين على الميت
:"وعلى غير المكلف، وعلى الغائب مسافة قصر، وكذا دونها إن كان مستترا بشرط البينة في الكل" لحديث هند قالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه. فقضى لها، ولم يكن أبو سفيان حاضرا. ويحمل حديث علي على ما إذا كانا حاضرين. وعنه لا يجوز القضاء على الغائب، وهو اختيار ابن أبي موسى، لحديث علي مرفوعا: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء" حسنه الترمذي. والميت وغير المكلف كالغائب، لأن كلا منهم لا يعبر عن نفسه. وأما المستتر فلتعذر حضوره
كالغائب بل أولى، لأن الغائب قد يكون له عذر بخلاف المتواري. ولئلا يجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق فإن أمكن إحضاره أحضر، بعدت المسافة أو قربت، لما روي أن أبا بكر، رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية أن: ابعث إلي بقيس بن المكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يمينا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ما قتل دادويه ولأنا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق. قاله في الكافي.
"ويصح أن يكتب القاضي الذي ثبت عنده الحق" أي: كل حق للآدمي لا في حد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر، والدرء بالشبهات.
"إلى قاض آخر معين أو غير معين" كأن يكتب إلى من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين من غير تعيين بما ثبت عنده، ليحكم به، وبما حكم لينفذه، ويكتب.
"بصورة الدعوى الواقعة على الغائب بشرط أن يقرأ ذلك على عدلين، ثم يدفعه لهما" لأن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر، كالعقود. قاله في الكافي. وقال في الشرح: وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا: إذا عرف خطه وختمه: قبله. وهو قول: أبي ثور.
"ويقول فيه: وإن ذلك قد ثبت عندي، وإنك تأخذ الحق للمستحق" لما روى الضحاك بن سفيان قال "كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" رواه أبو داود والترمذي.
"فيلزم القاضي الواصل إليه ذلك العمل به" لإجماع الأمة على قبوله، لقوله تعالى: {...إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} 1 ولأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأطراف وإلى عماله وسعاته.
ـــــــ
1 النمل من الآية/29.
باب القسمة
باب القسمة:
أجمعوا عليها، لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} 1 وقوله: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ...} 2 وحديث: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" وقسم النبي صلى الله عليه وسلم، الغنائم بين أصحابه ولحاجة الشركاء إليها ليتخلصوا من سوء المشاركة. و ذكرت في القضاء، لأن منها ما يقع بإجبار الحاكم عليه.
"وهي نوعان قسمة تراض" وهي: ما فيه ضرر أو رد عوض.
"وقسمة إجبار" وهي: ما لا ضرر فيه ولا رد عوض.
"فلا قسمة في مشترك إلا برضى الشركاء كلهم، حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة" لحديث "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد ومالك في الموطأ.
"كحمام، ودور صغار" بحيث يتعطل الانتفاع بها، أو يقل إذا قسمت،
"وشجر مفرد وحيوان" وأرض ببعضها بئر أو بناء، ولا تتعدل
ـــــــ
1 النساء من الآية/8.
2 القمر من الآية/28.
بأجزاء ولا قيمة، لأن فيها إما ضررا أو رد عوض، وكلاهما لا يجبر الإنسان عليه.
"وحيث تراضيا صحت، وكانت بيعا يثبت فيها ما يثبت فيه من الأحكام" من خيار مجلس، وشرط، وغبن، ورد بعيب، لأنها معاوضة.
"وإن لم يتراضيا ودعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك، أو إلى بيع عبد أو بهيمة أو سيف ونحوه مما هو شركة بينهما: أجبر إن امتنع" دفعا للضرر.
"فإن أبى: بيع عليهما" أي: باعه الحاكم،
"وقسم الثمن" بينهما على قدر حصصهما. نص عليه في رواية الميموني وحنبل.
"ولا إجبار في قسمة المنافع" بأن ينتفع أحدهما بمكان، والآخر بآخر، أو كل منهما ينتفع شهرا ونحوه، لأنها معاوضة فلا يجبر عليها الممتنع كالبيع، ولأن القسمة بالزمان يأخذ أحدهما قبل الآخر فلا تسوية لتأخر حق الآخر.
"فإن اقتسماها بالزمن: كهذا شهرا، والآخر مثله، أو بالمكان: كهذا في بيت، والآخر في بيت: صح جائزا ولكل الرجوع" متى شاء، فلو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته: غرم ما انفرد به، أي: أجرة مثل حصة شريكه مدة انتفاعه. وقال الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه.
فصل النوع الثاني قسمة إجبار
:"وهي: ما لا ضرر فيها، ولا رد عوض" سميت بذلك لإجبار الممتنع منها إذا كملت الشروط.
"وتتأتى في كل مكيل وموزون، وفي دار كبيرة، وأرض واسعة، ويدخل الشجر تبعا" للأرض، كالأخذ بالشفعة.
"وهذا النوع ليس بيعا" لمخالفته له في الأحكام والأسباب كسائر العقود، فلو كانت بيعا لم تصح بغير رضي الشريك، ولوجبت فيها الشفعة، ولما لزمت بالقرعة، بل إفراز للنصيبين، وتمييز للحقين. فيصح قسم لحم هدي وأضحية، مع أنه لا يصح بيع شيء منهما.
"فيجبر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع" ويشترط لذلك ثبوت ملك الشركاء وثبوت أن لا ضرر فيها، وثبوت إمكان تعديل السهام في المقسوم، فإذا اجتمعت أجبر الممتنع، لأن طالبها يطلب إزالة ضرر الشركة عنه وعن شريكه، وحصول النفع لكل منهما بتصرفه في ملكه بحسب اختياره من غير ضرر بأحد، فوجبت إجابته. ويقسم عن غير مكلف وليه، فإن امتنع أجبر، ويقسم الحاكم على غائب بطلب شريكه أو وليه، لأنها حق عليه، فجاز الحكم به كسائر الحقوق.
"ويصح أن يتقاسما بأنفسهما، وأن ينصبا قاسما بينهما" لأن الحق لا يعدوهما، أو يسألا الحاكم نصبه، لأنه أعلم بمن يصلح للقسمة، فإذا سألاه وجبت إجابتهما لقطع النزاع.
"ويشترط إسلامه وعدالته وتكليفه" ليقبل قوله في القسمة،
"ومعرفته بالقسمة" ليحصل منه المقصود، ويكفي واحد إن لم يكن في القسمة تقويم، لأنه بالحاكم.
"وأجرته بينهما على قدر أملاكهما" نص عليه، ولو شرط خلافه.
"وإن تقاسما بالقرعة جاز ولزمت القسمة بمجرد خروج القرعة" لأن القاسم، كحاكم، وقرعته حكم. نص عليه.
"ولو فيها رداءة وضرر" إذا تراضيا عليها، وخرجت القرعة إذ القاسم يجتهد في تعديل السهام، كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته، كقسمة الإجبار.
"وإن خير أحدهما الآخر بلا قرعة، وتراضيا: لزمت بالتفرق" بأبدانهما كالبيع.
"وإن خرج في نصيب أحدهما عيب جهله: خير بين فسخ وإمساك، ويأخذ الأرش" كالمشتري، لوجود النقص.
"وإن غبن غبنا فاحشا: بطلت" لتبين فساد الإفراز.
"وإن ادعى كل أن هذا من سهمه" وأنكره الآخر،
"تحالفا، ونقضت" القسمة، لأن المدعى لا يخرج عن ملكهما، ولا سبيل لدفعه إلى مستحقه منهما بدون نقض القسمة.
"وإن حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر: بطلت" لعدم تمكن الداخل من الانتفاع بما حصل له بالقسمة، فلا تكون السهام معدلة، والتعديل واجب في جميع الحقوق. وقال ابن قندس: فإن أخذه راضيا عالما أنه لا طريق له جاز، لأن قسمة التراضي بيع، وشراؤه على هذا الوجه جائز.
باب الدعاوى والبينات
:الدعوى لغة: الطلب. واصطلاحا: إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره، أو في ذمته. والمدعي: من يطالب غيره بحق. والمدعى عليه: المطالب، ويقال أيضا: المدعي: من إذا ترك ترك، والمدعى عليه: من إذا ترك لا يترك. والبينة: العلامة، كالشاهد فأكثر. وأصل هذا الباب حديث ابن عباس مرفوعا: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" رواه أحمد ومسلم.
"ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف" أي: حر مكلف رشيد.
"وإن تداعيا عينا لم تخل من أربعة أحوال:"
"1- أن لا تكون بيد أحد، ولا ثم ظاهر" يعمل به
"ولا بينة" لأحدهما،
"فيتحالفان ويتناصفانها" لاستوائهما في الدعوى، وليس أحدهما أولى بها من الآخر، لعدم المرجح.
"وإن وجد ظاهر" يرجع أنها
"لأحدهما عمل به" فيحلف ويأخذها. فلو تنازع الزوجان في قماش البيت ونحوه: فما يصلح لرجل فهو له، وما يصلح لها فلها، ولهما فلهما.
"2- أن تكون بيد أحدهما فهي له بيمينه" لما تقدم، ولحديث "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" ولأن الظاهر من اليد الملك، فإن كان للمدعي بينة حكم له بها.
"فإن لم يحلف قضي عليه بالنكول ولو أقام بينة" لجواز أن يكون مستند بينته رؤية التصرف، ومشاهدة اليد، ولعدم حاجته إليها. وفي شرح المنتهى، قلت: بل هو محتاج إليها لدفع التهمة، واليمين عنه. انتهى. وقال في الشرح وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها، ولم يحلف، وهو قول أهل الفتيا. وقال شريح والنخعي: يحلف. انتهى. ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها. قاله في الكافي.
"3- أن تكون بيديهما كشيء: كل 1 ممسك ببعضه فيتحالفان، ويتناصفانه" لا نعلم فيه خلافا. قاله في الشرح، لحديث أبي موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دابة ليس لأحدهما بينة: فجعلها بينهما نصفين رواه الخمسة إلا الترمذي.
"فإن قويت يد أحدهما، كحيوان: واحد سائقه، والآخر راكبه" فللثاني بيمينه، لأن تصرفه أقوى، ويده آكد، وهو المستوفي لمنفعة الحيوان.
"أو قميص: واحد آخذ بكمه، والثاني لابسه: فللثاني بيمينه" لما تقدم.
ـــــــ
1 قوله كل: بتشديد اللام وضمها لأنها مبتدأ، وممسك خبر والجملة صفة لشيء.
"وإن تنازع صانعان في آلة دكانهما: فآلة كل صنعة لصانعها" كنجار وحداد بدكان، فآلة النجارة للنجار، وآلة الحدادة للحداد بيمينه حيث لا بينة عملا بالظاهر.
"ومتى كان لأحدهما بينة فالعين له" لحديث الحضرمي والكندي1
"فإذا كان لكل منهما بينة به وتساوتا من كل وجه تعارضتا وتساقطتا" لأن كلا منهما تنفي ما تثبته الأخرى
"فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما" لحديث أبي موسى أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله فبعث كل منهما بشاهدين، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم، بينهما رواه أبو داود.
"ويقترعان فيما عداه" أي: فيما ليس بيديهما، أو بيد ثالث لا يدعيه.
"فمن خرجت له القرعة فهو له بيمينه" روي عن ابن عمر وابن الزبير، وبه قال إسحاق وأبو عبيد: ذكره في الشرح. كما لو لم يكن لواحد منهما بينة، لحديث أبي هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم يكن
ـــــــ
1 ونصه: عن وائل بن حجر، قال "جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت للأبي، قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، للحضرمي: "ألك بينة؟" قال: لا، قال: "فلك يمينه" ، فقال : يا رسول الله. الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف علبه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس لك منه إلا ذلك" ، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أدبر الرجل: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما: ليلقين الله وهو عنه معرض" رواه مسلم والترمذي وصححه.
لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود. وروى الشافعي عن ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أمر، فجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بينهما.
"وإن كانت العين بيد أحدهما: فهو داخل، والآخر خارج، وبينة الخارج مقدمة على بيعة الداخل" لحديث: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه" وفي لفظ: "واليمين على من أنكر" رواه الترمذي. وحديث: "شاهداك أو يمينه" وعن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قضى باليمين على المدعى عليه متفق عليه.
"لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه، والداخل بينة أنه اشتراها منه: قدمت بينته" أي: الداخل،
"هنا، لما معها من زيادة العلم" لشهادتها بأمر حدث على الملك خفي على الأولى، كما لو ادعى بدين وأقام به بينة، فقال المدعى عليه: أبرأني، وأقام بينة بذلك: قدمت، لما معها من زيادة العلم،
"أو أقام أحدهما بينة أنه اشتراها من فلان، وأقام الآخر بينة كذلك عمل بأسبقهما تاريخا" لإثباتها أنه اشتراها من مالكها، ولمصادفة التصرف الثاني ملك غيره فوجب بطلانه، فإن لم يعلم التاريخ، أو اتفق: تساقطتا، لتعارضهما وعدم المرجح.
"4- أن تكون بيد ثالث، فإن ادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينا" لأنهما اثنان، كلاهما يدعيها.
"فإن نكل أخذها منه مع بدلها" أي: مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة، لتلف العين بتفريطه، وهو ترك اليمين للأول، أشبه ما لو أتلفها.
"واقترعا عليهما" أي: العين وبدلها، لأن المحكوم له بالعين غير معين.
"وإن أقر بها لهما اقتسماها" نصفين،
"وحلف لكل واحد يمينا" بالنسبة إلى النصف الذي أقر به، لصاحبه، لأنه يدعيه له، كما لو أقر بها، لأحدهما فإنه يحلف للآخر.
"وحلف كل واحد لصاحبه على النصف المحكوم له به" كما لو كانت العين بيديهما ابتداء.
"وإن قال: هي لأحدهما، وأجهله، فصدقاه" على جهله به،
"لم يحلف" لتصديقهما له في دعواه،
"وإلا" يصدقاه
"حلف يمينا واحدة" لأن صاحب الحق منهما واحد غير معين،
"ويقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها" نص عليه، لحديث أبي هريرة السابق.
كتاب الشهادات
كتاب الشهادات:
أجمعوا على قبول الشهادة في الجملة، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية1 وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ...} 2 وقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ...} 1 وحديث: "شاهداك أو يمينه" ولدعاء الحاجة إليها لحصول التجاحد. قال شريح: القضاء جمر، فنحه عنك بعودين - يعني: الشاهدين - وإنما الخصم داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء.
"تحمل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفاية" لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا...} 1 قال ابن عباس وقتادة والربيع: المراد به: التحمل للشهادة وإثباتها عند الحاكم.
"وأداؤها فرض عين" لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ...} 3 وإن كان الحاكم غير عدل: لم يلزمه الأداء. قال أحمد في رواية ابن الحكم: كيف أشهد عند رجل ليس عدلا لا يشهد؟. وقال في رواية ابنه عبد الله: أخاف أن يسعه أن لا يشهد عن الجهمية. وعن أبي هريرة مرفوعا: "يكون في آخر الزمان
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 الطلاق من الآية/2.
3 البقرة من الآية/283.
أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم كاتبا، ولا عريفا، ولا شرطيا" رواه الطبراني.
"ومتى تحملها وجبت كتابتها" لئلا ينساها.
"ويحرم أخذ أجرة وجعل عليها" ولو لم تتعين عليه في الأصح، لأنها فرض كفاية، ومن قام به فقد قام بفرض، ولا يجوز أخذ الأجرة ولا الجعل عليه: كصلاة الجنازة.
"لكن إن عجز عن المشي" إلى محلها،
"أو تأذى به: فله أخذ أجرة مركوب" لأنه لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره، لحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
"ويحرم كتم الشهادة" للآية.
"ولا ضمان" لأنه لا تلازم بين التحريم والضمان.
"ويجب الإشهاد في عقد النكاح خاصة" لأنه شرط فيه فلا ينعقد بدونها.
"ويسن في كل عقد سواه" من بيع وإجارة وصلح وغيره، لقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 1 وحمل على الاستحباب، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} 2
"ويحرم أن يشهد إلا بما يعلمه" لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3 قال المفسرون: هو ما شهد به عن بصيرة وإيقان.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 البقرة من الآية/283.
3 الزخرف من الآية/86.
وقال ابن عباس سئل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الشهادة، فقال: "ترى الشمس؟" قال: "على مثلها فاشهد، أو دع" رواه الخلال.
"والعلم إما برؤية أو سماع" فالرؤية تختص بالفعل: كقتل، وسرقة، وغصب، وعيوب مرئية في نحو مبيع ونحوها.
والسماع ضربان:
ا - سماع من مشهود عليه: كعتق وطلاق وإقرار ونحوها، فيلزمه الشهادة بما سمع من قائل عرفه يقينا، كما في الكافي.
2- وسماع بالاستفاضة بأن يشتهر المشهود به بين الناس، فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضا. قال في الشرح: وأجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة على النسب، واختلفوا فيما سواه، فقال أصحابنا تجوز في تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح، والموت.
ولنا: أن هذه تتعذر الشهادة عليها غالبا بمشاهدتها، أو مشاهدة أسبابها فجازت كالنسب. قال مالك: ليس عندنا من يشهد على أجناس أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا بالسماع، وقال: السماع في الأجناس، والولاء جائز. قيل لأحمد: أتشهد أن فلانة امرأة فلان، ولم تشهد؟ قال: نعم إذا كان مستفيضا: فأشهد أن فاطمة بنت رسول الله، وأن خديجة وعائشة زوجتاه، وكل أحد يشهد بذلك من غير
مشاهدة. ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم. وقيل: تسمع من عدلين. وهو قول المتأخرين من الشافعية. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين: أو ممن تطمئن إليه النفس ولو واحدا.
"ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة: كتصرف الملاك من نقض وبناء وإجارة وإعارة: فله أن يشهد له بالملك" في قول ابن حامد، لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة الملك فجرت مجرى الاستفاضة.
"والورع أن يشهد باليد والتصرف" لأنه أحوط خصوصا في هذه الأزمنة، ولأن اليد قد تكون عن غصب وتوكيل وإجارة وعارية، فلم تختص في الملك، فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال. قاله في الكافي.
فصل وإن شهدا أنه طلق من نسائه
:"واحدة، ونسيا عينها لم تقبل" شهادتهما، لأنهم شهدا بغير معين فلا يمكن العمل بها، كقولهما: إحدى هاتين الأمتين عتيقة.
"ولو شهد أحدهما أنه أقر له بألف، والآخر أنه أقر له بألفين: كملت بالألف" لاتفاقهما عليه.
"وله" أي: المشهود له
"أن يحلف على الألف الآخر ويستحقه" حيث لم يختلف السبب، ولا الصفة.
"وإن شهدا أن عليه ألفا لزيد، وقال أحدهما: قضاه بعضه: بطلت
شهادته" نص عليه، لأن قوله: قضاه بعضه، يناقض شهادته عليه بالألف فأفسدها.
"وإن شهدا أنه أقرضه ألفا ثم قال أحدهما: قضاه نصفه: صحت شهادتهما" لأنه رجوع عن الشهادة بخمس مائة، وإقرار بغلط نفسه أشبه ما لو قال: بألف بل بخمسمائة، ولأنه لا تناقض في كلامه، ولا اختلاف.
"ولا يحل لمن" تحمل شهادة بحق
"وأخبره عدل باقتضاء الحق أن يشهد به" نص عليه.
"ولو شهد اثنان في جمع من الناس على واحد منهم أنه طلق أو أعتق، أو شهدا على خطيب أنه قال، أو فعل على المنبر في الخطبة شيئا، ولم يشهد به أحد غيرهما: قبلت شهادتهما" لكمال النصاب.
باب شروط من تقبل شهادته
باب شروط من تقبل شهادته:
"وهي ستة"
"1- البلوغ: فلا شهادة لصغير، ولو اتصف بالعدالة" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1 والصبي ليس من رجالنا. وعنه: تقبل شهادتهم في الجراح خاصة، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها، لأنه قول ابن الزبير. قاله في الكافي. وقال في الشرح: قال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض.
"2- العقل: فلا شهادة لمعتوه ومجنون" وسكران ومبرسم2،
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 البرسام: هو التهاب الحجاب الذي بين الكبد والقلب.
لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل، فعلى غيرهم أولى، وتقبل ممن يخنق أحيانا - نص عليه - إذا تحمل وأدى في حال إفاقته، لأنها شهادة من عاقل.
"3- النطق: فلا شهادة لأخرس" بإشارته، لأن الشهادة يعتبر لها اليقين. وإنما اكتفي بإشارة الأخرس في أحكامه المختصة به، كنكاحه وطلاقه للضرورة، وهي هنا معدومة.
"إلا إن أداها بخطه" فتقبل، لدلالة الخط على الألفاظ.
"4- الحفظ: فلا شهادة لمغفل، ومعروف بكثرة غلط وسهو" لأنه لا تحصل الثقة بقوله، لاحتمال أن يكون ذلك من غلطه. وتقبل شهادة من يقل ذلك منه، لأنه لا يسلم منه أحد.
"5- الإسلام: فلا شهادة لكافر ولو على مثله" لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقال: {...مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ...} 2 والكافر ليس بعدل، ولا مرضي، ولا هو منا. وروى حنبل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، واختاره الشيخ تقي الدين، لحديث جابر أنه، صلى الله عليه وسلم، أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض رواه ابن ماجه من رواية مجالد، وهو ضعيف. ويحتمل أن المراد اليمين، لأنها تسمى شهادة، قال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ...} 3 إلا أن شهادة أهل الكتاب تقبل في الوصية في السفر
ـــــــ
1 الطلاق: من الآية2.
2 البقرة: من الآية/282.
3 النور: من الآية/6.
إذا لم يكن غيرهم، ويستحلف مع شهادته بعد العصر، لخبر أبي موسى1 رواه أبو داود وغيره، وقضى به أبو موسى، وكذا قضى به ابن مسعود في زمن عثمان. قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين.
"6- العدالة" وهي: استواء أحواله في دينه، وقيل: من لم تظهر منه ريبة. ذكره في الشرح. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه" 2 رواه أحمد وأبو داود.
"ويعتبر لها شيئان:"
"1- الصلاح في الدين، وهو: أداء الفرائض برواتبها" نقل أبو طالب: الوتر: سنة سنها النبي، صلى الله عليه وسلم. فمن ترك سنة من سننه، فهو رجل سوء، فلا تقبل شهادة من داوم على ترك الرواتب، فإن تهاونه بها يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وربما جر إلى التهاون بالفرائض. وكذا ما وجب من صوم وزكاة وحج،
"واجتناب المحرم: بأن لا يأتي كبيرة، ولا يدمن على صغيرة"
ـــــــ
1 ونصه: عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري، فأحبراه، وقدما بتركته ووصيته. فقال أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله، فأحلفهما بعد العصر بالله إنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وإنهما لوصية الرجل وتركته. فأمضى شهادتهما.
2 الغمر: بكسر العين: الحفد وزنا ومعنى. قال في اللسان: وفي حديث الشهادة "ولا ذي غمر على أخيه" أي: ضغن وحقد.
لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا...} 1 وقال في القاذف: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً...} 2 ويقاس عليه كل مرتكب كبيرة، لأنه لا يؤمن من مثله شهادة الزور. واعتبر في الصغائر الكثرة، لأن الحكم للأغلب بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3 ولا يقدح فيه فعل صغيرة نادرا، لأن أحدا لا يسلم منها، ولهذا يروى مرفوعا:
"إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما؟"
والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة. نص عليه. وقال الشيخ تقي الدين: أو لعنة، أو غضب، أو نفي الإيمان. انتهى. والصغيرة: ما دون ذلك.
2-"استعمال المروءة" الإنسانية
"بفعل ما يجمله ويزينه" عادة كالسخاء وحسن الخلق، وحسن المجاورة ونحوها،
"وترك ما يدنسه ويشينه" من الأمور الدنية المزرية به.
"فلا شهادة، لمتمسخر" أي: مستهزئ
"ورقاص، ومشعبذ" والشعبذة: خفة في اليدين كالسحر.
"ولاعب بشطرنج ونحوه" كنرد، ولو خلا من القمار، لحديث أبي موسى مرفوعا: "من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله" رواه أبو داود. وعن واثلة بن الأسقع مرفوعا: "إن لله عز وجل في كل يوم
ـــــــ
1 الحجرات: من الآية/6.
2 النور: من الآية/4.
3 الأعراف: من الآية/8.
ثلاثمائة وستين نظرة، ليس لصاحب الشاه منها نصيب" رواه أبو بكر. ومر علي، رضي الله عنه، على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! والنرد أشد من الشطرنج. نص عليه أحمد، للاتفاق عليه، وثبوت الخبر فيه.
"ولا لمن يمد رجليه بحضرة الناس، أو يكشف من بدنه ما جرت العادة بتغطيته، ولا لمن يحكي المضحكات، ولا لمن يأكل بالسوق، ويغتفر اليسير كاللقمة والتفاحة" ولا لمغن وطفيلي، ومتزي بزي يسخر منه، وأشباه ذلك مما يأنف منه أهل المروءات، لأنه لا يأنف من الكذب بدليل ما روى أبو مسعود البدري مرفوعا: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري.
فصل ومتى وجد الشرط...إلخ
فصل ومتى وجد الشرط..."بأن بلغ الصغير، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق: قبلت الشهادة بمجرد ذلك" لزوال المانع.
"ولا تشترط الحرية، فتقبل شهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة" لعموم الآيات والأخبار، والعبد داخل فيها، فإنه من رجالنا، وتقبل روايته، وفتواه، وأخباره الدينية فقبلت شهادته، لأنه عدل غير متهم، فأشبه الحر. وتقدم حديث عقبة بن الحارث في الرضاع.
ولا تقبل شهادته في الحد، لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة، لوقوع الخلاف فيها. قاله في الكافي.
"ولا يشترط كون الصناعة غير دنية" فتقبل شهادة حجام وحداد وزبال وكناس وقراد ودباب ونحوهم، إذا حسنت طريقتهم في دينهم، لقوله تعالى: {...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1، وتقبل شهادة ولد الزنى في قول الأكثر. قاله في الشرح. وتقبل شهادة بدوي على قروي، لأنه مسلم عدل. وحديث أبي هريرة مرفوعا: -"لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" - محمول على من لم تعرف عدالته من أهل البدو.
"ولا كونه بصيرا: فتقبل شهادة الأعمى بما سمعه حيث تيقن الصوت، وبما رآه قبل عماه" لعموم الآيات، ولأنه عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته، كالبصير.
ـــــــ
1 الحجرات: من الآية/13.
باب موانع الشهادة
:"وهي ستة:"
"1- كون الشاهد أو بعضه ملكا لمن يشهد له" لأن القن يتبسط في مال سيده، وتجب نفقته عليه، كالأب مع ابنه.
"وكذا لو كان زوجا له" لتبسط كل منهما في مال الآخر، وإضافته إليه، واتساعه بسعته، وتقدم قول عمر لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي في حد السرقة.
"ولو في الماضي" بأن يشهد أحد الزوجين للآخر بعد طلاق بائن أو خلع: فلا تقبل، لتمكنه من بينونتها للشهادة، ثم يعيدها.
"أو كان من فروعه، وإن سفلوا من ولد البنين والبنات، أو من أصوله، وإن علوا" فلا تقبل شهادة بعضهم لبعض، للتهمة بقوة القرابة. وعن عائشة مرفوعا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في قرابة ولا ولاء" ورواه الخلال بنحوه من حديث عمر وأبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود بنحوه من حديث عمرو بن شعيب. والظنين: المتهم، وكل من الوالدين والأولاد متهم في حق الآخر، لأنه يميل إليه بطبعه، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم "فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها" .
"وتقبل" شهادة الشخص
"لباقي أقاربه: كأخيه" لعموم الآيات، ولأنه عدل غير متهم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة.
"وكل من لا تقبل" شهادته
"له فإنها تقبل عليه" لعدم التهمة فيها. قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1
2-"كونه يجر بها نفعا لنفسه: فلا تقبل شهادته لرقيقه" ولو مأذونا له،
"ومكاتبه" لأنه رقيقه، لحديث: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم"
"ولا لمورثه بجرح قبل اندماله" لأنه قد يسري إلى نفسه فتجب الدية للشاهد بشهادته، فكأنه شهد لنفسه.
"ولا لشريكه فيما هو شريك فيه" لاتهامه. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا.
ـــــــ
1 النساء: من الآية/135.
"ولا لمستأجره فيما استأجره فيه" نص عليه. كمن نوزع في ثوب استأجر أجيرا لخياطته ونحوها فلا تقبل للتهمة فيه.
"3- أن يدفع بها ضررا عن نفسه: فلا تقبل شهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ" وشبه العمد، لأنهم متهمون في دفع الدية عن أنفسهم، ولو كان الشاهد فقيرا أو عبدا، لجواز أن يوسر أو يموت من هو أقرب منه.
"ولا شهادة الغرماء بجرح شهود دين على مفلس" أو ميت تضيق تركته عن ديونهم، لما في ذلك من توفير المال عليهم. قال الزهري: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين. وهو: المتهم. قاله في الشرح.
"ولا شهادة الضامن لمن ضمنه بقضاء الحق أو الإبراء منه" لأنه متهم بقصد دفع الضمان عن نفسه.
"وكل من لا تقبل شهادته له تقبل شهادته بجرح شاهد عليه" كسيد يشهد بجرح شاهد على قنه ومكاتبه، لأنه متهم بدفع الضرر عن نفسه.
"4- العداوة لغير الله تعالى: كفرحه بمساءته، وغمه لفرحه، وطلبه له الشر، فلا تقبل شهادته على عدوه" في قول أكثر أهل العلم، لحديث "ولا ذي غمر على أخيه" قاله في الشرح. ولأنه يتهم بإرادة الضرر بعدوه.
"إلا في عقد النكاح" فتقبل شهادته فيه، لأن القصد إعلانه ولا تهمة.
"5- العصبية: فلا شهادة لمن عرف بها، كتعصب جماعة على جماعة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة" لما تقدم.
"6- أن ترد شهادته لفسقه، ثم يتوب ويعيدها" فلا تقبل للتهمة في أنه إنما تاب لتقبل شهادته لإزالة العار الذي لحقه بردها، ولأنه ردت بالاجتهاد فقبولها نقص لذلك الاجتهاد.
"أو يشهد لمورثه بجرح قبل برئه" فترد شهادته،
"ثم يبرأ ويعيدها، أو ترد لدفع ضرر، أو جلب نفع، أو عداوة، أو ملك، أو زوجية، ثم يزول ذلك" المانع.
"وتعاد" الشهادة، فلا تقبل في الجميع لأنها ردت للتهمة، فلا تقبل إذا أعيدت، كالمردود للفسق.
"بخلاف ما لو شهد، وهو كافر أو غير مكلف أو أخرس ثم زال ذلك" المانع بأن أسلم الكافر، أو كلف غير المكلف، أو نطق الأخرس،
"وأعادوها" فإنها تقبل، لأن ردها لهذه الموانع لا غضاضة فيه، ولا تهمة، بخلاف ما قبلها.
باب أقسام المشهود به
باب أقسام المشهود به:
"وهو ستة:"
"1- الزنى: فلابد من أربعة رجال" وأجمعوا على اشتراط عدالتهم باطنا وظاهرا. قاله في الشرح.
"يشهدون به" أي: الزنى أو اللواط،
"وأنهم رأوا ذكره في فرجها" لئلا يعتقد الشاهد ما ليس بزنى زنى، ويقال: زنت العين واليد والرجل ولأن أبا بكرة، ونافع بن الحارث،
وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولما لم يصرح زياد بذلك بل قال: رأيت أمرا قبيحا: فرح عمر، وحمد الله، ولم يقم الحد عليه، وكان بمحضر من الصحابة، ولم ينكر.
"أو يشهدون أنه أقر أربعا" لقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وقوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ...} 2 وقوله، صلى الله عليه وسلم، لهلال بن أمية "أربعة شهداء، وإلا حد في ظهرك...." . الحديث، رواه النسائي.
"2- إذا ادعى من عرف بغنى أنه فقير ليأخذ من الزكاة: فلا بد من ثلاثة رجال" يشهدون له، لقوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث قبيصة "ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة" الحديث، رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
"3- القود والإعسار، وما يوجب الحد والتعزير: فلا بد من رجلين" لأنه يحتاط فيه، ويسقط بالشبهة، فلا تقبل فيه شهادة النساء، لنقصهن، لما روي عن الزهرى قال جرت السنة من عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود قاله في الكافي.
"ومثله: النكاح والرجعة، والخلع والطلاق، والنسب والولاء،
ـــــــ
1 النور من الآية: 13.
2 النساء: من الآية: 15.
والتوكيل في غير المال" فلا بد من شهادة رجلين، لقوله تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ...} 1 فنقيس عليه سائر ما ذكرنا، لأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، أشبه العقوبات. قاله في الكافي.
"4- المال وما يقصد به المال: كالقرض. والرهن والوديعة، والعتق والتدبير، والوقف والبيع، وجناية الخطأ" ونحوها.
"فيكفي فيه رجلان، أو رجل وامرأتان" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ...} 2 نص على المداينة، وقسنا عليه سائر ما ذكرنا قاله في الكافي. ولأن المال يدخله البذل والإباحة، وتكثر فيه المعاملة، ويطلع عليه الرجال والنساء فوسع الشرع باب ثبوته.
"أو رجل ويمين" لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. ولأحمد في رواية إنما ذلك في الأموال ورواه أيضا عن جابر مرفوعا. وهذا الحديث يروى عن ثمانية: عن علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأبي، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبادة وقضى به علي بالعراق رواه أحمد والدارقطني، ولأن اليمين تشرع في حق من ظهر صدقه.
"لا امرأتان ويمين" وكذا لو شهد أربع نسوة، لأن النساء لا تقبل شهادتهن في ذلك منفردات.
ـــــــ
1 الطلاق: من الآية/2.
2 البقرة: من الآية/282.
"ولو كان لجماعة حق بشاهد واحد فأقاموه: فمن حلف أخذ نصيبه" لكمال النصاب من جهته،
"ولا يشاركه من لم يحلف" لأنه لا حق له فيه قبل حلفه.
"5- داء دابة وموضحة ونحوهما: فيقبل قول طبيب وبيطار واحد، لعدم غيره في معرفته" لأنه مما يعسر عليه إشهاد اثنين، وإن أمكن إشهادهما لم يكتف بدونهما، لأنه الأصل قاله في الكافي.
"وإن اختلف اثنان قدم قول المثبت" لأنه يشهد بزيادة لم يدركها النافي.
"6- ما لا يطلع عليه الرجال غالبا: كعيوب النساء تحت الثياب والرضاعة، والبكارة. والثيوبة. والحيض، وكذا جراحة وغيرها في حمام وعرس ونحوهما مما لا يحضره الرجال فيكفي فيه امرأة عدل" نص عليه. قال في الشرح: ولا نعلم خلافا في قبول النساء المنفردات في الجملة. انتهى. ولحديث عقبة بن الحارث، وتقدم في الرضاع. وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها ذكره الفقهاء في كتبهم، لأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات: فلا يشترط فيه العدد، كالرواية والأخبار الدينية.
"والأحوط اثنتان" لأن الرجال أكمل منهن، ولا يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى، فإذا شهد الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، فقال أبو الخطاب: يكتفى به، لأنه أكمل منها، قاله في الكافي.
فصل لو شهد بقتل العمد رجل وامرأتان
:"لم يثبت شيء" أي: لا قصاص، ولا دية، لأن العمد يوجب القصاص، والمال بدل عنه، فإن لم يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا: موجبه أحد شيئين: لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار، فلو أوجبنا الدية وحدها. أوجبنا معينا. قاله في الكافي.
"وإن شهدوا بسرقة: ثبت المال" لكمال نصابه.
"دون القطع" لأنه حد، فلا يثبت إلا برجلين، والسرقة توجب المال والقطع، وقصور البينة عن أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر.
"ومن حلف بالطلاق: أنه ما سرق، أو ما غصب ونحوه" نحو ما باع، أو ما اشترى أو وهب.
"فثبت فعله" المحلوف أنه ما فعله.
"برجل وامرأتين أو رجل ويمين: ثبت المال" لكمال نصابه.
"ولم تطلق" زوجته، لأن الطلاق لا يثبت بذلك.
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة وصفة أدائها
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة وصفة أدائها:
قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، ولدعاء الحاجة إليها، لأنها وثيقة مستدامة لحفظ الأموال، وربما مات المقر فتعذر الرجوع إلى إقراره،
وربما مات شاهد الأصل أو غاب أو مرض، أو نسي فتضيع الحقوق: فاستدرك ذلك بتجويز الشهادة على الشهادة، فتدوم الوثيقة.
"الشهادة على الشهادة" أي: صورة تحملها.
"أن يقول: أشهد يا فلان على شهادتي: إني أشهد أن فلان بن فلان أشهدني على نفسه بكذا، أو: شهدت عليه، أو: أقر عندي بكذا" أي: لا بد أن يسترعيه شاهد الأصل للشهادة. نص عليه.
"ويصح أن يشهد على شهادة الرجلين رجل وامرأتان، ورجل وامرأتان على مثلهم، وامرأة على امرأة فيما تقبل فيه المرأة" كالشهادة بنفس الحق. ولأن الفرع بدل الأصل فاكتفي بمثل عددهم، كأخبار الديانات. وقال ابن بطة: لا بد من أربعة: على كل واحد اثنين، وقال الإمام أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على هذا: شريح، فمن دونه، إلا أن أبا حنيفة أنكره، قاله في الشرح.
"وشروطها أربعة:"
"1- أن تكون في حقوق الآدميين" كالأموال: فلا تقبل في حد لله تعالى، لأن مبناه على الستر، والدرء بالشبهات، والشهادة على الشهادة لا تخلو من شبهة، لتطرق احتمال الغلط والسهو. قال في الكافي: وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في قصاص، ولا حد قذف لأنه عقوبة، فأشبه سائر الحدود، ونص على قبولها في الطلاق لأنه لا يدرأ بالشبهات. انتهى.
"2-تعذر شهود الأصل بمرض أو خوف أو غيبة مسافة قصر" لأن من دونها في حكم الحاضر، ذكره أبو الخطاب. ولأن شهادة
الأصل أقوى منها، لأنها تثبت نفس الحق، وهذه لا تثبته، وإنما تثبت الشهادة عليه، ولأن سماع القاضي منهما متيقن، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون: فلم يقبل الأذى مع القدرة على الأقوى. قاله في الكافي.
"ويدوم تعذرهم إلى صدور الحكم، فمتى أمكنت شهادة الأصل" قبل الحكم:
"وقف الحكم على سماعها" لزوال الشرط، كما لو كانوا حاضرين، و لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل، فأشبه المتيمم يقدر على الماء.
3-"دوام عدالة الأصل والفرع إلى صدور الحكم، فمتى حدث من أحدهم ما يمنعه قبله" أي: الحكم من نحو فسق، أو جنون
"وقف" الحكم، لأنه ينبني على الشهادتين معا، فإذا فقد شرط الشهادة لم يجز الحكم بها.
4-"ثبوت عدالة الجميع" لما تقدم.
"ويصح من الفرع أن يعدل الأصل" بغير خلاف نعلمه. قاله في الشرح، لأن شهادتهما بالحق مقبولة، فكذلك في العدالة.
"لا تعديل شاهد لرفيقه" لأنه يؤدي إلى انحصار الشهادة في أحدهما.
"وإن قال شهود الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع: ما أشهدناهم بشيء. لم يضمن الفريقان شيئا" لأنه لم يثبت كذب شاهدي الفرع، ولا رجوع شاهدي الأصل، لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، وهما أنكرا أصل الشهادة.
فصل لا تقبل الشهادة إلا بأشهد أو شهدت
فصل ولا تقبل الشهادة إلا بأشهد أو شهدت:"فلا يكفي: أنا شاهد" بكذا، لأنه إخبار عما اتصف به، كقوله: أنا متحمل شهادة على فلان بكذا،
"ولا أعلم، أو أتحقق، أو أعرف أو أتيقن" لأنه لم يأت بالفعل المشتق من لفظ الشهادة.
"أو: أشهد بما وضعت به خطي" لما فيه من الإجمال، والإبهام وفي النكت: القول بالصحة أولى.
"لكن لو قال من تقدمه غيره بالشهادة بذلك: أشهد، أو كذلك أشهد: صح" لاتضاح معناه. وعنه: تصح الشهادة، ويحكم بها بدون فعلها المشتق منها. اختاره الشيخ تقي الدين، وقال: لا يعرف عن صحابي، ولا تابعي اشتراط لفظ الشهادة، وفي الكتاب والسنة إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد. ذكره في الإنصاف.
"وإن رجع شهود المال أو العتق بعد حكم الحاكم: لم ينقض" الحكم، لتمامه ووجوب المشهود للمحكوم له، ورجوعهم لا ينقض الحكم، لأنهم إن قالوا عمدنا: فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق، فهما متهمان بإرادة نقض الحكم، وإن قالوا: أخطأنا: لم يلزم نقضه أيضا لجواز خطئهم في قولهم الثاني بأن اشتبه عليهم الحال.
"ويضمنون" بدل ما شهدوا به من المال، وقيمة ما شهدوا بعتقه،
لأنهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبينه، كما لو أتلفوه أو غصبوه، وشهادة الزور من أكبر الكبائر.
"وإذا علم الحاكم بشاهد زور بإقراره، أو تبين كذبه يقينا: عزره ولو تاب" كمن تاب من حد بعد رفعه لحاكم.
"بما يراه" من ضرب أو حبس ونحوهما،
"ما لم يخالف نصا" كحلق لحية، أو قطع طرف، أو أخذ مال،
"وطيف به في المواضع التي يشتهر فيها، فيقال: إنا وجدناه شاهد زور فاجتنبوه" ونحوه. ولا يعزر شاهد بتعارض البينة، ولا بغلطه في شهادته، لأن الغلط قد يعرض للصادق العدل.
باب اليمين في الدعاوى
باب اليمين في الدعاوى:
"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" هذه قطعة من حديث خرجه النووي عن ابن عباس. ويشهد له ما تقدم. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه.
"ولا يمين على من منكر ادعي عليه بحق لله تعالى: كالحد" بلا خلاف. قاله في الشرح، لأنه لو أقر به، ثم رجع: قبل منه، وخلي سبيله بلا يمين، ولأنه يستحب ستره، والتعريض للمقر به ليرجع.
"ولو قذفا. والتعزير، والعبادة، وإخراج الصدقة، والكفارة، والنذر" لأنه حق لله تعالى، أشبه الحد. وقال أحمد: لا يستحلف الناس على صدقاتهم. وقال أيضا: لم أسمع ممن مضى جواز الأيمان إلا في الأموال خاصة.
"ولا على شاهد أنكر شهادته، وحاكم أنكر حكمه" لأن ذلك لا يقضى فيه بالنكول، فلا فائدة بإيجاب اليمين، فيه.
"ويحلف المنكر في كل حق آدمي يقصد منه المال: كالديون، والجنايات، والإتلاف" لعموم الخبر، وهو ظاهر في القصاص، لقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" .
"فإن نكل عن اليمين قضى عليه بالحق" لما تقدم عن عثمان، رضي الله عنه.
"وإذا حلف على نفي فعل نفسه، أو نفي دين عليه: حلف على البت" أي: القطع، لحديث ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استحلف رجلا، فقال: "قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء " رواه أبو داود. ولأن له طريقا إلى العلم به، فلزمه القطع بنفيه.
"وإن حلف على نفي دعوى على غيره: كمورثه ورقيقه وموليه: حلف على نفي العلم" نص عليه أحمد، وذكر حديث النسائي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون" وفي حديث الحضرمي "ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه" رواه أبو داود. ولأنه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره، فلم يكلف ذلك، بخلاف فعل نفسه. وعنه: اليمين كلها على نفي العلم. وبه قال: الشعبي والنخعي. ذكره في الشرح.
"ومن أقام شاهدا بما عداه: حلف معه على البت" فيما يقبل فيه الشاهد واليمين.
"ومن توجه عليه حلف لجماعة: حلف لكل واحد يمينا" لأن حق كل منهم غير حق البقية، وهو منكر للجميع.
"ما لم يرضوا بواحدة" فيكتفى بها، لأن الحق لهم، وقد رضوا بإسقاطه فسقط.
فصل واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هي
:اليمين بالله تعالى لقوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} 1 وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} 2 وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} 3 قال بعض المفسرين: من أقسم بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف النبي، صلى الله عليه وسلم، ركانة بن عبد يزيد في الطلاق: "والله ما أردت إلا واحدة" ؟ فقال: والله ما أردت إلا واحدة وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه.
وسواء كان الحالف مسلما أو كافرا، عدلا أو فاسقا، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما قال للحضرمي: "فلك يمينه" فقال: إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، قال: "ليس لك إلا ذلك" وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/106.
2 المائدة: من الآية/107.
3 الأنعام: من الآية/109.
النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "هل لك بينة؟" فقال: لا، قال لليهودي "احلف ثلاثا" ، قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً...} 1 إلى آخر الآية رواه أبو داود. وأين حلف، ومتى حلف أجزأ وحلف عمر في حكومته لأبي في النخل في مجلس زيد، فلم ينكره أحد.
"وللحاكم تغليظ اليمين فيما له خطر، كجناية لا توجب قودا وعتق، ومال كثير قدر نصاب الزكاة" لا فيما دون ذلك، لأنه يسير.
"فتغليظ يمين المسلم أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغائب، الضار النافع، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" لحديث ابن عباس السابق. وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون اليمين بالمصحف، ورأيت ابن مارن قاضي صنعاء يغلظ اليمين به. قال ابن المنذر: لا نترك سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، لفعل ابن مارن ولا غيره.
"ويقول اليهودي: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وفلق له البحر، وأنجاه من فرعون وملئه، ويقول النصراني: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص" لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، - يعني: لليهود - "نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: ما تجدون في التوراة على من زنى؟" رواه أبو داود.
وتغليظها في الزمان: أن يحلف بعد العصر، لقوله تعالى:
ـــــــ
1 آل عمران: من الآية/77.
كتاب الاقرار
كتاب الإقرار:
وهو: الاعتراف بالحق. والحكم به واجب، لقوله، صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا: فإن اعترفت فارجمها" ورجم النبي، صلى الله عليه وسلم، ماعزا والغامدية والجهنية بإقرارهم"
فصل والإقرار لقن غيره إقرار لسيده
:لأنه الجهة التي يصح الإقرار لها، ولأن يد العبد كيد سيده.
"ولمسجد أو مقبرة أو طريق ونحوه" كثغر وقنطرة
"يصح، ولو أطلق" فلم يعين سببا، كغلة وقف ونحوه، لأنه إقرار ممن يصح إقراره، أشبه ما لو عين السبب، ويكون لمصالحها.
"ولدار أو بهيمة: لا" لأن الدار لا تجري عليها صدقة غالبا، بخلاف المسجد، ولأن البهيمة لا تملك، ولا لها أهليه الملك.
"إلا إن عين السبب" كغصب أو استئجار -زاد في المغني: لمالكها- وإلا لم يصح.
"ولحمل" آدمية بمال، وإن لم يعزه إلى سبب، لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق، كالطفل
"فإن ولد ميتا أو لم يكن حمل: بطل" لأنه إقرار لمن لا يصح أن يملك، وإن ولدت حيا وميتا: فالمقر به للحي بلا نزاع. قاله في الإنصاف، لفوات شرطه في الميت.
"و" إن ولدت
"حيا فأكثر: فله بالسوية" ولو كانا ذكرا وأنثى، كما لو أقر لرجل وامرأة بمال، لعدم المزية.
"وإن أقر رجل أو امرأة بزوجية الآخر فسكت" صح وورثه بالزوجية، لقيامها بينهما بالإقرار،
"أو جحده، ثم صدقه: صح" الإقرار،
"وورثه" لحصول الإقرار، والتصديق. ولا يضر جحده قبل إقراره، كالمدعى عليه يجحد، ثم يقر.
"لا إن بقي على تكذيبه حتى مات" المقر: فلا يرثه، لأنه متهم في تصديقه بعد موته.
باب ما يحصل به الإقرار وما يغيره
:"من ادعى عليه بألف، فقال: نعم، أو صدقت، أو: أنا مقر، أو: خذها، أو: اتزنها، أو اقبضها: فقد أقر" لأن هذه الألفاظ تدل على تصديق المدعي، وتنصرف إلى الدعوى، لوقوعها عقبها،
"لا إن قال: أنا أقر" فليس إقرارا بل وعد.
"أو: لا أنكر" لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار، لأن بينهما قسما آخر، وهو السكوت، ولأنه يحتمل: لا أنكر بطلان دعواك.
"أو: خذ" لاحتمال أن يكون مراده خذ الجواب مني
"أو: اتزن، أو: افتح كمك" لاحتمال أن يكون ل شيء غير المدعى به، أو: اتزن من غيري، أو: افتح كمك للطمع.
"و: بلى، في جواب: أليس لي عليك كذا؟ إقرار" بلا خلاف، لأن نفي النفي إثبات.
"لا: نعم، إلا من عامي" فيكون إقرارا، كقوله: عشرة غير درهم - بضم الراء -: يلزمه تسعة، لأن ذلك لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العربية. وفي حديث عمرو بن عبسة....فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله: أتعرفني؟ فقال: "نعم أنت الذي لقيتني بمكة" ، قال: فقلت: بلى قال في شرح مسلم: فيه صحة الجواب ببلى، وإن لم
يكن قبلها نفي، وصحة الإقرار بها، قال: وهو الصحيح من مذهبنا، أي: مذهب الشافعية.
"وإن قال: اقض دين عليك ألفا، أو: هل لي: أو لي عليك ألف؟ فقال: نعم" فقد أقر له، لأن نعم صريحة في تصديقه.
"أو قال: أمهلني يوما، أو حتى أفتح الصندوق" فقد أقر، لأن طلب المهلة يقتضي أن الحق عليه.
"أو قال: له علي ألف إن شاء الله" فقد أقر له به. نص عليه.
"أو: إلا أن يشاء الله" فقد أقر له به، لأنه علق رفع الإقرار على أمر لا يعلمه، فلا يرتفع.
"أو" قال: له علي ألف، لا تلزمني إلا أن يشاء
"زيد: فقد أقر" له بالألف، لما تقدم.
"وإن علق بشرط لم يصح، سواء قدم الشرط، كـ: إن شاء زيد فله علي دينار" أو: إن قدم زيد فلعمرو علي كذا، لأنه لم يثبت على نفسه شيئا في الحال، وإنما علق ثبوته على شرط، والإقرار إخبار سابق، فلا يتعلق بشرط مستقبل، بخلاف تعليقه على مشيئة الله عز وجل: فإنها تذكر في الكلام تبركا وتفويضا إلى الله تعالى، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ...} 1 وقد علم الله أنهم سيدخلونه بلا شك. وقال القاضي: يكون إقرارا صحيحا، لأن الحق الثابت في الحال. لا يقف على شرط مستقبل، فسقط الاستثناء. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 الفتح: من الآية/27.
"أو أخوه، كـ: له علي دينار إن شاء زيد أو: قدم الحاج" أو: جاء المطر: فلا يصح الإقرار، لما بين الإخبار والتعليق على شرط مستقبل من التنافي.
"إلا إذا قال: إذا جاء وقت كذا فله علي دينار: فيلزمه في الحال" لأنه بدأ بالإقرار فعمل به، وقوله: إذا جاء وقت كذا، يحتمل أنه أراد المحل: فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل.
"فإن فسره بأجل أو وصية: قبل بيمينه" لأن ذلك لا يعلم إلا منه، ويحتمله لفظه. وقال في الكافي: وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر: كان مقرا، لأنه بدأ بالإقرار، وبين بالثاني المحل. وإن قال: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف: فليس بإقرار، لأنه بدأ بالشرط، وأخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر، والإقرار لا يتعلق على شرط. انتهى.
"ومن ادعى عليه بدينار، فقال: إن شهد به زيد فهو صادق: لم يكن مقرا" لأن ذلك وعد بتصديقه له في شهادته لا تصديق.
باب فيما إذا وصل بالإقرار ما يغيره
باب فيما إذا وصل بالإقرار ما يغيره:
"إذا قال: له علي من ثمن خمر ألف: لم يلزمه شيء" لأنه أقر بثمن خمر، وقدره بالألف، وثمن الخمر لا يجب.
"وإن قال:" له علي
"ألف من ثمن خمر: لزمه" وكذا إن قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو ألف لا تلزمني، أو من مضاربة، أو وديعة تلفت، وشرط
علي ضمانها، ونحو ذلك، لأن ما ذكر بعد قوله: علي ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل، كاستثناء الكل.
"ويصح استثناء النصف فأقل" لأنه لغة العرب. قاله الله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} 1 قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، فلو قال: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية.
"فيلزمه عشرة في" قوله
"له علي عشرة إلا ستة" لبطلان الاستثناء.
"و" يلزمه
"خمسة في" قوله
"ليس لك علي عشرة إلا خمسة" لأنه استثناء النصف، والاستثناء من النفي إثبات
"بشرط أو لا يسكت ما يمكنه الكلام فيه" أو يأتي بكلام أجنبي بين المستثنى منه، والمستثنى، لأنه إذا سكت بينهما، أو فصل بكلام أجنبي: فقد استقر حكم ما أقر به، فلم يرفع، بخلاف ما إذا اتصل، فإنه كلام واحد.
"وأن يكون من الجنس والنوع" أي: جنس المستثنى منه ونوعه.
"فله علي هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدا" فاستثناؤه
"صحيح" لوجود شرائطه، لأنه إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ بموضوعه،
ـــــــ
1 العنكبوت: من الآية/14.
"ويلزمه تسعة" ويرجع إليه في تعيين المستثنى، لأنه أعلم بمراده، فلو ماتوا أو قتلوا أو غصبوا إلا واحدا، فقال: هو المستثنى قبل منه ذلك بيمينه.
"وله علي مائة درهم إلا دينارا: تلزمه المائة" ولم يصح الاستثناء في إحدى الروايتين. اختارها أبو بكر، لأنه استثناء من غير الجنس، وغير الجنس ليس بداخل في الكلام، وإنما سمي استثناء تجوزا، وإنما هو استدراك، ولا دخل له في الإقرار، لأنه إثبات للمقر به، فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلا. وعنه: يصبح. اختارها الخرقي، لأن النقدين كالجنس الواحد، لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويعبر بأحدهما عن الآخر، وتعلم قيمته منه، فأشبه النوع الواحد بخلاف غيرهما.
"وله هذه الدار إلا هذا البيت قبل ولو كان أكثرها" أي: الدار، لأن الإشارة جعلت الإقرار فيما عدا المستثنى فالمقر به معين، فوجب أن يصح.
"لا إن قال: إلا ثلثيها، ونحوه" كـ: إلا ثلاثة أرباعها، فلا يصح، لأن المستثنى شائع، وهو أكثر من النصف.
"وله الدار ثلثاها، أو عارية، أو هبة، عمل بالثاني" وهو قوله: ثلثاها، أو عارية، أو هبة، ولا يكون إقرارا، لأنه رفع بآخر كلامه ما دخل في أوله، وهو بدل بعض في الأول، واشتمال فيما بعده، لأن قوله: له الدار، يدل على الملك، والهبة بعض ما يشتمل عليه، كأنه قال: له ملك الدار هبة، كقوله سبحانه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 1 فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجا للبعض، ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف. قاله في الكافي.
ويصح الاستثناء من الاستثناء لقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا امْرَأَتَهُ} 2 فمن قال عن آخر: له علي سبعة إلا ثلاثة، إلا درهما: لزمه خمسة، لأن الاستثناء إبطال، والاستثناء منه رجوع إلى موجب الإقرار.
ـــــــ
1 البقرة: من الآية/217.
2 الحجر:58-60.
فصل ومن باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل
:إقراره: لأنه إقرار غيره. وكذا لو ادعى بعد البيع ونحوه أن المبيع رهن، أو أم ولد ونحوه مما يمنع صحة التصرف.
"ويغرمه للمقر به" لأنه فوته عليه بتصرفه فيه.
"وإن قال: غصبت هذا العبد من زيد لا بل من عمرو" فهو لزيد، لإقراره له به، ولا يقبل رجوعه عنه، لأنه حق آدمي، ويغرم قيمته لعمرو.
"أو: ملكه لعمرو، وغصبته من زيد: فهو لزيد" لإقراره باليد له،
"ويغرم قيمته لعمرو" لإقراره له بالملك، ولوجود الحيلولة بالإقرار باليد لزيد.
"وغصبته من زيد، وملكه لعمرو: فهو لزيد" لإقراره باليد له،
"ولا يغرم لعمرو شيئا" لأنه إنما شهد له به، أشبه ما لو شهد له بمال بيد غيره.
"ومن خلف ابنين ومائتين، فادعى شخص مائة دينار على الميت، فصدقه أحدهما، وأنكر الآخر: لزم المقر نصفها" أي: المائة لإقراره بها على أبيه، ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه، لأنه يرث نصف التركة، ولأنه يقر على نفسه وأخيه فقبل على نفسه دون أخيه،
"إلا أن يكون" المقر.
"عدلا، ويشهد، ويحلف معه المدعي. فيأخذها وتكون" المائة.
"الباقية بين الاثنين" كما لو شهد بها غير الابن، وحلف المدعي.
باب الإقرار بالمجمل
باب الإقرار بالمجمل:
وهو: ما احتمل أمرين فأكثر على السواء، وقيل: ما لا يفهم معناه عند إطلاقه ضد المفسر.
"إذا قال: له علي شيء و شيء أو كذا وكذا" صح إقراره،
"وقيل له: فسر" ويلزمه تفسيره. قال في الشرح: بغير خلاف.
"فإن أبى حبس حتى يفسر" لأنه امتنع من حق عليه فحبس به، كما لوعينه وامتنع من أداءه. وقال القاضي: إذا امتنع من البيان قيل للمقر له: فسره أنت، ثم يسأل المقر، فإن صدقه ثبت عليه، وإن أبى جعل ناكلا، وقضي عليه. قاله في الكافي.
"ويقبل تفسيره بأقل متمول" لأنه شيء وكذا تفسيره بحد قذف، وحق شفعة، لأنه حق عليه، ولا يقبل تفسيره بميتة نجسة، وخمر
وخنزير، لأنها ليست حقا عليه، ولا برد سلام، وتشميت عاطس، ونحوه، لأن ذلك لا يثبت في الذمة، ولا بغير متمول، كقشر جوزة، وحبة بر ونحوهما، لمخالفته لمقتضى الظاهر، ولأن إقراره اعتراف بحق عليه، وهذا لا يثبت في الذمة، لأنه مما لا يتمول عادة.
"فإن مات قبل التفسير: لم يؤاخذ وارثه بشيء" ولو خلف تركة، لاحتمال أن يكون حد قذف.
"و: له علي مال عظيم، أو خطير، أو كثير، أو جليل، أو نفيس: قبل تفسيره بأقل متمول" لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمه عنده، لقلة ماله، وفقر نفسه، ولأنه لا حد له شرعا ولا لغة ولا عرفا، ويختلف الناس فيه: فقد يكون عظيما عند بعض حقيرا عند غيره.
"وله دراهم كثيرة قبل" تفسيره
"بثلاثة" دراهم فأكثر، لأن الثلاثة أقل الجمع، وهي اليقين، فلا يجب ما زاد عليها بالاحتمال.
"و: له علي كذا وكذا درهم بالرفع أو النصب: لزمه درهم" أما في الرفع: فلأن تقديره: شيء هو درهم، فالدرهم: بدل من كذا، والتكرار للتأكيد لا يقتضي زيادة، كأنه قال: شيء شيء: هو درهم. والتكرار مع الواو بمنزلة قوله: شيئان، هما: درهم، لأنه ذكر شيئين، وأبدل منهما درهما. وأما في النصب: فالدرهم: مميز لما قبله، فهو مفسر، والدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيرا لشيئين: كل واحد بعفو درهم. اختاره ابن حامد، والقاضي. واختار التميمي: يلزمه
درهمان، لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم فيعود التفسير إلى كل واحد منهما. قاله في الكافي. وقال بعض النحاة: هو منصوب على القطع كأنه قطع ما أقر به، وأقر بدرهم.
"وإن قال: بالجر أو: وقف عليه: لزمه بعض درهم، ويفسره" لأنه في الجر مخفوض بالإضافة، فالمعنى: له بعض درهم. وإذا كرر يحتمل أن يكون إضافة جزء إلى جزء، ثم أضاف الجزء الأخير إلى الدرهم. وفي الوقف يحتمل أنه مجرور، وسقطت حركته للوقف.
"و: له علي ألف ودرهم، أو ألف ودينار، أو ألف وثوب، أو ألف إلا دينارا: كان المبهم" في هذه الأمثلة ونحوها
"من جنس المعين" لأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى، كقوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} 1 والمراد: تسع سنين فاكتفى بذكره في الأول ولأنه ذكر مبهما مع مفسر، ولم يقم الدليل على أنه ليس من جنسه فوجب حمله عليه. وأما الاستثناء فلأن العرب لا تستثني الإثبات إلا من الجنس، فمتى علم أحد الطرفين علم الآخر، كما لو علم المستثنى منه. ويقال: الاستثناء معيار العموم. وأما إن قال: مائة وخمسون درهما، واحد وعشرون درهما فالكل دراهم. قال في الشرح: بغير خلاف نعلمه. انتهى، لقوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2 و {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} 3
ـــــــ
1 الكهف الآية: 25.
2 صّ: من الآية/23.
3 يوسف: من الآية/4.
فصل إذا قال له علي ما بين درهم وعشرة
:"لزمه ثمانية" لأنها ما بينهما، وذلك هو مقتضى لفظه.
"ومن درهم إلى عشرة" لزمه تسعة.
"أو: بين درهم إلى عشرة: لزمه تسعة" لأنه جعل العشرة غاية، وهي غير داخلة. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1 بخلاف ابتداء الغاية: فإنه داخل في معناه.
"و: له" علي
"درهم، قبله درهم، وبعده درهم، أو: درهم ودرهم ودرهم: لزمه ثلاثة" دراهم، لأن قوله قبله، وبعده ألفاظ تجري مجرى العطف، لأن معناها الضم فكأنه أقر بدرهم، وضم إليه الآخرين، ولأن قبل وبعد يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب، فيحمل عليه.
"وكذا: درهم درهم درهم" يلزمه ثلاثة دراهم،
"فإن أراد التأكيد: فعلى ما أراد" أي: قبل منه ذلك، لأنه قابلة للتأكيد، لعدم العاطف.
"و: له درهم بل دينار: لزماه" لأن الإضراب رجوع عما أقر به لآدمي، ولا يصح فيلزمه كل منهما.
ـــــــ
1 البقرة: من الآية/187.
"و: له درهم في دينار: لزمه درهم" لأنه المقر به فقط، وقوله: في دينار لا يحتمل الحساب، ويجوز أن يريد: في دينار لي.
"فإن قال: أردت العطف" أي: درهم ودينار ونحوه،
"أو معنى: مع" كـ: درهم مع دينار
"لزماه" أي: الدرهم والدينار، كما لو صرح بحرف العطف أو بمع.
"و: له درهم في عشرة: لزمه درهم" لإقراره به، وجعله العشرة محلا له، ولأنه يحتمل: في عشرة لي.
"ما لم يخالفه عرف" بلد المقر، واستعمالهم
"فيلزمه مقتضاه" أي: عرفهم واستعمالهم
"أو يريد الحساب، ولو جاهلا: فيلزمه عشرة" دراهم، لأنها حاصل الضرب عندهم.
"أو يريد الجمع: فيلزمه أحد عشر" لأنه أقر على نفسه بالأغلظ، وكثير من العوام يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى، أي: درهم مع عشرة.
"و: له تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو ثوب في منديل: ليس بإقرار الثاني" لأن إقراره لم يتناول الظرف، فيحتمل أنه أراد: في ظرف لي، ولأنهما شيئان متغايران لا يتناول الأول منهما الثاني، ولا يلزم أن يكون الظرف والمظروف لواحد، والإقرار إنما يكون مع التحقيق لا مع الاحتمال.
"و: له خاتم فيه فص، أو سيف بقراب: إقرار بهما" لأن الفص جزء من الخاتم، أشبه ما لو قال: ثوب فيه علم. والباء في قوله: بقراب:
باء المصاحبة، فكأنه قال: سيف مع قراب، بخلاف: تمر في جراب، فإن الظرف غير المظروف.
"وإقراره بشجرة ليس إقرارا بأرضها" لأن الأصل لا يتبع الفرع، بخلاف الإقرار بالأرض، فإنه يشمل غرسها وبناءها،
"فلا يملك غرس مكانها لو ذهبت" لأنه غير مالك للأرض. قال في الفروع: ورواية مهنا: هي له بأصلها، فإن ماتت، أو سقطت لم يكن له مرضها،
"ولا أجرة" على ربها
"ما بقيت" وليس لرب الأرض قلعها، وثمرتها للمقر له، والبيع مثله.
"وله علي درهم، أو دينار: يلزمه أحدهما، ويعينه" ويرجع إليه في تعيينه، كسائر المجملات.
خاتمة
:"إذا اتفقا على عقد" من بيع أو إجارة أو غيرهما، وادعى أحدهما فساده نحو: إنه كان حين العقد صبيا، أو غير ذلك،
"والآخر صحته" أي: العقد، ولا بينة
"فقول مدعي الصحة بيمينه" على المذهب. نص عليه في رواية ابن منصور، لأن الظاهر وقوع العقود على وجه الصحة دون الفساد. قاله في القواعد. وقال الشيخ تقي الدين: وهكذا يجيء في الإقرار، وسائر التصرفات إذا اختلفا: هل وقعت بعد البلوغ، أو قبله؟ لأن
الأصل في العقود الصحة، مثل دعوى البلوغ بعد تصرف الولي، أو تزويج ولي أبع منه لموليته. انتهى.
"وإن ادعيا شيئا بيد غيرهما شركة بينهما بالسوية، فأقر لأحدهما بنصفه: فالمقر به بينهما" بالسوية، لاعترافهما أنه لهما على الشيوع فيكون الذاهب منهما، والباقي بينهما.
"ومن قال بمرض موته: هذا الألف لقطة فتصدقوا به، ولا مال له غيره: لزم الورثة الصدقة بجميعه، ولو كذبوه" في أنه لقطة. قاله القاضي، لأن أمره بالصدقة به يدل على تعديه فيه على وجه يلزمه الصدقة بجميعه ويقتضي زنه لم يملكه، فيكون إقرارا لغير وارث فيجب امتثاله، كإقراره في الصحة. وقال أبو الخطاب: يلزمهم الصدقة بثلثها، لأنها جميع ماله، فالأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال: فلا يلزم منها إلا الثلث. قدمه في الكافي.
"ويحكم بإسلام من أقر" بالشهادتين،
"ولو مميزا" لأن عليا، رضي الله عنه، أسلم وهو ابن ثمان سنين وتقدم. وقال البخاري: وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه وقد صح عنه، صلى الله عليه وسلم أنه عرض الإسلام على ابن صياد صغيرا متفق عليه.
"أو قبيل موته بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" لما في الصحيح أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عرض الإسلام على أبي طالب، وهو في النزع وعن ابن مسعود أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا يهودي يقرأ عليهم
التوراة، فلما أتوا على صفة النبي، صلى الله عليه وسلم، أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "ما لكم أمسكتم؟" فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاءه المريض يحبو، حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: "لوا أخاكم" رواه أحمد.
"اللهم اجعلني من أقر بها مخلصا في حياته، وعند مماته، وبعد وفاته، واجعل اللهم هذا خالصا لوجهك الكريم، وسببا للفوز لديك بجنات النعيم، وصلى الله وسلم على أشرف العالم، وسيد بن آدم، وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آل كل وصحبه أجمعين، وعلى أهل طاعتك من أهل السموات وأهل الأرضين، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله" .
وهذا آخر ما تيسر من شرح هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وأسأله حسن الخاتمة والمتاب، وأن يتقبل ذلك بمنه وكرمه، وهذا ما قدر العبد عليه، ومن أتى بخير منه فليرجع إليه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان لنفسه، ولمن شاء الله من بعده.
11 صفر سنة 1322 غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين، آمين.