كتاب : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
المؤلف : عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد
باب العبد المأذون
لا يجوز للعبد التجارة بغير إذن مولاه لأن منافعه مملوكة له فلا يملك التصرف فيما بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذونا له لأنه بيع يفتقر إلى الإذن فلم يكن السكوت إذنا فيه كبيع مال الأجنبي وإن اشترى في ذمته لم يصح لأنه عقد معاوضة فأشبه النكاح فإن قبض المبيع فتلف في يده تعلقت برقبته كجنايته لأنه تلف في يده على وجه يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفهفصل :
وإذا أذن له المولى جاز لأن الحجر لحقه فملك إزالته ولا يملك التجارة إلا فيما أذن فيه لأن تصرفه بالإذن فلم يملك إلا ما دخل فيه كالوكيل فإن عين له نوعا أو قدرا لم يملك التجارة في غيره وإن أذن له في التجارة مطلقا جاز ولم يكن له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لأنه عقد على نفسه فلم يملكه كبيع نفسه وتزوجه ولا ينصرف إلا على النظر والاحتياط كالمضارب لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف وهو ما قلناه ولا يبطل الإذن الإباق لأنه لا يمنع ابتداء الإذن فلا يقطع استدامته كما لو غصبه غاصب
فصل :
ولا يجوز تبرع المأذون له بالدراهم والكسوة لأنه ليس بتجارة ولا من توابعها فلم يدخل في الإذن فيها وتجوز هديته المأكول واتخاذ الدعوة وإعارة دابته ما لم يسرف لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يجيب دعوة المملوك ولأن العادة جارية به بين التجارة فجاز كصدقة المرأة بالكسرة من بيت زوجها
فصل :
وما كسب العبد من المباح أو وهب له فقبله ملكه مولاه لأنه كسب ماله فملكه كصيد فهده وإن ملكه سيده مالا ملكه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من باع وله مال فماله للبائع ] ولأنه يملك البضع فملك المال كالحر وعنه : لا يملك لأنه مال فلم يملك المال كالبهيمة فإن ملكه سيده جارية لم يملك وطأها قبل الإذن فيه لأن ملكه غير تام فإن أذن له فيه ملكه قال أبو بكر : على كلتا الروايتين لأنه يملك الاستمتاع بالنكاح فملكه بالشراء كالحر وقال القاضي : بل هذا بناء على الرواية التي يملك المال ولا يملك ذلك على الأخرى لقول الله تعالى { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وإن لزمته كفارة فكفارته الصيام لا غير إن لم يأذن له سيده في التكفير بالمال وإن أذن له فيه انبنى على الروايتين في ملكه فإن قلنا : لا يملك لم يكفر بغير الصيام وإن قلنا : يملك فله التفكير بالإطعام والكسوة وفي العتق وجهان :
أحدهما : يملكه قياسا على الإطعام والكسوة
والثاني لا يملكه لأنه يتضمن الولاء والعبد ليس من أهله فعلى الأول إن أذن له في التفكير بإعتاق نفسه فهل يجزئه ؟ على وجهين والله تعالى أعلم
باب المساقاة
تجوز المساقاة على النخل وسائر الشجر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر لما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر على شرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع ] متفق عليه ولأنه مال ينمى بالعمل عليه فجازت المعاملة عليه ببعض نمائه كالأثمان ولا تجوز على ما لا يثمر كالصفصاف لأن موضوعها على أن العامل جزءا من الثمرة وفي المساقاة بعد ظهور الثمرة روايتان حكاهما أبو الخطابإحداهما : الجواز إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة لأنها جازت في المعدومة معه كثرة الغرر فمنع قتله أولى
والثانية : المنع لإفضائها إلى أن يستحق جزءا من النماء الموجود قبل العمل فلم يصح كمضاربة بعد الربح وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يحمل فيكون له جزء من الثمرة جاز نص عليه لأن الثمرة تحصل بالعمل عليها كما تحصل على النخل المغروس ولا تصح إلا على شجر معين معلوم برؤية أو صفة لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فأشبهت المضاربة ولو قال : ساقيتك على أحد هذين الحائطين لم يصح
فصل :
وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه : أنها عقد جائز لما روي عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه و سلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نقركم على ذلك ما شئنا ] رواه مسلم فلو كانت لازمة لقدر مدتها ولم يجعل إخراجهم إليه إذا شاء ولأنه عقد على مال بجزء من نمائه فكان جائزا كالمضاربة فلذلك لا يفتقر إلى ضرب مدة وإن وقتاها جاز كالمضاربة وتنفسخ بموت كل واحد منها وجنونه وفسخه لها فإن انفسخت بعد ظهور الثمرة فهي بينهما لأنها حدثت على ملكهما وعلى العامل تمام العمل كعامل المضاربة إذا انفسخت قبل أن ينض المال وإن انفسخت قبل ظهورها بفسخ العامل فلا شيء له لأنه رضي بإسقاط حقه وإن انفسخت بغير ذلك فللعامل أجرة مثله لأنه منع إتمام عمله الذي يستحق به العوض فصار كعامل الجعالة
وقال بعض أصحابنا : هو لازم لأنه عقد معاوضة فكان لازما كالإجارة فعلى هذا يفتقر إلى تقدير مدتها كالإجارة ويجب أن تكون المدة تكمل الثمرة في مثلها لأن المقصود اشتراكهما بالثمرة فلا يحصل بدون ذلك فإن شرطا مدة لا تكمل الثمرة فيها فعمل العامل ففيه وجهان :
أحدهما : لا شيء له لأنه رضي بالعمل بغير عوض فأشبه المتطوع
والثاني : له أجرة مثله لأنه يقتضي العوض فلم يسقط بالرضى بتركه كالوطء في النكاح وإن جعلا في مدة تحمل في مثلها فلا شيء له لأنه عقد صحيح فيه مسمى صحيح فلم يستحق غيره كعامل المضاربة إذا لم يربح وإن جعلا مدة قد تكمل فيها وقد لا تكمل ففيه وجهان :
أحدهما : يصح لأنها مدة يرجى وجود الثمرة فيها فصح العقد عليها كالتي قبلها
والثاني : لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم يصح كالسلم في مثله فعلى هذا إن عمل استحق الأجر لأنه لم يرض بالعمل بغير عوض ولم يسلم له فرجع إلى بدله كالإجارة الفاسدة
فصل :
ويجوز عقد المساقاة والإجارة على مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت لأنه عقد يجوز عاما فجاز أكثر منه كالكتابة فإن عقدها على أكثر من عام لم يجب ذكر قسط كل سنة كما لو اشترى أعيانا بثمن واحد وإن قدر قسط كل سنة جاز وإن اختلفت نحو أن يقول : ساقيتك ثلاثة أعوام على أن لك نصف ثمرة العام الأول وثلث الثانية وربع الثالثة فإن انقضت المدة قبل طلوع ثمرة العام الآخر فلا شيء للعامل منها لأنها حدثت بعد موته وإن ظهرت في مدته تعلق حقه بها لحدوثها في مدته
فصل :
وحكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة في الجزء المشروط للعامل في كونه معلوما مشاعا من جميع الثمرة وفي الاختلاف في قدره وفساد العقد بجهله وشرط دراهم لأحدهما أو ثمرة شجر معين أو عمل رب المال أو غلمانه في ملكه للنماء بالظهور لأنه عقد على العمل في مال ببعض نمائه فأشبه المضاربة ولو شرط له ثمرة عام غير الذي عامله فيه لم يصح كما لو شرط للمضارب ربح غير مال المضاربة وإن قال : إن سقيته سيحا فلك الثلث وإن سقيته بنضح فلك النصف وإن وزرعت في الأرض حنطة فلك النصف وإن زرعت شعيرا فلك الثلث لم يصح لأنه عقد على مجهول فلم يصح كبيعتين في بيعة ويتخرج أن يصح بناء على قوله في الإجارة : إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم
فصل :
وإن ساقاه على بستانين بالنصف من هذا والثلث من الآخر صح أو على أنواع جعله له من كل نوع قدرا أو جعل له في المزارعة نصف الحنطة وثلث الشعير وهما يعلمان قدر كل نوع أو كان البستان لاثنين فساقياه على نصف ثمرة نصيب أحدهما وثلث ثمرة الآخر وهم يعلمونه صح لأنه معلوم فصح كما لو كانا في عقدين وإن لم يعلموا لم يصح لأنه مجهول ولو قال : ما زرعت فيها من حنطة فلك نصفه وما زرعت من شعير فلك ثلثه لم يصح لأنه مجهول
فصل :
وينعقد بلفظ المساقاة لأنه موضوعها وبما يؤدي معناه لأنه المقصود المعنى ولا يثبت فيها خيار الشرط وإن قلنا بلزومها لأنه لا يمكن رد المعقود عليه إذا فسخ وفي خيار المجلس وجهان :
أحدهما : لا يثبت لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط فأشبه النكاح
والثاني : يثبت لأنه عقد لازم يقصد به المال فأشبه البيع
فصل :
ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها كالحرث وآلته وبقره واستقاء الماء وإصلاح طرقه وقطع الشوك والحشيش المضر واليابس من الشجرة وزبار الكرم وتسوية الثمرة والحفظ والتشميس وإصلاح موضعه ونحو ذلك وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل كسد الحيطان وإنشاء الأنهار وحفر بئر الماء وعمل الدولاب ونصبه قال أصحابنا : والثور الذي يديره لأن هذا يراد لحفظ الأصل ولهذا من أراد إنشاء بستان عمل هذا كله وقيل : ما يتكرر من كل عام فعلى العامل وما لا يتكرر فعلى رب المال والجذاذ والحصاد واللقاط على العامل نص عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة أشبه التشميس وعنه : إن الجذاذ عليهما لأنه يوجد لعد تكامل الثمر وهذا ينتقض بالتشميس فإن شرط على أحدهما ما يلزم الآخر فقد نص أحمد رضي الله عنه : على الجذاذ عليهما ويصح شرطه على العامل فيخرج في سائر العمل مثل ذلك قياسا عليه وقال القاضي : تفسد المساقاة لأنه ينافي مقتضاها أشبه ما لو شرط عمل المضاربة على رب المال
فصل :
والعامل أمين والقول قول فيما يدعيه من تلف أو يدعى عليه من خيانة أو تفريط وإن ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف عليه ولا تزال يده عن العمل لأنه يمكن استيفاؤه منه فإن لم ينحفظ استؤجر من ماله من يعمل عنه لأنه تعذر استيفاؤه منه فاستوفي بغيره وإن هرب فهو كفسخه إن قلنا بجواز العقد وإن قلنا بلزومه رفع الأمر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه فإن لم يكن له مال اقترض عليه فإن لم يجد فللمالك الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فأشبه ما لو استأجر دارا فتعذر تسليمها ثم إن فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء للعامل لأن الفسخ لأمر من جهته وإن كانت ظاهرة فهي بينهما وإن لم يفسخ رب المال استأذن الحاكم في الإنفاق ثم رجع بما أنفق فإن لم يجد حاكما أشهد على الإنفاق بشرط الرجوع ورجع به لأنه حال ضرورة وإن أنفق من غير استئذان الحاكم مع إمكانه ففي الرجوع وجهان بناء على قضاء دينه بغير إذنه وإن عجز العامل عن العمل لضعفه أو عن بعضه أقام مقامه من يعمله فإن لم يفعل فهو كهر به وإن استأذن رب المال فأنفق بإذنه رجع عليه
فصل :
فإن مات العامل أو رب المال وقلنا : يلزم العقد قام الوارث مقامه لأنه عقد لازم أشبه الإجارة فإن كان الميت العامل فأبى الوارث الإتمام أو لم يكن وارث استؤجر من التركة من يعمل فإن لم يجد تركة فلرب المال الفسخ ولا يقترض عليه لأنه لا ذمة له وإذا فسخ فالحكم على ما ذكرنا
فصل :
فإن بان الشجر مستحقا رجع العامل على من ساقاه بالأجرة لأنه لم يكن له العوض فرجع على من استعمله فإن كانت الثمرة باقية أخذها ربها وإن كانت تالفة ضمنها لمن شاء منهما فإن ضمنها للغاصب ضمنه جميعها لأنه حال بينه وبينه وإن ضمنها العامل ضمنه النصف لأنه لم يحصل في يده غيره ويحتمل أن يضمنه الجميع لأن يده تثبت عليه وعمل فيه فضمنه كالعامل في القراض
باب المزارعة
وهي : دفع الأرض إلى من يزرعها بجزء من الزرع وتجوز في الأرض البيضاء والتي بين الشجر لخبر ابن عمر رضي الله عنه وما ذكرنا في المساقاة وأيهما أخرج البذر جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم دفع خيبر معاملة ولم يذكر البذر وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم لقول ابن عمر : [ دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم ] رواه مسلم وفي لفظ : على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يدفع الأرض على أن من أخرج البذر فله كذا ومن لم يخرجه فله كذا وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه : انه يشترط كون البذر من رب الأرض لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه فوجب أن يكون رأس المال من رب المال كالمساقاة والمضاربة فإن شرطه على العامل أو شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي فسدت المزارعة ومتى فسدت فالزرع لصاحب البذر لأنه من عين ماله ولصاحبه عليه أجرة مثلهفصل :
فإن دفع بذرا إلى ذي أرض ليزرعه فيها بجزء لم يصح لأن البذر لا من العامل ولا من رب الأرض فإن قال : أنا أزرع أرضي ببذري وعواملي على أن سقيها من مائك بجزء لم يصح لأن المزارعة معاملة على الأرض فيجب أن يكون العمل فيها من غير صاحبها وعنه : أنه يصح اختارها أبو بكر لأنه لما جاز أن يكون عوض العمل جزءا مشاعا جاز أن يكون عوض المال كذلك وإن كانوا ثلاثة من أحدهم الأرض ومن آخر العمل ومن آخر البذر والزرع بينهم فهي فاسدة لما ذكرنا في أول الفصل
فصل :
فإن قال : أجرتك هذه الأرض بثلث الخارج منها فقال أحمد رضي الله عنه : يصح واختلف أصحابه فقال أكثرهم : هي إجارة صحيحة يشترط فيها شروط الإجارة وقال أبو الخطاب : هذه مزارعة بلفظ الإجارة فيشترط فيها شروط المزارعة وحكمها حكمها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى ] رواه أبو داود ولأن هذا مجهول فلم يجز أن يكون عوضا في الإجارة كثلث نماء أرض أخرى
فصل :
وحكم المزارعة حكم المساقاة فيما ذكرناه ومن الجواز واللزوم وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها وإن كانت الأرض شجر فقال : ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف أو قال : ساقيتك على الشجر بالنصف وزارعتك الأرض بالثلث جاز لأنهما عقدان يجوز إفرادهما فجاز جمعهما كعينين
فصل :
ومتى سقط من الحب شيء ثم نبت في عالم آخر أو سقط من حب المستأجر ثم نبت في عام آخر فهو لصاحب الأرض لأن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف بدليل أن لكل أحد التقاطه فسقط كما لو سقط النوى فنبت شجرا
كتاب الإجارة
وهي بيع المنافع وهي جائزة في الجملة لقول الله تعالى : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } الآيتين وقول الله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع وينعقد بلفظ الإجارة والكري لأنه لفظ موضوع لها وفي لفظ البيع وجهان :أحدهما : ينعقد به لأنها صنف منه
والثاني : لا تنعقد به لأنها تخالفه في الاسم والحكم فلم تنعقد بلفظه كالنكاح
فصل :
وتجوز إجارة الظئر للرضاع والراعي لرعاية الغنم للآيتين واستئجار الدليل ليدل على الطريق لأنه ثبت ( أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا ) رواه أحمد و البخاري وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائما قياسا على المنصوص عليه وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب والغنم لتدوس الزرع والطين لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ العوض عنها في غير هذه الأعيان فجاز فيها كالبيع ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت أو لا ماء لها يكفي فإن كان لها ماء معتاد كماء العيون والأنهار والمد بالبصرة والمطر في موضع يكتفى به جاز وإن كانت الأرض على نهر يستقى بزيادته كالنيل والفرات وتسقيها الزيادة المعتادة جازت إجارتها لأن الغالب وجودها فهي كالمطر لغيرها وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة فاستأجرها بعد الزيادة صح لأنها معلومة وإن استأجرها قبلها لم يصح لأنه لا يعلم وجودها فهي كبيع الطير في الهواء وإن استأجرها ولم يذكرها للزراعة وكانت تصلح لغيرها صح وإن لم تصلح لغيرها لم يصح لأن نفعها معدوم وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع ما لا ينبت في الماء كالحنطة وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر الماء ويمكن زرعها صح لأنه يمكن زرعها بفتحه كما يمكن سكنى الدار بفتحها وإن علم أنه ينحسر عادة صح لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع فإن لم يعلم هل ينحسر أو لا ؟ لم يصح لما ذكرنا وإن اكترى أرضا على نهر تغرق بزيادته المعتادة لم يصح لأنه غير منتفع بها عادة فإن كانت بخلاف ذلك صح
فصل :
ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة كالغناء والنياحة والزمر ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيت نار أو يبيع فيها الخمر ونحوه لأنه محرم فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة الأمة للزنا ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحا أو شيئا محرما لذلك ولا يجوز استئجاره ليحمل خمرا ليشربها لذلك وعنه : فيمن حمل خنزيرا أو ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى له بالكراء وإذا كان لمسلم فهو أشد قال القاضي : هذا محمول على أنه استأجره ليرقيها أما للشرب فمحظور لا يحل أخذ الأجرة عليه وإن استأجر حجاما ليحجمه جاز ( لأن النبي صلى الله عليه و سلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه ) متفق عليه قال ابن عباس : ولو كان حراما ما أعطاه أجره ويكره للحر أكل أجره لقول النبي صلى الله عليه و سلم ( كسب الحجام خبيث : وقال : أطعمه عبدك أو خادمك )
وقال القاضي : لا تصح إجارته لهذا الحديث
فصل :
ولا تجوز إجارة الفحل للضراب لما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن عسب الفحل ] أخرجه البخاري ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ عوضه كالدم ولا يجوز إجارة النقود ليجمل بها الدكان لأنها لم تخلق لذلك ولا تراد له فبذل العوض فيه من السفه وأخذه من أكل المال بالباطل وكذلك استئجار الشمع للتجميل به أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك
فصل :
ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به كالمطعوم والمشروب والشمع ليسرجه والشجر يأخذ ثمرته والبهيمة يحلبها لأن الإجارة عقد على المنافع فلا تجوز لاستيفاء عين كما لو استأجر دينارا لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع لأن الضرورة تدعو إليه لبقاء الآدمي ولا يقوم غيرها مقامها
فصل :
ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده كالرياحين لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها دائما فجرت مجرى المطعوم فإن كانت مما تبقى عينه دائما كالعنبر جازت إجارته للشم لما تقدم
فصل :
وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة وهم المسلمون كالحج وتعليم القرآن ففيه روايتان :
إحداهما : يجوز الاستئجار عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ] رواه البخاري وأباح أخذ الجعل عليه ولأنه فعل مباح فجاز أخذ الأجرة عليه كتعليم الفقه
والثانية : لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه و سلم لعثمان بن أبي العاص [ واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ] رواه أبو داود ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز لأن فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة فجاز كبناء المساجد وفي إجازة المصحف وجهان بناء على بيعه
فصل :
قال بعض أصحابنا : لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجراه معا لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر إلا بموافقة الشريك وقال أبو حفص : يجوز لأنه يصح بيعه ورهنه فصحت إجارته كالمفرد
فصل :
ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي نص عليه لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه يهوديا يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر به النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينكره وأكل أجرته ولا يؤجر نفسه لخدمته لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز كبيعه إياه ويتخرج الجواز لأنه عاوضه عن منفعة فجاز كإجارته لعمل شيء
فصل :
و الإجارة على ثلاثة أضرب إجارة عين معينة كالدور وموصوفة في الذمة كبعير للركوب وعقد على عمل في الذمة كخياطة ثوب وحمل متاع لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة ومقدر معلوم كقفيز من صبرة فكذلك الإجارة فإن كانت الإجارة لعين معينة اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط بالصفات كالحيوان فإن لم تنضبط كالدار والأرض فلا بد من رؤيتها كما يشترط ذلك في البيع وفي استئجار عين لم يرها ولم توصف له وجهان بناء على بيعها ويشترط معرفة المنفعة فإن كان لها عرف كسكنى الدار لم يحتج إلى ذكرها لأنها لا تكترى إلا لذلك فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف وإن اكترى أرضا احتاج إلى ذكر ما يكتري له من غراس أو بناء أو زرع لأنها تكترى لذلك كله وضرره يختلف فوجب بيانه وإن أجرها للزرع مطاقا صح وله زرع ما شاء لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع ضررا فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه ودخل فيه ما دونه وإن قال : لتزرعنها ما شئت فهو أولى بالصحة لتصريحه بذلك وإن اكتراها لزرع معين فله زرعه ومثله في الضرر ودونه لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض فلم يتعين كما لو اكترى للسكنى كان له أن يسكن غيره وإن قال : لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين وإن قال : لتزرعها وتغرسها ما شئت صح وله ما شاء منهما لأنه جعلهما له فملكهما كالنوع الواحد
فصل :
وإن اكترى ظهرا للركوب اشترط معرفته برؤية أو يصح بيعه بهما وذكر المهملج والقطوف من الخيل لأن سيرهما يختلف ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره لأنه يختلف بالمركوب والراكب ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية والأنوثية لأن التفاوت بينهما يسير وقال القاضي : يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة ذكره الخرقي لأن الصفة تكفي في بيع مثله وقال الشريف : لا يجزئ فيه إلا الرؤية لأن الصفة لا تأتي عليه ولا بد من معرفة المحامل والأغطية والأوطئة والمعاليق كالقدر والسطيحة ونحوهما إما برؤية أو صفة أو وزن وإن اكترى ظهرا لعمل في مدة كالحراثة والدياس والسقي والطحن اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو الصفة لأن العمل يختلف باختلافه وإن استأجره على عمل معين كحراثة قدر من الأرض ودياس زرع معين وطحن قفزان معلومة لم يحتج إلى معرفة الظهر لأنه لا يختلف ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر وفي السقي إلى معرفة البئر والدولاب لأنه يختلف وإن اكترى لحمل متاع لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه لأن ضرره يختلف وقدره بالوزن إن كان موزونا أو بالكيل إن كان مكيلا لأن البيع يصح بكلا الطريقين وإن ذكر وزن المكيل فهو أحصر وإن دخلت الظروف في وزن المتاع استغني عن ذكرها وإن لم تدخل وكانت معروفة لا تختلف كثيرا صح من غير تعيينها لأن تفاوتها يسير وإن اختلفت كثيرا اشترط معرفتها بالرؤية أو الصفة لذلك ولو اكترى ظهرا ليحمل عليه ما شاء لم يصح لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها لم يصح لأنه لا ضابط له
فصل :
وإن استأجر راعيا مدة صح لأن موسى عليه السلام أجر نفسه لرعاية الغنم ثماني سنين ويشترط معرفة الحيوان لأن لكل جنس تأثيرا في إتعاب الراعي ويجوز أن يكون على معين وعلى موصوف في الذمة فإن كان على موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد لأن العمل يختلف به وإن استأجر ظئرا اشترط معرفة الصبي بالتعيين لأن الرضاع يختلف به ولا تأتي عليه الصفة وإن استأجر رجلا ليحفر له بئرا أو نهرا اشترط معرفة الأرض لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض والعمق لأن الغرض يختلف بذلك كله وإن استأجره لبناء حائط اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه وآلته من لبن أو طين أو غيره لأن الغرض يختلف بذلك كله وإن استأجره لضرب لبن اشترط معرفته الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه رجع فيه إلى أهل الخبرة به ليعقد على شرطه كما لو أراد النكاح من لا يعرف شروطه رجع إلى من يعرفه ليعرفه شروطه وإن عجز عن معرفته وكل فيه من يعرفه ليعقده
فصل :
ويشترط معرفة قدر المنفعة لأن الإجارة بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر ولمعرفتها طريقان :
أحدهما : تقدير العمل كخياطة ثوب معين والركوب أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين
والثاني : تقدير المدة كسكنى شهر فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل كالتطيين والتجصيص فإن مقداره يختلف في الغلظ والرقة وما يروي الأرض من الماء يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء وما يشبع الصبي في الرضاع يختلف باختلاف الصبيان والأحوال والسكنى ونحوها فلا يجوز تقديره إلا بالمدة لتعذر تقديره بالعمل وما يتقدر بالعمل كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس والعبد للخدمة جاز تقديره بالعمل فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال : استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر لم يصح لأنه إن حرثها في أقل من شهر أو فرغ الشهر قبل حرثها فطولب بتمام ما بقي كان زيادة على المشروط وإن لم يتمم كان نقصا وعن أحمد ما يدل على الصحة لأن الإجارة معقودة للعمل والمدة مذكورة للتعجيل فجاز كالجعالة ويشترط فيما قدر بمدة معرفة المدة لأنها الضابطة للمعقود عليه فإن قدرها بسنة أو شهر كان ذلك بالأهلة لأنها المعهودة بالشرع فوجب حمل المطلق عليها فإن كان ذلك في أثناء شهر عد باقيه ثم عد أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد وحكي فيه رواية أخرى : أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه فيصير ابتداء الثاني في أثنائه وكذلك ما بعده وإن عقد على سنة رومية وهي : ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع وهما يعلمان ذلك جاز وإن جهلاها أو أحدهما لم يصح لأن المدة مجهولة عنده والحكم في مدة الإجارة كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه
فصل :
وتجوز الإجازة مدة لا تلي العقد مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر أو غيره لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز عليها مفردة كالتي تلي العقد ويحتاج إلى ذكر ابتدائها لأنها أحد طرفي المدة فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه ولا يحتاج إلى ذكرها لأنها معلومة
فصل :
فإن قال : أجرتكما كل شهر بدرهم فالمنصوص أنه صحيح وذهب إليه الخرقي و القاضي لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وأجرته معلومة وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأكل منه وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى بطلانه لأن العقد على كل الشهور وهي مبهمة مجهولة فلم يصح كما لو جعل أجرتها في الجميع شيئا واحدا
فصل :
ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجر لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع ويشترط أن تكون معلومة لذلك ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع ويشترط أن تكون معلومة لذلك ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع وفي وجه آخر لا بد من ذكر قدره وصفته لأنه ربما انفسخ العقد ووجب رد عوضه بعد تلفه فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع كرأس مال السلم وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة لأن الإجارة كالبيع وذلك جائز فيه فإن أطلق العقد وجبت به حالة ويجب تسليمها بتسليم العين لأنها عوض في معاوضة فتستحق بمطلق العقد كالثمن وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ] ولأنه أحد العوضين فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع وإن شرطا تأجيلها جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز لأنه عوض في الإجازة فجاز تأجيله كما لو كان على عين
والثاني : لا يجوز لأنه عقد على ما في الذمة فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم
فصل :
ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ رحم الله أخي موسى أجر نفسه ثماني سنين على طعام بطنه وعفة فرجه ] رواه ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير فأشبه الإجماع فإن قدر الطعام والكسوة فحسن وإن أطلق جاز ويرجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ولأن لذلك عرفا في الشرع فحمل الإطلاق عليه
فصل :
وإذا استوفى المنفعة استقرت الأجرة لأنه قبض المعقود عليه فاستقر بدله كما لو قبض المبيع وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت الأجرة عليه لأن المعقود عليه تلف تحت يده وإن عرض عليه العين ومضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت الأجرة لأن المنافع تلفت باختياره فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري وإن كان العقد على عمل في الذمة لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسدا لم يستقر ببذل التسليم كما لا يستقر المبيع ويجب باستيفائها لأنه استوفاها بشبهة عقد وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجب شيء لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها فلم يجب العوض كالنكاح
والثانية : يجب أجر المثل لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل فكذلك الإجارة
فصل :
ويجوز أن يكتري الرجلان ظهرا يتعاقبان عليه وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوما لأنه يجوز العقد على جميعه فجاز على بعضه كالزمان فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول جاز العقد مطلقا وحمل على العادة كالنقد في البيع وإن لم يكن فيه عادة اشترط بيان ما يركب لأنه غير معلوم فوجب بيانه كالثمن وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما لأنهما تساويا في الملك فقدم أحدهما بالقرعة كما في القسمة
فصل :
إذا دخل حماما أو قعد مع ملاح في سفينة فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه إجارة لأن العرف جار بذلك فجرى مجرى الشرط كنقد البلد وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط أو قصار منتصبين لذلك أو مناد أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه فلهم أجر أمثالهم لذلك وإن دفع كتابا إلى رجل ليحمله إلى صاحب له بأجر فحمله فوجد صاحبه غائبا فله الأجر للذهاب لأنه فعل ما استأجره عليه وللرد لأنه بإذنه تقديرا إذ ليس سوى رده إلا تضييعه وقد علم أنه لا يرضى تضييعه فتعين رده
فصل :
إذا آجره مدة تلي العقد لم يجز شرط الخيار لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه وفي خيار المجلس وجهان :
أحدهما : لا يثبت لذلك
والثاني : يثبت لأنه يسير وإن كانت لا تلي العقد ثبت فيها الخياران لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها وكذلك إن كانت على عمل في الذمة أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها لذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه
وهي : عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان إلا أن يجد العين معيبة فيملك الفسخ بما يحدث من العيب لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه فإن بادر المكتري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر كدار تشعثت فأصلحها فلا خيار للمستأجر لعدم الضرر وإلا فله الفسخ فإن سكنها مع عيبها فعليه الأجرة علم أو لم يعلم لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيبا مع علمه به فلزمه البدل كالمبيع المعيب إذا رضيه وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد بعيب لم ينفسخ العقد ويطالب ببدله فإن تعذر بدله فله الفسخ لتعذر المعقود عليه كما لو وجد بالسلم عيبا فرده والعيب ما تنقص به المنفعة كانهدام حائط الدار وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره وانقطاع ماء الأرض أو نقصه وتغير الظهر في المشي وعرجه الفاحش وربضه وكونه عضوضا أو جموحا وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه فأما كون الظهر خشن المشي فليس بعيب لأن المنفعة فيه كاملة وإن اختلفا في العيب رجع فيه إلى أهل الخبرةفصل :
وإن تلفت العين في يده انفسخت الإجارة كما لو تلف المكيل قبل قبضه وإن تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه لأنه لم يقبض شيئا من المعقود عليه وإن تلفت بعد مضي شيء منها فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى ويسقط بقدر ما بقي فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر قسمت على القيمة وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة لم تنفسخ بالتلف وله البدل كما لو تعيب
فصل :
إذا اكترى أرضا للزرع فانقطع ماؤها أو دارا فانهدمت انفسخ العقد في أحد الوجهين لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت فأشبه تلف العبد والآخر : لا ينفسخ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة أو يجمع فيها حطبا أو متاعا لكن له الفسخ لأنها تعيبت وإن ماتت المرضعة انفسخت الإجارة وعن أبي بكر : لا تنفسخ ويجب في مالها أجر رضاعه والمذهب الأول لأن المعقود عليه تلف فأشبه تلف عبد الخدمة وإن مات المرتضع انفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه لأن غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع ولذلك وجب تعيينه ولم استأجر رجلا ليقلع ضرسه فبرئ أو ليكحل عينه فبرئت أو ليقتص له فمات المقتص منه أو عفي عنه انفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ كما لو تعذر بالموت وإن استأجر للحج فمات ففيه وجهان :
أحدهما : تنفسخ الإجارة لأنه تعذر الاستيفاء بموته أشبه موت المرتضع
والثاني : لا تنفسخ ويقوم وارثه مقامه كما لو كان المستأجر دارا وإن لم يمت لكن تلف ماله لم تنفسخ الإجارة لأن المعقود عليه سليم
فصل :
فإن غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ لأن فيه تأخير حقه فإن فسخ فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين وإن لم ينفسخ حتى انقضت المدة خير بين الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل وبين إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل لأن المنافع تلفت في يد الغاصب فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي وإن كان العقد على موصوف في الذمة طولب المؤجر بإقامة عين مقامها فإن تعذر فله الفسخ لأن فيه تأخير حقه
فصل :
فإن أجر نفسه ثم هرب أو اكترى عينا ثم هرب بها فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ لأن فيه تأخير حقه فأشبه ما لو اشترى مكيلا فمنعه قبضه وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة استؤجر من ماله من يعمله كما لو هرب قبل تسليم المسلم فيه فإن لم يكن فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل كما لو تعذر تسليم المسلم فيه وإن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه بطلت الإجارة لأنه أتلف المعقود عليه فأشبه ما لو باعه مكيلا فأتلفه قبل تسليمه
فصل :
وإن أجر عبده ثم أعتقه لم تنفسخ الإجارة لأنه عقد على المنفعة فلم تنفسخ بالعتق كالنكاح ولا يرجع العبد بشيء لأن منفعته استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدله كما لو زوج أمته ثم أعتفها ونفقته على سيده لأنه يملك بدل منفعته فهو كالباقي على ملكه
فصل :
وإن أجر عينا ثم باعها صح البيع لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع البيع كالنكاح ولا تبطل الإجارة قياسا على النكاح وإن باعها من المستأجر صح لذلك وفي الإجارة وجهان :
أحدهما : تبطل لأنها عقد على المنفعة فأبطلها ملك الرقبة كالنكاح فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة
والثاني : لا تبطل لأنه عقد على الثمرة فلم تبطل بملك الأصل كما لو اشترى ثمرة شجرة ثم ملك أصلها ومتى وجد المستأجر عيبا ففسخ به رجع على المؤجر لأن عوض الإجارة له فالرجوع عليه وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك إن قلنا : لا تنفسخ الإجارة وإن قلنا : تنفسخ لم يرجع على أحد
فصل :
ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين ولا موت أحدهما لأنه عقد لازم فلا يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع وإن أجر عينا موقوفة عليه ثم مات ففيه وجهان :
أحدهما : لا تبطل لأنه أجر ما له إجارته شرعا فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجر المدة الباقية إن كان قبضها لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها
والثاني : تبطل فيما بقي من المدة لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فإن المنافع بعد موته لغيره بخلاف المالك فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه وما خرج عن ملكه بالإجارة في حياته غير مخلف فلم يملكوه والأمر إلى من انتقل إليه الوقف في إجارته أو تركه فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة بقية المدة وإن أجر الولي الصبي أو ماله مدة في أثنائها ففيه وجهان أيضا كهذين
باب ما يلزم المتكارين وما لهما فعله
يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام الجمل والقتب والحزام ولجام الفرس وسرجه لأن عليه التمكين من الانتفاع ولا يحصل إلا بذلك وما تلف من ذلك في يد المكتري لم يضمنه كما لا يضمن العين وعلى المكري بدله لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالحبل والدلو والمحمل والغطاء والحبل الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدارفصل :
وعلى المكري المحمل وحطه ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده لأن ذلك العادة فحمل العقد عليه وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لأنه لا يمكن فعله راكبا وليس ذلك عليه للأكل والنفل لأنه ممكن على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة وللمريض والضعيف وإن كانت الإجارة على تسليم الظهر لم يكن عليه شيء من ذلك فأما أجرة الدليل فإن كنت الإجارة على تحصيل الراكب في البلد فعلى المكري لأنه من مؤنة التحصيل وإن كانت على تسليم الظهر أو على مدة فهو على المكتري لأن الذي على المكري تسليم الطهر وقد فعل وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش والبالوعة لأنه من التمكن فإن امتلأ في يد المتري فعليه كسحه لأنه ملأه فكان عليه إزالته كتنظيف الدار وعلى المكري إصلاح ما إنهدم من الدار وتكسر من خشب لأنه من التمكين وإذا استأجر ظئرا للرضاع وشرط الحضانة وهي خدمة الصغير وغسل خرقه لزمها وإن لم يشترطه عليها لم يلزمها إلا الرضاع لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى فلم تلزمها إحداهما بالعقد على الأخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح له وللمكتري مطالبتها به لأنه من التمكين ويضر الصبي تركه
فصل :
وعلى المكتري علف الظهر وسقيه لأنه من التمكين فإن هرب وترك جماله رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف فإن لم يجد له مالا اقترض عليه فإن اقترض من المكتري أو أذن له في الإنفاق عليها قرضا جاز لأنه موضع حاجة وإن كان في الجمال فضل عن المكتري باعه وأنفق منه فإذا رجع الجمال أو اختلفا في النفقة فالقول قول المنفق لأنه أمين إذا كانت دعواه لقدر النفقة بالمعروف وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع فإن أنفق من غير إذن الحاكم مع إمكانه وأشهد على ذلك فهل يرجع به ؟ على وجهين بناء على من ضمن دينه بغير ذلك وإن لم يجد من يشهد فأنفق ففي الرجوع وجهان أصحهما : يرجع به لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق في رده وإذا وصل دفع الجمال إلى الحاكم ليوفي المنفق نفقته منها ويفعل في سائرها ما يرى الحظ فيه لصاحبها من بيعها وحفظ ثمنها أو بيع بعضها وإنفاقه على باقيها
فصل :
وليس على المكتري مؤنة رد العين لأنها أمانة فلم يلزم مؤنة ردها كالوديعة ويحتمل أن يلزمه لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء مدتها فلزمه مؤنة ردها كالعارية
فصل :
وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف فصار كالمشروط فإذا استأجر دارا للسكنى فله وضع متاعه فيها لأنه متعارف في السكنى ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك وليس جعلها مخزنا للطعام لأنه غير متعارف وفيه ضرر لأن الفأر تنقب الحيطان للحصول إليه ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يطرح فيها الرماد التراب لأنه غير متعارف به وإن اكترى قميصا ليلبسه لم يكن له أن ينام فيه ليلا وله ذلك نهارا لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار وليس له أن يتزر به لأنه يعتمد عليه أكثر من البس وله أن يرتدي به في أحد الوجهين لأنه أخف والآخر ليس له ذلك لأنه غير متعارف في لبس القميص وإن اكترى ظهرا في طريق العادة السير في زمنا دون زمن لم يسر إلا فيه لأنه المتعارف وإن كانت العادة النزول للرواح وكان رجلا قويا ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه ذلك لأنه المتعارف
والثاني : لا يلزمه لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق فلم يلزمه تركه في بعضه وإن اكتره إلى مكة لم يجز أن يحج عليه لأنه زيادة وإن اكتراه ليحج عليه فله الركوب إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى مكة وهل له أن يركبه عائدا إلى منى ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز لأنه قد حل من الحج
والثاني : له ذلك لأنه من تمام الحج
فصل :
وله ضرب الظهر وكبحه باللجام وركضه برجله للمصلحة لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب جمل جابر حين ساقه ولأنه لا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا به فملكه كركوبه وإن شرط حمل أرطال من الزاد فله إبدال ما يأكل لأن له غرضا في أن يشتري الزاد من الطريق ليخفف عليه حمله فملك بدله كالذي يشرب من الماء
فصل :
وله أن يستوفي النفع المعقود ومثله ودونه في الضرر ولا يملك فوقه ولا ما يخالف ضرر ضرره لأنه يأخذ فوق حقه أو غير حقه فإن اكترى ظهرا في طريق فله ركوبه في ذلك البلد في مثله ودونه في الخشونة والمسافة والمخافة ولا يركبه في أخشن منه ولا أبعد ولا أخوف وإن اكترى أرضا للغراس والبناء فله زرعها لأنه أقل ضررا وإن استأجره لأحدهما لم يملك الآخر لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر وإن استأجرها للزرع لم يغرس ولم يبين لأنهما أضر منه وإن استأجرها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى كالشعير والبقلاء ولا يملك زرع الدخن والذرة والقطن لأن ضررها أكثر وإن اكترى ظهرا ليحمل عليه قطنا لم يجز ليحمل عليه حديدا لأنه أضر على الظهر لاجتماعه وثقله وإن اكتراه للحديد لم يحمل عليه قطنا لأنه أضر لتجافيه وهبوب الريح فيه وإن اكتراه ليركبه لم يحمل عليه لأن الراكب يعين الظهر بحركته وإن اكتراه للحمل لم يملك ركوبه لأن الراكب يقعد في موضع واحد والحمل يتفرق على جنبيه وإن شرط ركوبه عريانا لم يركب بسرج لأنه زيادة وإن شرط ركوبه بسرج لم يركبه عريانا لأنه يضر بظهر الحيوان والعارية كالإجار في هذا لأنها تمليك للمنفعة فأشبهت الإجارة
فصل :
وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله فإن اكترى دارا فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر ولا يسكنها من هو أضر منه وإن اكترى ظهرا يركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه لما ذكرنا في الفصل قبله فإن شرط لا يستوفي المنفعة بنفسها ولا يستوفي مثلها ولا دونها ولا يستوفيها بمثله ولا بدونه صح الشرط لأنه يملك المنافع فلا يملك إلا ما ملكه ويحتمل أن لا يصح لأنه ينافي موجب الإجارة ولا يبطل العقد لأن الشرط لا يؤثر المؤجر فلغي ويبقي العقد على مقتضاه
فصل :
وله أن يؤجر العين لأن الإجارة كالبيع وبيع المبيع جائز وكذلك إجارة المستأجر ويجوز أن يؤجرها للمؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع للبائع وغيره فإن أجرها قبل قبضها لم يجز ذكره القاضي لأنها لم تدخل في ضمانه فلم تجز إجارتها كبيع الطعام قبل قبضه ويحتمل الجواز لأن المنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر قبض العين فيها ويحتمل أن تجوز إجارتها للمؤجر لأنها في قبضه ولا تجوز من غيره لعدم ذلك وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة كالبيع برأس المال وزيادة وعنه : إن أحدث في العين زيادة جازت أجرتها بزيادة وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ربح ما لم يضمن فإن فعل تصدق بالزيادة وعنه : يجوز بإذن المالك ولا يجوز بغير إذنه والمذهب الأول
فصل :
فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل إن اكترى إلى مكان فجاوزه أو ليحمل قفيزا فحمل اثنين لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل للزيادة لأنه استوفى المعقود عليه فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة كما لو اشترى قفيزا فقبض اثنين وإن كانت الزيادة لا تتميز كرجل اكترى أرضا ليزرع حنطة فزرع دخنا فكذلك قال أحمد رضي الله عنه : ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطي رب الأرض فأوجب المسمى وزيادة لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في الضرر فصار مستوفيا للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها وقال أبو بكر : عليه أجرة المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فلزمته أجرة المثل كما لو زرع غير الأرض ولرب الأرض منع المستأجر من زرع الأرض فإن زرع فحكمه في ذلك في حكم الغاصب على ما سيأتي
فصل :
فإن اكترى أرضا للزرع مدة فليس له زرع ما لا يستحصد فيها لأن عليه تسليمها فارغة عند انتهائها وهذا يمنع ذلك وللمالك منعه من زرعه لذلك فإن فعل لم يجز على قلعه في المدة لأنه مالك لمنفعة الأرض فإذا انقضت ولم يحصد خير المالك بين أخذه ودفع نفقة وبين تركه بالأجرة لأنه تعدى بزرعه فأشبه الغاصب وإن كان بقاؤه بغير تفريط إما لشدة برد أو قلة مطر ونحوه فعلى المؤجر تركه بالأجرة لأنه زرعه بحق فكان عليه المسمى للمدة وأجرة المثل للزائد لا غير
فصل :
فإن اكتراها لمدة ليزرع فيها زرعا لا يكمل فيها وشرط قلعه في آخرها صح العقد والشرط لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد العقد لجهل المدة ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته وللمؤجر منعه من الزرع لأن العقد فاسد فإن زرعه لزم إبقاؤه بشرطه لأنه زرعه بإذن المالك وإن أطلق العقد صح لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن فإذا انقضت والزرع باق احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرع في مدة الإجارة ما لا يكمل فيها واحتمل أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة مدة لا يكمل فيها
فصل :
وأن استأجرها للغراس مدة جاز وله الغرس فيها ولا يغرس بعدها لأن العقد يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها فإن غرس فانقضت المدة وكان مشروطا عليه القلع عند انقضائها أخذ بما شرطه ولم يلزمه تسوية الحفر لأنه لما شرط القلع مع علمه بأنه يحفر الأرض كان راضيا وإن لم يكن شرط القلع لم يجب لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة والعادة ترك الغراس حتى ييبس وللمستأجر قلع غرسه لأنه ملكه فإن قلعه لزمه تسوية الحفر لأنه حفرها لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه وإن لم يقلعه فللمؤجر دفع قيمته ليملكه لأن الضرر يزول عنهما به أشبه الشفيع في غراس المشتري وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النقص فله ذلك لأن الضرر يزول عنهما به وإن اختار إقراره بأجرة مثله فله ذلك لأن الضرر يزول عنهما به ولصاحب الشجر بيعه لمالك ولغيره فيكون بمنزلته لأن ملكه ثابت عليه فأشبه النقص المشفوع والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا
باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين
الأجير على ضربين : خاص ومشترك فالخاص : هو الذي يؤجر نفسه مدة فلا ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط مثل أن يأمره بالسقي فيكسر الجرة أو بكيل شيء فيكسر الكيل أو بالحرث فيكسر آلته نص عليه أو بالرعي فتهلك الماشية بغير تفريطه والمشترك : الذي يؤجر نفسه على عمل فظاهر كلام الخرقي أنه يضمن ما تلف بعمله ونص عليه أحمد رضي الله عنه في حائك دفع إلى غزل فأفسد حياكته يضمن والقصار ضامن لما يتخرق من مده ودقه وعصره وبسطه والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه لما روى جلاس بن عمرو أن عليا رضي الله عنه كرم الله وجهه : كان يضمن الأجير ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق فكان ضامنا لها كالمستعير وقال القاضي وأصحابه : إن كان يعمل في ملك المستأجر كخياط أو خباز أخذه إلى دار ليستعمله فيها فلا ضمان عليه ما لم يتعد فيه مثل أن يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته أو يتركه بعد وقته فيضمن لأنه أتلفه بعدوانه وما لا فلا ضمان عليه لأنه سلم نفسه لصاحب العمل فأشبه الخاص وإن كان العمل في غير ملك المستأجر ضمن ما جنت يداه لما ذكرناه ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه لأنها أمانة في يده فأشبه المودع وإن حبسها على أجرتها فتلفت ضمنها لأنه متعد بإمساكها إذ ليست رهنا ولا عوضا عن الأجرةفصل :
ولا ضمان على المستأجر في عين المستأجرة إن تلفت بغير تفريط لأنه قبضها ليستوفي ما ملكه فيها فلم يضمنها كالزوجة والنخلة التي اشتراها ليستوفي ثمرتها وإن تلفت بفعله بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها لم يضمن لأنها تلفت من فعل مستحق فلم يضمنها كما لو تلفت تحت الحمل وإن تلفت بعدوان كضربها من غير حاجة أو لإسرافه فيه ضمن لأنه جناية عن مال الغير وإن اكترى إلى مكان فتجاوزه فهلك الظهر ضمنه لأنه متعد أشبه الغاصب وإن هلك بعد نزوله عنه وتسليمه إلى صاحبه لم يضمنه لأنه برئ بتسليمه إليه إلا أن يكون هلاكه لتعب الحمل فيضمنه لأنه هلك بدونه وإن حمل عليه أكثر مما استأجره فتلف ضمنه لذلك وإن اكترى دابة ليركبها فركب معه آخر بغير إذن فتلف ضمانها الآخر كلها لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقها وإن تلفت الدابة بعد عودها إلى المسافة ضمنها لأن يده صارت ضامنة فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد ولم يوجد
فصل :
ولو قال لخياط : إن كان هذا يكفيني قميصا فاقطعه فقطعه فلم يكفه ضمنه لأن إنما أذن له في قطعة بشرط الكفاية ولم يوجد وإن قال : هو يكفيك قميصا فقال : اقطعه فقطعه فلم يكفه لأنه قطعه بإذن مطلق
فصل :
ومن أجر عينا فامتنع من تسليمها فلا أجرة له لأنه لم يسلم المعقود عليه فلم يستحق عوضه كالمبيع إذا لم يسلمه وإن سلمه بعض المدة ومنعه بعضا فقال أصحابنا : لا أجرة له لأنه لم يسلم ما تناوله العقد فأشبه الممتنع عن تسليم الجميع ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه كما باعه مكيلا فسلم إليه بعضه ومنعه من باقيه وإن أجر نفسه على عمل وامتنع من إتمامه فكذلك وإن أجر عبده فهرب أو دابة فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفي من المدة لأن الامتناع بغير فعله فأشبه ما لو مات وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير تفريطه فلا أجرة له فيما عمل لأنه لم يسلمه إلى المستأجر فلم يستحق عوضه وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنه إياه معمولا ويدفع إليه أجرته وبين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له وإن استأجر الأجير المشترك أجيرا خاصا فأتلف الثوب فلا ضمان على الخاص ويضمنه المشترك
فصل :
وإذا ختلف المتكاريان في قد الأجرة أو المنفعة تحالفا لأنه عقد معاوضة أشبه البيع ثم الحكم في فسخ الإجارة كالحكم في فسخ البيع لأنها بيع وإن اختلفا في العدوان فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان وإن اختلفا في رد العين ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول المؤجر لأن الأصل عدم الرد ولأن المستأجر قبض العين لنفسه أشبه المستعير
والثاني : القول قول الأجير لأنه أمين فأشبه المودع وإن هلكت العين فقال الأجير : هلكت بعد العمل فلي الأجرة فأنكره المستأجر فالقول قوله لأن الأصل عدم العمل وإن دفع ثوبا إلى خياط فقطعه قباء وقال : بهذا أمرتني فلي الأجرة ولا ضمان علي وقال صاحبه : إنما أمرتك بقطعه قميصا فالقول قول الأجير نص عليه لأنه مأذون له في القطع والخلاف في صفته فكان القول قول المأذون له كالمضارب لأن الأصل عدم وجوب الغرم فكان القول قول من ينفيه ويتخرج أن يقبل قول المالك لأن والقول قوله في أصل الإذن فكذلك في صفته ولأن الأصل عدم ما ينفيه فكان القول قوله فيه
باب الجعالة
وهي أن يجعل جعلا لمن يعمل له عملا من رد آبق أو ضالة أو بناء أو خياطة وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال فيجوز ذلك لقول الله تعلى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ولما روى أبو سعيد أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أتوا حيا من أحياء العرب فلم يقروهم فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا : هل فيكم من راق ؟ فقالوا : لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شياه فجعل رجل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقة ويتفل فبرئ الرجل فأتوه بالشياه فقالوا : لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي منها بسهم ] متفق عليه ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها فجاز كالإجارة ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين وعمل مجهول فيقول : من رد ضالتي فله كذا للآية ولأن الحاجة داعية إليه مع الجهل فجاز كالمضاربة ولا يجوز إلا بعوض معلوم لأنه عقد معاوضة فاشترط العلم بعوضه كالإجارة فإن شرط مجهولا فسد وله أجرة المثل لأنه عقد يجب المسمى في صحيحه فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارةفصل :
وهي عقد جائز لأنها تنعقد على مجهول فكانت جائزة كالمضاربة وأيهما فسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل وإن فسخه العامل قبل تمام العمل فلا شيء له إنما يستحق بعد الفراغ من عمله وقد تركه وإن فسخ الجاعل بعد التلبس به فعليه أجرة ما عمل العامل لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له وإن تم العمل لزم العقد ووجب الجعل لأنه استقر بتمام العمل فأشبه الربح في المضاربة وإن زاد في الجعل أو النقص منه قبل الشروع في العمل جاز لأنه عقد جائز فجازت الزيادة فيه والنقصان قبل العمل كالمضاربة
فصل :
ولا يستحق الجعل إلا بعد فراغه من العمل لأنه كذا شرط وإن جعل له جعلا على رد آبق فرده إلى باب الدار فهرب أو مات قبل تسليمه لم يستحق شيئا لأنه لم يأت بما جعل الجعل فيه وإن قال : من رده من مصر فله دينار فرد من نصف طريقها أو قال : من رد عبدي فله دينار فرد أحدهما فله نصف الدينار لأنه عمل نصف العمل وإن رده من أبعد من مصر لم يستحق إلا الدينار لأنه لم يضمن لما زاد شيئا وإن رده جماعة اشتركوا في الدينار لأنهم اشتركوا في العمل فإن جعل لواحد في رده دينارا ولآخر اثنين ولآخر ثلاثة فلكل واحد منهم ثلث جعله وإن جعل لواحد منهم ثوبا فله ثلث أجرة المثل لأنه عوض مجهول فاستحق ثلث أجرة المثل وإن جعل لواحد جعلا فأعانه آخر فالجعل كله للمجعول له لأن العمل كله له فإن قال الآخر : شاركته لأشاركه في الجعل فللعامل نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للآخر لأنه لم يشرط له شيء
فصل :
ومن عمل لغيره عملا بغير جعل فلا شيء له لأنه بذل منفعته بغير عوض فلم يستحقه وإن التقط لقطة قبل الجعل ثم بلغه الجعل لم يستحقه لأنه وجب عليه ردها بالتقاطها فلم يجز له أخذ العوض عن الواجب وإن التقطها بعد الجعل ولم يعلم بذلك لم يستحقه لأنه تطوع بالالتقاط وإن نادى غير صاحب الضالة : من ردها فله دينار فردها رجل فالدينار على المنادي لأنه ضمن العوض وإن قال في النداء : فال فلان : من رد ضالتي فاله دينار فردها رجل لم يضمن المنادي لأنه لم يضمن إنما حكى قول غيره
فصل
وإن اختلفا في الجعل أو في قدره أو في المجعول فيه الجعل فالقول قول المالك لأنه منكر ما يدعى عليه والأصل عدمه
فصل :
وإن رد آبقا من غير شرط ففيه روايتان :
إحداهما : لا جعل له فيما ذكرنا
والثانية : له الجعل لأن ذلك يروى عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه جعل في الآبق إذا جاء به خارجا من الحرم دينارا ولأن في ذلك حثا على رد الإباق وصيانة عن الرجوع إلى دار الحرب وردتهم عن دينهم فينبغي أن يكون مشروعا وقدر الجعل دينارا أو اثني عشر درهما لما روينا ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما وعن أحمد رضي الله عنه : أنه إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما وإن رده من المصر فله دينار لأنه يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وسواء كان ذلك كقيمة العبد أو أقل أو أكثر فإن مات السيد استحق الجعل في تركته وما أنفقه على الآبق في قوته رجع به على سيده سواء رده أو هرب منه في بعض الطريق
باب المسابقة
تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ) متفق عليه وسابق النبي صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها على قدميه وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار بين يديه ومر النبي صلى الله عليه و سلم بقوم يربعون حجرا أي يرفعونه بأيديهم ليعلم الشديد منهم فلم ينكر عليهم ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ] رواه أبو داود فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعا بينه وبين ما روينا والمراد بالحافر الخيل خاصة وبالخف الإبل وبالنصل السهام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ] ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر والفر والقتال وغير السهام لا يعتاد الرمي بها فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراسفصل :
والمسابقة بعوض جعالة فيه لأنه عقد على ما لا لم يعلم القدرة على تسليمه فأشبه رد الآبق ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة وما لم يظهر فضل أحدهما فإن ظهر فللفاضل الفسخ والنقصان والزيادة ولا يجوز للمفضول لئلا يفوت غرض المسابقة فإنه متى بان له أنه مسبوق فسخ وذكر القاضي وجها آخر أنها عقد لازم لأن من شرطها العلم بالعوضين فكانت لازمة كالإجارة ويجوز بذل العوض من بيت المال ومن السلطان ومن المتسابقين وآحاد الرعية لأنه إخراج مال لمصلحة فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله فإن بذل العوض فيها تحريض على التعلم والاستعداد للجهاد ومن شرط العوض كونه معلوما لما ذكرنا في الجعالة له
فصل :
ولا تجوز المسابقة بين جنسين كالخيل والإبل لأن تفاضل الجنسين معلوم فأما النوعان كالعربي والهجين والبختي والعرابي فقال القاضي : تجوز المسابقة بينهما لأن الجنس يشملهما فأشبها النوع الواحد وقال أبو الخطاب : لا تصح لأنهما يختلفان في الجري عادة فأشبها الجنسين وكذا الخلاف في المناضلة بنوعين من القسي كالعربي والفارسي وقوس الجرح النبل لذلك
فصل :
ويشترط تعيين المركوبين لأن القصد جوهرهما وتعيين الراميين لأن القصد معرفة حذقهما ولا يعتبر تعيين الراكبين ولا القوسين لأنهما آلة للمقصود فلم يعتبر تعيينهما كسرج الدابة ويعتبر تحديد المسافة لحديث ابن عمر ولأنهما إذا أجريا إلى غير غاية لم يؤمن أن يسبق أحدهما حتى يعطبا أو أحدهما ولا يجوز إجراؤهما إلا بتدبير الراكبين لأنهما إذا جريا لأنفسهما تنافرا ولم يمضيا إلى الغاية ولا يجوز أن يستبقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فهو السابق لأن هذا لا ينضبط فإن الفرسين لا يقفان عند الغاية ليقدر ما بينهما
فصل :
وإذا كان الجعل من غيرهم فقال : من سبق منكم فله عشرة صح فإن سبق واحد فهي له لأنه سبق وإن سبق اثنان أو أكثر اشتركوا في السبق وإن جاء الكل معا فلا شيء لهم لأنهم لا سابق فيهم وإن جعل السبق للمصلي وحده أو فضله عن السابق لم يصح لأن كل واحد منهم يجتهد أن لا يسبق فيفوت الغرض وكذلك إن جعل للسابق عشرة وللثالث أربعة ولم يجعل للمصلي شيئا لم يصح لأن من عدا السابق يجتهد أن لا يسبق صاحبه وإن سوى بين السابق والمصلي ولا ثالث معهما لم يصح لفوات الغرض به وإن كان معهما ثالث نقص عنهما صح لأن كل واحد منهم يجتهد في أن لا يكون الثالث وإن جعل للمجلي وهو الأول مائة وللمصلي وهو في الثاني تسعين وللمسلي وهو الثالث ثمانين وللتالي وهو الرابع سبعين وللمرتاح وهو الخامس ستين وللعاطف وهو السادس خمسين وللحظي وهو السابع أربعين وللمؤمل وهو الثامن ثلاثين وللطيم وهو التاسع عشرين وللحظي وهو العاشر عشرة وللفسكل وهو الأخير خمسة صح لأن الغرض حاصل وكل واحد يجتهد في سبق الآخر لينال أعلى من رتبته وإن جعل كل رتبة يشترك فيه جميع من بلغها احتمل أن يصح لذلك واحتمل أن لا يصح لأنه قد يشترك في السبق جماعة وينفرد المصلي فيفضلهم بكثرة ما جعل له فيفوت الغرض وإن قال : من بلغ الغاية فله عشرة لم يكن ذلك مسابقة لأن مقصود المسابقة التحريض على السبق وتعلم الفروسية وهذا يفوت بالتسوية ولكنه جعالة محضة لأنه بذل العوض في أمر فيه غرض صحيح وكذلك إن قال : ارم عشرة اسهم فإن كانت إصابتك أكثر من خطئك فلك كذا أو قال : إن أصبت بهذا السهم فلك كذا صح ولم يكن مناضلة لذلك
فصل :
وإن أخرج الجعل أحد المتسابقين جاز لأن فيهما من يأخذ ولا يعطي فلا يكون قمارا فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من صاحبه شيئا وإن سبق الآخر أحرز الجعل لأنه سابق وإن جاءا معا فالجعل لصاحبه لأنه لا سبق فيهما وإن أخرجا معا لم يجز لأنه يكون قمارا لأنه ليس فيهما إلا من يأخذ إذا سبق ويعطي إذا سبق إلا أن يدخلا معهما ثالثا يساوي فرسه فرسيهما لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ] رواه أبو داود ولأنه مع وجود المحلل المكافئ فيهم من يأخذ ولا يعطي فيخالف القمار فإن كان لا يكافئهما فوجوده كعدمه لأنه معلوم أنه لا يأخذ شيئا وسواء كان المحلل واحدا أو اكثر والمسابقة بين اثنين أو حزبين لأن الغرض الخروج من القمار وقد حصل على أي صفة كان فإذا تسابقوا فجاؤوا معا أو جاء المستبقان معا قبل المحلل أحرز كل واحد منهما سبقه ولا شيء للمحلل لأنه لم يسبق ولم يسبق أحدهما صاحبه وإن سبقهما المحلل أخذ سبقيهما لأنه سبقهما وإن سبق أحد المستبقين وحده أحرز السبقين لسبقه ولم يأخذ من المحلل شيئا وإن سبق أحدهما مع المحلل أحرز المستبق سبق نفسه لأنه غير مسبوق وكان سبق الآخر بينه وبين المحلل نصفين لاشتراكهما في سبقه
فصل :
وترسل الفرسان معا من أول المسافة في حال واحدة ولا يجوز لأحدهما أن يجنب مع فرسه فرسا يحرضه على العدو ولا يصلح به ولا يجلب عليه لما روى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا جلب ولا جنب في الرهان ] رواه أبو داود وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا ] فإن استوى الفرسان في طول العنق فسبق أحدهما برأسه فهو سابق وإن اختلفا في طول العنق أو كان بعيرين اعتبر السبق بالكتف فمن سبق به أو ببعضه فهو سابق ولا عبرة بالعنق وإن عثر أحدهما أو ساخت قوائمه في الأرض أو وقف لعلة فسبقه الآخر لم يحكم له بالسبق لأن سبقه إياه للعارض لا لفضل جريه
فصل :
وإن مات أحد المركوبين بطلت المسابقة لأن العقد تعلق بعينه فأشبه تلف المعقود عليه في الإجارة وإن مات الراكب لم تبطل لأنه غير المعقود عليه وللوارث أن يقوم مقامه وله أن لا يفعل لأن العقد حائز ومن جعله لازما ألزمه أن يقوم مقامه كالإجارة
باب المناضلة
وهي المسابقة بالرمي وتجوز بين اثنين وحزبين ولما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال : [ ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك الآخرون ] فقالوا : يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم فقال : [ ارموا وأنا معكم كلكم ] رواه البخاري ولأنه إذا جاز على اثنين جاز على ثلاثة كسباق الخيلفصل :
ويشترط لصحتها شروط ثمانية :
أحدهما : تعيين الرماة لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي فلا يتحقق مع عدم التعيين كسباق الخيل فإن عقد اثنان نضالا على أن يكون مع كل واحد منهما ثلاثة لم يصح لذلك وإن عقد جماعة نضالا ليتناضلوا حزبين احتمل أن لا يصح لأن التعيين لا يتحقق قبل التفاضل وقال القاضي : يصح ويجعل لكل حزب رئيس فيختار أحدهما واحدا ويختار الآخر آخر كذلك حتى يتناضلوا فإن اختلقا في المبتدئ منهما بالخيار أقرع بينهما ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة لأنها ربما وقعت على الحذاق في أحد الحزبين ولا يجوز أن يجعل زعيم الحزبين واحدا لأنه قد يميل إلى أحدهما فتلحقه التهمة ولا يجوز أن يجعل الخيرة في تمييز الحزبين إلى واحد ولا يجوز أن يجعل إلى واحد والسبق عليه لأنه يختار الحذاق فيبطل معنى النضال
فصل :
الشرط الثاني : تعيين نوع القسي لأن الأغراض تختلف باختلافها فقد يكون الرامي أحذق بنوع منه بالنوع الآخر وإن لم يكن في البلد إلا نوع واحد لم يحتج إلى التعيين لأن الإطلاق ينصرف إليه كالنقد فإن عقدا على نوع فأراد أحدهما أن ينتقلا إلى غيره أو ينتقل أحدهما لم يجز لما ذكرناه وإن عقدا على قوس بعينه فانتقل أحدهما إلى غيره من نوعه جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان وإن شرط عليه أن لا ينتقل خرج على الوجهين فيما إذا شرط في الإجارة أن لا يستوفي المنفعة بمثله
فصل :
الشرط الثالث : أن يرميا غرضا وهو ما يقع فيه السهم المصيب من جلد أو ورق أو نحوه وإن قالا : السيف لأبعدنا رميا لم يصح لأن القصد بالرمي الإصابة لا الإبعاد فلم يجز أخذ العوض من غير المقصود والسنة أن يكون لهما غرضان في هدفين متقابلين يرميان من أحدهما الآخر ثم يرميان من الآخر الأول فإن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كذلك كانوا يرمون فروي عن حذيفة وابن عمر أنهما كانا يشتدان بين الغرضين إذا أصاب أحدهما خصلة قال : أنا بها في قميص رواه سعيد ويروى أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة والهدف : اسم لما ينصب الغرض فيه
فصل :
الشرط الرابع : أن يكون قدر الغرض معلوما طوله وعرضه وانخفاضه وارتفاعه لأن الإصابة تختلف باختلافه فوجب علمه كتعيين النوع
فصل :
فإن أطلقا العقد حمل على إصابته أي موضع كان من الغرض من أطرافه وعراه وغيرها وإن أصاب علاقته لم يحسب له لأن العلاقة ما يعلق به والغرض : هو المعلق وإن شرطا إصابة موضع من الغرض كالدارة التي في وسطه أو الخاتم الذي في الدارة لم يحتسب بإصابة غيره ويستحب أن يصفا الإصابة فيقولا : خواصل وهو اسم للإصابة كيفما كانت أو خوارق وهو ما ثقب الأرض أم خواسق وهو ما ثقبه وثبت فيه أو موارق وهو ما ثقبه ونفذ منه أو خوارم وهو ما قطع طرفه فإن أطلقا الإصابة حمل على الخواصل والقرع كالخصل فإن أصاب سهما في الغرض قد عرق إلى فوقه حسب له لأنه لولاه لوقع السهم في الغرض وإن كان السهم معلقا بنصله وباقيه خارج من الغرض لم يحسب له ولا عليه لأن بينه وبين الغرض طول السهم فلا يدري أكان يصيب أم لا فإن أطارت الريح الغرض فأصاب السهم موضعه حسب له وإن وقع في الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في الرمي وإنما أصاب بفعل الريح وإن عرضت ريح شديدة لم يحسب له السهم في إصابة ولا خطأ لأن ذلك من أجل الريح وإن كانت لينة حسب في الإصابة والخطأ لأنها لا تمنع وإن وقع السهم دون الغرض ثم ازدلف فأصابه حسب خاطئا لأن هذا لسوء رميه وإن عرض عارض من كسر قوس أو انقطاع وتر أو ريح في يده فأصاب حسب له لأن إصابته مع اختلال الآلة أدل على حذقه وإن أخطأ لم يحسب عليه لأنه للعارض وقال القاضي : يحسب له لأنه لا يحسب عليه في الخطأ فلا يحسب له في الإصابة كما في الريح الشديدة وإن انكسر السهم فوقع دون الغرض لم يحسب عليه لأنه لعارض وإن أصاب بنصله حسب له لما ذكرناه وإن أصاب بغيره لم يحسب له وإن أعرق الرامي في النزع حتى أخرج السهم من الجانب الآخر احتسب له وعليه لأنه لسوء رميه أخطأ ولحذقه أصاب ولأن ما حسب عليه في الخطأ حسب له في الإصابة كغيره وإن مرت بهيمة بين يديه وتشوش رميه لم يحسب عليه في الخطأ لأنه لذلك العارض وإن خرقه وأصاب حسب له لأن هذا لقوة نزعه وسداد رميه وإن شرطا الخسق فأصاب الغرض وثبت فيه حسب له فإن سقط بعد لم يؤثر كما لو نزعه إنسان وإن ثقب ولم يثبت ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحسب له لأن الخاسق ما ثبت ولم يوجد
والثاني : يحسب له لأنه ثقب ما يصلح له فالظاهر أنه لم يثبت لعارض من سعة الثقب أو غلظ لقيه وإن مرق منه حسب له لأنه لقوة رميه وإن خدشه ولم يثبت فيه لمانع من حجر أو غلظ الأرض فعلى الوجهين لكن إن لم يحسب له لم يحسب عليه لأن العارض منعه وإن لم يكن مانع حسب عليه فإن اختلفا في العارض وعلى موضع السهم وفيه مانع فالقول قول صاحب السهم وإلا فالقول قول رسيله ولا يمين لأن الحال تشهد بصدق المدعي وإن لم يعلم موضع السهم ولم يوجد وراء الغرض مانع فالقول قول رسيله لذلك وإن كان وراءه مانع فقال الرسيل : لم يثقب موضع المانع أو أنكر الثقب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم ما يدعيه صاحبه لكنه محتمل فأحلفناه لذلك وإن كان في الغرض خرق أو موضع بال فوقع السهم فيه وثبت في الهدف وكان صلابته كصلابة الغرض حسب له لأنه لولا الخرق لثبت في الغرض وإن لم يكن كذلك لم يحسب له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض أو لا ؟ وإن ثبت في الهدف فوجد في نصله قطعة من الغرض فقال الرامي : هذا الجلد قطعه سهمي لقوته وقال رسيله : بل هذه جلدة كانت منقطعة من قبل فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق والله أعلم
فصل :
الشرط الخامس : أن يكون مدى الغرض معلوما مقدرا بما يصيب مثلهما وفي مثله عادة لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد فاشترط العلم به كالنوع وإن جعلاه قدرا لا يصيبان في مثله أو لا يصيبان إلا نادرا كالزائد على ثلاثمائة ذراع لم يجز لأن الإصابة تندر في مثل هذا فيفوت الغرض
الشرط السادس : أن يكون الرشق معلوما والرشق بكسر الراء عدد الرمي لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك
فصل :
الشرط السابع : أن يكون عدد الإصابة معلوما كخمسة من عشرين ونحوها ويعتبر أن يكون إصابة لا يندر مثلها فإن شرطا إصابة الجميع أو تسعة من عشرة لم يصح لأن هذا يندر فيفوت الغرض ويستحب أن يبينا حكم الإصابة هل هي مبادرة أو محاطة ؟ والمبادرة : أن يقولا : من سبق إلى إصابتين أو نحوهما فهو السابق فأيهما سبق إليهما مع تساويهما في الرمي فهو السابق فإذا رمى كل واحد عشرة فأصاب أحدهما إصابتين دون الآخر فهو السابق ولا يلزم إتمام الرمي لأن المقصود قد حصل وإن أصاب كل واحد منهما من العشرة إصابتين فلا سابق فيهما وبطل النضال لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها فإن رميا العشرين فلم يصب واحدا منهما إصابتين أو أصاباهما معا فلا سابق فيهما وأما المحاطة فهي أن يشترطا حط ما تساويا فيه من الإصابة ثم من فضل صاحبه بإصابة معلومة فقد سبق فإن شرطا فضل ثلاث إصابات فرميا خمسة عشر أصابها أحدهما كلها أو أخطأها الآخر فالمصيب سابق ولا يجب إتمام الرمي لعدم الفائدة فيه لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب المخطئ الخمسة الباقية ويخطئها الأول ولا يخرج الثاني بذلك عن كونه مسبوقا وإن كان في إتمامه فائدة مثل أن يكون الثاني أصاب من الخمسة عشر تسعة فإذا أصاب الخمسة الباقية وأخطأها الأول لم يكن مسبوقا وجب إتمام الرمي فإن أطلقا العقد انصرف إلى المبادرة لأن العقد على المسابقة والمبادر سابق ذكر هذا القاضي وقال أبو الخطاب : يشترط بيان ذلك في المسابقة لأن الغرض يختلف به فمن الناس من تكثر إصابته في الأول دون الثاني فوجب اشتراطه كقدر مدى الغرض
فصل :
الشرط الثامن : التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي فإن تفاضلا في شيء منه أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه أو يحسب له خاصل بخاسق أو لا يحسب عليه سهم خاطئ لم يصح لأن القصد معرفة حذقهما ولا يعرف مع الاختلاف لأنه ربما فضله بشرطه لا بحذقه وإن شرطا بحسب خاسق كل واحد منهما بخاصلين أو يسقط القريب من إصابة أحدهما ما هو أبعد منها من رمي الآخر فمن فضل بعد بثلاث إصابات فهو السابق صح لأنه لا فضل لأحدهما في عدد ولا صفة وهذه نوع محاطة فصحت كاشتراط حط ما تساويا فيه
فصل :
وإن كان الرماة حزبين اشترط كون الرشق يمكن قسمته عليهم إن كان كل حزب ثلاثة وجب أن يكون له ثلث صحيح لأنه يجب التسوية بينهما في عدد الرمي ولا يمكن إلا بذلك فوجب وإذا نضل أحد الحزبين صاحبه فالجعل بين الناضلين سواء من أصاب ومن لم يصب ويحتمل أن يكون بينهما على قدر إصابتهم لأنهم بها يستحقون والجعل على المنضولين بالسوية وجها واحدا لأنه لزمهم بالتزامهم لإصابتهم بخلاف الناضلين
فصل :
فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه لأنها لا تنعقد على من لا يحسن الرمي ويخرج من الحزب الآخر بإزائه كما إذا بطل البيع في بعض المبيع بطل في ثمنه وهل يبطل العقد في الباقين ؟ إلى وجهين بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا : لا يبطل فلهم الخيار في الفسخ والإمضاء لأن الصفقة تفرقت عليهم فإن اختاروا إمضاءه ورضوا بمن يخرج بازائه وإلا انفسخ العقد
فصل :
ويرمي واحد بعد الآخر لألأن رميهما يفضي إلى التنازع بالمصيب فإن اتفقا على المبتدئ منهما جاز وإن كان بينهما شرط عمل به وإن اختلفا ولا شرط بينهما قدم المخرج فإن كان المخرج غيرهما اختار منهما فإن لم يختر أقرع بينهما وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني تعديلا بينهما فإن شرطا البداية لأحدهما في كل الوجوه لم يصح لأنه تفضيل وإن فعلاه بغير شرط جاز لأنه لا أثر له في إصابة ولا تجويد رمي ويرميان مراسلة سهما وسهما أو سهمين وسهمين وإن اتفقا على غير هذا جاز لعدم تأثيره في مقصود المناضلة
فصل :
وإن مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد لأن المعقود عليه تلف فأشبه موت الفرس في السباق وإن مرض أو رمد لم تبطل لأنه يمكن الاستيفاء بعد زوال العذر وله الفسخ لأن فيه تأخير المعقود عليه فملك الفسخ كالإجارة وإن عرض مطر أو ريح أو ظلمة أخر إلى زوال العارض وإن أراد أحدهما التأخير لغير عذر فله ذلك إن قلنا : هي جعالة لأنها جائزة وليس له ذلك إن قلنا : هي إجارة ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره لأن فيه كسر قلبه أو قلب صاحبه
باب اللقطة
وهي المال المضاع عن ربه وهي ضربان : ضال وغيره فأما غير الضال فيجوز التقاطه بالإجماع وهو نوعان : يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف لما روى جابر قال : [ رخص لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به ] رواه أبو داودولا تحديد في اليسير إلا أنه ينبغي أن يعفى عما رخص فيه النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث وشبهه وقال أحمد رضي الله عنه : ما كان مثل التمرة والكسرة والخرقة وما لا خطر له فلا بأس ويحتمل أن لا يجب تعريف ما لا يقطع فيه السارق لأنه تافه قالت عائشة رضي الله عنها : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
والنوع الثاني : الكثير فظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أن ترك التقاطه أفضل لأنه أسلم من خطر التفريط وتضييع الواجب من التعريف فأشبه ولاية اليتيم واختار أبو الخطاب : أن أخذه أفضل إذا وجد بمضيعة وأمن نفسه عليه لما فيه من حفظ مال المسلم فكان أولى كتخليصه من الغرق ولا يجب أخذه لأنه أمانة فلم يجب كالوديعة ومن لم يأمن نفسه عليه ويقوى على أداء الواجب لم يجز له أخذه لأنه تضييع لمال غيره فحرم كإتلافه
فصل :
إذا أخذها عرف عفاصها وهو : وعاؤها ووكاءها وهو : الذي تشد به وجنسها وقدرها لما روى بن خالد الجهني قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لقطة الذهب والورق فقال : [ اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه ] متفق عليه نص على الكاء والعفاص وقسنا عليهما القدر والجنس ولألنه إذا عرف هذه الأشياء لم تختلط بغيرها وعرف بذلك صدق مدعيها أو كذبه وإن أخر معرفة صفتها إلى مجيىء مدعيها أو تصرفه فيها جاز لأن المقصود يحصل وقد جاء ذلك في حديث أبي ولا يحل له التصرف فيها إلا بعد معرفة صفتها لأن عينها تذهب فلا يعلم صدق مدعيها إلا من حفظ صفتها ويستحب أن يشهد عليها نص عليه لما روى عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب ] رواه أبو داود ولأن فيه حفظها من ورثته إن مات وغرمائه إن أفلس وصيانته من الطمع فيها ولا يجب ذلك لتركه في حديث زيد ولأنه أمانة فلا يجب الإشهاد عليها كالوديعة قال أحمد رضي الله عنه : ولا يبين في الإشهاد كم هي لكن يقول : أصبت لقطة
فصل :
ويجب تعريفها لأمر النبي صلى الله عليه و سلم به ولأنه طريق وصولها إلى صاحبها فوجب كحفظها ويجب التعريف حولا من حين التقاطها متواليا لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به عند وجدانها والأمر يقتضي الفور ولأن الغرض وصول الخبر وظهور أمرها وإنما يحصل بذلك لأن صاحبها إنما يطلبها عقيب ضياعها ويكون التعريف في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد وأوقات الصلوات لأن المقصود إشاعة أمرها وهذا طريقه ويكثر منه في موضع وجدانها وفي الوقت الذي يلي التقاطها ولا يعرفها في المسجد لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله تعالى عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ] رواه مسلم ويقول : من ضاع منه كذا يذكر جنسها : أو يقول : شيء ولا يزيد في صفتها لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها وأجرة المعرف على الملتقط لأن التعريف عليه ولأنه سبب تملكها فكان على متملكها قال أبو الخطاب : إن التقطها للحفظ لصاحبها لا غير فالأجرة على مالكها يرجع بها عليه وقاله ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف
فصل :
فإذا جاء مدعيها فوصفها بصفاتها المذكورة لزم دفعها إليه لأمر النبي صلى الله عليه و سلم به ولأنها لو لم تدفع بالصفة لتعذر وصول صاحبها إليها لتعذر إقامة البينة فإن وصفها اثنان أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه كما لو ادعى الوديعة اثنان وقال أبو الخطاب : تقسم بينهما وإن وصفها أحدهما و للآخر بينة قدم ذو البينة لأنها أقوى من الوصف فإن كان الواصف سبق فأخذها نزعت منه وإن تلفت في يده فلصاحبها تضمين من شاء منهما لأن الواصف أخذ مال غيره بغير إذنه والملتقط دفعه إليه بغير إذن مالكه ويستقر الضمان على الواصف لأن التلف حصل في يده فإن ضمن لم يرجع على أحد وإن ضمن الملتقط رجع عليه إلا أن يكون الملتقط دفعها بحكم حاكم فلا يضمن لأنها تؤخذ منه قهرا وإن أتلفها الملتقط فغرمه الواصف عوضها ثم جاء صاحب البينة لم يرجع إلا على الملتقط لأن الواصف إنما أخذ مال الملتقط ولم يأخذ اللقطة ثم يرجع الملتقط على الواصف
فصل :
فإن لم تعرف دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكما كالميراث لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث زيد : [ وإن لم تعرف فاستنفقها ] وفي لفظ [ وإلا فهي كسبيل مالك ] ولأنه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها إلا باختياره لأنه تملك مال ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالبيع والغني والفقير سواء في هذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفرق ولأنه تملك مال بعوض أشبه البيع
فصل :
وما جاز التقاطه ووجب تعريفه ملك به نص عليه أحمد رضي الله عنه في الصياد يقع في شبكته الكيس والنحاس يعرفه سنة فإن جاء صاحبه وإلا فهو كسائر ماله وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أكثر أصحابنا لا يملك غير الأثمان لأن الخير ورد فيها ومثلها لا يقوم مقامها من كل وجه لعدم تعلق الغرض بعينها فلا يقاس عليها غيرها وقال أبو بكر : ويعرفها أبدا وقال القاضي : هو مخير بين ذلك وبين دفعها إلى الحاكم وقال الخلال : كل من روى عن أبي عبد الله أنه يعرفها سنة ثم يتصدق بها والذي نقل عنه أنه يعرفها أبدا قول قديم رجع عنه والأول أولى لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة ؟ [ قال : عرفه سنة فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به ] رواه الأثرم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عيبة - والعيبة : هي وعاء من أدم يوضع فيه الثياب - : عرفها سنة فإن عرفت وإلا فهي لك أمرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه مال يجوز التقاطه ويجب تعريفه فملك به كالأثمان وقد دل الخبر على جواز أخذ الغنم مع تعلق الغرض بعينها فيقاس عليها غيرها
فصل :
ولقطة الحرم تملك بالتعريف في ظاهر كلامه لظاهر الخبر ولأنه أحد الحرمين أشبه المدينة وعنه : لا تملك بحال ويجب تعريفها أبدا أو يدفعها إلى الحاكم لقول النبي صلى الله عليه و سلم في مكة : [ لا تحل ساقطتها إلا لمنشد ] متفق عليه
فصل :
واللقطة مع الملتقط قبل تملكها أمانة عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة وإن ردها إلى موضعها ضمنها لأنه ضيعها وإن تلفت بغير تفريط لم يضمنا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ولتكن الوديعة وديعة عندك ] ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع أشبه الوديعة وإن جاء صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنها ملكه وإن جاء بعد تملكها أخذها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ] ويأخذها بزيادتها المتصلة لأنها تتبع في الفسوخ وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطها لأنها حدثت على ملكه فأشبه نماء المبيع في يد المشتري فإن تلفت بعد تملكها ضمنها لأنها تلفت من ماله وإن نقصت بعد التملك فعليه أرش نقصها وإن باعها أو وهبها بعد تملكها صح لأنه تصرف صادف ملكه فإن جاء صاحبها في مدة الخيار وجب فسخ البيع وردها إليه لأنه يستحق العين وقد أمكن ردها إليه وإن جاء بعد لزوم البيع فهو كتلفها لأنه تعذر ردها
فصل :
الضرب الثاني : الضوال وهي الحيوانات الضائعة وهى نوعان :
أحدهما : ما يمتنع من صغار السباع إما بقوته كالإبل والخيل أو بجناحه كالطير أو بسرعته كالظباء أو بنابه كالفهد فلا يجوز التقاطه لما روى زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ضالة الإبل فقال : [ ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ] متفق عليه وللإمام أخذها ليحفظها لأربابها لأن للإمام ولاية في حفظ أموال المسلمين ولهذا كان لعمر حظيرة يحفظ فيها الضوال فإذا أخذها وكان له حمى ترعى فيه تركها وأشهد عليها ورسمها بسمة الضوال وإن لم يكن له حمى خلاها وحفظ صفاتها ثم باعها وحفظ ثمنها لصاحبها لأنها تحتاج إلى علف فربما استغرق ثمنها وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ضمنها ولم يملكها وإن عرفها فإن دفعها إلى الإمام برئ من ضمانها لأنه دفعها إلى من له الولاية عليها أشبه دفعها إلى صاحبها وإن ردها إلى موضعها لم يبرأ لأن ما لزمه ضمانه لا يبرأ منه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق
فصل :
النوع الثاني : ما لا ينحفظ من صغار السباع كالشاة وصغار الإبل والبقر ونحوها فعن أحمد رضي الله عنه : لا يجوز التقاطها لأنه روي عن النبي ( ص ) : [ لا يؤوي الضالة إلا ضال ] رواه أبو داود ولأنه حيوان أشبه الإبل والمذهب جواز التقاطها لما روى زيد بن خالد أن النبي ( ص ) سئل عن الشاة فقال : [ خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ] متفق عليه وهذا يخص عموم الحديث الآخر ولأنه يخشى عليها التلف أشبه غير الضالة وسواء وجدها في المصر أو في مهلكة لأن الحديث عام فيهما ولأنه مال يجوز التقاطه فاستويا فيه كالأثمان والعبد الصغير كالشاة في جواز التقاطه لأنه لا ينحفظ بنفسه فأما الحمر فألحقها أصحابنا في النوع الأول لأن لها قوة فأشبهت البقر وظاهر حديث زيد إلحاقها بالغنم لأنه علل أخذ الشاة بخشية الذئب عليها والحمر مثلها في ذلك وعلل المنع من الإبل بقوتها على ورود الماء وصبرها بقوله : [ معها سقاءها ] والحمر بخلافها ومتى التقط هذا النوع خير بين أكله في الحال وحفظه لصاحبه وبيعه وحفظ ثمنه لقول النبي ( ص ) : [ هي لك ] ولم يأمره بحفظها ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها فإن اختار إبقاءها وحفظها لصاحبها فهو الأولى متفق عليه وينفق عليها لأن به بقاءها فإن لم يفعل ضمنها لأنه فرط فيها وإن أنفق عليها متبرعا لم يرجع على صاحبها وإن نوى الرجوع على صاحبها وأشهد على ذلك ففي الرجوع به روايتان بناء على الوديعة وإن اختار أكلها أو بيعها لزمه حفظ صفتها ثم يعرفها عاما فإذا جاء صاحبها دفع إليه ثمنها أو غرمه له إن أكلها ولا يلزمه عزل ثمنها إذا أكلها لأنه لا يخرج من ذمته بعزله فلم يلزمه كسائر ما يلزمه ضمانه وإن أراد بيعها فله أن يتولى ذلك بنفسه لأن ما ملك أكله فبيعه أولى فإذا عرفها حولا ولم تعرف ملكها إن كانت باقية أو ثمنها إن باعها لأن حديث زيد يدل على ملكه لها لأنه أضاف إليها بلام التمليك ولأنه مال يجوز التقاطه فيملك بالتعريف كالأثمان وعنه : لا يملكها والمذهب الأول
فصل :
فإن التقط ما لا يبقى عاما كالبطيخ والطبيخ لم يجز تركه ليتلف فإن فعل ضمنه لأنه فرط في حفظه فإن كان مما لا يبقى بالتجفيف كالطبيخ خير بين بيعه وأكله وإن كان يبقى بالتجفيف كالعنب والرطب فعل ما فيه الحظ لصاحبه من بيعه وأكله وتجفيفه فإن احتاج في التجفيف إلى غرامة باع بعضه فيها وإن أنفقها من عنده رجع بها لأن النفقة هاهنا لا تتكرر بخلاف نفقة الحيوان فإنها تتكرر فربما استغرقت قيمته فلا يكون لصاحبها حظ في إمساكها إلا بإسقاط النفقة عنه وإن أراد بيعها فله البيع بنفسه لما ذكرنا في الضوال وعنه : له بيع اليسير وأما الكثير فإنه يرفعه إلى السلطان والقول في تعريفه وسائر أحكامه كالقول في الشاة
فصل :
قال أحمد رضي الله عنه : من اشترى سمكة فوجد في بطنها درة فهي للصياد وإن وجد دراهم فهي لقطة لأنها لا تبتلع الدراهم إلا بعد ثبوت اليد عليها وقد تبتلع درة من البحر مباحة فيملكها الصياد بما فيها فإن باعها ولم يعلم بالدرة لم يزل ملكه عن الدرة كما لو باع دارا له فيها مال لم يعلم به
فصل :
فإن وجد اللقطة اثنان فهي بينهما لأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في الحكم وإن ضاعت من واجدها فوجدها آخر ردها على الأول لأنه قد ثبت له الحق فيها فوجبر ردها إليه كالملك وإن رآها اثنان فرفعها أحدهما فهي له لقول النبي ( ص ) : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ] وإن رآها أحدهما فقال للآخر : ارفعها ففعل فهي لرافعها لأنه مما لا يصح التوكيل فيه
فصل :
فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه صح التقاطه لأنه كسب بفعل فصح منه كالصيد فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها لأنه أخذ ماله وإن تلفت بتفريط ضمنها ومتى علم وليه بها لزمه نفعها منه وتعريفها لأنه أمانة والمحجور عليه ليس من أهلها فإن تم تعريفها دخلت في ملك واجدها حكما كالميراث
فصل :
ويصح التقاط العبد بغي إذن سيده لعموم الخير ولما ذكرنا في الصبي ويصح تعريفه لها لأن له قولا صحيحا فصح تعريفه كالحر فإذا تم تعريفها ملكها سيده لأنها كسب عبده ولسيده انتزاعها منه قبل تعريفها لأن كسب عبده له ويتولى تعريفها أو إتمامه وله إقرارها في يد عبده الأمين ويكون مستعينا به في حفظها وتعريفها ولا يجوز إقراراها في يد من ليس بأمين لأنها أمانة وإن فعل فعليه الضمان وإن علم العبد أن سيده غير مأمون عليها لزمه سترها عنه وتسليمها إلى الحاكم ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان وإن أتلفها العبد فحكم ذلك حكم جنايته وإن عتق العبد بعد الالتقاط فلسيده أخذها لأنها كسبه
فصل :
والمكاتب كالحر لأن كسبه لنفسه والمدبر وأم الولد كالقن ومن نصفه حر فلقطته بينه وبين سيده ككسبه فإن كانت بينهما مهايأة لم تدخل في المهايأة في أحد الوجهين لأنهما من الأكساب النادرة فأشبهت الميراث والآخر تدخل لأنهما من كسبه فهي كصيده وفي الهدية والوصية وسائر الأكساب النادرة وجهان كاللقطة
فصل :
والذمي كالمسلم للخبز ولأنه كسب يصح من الصبي فصح من الذمي كالصيد والفاسق كالعدل لذلك لكن إن أعلم الحاكم بهما ضم إليه أمينا يحفظها ويتولى تعريفها لأنها أمانة فلا يؤمن خيانته فيها فإذا عرفها ملكها ملتقطها
فصل :
ومن التقط لقطة لغير التعريف ضمنها ولم يملكها وإن عرفها لأنه أخذها على وجه يحرم عليه فلم يملكها كالغاصب ومن ترك التعريف في الحول الأول لم يملكها وإن عرفها بعد لأن السبب الذي يملكها به قد فات ولم يبرأ منها إلا بتسليمها إلى الحاكم
فصل :
ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان فخلصها ملكها لما روى الشعبي قال : حدثني غير واحد عن أصحاب رسول الله ( ص ) أن رسول الله ( ص ) قال : [ من وجد دابة عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له ] ولأن فيه إنقاذ للحيوان من الهلاك مع نبذ صاحبه له فأشبه السنبل الساقط فإن كان مكانها عبدا لم يملكه لأنه في العادة يمكنه التخلص وإن كان متاعا لم يملكه لأنه لا حرمة له في نفسه
باب اللقيط
وهو الطفل المنبوذ والتقاطه فرض على الكفاية لأنه إنجاء آدمي من الهلاك فوجب كتخليص الغريق وهو محكوم بحريته لما روى سنين أبو جميلة قال : وجدت ملقوطا فأتيت به عمر رضي الله عنه فقال : اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته رواه سعيد في سننه ولأن الأصل في الآدميين الحرية ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها وإن وجد في بلد فيه كفار ولا مسلم فيه فهو كافر لأن الظاهر أنه ولد كافرين وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون ففيه وجهان :أحدهما : هو كافر لأه في دارهم
والثاني : هو مسلم تغليبا لإسلام المسلم الذي فيه
فصل :
وما يوجد عليه من ثياب أو حلي أو تحته من فراش أو سرير أو غيره أو في يده من نفقة أو عنان دابة أو مشدود في ثيابه أو ببعض جسده أو مجعولا فيه كدار وخيمة فهو له لأنه آدمي حر فما في يده له كالبالغ وإن كان مطروحا بعيدا منه أو قريبا مربوطا بغيره لم يكن له لأنه لا يد له عليه وكذلك المدفون تحته لأن البالغ لو جلس على دفين لم يكن له وقال ابن عقيل وإن كان الحفر طريا فهو له لأن الظاهر أنه حفر النابذ له وإن وجد بقربه مال موضوع ففيه وجهان :
أحدهما : هو له إن لم يكن له غيره لأن الإنسان يترك ماله بقربه
والثاني : ليس هو له لأنه لا يد له عليه
فصل :
وينفق عليه من ماله لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم لأنه ولي فملك ذلك كولي اليتيم ويستحب استئذانه لأنه أنفى للتهمة فإن بلغ واختلفا في النفقة فالقول قول المنفق وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال لقول عمر رضي الله عنه وعلينا نفقته ولأنه آدمي حر له حرمة فوجب على السلطان القيام به عند حاجته كالفقير وليس على الملتقط نفقته لحديث عمر ولأنه لا نسب بينهما ولا ملك فأشبه الأجنبي وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله الإنفاق عليه فرض كفاية لأن به بقاءه فوجب كإنقاذ الغريق فإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه ثم بان رقيقا أو له أب موسر رجع عليه لأنه أدى الواجب عنه فإن لم يظهر له أحد وفي من بيت المال
فصل :
فإن كان الملتقط أمينا حرا مسلما أقر في يده لحديث عمر رضي الله عنه ولأنه لا بد له من كافل والملتقط أحق للسبق وفي الإشهاد عليه وجهان :
أحدهما : لا يجب كما لا يجب في اللقطة
والثاني : يجب لأن القصد به حفظ النسب والحرية فوجب كالإشهاد في النكاح وإن التقطه فاسق نزع منه لأنه ليس في حفظه إلا الولاية ولا ولاية لفاسق قال القاضي : هذا المذهب وظاهر قول الخرقي أنه يقر في يده لقوله : إن لم يكن من وجد اللقيط أمينا منع من السفر به فعلى هذا يضم إليه أمين يشارفه ويشهد عليه ويشيع أمره لينحفظ بذلك وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه لأنه لا ولاية لكافر على مسلم فإن التقطه نزع منه وله التقاط المحكوم بكفره ويقر في يده لثبوت ولايته عليه وليس للعبد الالتقاط إلا بإذن سيده فتكون الولاية للسيد والعبد نائب عنه
فصل :
فإن أراد الملتقط السفر به وهو ممن لم تختبر أمانته في الباطن نزع منه لأنه ما لا يؤمن أن يدعي رقه وإن علمت أمانته باطنا فأراد نقله من الحضر إلى البدو منع منه لأنه ينقله إلى العيش في الشقاء ومواضع الجفاء وإن أراد النقلة إلى بلد آخر يقيم فيه ففيه وجهان :
أحدهما : يقر في يده لأنهما سواء فيما ذكرنا
والثاني : يمنع منه لأن بقاءه في بلده أرجى لظهور نسبه وإن كان اللقيط في بدو فله نقله إلى الحضر لأنه أرفق به وله الإقامة به في البدو وفي حلة لا تنتقل عن مكانها لأن الحلة كالقرية وإن كان متنقلا ففيه وجهان :
أحدهما : يقر في يده لأنه أرجى لكشف نسبه
والثاني : ينزع منه لأنه يشقى في التنقل
فصل :
فإن التقطه موسر ومعسر قدم الموسر لأنه أحظ للطفل فإن تساويا وتشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } ولأنهما تساويا في الحق فأقرع بينهما كالعبدين في العتق وإن ترك أحدهما نصيبه كلفه الآخر والرجل والمرأة في هذا سواء لأن المرأة أجنبية والرجل يحضنه بأجنبية فهما سواء
فصل :
فإن اختلفا في الملتقط وهو في يد أحدهما فالقول قوله وهل يستحلف ؟ فيه وجهان وإن كان في يديهما قدم أحدهما بالقرعة وهل يستحلف ؟ على وجهين وإن لم يكن في يد واحد منهما سلمه السلطان إلى من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا يد لأحدهما وإن كان لأحدهما بينة قضى بها لأنها أقوى فإن كانت لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخا لأنه يثبت بها السبق إلى الالتقاط وإن تساويا وهو في يد أحدهما انبنى على بينة الداخل والخارج وإن تساويا في اليد أو عدمها سقطتا وأقرع بينهما فقدم بها أحدهما
فصل :
وإن ادعى نسبه رجل لحق به لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه إلى أحد فقبل كما لو أقر له بمال ويأخذ من الملقط إن كان من أهل الكفالة لأن الوالد أحق بكفالة ولده وإن كان كافرا لم يتبعه في الدين لأنه محكوم بإسلامه بالدار فلا يزول ذلك بدعوى كافر ولا يدفع إليه لأنه لا ولاية لكافر على مسلم ويثبت نسبه منه لأن الكافر كالمسلم في ثبوت النسب منه ولا ضرر على أحد في انتسابه إليه وإن كانت له بينة بولادته على فراشه ألحق به نسبا ودينا لأنه ثبت أنه ابنه ببينة ذكره بعض أصحابنا وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين إلا أن تقوم البينة أنه ولد كافرين حيين لأن الطفل يحكم بإسلامه بإسلام أحد أبويه أو موته وإن ادعت المرأة نسبه ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : يقبل قولها لأنها أحد الأبوين فثبت النسب بدعواها كالأب ويلحق بها دون زوجها
والثنية : إن كان لها زوج لم تقبل دعواها لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها نسبا لم يقر به أو ينسب إليها ما تتعد به وإن لم يكن قبل لعدم ذلك
والثالثة : إن كان لها أخوة ونسب معروف لم تقبل دعوتها لأن ولادتها لا تخفى عليهم وإن لم يكن قبلت والأمة كالحرة إلا أننا إذا ألحقنا النسب بها لم يثبت رق ولدها لأنه محكوم بحريته فلا يثبت رقه بمجرد الدعوى كما لم يثبت كفره
فصل :
فإن ادعى نسبه رجلان ولأحدهما بينة فهو ولده لأن له حجة فإن كان لهما بينتان أو لا بينة لهما عرض على القافة معهما أو من عصبتهما عند فقدهما فإن ألحقته بأحدهما ألحق به لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : [ ألم تري أن مجززا المدلجي نظر أنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ] متفق عليه فلولا أن ذلك حق لما سر به النبي صلى الله عليه و سلم وإن ألحقته بهما لحقهما لما روى سليمان بن يسار : عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف : قد اشتركا فيه فجعله عمر بينهما رواه سعيد وعن علي مثله قال أحمد : ويرثهما ويرثانه ونسبه من الأول قائم لا يزيل شيء قال : ويلحق بثلاثة وينبغي أن يلحق بمن ألحقه منهم وإن كثروا لأن المعنى في الاثنين موجود فيما زاد فيقاس عليه وقال القاضي : لا يلحق بأكثر من ثلاثة وقال ابن حامد : لا يلحق بأكثر من اثنين لأننا صرنا إلى ذلك للأثر فيجب أن نقتصر عليه فإن لم توجد قافة أو أشكل عليهم أو نفته عنهما أو تعارضت أقوالهما فقال أبو بكر يضيع نسبه لأنه لا دليل لأحدهما فأشبه من لم يدع نسبه أحد وقال ابن حامد يترك حتى يبلغ ويؤاخذان بنفقته لأن كل واحد منهما مقر به فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأن الطبع يميل إلى الوالد ما لا يميل إلى غيره فإذا تعذرت القافة رجعنا إلى اختياره ولا يصح انتسابه قبل بلوغه لأنه قول يتعين له النسب وتلزم به الأحكام فلا يقبل من الصبي كقول القائف وسواء كان المدعيان مسلمين حرين أو كافرين رقيقين أو مسلما وكافرا وحرا وعبدا لأن كل واحد منهم لو انفرد صحت دعواه فإن ادعاه امرأتان وقلنا بصحة دعوتيهما فهما كالرجلين إلا أنه لا يلحق بأكثر من واحدة لأنه يستحيل ولد من أنثيين وإن كانت إحداهما تسمع دعواها دون الأخرى فهي كالمنفردة به وإن ألحقته القافة بكافر وأمة لم يحكم برقه ولا كفره لأنه ثبت إسلامه وحريته بظاهر الدار فلا يزول ذلك بظن لا شبهة كما لم تزل بمجرد الدعوة
فصل :
فإن كان لامرأتين وابن وبنت فادعت كل واحدة أنها أم الابن احتمل أن يعرض معهما على القافة واحتمل أن يعرض لبنهما على أهل الخبرة فمن كان لبنها لبن ابن فهو ابنها وقد قيل : إن لبن الابن ثقيل ولبن البنت خفيف فيعتبر ذلك
فصل :
و القافة : قوم من العرب عرفت منهم الإصابة في معرفة الأنساب واشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز وسراقة بن مالك بن جعشم ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرا عدلا مجربا في الإصابة لأن ذلك يجري مجرى الحكم فاعتبر ذلك فيه قال القاضي : يترك الغلام مع عشرة غير مدعيه ويرى القائف فإن ألحقه بأحدهم سقط قوله وإن نفاه عنهم جعلناه مع عشرين فيهم مدعيه فإن ألحقه بمدعيه علمت إصابته وهل يكتفى بواحد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يكتفى به لأن النبي صلى الله عليه و سلم سر بقول مجزز وحده لأنه بمنزلة الحاكم يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ويحكم
والثاني : لا يقبل إلا اثنان لأنه حكم بالشبهة والخلقة فلا يقبل من واحد كالحكم بالمثل في جزاء الصيد
فصل :
فإن ادعى رجل رقه لم يقبل لأن الأصل الحرية فإن شهدت هل بينة بالملك قبلت وإن لم يذكر السبب كما لو شهدت له بملك مال وإن شهدت باليد للملتقط لم يحكم له بالملك لأن سبب يده قد علم وإن شهدت بها لغيره ثبت والقول قوله في الملك مع يمينه كما لو كان في يده مال فحلف عليه
فصل :
ومن حكمنا بإسلامه لإسلام أحد أبويه أو موته أو إسلام سابيه فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ أو بعده وإن كفر بعد بلوغه فهو مرتد يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل لأنه محكوم بإسلامه يقينا فأشبه غيره من المسلمين ومن حكمنا بإسلامه للدار وهو اللقيط فكذلك لأنه محكوم بإسلامه ظاهرا فهو كالثابت يقينا وذكر القاضي وجها آخر : أنه يقر على كفره لأنه لم يثبت إسلامه يقينا
فصل :
فإن بلغ اللقيط فقذف إنسان أو جنى عليه أو ادعى رقه فكذبه اللقيط فالقول قول اللقيط لأنه حر في الحكم ويحتمل أن يقبل قول المدعي في درء حد القذف خاصة لأنه مما يدرأ بالشبهات بخلاف القصاص
فصل :
وإن بلغ فتصرف ثم ثبت رقه فحكم تصرفه حكم تصرف العبيد لأنه ثبت أنه مملوك وإن أقر بالرق على نفسه بعد أن كان أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق لأنه قد لزمه بالحرية أحكام من العبادات والمعاملات فلم يملك إسقاطها وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية وكذبه المقر له بطل إقراره لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه فإن أقر بعده لغيره قبل كما لو أقر له بمال ويحتمل أن لا يقبل لأن في إقراره الأول اعترافا بأنه ليس لغيره فلم يقبل رجوعه عنه كما لا يقبل رجوعه عن الحرية وإن صدقه الأول ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل لأنه محكوم بحريته فلا يقبل إقراره بما يبطلها كما لو أقر بها
والثاني : يقبل لأنه مجهول الحال أقر بالرق فقبل كما لو قدم رجلان من دار الحرب فأقر أحدهما لصاحبه بالرق فعلى هذا يحتمل أن يقبل إقراره في جميع أحكامه لأنه معنى يثبت الرق فأثبته في جميع أحكامه كالبينة ويحتمل أن يقبل فيما عليه دون ما له لأنه أقر بما يوجب حقا له وعليه فيثبت ما عليه دون ما له كما لو قال : لفلان علي ألف على رهن لي عنده فإن قلنا بالأول وكان قد نكح فهو فاسد حكمه حكم ما لو تزوج العبد أو الأمة بغير إذن سيده وإن تصرف بغير النكاح فسدت عقوده كلها وترد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية وإن كانت تالفة ثبتت قيمتها في ذمته لأنها ثبتت برضى أصحابها وإن قلنا : لا يقبل في ما له وهي أمة فنكاحها صحيح ولا مهر لها إن كان قبل الدخول وإن كان بعده فلها الأقل من المسمى أو مهر المثل ولزوجها الخيار بين المقام معها على أنها أمة أو فراقها إن كانت ممن يجوز له نكاح الأمة لأنه قد ثبت كونها أمة في المستقبل وإن كان المقر ذكرا فسد نكاحه لإقراره أنه عبد نكح بغير إذن سيده وحكمه حكم الحر في وجوب المسمى أو نصفه إن كان قبل الدخول ولا تبطل عقوده وما عليه من الحقوق والأثمان يؤدى مما في يده وما فضل ففي ذمته وما فضل معه فلسيده وإن جنى جناية توجب القصاص اقتص منه حرا كان المجني عليه أو عبدا وإن كان خطأ تعلق أرشها برقبته لأنه عبد وإن جنى عليه حر فلا قود لأنه عبد
باب العارية
وهي هبة المنافع هي مندوب إليها لقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ولأن فيها عونا أخيه المسلم وقضاء حاجته الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم استعار من أبي طلحة فرسا فركبها واستعار من صفوان بن أمية أدراعا ] رواه أبو داود وسئل عن حق الإبل فقال : [ إعارة دلوها وإطراق فحلها ] فثبتت إعارة ذلك بالخبر وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه فيجوز إعارة الفحل للضراب للخبر والكلب للصيد قياسا عليهفصل
ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز أن يستخدمه ولا الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منه على وجه يفضي إلى خلوته بها لأنها لا يؤمن عليها فإن كانت شوهاء أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس لأنها يؤمن عليها ويكره استعارة والدية للخدمة لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما لذلك
فصل
فإن قبض العين ضمنها لما روى صفوان بن أمية : أن النبي صلى الله عليه و سلم استعار منه أدراعا يوم حنين فقال أغصبا يا محمد ؟ قال : [ بل عارية مضمونة ] وروي [ مؤداة ] رواه أبو داود ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه لا للوثيقة فضمنه كالمغصوب وعليه مؤنة ردها لذلك فإن شرط نفي الضمان لم ينتف لأن ما يضمن لا ينتفى بالشرط وقال أبو حفص العكبري : يبرأ لأن الضمان حقه فسقط بإسقاطه كالوديعة التي تعدى فيها فإن استخلق الثوب أو نقصت قيمتها لم يضمن لأنه مأذون فيه لدخوله فيما هو من ضرورته ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون بدليل أنه لو ردها لم يضمنه فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كحمل المنشفة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يضمنه لما ذكرنا
والثاني : يضمنه لأنه من أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها وإن تلف ولد العارية ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه لأنه تابع لما يجب ضمانه فيجب ضمانه كولد المغصوب
والثاني : لا يضمن لأنه لم يدخل في العارية فلم يدخل في الضمان بخلاف المغصوب فإن ولدها داخل في الغصب
فصل
والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وعليه ردها إلى المعير أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها فإن ردها إلى غيرهما أو دار المالك أو اصطبله لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده لم يبرأ برده إلى ذلك كالمغصوب
فصل
ومن استعار شيئا فله استيفاء نفعه بنفسه ووكيله لأنه نائب عنه وليس له أن يعيره لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره كإباحة الطعام فإن أعاره فتلف عند الثاني فللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الثاني لأنه قبضه على أنه ضامن له وتلف في يده فاستقر الضمان عليه كالغاصب من الغاصب
فصل
وتجوز العارية مطلقة ومعينة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام فإن أطلقها فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له فإن كانت أرضا فله أن يبني ويغرس ويزرع لأنها تصلح لذلك كله وإن عين نفعا فله أن يستوفيه ومثله ودونه وليس له استيفاء أكثر منه على ما ذكرنا في الإجارة
فصل
وتجوز مطلقة ومؤقتة فإن أعارها لغراس سنة لم يملك للغرس بعدها فإن غرس بعدها فحكمه حكم غرس الغاصب لأنه بغير إذنه وإن رجع قبل السنة لم يملك الغرس بعد الرجوع لأن الإذن قد زال فأما ما غرسه بالإذن فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون على شروطهم ] حديث حسن صحيح وإن شرط عليه تسوية الحفر لزمه للخبر وإلا لم يلزمه لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع ولم يشترط تسويتها وإن لم يشترط عليه قلعه لكن لا تنقص قيمته بقلعه لزم قلعه لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب وإن نقصت قيمته بالقلع فاختاره المستعير فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله وعليه تسوية الأرض لأن القلع باختياره لو امتنع منه لم يجبر عليه لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية كالمشتري مع الشفيع إذا أخذ غرسه وقال القاضي : لا تلزمه التسوية لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه وإن أبى قلعه فبذل المير قيمته ليملكه أجبر على قبولها لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه الشفيع مع المشتري ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه لم يجبر المعير عله لأن الغرس يتبع الأرض في الملك بخلاف الأرض فإنها لا تتبع للغرس فإن بذلك المعير أرش النقص الحاصل بالقلع أجبر المستعير على قبوله لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإم لم يبذل القيمة ولا أرش النقص وامتنع المستعير من القلع لم يقلع لأنه إذن له فيما يتأبد فلم يملك الرجوع على وجه يضر به كما لو أذن له في وضع خشبة على حائطه ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة لأن بقاء غرسه بحكم العارية وهي انتفاع بغير أجرة كالخشب على الحائط وذكروا في الرزع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع لأنه لا لملك الانتفاع بأرض غيره بعد الرجوع بغير أجرة وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع وللمعير دخول أرضه كيف شاء لأن بياضها له لا حق للمستعير فيها وللمستعير دخولها للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن بما يعود في صلاحه وأخذ الثمرة وليس له دخلوها للتفرج ونحوه ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه كالشقص المشفوع
فصل
وإن رجع في العارية وفي الأرض زرع مما يحصد قصيلا حصده لأنه أمكن الرجوع من غير إضرار وإن لم يمكن لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيها ففيه وجهان :
أحدهما : حكمه حكم العارية لأنه بغير تغريط من ربه إلا أن عليه أجرة الأرض لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرش إنسان بغير إذنه من غير أجرة فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير وقال القاضي : ليس عليه أجرة لأنه حصل بغير تفريطه أشبه مبيت بهيمته في دار غيره
والثاني : حكمه حكم الغصب لأنه حصل في ملكه بغير إذنه
فصل
وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه لم يكن له الرجوع ما دام الخشب على الحائط لأن هذا يراد للبقاء وليس له الإضرار بالمستعير فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه لم يكن له لأن معظمه في ملك صاحبه فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط لم يجز رده إلا بإذن مستأنف لأن الإذن تناول الوضع الأول فلا يتعدى إلى غيره وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت جاز إعادتها لأن الظاهر أنها بحق ثابت وإن استعار سفينة فحمل متاعه فيها لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي وإن أعاره أرضا للدفن لم يملك الرجوع فيه ما لم يبل الميت لما ذكرنا
فصل
وإن استعار شيئا يرهنه مده معلومة على دين معلوم صح لأنه نوع انتفاع فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع فإن عين فخالفه فالرهن باطل لأنه رهنه بغير إذن مالكه وإن أذن له في رهنه بمائة فرهنه بأقل منها صح لأن من أذن في شيء فقد أذن في بعضه وإن رهنه أكثر منها بطل في الكل في أحد الوجهين لأنه مخالف أشبه ما لو خالف في الجنس وفي الآخر : يصح في المأذون ويبطل في الزائد كتفريق الصفقة
وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال سواء أجله أو أطلق لأن العارية لا تلزم وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفى الدين من ثمنه لأن هذا مقتضى الرهن ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليا لأن العارية مضمونة بذلك ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها وإن بيع بأكثر من قيمته رجع به لأن ثمن العين ملك لصاحبها وقيل : لا يرجع بالزيادة وإن تلف في يد المرتهن رجع العير على المستعير ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى وإلا فلا
فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن رجع عليه وإن كان بغير إذنه متبرعا لم يرجع وإن قضاه محتسبا بالرجوع ففيه روايتان بناء على قضاء دينه بغير إذنه
فصل
إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال : أعرتنيها فقال : بل أجرتكها عقيب العقد والدابة قائمة فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة ملكه إلى غيره فأشبه ما لو اختلفا في العين فقال : وهبتنيها وقال : بل بعتكها فيحلف المالك ويجب له المسمى في أحد الوجهين لأنه ادعاه وحلف عليه والآخر : تجب أجرة المثل لأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة لم يجب أكثر من أجرة المثل فمع الاختلاف أولى وإن قال : أكريتنيها قال : بل أعرتكها بعد تلفها أو قبله فالقول قول المالك مع يمينه لأنهما اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان لقوله عليه السلام : [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] حديث حسن والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه وإن قال : غصبتنيها قال : بل أعرتنيها أو أكريتنيها فالقول قول المالك لذلك ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو الكراء والمالك ينكر ذلك والأصل معه
باب الوديعة
قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما وإن كان عاجزا عن حفظها أو خائفا من نفسه عليها لم يجز له قبولها لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه فإن الحق له فيجوز بذله ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال فإن استودع من صبي غير مأذون له فيجوز بذله ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال فإن استودع من صبي غير مأذون له أو سفيه أو مجنون ضمن لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه كما لو غصبه إياه فإن خاف أنه إن لم يأخذ منهم أتلفوه لم يضمنه إن أخذه لأنه قصد تخليصه من الهلاك فلم يضمنه كما لو وجده في سيل فأخرجه منهفصل :
والوديعة أمانة إذا أتلفت من غير تفريط لم يضمن المودع بالإجماع لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على المستودع ضمان ] فإن تلف من بين ماله ففيها روايتان أظهرهما لا يضمن للخبر ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة فلم يضمن كما لو ذهب معها شيء من ماله والأخرى : يضمن لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضمن أنسا وديعة ذهبت بين ماله
فصل :
فإن لم يعين لها صاحبها الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها فإن أخر إحرازها فتلفت ضمنها لتركه الحفظ من غير عذر وإن تركها في دون حرز مثلها ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإذا أطلق حمل على المتعارف وهو حرز المثل وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه
فصل :
فإن عين له الحرز فقال : أحرزها في هذا البيت فتركها فيما دونه ضمن لأنه لم يرضه وإن تركها في مثله أو أحرز منه فقال القاضي : لا يضمن لأن من رضي شيئا رضي مثله وفوقه وظاهر كلام الخرقي : أنه يضمن لأنه خالف أمره لغير حاجته فأشبه ما لو نهاه فإن قال : احفظها في هذا البيت ولا تنقلها عنه فنقلها لغير حاجة ضمنها سواء نقلها إلى مثله أو أحرز منه لأنه خالف نص صاحبها وإن خاف عليها نهبا أو هلاكا وأخرجها لم يضمنها لأن النهي للاحتياط عليها والاحتياط في هذا الحال نقلها فإن تركها فتلفت ضمنها لأنه فرط في تركها ويحتمل أن لا يضمن لأنه امتثال أمر صاحبها فإن قال : لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها لخوفه عليها لم يضمن لأنه زاده خيرا وإن تركها فتلفت لم يضمن لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء من الضمان فأشبه ما لو أمره بإتلافها فأتلفها فإن أخرجها فتلفت فادعى أنني أخرجتها خوفا عليها فعليه البينة على ما ادعى وجوده من تلك الناحية لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه ثم القول قوله في خوفه عليها وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليها فإن قال : لا تقفل عليها قفلين ولا تنم فوقها فخالفه فالمذهب أنه لا يضمن لأنه زاد في الحرز فأشبه ما لو قال له : اتركها في صحن الدار فتركها في البيت ويحتمل أن يضمن لأنه نبه اللص عليها وأغراه بها
فصل :
فإن أودع نفقة فربطها في كمه لم يضمن وإن تركها فيها بغير رباط وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ضمن لتفريطه وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمن وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده لم يضمنها لأن العادة جارية بالإحراز بهما وإن قال : اربطها في كمك فأمسكها في يده ضمن لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان ويحتمل أن لا يضمن لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط وقال القاضي : اليد أحرز عند المغالبة والكم أحرز عند غيرها فإن تركها في يده عند المغالبة فلا ضمان عليه لأنه زادها احتياطا وإلا ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمره به وهذا صحيح وإن قال : اجعلها في كمك فتركها في جيبه لم يضمن لأنه أحرز لأنه ربما نسي فسقطت من الكم وإن قال : اجعلها في جيبك فتركها في كمه ضمن وإن قال : اتركها في بيتك فشدها في ثيابه واخرجها معه ضمن لأن البيت أحرز وإن شدها على عضده مما يلي جنبه لم يضمن لأنه أحرز من البيت فإن شدها مما يلي الجانب الآخر ضمن لأن البيت أحرز منه ولأنه ربما يبطها الطرار وإن قال : احفظها في البيت ودفعها إليه في غيره فمضى بها إليه في الحال لم يضمن وإن قعد وتوانى ضمنها لأنه توانى عن حفظها فيما أمر به مع الإمكان فإن قال : احفظ هذا الخاتم في البنصر فجعله في الخنصر ضمن لأنه دون البنصر فالخاتم فيها أسرع إلى الوقوع وإن جعله في الوسطى وأمكن إدخاله في جميعها لم يضمن لأنها أغلظ فهي أحفظ وإن انكسر أو بقي في رأسها ضمن لتعديه فيه وإن قال : لا تدخل أحدا البيت الذي فيه الوديعة فخالفه فسرقت ضمن لأن الداخل ربما دل السارق عليها
فصل :
وإذا أراد المودع السفر أو عجز عن حفظها ردها على صاحبها أو وكيله ولم يجز دفعها إلى الحاكم لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر فإذا سافر بها في طريق مخوف أو إلى بلد مخوف أو نهاه المالك عن السفر بها ضمن لأنه مفرط أو مخالف وإن لم يكن كذلك لم يضمن لأنه نقلها إلى موضع مأمون أشبه ما لو نقلها في البلد وإن لم يرد السفر بها ولم يجد مالكها دفعها إلى الحاكم لأنه متبرع بالحفظ فلا يلزمه ذلك في الدوام والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ضمنها لأنه كصاحبها عند غيبته وإن لم يجد حاكما أودعها ثقة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن ولأنه موضع الحاجة
وعنه : يضمن قال القاضي : يعني إن أودعها من غير حاجة فإن دفنها في الدار وأعلم بها ثقة يده على المكان فهو كإيداعها إياه وإن لم يعلم بها أحد فقد فرط لأنه لا يأمن الموت في سفره وإن أعلم بها من لا يد له على المكان فكذلك لأنه ما أودعها وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها لأنه عرضها للذهاب وإن حضره الموت فهو كسفره لأنه يعجز عن حفظها
فصل :
ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره فإن فعل فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال فله تضمين أيهما شاء لأنهما متعديان ويستقر ضمانها على الثاني لأن التلف حصل عنده وقد دخل على أنه يضمن وإن لم يعلم الحال فقال القاضي : يضمن أيهما شاء ويستقر ضمانها على الأول لأن الثاني يدخل على أنه أمين وظاهر كلام أحمد أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله كزوجته وأمته وخازنه لم يضمن لأنه حفظها بما يحفظ به ماله فأشبه حفظها بنفسه وإن استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز وسقي الدابة وعلفها لم يضمن لأن العادة جارية بذلك أشبه فعله بنفسه
فصل :
وإن خلطها بما لا تتميز منه ضمنها لأنه لا يمكنه رد أعيانه وإن خلطها بما تتميز منه كصحاح بمكسرة وسود ببيض لم يضمن لأنها تتميز من ماله أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه وعنه فيمن خلط بيضا بسود : يضمن وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض فيضمنها لذلك وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية : أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد أو كسر الختم ضمن ما فيه لأنه هتك الحرز لغير عذر فإن كانت من غير وعاء فأخذ منها درهما ضمنه وحده لأنه تعدى فيه وحده فإن رده إليها لم يزل ضمانه لأنه ثبت بتعديه فيه فلم يزل إلا برده إلى مالكه وإن رد بدله وكان متميزا لم يضمن غيره لذلك وإن لم يتميز ضمن الكل لخلطه الوديعة بما لا يتميز وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره لأنه لا يعجز عن ردها ورد ما يلزمه رده معها ومن لزمه الضمان بتعديه فترك التعدي لم يبرأ من ضمانها لأن الضمان تعلق بذمته فلم يبرأ بترك التعدي كما لو غصب شيئا من داره ثم رده إليها وإن ردها إلى صاحبها ثم ردها صاحبها إليه برئ لأن هذا وديعة ثانية وإن أبرأه من الضمان برئ لأن الضمان حقه فبرئ منه بإبرائه كدينه
فصل :
فإن أودع بهيمة فلم يعلفها ولم يسقها حتى ماتت ضمنها لأن في ذلك هلاكها فأشبه ما لو لم يحرزها وإن نهاه المالك عنه فتركه أثم لحرمة الحيوان ولم يضمن لأن مالكها أذن في إتلافها فأشبه ما لو أمره بقتلها والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة لأنها أمانة مثلها
فصل :
وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة لم يضمن لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد وإن نوى جحد الوديعة أو إمساكها لنفسه أو التعدي فيها ولم يفعل لم يضمن لأن النية المجردة معفو عنها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به ] رواه البخاري و مسلم بمعناه
وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأن تصرف فيها بما ينفي مقتضاها فضمنها كما لو أحرزها من غير حرزها إن أخذت منه قهرا لم يضمن لأنه غير مفرط أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى وإن أكره حتى سلمها لم يضمن لأنه مكره أشبه الأول
فصل :
وإن طولب في الوديعة فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدمها وإن أقر بها وادعى ردها أو تلفها بأمر خفي قبل قوله مع يمينه لأن قبضها لنفع مالكها وإن كان بأمر ظاهر فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية ثم القول قوله مع يمينه
فصل :
وإن طالبه برد الوديعة فأخره لعذر لم يضمن لأنه لا تفريط من جهته وإن أخره لغير عذر ضمنها لتفريطه ومؤنة ردها على مالكها لأن الإيداع لحظة
باب العارية
وهي هبة المنافع وهي مندوب إليها لقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ولأن فيها عونا لأخيه المسلم وقضاء حاجته ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها ( لأن النبي صلى الله عليه و سلم استعار من أبي طلحة فرسا فركبها واستعار من صفون بن أمية أدراعا ) رواه أبو داود وسئل عن حق الإبل فقال : [ إعارة دلوها وإطراق فحلها ] فثبتت إعارة ذلك بالخبر وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه فيجوز إعارة الفحل للضراب للخبر والكلب للصيد قياسا عليهفصل :
ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز أن يستخدمه ولا الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها لأنه لا يؤمن عليها فإن كانت شوهاء أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس لأنه يؤمن عليها ويكره الاستعارة والدية للخدمة لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما كذلك
فصل :
فإن قبض العين ضمنها لما روى صفوان بن أمية : أن النبي صلى الله عليه و سلم استعار منه أدراعا يوم حنين فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : [ بل عارية مضمونة ] وروي مؤادة رواه أبو داود ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه لا للوثيقة فضمنه كالمغصوب وعليه مؤنة ردها لذلك فإن شرط نفي الضمان لم ينتف لأن ما يضمن لا ينتفى بالشرط وقال أبو حفص العكبري : يبرأ لأن الضمان حقه فسقط بإسقاطه كالوديعة التي تعدى فيها فإن استخلف الثوب أو نقصت قيمتها لم يضمن لأنه مأذون فيه لدخوله فيما هو من ضرورته ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون بدليل أنه لو ردها لم يضمنه فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كحمل المنشفة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يضمنه لما ذكرنا
والثاني : يضمنه لأنه من أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها وإن تلف ولد العارية ففيه وجهان :
أحدهما : يضمنه لأنه تابع لما يجب ضمانه فيجب ضمانه كولد المغصوب
والثاني : لا يضمن لأنه لم يدخل في العارية فلم يدخل في الضمان بخلاف المغصوب فإن ولدها داخل في الغصب
فصل :
والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وعليه ردها إلى المعير أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها فإن ردها إلى غيرهما أو دار المالك أو اصطبله لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده لم يبرأ برده إلى ذلك كالمغصوب
فصل :
ومن استعار شيئا فله استيفاء نفعه بنفسه ووكيله لأنه نائب عنه وليس له أن يعيره لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره كإباحة الطعام فإن أعاره فتلف عند الثاني فللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الثاني لأنه قبضه على أنه ضامن له وتلف في يده فاستقر الضمان عليه كالغاصب من الغاصب
فصل :
وتجوز العارية مطلقة ومعينة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام فإن أطلقها فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له فإن كانت أرضا فله أن يبني ويغرس ويزرع لأنها تصلح لذلك كله وإن عين نفعا فله أن يستوفيه ومثله ودونه وليس له استيفاء أكثر منه على ما ذكرنا في الإجارة
فصل :
وتجوز مطلقة ومؤقتة فإن أعارها لغراس سنة لم يملك للغرس بعدها فإن غرس بعدها فحكمه حكم غرس الغاصب لأنه بغير إذنه وإن رجع قبل السنة لم يملك الغرس بعد الرجوع لأن الإذن قد زال فأما ما غرسه بالإذن فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون على شروطهم ] حديث حسن صحيح وإن شرط عليه تسوية الحفر لزمه للخبر وإلا لم يلزمه لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع ولم يشترط تسويتها وإن لم يشترط عليه قلعه لكن لا تنقص قيمته بقلعه لزم قلعه لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب وإن نقصت قيمته بالقلع فاختار المستعير فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله وعليه تسوية الأرض لأن القلع باختياره لو امتنع منه لم يجبر عليه لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية كالمشتري مع الشفيع إذا أخذ غرسه وقال القاضي : لا تلزمه التسوية لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه أجبر على قبولها لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه الشفيع مع المشتري ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه لم يجبر المعير عليه لأن الغرس يتبع الأرض في الملك بخلاف الأرض فإنها لا تتبع للغرس فإن بذل المعير أرش النقص الحاصل بالقلع أجبر المستعير على قبوله لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن لم يبذل القيمة ولا أرش النقص وامتنع المستعير من القلع لم يقلع لأنه إذن له فيما يتأبد فلم يملك الرجوع على وجه يضر به كما لو أذن له في وضع خشبة على حائطه ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة لأن بقاء غرسه بحكم العارية وهي انتفاع بغير أجرة كالخشب على الحائط وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع لأنه لا يملك الانتفاع بأرض غيره بعد الرجوع بغير أجرة وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع وللمعير دخول أرضه كيف شاء لأن بياضها له لا حق للمستعير فيها وللمستعير دخولها للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن بما يعود في صلاحه وأخذ الثمرة وليس له دخولها للتفرج ونحوه ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه كالشقص المشفوع
فصل :
وإن رجع في العارية وفي الأرض زرع مما يحصد قصيلا حصده لأنه أمكن الرجوع من غير إضرار وإن لم يكن لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيه ففيه وجهان :
أحدهما : حكمه حكم العارية لأنه بغير تفريط من ربه إلا أن عليه أجرة الأرض لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرش إنسان بغير إذنه من غير أجرة فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير وقال القاضي : ليس عليه أجرة لأنه حصل بغير تفريطه أشبه مبيت بهيمته في دار غيره
والثاني : حكمه حكم الغصب لأنه حصل في ملكه بغير إذنه
فصل :
وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه لم يكن له الرجوع ما دام الخشب على الحائط لأن هذا يراد لبقاء وليس له الإضرار بالمستعير فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه لم يكن له لأن معظمه في ملك صاحبه فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط لم يجز رده إلا بإذن مستأنف لأن الإذن تناول الوضع الأول فلا يتعدى إلى غيره وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت جاز إعادتها لأن الظاهر أنها بحق ثابت وإن استعار سفينة فحمل متاعه فيها لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي و إن أعاره أرضا للدفن لم يملك الرجوع فيها ما لم يبل الميت لما ذكرنا
فصل :
وإن استعار شيئا يرهنه مدة معلومة على دين معلوم صح لأنه نوع انتفاع فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع فإن عين فخالفه فالرهن باطل لأنه رهنه بغير إذن مالكه وإن أذن له في رهنه بمائة فرهنه بأقل منها بطل في الكل في أحد الوجهين لأنه مخالف أشبه ما لو خالف في الجنس وفي الآخر : يصح في المأذون ويبطل في الزائد كتفريق الصفقة
وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال سواء أجله أو أطلق لأن العارية لا تلزم وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفى الدين من ثمنه لأن هذا مقتضى الرهن ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليا لأن العارية مضمونة بذلك ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها وإن بيع بأكثر من قيمته رجع به لأن ثمن العين ملك لصاحبها وقيل : لا يرجع بالزيادة وإن تلف في يد المرتهن رجع المعير على المستعير ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى وإلا فلا
فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن رجع عليه وإن كان بغير إذنه متبرعا لم يرجع وإن قضاه محتبسا بالرجوع ففيه روايتان بناء على قضاء دينه بغير إذنه
فصل :
إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال : أعرتنيها فقال : بل أجرتكها عقيب العقد والدابة قائمة فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة فالقول قول المالك لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره فأشبه ما لو اختلفا في العين فقال : وهبتنيها وقال : بل بعتكها فيحلف المالك ويجب له المسمى في أحد الوجهين لأنه ادعاه وحلف عليه والآخر تجب أجرة المثل لأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة لم يجب أكثر من أجرة المثل فمع الاختلاف أولى وإن قال : أكريتنيها قال : بل أعرتكها بعد تلفها أو قبله فالقول قول المالك مع يمينه لأنهما اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان لقوله عليه السلام : [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] حديث حسن والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه وإن قال : غصبتنيها قال : بل أعرتنيها أو أكريتنيها فالقول قول المالك لذلك ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو الكراء و المالك ينكر ذلك والأصل معه
باب الغصب
وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق وهو محرم بالإجماع وقد روى جابر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يوم النحر : [ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ] رواه مسلم ومن غصب شيئا لزمه رده لما روى سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمنها لأن حق المالك في العين وهي باقية لم تتغير صفتها فلا حق له في القيمة مع بقاء العين وإن نقصت القيمة لنقص المغصوب نقصا مستقرا كثوب استخلق أو تخرق وإناء تكسر أو تشقق وشاة ذبحت وحنطة طحنت فعليه رده وأرش نقصه لأنه نقص عين نقصت به القيمة فوجب ضمانه كذراع من الثوب وإن طالب المالك ببدله لم يملك ذلك لأن عين ماله باق فلم يملك المطالبة ببدله كما لو قطع من الثوب جزءا وإن كان النقص غير مستقر كطعام ابتل أو عفن فله بدله في قول القاضي لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف وقال أبو الخطاب : يخير بين ذلك وبين تركه حتى يستقر فيه الفساد ويأخذه مع أرشه لأن عين ماله باقية فلا يمنع من أخذها مع أرشها كالثوب الذي تخرقفصل :
فإن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه كنقصه لكبر أو مرض أو شجة دون الموضحة ففيه ما نقص مع الرد لذلك وإن كان أرشه مقدرا كذهاب يده فكذلك في إحدى الروايتين لأنه ضمان مال أشبه ضمان البهيمة والأخرى : يرده وما يجب بالجناية لأنه ضمان في الرقيق فوجب فيه المقدر كضمان الجناية فإن قطع الغاصب يده فعلى هذه الرواية الواجب نصف قيمته كغير المغصوب وعلى الأولى عليه أكثر الأمرين من نصف قيمته أو قدر نصفه لأنه قد وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضمانا وإن غصب عبدا فقطع أجنبي يده فللمالك تضمين أيهما شاء فعلى الأولى : إن ضمن الغاصب ضمنه أكثر الأمرين ويرجع الغاصب على القاطع بنصف قيمته لا غير لأن ضمانه ضمان الجناية وإن ضمن الجاني ضمنه نصف القيمة وطالب الغاصب بتمام النقص وعلى الثانية : يطالب أيهما شاء ويستقر الضمان على القاطع لأنه المتلف فيكون الرجوع عليه
فصل :
وروي عن أحمد فيمن قلع عين فرس : أنه يضمنها بربع قيمتها لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه والصحيح أن يضمنها بنقصها لأنها بهيمة فلم يكن فيها مقدر كسائر البهائم أو كسائر أعضائها ويحمل ما روي عن عمر رضي الله عنه على أن عين الدابة التي قضى فيها نقصها ربع القيمة ولو غصب دابة قيمتها مائة فزادت فصارت قيمتها ألفا ثم جنى عليها جناية نقصت نصف قيمتها لزمه خمسمائة لأن الواجب قيمة ما أتلف يوم التلف وقد فوت نصفها فضمن خمسمائة
فصل :
فإن نقصت العين دون القيمة وكان الذاهب يضمن بمقدر كعبد خصاه وزيت أغلاه فذهب نصفه ولم تنقص قيمته فعليه قيمة العبد ومثل ما نقص من الزيت مع ردهما لأن الواجب فيهما مقدر بذلك فإن لم يكن مقدرا كعبد سمين هزل فلم تنقص قيمته لم يلزمه أرش هزاله لأن الواجب فيه ما نقص من القيمة ولم تنقص فإن أغلى عصيرا فنقص فهو كالزيت لأنه في معناه ويحتمل أنه لا يضمن لأن الغليان عقد أجزائه وجمعها وأذهب مائيته فقط بخلاف الزيت فإن نقصت عينه وقيمته فعليه مثل ما نقص من العين وأرش نقص الباقي في العصير والزيت لأن كل واحد من النقصين مضمون منفرد فكذلك إذا اجتمعا ولو شق ثوبا ينقصه الشق نصفين ثم تلف أحدهما رد الباقي وتمام قيمة الثوب قبل قطعه وإن غصب خفين فتلف أحدهما فكذلك في أحد الوجهين لأن نقص الباقي بسبب تعديه والآخر لا يلزمه إلا رد الباقي وقيمة التالف لأنه لم يتلف إلا أحدهما
فصل :
إذا غصب عبدا مرض أو ابيضت عينه ثم برئ لم يلزمه إلا رده لأن نقصه زال فأشبه ما لو انقلعت سنه ثم عادت وإن هزل ثم سمن أو نسي صناعته ثم علمها فكذلك في أحد الوجهين لأن نقصه زال فأشبهت التي قبلها والآخر : يضمن النقص لأن السن الثاني غير الأول فلا يسقط به ما وجب بزوال الأول فعلى هذا الوجه لو سمن ثم هزل ضمنهما معا لأن الثاني غير الأول وعلى الوجه الأول يضمن أكثر السمنين قيمة لأن عود السمن أسقط ما قابله من الأرش فإن كانت الزيادة الثانية من غير جنس الأولى كعبد هزل فنقصت قيمته ثم تعلم فعادت قيمته ضمن الأولى لأن الثانية من غير جنس الأولى فلا تنجبر بها وإن نسي الصناعة أيضا ضمن النقصين جميعا لما ذكرنا
فصل :
فإن جنى العبد المغصوب لزم الغاصب ما يستوفي من جنايته لأنه بسبب كان في يده وإن أقيد منه في الطرف فحكمه حكم ذهابه بفعل الله تعالى لكونه ضمانا وجب باليد لا بالجناية فإن القطع قصاصا ليس بجناية وأن تعلق الأرش برقبته فعليه فداؤه لأنه حق تعلق برقبته في يده فلزمه تخليصه منه وإن جنى على سيده ضمن الغاصب جنايته لأنها من جملة جناياته فأشبه الجناية على أجنبي
فصل :
وإن زاد المغصوب في يده كجارية سمنت أو ولدت أو كسبت أو شجرة أثمرت أو طالت فالزيادة للمالك مضمونه على الغاصب لأنها حصلت في يده بالغصب فأشبهت الأصل وإن ألقت الولد ميتا ضمنه بقيمته يوم الوضع لو كان حيا لأنه غصب بغصب الأم وإن صاد العبد والجارية صيدا فهو لمالكهما لأنه من كسبهما وهل تجب أجرة العبد الكاسب أو الصائد في مدة كسبه أو صيده ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا تجب لأن منافعه صارت إلى سيده فأشبه ما لو كان في يده
والثاني : تجب لأن الغاصب أتلف منافعه وإن أغصب فرسا أو قوسا أو شركا فصاد به ففيه وجهان :
أحدهما : هو لصاحبه لأن صيده حصل به أشبه صيد الجارحة
والثاني : للغاصب لأنه الصائد وهذه آلة وإن غصب منجلا فقطع به حطبا أو خشبا أو حشيشا فهو للغاصب لأن هذا آلة فهو كالحبل يربطه به
فصل :
وإن غصب أثمانا فاتجر بها فالربح لصاحبها لأنه نماء ماله وإن اشترى في ذمته ثم نقدها فيه فكذلك في إحدى الروايتين والأخرى : هو للغاصب لأن الثمن ثبت في ذمته فكان الشراء له والمبيع ربحه له لأنه بذل ما وجب عليه وقياس المذهب : إنه إذا اشترى بعينه كان الشراء باطلا والسلعة للبائع
فصل :
وإن غصب عينا فاستحالت كبيض صار فرخا وحب صار زرعا وزرع صار حبا ونى صار شجرا وجب رده لأنه عين ماله فإن نقصت قيمته ضمن أرش نقصه لحدوثه في يده وإن زاد فالزيادة لمالكه ولا شيء للغاصب بعمله فيه لأنه غير مأذون فيه وإن غصب عصيرا فتخمر ضمن العصير بمثله لأنه تلف في يده فإن عاد خلا رده وما نقص من قيمة العصير لأنه عين العصير أشبه النوى يصير شجرا
فصل :
فإن عمل فيه عملا كثوب قصره أو فصله وخاطه أو قطن غزله أو غزل نسجه أو خشب نجره أو ذهب صاغه أو ضربه أو حديد جعله إبرا فعليه رده لأنه عين ماله ولا شيء للغاصب لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه فلم يستحق شيئا كما لو أغلى الزيت وإن نقص بذلك فعليه ضمان نقصه لأنه حدث بفعله وعنه : أنه إن زاد يكون شريكا للمالك بالزيادة لأن منافعه أجريت مجرى الأعيان أشبه ما لو صبغ الثوب والأول أصح
فصل :
فإن غصب شيئا فخلطه بما يتميز منه كحنطة بشعير أو زبيب أحمر بأسود فعليه تمييزه ورده لأنه أمكن رده فوجب كما لو غصب عينا فبعدها وإن خلطه بمثله مما لا يتميز كزيت بزيت لزمه مثل كيله منه لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه فلم ينتقل إلى البدل في الجميع كما لو غصب شيئا فتلف بعضه وهذا ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه لأنه نص على أنه شريك إذا خلطه بغير جنسه فنبه على الشركة إذا كان مثله وقال القاضي : قياس المذهب أنه يلزمه مثله إن شاء الغاصب منه أو من غيره لأنه تعذر رد عينه أشبه ما لو أتلفه وإن خلط بأجود منه لزمه مثله من حيث شاء الغاصب فإن دفع إليه منه لزمه أخذه لأنه أوصل إليه خيرا من حقه من جنسه وإن خلطه بدونه لزمه مثله فإن اتفقا على أخذ المثل منه جاز وإن أباه المالك لم يجبر لأنه دون حقه وإن طلب ذلك فأباه الغاصب ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجبر لأن الحق انتقل إلى ذمته فكانت الخيرة إليه في التعيين
والثاني : يلزمه لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه من غير ضرر فلزمه كما لو كان مثله وإن خلطه بغير جنسه كزيت بشيرج لزمه مثله من غيره وأيهما طلب الدفع منه فأبى الآخر لم يجبر وقد قال أحمد في رجل له رطل زيت اختلط برطل شيرج لآخر : يباع الدهن كله ويعطى كل واحد منهما قدر حصته فيحتمل أن يختص هذا بما لم يخلطه أحدهما ويحتمل أن يعم سائر الصور لأنه أمكن أن يصل إلى كل واحد بدل عين ماله فأشبه ما لو غصب ثوبا فصبغه فإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته مفردا ضمن الغاصب نقصه لأنه بفعله وإن خلطه بما لا قيمة له كزيت بماء وأمكن تخليصه وجب تخليصه ورده مع أرش نقصه وإن لم يمكن تخليصه أو كان ذلك يفسده وجب مثله لأنه أتلفه ولو أعطاه بدل الجيد أكثر منه رديئا أو أقل منه وأجود صفة لم يجز لأنه ربا إلا أن يكون اختلاطه بغير جنسه فيجوز لأن الربا لا يجوز في جنسين
فصل :
فإن غصب ثوبا فصبغه فلم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص فهما شريكان يباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما لأن الصبغ عين مال له قيمة فلم يسقط حقه فيها باتصالها بمال غيره وإن زادت قيمتهما لأنها نماء مالهما وإن نقصت القيمة ضمنها الغاصب لأن النقص حصل بسببه وإن زادت قيمة أحدهما لزيادة قيمته في السوق فالزيادة لمالك ذلك لأنها نماء ماله وإن بقيت للصبغ قيمة فأراد الغاصب إخراجه وضمان النقص فله ذلك لأن عين ماله أشبه ما لو غرس في أرض غيره ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه يضر بملك المغصوب منه لنفع نفسه فمنع منه بخلاف الأرض فإنه يمكن إزالة الضرر بتسوية الحفر ولأن قلع الغرس معتاد بخلاف قلع الصبغ وإن أراد المالك قلعه ففيه وجهان :
أحدهما : يملكه ولا شيء عليه كما يملك قلع الشجر من أرضه
والآخر : لا يملكه لأن الصبغ يهلك به أشبه قلع الزرع وإن بذل المالك قيمة الصبغ ليملكه لم يجبر الغاصب عليه لأنه بيع ماله ويحتمل أن يجبر كما يملك أخذ زرع الغاصب بقيمته وكالشفيع يأخذ غرس المشتري وإن وهبه الغاصب لمالكه ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه قبوله لأنه صار صفة للعين فأشبه قصارة الثوب
والآخر : لا يلزمه لأن الصبغ عين يمكن إفرادها فأشبه الغراس فإن أراد المالك بيع الثوب فله ذلك لأنه ملكه فلم يمنع بيعه وإن طلب الغاصب بيعه فأباه المالك لم يجبر لأن الغاصب متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك صاحب الثوب عنه كما لو طلب الغارس في أرض غيره بيعها ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه وإن غصب ثوبا وصبغا من رجل فصبغه به فعليه رده وأرش نقصه إن نقص لأنه بفعله والزيادة للمالك لأنه عين ماله ليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل وإن صبغه بصبغ غصبه من غيره فهما شريكان في الأصل والزيادة وإن نقص فالنقص من الصبغ لأنه تبدد ويرجع صاحبه على الغاصب لأنه بدده وإن غصب عسلا ونشاء فعمله حلواء فحكمه كحكم غصب الثوب وصبغه سواء
فصل :
وإن غصب أرضا فغرسها أو بنى فيها لزمه قلعه لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس لعرق ظالم حق ] قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأنه شغل ملك غيره بملك لا حرمة له في نفسه فلزمه تفريغه كما لو ترك فيها قماشا وعليه تسوية الحفر ورد الأرض إلى ما كانت عليه وضمان نقصها إن نقصت لأنه حصل بفعله وإن بدل له المالك قيمة غرسه وبنائه ليملكه فأبى إلا القلع فله ذلك لأنها معاوضة فلم يجبر عليها وإن وهبه الغاصب الغراس أو البناء لم يجبر على قبوله إن كان له غرض في القلع لأنه يفوت غرضه وإن لم يكن فيه غرض احتمل أن يجبر لأنه يتخلص كل واحد منهما من صاحبه بغير ضرر واحتمل أن لا يجبر لأن ذلك عين يمكن إفرادها فلم يجبر على قبولها كما لو يكن في أرضه وإن غرسها من ملك صاحب الأرض فطالبه بالقلع وله فيه غرض لزمه لأنه فوت عليه غرضا بالغرس فلزمه رده كما لو ترك فيها حجرا ولم يكن فيها حجرا وإن لم يكن فيه غرض لم يجبر عليه لأنه سفه ويحتمل أن يجبر لأن المالك محكم في ملكه وإن أراد الغاصب قلعه فللمالك منعه لأنه ملكه وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل
فصل :
فإن حفر فيها بئرا فطالبه المالك بطمها لزمه لأنه نقل ملكه وهو التراب من موضعه فلزمه رده وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر مثل إن جعل ترابها في غير أرض المالك فله طمها لأنه لا يجبر على إبقاء ما يتضرر به كإبقاء غرسه وإن جعل التراب في أرض المالك لم يبرئه من ضمان ما يتلف بها فله طمها لأنه يدفع ضرر الضمان عنه وإن أبرأه من ضمان ما يتلف بها ففيه وجهان :
أحدهما : يبرأ لأنه لما سقط الضمان بالإذن في حفرها سقط بالإبراء منها فعلى هذا لا يملك طمها لأنه لا غرض فيه
والثاني : لا يبرأ بالإبراء لأنه إنما يكون من واجب ولم يجب بعد شيء فعلى هذا يملك طمها لغرضه فيه
فصل :
وإن زرعها وأخذ زرعه فعليه أجرة الأرض وما نقصها والزرع له لأنه عين بذره نما وإن أدركها ربها والزرع قائم فليس له إجبار الغاصب على القلع ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة وبين أخذه ويدفع إلى الغاصب نفقته لما روى رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء و له نفقته ] قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأنه أمكن الجمع في الحقين بغير إتلاف فلم يجز الإتلاف كما لو غصب لوحا فرقع به سفينة ملججة في البحر وفارق الغراس لأنه لا غاية له ينتظر إليها وفيما يرد في النفقة روايتان :
إحداهما : القيمة لأنه بدل عنه فتقدرت به كقيم المتلفات
والثانية : ما أنفق من البذر و مؤنة الزرع من الحرث وغيره لظاهر الحديث ولأن قيمة الزرع زادت في أرض المالك فلم يكن عليه عوضها وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمرا فقال القاضي : للمالك أخذه وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤنة الثمر كالزرع لأنه في معناه وظاهر كلام الخرقي : أنه للغاصب لأنه ثمر شجره فكان له كولد أمته
فصل :
وإن جصص الدار وزوقها فالحكم فيه كالحكم في البناء سواء وإن وهب ذلك لمالكها ففي إجباره على قبول الهبة وجهان كالصبغ في الثوب
فصل :
وإن غصب عينا فبعدت بفعله أو بغيره فعليه ردها وإن غرم أضعاف قيمتها لأنه بتعديه وإن غصب خشبة فبنى عليها فبليت لم يجب ردها ووجب قيمتها لأنها هلكت فسقط ردها وإن بقيت على جهتها لزم ردها وإن انتقض البناء لأنه مغصوب يمكن رده فوجب كما لو بعدها وإن غصب خيطا فخاط به ثوبا فهو كالخشبة في البناء وإن أخاط به جرحه أو جرح حيوان يخاف التلف بقلعه أو ضررا كثيرا لم يقلع لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة مال الغير ولهذا جاز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان دون غيره إلا أن يكون الحيوان مباح القتل كالمرتد والخنزير فيجب رده لأنه لا حرمة للحيوان وإن كان الحيوان مأكولا للغاصب فيجب رده لأنه يمكن ذبح الحيوان الانتفاع بلحمه ويحتمل ألا يقلع لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله وإن كان الحيوان لغير الغاصب لم يقلع بحال لأن فيه ضررا بالحيوان وبصاحبه وإن مات الحيوان وجب رد الخيط إلا أن يكون آدميا لأن حرمته باقية بعد موته والحكم فيما إذا بلع الحيوان جوهرة كالحكم في الخيط سواء
فصل :
وإن غصب لوحا فرقع به سفينة وخاف الغرق بنزعه لم ينزع لأنه يمكنه رده بغير إتلاف ماله بأن تخرج إلى الشط فلم يجز إتلافه سواء كان فيما ماله أو مال غيره
فصل :
وإن ادخل فصيلا أو غيره إلى داره فلم يمكن إخراجه إلا بنقض الباب نقض كما ينقض البناء لرد الخشبة وإن دخل الفصيل من غير تفريطه فعلى صاحب الفصيل ما يصلح به الباب لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب وهكذا الحكم إن وقع الدينار في محبرة إنسان بتفريط أو غيره
فصل :
وإن غصب عبدا فأبق أو دابة فشردت فللمغصوب منه المطالبة بقيمته لأنه تعذر رده فوجب بدله كما لو تلف فإذا أخذ البدل ملكه لأنه بدل ماله كما يلمك بدل التالف ولا يملك الغاصب المغصوب لأنه لا يصح تمليكه بالبيع فلا يملكه بالتضمين كالتالف فإذا قدر عليه رده وأخذ القيمة لأنها استحقت بالحيلولة وقد زالت فوجب ردها وزيادة القيمة المتصلة للغاصب لأنها تتبع الأصل والمنفصلة للمغصوب منه لأنها لا تتبع الأصل في الفسخ بالعيب وهذا فسخ فأما المغصوب فيرد بزيادته المتصلة والمنفصلة لأن ملك صاحبه لم يزل عنه
فصل :
وإن غصب أثمانا فطالبه مالكها بها في بلد آخر لزم ردها إليه لأن الأثمان قيم الأموال فلم يضر اختلاف قيمتها وإن كان المغصوب من المتقومات لزم دفع قيمتها في بلد الغصب وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه فله مطالبته بمثله لأنه لا ضرر على الغاصب فيه وإن كانت أكثر فليس له المثل لأننا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب أو المثل في بلد الغصب رده وأخذ القيمة كما لو كان عبدا فأبق
فصل :
إذا تلف المغصوب وهو مما له مثل كالأثمان والحبوب والأدهان فإنه يضمن بمثله لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد فكان المثل أولى كالنص مع القياس فإن تغيرت صفته كرطب صار تمرا أو سمسم صار شيرجا ضمنه المالك بمثل أيهما شاء لأنه قد ثبت ملكه على واحد من المثلين فرجع بما شاء منهما وإن وجب المثل وأعوز وجبت قيمته يوم عوزه لأن يسقط بذلك المثل وتجب القيمة فأشبه تلف المتقومات وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل لأن التلف لم ينقل الوجوب إلى القيمة بدليل ما لو وجد المثل بعد ذلك وجب رده وإن قدر على المثل بأكثر من قيمته لزمه شراؤه لأنه قدر على أداء الوجوب فلزمه كما لو قدر على رد المغصوب بغرامة
فصل :
فإن كان مما لا مثل له وجبت قيمته لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم وأعطى شركاؤه حصصهم ] متفق عليه فأوجب القيمة لأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس والواحد فكانت القيمة أقر إلى إبقاء حقه فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف نظرت فإن كان ذلك لمعنى فيه وجبت قيمته أكثر ما كانت لأن معانيه مضمونة مع رد العين فكذا مع تلفها وإن كان لاختلاف الأسعار فالواجب قيمته يوم تلف لأنها حينئذ ثبتت في ذمته وما زاد على ذلك لا يضمن مع الرد فكذلك في التلف كالزيادة في القيمة وتجب القيمة من نقد البلد الذي أتلف فيه لأنه موضع الضمان وإن كان المضمون سبيكة أو نقرة أو مصوغا ونقد البلد من غير جنسه أو قيمته كوزنه وجبت لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى الربا فأشبه غير الأثمان وإن كان نقد البلد من جنسه وقيمته مخالفة لوزنه قوم بغير جنسه كي لا يؤدي إلى الربا وإن كانت الصياغة محرمة فلا عبرة بها لأنها لا قيمة لها شرعا وذكر القاضي : أن ما زادت قيمته لصناعة مباحة جاز أن يضمن بأكثر من وزنه لأن الزيادة في مقابل الصنعة فلا يؤدي إلى الربا
فصل :
وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة فعليه الأجرة
وعنه : إن منافع الغصب لا تضمن و المذهب الأول لأنه يطلب بدلها بعقد المعاينة فتضمن بالغصب كالعين وسواء رد العين أو بدلها لأن ما وجب مع ردها وجب مع بدلها كأرش النقص فإن تلفت العين لم تلزمه أجرتها بعد التلف لأنه لم يبق لها أجرة ولو غصب دارا فهدمها أو عرصة فبناها أو دارا فهدمها ثم بناها وسكنها فعليه أجرة عوضه لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها ولما بنى العرصة كان البناء له فلم يضمن أجرة ملكه إلا أن يبنيها بترابها أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه لأنها أعيان ماله وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل فتكون أجرتها عليه وكل ما لا تستباح منافعه بالإجارة أو تندر إجارته كالغنم والشجر والطير فلا أجرة له ولو أطرق فحلا أو غصب كلبا لم تلزمه أجرة لذلك لأنه لا يجوز أخذ العوض من منافعه بالعقد فلا جوز بغيره
فصل :
وإن غصب ثوبا فلبسه وأبلاه فعليه أجرته وأرش نقصه لأن كل واحد منهما يضمن منفردا فيضمن مع غيره ويحتمل أن يضمن أكثر الأمرين من الجرة وأرش النقص لأن ما نقص حصل بالانتفاع الذي أخذ المالك أجرته ولذلك لا يضمن المستأجر أرش هذا النقص وإن كان الثوب مما لا أجرة له كغير المخيط فعليه أرش نقصه حسب وإن كان المغصوب عبدا فكسب ففي أجرة مدة كسبه وجهان كذلك وإن أبق العبد فغرم قيمته ثم وجده فرده ففي أجرته من حين دفع قيمته إلى رده وجهان :
أحدهما : لا يلزمه لأن المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرتها
والثاني : يلزمه لأن منافع ماله تلفت بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها كما لو لم يدفع القيمة وإن غصب أرضا فزرعها فأخذ المالك زرعها لم تكن على الغاصب أجره لأن منافع ملكه عادت إليه إلا أن يأخذ بقيمته فتكون له الأجرة إلى وقت أخذه لأن القيمة زادت بذلك للغاصب فكان نفعها عائدا إليه
فصل :
إذا غصب عينا فباعها لعالم بالغصب فتلفت عند المشتري فللمالك تضمين أيهما شاء قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري فيضمن الغاصب لغصبه والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه فإن ضمن الغاصب رجع على المشتري وإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأنه غاصب تلف المغصوب في يده فاستقر الضمان عليه كالغاصب إذا تلف تحت يده فأما أجرتها أو نقصها قبل بيعها فعلى الغاصب وحده ولا شيء على المشتري منه وإن كان جارية فوطئها لزمه الحد والمهر وردها مع ولدها وأجرتها أرش نقصها وولده رقيق لأن وطأه زنا فأشبه الغاصب وإن لم يعلم المشتري بالغصب فلا حد عليه وولده حر وعليه فداؤه بمثله يوم وضعه لأنه مغرور فأشبه ما لو تزوجها على أنها حرة وللمالك تضمين أيهما شاء لما ذكرنا فإن ضمن الغاصب رجع على المشتري بقيمة العين ونقصها وأرش بكارتها لأنه دخل وع البائع على أن يكون ضمانا لذلك بالثمن فلم يغره فيه ولا يرجع عليه ببدل الولد إذا ولدت منه ونقص الولادة لأنه دخل معه على أن لا يضمنه فغره بذلك فأما ما حصلت له به منفعة ولم تلزم ضمانه كالأجرة والمهر ففيه روايتان :
أحدهما : لا يرجع به لأن المشتري دخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض فقد غره فاستقر الضمان على الغاصب كعوض الولد
والثانية : يرجع به لأن المشتري استوفى بدل ذلك فتقرر ضمانه عليه وإن ضمن المشتري رجع على الغاصب بما لا يرجع به الغاصب عليه لأنه استقر ضمانه على الغاصب ولم يرجع بما يرجع به الغاصب عليه لأنه لا فائدة في رجوعه عليه بما يرجع به الغاصب عليه
فصل :
وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب أو أطعمه إياه استقر الضمان على المتهب ولم يرجع على أحد لما ذكرنا في المشتري وإن لم يعلم رجع بما غرم على الغاصب لأنه غره بدخوله معه على أنه لا يضمن
وعنه : فيما إذا أكله أتلفه : لا يرجع به لأنه غرم ما أتلف فعلى هذا إن غرم الغاصب رجع على الأكل لأنه أتلف فاستقر الضمان عليه وإن أجر الغاصب العين ثم استردها المالك رجع على من شاء منهما بأجرتها ويستقر الضمان على المستأجر علم أو جهل لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة ويسقط عنه المسمى في الإجارة وإن تلف العين فغرمها رجع به على الغاصب إذا لم يعلم لأنه دخل معه على أنه لا يضمن وإن كان رجلا في بيعها أو أودعها فللمالك تضمين من شاء لما ذكرنا وإن ضمنهما رجعا بما غرما على الغاصب إلا أن يعلما بالغصب فيستقر الضمان عليهما وإن أعارها استقر الضمان على المستعير علم أو جهل لأنه دخل معه على أنها مضمونة عليه وإن غرمه الأجرة ففيه وجهان مضى توجيههما في المشتري
فصل :
وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالما به برئ الغاصب لأنه أتلف ماله برضاه عالما به وإن لم يعلم فالمنصوص أنه يرجع قيل لأحمد رضي الله عنه في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية ولم يعلم فقال : كيف هذا ؟ هذا يرى أنه هدية ويقول : هذا لك عندي هدية لأنه بالغصب أزال سلطانه وبالتقديم إليه لم يعد ذلك السلطان فإنه إباحة لا يملك بها التصرف في غير ما أذن له فيه ويتخرج أنه يبرأ لأنه رد إليه ماله فبرئ كما لو وهبه إياه ويحتلم كلام أحمد رضي الله عنه على أنه أوصل إليه بدله فأما إذا وهبه إياه فالصحيح أنه يبرأ لأنه قد تسلمه تسليما صحيحا ورجع إليه سلطانه به وزالت يد الغاصب بالكلية وكذلك إن باعه إياه وسلمه إليه فأما إن أودعه إياه أو أعاره أو أجره إياه فإن علم أنه ماله برئ الغاصب لأنه عاد إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم لم يبرأ لأنه لم يعد إليه سلطانه وإنما قبضه على الأمانة وقال بعض أصحابنا : يبرأ لأنه عاد إلى يده
فصل :
وأم الولد تضمن بالغصب لأنها تضمن في الإتلاف بالقيمة فتضمن في الغصب كالقن ولا يضمن الحر بالغصب لأنه ليس بمال فلم يضمن باليد وإن حبس حرا فمات لم يضمنه لذلك إلا أن يكون صغيرا ففيه وجهان :
أحدهما : لا يضمن لأنه حر أشبه الكبير
والثاني : يضمنه لأنه تصرف له في نفسه أشبه المال فإن قلنا لا يضمنه فكان عليه حلي فهل يضمن الحلي ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يضمنه لأنه تحت يده أشبه ثياب الكبير
والثاني : يضمنه لأنه استولى عليه فأشبه ما لو كان منفردا وإن استعمل الكبير مدة كرها فعليه أجرته لأنه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه ضمانه كإتلاف ماله وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ففيه وجهان :
أحدهما : تلزمه الأجرة لأنها منفعة تضمن بالإجارة فضمنت بالغصب كنفع المال
والثاني : لا يلزمه لأنها تلفت تحت يده فلم تضمن كأطرافه
فصل :
وإن غصب كلبا يجوز اقتناؤه لزمه رده لأن فيه نفعا مباحا وإن غصب خمر ذمي لزمه ردها إليه لأنه يقر على اقتنائها وشربها وإن غصبها من مسلم وجبت إراقتها لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بإراقة خمر الأيتام وإن أتلفها لمسلم أو ذمي لم يضمنها لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] ولأنها يحرم الانتفاع بها فلم تضمن كالميتة وإن غصبه منهما فتخلل في يده لزمه رده إلى صاحبه لأنها صارت خلا على حكم ملكه فإن تلف ضمنه لأنه مال تلف في يد الغاصب فإن أراقه صاحبه فجمعه إنسان فتخلل لم يلزمه رده لأن صاحبه أزال ملكه عنه بتبديده
فصل :
فإن غصب جلد ميتة ففي وجوب رده وجهان مبنيان على طهارته بالدباغ وإن قلنا : يطهر وجب رده لأنه يمكن التوصل إلى تطهيره أشبه الثوب النجس وإن قلنا : لا يطهر لم يجب رده ويحتمل أن يجب إذا قلنا : يجوز الانتفاع به في اليابسات ككلب الصيد وإن أتلفه لم يضمنه لأنه لا قيمة له
فصل :
وإن كسر صليبا أو مزمارا لم يضمنه لأنه لا يحل بيعه فأشبه الميتة وإن كسر أواني الذهب والفضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وإن كسر آنية الخمر ففيه روايتان :
إحداهما : يضمنها لأنه مال غير محرم ولأنها تضمن إذا كان فيها خل فتضمن إذا كان فيها خمر كالدار
والثانية : لا تضمن لما روى ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بتشقيق زقاق الخمر ) رواه أحمد رضي الله عنه في المسند
فصل :
ومن أتلف مالا محترما لغيره ضمنه لأنه فوته عليه فضمنه كما لو غصبه فتلف عنده وإن فتح قفص طائر فطار أو حل دابة فشردت أو قيد عبد فذهب أو رباط سفينة فغرقت ضمن ذلك كله لأنه تلف بسبب فعله فضمنه كما لو نفر الطائر أو الدابة وإن فعل ذلك فلم يذهب حتى جاء آخر فنفرهما فالضمان على المنفر لأن فعله أخص فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر وإن وقف طائر على جدار فنفره إنسان فطار لم يضمنه لأن تنفيره لم يكن سبب فواته لأنه كان فائتا قبله وإن طار في هواء داره فرماه فقتله ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر الهواء فأشبه ما لو قتله في غير داره
فصل :
وإن حل زقاق فاندفق أو خرج منه شيء بل أسفله فسقط أو سقط بريح أو زلزلة أو كان جامدا فذاب في الشمس فاندفق ضمنه لأنه تلف بسببه فضمنه كما لو دفعه وقال القاضي : لا يضمنه إذا سقط بريح أو زلزلة لأن فعله عير ملجئ فلا يضمنه كما لو دفعه إنسان آخر ولنا أنه لم يتخلل بين فعله وتلفه مباشرة يمكن إحالة الضمان عليه فيجب أن يضمنه كما لو جرح إنسانا فأصابه الحر فمات به فأما إن بقي واقفا فجاء إنسان فدفعه ضمن الثاني لأنه مباشر وإن كان يخرج قليلا قليلا فجاء إنسان فنكسه فاندفق ضمن الثاني ما خرج بعد التنكيس لأنه مباشر له فهو كالذابح بعد الجارح ويحتمل أن يشتركا فيما بعد التنكيس وإن فتح زقا فيه جامد فجاء آخر فقرب إليه نارا فأذابه فاندفق ضمنه الثاني لأنه باشر الإتلاف وإن أذابه الأول ثم فتحه الثاني فالضمان على الثاني لأن التلف حصل بفعله
فصل :
وإن أجج في سطحه نارا فتعدت فأحرقت شيئا لجاره وكان ما فعله يسيرا جرت العادة به لم يضمن لأنه غير متعد وإن أسرف فيه لكثرته أو كونه في ريح عاصف ضمن وكذلك إن سقى أرضه فتعدى إلى حائط آخر
فصل :
وإن أطارت الريح إلى داره ثوبا لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها كاللقطة فإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه كاللقطة إذا ترك تعريفها وإن دخل طائر داره لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه فإن أغلق عليه بابا ليمسكه ضمنه لأنه أمسكه لنفسه فضمنه كالغاصب فإن لم ينو ذلك لم يضمنه لأنه يملك التصرف في داره فلم يضمن ما فيها
فصل :
إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب فالقول قول الغاصب مع يمينه لأنه يعتذر إقامة البينة على التلف ويلزمه البدل لأنه يمينه تعذر الرجوع إلى العين فوجب بدلها كما لو أبق العبد المغصوب وإن اختلفا في قيمة المغصوب فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها فأشبه من ادعى عليه بدين فأقر ببعضه وجحد باقيه وإن قال المالك : كان كاتبا قيمته ألف وقال الغاصب : كان أميا قيمة مائة فالقول قول الغاصب لما ذكرناه وإن قال الغاصب : كان سارقا فقيمته مائة وقال المالك : لم يكن سارقا فقيمته ألف فالقول فقول المالك لأن الأصل عدم السرقة وإن غصبه طعاما وقال : كان عتيقا فلا يلزمني حديث وأنكره المالك فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته من الحديث ويأخذ المغصوب منه العتيق لأنه دون حقه وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب هل هي للغاصب أو للمالك ؟ فهي للغاصب لأنها والعبد في يده فكان القول قوله فيها وإن غصبه خمرا فقال المالك : استحالت خلا فأنكره الغاصب فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم الاستحالة
فصل :
إذا اشترى رجل عبدا فادعى رجل أن البائع غصبه إياه فأنكره المشتري وصدقه البائع حلف المشتري والعبد له وعلى البائع قيمته ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن لأنه لا يدعيه أما أن يغرم قيمته مطالبته بأقل الأمرين من قيمته أو ثمنه لأنه يدعي القيمة والمشتري يقر بالثمن فيكون له أقلهما وللمالك مطالبة المشتري لأنه مقر بالثمن للبائع والبائع يقر به لمالكه فإن قلنا بصحة تصرف الغاصب فله مطالبته بجميع الثمن وإن قلنا : لا يصح فله أقل الأمرين لما تقدم وإن صدقه المشتري فأنكره البائع حلف البائع وبرئ ويأخذ المدعي عبده لما روى سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به ] وإن كان المشتري أعتق العبد فصدق البائع والمشتري المالك غرم أيهما شاء قيمته ويستقر الضمان على المشتري لأنه أتلف العبد بعتقه وإن وافقهما العبد على التصديق فكذلك ولم يبطل العتق لأنه حق الله تعالى فلا يقبل قولهم في إبطاله وفيه وجه آخر : أنه يبطل العتق إذا صدقوه كلهم ويعود العبد رقيقا للمدعي لأنه إقرار بالرق على وجه لا يبطل به حق أحد فقبل كإقرار مجهول الحال
كتاب الشفعة
وهي استحقاق انتزاع الإنسان صحة شريكه من مشتريها مثل ثمنها وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى جابر قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به ] رواه مسلم وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة ولا تثبت إلا بشروط سبعةأحدها : أن يكون المبيع أرضا للخبر ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك بخلاف غيره فأما غير الأرض فنوعان :
أحدهما : البناء والغراس فإذا بيعا مع الأرض ثبتت الشفعة فيه لأنه يدخل في قوله حائط وهو البستان المحوط ولأنه يراد للتأبيد فهو كالأرض وإن بيع منفردا فلا شفعة فيه لأنه ينقل ويحول وعن أحمد رضي الله عنه أن فيه شفعة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة فيما لم يقسم ] ولأن في الأخذ بها رفع ضرر الشركة فأشبه الأرض والمذهب الأول لأن هذا مما لا يتباقى ضرره فأشبه المكيل وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض لقوله : فإذا طرقت الطرق فلا شفعة
النوع الثاني : الزرع والثمرة الظاهرة والحيوان وسائر المبيعات فلا شفعة فيه تبعا ولا أصلا لأنها لا تدخل في البيع تبعا فلا تدخل في الشفعة تبعا وعن أحمد رضي الله عنه أن الشفعة في كل ما لا ينقسم كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه ووجه الروايتين ما ذكرناه
فصل :
الشرط الثاني : أن يكون المبيع مشاعا لما روى جابر قال : ( قضى النبي صلى الله عليه و سلم أن الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ) رواه البخاري ولأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق ولا يوجد هذا في المقسوم
فصل :
الشرط الثالث : أن يكون قيمته مما تجب قسمته عند الطلب فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا شفعة فيه لما روي عن عثمان رضي الله عنه قال : لا شفعة في بئر ولا نخل ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع الضرر الذي يلحق بالمقاسمة وهذا لا يوجد فيما لا يقسم وعن أحمد رضي الله عنه : أن الشفعة تثبت فيه لعموم الخبر ولأنه عقار مشترك فثبتت فيه الشفعة كالذي يمكن قسمته والمذهب الأول فأما الطريق في درب مملوك فإن لم يكن للدار طريق سواها فلا شفعة فيها لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق وإن كان لها غيرها ويمكن قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق ففيها الشفعة لوجود المقتضي لها وعدم الضرر في الأخذ بها وإن لم يمكن قسمتها خرج فيها روايتان كغيرها
فصل :
الشرط الرابع : أن يكون الشقص منتقلا بعوض فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه لأنه انتقل بغير بدل أشبه المورث والمنتقل بعوض نوعان :
أحدهما : ما عوضه المال كالمبيع ففيه الشفعة بالإجماع والخبر ورد فيه
الثاني : ما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد وما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب لأنه انتقل بغير مال أشبه الموهوب ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض أشبه الموروث وقال ابن حامد : فيه الشفعة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع فيحق الأجانب ذكره القاضي وقال الشريف يأخذه بمهر المثل لأنه ملكه ببدل لا مثل له فيجب الرجوع إلى قيمته كما لو اشتراه بعوض ولا تجب الشفعة بالرد بالعيب والفسخ بالخيار أو الاختلاف لأنه فسخ للعقد وليس بعقد ولا برجوع الزوج في الصداق أو نصفه قبل الدخول لذلك ولا بالإقالة إذا قلنا هي فسخ لذلك
فصل :
الشرط الخامس : الطلب بها على الفور ساعة العلم فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة قال أحمد : الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة كالحل العقال ] رواه ابن ماجه ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ولا يتصرف فيه بعمارة خوفا من أخذ المبيع وضياع عمله وقال ابن حامد : تتقدر بالمجلس وإن طال لأنه كله في حكم حالة العقد بدليل صحة العقد بوجود القبض لما يشترط قبضه فيه وعن أحمد : أنه على التراخي ما لم توجد منه دلالة على الرضى كقوله : بعني أو صالحني على مال أو قاسمني لأنه حق لا ضرر في تأخيره أشبه القصاص والمذهب الأول لكن إن أخره لعذر مثل أن يعلم ليلا فيؤخره إلى الصباح أو لحاجته إلى أكل أو شرب أو طهارة أو إغلاق باب أو خروج من الحمام أو لصلاة أو نحو هذا لم تبطل شفعته لأن العادة البداءة بهذه الأشياء إلا أن يكون حاضرا عنده فيترك المطالبة فتبطل شفعته لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام لم تبطل شفعته لأن البدء بالسلام سنة وكذلك إن دعا له فقال بارك في صفقة يمينك لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته لأنها أوصلته إلى شفعته وإن أخر الطلب لمرض أو حبس أو غيبة لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد فهو على شفعته لأنه تركه لعذر وإن قدر على إشهاد من تقبل شهادته فلم يفعل ولم يسر في طلبها من غير عذر بطلت شفعته لأنه قد يترك الطلب زهدا أو للعذر فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد فلم يفعل بطلت شفعه كترك الطلب في حضوره وإن لم يشهد وسار عقيب علمه ففيه وجهان :
أحدهما : تبطل لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره فوجب بيان ذلك بالإشهاد كما لو لم يسر
والثاني : لا تبطل لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها فاكتفي به كالذي في البلد وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته لأن عليه في العجلة ضررا لانقطاع حوائجه وقال القاضي : تبطل إن تركه مع الإمكان وإن كان له عذر فقدر التوكيل فلم يفعل ففيه وجهان :
أحدهما : تبطل شفعته لأنه تارك للطلب مع إمكانه فأشبه الحضر
والثاني : لا تبطل لأنه إن كان بجعل ففيه غرم وإن كان بغيره ففيه منة وقد لا يثق به وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده ففيه وجهان بناء على تأخير السير لطلبها
فصل :
فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع أو لكون المخبر لا يقبل خبره أو لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو أو أنه اشترى البعض أو اشترى بغير النقد الذي اشترى به أو أنه اشتراه لغيره أو أنه اشتراه لنفسه وكان كاذبا فهو على شفعته ولو عفا عن الشفعة لذلك لم تسقط لأنه قد لا يرضاه بالثمن الذي أظهره أو لأنه لا يقدر على النقد وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع دون من هو له في الحقيقة فلم يكن ذلك رضى منه بالبيع الواقع وإن أظهر الثمن قليلا فترك الشفعة وكان كثيرا سقطت لأنه من لا يرضى بالقليل ولا يرضى بأكثر منه فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر وهو ممن يقبل خبره الديني سقطت شفعته رجلا كان أو امرأة إذا كان يعرف حاله لأن هذا من باب الإخبار وقد أخبره من يجب تصديقه وإن لم يكن المخبر كذلك فالقول قوله
فصل :
فإن باع الشفيع حصته عالما بالبيع بطلت شفعته لأنها ثبتت لإزالة ضرر الشركة وقد زال ببيعه وإن باع قبل العلم فكذلك عند القاضي : لذلك ولأنه لم يبق له ملك يستحق به وقال أبو الخطاب لا تسقط لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضى فلا تسقط وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه ولمشتريه أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه كان مالكا حين البيع الثاني ملكا صحيحا فثبتت له الشفعة وعلى قول القاضي : للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني وإن باع الشفيع البعض احتمل سقوط الشفعة لأنها استحقت بجميعه وقد ذهب بعضه فسقط الكل ويحتمل أن لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع
فصل :
الشرط السادس : أن يأخذ جميع المبيع فإن عفا عن البعض أو لم يطلبه سقطت شفعته لأن من أخذ البعض تفريقا لصفقة المشتري وفيه إضرار به وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله من غير ضرر به فمتى سقط بعضها سقطت كلها كالقصاص فإن كان المبيع شقصين من أرضين فله أخذ أحدهما لأنه يستحق كل واحد منها بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ويحتمل ألا يملك ذلك لأن فيه تفريق صفقة المشتري أشبه الأرض الواحدة وإن كان البائع أو المشتري اثنين من أرض أو أرضين فله أخذ نصيب أحدهما لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان فهما عقدان فكان له الأخذ بأحدهما كما لو كانا متفرقين
فصل :
فإن كان للشقص شفعاء فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك في ظاهر المذهب لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط على قدره كالإجارة والثمرة
وعنه : أنها بينهم بالسوية اختارها ابن عقيل لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد فإن اجتمعوا تساووا كسراية العتق فإن عفا بعضهم توفر نصيبه على شركائه وليس لهم أخذ البعض لأن فيه تفريق صفقة المشتري وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه أو لأجنبي لم يصح وكانت لجميعهم لأنه عفو وليس بهبة وإن حضر بعض الشركاء وحده فليس له إلا أخذ الجميع لئلا تتبعض صفقة المشتري فإن ترك الطلب انتظارا لشركائه ففيه وجهان :
أحدهما : تسقط شفعته لتركه طلبها مع إمكانه
والثاني : لا تسقط لأن له عذرا وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه فإن أخذ الجميع ثم حضره الثاني قاسمه فإذا حضر الثالث قاسمهما وما حدث من النماء المنفصل في يد الأول فهو له لأنه حدث في ملكه وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه فله ذلك لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري إنما هو تارك بعض حقه لشريكه فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني وهو التسع فيضمه إلى ما في يد الأول وهو الثلثان تصير سبع أتساع يقتسمانها نصفين لكل واحد منهما ثلاثة أتساع ونصف تسع وللثاني تسعان ولو ورث اثنان دارا فمات أحدهما عن ابنين فباع أحدهما نصيبه فالشفعة بين أخيه وعمه لأنهما شريكان للبائع فاشتركا في شفعته كما لو ملكا بسبب واحد
فصل :
وإن كان المشتري شريكا فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر لأنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو كان الشريك أجنبيا فإن أسقط المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل لم يملك ذلك لأن ملكه استقر على قدر حقه فلم يسقط بإسقاطه وإن كان المبيع شقصا وسيفا صفقة واحدة فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن نص عليه ويحتمل أن لا يجوز لئلا تتشقص صفقة المشتري والصحيح الأول لأن المشتري أضر بنفسه حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة وما لا شفعة فيه
فصل :
الشرط السابع : أن يكون الشفيع قادرا على الثمن لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري وإن عرض رهنا أو ضمينا أو عوضا عن الثمن لم يلزمه قبوله لأن في تأخير الحق ضررا وإن أخذ بالشفعة لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن فإن تعذر تسليمه قال أحمد : يصبر يوما أو يومين أو بقدر ما يرى الحاكم فأما أكثر فلا فعلى هذا إن أحضر الثمن وإلا فسخ الحاكم الأخذ ورده إلى المشتري فإن أفلس بعد الأخذ خير المشتري بين الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء كالبائع المختار
فصل :
ويأخذه بالثمن الذي استقر العقد عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث جابر : [ فهو أحق به بالثمن ] رواه أبو إسحاق الجوزجاني ولأنه استحقه بالبيع فكان عليه الثمن كالمشتري فإن كان الثمن مثليا كالأثمان والحبوب والأدهان وجب مثله وإن كان غير ذلك وجب قيمته لما ذكرنا في الغصب وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذي وجب بالشفعة فإن حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد عليه في مدة الخيار لحق العقد ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد لأن زمن الخيار كحال العقد وما وجب بعد ذلك من حط أو زيادة لم تلزم في حق الشفيع لأنه ابتداء هبة فأشبه غيره من الهبات وإن كان الثمن مؤجلا أخذ به الشفيع إن كان مليا وإلا أقام ضمينا مليا وأخذ به لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفته وإن كان الثمن عبدا فأخذ الشفيع بقيمته ثم وجد به البائع عيبا فأخذ أرشه وكان الشفيع أخذ بقيمته سليما لم يرجع عليه بشيء لأن الأرش دخل في القيمة وإن أخذ بقيمته معيبا رجع عليه بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري لأن البيع استقر بعبد سليم وإن رد البائع العبد قبل أخذ الشفيع انفسخ العقد ولا شفعة لزوال السبب قبل الأخذ ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر ولا يزال الضرر بالضرر وإن رده بعد أخذ الشفيع رجع بقيمة الشقص وقد أخذه الشفيع بقيمة العبد فإن كانتا مختلفتين رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص وإن أصدق امرأة شقصا وقلنا تجب الشفعة فيه فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ بالشفعة ففيه وجهان :
أحدهما : لا شفعة لما ذكرنا
والثاني : يقدم حق الشفيع لأنه حق أسبق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع فإن حقه ثبت بالعيب القديم
فصل :
فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه العاقد فهو أعلم بالثمن ولأن المبيع ملكه فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة وإن قال المشتري لا أعلم قدر الثمن فالقول قوله لأنه أعلم بنفسه فإن حلف سقطت الشفعة لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه إلا أن يفعل ذلك تحيلا على إسقاطها فلا تسقط ويؤخذ الشقص بقيمته لأن الغالب بيعه بقيمته وإن ادعى أنك فعلته تحيلا فأنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر وإن كان الثمن عرضا فاختلفا في قيمته رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجودا وإن كان معدوما فالقول قول المشتري في قيمته وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته وقال الشفيع كان قديما فالقول قول المشتري مع يمينه ولو قال : اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة وأنكر ذلك فقال : بل اتهبته أو ورثته فالقول قوله مع يمينه
فصل :
فإن ادعى عليه الشراء فقال : اشتريته لفلان سئل المقر له فإن صدقه فهو له وإن كذبه فهو للمشتري ويؤخذ بالشفعة في الحالين وإن كان المقر له غائبا أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر لحضور المقر له كان ذلك إسقاطا للشفعة لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب وإن قال اشتريته لابني الطفل فهو كالغائب في أحد الوجهين وفي الآخر لا تجب الشفعة لأن الملك ثبت للطفل ولا يثبت في ماله حق بإقرار وليه عليه فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال : هذا لفلان الغائب أو الطفل فلا شفعة فيه لأنه قد ثبتت لهما فإقراره بذلك إقرار إلى غيره فلا يقبل
فصل :
إذا اختلف البائع والمشتري فقال البائع : الثمن ألفان وقال المشتري : هو ألف فأقام البائع بينة بدعواه ثبتت وللشفيع أخذه بألف لأن المشتري يقر أنه لا يستحق أكثر منها وأن البائع ظلمه فلا يرجع بما ظلمه على غيره فإن قال المشتري : غلطت والثمن ألفان لم يقبل لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل كما لو أقر لأجنبي وإن لم يكن بينة تحالفا وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه المشتري لأن فيه إلزاما للعقد في حق البائع بخلاف ما حلف عليه فإن بذل ما حلف عليه البائع فله الأخذ لأن البائع مقر له بأنه يستحق الشفعة به ولا ضرر على المشتري فيه
فصل :
وإن أقر البائع بالبيع فأنكره المشتري ففيه وجهان :
أحدهما : لا تثبت الشفعة لأن الشراء لم يثبت فلا تثبت الشفعة التابعة له ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن لم يمكن الشفيع دفعه إلى أحد لأنه لا مدعي له ولا يمكن الأخذ بغير ثمن وإن لم يقر البائع بقبضه فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة
والثاني : تثبت الشفعة لأن البائع مقر بحق للمشتري والشفيع فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع وثبت حقه ويأخذ الشقص من البائع ويدفع إليه الثمن وإن لم يكن أقر بقبضه والعهدة عليه لأن الأخذ منه وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري فإن قبله دفع إليه وإلا أقر في يد الشفيع في أحد الوجوه وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال
والثالث : يقال له : إما أن تقبض وأما أن تبرئ وأصل هذا إذا أقبر بمال في يده لرجل فلم يعترف به
فصل :
وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع لم يخل من خمس أضرب :
أحدها : تصرف بالبيع وما تستحق به الشفعة فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني وبين فسخه ويأخذ بالعقد الأول لأنه شفيع في العقدين فملك الأخذ بما شاء منهما فإن أخذه بالثاني دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه وإن أخذه بالأول دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به وأخذ الشقص ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمنا وإن كان ثم ثالث رجع الثالث على الثاني
الثاني : تصرف برد أو إقالة فللشفيع فسخ الإقالة والرد ويأخذ الشقص لأن حقه أسبق منهما ولا يمكنه الأخذ معهما
الثالث : وهبه أو وقفه أو رهنه أو أجره ونحوه فعن أحمد رضي الله عنه : تسقط الشفعة لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب الموقوف عليه بالكلية وفيه ضرر بخلاف البيع لأنه يوجب رد العوض إلى غير المالك وحرمان المالك وقال أبو بكر : تجب الشفعة لأن حق الشفيع أسبق فلا يملك المشتري التصرف بما يسقط حقه ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى فعلى هذا تفسخ هذه العقود ويأخذ الشقص ويدفع الثمن إلى المشتري
الرابع : بناء أو غرس ويتصور ذلك بأن يكون الشفيع غائبا فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه أو أظهر ثمنا كثيرا أو نحوه فترك الشفيع الشفعة وقاسمه فبنى وغرس ثم أخذ الشفيع بالشفعة فإن اختار المشتري أخذ بنائه أو غراسه لم يمنع منه لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ولا ضمان النقص لأنه غير متعد ويحتمل كلام الخرقي أنه يلزمه تسوية الحفر لأنه فعله في ملك غيره لتخليص ملكه فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها وإن لم يقلعه فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه وبين أو يقلعه ويضمن نقصه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا ضرر ولا ضرار ] من المسند رواه ابن ماجة ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك
الخامس : زرع الأرض فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد لأنه زرعه بحق فوجب إبقاؤه له كما لو باع الأرض المزروعة
فصل :
وإن نما المبيع نماء متصلا كغراس كبر وطلع زاد قبل التأبير أخذ الشفيع بزيادته لأنها تتبع الأصل في الملك كما تتبعه في الرد وإن كان نماء منفصلا كالغلة والطلع المؤبر والثمرة الظاهرة فهي للمشتري لأنها حدثت في ملكه وليست تابعة للأصل وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ لأن أخذ الشفيع شراء ثان فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معا أخذ الشفيع الأصل بحصته من الثمن كالشقص والسيف
فصل :
وإن تلف بعض المبيع فهو من ضمان المشتري لأنه ملكه تلف في يده وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ويأخذ أنقاضه لأنه تعذر أخذ البعض فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي وقال ابن حامد : إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن ويترك لأن في أخذه بالبعض إضرارا بالمشتري فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع
فصل :
ويملك الشفيع الأخذ بغير الحاكم لأنه حق ثبت بالإجماع فلم يفتقر إلى الحكم كالرد بالعيب ويأخذه من المشتري فإن كان في يد البائع فامتنع المشتري من قبضه أخذه من البائع لأنه يملك أخذه فملكه كما لو كان في يد المشتري وقال القاضي : يجبر المشتري على القبض ثم يأخذه الشفيع لأن أخذه من البائع يفوت به التسليم المستحق ولا يثبت للمشتري خيار لأنه يؤخذ منه قهرا ولا للشفيع بعد التملك لأنه يأخذه قهرا وذلك ينافي الاختيار ويملك الرد بالعيب لأنه مشتر ثان فملك ذلك كالأول وإن خرج مستحقا رجع بالعهدة على المشتري لأنه أخذه منه على أنه ملكه فرجع عليه كما لو اشتراه منه ويرجع المشتري على البائع
فصل :
وإذا أذن الشريك في البيع لم تسقط شفعته لأنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له وعن أحمد رضي الله عنه أنه قال : ما هو ببعيد أن لا تكون له شفعة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ] رواه مسلم يفهم منه أنه إذا باعه بإذنه لا حق له وإن دل في البيع أو توكل أو ضمن العهدة أو جعل له الخيار فاختار إمضاء البيع فهو على شفعته
فصل :
وإذا كان البيع محاباة أخذ الشفيع بها لأنه بيع صحيح فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصا وإن كان البائع مريضا والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث أخذ الشفيع بها لأنها صحيحة نافذة وسواء كان الشفيع وارثا أو لم يكن لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه ويحتمل ألا يملك الوارث الشفعة ها هنا لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة وإن كانت محاباة المريض لوارثه أو لأجنبي لزيادة على الثلث بطلت كلها في حق الوارث والزيادة على الثلث في حق الأجنبي وصح البيع في الباقي وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه
فصل :
إذا مات الشفيع قبل الطلب بطلت شفعته نص عليه لأنه حق فسخ لا لفوات جزء فلم يورث كرجوع الأب في هبته ويتخرج أن يورث لأنه خيار ثبت لدفع الضرر على المال فيورث كالرد بالعيب فإن مات بعد الطلب لم يسقط لأنها تقررت بالطلب بحيث لم يسقط بتأخيره بخلاف ما قبله فإن ترك بعض الورثة حقه توفر على شركائه في الميراث كالشفعاء في الأصل
فصل :
وإن كان بعض العقار وقفا وبعضه طلقا فبيع الطلق فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف لأن ملكه غير تام فلا يستفيد به ملكا تاما وقال أبو الخطاب هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف إن قلنا : هو مملوك فلصاحبه الشفعة لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك فأشبه الطلق وإن قلنا : ليس بمملوك فلا شفعة له لعد ملكه
فصل :
ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه لأن فيه إلزام البيع بغير رضى المتبايعين وإسقاط حقهما من الخيار وقيل : يؤخذ بالشفعة لأن الملك انتقل فإن كان الخيار للمشتري وحده فللشفيع الأخذ لأنه يملك الأخذ من المشتري قهرا ويحتمل أن لا يملكه لأنه فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه
فصل :
وللصغير الشفعة ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها فإذا أخذ فيها لم يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه كما لو اشترى له دارا وإن تركها مع الحظ فيها لم تسقط وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ وإن تركها الولي للحظ في تركها أو لإعسار الصبي سقطت في قول ابن حامد لأنه فعل ما تعين عليه فعله فلم يجز نقضه كالرد بالعيب وظاهر كلام الخرقي : أنها لا تسقط لأن للشفيع الأخذ مع الحظ وعدمه فملك طلبها عند إمكانه كالغائب إذا قدم والمجنون كالصبي لأنه محجور عليه وإن باع الولي لأحد الأيتام نصيبا فله الأخذ بها للآخر وإن كان الولي شريكا لم يملك الأخذ بها إن كان وصيا لأنه متهم وإن كان أبا فله الأخذ لأن له أن يشتري لنفسه مال ولده وهل لرب المال الشفعة على المضارب فيما يشتريه ؟ على وجهين بناء على شرائه لنفسه
فصل :
ولا شفعة لكافر على مسلم لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا شفعة لنصراني ] رواه الطبراني في الصغير ولأنه معنى يختص العقار فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي وللذمي على الذمي للخبر والمعنى
باب إحياء الموات
وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك وهي نوعان :أحدهما : ما لم يجر عليه ملك فهذا يملك بالإحياء لما روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحيا أرضا ميتة فهي له ] رواه أحمد و الترمذي وصححه ولا يفتقر لإذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن كالصيد
الثاني : ما جرى عليه ملك وباد أهله ولم يعرف له مالك ففيه روايتان :
إحداهما : يملك بالإحياء للخبر ولما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعده ] رواه أبو عبيد في الأموال ولأنه في دار الإسلام فيملك كاللقطة
والثانية : لا يملك لأنه إما لمسلم أو لذمي أو بيت المال فلم يجز إحياؤه كما لو تعين مالكه ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذ لم تتعلق بمصالحه للخبر والمعنى
وعنه : لا يملك لأنه لا يخلو من مصلحة فأشبه ما تعلق بمصالحه للخبر والمذهب الأول
فصل :
وما تعلقت به مصلحة العامر كحريم البئر وفناء الطريق ومسيل الماء ويملك بالإحياء ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه لأنه تابع للعامر مملوك لصاحبه ولأن تجويز إحيائه إبطال للملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأنه ليس بموات و تجويز إحيائه تضييق على الناس في أملاكهم و طرقهم وهذا لا يجوز
فصل :
ويجوز الإحياء من كل من يملك المال للخبر ولأنه فعل يملك به فجاز ممن يملك المال كالصيد ويملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام لذلك وقال ابن حامد : لا يملك فيها بالإحياء لخبر طاوس وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فلم يجز تمليكه عليهم كالعامر
فصل :
وفي صفة الإحياء روايتان :
إحداهما : أن يعمر الأرض لما يريدها له ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق الإحياء ولم يبين فحمل على المتعارف فإن كان يريدها للسكنى فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف فإنها لا تصلح للسكنى إلا بذلك وإن أرادها حظيرة لغنم أو حطب فبحائط جرت العادة بمثله وإن أرادها للزرع فبسوق الماء إليها من نهر أو بئر ولا يعتبر حرثها لأنه يتكرر على عام فأشبه السكنى لا يحصل الإحياء به لذلك وإن كانت أرضا يكفيها المطر فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع إما بقلع أشجارها أو أحجارها أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياء وإن كانت من أرض البطائح فإحياؤها بحبس الماء عنها لأن إحياءها بذلك ولا يعتبر في الإحياء للسكنى نصب أبواب لأن السكنى ممكنة بدونه والرواية الثانية : التحويط إحياء لكل الأرض لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أحاط حائطا على أرض فهي له ] رواه أبو داود ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء كما لو أرادها حظيرة
فصل :
وإذا أحياها ملكها بما فيها من المعادن والأحجار لأنه تملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها وإن ظهر فيها معدن جاز كالقير والنفط والماء ففيه روايتان :
إحداهما : لا يملكه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الناس شركاء في ثلاث : في الماء والكلأ والنار ] رواه الخلال وكذلك الحكم في الكلأ والشجر لقول البني صلى الله عليه و سلم : [ لا حمى في الأراك ]
والثانية : يملك ذلك كله لأنه نماء ملكه فملكه كشعر غنمه
فصل :
ومن حفر بئرا في موات ملك تحريمها والمنصوص عن أحمد رضي الله عنه : أن حريم البئر البديء خمس وعشرون ذراعا من كل جانب ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعا من كل جانب لما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعا و البديء خمسة وعشرون ذراعا رواه أبو عبيد في الأموال وروى الخلال و الدارقطني عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه وقال القاضي : حريمها ما تحتاج إليه من ترقية الماء منها كقدر مدار الثور إن كان بدولاب وقدر طول البئر إن كان بالسواني وحمل التحديد بالحديث وكلام أحمد رضي الله عنه على المجاز والظاهر خلافه فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء لموقف الماشية وطعن الإبل ونحوه وأما العين المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليها صاحبها ويستضر بتمليكه عليه وإن كثر وحريم النهر : ما يحتاج إليه لطرح كرايته وطريق شاويه وما يستضر صاحبة بتملكه عليه وإن كثر
فصل :
ومن تحجر مواتا وشرع في إحيائه ولم يتم فهو أحق به لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] رواه أبو داود فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأن صاحب الحق آثره به فإن مات انتقل إلى وارثه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ترك حقا أو مالا فهو لوارثه ] وإن باعه ولم يصح لأنه لم يملكه فلم يصح بيعه كحق الشفعة ويحتمل جواز بيعه لأنه صار أحق به فإن بادر إليه غيره فأحياه لم يملكه في أحد الوجهين لمفهوم قوله عليه السلام : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] ولأن حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع في المشتري
والثاني : يملكه لأنه أحيا أرضا ميتة فيدخل في عموم الحديث ولأن الإحياء يملك به فقدم على التحجر الذي لا يملك به وإن شرع في الإحياء وترك قال له السلطان : إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك فم يمكن منه كالوقوف في طريق ضيق فإن سأل الإمهال أمهل مدة قريبة كالشهرين ونحوهما فإن انقضت ولم يعمر فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات
فصل :
وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون كالملح وعيون الماء والكبريت والكحل والقار ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين ونحوها لم يجز لأحد إحياؤها ولا تملك بالإحياء لأن النبي صلى الله عليه و سلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح فلما قيل له إنه بمنزلة الماء العد رده رواه أبو داود وقال : يا رسول الله : ما يحمى هذا الأراك ؟ فقال : [ ما لم تنله أخفاف الإبل ] رواه أبو داود و الترمذي ولأن هذا مما يحتاج إليه فلو ملك بالاحتجار ضاق على الناس وغلت أسعاره وكذلك ما نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار قال أحمد رضي الله عنه يروى عن عمر رضي الله عنه : أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به يعني : ما ينبت فيها ولأن البناء فيما يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله ولأنها منبت الكلأ والحطب فأشبهت المعادن
فصل :
وكل بئر ينتفع بها المسلمون أو عين نابعة فليس لها احتجارها لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ومن حفر بئرا لغير قصد التملك إما لينتفع بها المسلمون أو لينتفع بها مدة ثم يتركها لم يملكها وكان أحق بها حتى يرحل عنها ثم تكون للمسلمين ومن حفر بئرا للتملك فلم يظهر ماؤها لم تملك به لأنه ما تم إحياؤها وكان كالمحتجر الشارع في الإحياء
فصل :
وإن أحيا أرضا فظهر فيها معدن ملكه لأنه لم يضيق على الناس به لأنه الذي أخرجه ولو كان في الموات أرض يمكن فيها إحداث معدن ظاهر كشط البحر إذا حصل فيه ماؤه صار ملحا ملكه بالإحياء لأنه توسيع على المسلمين لا تضييق
فصل :
ومن سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والملح والنفط أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل كمعادن الذهب والحديد كان أحق به للخبر فإن أقام بعد قضاء حاجته منع منه لأنه يضيق على الناس بغير نفع فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا يستقي منها وإن طال مقامه للأخذ ففيه وجهان :
أحدهما : لا يمنع لأنه سبق فكان أحق كحالة الابتداء
والثاني : يمنع لأنه يضر كالمتحجر فإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه وقال بعض أصحابنا : إن كانا يأخذان للتجارة هايأه الإمام بينهما وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه أربع أوجه :
أحدها : يهايئاه بينهما
والثاني : يقرع بينهما
والثالث : يقدم الإمام من يرى منهما
والرابع : ينصب الإمام من يأخذ لهما ويقسم بينهما
فصل :
ومن شرع في حفر معدن ولم يبلغ النيل به فهو أحق به كالشارع في الإحياء ولا يملكه وإن بلغ النيل لأن الإحياء العمارة وهذا تخريب فلا يملك به ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ لكن يكون أحق به ما دام يأخذ وإن حفر إنسان من جانب آخر فوصل إلى النيل لم يكن له منعه لأنه لم يملكه
فصل :
ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة للبيع والشراء لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلا يمنع منه كالاجتياز ومن سبق إليه كان أحق به لقوله صلى الله عليه و سلم : [ منى مناخ من سبق ] وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره وليس له أن يبني دكة ولا غيرها لأنها تضيق ويعثر بها العابر فإن قام وترك متاعه لم يجز لغيره أن يقعد لأن يده لم تزل وإن كال القعود ففيه وجهان سبق توجيههما وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان :
أحدهما : يقرع بينهما لتساويهما
والثاني : يقدم الإمام أحدهما لأن له نظرا واجتهادا
فصل :
في القطائع هي ضربان : إقطاع وإرفاق وهي مقاعد الأسواق والرحاب فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها فيصير كالسابق إليها إلا أنه أحق بها وإن نقل متاعه لأن للإمام النظر الاجتهاد فإن أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه
الضرب الثاني : موات الأرض فللإمام إقطاعها لمن يحييها لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقطعه أرضا فأرسله معاوية : [ أن أعطه إياها أو أعلمها إياه ] حديث صحيح وأقطع بلال بن الحارث المزني وأبيض بن حمال المازني وأقطع الزبير حضر فرسه رواه أبو داود
وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أقطعه الإمام شيئا لم بملكه لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه ولا يقطع من ذلك إلا ما قدر على إحيائه لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أقطع بلال بن الحارث العقيق فلما كان زمن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقطعك لتحتجره على الناس فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه رواه أبو عبيد في الأموال
فصل :
وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة لما ذكرنا في إحيائها وقال أصحابنا : وكذلك المعادن الباطنة لأنها في معناها ويحتمل جواز إقطاعها لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم : أقطع بل بن الحارث معادن القبيلة جلسيها وغوريها رواه أبو داود ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن فجاز إقطاعه كالموات
فصل في الحمى :
لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتا يمنع الناس الرعي فيها لما روى الصعب بن جثامة قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ لا حمى إلا لله ولرسوله ] متفق عليه رواه أبو داود وقال : [ الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار ] وللإمام أن يحمي مكانا لترعى فيه خيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وضوال الناس التي يقوم بحفظها لأن النبي ( ص ) حمى النقيع لخيل المسلمين لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما حميا واشتهر في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا وقال عمر رضي الله عنه : والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا في شبر رواه أبو عبيد وليس له أن يحمي قدرا يضيق به على الناس لأنه إنما جاز للمصلحة فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها وما حماه النبي ( ص ) فليس لأحد نقضه ولا يملك بالإحياء لأن ما حماه النبي ( ص ) نص فلم يجز نقضه بالاجتهاد وما حماه غيره من الأئمة جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين وفي الآخر ليس له ذلك لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد والأول أولى لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها ولهذا ملك الحامي لها تغييرها وإن أحياه إنسان ملكه لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الأرض بإحيائها نص فيقدم على الاجتهاد
باب الوقف
ومعناه : تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وهو مستحب لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : علم ينتفع به من بعده وولد صالح يدعو له أو صدقة جارية ] رواه مسلمويجوز وقف الأرض لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أن عمر أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فيها ؟ قال : [ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث ] قال فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا بالمعروف غير متأثل منه أو غير متمول فيه متفق عليه
ووقف السلاح والحيوان جائز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ] متفق عليه وفي رواية : [ وأعتده ] ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائما قياسا على المنصوص عليه ويصح وقف المشاع لأن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بوقفها وهذا صفة المشاع ولأن القصد تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهذا يحصل في المشاع كحصوله من المفرز ويصح وقف علو الدار دون سفلها وسفلها دون علوها لأنهما عينان يجوز وقفهما فجاز وقف أحدهما كالدارين
فصل
ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالأثمان والمأكول والمشروب والشمع لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه ولا ما يسرع إليه الفساد كالرياحين لأنها لا تتباقى ولا ما لا يجوز بيعه كالكلب والخنزير ولا المرهون والحمل المنفرد ولا أم الولد لأن الوقف تمليك فلا يجوز في هذه كالبيع ولا يجوز في غير معين كأحد هذين العبدين وفرس وعبد لأنه نقل ملك على وجه القربة فلم يصح في غير معين كالهبة
فصل
ولا يصح الوقف إلا على بر كالمساجد والقناطر والفقراء والأقارب أو آدمي معين مسلما كان أو ذميا لأنه في موضع القربة ولهذا جازت الصدقة عليه ولا يصح على غير ذلك كالبيع وكتب التوراة والإنجيل لأن هذا إعانة على المعصية ولأن هذه الكتب منسوخة قد بدل بعضها وقد غضب النبي صلى الله عليه و سلم حين رأى مع عمر شيئا استكتبه منها ولا على قطاع الطريق لأنه إعانة على المعصية والقصد بالوقف القربة ولا على من لا يملك كالميت والملك والجني لأن الوقف تمليك في الحياة ولا على عبد أو أم ولد لأنه لا يملك في رواية وفي أخرى : ملكه غير لازم والوقف لا يجوز أن يكون متزلزلا ولا على حربي أو مرتد لأن ملكهما تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما ولا على حربي أو مرتد لأن ملكهما تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما ولا على غير معين كرجل أو امرأة لأن تمليك غير المعين لا يصح فإن قيل : فكيف جاز الوقف على المساجد ؟ وهي لا تملك قلنا : الوقف إنما هو على المسلمين لكن عين نفعا خاصا لهم
فصل
ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع إلا أن يقول : هو وقف بعد موتي فيصح ويكون وصية يعتبر خروجه من الثلث لأنه تبرع مشروط بالموت فكان وصية كما لو قال : إذا مت فهذا صدقة للمساكين وجعل القاضي و أبو الخطاب : تعليق الوقف على الموت كتعليقه على شرط في الحياة فلا يصح في الموضعين إلا على قول الخرقي والأولى التفريق بينهما لأن تعليقه بالموت وصية فجاز كما لو قال : إذا مات فداري لفلان أو أبرأته من ديني عليه ولا يلزم من جواز ذلك صحة تعليق الهبة والإبراء على شرط في الحياة كذا ها هنا ولا يجوز الوقف إلى مدة لأنه إخراج مال على سبيل القربة فلم يجز إلى مدة كالصدقة فإن شرط فيه الخيار أو شرط فيه الرجوع إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو لم يدخل فيه من شاء لم يصح لأنه إخراج ملك على سبيل القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة
فصل
وإن شرط أن يأكل منه أيام حياته أو مدة يعينها فله شرطه نص عليه أحمد رضي الله عنه واحتج بما روى حجر المدري أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأكل أهله بالمعروف غير المنكر ولأن عمر رضي الله عنه قال في وقفه : لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا وكان الوقف في يده إلى أن مات ولأنه لو وقف وقفا عاما كالسقاية والمسجد لكان له أن ينتفع منه كذلك إذا خصه بانتفاعه
فصل
وإن وقف على نفسه ثم على أولاده ففيه روايتان :
إحداهما : لا يصح لأن الوقف تمليك فلم يصح أن يملك نفسه به كالبيع
والثانية : يصح لأنه لما جاز أن يشترط لنفسه منه شيئا جاز أن يختص به أيام حياته كالوصية
فصل
ولا يكون الوقف إلا على سبيل غير منقطع كالفقراء والمساكين وطلبة العلم والمساجد أو على رجل بعينه ثم على ما لا ينقطع فإن وقفه على رجل بعينه وسكت صح وكان مؤبدا لأن مقتضاه التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه وفيما سكت عنه على مقتضاه ويصير كأنه وقف مؤبد أو قدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقارب الواقف لأنهم أحق الناس بصدقته بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم [ صدقتك على غير رحمك صدقة وصدقتك على رحمك صدقة وصلة ]
وعنه : أنه يرجع إلى المساكين لأنها مصارف الصدقات المفروضات كالزكوات والكفارات
والأول : ظاهر المذهب وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه و الخرقي : أنه يرجع إلى الأغنياء والفقراء من أقاربه لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير ويحتمل أن يختص الفقراء لأنهم مصرف الصدقات ويرجع إلى جميع الورثة في إحدى الروايتين لأنه يصرف إليهم ماله عند موته
والثانية : يرجع إلى أقرب عصبة الواقف لأنه مصرف ولاء معتقه وعليهم عقله فخصوا بهذا ويكون وقفا على من رجع إليه لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له والوقف يقتضي التأبيد فإذا انقرضوا رجع إلى المساكين وإن لم يكن له أقارب رجع إلى المساكين ليعيلهم ولو جعل الانتهاء مما لا يجوز الوقف عليه فقال : وقفت على أولادي ثم على البيع فحكمه حكم ما لم يسم له انتهاء لأن ذكر ما لا يجوز كعدمه وإن قال : وقفت داري ولم يذكر سبلها صح في قياس المذهب لأنه إزالة ملك على سبيل القربة فصح مطلقا كالعتق وحكمه حكم منقطع الانتهاء
فصل
فإن قال : وقفت على هذا العبد ولم يذكر له مالا فهو باطل لأنه منقطع الابتداء والانتهاء وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه فقال : ثم على المساكين صح لأنه جمع فيه بين ما يجوز وما لا يجوز فصح كما لو وقفه على أولاده ثم على البيع ويحتمل أن يخرج صحته على الروايتين في تفريق الصفقة فإن قلنا بصحته وكان من لا يصح الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت والمجهول صرف في الحال إلى من يجوز لأن ذكر من لا يجوز كعدمه وإن أمكن اعتبار انقراضه كعبد معين احتمل ذلك أيضا لذلك واحتمل أن يصرف إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه ثم يصرف إلى من يجوز لأن وقفه على من يجوز مشروط بانقراض من لا يجوز فكان الوقف قبل ذلك لا مصرف له فصرف إلى الأقارب كمنقطع الانتهاء
فصل
ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها أو سقاية ويشرع بابها ويأذن في دخولها لأن العرف جار به وفيه دلالة على الوقف فجاز أن يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم طعاما لضيفانه أو نثر نثارا أو صب في خوابي السبيل ماء وأما القول فألفاظه ستة ثلاثة صريحة وهي : وقفت وحبست وسبلت متى أتى بواحدة منها صار وقفا لأنه ثبت لها عرف الاستعمال وعرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه و سلم لعمر رضي الله عنه : [ إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها ] فصارت كلفظ الطلاق فيه وثلاثة كناية وهي : تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات فإن نوى بها الوقف أو قرن بها لفظا من الألفاظ الخمسة أو حكم الوقف بأن يقول : صدقة محبسة أو محرمة أو مؤبدة أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن إلا الوقف
فصل
ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عمر : [ لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ] ولأن مقتضى الوقف التأبيد وتحبيس الأصل بدليل أن ذلك من بعض ألفاظه والتصرف في رقبته ينافي ذلك
فصل
والوقف يزيل ملك الواقف لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال ملكه عن الرقبة كالعتق ويزيل الملك بمجرد لفظه لأن الوقف يحصل به
وعنه : لا يحصل إلا بإخراجه عن يده
قال أحمد : الوقف المعروف أن يخرجه من يده ويوكل من يقوم به لأنه تبرع فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية والأول المشهور لحديث عمر رضي الله عنه ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث فلزم بمجرده كالعتق ولا يفتقر إلى قبول ويحتمل أنه متى كان على آدمي معين افتقر إلى القبول لأنه تبرع لآدمي معين أشبه الهبة فإن لم يقبل أو رده بطل في حقه ولم يبطل في حق من بعده وصار كالوقف على من لا يصح ثم على من يصح وعلى الظاهر من المذهب أنه لا يفتقر إلى القبول ولا يبطل برده لأنه إزالة ملك على وجه القربة أشبه العتق والوقف على غير معين
فصل
وينتقل الملك في الوقف إلى الموقوف عليه في ظاهر المذهب لأنه سبب نقل الملك ولم يخرجه عن المالية وجد إلى من يصح تمليكه أشبه البيع والهبة
وعنه : لا يملكه ويكون الملك لله تعالى لأنه حبس للعين وتسبيل للمنفعة على وجه القربة فأزال الملك إلى الله سبحانه كالعتق
فصل
ويملك الموقوف عليه غلته وثمرته وصوفه ولبنه لأنه من غلته فهو كالثمرة ويملك تزويج الأمة لأنه عقد على نفعها فأشبه إجارتها ويملك مهرها لأنه بدل نفعها أشبه أجرتها وإن ولدت فولدها وقف معها لأن الوقف حكم ثبت في الأم فسرى إلى الولد كالاستيلاد والكتابة ولا يملك الموقوف عليه وطأها لأن ملكه فيها ضعيف ولا يؤمن إفضاؤه إلى إخراجها من الوقف فإن وطئها فلا حد عليه لأنها ملكه ولا مهر عليه لذلك وإن لم تلد منه فهي وقف بحالها وإن ولدت منه فالولد حر لأنه من مالكها وعليه قيمته يوم الوضع لأنه فوت رقه ويشتري بها عبدا يكون وقفا مكانه وتصير أم ولد له لأنه أحبلها بحر في ملكه فإذا مات عتقت ووجبت قيمتها في تركته حينئذ لأنه أتلفها على من بعده ويشتري بالقيمة جارية تكون وقفا مكانها وإن قلنا : ليست ملكا له لم تصر أم ولد بوطئه
فصل
وإ أتلف الوقف أجنبي أو الواقف أو الموقوف عليه فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه لأن الموقوف عليه لا يملك التصرف في رقبته إنما له نفعه وإن وطئت الجارية بشبهة فولدها حر وعلى الوطئ قيمته يوم وضعه يشتري بها ما يقوم مقامه وإن جنى الوقف تعلقت جنايته بالموقوف عليه لأنه يملكه ولم تتعلق بالوقف لأن رقبته محلا للبيع فتعلقت بمالكه كأم الولد
فصل
وتصرف الغلة على ما شرط الواقف من التسوية والتفضيل والتقديم والتأخير والجمع والترتيب وإدخال من أدخله بصفة وإخرج من أخرجه بصفة لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه ولأن عمر رضي الله عنه وقف أرضه على الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف وجعل لمن وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا ووقف الزبير على ولده وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضرا بها وإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه
فصل
فإذا قال : وقفت على أولادي دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى لأن الجميع أولاد وهل يدخل فيه ولد الولد ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يدخلون لأنهم دخلوا في قول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } وفي قوله : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } فعلى هذه الرواية يدخل ولد البنين دون ولد البنات لأن ولد البنين هم الذين دخلوا في النص دون ولد البنات
قال الشاعر :
( بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب )
والثانية : لا يدخل ولد الولد لأن ولده حقيقة ولد صلبه والكلام بحقيقته إلا أن يقرن به ما يدل على إدخالهم كقوله : وقفت على أولادي لولد الذكور الثلثان وولد الإناث الثلث ونحوه فإن قال : وقفت على أولادي فإذا انقرض أولاد أولادي فهو على المساكين دخل أولاد الأولاد في الوقف لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به وقيل : لا يدخلون أيضا لأن اللفظ لا يتناولهم بل يكون وقفا منقطع الوسط يصرف بعد أولاده إلى مصرف الوقف المنقطع فإذا انقرض أولاد أولاده صرف إلى المساكين وإن وصل لفظه بما يقتضي تخصيص أولاده فقال : وقفت على ولدي لصلبي أو قال : على أولادي ثم على أولادهم اختص بالولد وجها واحدا ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقا سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى لاقتضاء لفظه التسوية كقوله تعالى في ولد الأم { فهم شركاء في الثلث } وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم فهو كذلك وإن كان له حمل لم يدخل في الوقف حتى ينفصل ثم يستحق ما يحدث من الغلة بعد انفصاله دون ما كان موجودا قبله كالثمرة المؤبرة والزرع المدرك لأنه لا يسمى ولدا قبل الانفصال وإن نفي ولده بلعان خرج من الوقف لخروجه عن كونه ولدا له
فصل
وإن وقف على بنيه لم يدخل فيه بنت ولا خنثى لأنه لم يعلم كونه ابنا وإن وقف على بناته لم يدخل فيه ذكر ولا خنثى وإن وقف على ولد فلان أو بنيه أو بناته فهو كوقفه على ولد نفسه وبنيه وبناته إلا أن يقف على بني فلان وهم قبيلة كبني هاشم فيدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى من ولد البنين دون البنات لأن هذا الاسم يقع على القبيلة ذكرهم وأنثاهم وولد البنات لا يعدون منها
فصل
وإن وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل في الوقف أولاده الذكور والإناث والخناثى وأولادهم الذكور والإناث والخناثى من ولد البنين فأما ولد البنات فقال الخرقي : لا يدخلون لأنهم لم يدخلوا في قوله سبحانه : { يوصيكم الله في أولادكم } ولا يدخلون في الوقف على ولد فلان وهم قبيلة فلا يدخلون ها هنا ولأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم وقال أبو بكر و ابن حامد : يدخلون في الوقف لأنهم أولاد أولاده وإن قال : وأولاد أولادي المنتسبين إلي لم يدخلوا وجها واحدا وإن قال : لولد الذكر سهمان ولولد الأنثى سهم دخلوا فيه لأنه صرح بدخولهم ولو وقف على قوم بأعيانهم ثم على أولادهم وكانوا ذكورا وإناثا دخل أولاد الإناث في الصحيح لأن اللفظ تناولهم كتناوله ولد البنين وإن كان جميعهم إناثا دخل في أولادهن لأن لفظه نص فيهم
فصل
وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو اشترك الجميع فيه وإن رتب فقال : على أولادي ثم على أولادهم أو قال : الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب وجب ترتيبه وإن رتب بطنين ثم شرك بين الباقين أو شرك بين بطنين ثم رتب الباقين فهو على ما شرطه وكيفما شرط فالأمر عليه لأن الوقف ثبت بلفظه فوجب أن يتبع مقتضاه
فصل
وإن وقف على قرابته أو قرابة فلان فهو لولده وولد أبيه وجده وجد أبيه الذكر والأنثى ولا يعطى من بعد ذلك ولا قرابته من جهة أمه شيئا لأن الله تعالى جعل خمس الخمس لذوي قربى النبي صلى الله عليه و سلم فأعطى النبي صلى الله عليه و سلم قرابته إلى بني هاشم لم يتجاوزهم ولم يعط بني زهرة شيئا ويحتمل أن يعطي كل من عرف قرابته من الجهتين لأن الاسم واقع عليهم لغة وعرفا
وعنه : إن لم يصل قرابته من جهة أمه في حياته دخلوا فيه وإلا فلا لأن صلته لهم في حياته تدل على إرادتهم بصلته هذه وإن وجدت قرينة لفظية أو حالية تدل على إرادتهم أو حرمانهم عمل عليه وأهل بيته بمثابة قرابته وقال الخرقي : إذا أوصى لأهل بيته أعطي من قبل أبيه وأمه
فصل
وإن وقف على أقرب الناس إليه وله أبوان وولد فهم سواء فيه لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز ولأنه جزء والده وولده جزؤه ويحتمل تقديم الابن لتقديمه في التعصيب وإن عدم بعضهم فهم للباقين ويقدم كل واحد من هؤلاء على من سواهم لأن سواهم يدلي بواسطة وإن عدموا فهو لولد الابن أو الجد أبي الأب الأقرب منهم فالأقرب فإن عدموا فهو للإخوة لأنهم ولد الأب ويقدم الأخ من الأبوين ويسوى بين الأخ من الأب والأخ من الأم وكذلك الأخوات فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم ويسوى بين الأخ والجد لاستوائهما في الميراث ولأن الجد أبو الأب والأخ ولد الأب ويحتمل تقديم الجد لأن له ولادة وهو أقوى في الميراث وقيل يقدم الأخ لأنه ابن الأب فيكون أقوى من أبيه لقوة تعصيبه فإن لم يكن له إخوة فهو للأعمام ثم بنيهم على ترتيب الميراث وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة منهم فإن كان بعضهم أقرب من بعض استوفي ما أمكن من الأقرب وتمم الباقي من الأبعد لأنه شرط العدد والأقرب فوجب اعتبارهما وإن استوى جماعة في القرب أعطي الجميع لتساويهم
فصل
وإن وقف على عترته فهم عشيرته وولده قاله ابن قتيبة وقال ابن الأعرابي و ثعلب : هم ذريته والأول أولى لأنه يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : نحن عترة النبي صلى الله عليه و سلم وإن وقف على مواليه وله موال من فوق وموال من أسفل فهو لجميعهم لأن الاسم يشملهم حقيقة وإن وقف على زيد وعمرو والفقراء فلهما الثلثان وللفقراء فمن مات منهما رجع نصيبه إلى صاحبه فإذا ماتا رجع إلى الفقراء لأنه جعله لهم مشروطا بانقراضهما
فصل
وإن وقف نخلة فيبست أو جذوعا فتكسرت جاز بيعها لأنه لا نفع في بقائها وفيه ذهاب ماليتها فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء فلا يجوز استدامة وقفه لأن ما كان شرطا لابتداء الوقف كان شرطا لاستدامته كالمالية وإذا بيعت صرف ثمنها في مثلها وإن حبس فرسا في سبيل الله فصارت بحيث لا ينتفع بها فيه بيعت لما ذكرنا وصرف ثمنها في حبيس آخر وإن وقف مسجدا فخرب وكان في مكان لا ينتفع به بيع وجعل في مكان ينتفع به لما ذكرنا وكل وقف خرب ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف وإن وقف على ثغر فاختل صرف إلى ثغر مثله لأنه في معناه
فصل
وينفق على الوقف من حيث شرط الواقف لأنه لما اتبع شرط الواقف في سبله كذلك في النفقة عليه فإن لم يشرط النفقة عليه أنفق عليه من غلته لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة عليه فإن لم يكن له غلة أنفق عليه الموقوف عليه لأنه ملكه
فصل
وينظر في الوقف من حيث شرط الواقف لأن عمر رضي الله عنه : جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته ثم إلى ذوي الرأي من أهلها ولأن سبله إلى شرطه فكذلك النظر فيه وإن لم يشرط الناظر ففيه وجهان :
أحدهما : ينظر فيه الموقوف عليه لأنه ملكه وغلته له فكان نظره إليه كالمطلق
والثاني : إلى حاكم البلد لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه ففوض الأمر فيه إلى الحاكم فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده جعل إليهما فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد ضم الحاكم إليه آخر لأن الواقف لم يرض بنظر واحد
فصل
وإن اختلف أرباب الوقف فيه رجع إلى الواقف لأن الوقف ثبت بقوله فإن لم يكن تساووا فيه لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل فوجبت التسوية كما لو شرك بينهم بلفظه
باب أحكام المياه
وهي ضربان : مباح وغيره فغير المباح ما ينبع في أرض غير مملوكة فصاحبه أحق به لأنه يملكه في رواية وفي الأخرى لا يملكه إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه وما فضل عن حاجته لزمه بذله لسقي ماشية غيره لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته ] ولا يلزمه الحبل والدلو لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به فأشبه بقية ماله وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره فيه روايتان :إحداهما : لا يلزمه لأن الزرع لا حرمة له في نفسه
والثانية : يلزمه لما روى إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع فضل الماء رواه أبو داود وإن لم يفضل عنه شيء لم يلزمه بذله لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره ولأن ما يحتاج إليه يستضر ببذله فلم يجب بذله كحبله ودلوه
الضرب الثاني : الماء النابع في الموات فمن سبق إلى شيء منه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] وإن أراد أن يسقي أرضا وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه جاز أن يسقي كيف شاء لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كان نهرا صغيرا أو من مياه الأمطار بدئ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ثم يرسل إلى الذي يليه كذلك إلى الآخر لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في سيل مهزور ومذينيب : [ يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل ] أخرجه مالك في الموطأ وعن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك : فغضب الأنصاري فقال : إن كان ابن عمتك ! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر ] متفق عليه
و شراج الحرة : مسايل الماء جمع شرج وهو النهر الصغير ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق إلى أولى المشرعة وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض سقى كل واحدة على حدتها فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر بحيث إذا سقاها يستضر أهل الأرض الشاربة منه منع منه لأن من ملك أرضا كانت له حقوقها ومرافقها واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها فلا يملك غير إبطاله
فصل :
فإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهايأة جاز وإن أرادوا قسمته بنصب حجر أو خشبة مستوية في مصدم الماء فيها نقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقيته منفردة وإن أراد أحدهما أن يسقي نصيبه أرضا لا حق لها في الشرب منه فله ذلك لأن الماء لا حق لغيره فيه فكان له التصرف فيه كيف شاء كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه يجعل لهذه الأرض رسما في الشرب منه فمنع منه كما لو كان له داران متلاصقتان في دربين أراد فتح أحدهما إلى الأخرى وليس لأحدهما فتح ساقية في جانب النهر قبل المقسم يأخذ حقه فيها ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء ولا غير ذلك لأن حريم النهر مشترك فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه
فصل :
ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين وثمر الشجر المباح والبلح وما ينبذه الناس رغبة عنه فهو أحق به للخبر فإن استبق إليه اثنان قسم بينهما لأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في المملوك به كما لو ابتاعاه
باب الهبة
وهي التبرع بتمليك مال في حياته وهي مستحبة لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تهادوا تحابوا ] وهي أفضل من الوصية لما روى أبو هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الصدقة أفضل ؟ قال : [ أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ] رواه البخاري و مسلم بمعناهوهبة القريب أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله ] وفي هبة القريب صلتها ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية لما روى النعمان بن بشير قال : تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشهده على صدقتي فقال : [ أكل ولدك أعطيت مثله ؟ قال : لا قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ] قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة رواه مسلم في لفظ : [ لا تشهدني على جور ] متفق عليه فسماه جورا والجور حرام ولأن ذلك يوقع العداوة وقطيعة الرحم فمنع منه كنكاح المرأة على عمتها فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين : إما رد عطية الأول أو إعطاء الآخر مثله لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمره برده وأمره يقتضي الوجوب فإن مات ولم يسو بينهم ففيه روايتان :
إحداهما : يثبت ذلك لمن وهب له ويسقط حق الرجوع اختاره الخرقي ولأنه حق للأب يتعلق بمال الولد فسقط بموته كالأخذ من ماله
والثانية : يجب رده وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص لأن النبي صلى الله عليه و سلم سماه جوازا والجور يجب رده بكل حال والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت فأشبه الميراث
فصل :
فإن خص بعض ولده لغرض صحيح من زيادة حاجة أو عائلة أو اشتغاله بعلم أو لفسق الآخر وبدعته فقد روي عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على جوازه لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف : لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة : كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقا ووددت أنك حزتيه وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هما أخواك وأختاك ويحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل بشيرا
فصل :
والأم كالأب في التسوية بين الأولاد لأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولا تجب التسوية بين سائر الوراث لأن النبي صلى الله عليه و سلم علم أن لبشير زوجة فلم يأمره بإعطائها حين أمره بالتسوية بين أولاده
فصل :
وما جاز بيعه من مقسوم أو مشاع أو غيره جازت هبته لأنه عقد يقصد به تمليك العين فأشبه البيع وجوز هبة الكلب وما يباح الانتفاع به من النجاسات لأنه تبرع فجاز في ذلك كالوصية ولا يجوز في مجهول ولا معجوز عن تسليمه ولا في المبيع قبل قبضه لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة أشبه البيع ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك والحكم في الإيجاب والقبول فيها كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه
فصل :
ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه لحديث أبي بكر رضي الله عنه وروي عن عمر رضي الله عنه نحوه فإن مات الموهوب له قبل القبض بطلت لأنه غير لازم فيبطل بالموت كالشركة وإن مات الواهب فعنه ما يدل على أن الهبة تبطل لذلك وهو قول القاضي وقال أبو الخطاب : لا تبطل لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلا يبطل بالموت كبيع الخيار ويقوم الوارث مقام المورثون في التقبيض والفسخ فإذا قبض ثبت الملك حينئذ والخبرة في التقبيض إلى الواهب لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه كالإيجاب ولا يجوز القبض إلا بإذنه لأنه غير مستحق عليه فإن القبض بغير إذنه لم تتم الهبة وإن أذن ثم رجع قبل القبض أو مات بطل الإذن
فصل :
وأما غير المكيل والموزون ففيه روايتان :
إحداهما : لا تتم هبته إلا بالقبض لأنه نوع هبة فلم تتم قبل القبض كالمكيل والموزون
والثانية : تتم قبل القبض لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : الهبة إذا كانت معلومة فهي جائزة قبضت أو لم تقبض ولأن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما يلزم قبل القبض كالبيع وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع ون كان الموهوب في يد المتهب لم يحتج إلى قبض لأن قبضه مستدام وهل يفتقر إلى إذن في القبض ؟ فيه روايتان وذكر القاضي : أنه لا بد من مضي مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن
فصل :
فإن وهب لابنه الصغير شيئا وقبضه له صح ولزم لأنه وليه فكان له القبض كما لو كان الواهب أجنبيا ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئا في يده لأنه في يد الأب
فصل :
والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابا سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى لأنها عطية على وجه التبرع فلم تقتض ذلك كالصدقة وإن شرط ثوابا معلوما صح وكانت بيعا يثبت فيه الخيار والشفعة وضمان العهدة وحكي عن أحمد رواية ثانية : أنه يغلب فيها حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به وإن شرط ثوابا مجهولا احتمل أنه لا يصح لأنه عوض مجهول في معاوضة فلم يصح كالبيع
وعنه : أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها ويحتمل أن يعطيه قيمتها فإن لم يفعل فللواهب الرجوع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها قال أحمد : إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان ولم يثبه منها فلا أرى عليه نقصان ما نقص إلا أن يكون ثوابا لبسه أو جارية استخدمها أو استعملها فإن اختلفا فقال : وهبتك ببدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر لأنه ادعى عليه بدلا الأصل عدمه
فصل :
وإن وهب لغير ولده شيء وتمت الهبة لم يملك الرجوع فيه لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ العائد من هبته كالعائد في قيئه ] متفق عليه وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن
وإن وهب الرجل لولده فله الرجوع للخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بشيرا برد ما وهب لولده النعمان ولأن الأب لا يتهم في رجوعه لأنه لا يرجع إلا لضرورة أو إصلاح الولد وليس للجد الرجوع لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة وليس الجد في معناه لأنه يدلي بواسطة ويسقط الأب ولا تسقط الإخوة فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها لأنه لا ولاية لها على ولدها بخلاف الأب ويحتمل أن لها الرجوع لأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية فأشبهت الأب والهبة والصدقة سواء في ذلك بدليل أن في حديث النعمان بن بشير : فرجع أبي فرد تلك الصدقة وعن أحمد رضي الله عنه ليس للأب الرجوع في هبته أيضا لعموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ العائد في هبته كالعائد في قيئه ]
فصل :
وللرجوع في الهبة شروط أربعة :
أحدها : أن تكون باقية في ملكه لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد فله الرجوع فيها لأنه عاد حكم العقد الأول وإن عادت بسبب آخر فلا رجوع له لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه
الثاني : أن يكون تصرف الابن فيها باقيا فإن استولد الأمة أو رهنها أو حجر عليه لفلس سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن ونقل ملك فيما لا يقبل النقل فإن زال الحجر والرهن فله الرجوع لزوال المالك
الثالث : أن لا يزيد زيادة متصلة كالسمن والتعلم فإن زادت ففي الرجوع روايتان كالروايتين في الرجوع على المفلس وإن كانت منفصلة لم يمنع الرجوع والزيادة للابن لأنها نماء منفصل في ملكه فكانت له كنماء المبيع المعيب
الرابع : أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد نحو أن يرغب الناس في تزويجه فيزوجوه من أجله أو يداينوه فإن تعلقت بها رغبة ففيه روايتان :
إحداهما : لا رجوع فيها لأنه إضرار بالغير فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن
والثانية : له ذلك لعموم الحديث ولأنه حق الغير لم يتعلق بهذا المال أشبه ما لو لم يتزوج
فصل :
وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين :
أحدهما : أن لا يجحف للابن ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته
الثاني : أن لا يأخذ من مال أحد ولديه فيعطيه للآخر لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى فإذا وجد الشرطان جاز الأخذ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] رواه سعيد و ابن ماجه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم ] رواه سعيد و الترمذي وقال : حديث حسن ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية أشبه مال نفسه وليس للابن مطالبة أبيه بلدين له عليه لما ذكرنا قال أحمد رضي الله عنه : وإذا مات بطل دين الابن قال بعض أصحابنا : يعني ما أخذه على سبيل التملك فأما إن أخذه على غير ذلك رجع الابن في تركته وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه لا للجد ولا سائر الأقارب لعدم الخبر فيهم وامتناع قياسهم على الأب لما بينهما من الفرق ويحتمل أن يجوز للأم لدخول ولدها في عموم قوله : أولادكم
فصل :
وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه لم يصح تصرفه نص عليه احمد فقال : لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله لأن ملك الابن باق عليه بدليل صحة تصرفه فيه ووطئه لجواريه وجريان الربا بينه وبين أبيه فأشبه مال الأجنبي وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها فلا حد عليه للشبهة وإن لم تلد فهي على ملك الابن وإن ولدت فولده حر وتصير أم ولد له
فصل :
فصل في العمرى :
وهي أن يقول : أعمرتك هذه الدار حياتك أو جعلتها لك عمرك أو عمري ولها ثلاث صور :
إحداهن : أن يقول : أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك من بعدك فهذه هبة صحيحة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ] رواه أحمد و مسلم
الثانية : أن يقول : أعمرتكها حياتك ولم يزد ففيها روايتان :
إحداهما : هي كالأولى للخبر وجاء في لفظ : [ قضى رسول الله بالعمرى لمن وهبت له ] متفق عليه ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن تقدريه بحياته منافيا لحكم الإملاك
والثانية : يرجع بعد موته إلى المعمر لما روى جابر قال : إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول : هي لك ولعقبك فأما إذا قال : هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها متفق عليه
الثالثة : أن يقول مع ذلك : فإذا مت عادت إلي إن كنت حيا أو إلى ورثتي والرقبى مثل ذلك إلا أنه يقول : إن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك أو يقول : أرقبتك داري هذه وقال مجاهد : هي أن يقول : للآخر مني ومنك موتا ففيها روايتان :
إحداهما : هي لازمة لا تعود إلى الأول لعموم الخبر الأول ولقول رسول الله ( ص ) : [ لا ترقبوا فمن أرقب شيئا فهو له في حياته وموته ] ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه فلم يؤثر كما لو شرطه بعد لزوم العقد
والثانية : ترجع إلى المعمر والمرقب لحديث جابر ولقول رسول الله ( ص ) : [ المؤمنون عند شروطهم ] وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان لأنها نوع هبة فجازت في ذلك كله كسائر الهبات ولو شرط في الهبة شرطا منافيا لمقتضاها نحو أن يقول : وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه أو بشرط أن تبيعه أو تهبه فسد الشرط وفي صحة العقد وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع وإن قيدها فقال : وهبتكها سنة لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة أشبه البيع والله أعلم
كتاب الوصايا
الوصية : هي التبرع بعد الموت وهي مستحبة لمن ترك خيرا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم ] رواه ابن ماجه وليست واجبة لأنها عطية لا تجب في الحياة فلا تجب بعد الموت كالزائد على الثلث وحكي عن أبي بكر أنها واجبة للأقارب غير الوارثين لظاهر قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين }والمستحب فيها الإيصال بالخمس وقال القاضي و أبو الخطاب : يستحب لمن كثر ماله الوصية بالثلث لما ذكرنا في الحديث ووجه ما ذكرنا ما روى عامر بن سعد عن أبيه قال : مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم يعودني فقلت : يا رسول الله لي مال كثير وليس يرثني إلا ابنتي أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا قلت فبالثلثين ؟ قال : لا قلت : فبالشطر قال : لا قلت : فبالثلث ؟ قال : [ الثلث والثلث كثير إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ] متفق عليه يعني يطلبون الناس بأكفهم فاستكثر الثلث مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله قال ابن عباس : وددت لو أن الناس غضوا من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والثلث كثير ] متفق عليه وأوصى أبو بكر بالخمس وقال : رضيت نفسي ما رضي الله به لنفسه وقال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث أما قليل المال ذو العيال فلا تستحب له الوصية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ]
فصل :
ويستحب لمن رأى موصيا يحيف في وصيته أن ينهاه لنهي النبي صلى الله عليه و سلم سعدا عن الزيادة في الثلث وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } هو أن يرى المريض يحيف على ولده فيقول له : اتق الله ولا توص بمالك كله
فصل :
ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث لنهي النبي صلى الله عليه و سلم سعدا عن ذلك فإن فعل وقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة فإن أجازوه جاز وإن ردوه بطل بغير خلاف ولأن الحق لهم فجاز بإجازتهم وبطل بردهم وظاهر المذهب أن الإجازة صحيحة وإجازة الورثة تنفيذ لأن الإجازة تنفيذ في الحقيقة ولا خلاف في تسميتها إجازة فعلى هذا يكتفى فيها بقوله : أجزت وما يؤدي معناه وإن كانت عتقا فالولاء للموصي يختص به عصباته وقال بعض أصحابنا : الوصية باطلة والإجازة هبة يفتقر إلى لفظها وولاء المعتقين لجميع الورثة وللمجيز إذا كان أبا للموصى له الرجوع فيها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها والنهي يقتضي الفساد ولأنه أوصى بمال غيره فلم يصح كالوصية بما استقر ملك وارثه عليه ولا يعتبر الرد والإجازة إلا بعد الموت لأنه لا حق للوارث قبل الموت فلم يصح إسقاطه كإسقاط الشفعة قبل البيع فأما من لا وارث له ففيه روايتان :
إحداهما : تجوز وصيته بماله كله لأن النهي معلل بالإضرار بالورثة لقوله صلى الله عليه و سلم : [ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ]
والثانية : الوصية باطلة لأن ماله يصير للمسلمين ولا مجيز منهم
فصل :
وإن أوصى بجزء من المال فأجازها الوارث ثم قال : إنما أجزتها ظنا مني أن المال قليل قبل قوله مع يمينه لأنه مجهول في حقه فلا تصح الإجازة فيه ويحتمل أن لا يقبل لأنه رجوع عن قول يلزمه به حق فلم يقبل كالرجوع عن الإقرار وإن وصى بعبد فأجازه ثم قال : ظننت المال كثيرا فأجزته لذلك ففيه أيضا وجهان وقيل : يصح هنا وجها واحدا لأن العبد معلوم
فصل :
ويعتبر خروجه من الثلث بعد الموت لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها فلو وصى بثلث ماله وله ألفان فصار عند الموت ثلاثة آلاف لزمت الوصية في الألف وإن نقصت فصارت ألفا لزمت الوصية في ثلث الألف وإن وصى ولا مال له ثم استفاد مالا تعلقت الوصية به وإن كان له مال ثم تلف بعضه بعد الموت لم تبطل الوصية
باب من تصح وصيته والوصية له ومن لا تصح
من ثبتت له الخلافة صحت وصيته بها لأن أبا بكر أوصى بها لعمر رضي الله عنهما ووصى عمر إلى أهل الشورى ولم ينكره من الصحابة منكر ومن تثبت له الولاية على مال ولده فله أن يوصي إلى من ينظر فيه لما روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة قال : أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم عثمان و المقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من مالهوللولي في النكاح الوصية بتزويج موليته فتقوم وصيته مقامه لأنها ولاية شرعية فملك الوصية لها كولاية المال
وعنه : ليس له الوصية بذلك لأنها ولاية لها من يستحقها بالشرع فلم يملك نقلها بالوصية كالحضانة وقال ابن حامد : إن كان لها عصبة لم تصح الوصية بها لذلك وإن لم تكن صحت لعدمه
فصل :
ومن عليه حق تدخل النيابة كالدين والحج والزكاة ورد الوديعة صحت الوصية به لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره ففي حق نفسه أولى ويجوز أن يوصي إلى من يفرق ثلثه في المساكين وأبواب البر لذلك
فصل :
ومن صح تصرفه في المال صحت وصيته لأنها نوع تصرف ومن لا تمييز له كالطفل والمجنون والمبرسم ومن عاين الموت لا تصح وصيته لأنه لا قول له والوصية قول وتصح وصية البالغ المبذر لأنه إنما حجر عليه لحفظ ماله له وليس في وصيته إضاعة له لأنه إن عاش فهو له وإن مات لم يحتج إلى غير الثواب وقد حصله وتصح وصية الصبي المميز لذلك ولأن عمر أجاز وصية غلام من غسان وقال أبو بكر : إذا جاوز العشر صحت وصيته رواية واحدة ومن دون السبع لا تصح وصيته ومن بينهما ففيه روايتان ويحتمل أن لا تصح وصية الصبي بحال لأنه لا يصح تصرفه أشبه الطفل فأما السكران فلا تصح وصيته لأنه لا تمييز له ويحتمل أن تصح بناء على طلاقه
فصل :
ولا تصح الوصية بمعصية كالوصية للكنيسة وبالسلاح لأهل الحرب لأن ذلك لا يجوز في الحياة فلا تجوز في الممات وتصح الوصية للذمي لما روي أن صفية زوج النبي صلى الله عليه و سلم : أوصت لأخيها بثلاثمائة ألف وكان يهوديا ولأنه يجوز التصديق عليه في الحياة فجاز بعد الممات وتصح الوصية للحربي لذلك ويحتمل أن لا تصح لأنه لا يصح الوقف عليه
فصل :
ولا تجوز الوصية لوارث لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا وصية لوارث ] وهذا حديث صحيح فإن فعل صحت في ظاهر المذهب ووقفت على إجازة الورثة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يجوز لوارث وصية إلا أن يشاء الورثة ] فيدل على أنهم إذا شاؤوا وكانت وصية جائزة وقال بعض أصحابنا : الوصية باطلة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا وصية لوارث ] فإن وصى لغير وارث فصار عند الموت وارثا لم تلزم الوصية وإن وصى لوارث فصار غير وارث لزمت الوصية لأن اعتبار الوصية بالموت
فصل :
ولا تصح الوصية لمن لا يملك كالميت والملك والجني لأنه تمليك فلم يصح لهم كالهبة وإن وصى لحمل امرأة ثم تيقنا وجود حالة الوصية بأن تضعه لأقل من ستة أشهر منذ أوصى لغاية أربع سنين وليست بفراش صحت الوصية لأنه ملك بالإرث فملك بالوصية كالمولود وإن وضعته لستة أشهر فصاعدا وهي فراش لم تصح الوصية لأنه لا يتيقن وجوده حال الوصية لأنه لا يتيقن وجوده حال الوصية وإن ألقته ميتا لم تصح الوصية له لأنه لا يرث وإن أوصى لما تحمل هذا المرأة لم يصح لأنه تمليك لمن لا يملك وإن قال : وصيت لأحد هذين الرجلين لم يصح لأنه تمليك لغير معين وإن قال : أعطوا هذا العبد لأحد هذين صح لأنه ليس بتمليك إنما هو وصية بالتمليك فجاز كما لو قال لوكيله : بع هذا العبد مع أحد هذين
فصل :
وإن وصى لعبد بمعين من ماله أو بمائة لم يصح لأنه يصير ملكا للورثة فيملكون وصيته وحكي عنه : أن الوصية صحيحة وإن وصى له بنفسه صح وعتق وإن وصى له بمشاع كثلث ماله صح وتعينت الوصية فيه لأنه ثلث المال أو من ثلثه وما فضل من الثلث بعد عتقه فهو له وإن وصى لمكاتبه صح لأنه يملك المال بالعقود فصحت الوصية له كالحر وإن وصى لأم ولده صح لأنها حرة عند الاستحقاق وإن وصى لمدبره صح لأنه إما أن يعتق كله أو بعضه فيملك بجزئه الحر وإن وصى لعبد غيره كانت الوصية لمولاه لأنه اكتساب من العبد فأشبه الصيد ويعتبر القبول من العبد فإن قبل السيد لم يصح لأن الإيجاب لغيره فلم يصح قبوله كالإيجاب في البيع
باب ما تجوز الوصية
تصح الوصية بكل ما يمكن نقل الملك فيه من مقسوم ومشاع معلوم ومجهول لأنه تمليك جزء من ماله فجاز في ذلك كالبيع وتجوز بالحمل في البطن واللبن في الضرع وبعبد من عبيده وبما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والآبق لأن الموصى له يخلف الموصي في الموصى به كخلاف الورثة في باقي المال والوارث يخلفه في هذه الأشياء كلها كذلك الموصى له وإن وصى بمال الكتابة صح لذلك وإن وصى برقبة المكاتب انبنى على جواز بيعه فإن جاز جازت الوصية به وإلا فلا وإن وصى له بما تحمل جاريته أو شاته أو شجرته صح لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصيةفصل :
وتجوز الوصية بالمنافع لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث فكذلك في الوصية وتجوز الوصية بالعين دون المنفعة وبالعين لرجل والمنفعة لآخر لأنهما كالعينين فجاز فيهما ما جاز في العينين وتجوز بمنفعة مقدرة المدة ومؤبدة لأن المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالمجهولة فصحت الوصية بالجميع
فصل :
وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات كالكلب والزيت النجس لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع فجاز نقل اليد فيه بالوصية ولا تجوز بما لا يحل الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب الذي يحرم اقتناؤه لأنه لا يحل الانتفاع به فلا تقر اليد عليه
فصل :
ويجوز تعليقها على شرط في الحياة لأنها تجوز في المجهول فجاز تعليقها على شرط كالطلاق ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة وإن قال : وصيت لك بثلثي وإن قدم زيد فهو له فقدم زيد في حياة الموصي فهو له وإن قدم بعد موته فقال القاضي : الوصية للأول لأنه استحقها بموت الموصي فلم ينتقل عنه ويحتمل أنها للثاني لأنه جعلها له بقدومه وقد جود
فصل :
وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء أو لمن لا يعتبر قبوله كسبيل الله لزمت بالموت لأنه لا يمكن اعتبار القبول فسقط اعتباره وإن كان لآدمي معين لم تلزم إلا بالقبول لأنها تمليك فأشبهت الصدقة ولا يصح القبول إلا بعد الموت لأن الإيجاب لما بعده فكان القبول بعده فإذا قبل ثبت له الملك حينئذ لأن القبول يتم به السبب فلم يثبت الملك قبله كالهبة ويحتمل أنه موقوف إن قبل بنينا أن ملكه من حين الموت لأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب بالإيجاب كالبيع والهبة والمذهب الأول فما حدث من نماء منفصل قبل القبول فهو للوارث وإن وصى لرجل بزوجته فأولدها قبل القبول فولده رقيق للوارث وعلى الاحتمال الثاني يكون النماء للموصى له وولده الحر
فصل :
وإن رد الوصية في حياة الموصي لم يصح الرد لأنه لا حق له في الحياة فلم يملك إسقاطه كالشفيع قبل البيع وإن ردها بعد الموت قبل القبول صح لأن الحق ثبت له فملك إسقاطه كالشفيع بعد البيع وإن رد بعد القبول لم يصح الرد لأنه ملك ملكا تاما فلم يصح رده كالعفو عن الشفعة بعد الأخذ بها فإن لم يقبل ولم يرد فللورثة مطالبته بأحدهما فإن امتنع حكمنا عليه بالرد لأن الملك متردد بينه وبين الورثة فأشبه من تحجر مواتا وامتنع من إحيائه أو وقف في مشرعة ماء يمنع غيره ولا يأخذ
فصل :
فإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية لأنه مات قبل استحقاقها فإن مات بعده قبل القبول فكذلك في قياس المذهب واختيار ابن حامد لأنه عقد يفتقر إلى القبول فبطل بالموت قبل القبول كالهبة والبيع وقال الخرقي : يقوم الوارث مقام الموصى له في القبول والرد لأنه عقد لازم من أحد طرفيه فلم يبطل بموت من له الخيار كعقد الرهن فإن قبل الوارث ثبت الملك له فلو وصى لرجل بأبيه فمات الموصى له قبل القبول فقبل ابنه وقلنا بصحة ذلك فإن الملك ينتقل إلى الموصى له بموت الوصي ورث الموصى به من أبيه السدس لأنا تبينا أنه كان حرا وإن قلنا : لا ينتقل إلا بالقبول لم يرث شيئا لأنه كان رقيقا
باب ما يعتبر من الثلث
ما وصي به من التبرعات كالهبة والوقف والعتق والمحاباة اعتبر من الثلث سواء كانت الوصية في الصحة أو المرض لأن لزوم الجميع بعد الموتوعنه : أن الوصية في الصحة من رأس المال والأول أصح فأما الواجبات كقضاء الدين والحج والزكاة فمن رأس المال لأن حق الورثة بعد أداء الدين لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } وقال علي رضي الله عنه : ( إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن الدين قبل الوصية ) رواه الترمذي والواجب لحق الله بمنزلة الدين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ دين الله أحق أن يقضى ] فإن وصى بها مطلقا أو من رأس ماله فهي من رأس ماله فإن قال : أخرجوها من ثلثي أخرجت من الثلث وتممت من رأس المال فإن كان معها وصية بتبرع فقال القاضي : يبدأ بالواجب فإن فضل عنه من الثلث شيء فهو للموصى له بالتبرع فإن لم يفضل شيء سقط إلا أن يجيز الورثة ويحتمل أن يقسم الثلث بين الوصيين بالحصة فما بقي من الواجب تمم من الثلثين فيدخله الدور ويحتاج إلى العمل بطريق الجبر فتفرض المسألة فيمن وصى بقضاء دينه وهو عشرة ووصى لآخر بعشرة وتركته ثلاثون فاجعل تتمة الواجب شيئا ثم خذ ثلث الباقي وهو عشرة إلا ثلث شيء قسمها بين الوصيين فحصل لقضاء الدين خمسة إلا سدس شيء إذا أضفت إليه الشيء المأخوذ كان عشرة فأجبر الخمسة من الشيء بسدسه يبقى خمسة دنانير وخمسة أسداس شيء تعدل العشرة فالشيء ستة وحصل لصاحب الوصية الأخرى أربعة
فصل :
فأما عطيته في صحته فمن رأس ماله لأنه مطلق في التصرف في ماله لا حق لأحد فيه وإن كان في مرض غير مخوف فكذلك لأنهم في حكم الصحيح وإن كان مخوفا اتصل به الموت فعطيته من الثلث لما روى عمران بن حصين : أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا رواه مسلم ولأنه في هذه الحال لا يأمن الموت فجعل كحال الموت فإن برئ ثم مرض ومات فهو من رأس المال لأنه ليس بمرض الموت وإن وهب ما يعتبر قبضه وهو صحيح وأقبضه وهو مريض اعتبر من الثلث لأنه لم يلزم إلا بالقبض الذي وجد بالمرض
فصل :
والمرض المخوف كالطاعون والقولنج والرعاف الدائم والإسهال المتواتر والحمى المطبقة وقيام الدم والسل في انتهائه والفالج في ابتدائه ونحوها وغير المخوف كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير والإسهال اليسير من غير دم والسل قبل تناهيه والفالج إذا طال فأما الأمراض الممتدة فإن أضني صاحبها على فراشه فهي مخوفة وإلا فلا وقال أبو بكر : فيها وجه آخر أنها مخوفة على كل حال فإن أشكل شيء من هذه الأمراض رجع إلى قول عدلين من أهل الطب لأنهم أهل الخبرة به
فصل :
وإن ضرب الحامل الطلق فهو مخوف لأنه من أسباب التلف وما قبل ستة أشهر فهي في حكم الصحيح فإن صار له ستة أشهر فقال الخرقي : عطيتها من الثلث لأنه وقت لخروج الولد وهو من أسباب التلف وقال غيره : هي كالصحيح لأنه لا مرض بها وإن وضعت الولد وبقيت معها المشيمة أو حصل مرض أو ضربان فهو مخوف وإلا فلا ومن كان بين الصفين حال التحام الحرب أو في البحر في هيجانه أو أسير قوم عادتهم قتل الأسرى أو قدم للقتل أو حبس له أو وقع الطاعون ببلده فعطيته من الثلث لأنه يخاف الموت خوف المريض وأكثر فكان مثله في عطيته قال أبو بكر : وفيه رواية أخرى : أن عطاياهم من جميع المال لأنه لا مرض بهم
فصل :
فأما بيع المريض بثمن المثل وتزويجه بمهر المثل فلازم من جميع المال لأنه ليس بوصية إنما الوصية التبرع وليس هذا تبرعا وإن حابى في ذلك اعتبرت المحاباة من الثلث لأنها تبرع وإن كاتب عبده اعتبرت من الثلث لأن ما يأخذه عوضا من كسب عبده وهو مال له فصار كالعتق بغير عوض وإن وهب له من يعتق عليه فقبله عتق من المال كله لأنه لم يخرج من ماله شيئا بغير عوض وإن مات ورثه لأنه ليس بوصية
فصل :
وإن عجز الثلث عن التبرعات قدمت العطايا على الوصايا لأنها أسبق فإن عجز الثلث عن العطايا بدئ بالأول فالأول عتقا كان أو غيره لأن السابق استحق الثلث فلم يسقط بما بعده وإن وقعت دفعة واحدة تحاصوا في الثلث وأدخل النقص على كل واحد بقدر عطيته لأنهم تساووا في الحق فقسم بينهم كالميراث
وعنه : أن العتق يقدم لأنه آكد لكونه مبنيا على التغليب والسراية فإن كان العتق لأكثر من واحد أقرع بينهم فكمل العتق في بعضهم لحديث عمران ولأن القصد تكميل الأحكام في العبد ولا يحصل إلا بذلك وإن قال : إن أعتقت سالما فغانم حر ثم أعتق سالما قدم على غانم لأنه عتقه أسبق وإن قال : إن أعتقت سالما فغانم حر مع حريته فكذلك لأننا لو أعتقنا غانما بالقرعة لرق سالم ثم بطل عتق غانم لأنه مشروط بعتق سالم فيفضي عتقه إلى بطلان عتقه وإن كانت التبرعات وصايا سوي بين المتقدم والمتأخر لأنها توجد عقيب موته دفعة واحدة فتساوت كلها
فصل :
وإذا أعتق بعض العباد بالقرعة تبينا أنه كان حرا من حين الإعتاق فيكون كسبه له وإن أعتق بعضه ملك من كسبه بقدره فإن أعتق عبدا لا يملك غيره ـ قيمته مائة ـ فكسب في حياة سيده مائة عتق نصفه وله نصف كسبه ويحصل للورثة نصفه ونصف كسبه وذلك مثلا ما عتق منه فطريق عملها أن يقول : عتق منه شيء وله من كسبه شيء وللورثة شيئان فيقسم العبد وكسبه على أربعة أشياء فيخرج للشيء خمسون وهو نصف العبد ولو كسب مثلي قيمته لقلت : عتق منه شيء وله من كسبه شيئان وللورثة شيئان فيعتق منه ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس كسبه وللورثة الخمسان
فصل :
وإن وهب المريض مريضا عبدا قيمته عشرة لا يملك غيره ثم وهبه الثاني للأول ولا يملك غيره فقد صحت هبة الأول في شيء وصحت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء بقي له ثلثا شيء ولورثة الأول شيئان أبسط الجميع أثلاثا تكن ثمانية والشيء ثلاثة فلورثة الأول ستة هي ثلاث أرباع العبد ولورثة الثاني ربعه
فصل :
ولو تزوج المريض امرأة صداق مثلها خمسة فأصدقها عشرة لا يملك غيرها فماتت قبله ثم مات فقد صح لها بالصداق خمسة وشيء وعاد إلى الزوج نصف ذلك ديناران ونصف ونصف شيء فصار لورثته سبعة ونصف إلا نصف شيء تعدل شيئين أجبرها بنصف الشيء تصر شيئان ونصف تعدل سبعة ونصفان أبسطها تصر خمسة تعدل خمسة عشر فالشيء إذا ثلاثة فلورثة الزوج ستة ولورثتها أربعة
فصل :
وإن باع المريض عبدا لا يملك غيره قيمته ثلاثون بعشرة فأسقط الثمن من قيمته ثم انسب ثلث العبد كله إلى الباقي من ثمنه يكن نصفه فيصح البيع في نصفه بنصف ثمنه ولو اشتراه بخمسة عشر كانت نسبة الثلث إلى باقيه بثلثين فيصح البيع في ثلثه بثلثي ثمنه
فصل :
ومن وصى لرجل بثلث ماله ومنه حاضر وغائب وعين ودين فللموصى له ثلث العين الحاضرة وللورثة ثلثاها وكلما اقتضى من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء اقتسموه أثلاثا لأنهم شركاء فيه وإن وصى بمائة حاضرة وله مائتان غائبة أو دين ملك الموصى له ثلث الحاضرة وله التصرف فيه في الحال لأن الوصية فيه نافذة فلا فائدة من وقفه ووقف ثلثاها فكلما حضر من الغائب شيء أخذه الوارث واستحق الموصى له من الحاضرة قدر ثلثه وإن تلفت الغائبة فالثلثان للورثة وكذلك لو دبر عبده ومات وله دين مثلاه عتق ثلثه ووقف ثلثاه لما ذكرناه
فصل :
وإن وصى له بمنفعة عبد سنة ففي اعتبارها في الثلث وجهان :
أحدهما : تقوم المنفعة سنة ويقوم العبد مسلوب المنفعة سنة على الوارث
والثاني : يقوم العبد كامل المنفعة ويقوم مسلوب المنفعة سنة فيعتبر ما بينهما وإن وصى بنفعه حياه ففيه وجهان :
أحدهما : يقوم العبد بمنفعته ثم يقوم مسلوب المنفعة فما زاد على قيمة الرقبة المنفردة فهو قيمة المنفعة
والثاني : يقوم العبد بمنفعته على الموصى له لأن عبدا لا نفع فيه لا قيمة له وإن وصى لرجل بنفعه ولآخر برقبته اعتبر خروج العبد بمنفعته من الثلث وجها واحدا وإن وصى له بثمرة شجرة أبدا ففي التقويم الوجهان لما ذكرناه
باب الموصى له
إذا أوصى لجيرانه صرف إلى أربعين دارا من كل جانب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجار لأربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا ]وإن أوصى للعلماء فهو للعلماء بالشرع دون غيرهم لأنه لا يطلق هذا الاسم على غيرهم ولا يستحق من يسمع الحديث ولا معرفة له به لأن مجرد سماعه ليس بعلم
فصل :
وإن أوصى للأيتام فهو لمن لا أب له غير بالغ لأن اليتيم فقد الأب من الصغر ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتيم بعد احتلام ] رواه أبو داود ويدخل فيه الغني والفقير لشمول الاسم لهم والأرامل : النساء غير ذوات الأزواج لأن الاسم لا يطلق في العرف على غيرهن وتستحق منه الغنية والفقيرة لذلك فإن قيل : فقد قال الشاعر :
( هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذه الأرامل الذكر ؟ )
فسمى الذكر أرملا قلنا : هذا البيت حجة لنا فإنه لم يدخل الذكور في لفظ الأرامل إذ لو دخلوا لكان الضمير ضمير الذكور فإنه متى اجتمع ضمير المذكر والمؤنث غلب ضمير التذكير وإنما سمى نفسه أرملا تجوزا وكذلك وصفه بكونه ذكرا والعزاب : من لا أزواج لهم من الرجال والنساء يقال : رجل عزب وامرأة عزبة والأيامى مثل العزاب سواء قال الشاعر :
( فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم )
ويحتمل أن يختص العزاب بالرجال والأيامى بالنساء لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم ولأنه لو كان الأيم مشتركا بينهما لاحتيج إلى الفرق بهاء التأنيث كقائم وقائمة فلما أطلق على المؤنث بغيرها دل على اختصاصها به كطالق وحائض وشبههما
فصل :
والغلمان والصبيان : الذكور ممن يبلغ لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم والفتيان والشبان : اسم للبالغين إلى الثلاثين والكهول : من جاوز ذلك إلى الخمسين وقيل في قوله تعالى : { يكلم الناس في المهد وكهلا } هو ابن ثلاثين والشيوخ : من جاوز الخمسين إلى آخر العمر والعانس : من الرجال والنساء : من كبر ولم يتزوج قال قيس بن رفاعة الواقفي :
( فينا الذي ما عدا أن طر شاربه ... والعانسون وفينا المرد والشيب )
فصل :
ومن وصى لصنف من أصناف الزكاة صرف إلى من يستحق الزكاة من ذلك الصنف ويعطي من الوصية والوقف حسب ما يعطى من الزكاة إلا الفقراء والمساكين فإنه إذا وصى لأحد الصنفين دخل الآخر في الوصية لأنهما صنفان في الزكاة وصنف في سائر الأحكام لشمول الاسم للقسمين وإن وصى لأقاربه أو أهل قريته لم يدخل الكافر في الوصية إذا كان الموصي مسلما لأنهم لم يدخلوا في وصية الله تعالى للأولاد بالميراث وإن كان الموصي كافرا لم يدخل المسلم في وصيته في أحد الوجهين لذلك ويدخهل في الآخر لعموم اللفظ فيه وكونه أحق بالوصية له من الكافر
فصل :
فإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكرا وأنثى فهما سواء لأنه عطية فاستوى فيها الذكر والأنثى كالهبة وإن قال : إن ولدت ذكرا فله ألف وإن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكرا وأنثى فلكل واحد منهما ما عين له وإن ولدت خنثى فله مائة لأنه اليقين ويوقف الباقي حتى يتبين وإن ولدت ذكرين وأنثيين شرك بين الذكرين في الألف وبين الأنثيين في المائة لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر ولو قال : إن كان ما في بطنك ذكر فله ألف وإن كان أنثى فله مائة فولدت ذكرا وأنثى فلا شيء لواحد منهما لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن على هذه الصفة ولم توجد
فصل :
ومتى كانت الوصية لجمع يمكن استيعابهم لزم استيعابهم والتسوية بينهم لأن اللفظ يقتضي التسوية فأشبه ما لو أقر لهم وإن لم يكن استيعابهم صحت الوصية لهم وجاز الاقتصار على واحد لأنه لما أوصى لهم عالما بتعذر استيعابهم علم أنه لم يرد ذلك إنما أراد أن لا يتجاوزهم بالوصية ويحصل ذلك بالدفع إلى واحد منهم ويحتمل أن لا يجزئ الدفع إلى أقل من ثلاثة بناء على قولنا في الزكاة : ويجوز تفضيل بعضهم على بعض لأن من جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه سواء كانت الوصية لقبيلة أو أهل بلدة أو الموصوفين بصفة كالمساكين
فصل :
وإن وصى لزيد والمساكين فلزيد النصف وللمساكين النصف لأنه جعلها لجهتين فوجب قسمها نصفين كما لو وصى لزيد وعمرو وإن وصى لزيد والفقراء والمساكين فلزيد الثلث لذلك وإن وصى لزيد بدينار وللفقراء بثلاثة وزيد فقير لم يعط غير الدينار لأنه قطع الاجتهاد في الدفع إليه بتقدير حقه بدينار
فصل :
وإن قال له : ضع ثلثي حيث يريك الله ولم يملك أخذه لنفسه لأنه تمليك ملكه بالإذن فلم يملك صرفه إلى نفسه كالبيع ولا إلى ولده ولا إلى والده لأنه بمنزلته ولهذا منع من قبول شهادته له ويحتمل جواز ذلك لعموم لفظ الموصي فيهم وله وضعها حيث أراه الله والمستحب صرفها إلى فقراء أقارب الميت ممن لا يرثه لأنهم أولى الناس بوصية الميت وصدقته ونقل المروذي عن أحمد رضي الله عنه فيمن وصى بثلثه في أبواب البر : يجزئ ثلاثة أجزاء في الجهاد وجزء يتصدق به في قرابته وجزء في الحج و يحتمل أن يصرف في أبواب البر كلها وهي كل ما فيه قربة لأن لفظه عام ولا نعلم قرينة مخصصة فوجب إبقاؤه على العموم
فصل :
إذا وصى بشيء لله ولزيد فجميعه لزيد لأن ذكر الله تعالى للتبرك باسمه كقوله سبحانه : { و اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمس } وإن وصى بشيء لزيد ولمن لا يملك كجبريل والرياح والميت فالموصى به كله لزيد ويحتمل أن له نصف الموصى به لأنه شريك بينه وبين غيره فلم يكن له أكثر من النصف كما لو كان شريكه ممن يملك وإن أوصى لزيد وعمرو فبان أحدهما ميتا فليس لأحدهما إلا نصف الوصية لأنه قاصد للتشريك بينهما لاعتقاده حياتهما
باب الوصية بالانصباء
إذا وصى لرجل بسهم من ماله فحكى فيها الخرقي فيها روايتان :إحداهما : للموصى له السدس لأنه يروى عن ابن مسعود أن رجلا وصى لرجل بسهم من ماله فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم سدس المال وقال إياس بن معاوية : السهم في كلام العرب السدس فإن كان الورثة عصبة أعطي سدس جميع المال والباقي للعصبة وإن كانوا ذوي فرض أعيلت المسألة بالسدس فيصير له السبع وإن أعيلت الفريضة أعيل سهمه أيضا لأنه ليس بأحسن حالا من الوارث
والثانية : يعطى سهما مما تصح منه الفريضة مزادا عليه لأن وصيته من الفريضة فيكون سهما على سهمانها قال القاضي : ويشترط أن لا يزيد على الثلث فإن زاد عليه رد إلى السدس واختار الخلال وصاحبه : أن يعطى أقل سهم من سهام الورثة فيكون ذلك بمنزلة الوصية بنصيب وارث
فصل :
وإن وصى له بنصيب أو حظ أو جزء من ماله أعطاه الورثة ما شاؤوا لأن كل شيء يقع عليه اسم ذلك
فصل :
وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطي بمثل ما لأقلهم نصيبا لأنه اليقين يزاد ذلك على مسألة الورثة فإن كان له ابن فله النصف لأنه سوى بينهما ولا تحصل التسوية إلا بذلك وإن كان له ابنان فللموصى له الثلث وإن أوصى بنصيب أحدهما ففيه وجهان :
أحدهما : يصح ويكون ذلك كناية عن مثل نصيبه بتقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
والثاني : لا يصح لأن نصيب الابن له فلا تصح الوصية به كما لو وصى بماله من غير الميراث وإن وصى بمثل نصيب ابنه الكافر أو الرقيق فالوصة باطلة لأنه وصى بمثل نصيبل من لا نصيب له
فصل :
وإن وصى له بضعف نصيب ابنه فله مثل نصيبه مرتين لأن ضعف الشيء مثلاه وإن وصى له بضعفي نصيب ابنه فقال أصحابنا : له ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه وأربعة أمثاله لأن ضعف الشيء : هو ومثله وضعفاه : هو ومثلاه وقال ذلك أبو عبيدة
واختياري : أن ضعفي الشيء مثلاه بمنزلة ضعفه لقوله تعالى : { فآتت أكلها ضعفين } أي مثلين قال أهل التفسير وكذلك : { يضاعف لها العذاب ضعفين } وقال هشام بن معاوية النحوي : العربي يتكلم بالضعف مثنى فيقول : إن أعطيتني درهما فلك ضعفاه أي : مثلاه قال : وإفراده لا بأس به والتثنية أحسن فعلى هذا ثلاثة أضعاف : ثلاثة أمثاله
فصل :
وإن وصى لرجل بجزء مقدر من ماله كثلث أو ربع أخذته من مخرجه فدفعته إليه وقسمت الباقي على مسألة الورثة إن انقسم وإلا ضربت مسألة الورثة أو وفقها من مخرج الوصية فما بلغ فمنه تصح فإن كان أكثر من الثلث فأجاز الورثة فكذلك وإن ردوا أعطيت الموصى له الثلث وجعلت للورثة الثلثين وإن وصى بجزأين مثل أن يوصي لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه أخذت مخرج الوصيتين وضربت إحداهما في الأخرى تصير ستة فأعطيت صاحب النصف ثلاثة وصاحب الثلث سهمين إن أجاز الورثة وإن ردوا قسم الثلث بينهما على خمسة وضربت ذلك في ثلاثة تكن خمسة عشر للوصيين خمسة وللورثة عشرة لأن ما قسم متفاضلا عند اتساع المال قسم متفاضلا عند ضيقه كالمواريث وإن أجازوا لأحدهما دون الآخر ضربت مسألة الإجازة في مسألة الرد أو وفقها إن وافقت وأعطيت المجاز له سهامه من مسألة الإجازة مضروبة في مسألة الرد أو وفقها وأعطيت الآخر سهامه من مسألة الرد مضروبة في مسألة الإجازة أو وفقها ولو وصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه قسمت المال على أربعة لصاحب المال ثلاثة ولصاحب الثلث سهم لأن السهام في الوصايا كالسهام في الميراث تعال بالزائد وإن لم يجيزوا قسم الثلث على أربعة فإن أجازوا لصاحب الكل وحده فلصاحب الثلث ربع الثلث لأن ذلك كان له في حال الرد عليهما وفي صاحب المال وجهان :
أحدهما : له الباقي كله لأنه موصى له به وإنما امتنع منه في حال الإجازة لهما لمزاحمة صاحبه له فإذا زالت المزاحمة في الباقي كان له
والثاني : ليس له إلا ثلاثة أرباع المال التي كانت له في حال الإجازة لهما والباقي للورثة لأنه من نصيب صاحب الثلث وإن أجازوا لصاحب الثلث وحده ففيه وجهان :
أحدهما : له الثلث كاملا
والثاني : له الربع ولصاحب المال الربع والباقي للورثة وإن كثرت السهام كرجل أوصى لرجل بالمال ولآخر بنصفه ولآخر بثلثه ولآخر بربعه ولآخر بسدسه أخذت مخرجا يجمع الكسور فجعلته المال وهو هنا اثنا عشر ثم زدت عليه نصفه وثلثه وربعه وسدسه فبلغ الجميع سبعة وعشرين فيقسم المال بينهم إن أجيز لهم أو الثلث إن رد عليهم
فصل :
فإن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمثل نصيب أحد ورثته وهما اثنان ففيها وجهان :
أحدهما : أن يعطي الثلث لصاحبه ويقسم الباقي بين الاثنين والوصي الآخر على ثلاثة فتصح المسألة من تسعة للموصى له بالثلث ثلثه وللآخر سهمان ولكل ابن سهمان وإن ردا قسمت الثلث بين الوصيين على خمسة والوجه الآخر : أن صاحب النصيب موصى له بثلث المال لأننا لا نرتب الوصايا بعضها على بعض فعلى هذا إن أجيز لهما فللوصين الثلثان وللابنين الثلث فإن ردا فالثلث بينهما على اثنين والثلثان للابنين وتصح من ستة فإن كانت الوصية الأولى بالنصف ففيه وجه ثالث وهو : أن تجعل لصاحب النصيب نصيبه من الثلثين وهو ثلثهما ولصاحب النصف إن أجاز الورثة وإن ردوا قسمت الثلث بين الوصيين على ثلاثة عشر سهما والثلثان للابنين
فصل :
وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته ولآخر بجزء مما يبقى من المال كرجل له ثلاثة بنين أوصى بمثل نصيب أحدهم ولآخر بثلث ما بقي فعلى الوجه الذي نقول لصاحب النصيب في المسألة التي قبلها ثلث المال له ها هنا ربع المال ويكون للآخر ربع أيضا يبقى سهمان من أربعة لثلاثة بنين وتصح من اثني عشر سهما لكل واحد من الوصيين ثلاثة ولكل ابن سهمان وإن ردوا عليهما قسمت الثلث بين الوصيين نصفين والباقي للبنين وعلى الوجه الآخر لا يزاد صاحب النصيب على ميراث ابن لأنه قصد التسوية بينه وبينهم ولك في عملها طرق :
أحدها : أن تضرب مخرج إحدى الوصيتين في الأخرى وهو هنا ثلاثة في أربعة تكن اثني عشر ثم تنقصه سهما يبقى أحد عشر فمنه تصح ثم تأخذ مخرج الجزء وهو ثلاثة تنقصها سهما يبقى سهمان وهو النصيب
الطريق الثاني : أن تجعل المال ثلاثة أسهم ونصيبا تدفع النصيب إلى صاحبه وإلى الوصي الآخر ثلث الباقي سهما يبقى سهمان بين البنين لكل واحد ثلثا سهم فتعلم أن النصيب ثلثا سهم فإذا بسطتها أثلاثا كانت أحد عشر
الطريق الثالث : أن تقول ثلاثة أسهم بقية مال ذهب ثلثه فرد عليه نصفه وسهما صارت خمسة ونصفا وإذا بسطتها كانت أحد عشر
فصل :
وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته ولآخر بثلث ما بقي من الثلث فاجعل المال تسعة أسهم وثلاثة أنصباء ادفع نصيبا إلى صاحبه وإلى الآخر سهمان وادفع نصيبين إلى ابنين يبقى ثمانية أسهم الابن الثالث فتبين أن النصيب ثمانية أسهم والمال ثلاثة وثلاثون
فصل :
وإن كان له مائتا درهم وعبد قيمته مائة فأوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالعبد فقد أوصى بثلثي ماله فإن لم يجز الورثة رددت وصة كل واحد منهما إلى نصفها فلصاحب العبد نصفه وللآخر سدس المائتين وسدس العبد ويحتمل أن يقتسما الثلث على حسب ما يحصل لهما في الإجازة فيكون بينهما على عشرين لصاحب العبد تسعة وهي ربع العبد وخمسه ولصاحب الثلث أحد عشر وهي سدس المال وسدس عشره وإن أجازوا لهما فللموصى له بالثلث ثلث المائتين لأنه لا مزاحم له فيهما أو يزدحم هو وصاحب العبد فيه لأنه قد أوصى لأحدهما بجميعه وللآخر بثلثه فيقسم بينهما على أربعة لصاحبه ثلاثة أرباعه ولصاحب الثلث ربعه فإن أجازوا لصاحب الثلث وحده فله ثلث المائتين وهل يستحق ثلث العبد أو ربعه ؟ على وجهين ولصاحب العبد نصفه وإن أجازوا لصاحب العبد وحده فلصاحب الثلث سدس المائتين وسدس العبد ولصاحب العبد خمسة أسداس في أحد الوجهين وفي الآخر ثلاثة أرباعه التي كانت له في حال الإجازة لهما وباقيه للورثة
فصل :
وإن أوصى بنصف ماله لوارثه وأجنبي فأجيز لهما فهو بينهما وإن رد عليهما أو على الوارث وحده فللأجنبي السدس الباقي للورثة وإن وصى لكل واحد بثلث ماله فأجيز لهما جاز لهما وإن رد عليهما فقال القاضي : إن عينوا وصية الوارث بالإبطال فالثلث كله للأجنبي وإن ابطلوا الزائد على الثلث من غير تعيين فللثلث الباقي بين الوصيين وقال أبو الخطاب : فيها وجهان :
أحدهما : أن الثلث كله للأجنبي
والثاني : للأجنبي السدس ويبطل الباقي
فصل :
وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته إلا جزءا من المال مثل أن يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بينه ـ وهم ثلاثة ـ إلا ربع المال فاجعل لكل ابن ربع المال واقسم الباقي بينهم وبين الموصى له على أربعة لا تنقسم واضرب عدد في مخرج الربع تكن ستة عشر له سهم ولكل ابن خمسة وإن قال : إلا سدسا فضلت كل ابن بسدس وقسمت الباقي بينهم وبين الوصي على ما ذكرناه
فصل :
وإن وصى له بنصف نصيب أحدهم إلا ربع ما يبقى بعد النصيب فرضت المال بقدر مخرج الجزء المستثنى ـ وهو أربعة ـ وزدت عليه نصيبا واستثنيت من النصيب سهما رددته على السهام صارت خمسة بين البنين لكل ابن سهم وثلثان فهو النصيب فتبين أن المال خمسة وثلثان إذا بسطتها تكن سبعة عشر للموصى له سهمان ولكل ابن خمسة فإن كان أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع الباقي بعد الوصية فرضت أقل من مخرج الجزء الموصى به وذلك ثلاثة وزدت نصيبا ثم استثنيت من النصيب سهما وزدته على الثلاثة صارت أربعة بين البنين لكل ابن سهم وثلث فتبين أن النصيب سهم وثلث إذا بسطتها صارت ثلاثة عشر سهما ومنهما تصح
باب جامع الوصايا
إذا أوصى من عبد من عبيده ولا عبيد له أو بعبده الحبشي ولا حبشي له أو بعبده سالم وليس ذلك له فالوصية باطلة لأنه و صى له بما لا يملك أشبه إذا وصى له بداره ولا دار له وعن أحمد في رجل قال : أعطوا فلانا من كيسي مائة ولم يكن في الكيس مائة : يعطى مائة درهم فلم تبطل الوصية فيخرج هاهنا مثله لأنه لما تعذرت الصفقة بقي أصل الوصية فيشترى له عبد فإن كان له عبيد أعطي واحدا بالقرعة في إحدى الروايتين لأنهم تساووا بالنسبة إلى استحقاقه فيصار إلى القرعة كما لو أعتق واحدا منهموالثانية : يعطيه الورثة ما شاؤوا من سليم ومعيب وصغير وكبير لأنه يتناوله الاسم فيرجع إلى رأي الورثة كما لو وصى له بخط أو نصيب ولا عرف في هبة الرقيق فرجع إلى ما يتناوله الاسم فإن مات رقيقه قبل موته أو بعده بطلت الوصية لفوات ما تعلقت به الوصية به من غير تفريط وإن بقي منهم واحد تعينت الوصية فيه لوجوده منفردا وإن قتلوا قبل موت الوصي بطلت الوصية لأنه جاء وقت الوجوب ولا رقيق له وإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة أحدهم لأنه بدل ما وجب له وإن لم يكن له عبيد حين الوصية فاستحدثت عبدا احتمل صحة الوصية اعتبارا بحالة الموت واحتمل أن لا تصح لأن ذلك يقتضي من عبيده الموجودين حال الوصية
فصل :
وإن وصى بعتق عبد وله عبيد احتمل أن يجزئ عتق ما وقع عليه الاسم لعموم اللفظ واحتمل أن لا يجزئ إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة لأن للعتق عرفا شرعيا فحملت الوصية عليه وهل يعتق أحدهم بالقرعة أو يرجع إلى اختيار الورثة ؟ على وجهين وإن عجز الثل عن عتق رقبة كاملة عتق منه قدر الثلث إلا أن يجيز الورثة عتق جميعه وإن وصى بعتق عبيد فلم يخرج من الثلث إلا واحد عتق واحد منهم بالقرعة وإن وصى أن يشترى بثلثه رقاب يعتقون فأمكن شراء ثلاث رقاب بثمن رقبتين غاليتين فعتق الثلاثة أولى لأنه تخليص لثلاثة وإن اتسع لرقبتين وبعض أخرى زيد في ثمن الرقبتين لأن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن أفضل الرقاب قال : [ أغلاهما ثمنا وأنفسهما عند أهلهما ] وإن قال : أعتقوا أحد رقيقي جاز إعتاق الذكر والأنثى والخنثى لأنه أحد رقيقه وإن قال : أعتقوا عبدا من عبدي لم يجزئهم عتق الأنثى ولا الخنثى المشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا ويجزئ عتق الخنثى المحكوم بذكوريته لأنه عبد وإن قال : أعتقوا أمة لم يجزئهم إلا أنثى
فصل :
وإن قال أعطوه شاة من غنمي فهو كالوصية بعبد من عبيده ويتناول الضأن والمعز وهل يتناول الذكر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يتناوله لأن الاسم يقع عليه لغة
والثاني : لا يتناوله لأنه لا يتناوله الاسم عرفا قال أصحابنا : ويتناول الصغيرة ويحتمل أن لا يتناولها لأنها لا تسمى شاة عرفا فإن لم يكن له إلا ذكران أو صغار لم يعط إلا من جنس ماله لأنه أضافه إليه فاختص به وإن قال : أعطوه جملا لم يعط إلا ذكرا والبعير كالجمل لأنه في العرف مختص به وقال أصحابنا : البعير كالإنسان يتناول الذكر والأنثى وإن قال : أعطوه ناقة لم يعط إلا أنثى وإن قال : أعطوه ثورا فهو الذكر والبقرة هي الأنثى وإن وصى له برأس من الإبل أو البقر أو الغنم جاز فيه الذكر والأنثى لأن ذلك اسم للجنس
فصل :
وإن وصى له بدابة أعطي من الخيل أو البغال أو الحمير لأن اسم الدابة يطلق على الجميع ويتناوله الذكر والأنثى وإن قال : من دوابي تعينت الوصية فيما عنده وإن قرن به ما يصرفه إلى أحدها تعينت الوصية فيه فإذا قال : أعطوه دابة يقاتل عليها فهي فرس وإن قال : ينتفع بنسلها خرج منها البغال : وإن قال : أعطوع فرسا تناول الذكر والأنثى وإن قال : حصانا فهو الذكر وإن قال : حجرة فهي الأنثى وإن قال : حمارا فهو ذكر وإن قال : أتانا فهي أنثى
فصل :
وإن وصى بكلب يباح اقتناؤه صحت الوصية لأن فيه نفعا مباحا وتقر اليد عليه والوصية تبرع فجازت فيه وإن كان له كلب أو لم يكن له إلا كلب هراش لم تصح الوصية لأنه لا يمكن شراؤه وكلب الهراش لا يباح اقتناؤه وإن كان له كلاب ينتفع بها فللموصى له واحد منها إلا أن تذكر القرينة على واحد منها بعينه من صيد أو حفظ غنم فيدفع إليه ما دلت القرينة عليه وإن وصى له بثلاثة أكلب لا مال له سواها ردت الوصية إلى ثلثها ويعطى واحدا منها بالقرعة في أحد الوجهين وفي الآخر يعطيه الورثة أيها شاؤوا وإن لم يكن له إلا كلب واحد أعطي ثلثه وإن كان للموصي مال ففيه وجهان :
أحدهما : يدفع جميع الكلاب إلى الموصى له وإن قل المال لأن أقل المال خير من الكلاب الكثيرة فأمضيت الوصية كما لو وصى له بشاة تخرج من ثلثه
والثاني : يدفع إليه ثلث الكلاب لأنه لا يجوز أن يكون للوصي شيء إلا وللورثة مثلاه ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه
فصل :
وإن وصى له بطبل من طبوله وله طبول حرب أعطي واحدا منها فإن لم يكن له إلا طبول لهو فالوصية باطلة لأنها وصية بمحرم وإن كان له طبل لهو وطبل حرب أعطي طبل الحرب لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به فهو كالمعدوم وإن وصى له بعود من عيدانه وله عيدان للسقي والبناء أعطي واحدا منها وإن لم يكن له إلا عيدان لهو فالوصية باطلة لأنها وصية بمحرم وإن كان له عيدان للهو ولغيره ففيه وجهان :
أحدهما : الوصية باطلة لأن العود بإطلاقه ينصرف إلى عود اللهو ولا تصح الوصية به والآخر : تصح الوصية ويعطى عودا مباحا لأن الوصية تعينت فيه لتحريم ما سواه فأشبه ما لو وصى له بطبل وله طبل لهو وطبل حرب
فصل :
وإن وصى له بقوس وأطلق انصرف إلى قوس الرمي بالسهام لأنه الذي يفهم من إطلاق القوس فإن قال : قوس يرمي عليه أو يغزو به كان تأكيدا لذلك : وإن قال : يندف به أو يتعيش به انصرف إلى قوس الندف وإن قال : قوسا من قسيي وليس له إلا قسي ندف أو بندق أعطي واحدا منها لأن الوصية تعينت فيه بإضافتها إلى قسيه واختصاص قسيه بها قال القاضي : ويعطى القوس بوتره لأنه لا ينتفع به إلا به فجرى مجرى جزئه ويحتمل أن يعطاه بدون الوتر لأن الاسم يقع عليه بدونه
فصل :
وإن أوصى له بعبد ولآخر بباقي الثلث دفع العبد إلى صاحبه وتمام الثلث للآخر فإن لم يبق من الثلث شيء بطلت الوصية بالباقي لأنه لا باقي ها هنا فإن رد صاحب العبد وصيته فوصية الآخر بحالها فإن مات العبد بعد موت الموصي فكذلك ويقوم العبد حال الموت وإن مات قبل موت الموصي قومت التركة بدون العبد لأنه معدوم
فصل :
فإن وصى لرجل بمائة والآخر بتمام الثلث ولثالث بالثلث فأجيز لهم قسم الثلثان بين الأوصياء على ما ذكر الموصي فإن مان الثلث مائة سقطت وصية صاحب الباقي وقسم الثلثان بين الآخرين نصفين وإن كان الثلث دون المائة فرد الورثة قسم الثلث بينهما بالحصة فإذا كان الثلث خمسين قسم أثلاثا لصاحب المائة ثلثاها وللآخر ثلثها وإن كان الثلث أكثر من المائة فلم يجز الورثة دفع إلى صاحب الثلث نصفه وفي باقيه وجهان :
أحدهما : يقدم صاحب المائة بها فإن فضل عنها شيء دفع إلى صاحب الباقي وإلا فلا شيء له لأنه حق في الباقي بعد المائة فلا يأخذ شيئا قبل استيفائها كالعصبة لا تأخذ شيء قبل تمام الفرض ويزاحم صاحب المائة لصاحب الباقي وإن لم يعطه شيئا كما يعاد ولد الأبوين الجد بولد الأب ولا يعطيه شيئا
والثاني : أن السدس يقسم بين صاحب المائة وصاحب الباقي على قدر وصيتهما فإذا كان الثلث مائتين أخذا مائة فاقتسماها نصفين لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما يأخذه من جميعه كالوارث إذا زاحمهم أصحاب الوصايا وإن بدأ فوصى لرجل بثلث ماله ثم وصى لآخر بمائة ولآخر بتمام الثلث ففيه وجهان :
أحدهما : هي كالتي قبلها سواء لأنه إذا أوصى بتمام الثلث بعد وصيته بالثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث الموصى به وإنما أراد ثلثا ثانيا فصارت كالتي قبلها
والثاني : أن الوصية بتمام الثلث باطلة لأن الثلث قد استوعبته الوصية الأولى ولا باقي له فيكون وجود هذه الوصية كعدمها
فصل :
إذا وصى لرجل بمنفعة جارية ولآخر برقبتها صح ولصاحب المنفعة منافعها وأكسابها وله إجارتها لأنه عقد على منفعتها ولا يملك واحد منهما وطأها لأن الوطء إنما يكون في ملك تام وليس لواحد منهما ملك تام ولا يملك أحدهما تزويجها لذلك فإن اتفقا عليه جاز لأن الحق لا يخرج عنهما والولي مالك الرقبة لأنه مالكها والمهر له لأنه بدل منفعة البضع التي لا يصح بذلها ولا وصية بها وإنما هي تابعة للرقبة فتكون لصاحبها وقال أصحابنا : هو لمالك منفعتها لأنه بدل منفعة من منافعها فإن أتت بولد فحكمه حكمها لأنه جزء من أجزائها فيثبت فيه حكمها كولد المكاتبة وأم الولد وإن زنت فالحكم في الولد والمهر على ما ذكرنا وإن وطئت بشبهة فالمهر على ما ذكرنا والولد حر تجب قيمته يوم وضعه لمالك الرقبة في أحد الوجهين وفي الآخر : يشتري بها عبد يقوم مقامه وإن قتلت وجبت قيمتها يشترى بها ما يقوم مقامها وإن ولد ولدها الرقيق فكذلك لأن الواجب قائم مقام الأصل فكان حكمه حكم الأصل وإن احتاجت إلى نفقة احتمل أن تجب على مالك المنفعة لأنه يملك نفعها على التأبيد فكانت النفقة عليه كالزوج واحتمل أن تجب على صاحب الرقبة لأنه مالك رقبتها فوجب عليه نفقتها كما لو كانت زمنة واحتمل أن تجب في كسبها لأنه تعذر إيجابها على كل واحد منهما فلم يبق إلا إيجابها في كسبها فإن لم يف كسبها ففي بيت المال فإن أعتقها صاحب الرقبة عتقت لأنه مالك لرقبتها وتبقى منافعها مستحقة لصاحب المنفعة يستوفيها في حال حريتها وإن باعها احتمل أن يصح لأن البيع يقع على رقبتها وهو مالك لها واحتمل أن لا يصح لأن ما لا نفع له لا يصح بيعه كالحشرات واحتمل أن يصح بيعها لمالك منفعتها دون غيره لأنه يجتمع لها رقبتها ونفعها بخلاف غيره فإن وطئها أحد الوصيين فمن حكمنا له بالمهر لا مهر عليه ومن لم نحكم له بالمهر فهو عليه لصاحبه ولا حد عليه لأن له شبهة الملك فيها
فصل :
ومن أوصي له بشيء فتلف بعضه أو هلك فله ما بقي إن حمله الثلث وإن وصى له بثلث ثلاثة دور فهلك اثنتان فليس له إلا ثلث الباقية لأنه لم يوص له منها إلا بثلثها وإن أوصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه فجميع الثلث الباقي للموصى له إذا حمله ثلث المال لأنه قد أوصى له بجميعه
فصل :
إذا أوصى بعتق مكاتبه أو الإبراء مما عليه اعتبر من الثلث أقل الأمرين من قيمته مكاتبا أو مال كتابته لأن العتق إبراء والإبراء عتق فاعتبر أقلهما وألغي الآخر فإن احتمله الثلث عتق وبرئ وإن احتمل الثلث بعضه كنصفه عتق نصفه وبقي نصفه على الكتابة وإن لم يكن للموصي سوى المكاتب عتق ثلثه في الحال وبقي ثلثاه على الكتابة إن عجز رق وإن أدى عتق وإن قال : ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه وضع عنه النصف وأدنى زيادة لأنه الأكثر وإن قال : ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثر من نصفها لذلك وإن قال : ضعوا عنه أكبر نجومه وضع عنه أكثرها مالا وإن قال : ضعوا عنه أوسط نجومه وهي ثلاثة وضع الثاني وإن كانت خمسة وضع الثالث وإن كانت أربعة وضع الثاني والثالث وعلى هذا القياس فإن كانت أوسط في القدر وأوسط في المدة وأوسط في العدد فللوارث وضع أي الثلاثة شاء لأن الأوسط يقع على الثلاثة وإن قال : ضعوا عنه ما قل أو كثر فللوارث وضع ما شاء لأن الاسم يتناوله
فصل :
وإن وصى لرجل بمال الكتابة ولآخر برقبته صح فإن أدى عتق وبطلت الوصية بالرقبة وإن عجز رق وكان لمالك الرقبة وإن كانت الكاتبة فاسدة فأوصى بما ذمة المكاتب لم يصح لأنه لا شيء في ذمته وإن وصى بما يقتضي منه صحت الوصية لأنه أضافه إلى حال يملكه فصح كما لو وصى برقبة المكاتب إذا عجز وإن وصى له برقبته صحت الوصية لأنه وصى بمملوكه
فصل :
وإذا قال : حجوا عني بخمسمائة وهي تخرج من الثلث وجب صرفها كلها في الحج وليس للولي أن يصرف إلى من يحج أكثر من نفقة المثل لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة فاقتضى عوض المثل كالوكيل في البيع ويحج عنه من بلده لأن حج المستنيب من بلده فكذلك النائب فإن فضل ما لا يكفي للحج من بلده أو كان الموصى به لا يكفي للحج من بلده فقال أحمد : يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته
وعنه : أنه يعان به في الحج فإن لم يمكن ذلك سقطت الوصية لعذرها فإن قال الموصي : أحجوا عني حجة بخمسمائة صرف جميع ذلك إلى من يحج حجة واحدة لأن الموصي قصد إرفاق الحاج بذلك فإن عين الحاج تعين فإن أبى المعين الحج صرف إلى من يحج عنه نفقة المثل والباقي للورثة فإن قال المعين : أعطونى الزائد لم يقبل منه لأنه إنما أوصى له بالزيادة بشرط أن يحج فإذا لم يحج لم يستحق شيئا وإن لم يعين أحدا فالوصى صرفها إلى من شاء لأنه فوض إليه الاجتهاد فيه وإن قال الموصي : أحجوا عني حجة ولم يذكر المقدار ولم يدفع إلى من يحج عنه إلا قدر نفقة المثل إلا أن لا يوجد من يحج بذلك فيعطى أقل ما يوجد من يحج به وكذلك إن قال : أحجوا عني ولم يذكر قدر ما يحج به ولا قدر الحج لم يحج أكثر مكن حجة واحدة بقدر نفقة المثل لأنه اليقين
فصل :
وإذا أوصى ببيع عبده فالوصية باطلة لأنه لا نفع فيها وإن قال : بيعوه لفلان صحت الوصية لأنه قد يقصد نفع العبد بإيصاله إلى فلان أو نفع فلان بإيصال العبد إليه فإن أبى الآخر شراءه بطلت الوصية وإن قال : اشتروا عبد زيد بخمسمائة فأعتقوه فأبى زيد بيعه بخمسمائة أو بيعه بالكلية بطلت الوصية وإن اشتروه بأقل فالباقي للورثة لأن المقصود قد حصل ويحتمل أن تكون الخمسمائة لزيد لأنه يحتمل أنه قصد محاباته فأشبه ما لو قال : يحج عني فلان بخمسمائة وإذا أوصى بفرسه في سبيل الله وألف درهم ينفق عليه فمات الفرس فالألف للورثة لأن الوصية بطلت فيها لعدم مصرفها وإن أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة