الكتاب : بداية المجتهد و نهاية المقتصد
المؤلف : أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي
الباب الرابع: في شروط الزكاة
الباب الرابع في شروط الذكاةوفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط استقبال القبلة. الثالثة: في اشتراط النية.
المسألة الأولى : واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق: وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان وقيل بل هي سنة مؤكدة وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري بالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية التسمية مكية فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما من اشترط الذكر
في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .
المسألة الثانية: وأما استقبال القبلة بالذبيحة فإن قوما استحبوا ذلك وقوما أجازوا ذلك وقوما أوجبوه وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة والكراهية والمنع موجودان في المذهب وهي مسألة مسكوت عنها والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة هي جهة معظمة وهذه عبادة فوجب أن يشترط فيها الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط فيها الجهة ما عدا الصلاة وقياس الذبح على الصلاة بعيد وكذلك قياسه على استقبال القبلة بالميت.
المسألة الثالثة : وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك ويشبه أن يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب وقول بترك الوجوب فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد فوجب أن يكون من شرطها النية ومن لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها.
الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز
والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته وصنف اتفق على منع ذكاته وصنف اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضييع الصلاة. وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ولقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة لكن المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز
ذبائحهم لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ومختلفون في التفصيل فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلى أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية وكذلك اختلفوا في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم لأنه لا يصح منه وجود هذه النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب: أعني قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: يجوز وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزي وهو أصل قول ابن وهب.
وأما المسألة الثانية : وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب وهو قول ابن عباس ومنهم من لم يجز ذبائحهم وهو أحد قولي الشافعي وهو مروي عن علي رضي الله عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو إسرائيل والروم. وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل. وقال إسحاق: ذبيحته جائزة وقال الثوري: مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناول؟
وأما المسألة الثالثة : وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة
فقال الجمهور: تؤكل وهو مروي عن علي ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام فإذا قيل على هذا إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه وهو قول مالك ومنهم من أباحه وهو قول أشهب ومنهم من حرمه وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب وذلك أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مخصصا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر فمن جعل قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مخصصا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد ومن عكس الأمر قال: يجوز. وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل بالفرق بين أن عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة قوما في المذهب: المنع عن ابن القاسم والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم والتفرقة عن أشهب. وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه فمنهم من قال: إن وهو قول أشهب ومنهم من قال مكروهة والقولان عن مالك ومنهم من قال مباحة. ويدخل في الشحوم سبب آخر الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض قال: لا تؤكل الشحوم ومن قال لا تتبعض
قال: يؤكل الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر وقد تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . وأما الصابئون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة وهو مذهب مالك وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم: نقصان المرأة والصبي وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس بها فكلوها" وهو حديث صحيح. وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما وأجاز ذلك الشافعي. وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من المجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ1. وأما جواز تذكية السارق والغاصب فإن الجمهور على جواز ذلك ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة وبه قال داود وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهي عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل قال: السارق والغاصب منهي عن ذكاتها وتناولها وتملكها فإذا كان ذكاها فسدت
ـــــــ
1 الملتخ: الملطخ, القاموس.
التذكية ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهي عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية. وفي موطأ ابن وهب أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فلم ير بها بأسا وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموها الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم.
كتاب الصيد
مدخل
كتاب الصيد
وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده.الباب الأول في حكم الصيد ومحله
فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه أن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام وفي حق بعضهم مندوب وفي حق بعضهم مكروه وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا
الباب الثاني فيما يكون به الصيد
والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والثانية قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما
أمسك على نفسه وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال: "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته ومنهم من أجازه على الإطلاق ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق إذا لم يخرق وبهذا القول قال مشاهير فقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد. وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا ومعارضة الأثر لها وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي بن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع طاعة ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري
وإبراهيم النخعي وقتادة وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم وذلك أن عموم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه. وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية فمنهم من إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان وهو مذهب مالك وأصحابه وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب لا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته وهو قول مجاهد واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده. وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب أعني قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلا أن يتأول أن لفظة مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظة مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظة مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم. وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه اتفاقهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة
في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم" واختلفوا في صفة التعليم وشروطه فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشليه فينشلي. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق ومنهم من اشترطه في الكلب فقط وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من شرط الجوارح مثل البزاة والصقور وهو مذهب مالك أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه: فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل" فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل ومن رجح حديث عدي بن خاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور. قال إن أكل من الصيد لم يؤكل وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري وهو قول ابن عباس ورخص في أكل ما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت
المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة لأن نية الكلب غير معلومة وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به وهو العادة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" . وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف.
الباب الثالث: في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشرطها
الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطهاواتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا وإذا اعتبرت أصولها التي الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها إن لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلي من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمة منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط ويختلفون في وجودها
في نازلة نازلة كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط. وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد الذي لم يرسل عليه وبه قال مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله إنما يكون إذا لم يدركه والجواب حيا فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام: "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد فإن توانى فأدركه ميتا فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل
أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفوذ المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنفذت المقاتل بمحدد فيها فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور ورخص فيه الحسن البصري ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحه له فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت فإذا بات فإني أكرهه وبالكراهية قال الثوري وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل وفي السهم خلاف وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده والجواب مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب فإن تركه كرهنا أكله. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال: "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل" . ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال فقال مالك: لا يؤكل لأنه
لا يدرى من أي الأمرين مات ألا أن يكون السهم قد أنفذ مقاتله ولا يشك أن منه مات وبه قال الجمهور وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنفاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكى. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه فإنه شرط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يوصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه مقدور عليه مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة فقيل في المذهب يؤكل وقيل لا يؤكل. واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو فقال قوم: يؤكل الصيد إلا ما بان منه وقال قوم: يؤكلان جميعا وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولعموم قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد وحمل الحديث على الإنسي ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال:يؤكل الصيد دون العضو البائن ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل.
الباب الرابع في شروط القانص
وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء فذهب مالك إلى أنه ميتة وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم فقال مالك: الاصطياد به جائز فإن المعتبر الصائد لا الآلة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري لأن الخطاب في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} متوجه نحو المؤمنين وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب والله الموفق للصواب.
كتاب العقيقة
كتاب العقيعةوالقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب: الأول: في معرفة حكمها. والثاني: في معرفة محلها. والثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك. الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم لحمها وسائر أجزائها.
فأما حكمها فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة وذهب الجمهور إلى أنها سنة وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام
وقد سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو الإباحة فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج الحديثين أبو داود ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها.
وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على مذهبه في الضحايا واختلف قوله هل يجزي فيها الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا وقوله: "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس فلأنها نسك فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياسا على الهدايا.
وأما من يعق عنه فإن جمهورهم على أنه يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين فقط وشذ الحسن فقال: لا يعق عن الجارية وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام: "يوم سابعه" . ودليل من خالف ما روي عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه الصلاة والسلام: "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" . ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله عليه الصلاة والسلام: "كل غلام مرتهن بعقيقته" . وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في العقيقة عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى وما روي أنه عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا يقتضي الاستواء بينهما.
وأما وقت هذا النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا و عبد الملك بن الماجشون يحتسب به. وقال ابن القاسم في العتبية: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى وقيل بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا ولا شك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا وقد قيل يجوز في السابع الثاني والثالث.
وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة أعني أنه يتقى فيها من العيوب ما يتقي في الضحايا ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب ولا خارجا منه.
وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع العلماء على أنه كان يدمى رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام وذلك لحديث بريدة الأسلمي قال كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح له شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وشذ الحسن و قتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس المولود يوم السابع والصدقة بوزن شعره فضة فقيل هو مستحب وقيل هو غير مستحب والقولان عن مالك والاستحباب أجود وهو قول ابن حبيب لما رواه مالك في الموطأ أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وتصدقت بزنة ذلك فضة.
كتاب الأطعمة والأشربة
والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين: الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار.الجملة الأولى:
والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان الذي يغتذى به فمنه حلال في الشرع ومنه حرام وهذا منه بري ومنه بحري.
والمحرمة منها ما لعينها ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل هذه منها ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة: الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله والجلالة والطعام الحلال يخالطه نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر واختلفوا في ميتة البحر على ثلاث أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق وقال قوم: هي حرام بإطلاق وقال قوم: ما طفا من السمك حرام وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية وموافقته لبعضها موافقة جزئية ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان الواحد متفق عليه والآخر مختلف فيه. أما المتفق عليه فحديث جابر وفيه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى العنبر أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما أو شهرا ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: "هل معكم من لحمه شيء" فأرسلوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما الحديث الثاني المختلف فيه فما رواه مالك عن أبي هريرة أنه سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من لا يعرف وأنه ورد في طريق واحد قال أبو عمر بن عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق. وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا
ما جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما الجلالة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلالة وألبانها خرجه أبو داود عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه فإذا قلنا إن لحم الحيوان حلال وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه وهو اللحم كما لو انقلب ترابا أو كانقلاب الدم لحما والشافعي يحرم الجلالة ومالك يكرهها وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: "إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه" وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر على ظاهره وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة الذوبان ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره ومن بعضه على القياس عليه ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها فمنها
ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه فأما المتفق منها عليه فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير والدم فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى واختلفوا في غير المسفوح منه. وكذلك اختلفوا في دم الحوت فمنهم من رآه نجسا ومنهم من لم يره نجسا والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه. وسبب اختلافهم المسفوح معارضة الإطلاق للتقييد وذلك أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والدم يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره وقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب والمطلق عام والعام أقوى من دليل الخطاب قضى بالمطلق على المقيد وقال: يحرم قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى أعني أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل. وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام ولا خلاف في هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى: {وَالدَّمَ} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه وما حل ميتته حل دمه ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث. وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها من الطير ومن ذوات الأربع والثاني ذوات الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم والرابع لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو حامد
عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن قتله قال: كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه.
فأما المسألة الأولى : ذوات الأربع فروى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم وذكر مالك في الموطأ ما دليله أنها وذلك أنه قال بعقب حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى ذلك الأمر عندنا وإلى تحريمها ذهب الشافعي وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة إلا أنهم اختلفوا في المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده وكذلك السنور وقال الشافعي: يؤكل الضبع والثعلب المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب وكلا القولين في المذهب وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب اختلافهم في تحريم من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار وذلك أن ظاهر قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع إن السباع محرمة هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث على الكراهية. ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم ومن اعتقد أن الضبع والثعلب محرمان فاستدلالا
بعموم ومن خصص من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن بن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكلها؟ قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قلت فأنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث ولما ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل الضب بين يديه. وأما سباع الطير فالجمهور على أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل مخلب من الطير إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان وإنما ذكره أبو داود.
وأما المسألة الثانية : وهي اختلافهم في ذوات الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها وعن مالك أنه كان يكرهها رواية ثانية مثل قول الجمهور وكذلك الجمهور على تحريم البغال وقوم كرهوها ولم يحرموها وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا وقد احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى قال أصبنا حمرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وطبخناها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور بما فيها. قال ابن إسحق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهى عنها لأنها كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وقوله مع أن ذلك في الأنعام: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} للآية الحاصرة للمحرمات لأنه يدل
مفهوم الخطاب فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب.
وأما المسألة الثالثة : وهي اختلافهم في الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور فإن قوما فهموا من الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو وهو مذهب الشافعي وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا معنى التحريم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما. وأما الجنس الرابع وهو الذي تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفاة وما في معناها فإن الشافعي حرمها وأباحها الغير ومنهم من كرهها فقط. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك ولعلها في غير الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم فقال مالك: لا بأس بأكل جميع حيوان البحر إلا أنه كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم المشترك
عموم أم ليس له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير البر وإنسانه باشتراك الاسم فمن سلم أن هذه الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما لزمه أن يقول بتحريمها ولذلك توقف مالك في ذلك وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. فهذه حال الحيوان المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر وأجمعوا على أن المسكر منها حرام فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" فهذان حديثان صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق
فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل. وهذه الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من العنب خمرا وإن من العسل خمرا ومن الزبيب خمرا ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وبآثار رووها في هذا الباب وبالقياس المعنوي. أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا. وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "حرمت الخمر لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي موسى قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له المزر والآخر يقال له البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "اشربا ولا تسكرا" خرجه الطحاوي أيضا إلى
غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} وهذه العلة توجد في القدر المسكر فيما دون ذلك فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا وهي مسألة مختلف فيها لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب .. قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه
نص في موضع الخلاف ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة فقال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي. واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام: "فانتبذوا وكل مسكر حرام" ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر والرطب والتمر والزبيب.
فأما المسألة الأولى : فإنهم أجمعوا على جواز الانتباذ في الأسقية واختلفوا فيما سواها فروى ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولم يكره غيره ذلك وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه ورد من طريق ابن عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال: "كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مالك في الموطأ وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام" . فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني فمن اعتمد في ذلك حديث
ابن عمر قال بالآيتين المذكورتين فيه ومن اعتمد في ذلك حديث ابن عباس قال بالأربعة لأنه يتضمن مزيدا والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من باب دليل الخطاب وفي كتاب مسلم النهي عن الانتباذ في الحنتم وفيه أنه رخص لهم فيه إذا كان غير مزفت.
وأما المسألة الثانية : وهي انتباذ الخليطين فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء التي من شأنها أن تقبل الانتباذ وقال قوم: بل الانتباذ مكروه وقال قوم: هو مباح وقال قوم: كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على الحظر فهل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن أن يخلط التمر والزبيب والزهو والرطب والبسر والزبيب وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام: "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا ولا التمر والزبيب جميعا وانتبذوا كل واحد منهما على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة: قول بتحريمه. وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ. وقول بكراهية ذلك. وأما من قال إنه مباح فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من منع كل خليطين فإما أن يكون ذهب إلى أن علة المنع هو الاختلاط لا ما يحدث من الاختلاط من الشدة في النبيذ وإما أن يكون قد تمسك بعموم ما ورد أنه نهى عن الخليطين وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم والكراهية والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا فقال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: "لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة
الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة وأن الخمر غير ذات الخل والخل بإجماع حلال فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.
الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل وفي مقداره. فأما السبب فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء وهذا المختلف فيه فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" . وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء محرم مثل الميتة وغيرها والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف هل المباح له في حال الاضطرار أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وذهب غيره إلى جواز ذلك.
المجلد الثاني
كتاب النكاحكتاب النكاح
وأصول هذا الكتاب تنحصر في خمسة أبواب الباب الأول: في مقدمات النكاح.
الباب الثاني: في موجبات صحة النكاح.
الباب الثالث: في موجبات الخيار في النكاح.
الباب الرابع: في حقوق الزوجية.
الباب الخامس: في الأنكحة المنهي عنها والفاسدة.
الباب الأول: في مقدمات النكاح
وفي هذا الباب أربع مسائل في حكم النكاح وفي حكم خطبة النكاح وفي الخطبة على الخطبة وفي النظر إلى المخطوبة قبل التزويج فأما حكم النكاح فقال قوم: هو مندوب إليه وهم الجمهور وقال أهل الظاهر: هو واجب وقال المتأخرة من المالكية: هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم مندوب إليه وفي حق بعضهم مباح وذلك بحسب ما يخاف على نفسه من العنت.
وسبب اختلافهم:
هل تحمل صيغة الأمر به في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم" وما أشبه ذلك من الأخبار الواردة في ذلك على الوجوب أم على الندب أم على الإباحة. فأما من قال إنه في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم مندوب إليه وفي حق بعضهم مباح: فهو التفات إلى المصلحة وهذا النوع من القياس هو الذي يسمى المرسل وهو الذي ليس له أصل معين يستند إليه وقد أنكره كثير من العلماء والظاهر من مذهب مالك القول به.
وأما خطبة النكاح المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الجمهور: إنها ليست واجبة وقال داود: هي واجبة.
وسبب الخلاف:
هل يحمل فعله في ذلك عليه الصلاة والسلام على الوجوب أو على الندب فأما الخطبة على الخطبة فإن النهي في ذلك ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
واختلفوا هل يدل ذلك على فساد النهي عنه أو لا يدل وإن كان يدل ففي أي حالة يدل فقال داود: يفسخ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفسخ وعن مالك القولان جميعا وثالث وهو أن يفسخ قبل الدخول ولا يفسخ بعده وقال ابن القاسم: إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح وأما إن كان الأول صالح والثاني صالح جاز.
وأما الوقت عند الأكثر فهو إذا ركن بعضهم إلى بعض لا في أول الخطبة بدليل حديث فاطمة بنت قيس" حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطباها فقال: "أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء وأما معاوية فصعلوك لا مال له ولكن انكحي أسامة".
وأما النظر إلى المرأة عند الخطبة فأجاز ذلك مالك إلى الوجه والكفين فقط وأجاز ذلك غيره إلى جميع البدن عدا السوأتين.
ومنع ذلك قوم على الإطلاق وأجاز أبو حنيفة النظر إلى القدمين مع الوجه والكفين.
والسبب في اختلافهم:
أنه ورد الأمر بالنظر إليهن مطلقا وورد بالمنع مطلقا وورد مقيدا أعني بالوجه والكفين على ما قاله كثير من العلماء في قوله تعالى :{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إنه الوجه والكفان وقياسا على جواز كشفهما في الحج عند الأكثر ومن منع تمسك بالأصل وهو تحريم النظر إلى النساء.
الفصل الثاني في موجبات صحة النكاح
وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أركان:
الركن الأول: في معرفة كيفية هذا العقد.
الركن الثاني: في معرفة محل هذا العقد.
الثالث: في معرفة شروط هذا العقد.
(الركن الأول في الكيفية)
والنظر في هذا الركن في مواضع: في كيفية الإذن المنعقد به ومن المعتبر رضاه في لزوم هذا العقد وهل يجوز عقده على الخيار أم لا يجوز؟ وهل إن تراخى القبول من أحد المتعاقدين لزم ذلك العقد أم من شرط ذلك الفور؟.
(الموضع الأول) الإذن في النكاح على ضربين: فهو واقع في حق الرجال والثيب من النساء بالألفاظ.
وهو في حق الأبكار المستأذنات واقع: بالسكوت أعني الرضا.
وأما الرد فباللفظ ولا خلاف في هذه الجملة إلا ما حكي عن أصحاب الشافعي أن إذن البكر إذا كان المنكح غير أب ولا جد بالنطق وإنما صار الجمهور إلى أن إذنها بالصمت للثابت من قوله عليه الصلاة والسلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها".
واتفقوا على أن انعقاد النكاح بلفظ النكاح ممن إذنه اللفظ وكذلك بلفظ التزويج.
واختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة أو بلفظ البيع أو بلفظ الصدقة فأجازه قوم وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج.
وسبب اختلافهم:
هل هو عقد يعتبر فيه مع النية اللفظ الخاص به؟ أم ليس من صحته اعتبار اللفظ؟ فمن ألحقه بالعقود التي يعتبر فيها الأمران قال: لا نكاح منعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج ومن قال: إن اللفظ ليس من شرطه اعتبارا بما ليس من شرطه اللفظ أجاز النكاح بأي لفظ اتفق إذا فهم المعنى الشرعي من ذلك أعني أنه إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة.
(الموضع الثاني) وأما من المعتبر قبوله في صحة هذا العقد فإنه يوجد في الشرع على ضربين: أحدهما يعتبر فيه رضا المتناكحين أنفسهما: أعني الزوج والزوجة إما مع الولي وإما دونه على مذهب من لا يشترط الولي في رضا المرأة المالكة أمر نفسها.
والثاني يعتبر فيه رضا الأولياء فقط وفي كل واحد من هذين الضربين مسائل اتفقوا عليها ومسائل اختلفوا فيها ونحن نذكر منها قواعدها وأصولها فنقول: أما الرجال البالغون الأحرار المالكون لأمر أنفسهم فإنهم اتفقوا على اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح.
واختلفوا هل يجبر العبد على النكاح سيده والوصي محجوره البالغ أم ليس
يجبره؟ فقال مالك: يجبر السيد عبده على النكاح وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا يجبره.
والسبب في اختلافهم:
هل النكاح من حقوق السيد أم ليس من حقوقه؟ وكذلك اختلفوا في جبر الوصي محجوره والخلاف في ذلك موجود في المذهب.
وسبب اختلافهم:
هل النكاح مصلحة من مصالح المنظور له أم ليس بمصلحة وإنما طريقه الملاذ؟ وعلى القول بأن النكاح واجب ينبغي أن لا يتوقف في ذلك.
وأما النساء اللاتي يعتبر رضاهن في النكاح فاتفقوا على اعتبار رضا الثيب البالغ لقوله عليه الصلاة والسلام: "والثيب تعرب عن نفسها" إلا ما حكي عن الحسن البصري.
واختلفوا في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد.
فأما البكر البالغ فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: للأب فقط أن يجبرها على النكاح وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة: لا بد من اعتبار رضاها ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه.
وسبب اختلافهم:
معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: "لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها" وقوله: "تستأمر اليتيمة في نفسها" خرجه أبو داود والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المشهور "والبكر تستأمر" يوجب بعمومه استئمار كل بكر.
والعموم أقوى من دليل الخطاب مع أنه خرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام: "والبكر يستأذنها أبوها" وهو نص في موضع الخلاف.
وأما الثيب الغير البالغ فإن مالكا وأبا حنيفة قالا: يجبرها الأب على النكاح وقال الشافعي: لا يجبرها وقال المتأخرون: إن في المذهب فيها ثلاثة أقوال: قول إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق وهو قول أشهب وقول إنه يجبرها وإن بلغت وهو قول سحنون وقول إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ وهو قول أبي تمام والذي حكيناه عن مالك هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار وغيره عنه.
وسبب اختلافهم:
معارضة دليل الخطاب للعموم وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: "تستأمر اليتيمة في نفسها ولا تنكح اليتيمة إلا بإذنها"
يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ وعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها" يتناول البالغ وغير البالغ وكذلك قوله: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" يدل بعمومه على ما.قاله الشافعي.
ولاختلافهم في هاتين فإذا سبب آخر وهو استنباط القياس من موضع الإجماع وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب يجبر البكر غير البالغ وأنه لا يجبر الثيب البالغ إلا خلافا شاذا فيهما جميعا كما قلنا اختلفوا في موجب الإجبار هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال الصغر قال: لا تجبر البكر البالغ ومن قال البكارة قال: تجبر البكر البالغ ولا تجبر الثيب الصغيرة ومن قال كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد قال: تجبر البكر البالغ والثيب الغير البالغ والتعليل الأول تعليل أبي حنيفة والثاني تعليل الشافعي والثالث تعليل مالك والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة.
واختلفوا في الثيوبة التي ترفع الإجبار وتوجب النطق بالرضا أو الرد فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها الثيوبة التي تكون بنكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك وأنها لا تكون بزنا ولا بغصب وقال: الشافعي كل ثيوبة ترفع الإجبار.
وسبب اختلافهم:
هل يتعلق الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها" بالثيوبة الشرعية أم بالثيوبة اللغوية؟. واتفقوا على أن الأب يجبر ابنه الصغير على النكاح وكذلك ابنته الصغيرة البكر ولا يستأمرها لما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت ست أو سبع و بنى بها بنت تسع بإنكاح أبي بكر أبيها رضي الله عنه" إلا ما روي من الخلاف عن ابن شبرمة.
واختلفوا من ذلك في مسألتين إحداهما هل يزوج الصغيرة غير الأب؟ والثانية هل يزوج الصغير غير الأب؟ فأما هل يزوج الصغيرة غير الأب أم لا؟ فقال الشافعي: يزوجها الجد أبو الأب والأب فقط وقال مالك: لا يزوجها إلا الأب فقط أو من جعل الأب له ذلك إذا عين الزوج إلا أن يخاف عليها الضيعة والفساد وقال أبو حنيفة: يزوج الصغيرة كل من له عليها ولاية من أب وقريب وغير ذلك ولها الخيار إذا بلغت.
وسبب اختلافهم:
معارضة
العموم للقياس وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: "والبكر تستأمر وإذنها صماتها" يقتضي العموم في كل بكر إلا ذات الأب التي خصصها الإجماع إلا الخلاف الذي ذكرناه وكون سائر الأولياء معلوما منهم النظر والمصلحة لوليتهم يوجب أن يلحقوا بالأب في هذا المعنى فمنهم من ألحق به جميع الأولياء ومنهم من ألحق به الجد فقط لأنه في معنى الأب إذ كان أبا أعلى وهو الشافعي ومن قصر ذلك على الأب رأى أن ما للأب في ذلك غير موجود لغيره إما من قبل أن الشرع خصه بذلك وإما من قبل أن ما يوجد فيه من الرأفة والرحمة لا يوجد في غيره وهو الذي ذهب إليه مالك رضي الله عنه وما ذهب إليه أظهر والله أعلم إلا أن يكون هناك ضرورة.
وقد احتج الحنفية بجواز إنكاح الآباء بقوله تعالى:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } قال: واليتيم لا ينطلق إلا على غير البالغة.
والفريق الثاني قالوا: إن اسم اليتيم قد ينطلق على بالغة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "تستأمر اليتيمة" والمستأمرة هي من أهل الإذن وهي البالغة فيكون لاختلافهم سبب آخر وهو اشتراك اسم اليتيم وقد احتج أيضا من لم يجز الأب لها بقوله عليه الصلاة والسلام: "تستأمر اليتيمة في نفسها" قالوا: والصغيرة ليست من أهل الاستئمار باتفاق فوجب المنع ولأولئك أن يقولوا: أن هذا حكم اليتيمة التي هي من أهل الاستئمار وأما الصغيرة فمسكوت عنها.
وأما هل يزوج الولي غير الأب الصغير؟ فإن مالكا أجازه للوصي وأبا حنيفة أجازه للأولياء إلا أن أبا حنيفة أوجب الخيار له إذا بلغ ولم يوجب ذلك مالك.
وقال الشافعي: ليس لغير الأب إنكاحه.
وسبب اختلافهم:
قياس غيرالأب في ذلك على الأب.
فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب به أن يزوج الصغير من ولده لا يوجد في غير الأب لم يجز ذلك ومن رأى أنه يوجد فيه أجاز ذلك.
ومن فرق بين الصغير في ذلك والصغيرة فلأن الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا.
(وأما الموضع الثالث) وهو هل يجوز عقد النكاح على الخيار فإن
الجمهور على أنه لا يجوز وقال أبو ثور يجوز.
والسبب في اختلافهم:
تردد النكاح بين البيوع التي لا يجوز فيها الخيار والبيوع التي يجوز فيها الخيار أو نقول إن الأصل في العقود أن لا خيار إلا ما وقع عليه النص وعلى المثبت للخيار الدليل أو نقول إن أصل منع الخيار في البيوع هو الغرر و الأنكحة لا غرر فيها لأن المقصود بها المكارمة لا المكايسة ولأن الحاجة إلى الخيار والرؤية في النكاح أشد منه في البيوع.
وأما تراخي القبول من أحد الطرفين عن العقد فأجاز مالك من ذلك التراخي اليسير ومنعه قوم وأجازه قوم وذلك مثل أن ينكح الولي امرأة بغير إذنها فيبلغها النكاح فتجيزه وممن منعه مطلقا الشافعي وممن أجازه مطلقا أبو حنيفة وأصحابه والتفرقة بين الأمر الطويل والقصير لمالك.
وسبب الخلاف:
هل من شرط الانعقاد وجود القبول من المتعاقدين في وقت واحد معا أم ليس ذلك من شرطه؟ ومثل هذا الخلاف عرض في البيع.
(الركن الثاني في شروط العقد) وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الأولياء.
والثاني: في الشهود.
والثالث: في الصداق.
الفصل الأول في الأولياء:
والنظر في الأولياء في مواضع أربعة:
الأول: في اشتراط الولاية في صحة النكاح.
الموضع الثاني: في صفة الولي.
الثالث: في أصناف الأولياء وترتيبهم في الولاية وما يتعلق بذلك.
الرابع: في عضل الأولياء من يلونهم وحكم الاختلاف الواقع بين الولي والمولى عليه.
(الموضع الأول) اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بولي وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز وفرق داود بين البكر والثيب فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه
في الثيب.
ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع أن اشتراطها سنة لا فرض وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي وأنه يجوز الشريفة أن تستخلف رجلا من الناس على إنكاحها وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ليعقد عليها فكأنه عنده من شروط التمام لا من شروط الصحة بخلاف عبارة البغداديين من أصحاب مالك.
أعني أنهم يقولون إنها من شروط الصحة لا من شروط التمام.
وسبب اختلافهم:
أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة.
وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل لأن الأصل براءة الذمة.
ونحن نورد مشهور ما احتج به الفريقان ونبين وجه الاحتمال في ذلك.
فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب من اشترط الولاية قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قالوا: وهذا خطاب للأولياء ولو لم يكن لهم في الولاية لما نهوا عن العضل.
وقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} قالوا: وهذا خطاب للأولياء أيضا.
ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاث مرات وإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن وأما ما احتج به من لم يشترط الولاية من الكتاب والسنة.
فقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قالوا: وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها.
قالوا: وقد أضاف إليهن ما آية من الكتاب الفعل فقال: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} وقال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ } وأما من السنة فاحتجوا بحديث ابن عباس المتفق على صحته وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها" وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع.
فأما قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فليس فيه أكثر من نهي قرابة المرأة وعصبتها من أن يمنعوها النكاح وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص بل قد يمكن أن يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} هو أن يكون خطابا لأولي الأمر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطابا للأولياء وبالجملة فهو متردد بين أن يكون خطابا للأولياء أو لأولي الأمر.
فمن احتج بهذه الآية فعليه البيان أنه أظهر في خطاب الأولياء منه في أولي الأمر فإن قيل إن هذا عام والعام يشمل ذوي الأمر والأولياء قيل إن هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع والمنع بالشرع فيستوي فيه الأولياء وغيرهم وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة في الإذن أصله الأجنبي ولو قلنا إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترا أو قريبا من التواتر.
لأن هذا مما تعم به البلوى ومعلوم أنه كان في المدينة من لا ولي له.
ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعقد أنكحتهم ولا ينصب لذلك من يعقدها وأيضا فإن المقصود من الآية ليس هو حكم الولاية وإنما المقصود منها تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر والله أعلم.
وأما حديث عائشة فهو حديث مختلف في وجوب العمل به والأظهر أن ما لا يتفق على صحته أنه ليس يجب العمل به.
وأيضا فإن سلمنا صحة الحديث فليس فيه إلا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي: أعني المولى عليها وإن سلمنا أنه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد على
نفسها أعني أن لا تكون هي التي تلي العقد بل الأظهر منه أنه إذا أذن الولي لها جاز أن تعقد على نفسها دون أن تشترط في صحة النكاح إشهاد الولي معها.
وأما ما احتج به الفريق الآخر من قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإن المفهوم منه النهي عن التثريب عليهن فيما استبددن بفعله دون أوليائهن وليس ههنا شيء يمكن أن تستبد به المرأة دون الولي إلا عقد النكاح.
فظاهر هذه الآية والله أعلم أن لها أن تعقد النكاح وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف وهو الظاهر من الشرع إلا أن هذا لم يقل به أحد وأن يحتج ببعض ظاهر الآية على رأيهم ولا يحتج ببعضها فيه ضعف.
وأما إضافة النكاح إليهن فليس فيه دليل على اختصاصهن بالعقد لكن الأصل هو الاختصاص إلا أن يقوم الدليل على خلاف ذلك.
وأما حديث ابن عباس فهو لعمري ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر لأنه إذا كان كل واحد منهما يستأذن ويتولى العقد عليهما الولي فبماذا ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها؟ وحديث الزهري هو أن يكون موافقا هذا الحديث أحرى من أن يكون معارضا له ويحتمل أن تكون التفرقة بينهما في السكوت والنطق فقط ويكون السكوت كافيا في العقد والاحتجاج بقوله تعالى: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } هو أظهر في أن المرأة تلي العقد من الاحتجاج بقوله :{ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} على أن الولي هو الذي يلي العقد.
وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة وذلك أنه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزهري.
وحكى ابن علية عن ابن جريج أنه سأل الزهري عنه فلم يعرفه قالوا: والدليل على ذلك أن الزهري لم يكن يشترط الولاية ولا الولاية من مذهب عائشة.
وقد احتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنه قال " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ولكنه مختلف في رفعه.
وكذلك اختلفوا أيضا في صحة الحديث الوارد " في نكاح النبي عليه الصلاة والسلام أم سلمة وأمره لابنها أن ينكحها إياه ".
وأما احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل وذلك أنه يمكن أن يقال إن الرشد إذا وجد في المرأة اكتفي به في عقد النكاح كما يكتفى به في التصرف في المال ويشبه أن يقال إن
المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ أو الحسبة والمسألة محتملة كما ترى ولكن الذي يغلب على الظن أنه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فإذا كان لا يجوز عليه عليه الصلاة والسلام تأخير البيان عن وقت الحاجة وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن ينقل اشتراط الولاية عنه صلى الله عليه وسلم تواترا أو قريبا من التواتر ثم لم ينقل فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين: إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك وأما إن كان شرطا فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب.
(الموضع الثاني) وأما النظر في الصفات الموجبة للولاية والسالبة لها فإنهم اتفقوا على أن من شرط الولاية الإسلام والبلوغ والذكورة وأن سوالبها أضداد هذه: أعني الكفر والصغر والأنوثة.
واختلفوا في ثلاثة: في العبد والفاسق والسفيه.
فأما العبد فالأكثر على منع ولايته وجوزها أبو حنيفة.
وأما الرشد فالمشهور في المذهب: أعني عند أكثر أصحاب مالك أن ذلك ليس من شرطها: أعني الولاية, وبه قال أبو حنيفة, وقال الشافعي: ذلك من شرطها, وقد روي عن مالك مثل قول الشافعي وبقول الشافعي قال أشهب وأبو مصعب.
وسبب الخلاف:
تشبيه هذه الولاية بولاية المال فمن رأى أنه قد يوجب الرشد في هذه الولاية مع عدمه في المال قال: ليس من شرطه أن يكون رشيدا في المال ومن رأى أن ذلك ممتنع الوجود قال: لا بد من الرشد في المال وهما قسمان كما ترى,أعني أن الرشد في المال غير الرشد في اختيار الكفاءة لها.
وأما العدالة فإنما اختلفوا فيها من جهة أنها نظر للمعنى: أعني هذه الولاية فلا يؤمن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفاءة.
وقد يمكن أن يقال إن الحالة التي بها يختار الأولياء لمولياتهم حالة الكفء غير العدالة وهي خوف لحوق العار بهم وهذه هي موجودة بالطبع وتلك العدالة
الأخرى مكتسبة ولنقص العبد يدخل الخلاف في ولايته كما يدخل في عدالته.
(الموضع الثالث) وأما أصناف الولاية عند القائلين بها فهي نسب وسلطان ومولى أعلى وأسفل.
ومجرد الإسلام عند مالك صفة تقتضي الولاية على الدنيئة.
واختلفوا في الوصي فقال مالك: يكون الوصي وليا ومنع ذلك الشافعي.
وسبب اختلافهم:
هل صفة الولاية مما يمكن أن يستناب فيها أم ليس يمكن ذلك؟. ولهذا السبب بعينه اختلفوا في الوكالة في النكاح لكن الجمهور على جوازها إلا أبا ثور ولا فرق بين الوكالة و الإيصاء لأن الوصي وكيل بعد الموت والوكالة تنقطع بالموت.
واختلفوا في ترتيب الولاية من النسب.
فعند مالك أن الولاية معتبرة بالتعصيب إلا الابن فمن كان أقرب عصبة كان أحق بالولاية والأبناء عنده أولى وإن سفلوا ثم الآباء ثم الإخوة للأب والأم.
ثم للأب ثم بنو الإخوة للأب والأم ثم للأب فقط ثم الأجداد للأب وإن علوا.
وقال المغيرة الجد وأبوه أولى من الأخ وابنه ليس من أصل ثم العمومة على ترتيب الإخوة وإن سفلوا ثم المولى ثم السلطان.
والمولى الأعلى عنده أحق من الأسفل والوصي عنده أولى من ولي النسب: أعني وصي الأب.
واختلف أصحابه فيمن هو أولى وصي الأب أو ولي النسب؟ فقال ابن القاسم: الوصي أولى مثل قول مالك وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: الولي أولى.
وخالف الشافعي مالكا في ولاية البنوة فلم يجزها أصلا وفي تقديم الإخوة على الجد فقال: لا ولاية للابن وروي عن مالك أن الأب أولى من الابن وهو أحسن وقال أيضا: الجد أولى من الأخ وبه قال المغيرة والشافعي اعتبر التعصيب أعني أن الولد ليس من عصبتها لحديث عمر " لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان " ولم يعتبره مالك في الابن لحديث أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنها أن ينكحها إياه " ولأنهم اتفقوا: أعني مالكا والشافعي على أن الابن يرث الولاء الواجب للأم والولاء عندهم للعصبة.
وسبب اختلافهم:
في الجد هو اختلافهم فيمن هو أقرب هل الجد أو الأخ؟ ويتعلق بالترتيب ثلاث مسائل مشهورة: أحدها: إذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب.
والثانية: إذا غاب الأقرب
هل تنتقل الولاية إلى الأبعد أو إلى السلطان؟. والثالثة: إذا غاب الأب عن ابنته البكر هل تنتقل الولاية أو لا تنتقل؟
(فأما المسألة الأولى) فاختلف فيها قول مالك فمرة قال: إن زوج الأبعد مع حضور الأقرب فالنكاح مفسوخ ومرة قال: النكاح جائز ومرة قال: للأقرب أن يجيز أو يفسخ, وهذا الخلاف كله عنده فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في محجورته فإنه لا يختلف قوله أن النكاح في هذين مفسوخ أعني تزويج غير الأب البنت البكر مع حضور الأب الوصي المحجورة مع حضور الوصي وقال الشافعي: لا يعقد أحد مع حضور الأب لا في بكر ولا في ثيب.
وسبب هذا الاختلاف:
هو هل الترتيب حكم شرعي: أعني ثابتا بالشرع في الولاية أم ليس بحكم شرعي؟ وإن كان حكما فهل ذلك حق من حقوق الولي الأقرب أم ذلك حق من حقوق الله؟ فمن لم ير الترتيب حكما شرعيا قال: يجوز نكاح الأبعد مع حضور الأقرب ومن رأى أنه حكم شرعي ورأى أنه حق للولي قال: النكاح منعقد فإن أجازه الولي جاز وإن لم يجزه انفسخ ومن رأى أنه حق لله قال: النكاح غير منعقد وقد أنكر قوم هذا المعنى في المذهب: أعني أن يكون النكاح منفسخاً غير منعقد.
(وأما المسألة الثانية) فإن مالكا يقول: إذا غاب الولي الأقرب انتقلت الولاية إلى الأبعد وقال الشافعي: تنتقل إلى السلطان.
وسبب اختلافهم:
هل الغيبة في ذلك بمنزلة الموت؟ أم لا وذلك أنه لا خلاف عندهم في انتقالها في الموت.
(وأما المسألة الثالثة) وهي غيبة الأب عن ابنته البكر فإن في المذهب فيها تفصيلا واختلافا وذلك راجع إلى بعد المكان وطول الغيبة أو قربه والجهل بمكانه أو العلم به.
وحاجة البنت إلى النكاح إما لعدم النفقة وإما لما يخاف عليها من عدم الصون.
وإما للأمرين جميعا فاتفق المذهب على أنه إذا كانت الغيبة بعيدة أو كان الأب مجهول الوضع أو أسيرا وكانت في صون وتحت نفقة أنها إن لم تدعُ إلى التزويج لا تزوج وإن دعت فتزوج عند الأسر وعند الجهل بمكانه.
واختلفوا هل تزوج مع العلم بمكانه أم لا إذا كان بعيدا فقيل تزوج وهو قول مالك وقيل لا تزوج وهو قول عبد الملك وابن وهب.
وأما إن
عدمت النفقة أو كانت في غير صون فإنها تزوج أيضا في هذه الأحوال الثلاثة: أعني في الغيبة البعيدة وفي الأسر والجهل بمكانه وكذلك إن اجتمع الأمران فإذا كانت صون تزوج وإن لم تدع إلى ذلك ولم يختلفوا فيما أحسب أنها لا تزوج في الغيبة القريبة المعلومة لمكان إمكان مخاطبته وليس يبعد بحسب النظر المصلحي الذي انبنى عليه هذا النظر أن يقال إن ضاق الوقت وخشي السلطان عليها الفساد زوجت وإن كان الموضع قريبا.
وإذا قلنا إنه تجوز ولاية الأبعد مع حضور الأقرب فإن جعلت امرأة أمرها إلى وليين فزوجها كل واحد منهما فإنه لا يخلو أن يكون تقدم أحدهما في العقد على الآخر أو يكونا عقدا معا ثم لا يخلو ذلك من أن يعلم المتقدم أو لا يعلم فأما إذا علم المتقدم منهما فأجمعوا على أنها للأول إذا لم يدخل بها واحد منهما واختلفوا إذا دخل الثاني فقال قوم هي للأول وقال قوم هي للثاني وهو قول مالك وابن القاسم وبالأول قال الشافعي وابن عبد الحكم وأما إن أنكحاها معا فلا خلاف في فسخ النكاح فيما أعرف.
وسبب الخلاف:
في اعتبار الدخول أولا اعتباره معارضة العموم للقياس وذلك أنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منهما " فعموم هذا الحديث يقتضي أنها للأول دخل بها الثاني أو لم يدخل ومن اعتبر الدخول فتشبيها بفوات السلعة في البيع المكروه وهو ضعيف.
وأما إن لم يعلم الأول فإن الجمهور على الفسخ وقال مالك: يفسخ ما لم يدخل أحدهما وقال شريح: تخير فأيهما اختارت كان هو الزوج وهو شاذ وقد روي عن عمر بن عبد العزيز.
(الموضع الرابع: في عضل الأولياء) واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء وبصداق مثلها وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها ما عدا الأب فإنه اختلف فيه المذهب.
واختلفوا بعد هذا الاتفاق فيما هي الكفاءة المعتبرة في ذلك وهل صداق المثل منها أم لا؟ وكذلك اتفقوا على أن للمرأة أن تمنع نفسها من إنكاح من له من الأولياء جبرها إذا لم تكن فيها الكفاءة موجدة كالأب في ابنته البكر البالغ باتفاق والبالغ والثيب الصغيرة باختلاف على ما تقدم وكذلك الوصي في محجوره على القول بالجبر.
فأما الكفاءة فإنهم اتفقوا على أن الدين معتبر في ذلك إلا ما روي عن محمد بن الحسن من إسقاط اعتبار الدين ولم يختلف المذهب أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق.
واختلفوا في النسب هل هو من الكفاءة أم لا؟ وفي الحرية وفي اليسار وفي الصحة من العيوب فالمشهور عن مالك أنه يجوز نكاح الموالي من العرب وأنه احتج لذلك بقوله تعالى: { إِِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وقال سفيان الثوري وأحمد: لا تزوج العربية من مولى وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تزوج قرشية إلا من قرشي ولا عربية إلا من عربي.
والسبب في اختلافهم:
اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها وحسبها فاظفر بذات الدين تربت يمينك " فمنهم من رأى أن الدين هو المعتبر فقط لقوله عليه الصلاة والسلام: "فعليك بذات الدين تربت يمينك" ومنهم من رأى أن الحسب في ذلك هو بمعنى الدين وكذلك المال وأنه لا يخرج من ذلك إلا ما أخرجه الإجماع.
وهو كون الحسن ليس من الكفاءة وكل من يقول برد النكاح من العيوب يجعل الصحة منها من الكفاءة وعلى هذا فيكون الحسن يعتبر لجهة ما ولم يختلف المذهب أيضا أن الفقر مما يوجب فسخ إنكاح الأب ابنته البكر أعني إذا كان فقيراً غير قادر على النفقة عليها فالمال عنده من الكفاءة ولم ير ذلك أبو حنيفة.
أما الحرية فلم يختلف المذهب أنها من الكفاءة لكون السنة الثابتة لتخيير الأمة إذا عتقت.
وأما مهر المثل فإن مالكا والشافعي يريان أنه ليس من الكفاءة وأن للأب أن ينكح ابنته بأقل من صداق المثل: أعني البكر وأن الثيب الرشيدة إذا رضيت به لم يكن للأولياء مقال وقال أبو حنيفة: مهر المثل من الكفاءة.
وسبب اختلافهم:
أما في الأب فلاختلافهم هل له أن يضع من صداق ابنته البكر شيئا أم لا؟. وأما في الثيب فلاختلافهم هل ترتفع عنها الولاية في مقدار الصداق إذا كانت رشيدة كما ترتفع في سائر تصرفاتها المالية أم ليس ترتفع الولاية عن مقدار الصداق إذ كانت لا ترتفع
عنها في التصرف في النكاح والصداق من أسبابه وقد كان هذا القول أخلق بمن يشترط الولاية ممن لم يشترطها لكن أتى الأمر بالعكس.
ويتعلق بأحكام الولاية مسألة مشهورة وهي هل يجوز للولي أن ينكح وليته من نفسه أم لا يجوز ذلك؟ فمنع ذلك الشافعي قياسا على الحاكم والشاهد أعني أنه لا يحكم لنفسه ولا يشهد لنفسه وأجاز ذلك مالك ولا أعلم له حجة في ذلك إلا ما روي من " أنه عليه الصلاة والسلام تزوج أم سلمة بغير ولي " لأن ابنها كان صغيرا وما ثبت " أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية فجعل صداقها عتقها".
والأصل عند الشافعي في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم لكثرة خصوصيته في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم ولكن تردد قوله في الإمام الأعظم.
الفصل الثاني في الشهادة
واتفق أبو حنيفة والشافعي ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر.
واختلفوا إذا أشهد شاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أو ليس بسر؟ فقال مالك: هو سر ويفسخ وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس بسر.
وسبب اختلافهم:
هل الشهادة في ذلك حكم شرعي أم إنما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف أو الإنكار؟ فمن قال حكم شرعي قال: هي شرط من شروط الصحة ومن قال توثق قال: من شروط التمام.
والأصل في هذا ما روي عن ابن عباس " لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد " ولا مخالف له من الصحابة وكثير من الناس رأى هذا داخلا في باب الإجماع وهو ضعيف وهذا الحديث قد روي مرفوعا ذكره الدار قطني وذكر أن في سنده مجاهيل.
وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين لأن المقصود عنده بالشهادة هو الإعلان فقط والشافعي يرى أن الشهادة تتضمن المعنيين: أعني الإعلان والقبول ولذلك اشترط فيها العدالة وأما مالك فليس تتضمن عنده الإعلان إذا وصي الشاهدان بالكتمان.
وسبب اختلافهم:
هل ما تقع فيه الشهادة ينطلق عليه اسم السر أم لا؟
والأصل في اشتراط الإعلان قول النبي عليه الصلاة والسلام " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف " خرجه أبو داود وقال عمر فيه: هذا نكاح السر ولو تقدمت فيه لرجمت.
وقال أبو ثور وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح لا شرط صحة ولا شرط تمام وفعل ذلك الحسن بن علي روي عنه أنه تزوج بغير شهادة ثم أعلن بالنكاح.
الفصل الثالث في الصداق
والنظر في الصداق في ستة:
مواضع الأول: في حكمه وأركانه.
الموضع الثاني: في تقرر جميعه للزوجة.
الموضع الثالث: في تشطيره.
الموضع الرابع: في التفويض وحكمه.
الموضع الخامس: الأصدقة الفاسدة وحكمها.
الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق.
(الموضع الأول) وهذا الموضع فيه أربع مسائل:
الأولى: في حكمه.
الثانية في قدره.
الثالثة في جنسه ووصفه.
الرابعة في تأجيله.
(المسألة الأولى) أما حكمه فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وقوله تعالى: { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(المسألة الثانية) وأما قدره فإنهم اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد واختلفوا في أقله فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء المدينة من التابعين ليس لأقله حد وكل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقا وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك وقال طائفة بوجوب تحديد أقله وهؤلاء اختلفوا فالمشهور في ذلك مذهبان: أحدهما مذهب مالك وأصحابه.
والثاني مذهب أبي حنيفة وأصحابه فأما مالك فقال: أقله ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلا من فضة أو ما ساوى الدراهم الثلاثة أعني دراهم الكيل فقط في المشهور وقيل أو ما يساوي أحدهما وقال أبو حنيفة: عشرة دراهم أقله وقيل خمسة دراهم وقيل أربعون درهما.
وسبب اختلافهم:
في التقدير سببان: أحدهما تردده بين أن يكون عوضا من الأعواض يعتبر فيه التراضي بالقليل كان أو بالكثير كالحال في البيوعات وبين أن يكون عبادة
فيكون مؤقتا وذلك أنه من جهة أنه يملك به على المرأة منافعها على الدوام يشبه العوض ومن جهة أنه لا يجوز التراضي على إسقاطه يشبه العبادة.
والسبب الثاني معارضة هذا القياس فالمقتضى التحديد لمفهوم الأثر الذي لا يقتضي التحديد.
أما القياس الذي يقتضي التحديد فهو كما قلنا إنه عبادة والعبادات مؤقتة.
وأما الأثر الذي يقتضي مفهومه عدم التحديد فحديث سهل بن سعد الساعدي المتفق على صحته وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال: لا أجد شيئا فقال عليه الصلاة والسلام: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحتكها بما معك من القرآن" قالوا فقوله عليه الصلاة والسلام: "التمس ولو خاتما من حديد" دليل على أنه لا قدر لأقله لأنه لو كان له قدر لبينه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس تسلم مقدماته وذلك أنه انبنى على مقدمتين: إحداهما أن الصداق عبادة.
والثانية أن العبادة مؤقتة وفي كليهما نزاع للخصم وذلك أنه قد يلفى في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة بل الواجب فيها هو أقل ما ينطلق عليه الاسم.
وأيضا فإنه ليس فيه شبه العبادات خالصا وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاص بذلك الرجل لقوله فيه "قد أنكحتكها بما معك من القرآن " وهذا خلاف للأصول وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال " قم فعلمها " لما ذكر أنه معه من القرآن فقام فعلمها فجاء نكاحا بإجارة لكن لما التمسوا أصلا يقيسون عليه قدر
الصداق لم يجدوا شيئا أقرب شبها به من نصاب القطع على بعد ما بينهما وذلك أن القياس الذي استعملوه في ذلك هو أنهم قالوا: عضو مستباح بمال فوجب أن يكون مقدرا أصله القطع وضعف هذا القياس هو من قبل الاستباحة فيهما هي مقولة باشتراك الاسم وذلك أن القطع غير الوطء وأيضا فإن القطع استباحة على جهة العقوبة والأذى ونقص خلقه وهذا استباحة على جهة اللذة والمودة ومن شأنه قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه وهذا كله معدوم في هذا القياس ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث إذ هو في غاية الضعف وإنما استعملوه في تعيين قدر التحديد.
وأما القياس الذي استعملوه في معارضة مفهوم الحديث فهو أقوى من هذا.
ويشهد لعدم التحديد ما خرجه الترمذي " أن امرأة تزوجت على نعلين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت نعم فجوز نكاحها " وقال هو حديث حسن صحيح.
ولما اتفق القائلون بالتحديد على قياسه على نصاب السرقة اختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في نصاب السرقة فقال مالك: هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم لأنه النصاب في السرقة عنده وقال أبو حنيفة: هو عشرة دراهم لأنه النصاب في السرقة عنده وقال ابن شبرمة: هو خمسة دراهم لأنه النصاب عنده أيضا في السرقة وقد احتجت الحنفية لكون الصداق محددا بهذا القدر بحديث يروونه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال " لا مهر بأقل من عشرة دراهم ".
ولو كان هذا ثابتا لكان رافعا لموضع الخلاف لأنه كان يجب لموضع هذا الحديث أن يحمل حديث سهل ابن سعد على الخصوص لكن حديث جابر هذا ضعيف عند أهل الحديث فإنه يرويه قالو مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن جابر ومبشر والحجاج ضعيفان وعطاء أيضاً لم يلق جابرا ولذلك لا يمكن أن يقال إن هذا الحديث معارض لحديث سهل بن سعد.
(المسألة الثالثة) أما جنسه فكل ما جاز أن يتملك وأن يكون عوضا.
واختلفوا من ذلك في مكانين: في النكاح بالإجارة وفي جعل عتق أمته صداقها.
أما النكاح على الإجارة ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: قول بالإجازة وقول بالمنع وقول بالكراهة: والمشهور عن مالك الكراهة ولذلك رأى فسخه قبل الدخول وأجازه من أصحابه أصبغ وسحنون وهو قول الشافعي ومنعه ابن القاسم وأبو حنيفة إلا في العبد فإن أبا حنيفة أجازه.
وسبب اختلافهم:
سببان: أحدهما هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه أم الأمر بالعكس فمن قال هو لازم أجازه لقوله تعالى: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} الآية ومن قال ليس بلازم قال: لا يجوز النكاح بالإجارة.
والسبب الثاني هل يجوز أن يقاس النكاح في ذلك على الإجارة؟ وذلك أن الإجارة هي مستثناة من بيوع الغرر المجهول ولذلك خالف فيها الأصم وابن علية وذلك أن أصل التعامل إنما هو على عين معروفة ثابتة في عين معروفة ثابتة والإجارة هي عين ثابتة في مقابلتها حركات وأفعال غير ثابتة ولا مقدرة بنفسها.
ولذلك اختلف الفقهاء متى تجب الأجرة على المستأجر.
وأما كون العتق صداقا فإنه منعه فقهاء الأمصار ما عدا داود وأحمد.
وسبب اختلافهم:
معارضة الأثر الوارد في ذلك للأصول.
أعني ما ثبت من " أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها " مع احتمال أن يكون هذا خاصاً به عليه الصلاة والسلام لكثرة اختصاصه في هذا الباب.
ووجه مفارقته للأصول أن العتق إزالة ملك والإزالة لا تتضمن استباحة الشيء بوجه آخر لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها فكيف يلزمها النكاح؟ ولذلك قال الشافعي: إنها إن كرهت زواجه غرمت له قيمتها لأنه رأى أنها قد أتلفت عليه قيمتها إذ كان إنما أتلفها بشرط الاستمتاع بها وهذا كله لا يعارض به فعله عليه الصلاة والسلام ولو كان غير جائز لغيره لبينه عليه الصلاة والسلام والأصل أن أفعاله لازمة لنا إلا ما قام الدليل على خصوصيته.
وأما صفة الصداق فإنهم اتفقوا على انعقاد النكاح على العوض المعين الموصوف أعني المنضبط جنسه وقدره بالوصف
واختلفوا في العوض الغير موصوف ولا معين مثل أن يقول أنكحتكها على عبد أو خادم من غير أن يصف ذلك وصفا يضبط قيمته فقال مالك وأبو حنيفة يجوز وقال الشافعي لا يجوز وإذا وقع النكاح على هذا الوصف عند مالك كان لها الوسط مما سمى.
وقال أبو حنيفة: يجبر على القيمة.
وسبب اختلافهم:
هل يجري النكاح في ذلك مجرى البيع من القصد في التشاح أو ليس يبلغ ذلك المبلغ بل القصد منه أكثر ذلك المكارمة فمن قال يجري في التشاح مجرى البيع قال: كما لا يجوز البيع على شيء غير موصوف كذلك لا يجوز النكاح ومن قال ليس يجري مجراه إذ المقصود منه إنما هو المكارمة قال: يجوز.
وأما التأجيل فإن قوما لم يجيزوه أصلا وقوم أجازوه واستحبوا أن يقدم شيئا منه إذا أراد الدخول وهو مذهب مالك والذين أجازوا التأجيل منهم من لم يجزه إلا لزمن محدود وقدر هذا البعد وهو مذهب مالك ومنهم من أجازه لموت أو فراق وهو مذهب الأوزاعي.
وسبب اختلافهم:
هل يشبه النكاح البيع في التأجيل أو لا يشبهه؟ فمن قال يشبهه لم يجز التأجيل لموت أو فراق ومن قال لا يشبهه أجاز ذلك ومن منع التأجيل فلكونه عبادة.
(الموضع الثاني: في النظر في التقرر).
واتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول أو الموت.
أما وجوبه كله بالدخول فلقوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} الآية.
وأما وجوبه بالموت فلا أعلم الآن فيه دليلا مسموعا إلا انعقاد الإجماع على ذلك.
واختلفوا هل من شرط وجوبه مع الدخول المسيس أم ليس ذلك من شرطه.
بل يجب بالدخول والخلوة وهو الذي يعنون بإرخاء الستور؟ فقال مالك والشافعي وداود: لا يجب بإرخاء الستور إلا نصف المهر ما لم يكن المسيس وقال أبو حنيفة يجب المهر بالخلوة نفسها إلا أن يكون محرما أو مريضا أو صائما في رمضان أو كانت المرأة حائضا وقال ابن أبي ليلى: يجب المهر كله بالدخول ولم يشترط في ذلك شيئا.
وسبب اختلافهم:
في ذلك معارضة حكم الصحابة في ذلك لظاهر الكتاب وذلك أنه نص تبارك وتعالى في المدخول بها المنكوحة أنه ليس يجوز أن يؤخذ من صداقها
شيء في قوله تعالى: { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ونص في المطلقة قبل المسيس أن لها نصف الصداق فقال تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وهذا نص كما ترى في حكم كل واحدة من هاتين الحالتين: أعني قبل المسيس وبعد المسيس ولا وسط بينهما فوجب بهذا إيجابا ظاهرا أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع وقد يحتمل أن يحمل على أصله في اللغة وهو المس ولعل هذا هو الذي تأولت الصحابة ولذلك قال مالك في العنين المؤجل إنه قد وجب لها الصداق عليه إذا وقع الطلاق لطول مقامه معها فجعل له دون الجماع تأثيرا في إيجاب الصداق.
وأما الأحكام الواردة في ذلك عن الصحابة فهو أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد وجب عليه الصداق لم يختلف عليهم في ذلك فيما حكموا.
واختلفوا من هذا الباب في فرع وهو إذا اختلفا في المسيس أعني القائلين باشتراط المسيس وذلك مثل أن تدعي هي المسيس وينكر هو فالمشهور عن مالك أن القول قولها وقيل إن كان دخول بناء صدقت وإن كان دخول زيارة لم تصدق وقيل إن كانت بكرا نظر إليها النساء فيتحصل فيها في المذهب ثلاثة أقوال.
وقال الشافعي وأهل الظاهر: القول قوله وذلك لأنه مدعى عليه ومالك ليس يعتبر في وجوب اليمين على المدعى عليه من جهة ما هو مدعى عليه بل من جهة ما هو أقوى شبهة في الأكثر ولذلك يجعل القول في مواضع كثيرة قول المدعي إذ كان أقوى شبهة.
وهذا الخلاف يرجع إلى هل إيجاب اليمين على المدعى عليه معلل أو غير معلل وكذلك القول في وجوب البينة على المدعي وسيأتي هذا في مكانه.
(الموضع الثالث: في التشطير) واتفقوا اتفاقا مجملا أنه إذا طلق قبل الدخول وقد فرض صداقا أنه يرجع عليها بنصف الصداق لقوله تعالى: فنصف ما فرضتم الآية والنظر في التشطير في أصول ثلاثة: في محله من الأنكحة وفي موجبه من أنواع الطلاق أعني الواقع قبل الدخول وفي حكم ما يعرض له من التغيرات قبل الطلاق.
أما محله من النكاح عند مالك
فهو النكاح الصحيح أعني أن يكون يقع الطلاق الذي قبل الدخول في النكاح الصحيح وأما النكاح الفاسد فإن لم تكن الفرقة فيه فسخا وطلق قبل الفسخ ففي ذلك قولان.
وأما موجب التشطير فهو الطلاق الذي يكون باختيار من الزوج لا باختيار منها مثل الطلاق الذي يكون من قبل قيامها بعيب يوجد فيه.
واختلفوا من هذا الباب في الذي يكون سببه قيامها عليه بالصداق أو النفقة مع عسره ولا فرق بينه وبين القيام بالعيب وأما الفسوخ التي ليست طلاقا فلا خلاف أنها ليست توجب التشطير إذا كان فيها الفسخ من قبل العقد أو من قبل الصداق وبالجملة من قبل عدم موجبات الصحة وليس لها في ذلك اختيار أصلا.
وأما الفسوخ الطارئة على العقد الصحيح مثل الردة والرضاع فإن لم يكن لأحدهما فيه اختيار أو كان لها دونه لم يوجب التشطير وإن كان له فيه اختيار مثل الردة أوجب التشطير.
والذي يقتضيه مذهب أهل الظاهر أن كل طلاق قبل البناء فواجب أن يكون فيه التنصيف سواء كان من سببها أو سببه وأن ما كان فسخا ولم يكن طلاقا فلا تنصيف فيه.
وسبب الخلاف:
هل هذه السنة معقولة المعنى أم ليست بمعقولة.
فمن قال إنها معقولة المعنى وأنه إنما وجب لها نصف الصداق عوض ما كان لها لمكان الجبر على رد سلعتها وأخذ الثمن كالحال في المشتري فلما فارق النكاح في هذا المعنى البيع جعل لها هذا عوضا من ذلك الحق قال: إذا كان الطلاق من سببها لم يكن لها شيء لأنها أسقطت ما كان لها من جبره على دفع الثمن وقبض السلعة ومن قال إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ قال: يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها.
فأما حكم ما يعرض للصداق من التغيرات قبل الطلاق فإن ذلك لا يخلو أن يكون من قبلها أو من الله فما كان من قبل الله فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يكون تلفا للكل وإما أن يكون نقصا وإما أن يكون زيادة وإما أن يكون زيادة ونقصا معا.
وما كان من قبلها فلا يخلو أن يكون تصرفها فيه بتفويت مثل البيع والعتق والهبة أو يكون تصرفها فيه في منافعها الخاصة بها أو فيما تتجهز به إلى زوجها فعند مالك أنهما في التلف وفي الزيادة وفي النقصان شريكان وعند الشافعي أنه يرجع في النقصان والتلف عليها بالنصف
ولا يرجع بنصف الزيادة.
وسبب اختلافهم:
هل تملك المرأة الصداق قبل الدخول أو الموت ملكا مستقرا أو لا تملكه؟ فمن قال إنها لا تملكه ملكا مستقرا قال: هما فيه شريكان ما لم تتعد فتدخله في منافعها ومن قال تملكه ملكا مستقرا والتشطير حق واجب تعين عليها عند الطلاق وبعد استقرار الملك أوجب الرجوع عليها بجميع ما ذهب عندها ولم يختلفوا أنها إذا صرفته في منافعها ضامنة للنصف.
واختلفوا إذا اشترت به ما يصلحها للجهاز مما جرت به العادة هل يرجع عليها بنصف ما اشترته أم بنصف الصداق الذي هو الثمن؟ فقال: مالك يرجع عليها بنصف ما اشترته وقال أبو حنيفة والشافعي: يرجع عليها بنصف الثمن الذي هو الصداق.
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور متعلق بالسماع وهو هل للأب أن يعفو عن نصف الصداق في ابنته البكر؟ أعني إذا طلقت قبل الدخول وللسيد في أمته؟ فقال مالك: ذلك له وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس ذلك له.
وسبب اختلافهم:
هو الاحتمال الذي في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وذلك في لفظة يعفو فإنها تقال في كلام العرب مرة بمعنى يسقط ومرة بمعنى يهب وفي قوله " الذي بيده عقدة النكاح" على من يعود هذا الضمير هل على الولي أو على الزوج فمن قال على الزوج جعل " يعفو" بمعنى يهب ومن قال على الولي جعل" يعفو" بمعنى يسقط وشذ قوم فقالوا: لكل ولي أن يعفو عن نصف الصداق الواجب للمرأة ويشبه أن يكون هذان الاحتمالان اللذان في الآية على السواء لكن من جعله الزوج فلم يوجب حكما زائدا في الآية: أي شرعا زائدا لأن جواز ذلك معلوم من ضرورة الشرع.
ومن جعله الولي إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج وذلك شيء يعسر والجمهور على أن المرأة الصغيرة والمحجورة ليس لها أن تهب من صداقها النصف الواجب لها وشذ قوم فقالوا: يجوز أن تهب مصيرا لعموم قوله تعالى: { إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ } واختلفوا من هذا الباب في المرأة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقت قبل الدخول فقال مالك: ليس يرجع عليها بشيء وقال الشافعي: يرجع عليها بنصف الصداق.
وسبب الخلاف:
هل النصف الواجب للزوج بالطلاق هو في عين الصداق أو في ذمة المرأة؟ فمن قال في عين الصداق قال: لا يرجع عليها بشيء لأنه قبض الصداق كله ومن قال هو في ذمة المرأة قال: يرجع وإن وهبته له كما لو وهبت له غير ذلك من مالها: وفرق أبو حنيفة في هذه المسألة بين القبض ولا قبض.
فقال: إن قبضت فله النصف وإن لم تقبض حتى وهبت فليس له شيء كأنه رأى أن الحق في العين ما لم تقبض فإذا قبضت صار في الذمة.
(الموضع الرابع: في التفويض) وأجمعوا على أن نكاح التفويض جائز وهو أن يعقد النكاح دون صداق لقوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}.
واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: إذا طلبت الزوجة فرض الصداق واختلفا في القدر.
الموضع الثاني: إذا مات الزوج ولم يفرض هل لها صداق أم لا؟
(فأما المسألة الأولى) وهي إذا قامت المرأة تطلب أن يفرض لها مهرا فقالت طائفة: يفرض لها مهر مثلها وليس للزوج في ذلك خيار فإن طلق بعد الحكم فمن هؤلاء من قال: لها نصف الصداق ومنهم من قال: ليس لها شيء لأن أصل الفرض لم يكن في عقدة النكاح وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك وأصحابه: الزوج بين خيارات ثلاث: إما أن يطلق ولا يفرض وإما أن يفرض ما تطلبه المرأة به وإما أن يفرض صداق المثل ويلزمها.
وسبب اختلافهم:
أعني بين من يوجب مهر المثل خيار للزوج إذا طلق بعد طلبها الفرض ومن لا يوجب اختلافهم في مفهوم قوله تعالى { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } هل هذا محمول على العموم في سقوط الصداق سواء كان سبب الطلاق اختلافهم في فرض الصداق أو لم يكن الطلاق سببه الخلاف في ذلك وأيضا فهل يفهم من رفع الجناح عن ذلك سقوط المهر في كل حال أو لا يفهم ذلك؟ فيه احتمال وإن كان الأظهر سقوطه في كل حال لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ولا خلاف أعلمه في أنه إذا طلق ابتداء أنه ليس عليه شيء.
وقد كان يجب على من أوجب
لها المتعة مع شطر الصداق إذا طلق قبل الدخول في نكاح غير التفويض وأوجب لها مهر المثل في نكاح التفويض أن يوجب لها مع المتعة فيه شطر مهر المثل لأن الآية لم تتعرض بمفهومها لإسقاط الصداق في نكاح التفويض وإنما تعرضت لإباحة الطلاق قبل الفرض فإن كان يوجب نكاح التفويض مهر المثل إذا طلب فواجب أن يتشطر إذا وقع الطلاق كما يتشطر في المسمى ولهذا قال مالك إنه ليس يلزم فيه مهر المثل مع خيار الزوج.
(وأما المسألة الثانية) وهي إذا مات الزوج قبل تسمية الصداق وقبل الدخول بها فإن مالكا وأصحابه والأوزاعي قالوا: ليس لها صداق ولها المتعة والميراث.
وقال أبو حنيفة لها صداق المثل والميراث وبه قال أحمد وداود وعن الشافعي القولان جميعا إلا أن المنصور عند أصحابه هو مثل قول مالك.
وسبب اختلافهم:
معارضة القياس للأثر أما الأثر فهو ما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني: أرى لها صداق امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
وأما القياس المعارض لهذا فهو أن الصداق عوض فلما لم يقبض المعوض لم يجب العوض قياسا على البيع. وقال المزني عن الشافعي في هذه المسألة إن ثبت حديث بروع فلا حجة في قول أحد مع السنة.
والذي قاله هو الصواب والله أعلم.
(الموضع الخامس: في الأصدقة الفاسدة) والصداق يفسد إما لعينه وإما لصفة فيه من جهل أو عذر فالذي يفسد لعينه فمثل الخمر والخنزير وما لا يجوز أن يتملك والذي يفسد من قبل العذر والجهل فالأصل فيه بالبيوع وفي ذلك خمس مسائل مشهورة:
(المسألة الأولى) إذا كان الصداق خمرا أو خنزيرا أو ثمرة لم يبد صلاحها أو بعيرا شاردا فقال أبو حنيفة: العقد صحيح إذا وقع فيه مهر المثل.
وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده وهو قول أبي عبيد.
والثانية أنه إن دخل ثبت ولها صداق المثل.
وسبب اختلافهم:
هل حكم النكاح في ذلك حكم البيع أم ليس كذلك؟ فمن قال حكمه حكم البيع
قال: يفسد النكاح بفساد الصداق كما يفسد البيع بفساد الثمن ومن قال ليس من شرط صحة عقد النكاح صحة الصداق بدليل أن ذكر الصداق ليس شرطا في صحة العقد قال: يمضي النكاح ويصحح بصداق المثل.
والفرق بين الدخول وعدمه ضعيف والذي تقتضيه أصول مالك أن يفرق بين الصداق المحرم العين وبين المحرم لصفة فيه قياسا على البيع ولست أذكر الآن فيه نصا.
(المسألة الثانية) واختلفوا إذا اقترن بالمهر بيع مثل أن تدفع إليه عبدا ويدفع ألف درهم عن الصداق وعن ثمن العبد ولا يسمى الثمن من الصداق فمنعه مالك وابن القاسم وبه قال أبو ثور.
وأجازه أشهب وهو قول أبي حنيفة.
وفرق عبد الله فقال: إن كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدا بأمر لا يشك فيه جاز واختلف فيه قول الشافعي فمرة قال: ذلك جائز ومرة قال فيه مهر المثل.
وسبب اختلافهم:
هل النكاح في ذلك شبيه بالبيع أم ليس بشبيه؟ فمن شبهه في ذلك بالبيع منعه ومن لصاحب في النكاح من الجهل ما لا يجوز في البيع قال: يجوز.
(المسألة الثالثة) واختلف العلماء فيمن نكح امرأة واشترط عليه في صداقها حباء يحابي به الأب على ثلاثة أقوال: فقال أبو حنيفة وأصحابه: الشرط لازم والصداق صحيح وقال الشافعي: المهر فاسد ولها صداق المثل وقال مالك: إذا كان الشرط عند النكاح فهو لابنته وإن كان بعد النكاح فهو له.
وسبب اختلافهم:
تشبيه النكاح في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال: لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز.
وأما تفريق مالك فلأنه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق.
وقول مالك هو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد.
وخرج أبو داود والنسائي وعبد الرزاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة نكحت على حباء قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته وأخته " وحديث عمرو بن شعيب مختلف فيه من
قبل أنه صحفه ولكنه نص في قول مالك وقال أبو عمر بن عبد البر: إذا روته الثقات وجب العمل به.
(المسألة الرابعة) واختلفوا في الصداق يستحق أو يوجد به عيب فقال الجمهور: النكاح ثابت.
واختلفوا هل ترجع بالقيمة أو بالمثل أو بمهر المثل؟ واختلف في ذلك قول الشافعي فقال مرة بالقيمة وقال مرة بمهر المثل وكذلك اختلف المذهب في ذلك فقيل ترجع بالقيمة وقيل ترجع بالمثل.
قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل ترجع بالأقل من القيمة أو صداق المثل لكان ذلك وجها.
وشذ سحنون فقال: النكاح فاسد.
ومبنى الخلاف هل يشبه النكاح في ذلك البيع أو لا يشبهه؟ فمن شبهه قال: ينفسخ ومن لم يشبهه قال: لا ينفسخ.
(المسألة الخامسة) واختلفوا في الرجل ينكح المرأة على أن الصداق ألف إن لم يكن له زوجة وإن كانت له زوجة فالصداق ألفان فقال الجمهور بجوازه واختلفوا في الواجب في ذلك فقال قوم: الشرط جائز ولها من الصداق بحسب ما اشترط وقالت طائفة: لها مهر المثل وهو قول الشافعي وبه قال أبو ثور إلا أنه قال: إن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة وقال أبو حنيفة إن كانت له امرأة فلها ألف درهم وإن لم تكن له امرأة فلها مهر مثلها ما لم يكن أكثر من الألفين أو أقل من الألف ويتخرج في هذا قول إن النكاح مفسوخ لمكان الغرر ولست أذكر الآن نصا فيها في المذهب.
فهذه مشهور مسائلهم في هذا الباب وفروعه كثيرة..
واختلفوا فيما يعتبر به مهر المثل إذا قضى به في هذه المواضع وما أشبهها فقال مالك: يعتبر في جمالها ونصابها ومالها.
وقال الشافعي: يعتبر بنساء عصبتها فقط وقال أبو حنيفة: يعتبر في ذلك نساء قرابتها من العصبة وغيرهم ومبنى الخلاف هل المماثلة في المنصب فقط أو في المنصب والمال والجمال لقوله عليه الصلاة والسلام: "تنكح المرأة لدينها وجمالها وحسبها " الحديث.
(الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق) واختلافهم لا يخلو أن يكون في القبض أو في القدر أو في الجنس أو في الوقت: أعني وقت الوجوب
فأما إذا اختلفا في القدر فقالت المرأة مثلا بمائتين وقال الزوج بمائة فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا فقال مالك: إنه إن كان الاختلاف قبل الدخول وأتى الزوج بما يشبه والمرأة بما يشبه أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف وإن نكلا جميعا كان بمنزلة ما إذا حلفا جميعا ومن أتى بما يشبه منهما كان القول قوله وإن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج.
وقالت طائفة: القول قول الزوج مع يمينه وبه قال أبو ثور وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة وقالت طائفة: القول قول الزوجة إلى مهر مثلها وقول الزوج فيما زاد على مهر مثلها.
وقالت طائفة: إذا اختلفا تحالفا ورجع إلى مهر المثل ولم تر الفسخ كمالك وهو مذهب الشافعي والثوري وجماعة وقد قيل إنها ترد إلى صداق المثل دون يمين ما لم يكن صداق المثل أكثر مما ادعت وأقل مما ادعى هو.
واختلافهم مبني على اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك معلل أو غير معلل؟ فمن قال معلل قال: يحلف أبدا أقواهما شبهة فإن استويا تحالفا وتفاسخا ومن قال غير معلل قال: يحلف الزوج لأنها تقر له بالنكاح وجنس الصداق وتدعي عليه قدرا زائدا فهو مدعى عليه وقيل أيضا يتحالفان أبدا لأن كل واحد منهما مدعى عليه وذلك عند من لم يراع الأشباه.
والخلاف في ذلك في المذهب ومن قال القول قولها إلى مهر المثل والقول قوله فيما زاد على مهر المثل رأى أنهما لا يستويان أبدا في الدعوى بل يكون أحدهما ولا بد أقوى شبهة وذلك أنه لا يخلو دعواها من أن يكون فيما يعادل صداق مثلها فما دونه فيكون القول قولها أو يكون فيما فوق ذلك فيكون القول قوله.
وسبب اختلاف مالك والشافعي في التفاسخ بعد التحالف والرجوع إلى صداق المثل هو هل يشبه النكاح بالبيع في ذلك أم ليس يشبه؟ فمن قال يشبه به قال بالتفاسخ ومن قال لا يشبه لأن الصداق ليس من شرط صحة العقد قال: بصداق المثل بعد التحالف.
وكذلك من زعم من أصحاب مالك أنه لا يجوز لهما بعد التحالف أن يتراضيا على شيء ولا أن يرجع أحدهما إلى قول الآخر ويرضى به فهو في غاية الضعف.
ومن ذهب إلى هذا فإنما يشبه باللعان.
وهو تشبيه ضعيف
مع أن وجود هذا الحكم للعان مختلف فيه.
وأما إذا اختلفا في القبض فقالت الزوجة لم أقبض وقال الزوج قد قبضت فقال الجمهور: القول قول المرأة وبه قال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وقال مالك: القول قولها قبل الدخول والقول قوله بعد الدخول.
وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك لأن العرف بالمدينة كان عندهم أن لا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبدا والقول بأن القول قولها أبدا أحسن لأنها مدعى عليها ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج واختلف أصحاب مالك إذا طال الدخول هل يكون القول قوله بيمين أو بغير يمين أحسن.
وأما إذا اختلف في جنس الصداق فقال هو مثلا زوجتك على هذا العبد وقالت هي زوجتك على هذا الثوب فالمشهور في المذهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان الاختلاف قبل البناء.
وإن كان بعد البناء ثبت وكان لها صداق مثل ما لم يكن أكثر مما ادعت أو أقل مما اعترف به.
وقال ابن القصار: يتحالفان قبل الدخول والقول قول الزوج بعد الدخول وقال أصبغ: القول قول الزوج إن كان يشبهه سواء أشبه قولهما أو لم يشبه فإن لم يشبه قول الزوج فإن كان قولها مشبها كان القول قولها وإن لم يكن قولها مشبها تحالفا وكان لها صداق المثل.
وقول الشافعي في هذه المسألة مثل قوله عند اختلافهما في القدر أعني يتحالفان ويتراجعان إلى مهر المثل.
وسبب قول الفقهاء بالتفاسخ في البيع ستعرف أصله في كتاب البيوع إن شاء الله.
وأما اختلافهم في الوقت فإنه يتصور في الكالىء.
والذي يجيء على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الأجل قول الغارم قياسا على البيع وفيه خلاف ويتصور أيضا متى يجب هل قبل الدخول أو بعده ؟ فمن شبه النكاح بالبيوع قال: لا يجب إلا بعد الدخول قياسا على البيع إذ لا يجب الثمن على المشتري إلا بعد قبض السلعة ومن رأى أن الصداق عبادة يشترط في الحلية قال: يجب قبل الدخول.
ولذلك استحب مالك أن يقدم الزوج قبل الدخول شيئا من الصداق.
(الركن الثالث: في معرفة محل العقد) وكل امرأة فإنها تحل في الشرع بوجهين: إما بنكاح أو بملك يمين.
والموانع الشرعية بالجملة تنقسم أولا
إلى قسمين: موانع مؤبدة وموانع غير مؤبدة.
والموانع المؤبدة تنقسم إلى متفق عليها ومختلف فيها.
فالمتفق عليها ثلاث نسب وصهر ورضاع.
والمختلف فيها الزنا واللعان.
والغير مؤبدة تنقسم إلى تسعة:
أحدها مانع العدد.
والثاني: مانع الجمع.
والثالث: مانع الرق.
الرابع: مانع الكفر.
والخامس: مانع الإحرام.
والسادس: مانع المرض.
والسابع: مانع العدة على اختلاف في عدم تأبيده.
والثامن: مانع التطليق ثلاثا للمطلق.
والتاسع: مانع الزوجية.
فالموانع الشرعية بالجملة أربعة عشر مانعا ففي هذا الباب أربعة عشر فصلا.
الفصل الأول في مانع النسب
واتفقوا على أن النساء اللائي يحرمن من قبل النسب السبع المذكورات في القرآن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت واتفقوا على أن الأم ههنا: اسم لكل أنثى لها عليك ولادة من جهة الأم أو من جهة الأب والبنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة من قبل الابن أو من قبل البنت أو مباشرة وأما الأخت: فهي اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو مجموعيهما أعني الأب أو الأم أو كليهما والعمة: اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة وأما الخالة: فهي اسم لأخت أمك أو أخت كل أنثى لها عليك ولادة وبنات الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة. وبنات الأخت: اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة أو من قبل أمها أو من قبل أبيها.
فهؤلاء الأعيان السبع محرمات ولا خلاف أعلمه في هذه الجملة.
والأصل فيها قوله تعالى :{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } إلى آخر الآية.
وأجمعوا على أن النسب الذي يحرم الوطء يحرم الوطء بملك اليمين.
الفصل الثاني في المصاهرة
وأما المحرمات بالمصاهرة فإنهن أربع: زوجات الآباء والأصل فيه قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية.
وزوجات
الأبناء والأصل في ذلك أيضا قوله تعالى :{ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وأمهات النساء أيضا والأصل في ذلك قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وبنات الزوجات والأصل فيه قوله تعالى:{ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فهؤلاء الأربع اتفق المسلمون على تحريم اثنين منهن بنفس العقد وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء وواحدة بالدخول وهي ابنة الزوجة واختلفوا منها في موضعين: أحدهما هل من شرطها أن تكون في حجر الزوج والثانية هل تحرم بالمباشرة للأم للذة أو بالوطء؟
وأما أم الزوجة فإنهم اختلفوا هل تحرم بالوطء أو بالعقد على البنت فقط؟ واختلف أيضا من هذا الباب في مسألة رابعة وهي هل يوجب الزنا من هذا التحريم ما يوجبه النكاح الصحيح أو النكاح بشبهة فهنا أربع مسائل
(المسألة الأولى) وهي هل من شرط تحريم بنت الزوجة أن تكون في حجر الزوج أم ليس ذلك من شرطه؟ فإن الجمهور على أن ذلك ليس من شرط التحريم وقال داود ذلك من شرطه ومبنى الخلاف هل قوله تعالى:اللاتي في حجوركم وصف له تأثير في الحرمة أو ليس له تأثير وإنما خرج مخرج الموجود أكثر؟ فمن قال خرج مخرج الموجود الأكثر وليس هو شرطا في الربائب إذ لا فرق في ذلك بين التي في حجره أو التي ليست في حجره.
قال: تحرم الربيبة بإطلاق ومن جعله شرطاً غير معقول المعنى قال: لا تحرم إلا إذا كانت في حجره.
(المسألة الثانية) وأما هل تحرم البنت بمباشرة الأم فقط أو بالوطء؟ فإنهم اتفقوا على أن حرمتها بالوطء.
واختلفوا فيما دون الوطء من اللمس والنظر إلى الفرج لشهوة أو لغير شهوة هل ذلك يحرم أم لا؟ فقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد إن اللمس لشهوة يحرم الأم.
وهو أحد قولي الشافعي وقال داود والمزني: لا يحرمه إلا الوطء وهو أحد قولي الشافعي المختار عنده والنظر عند مالك كاللمس إذا كان نظر تلذذ إلى أي عضو كان وفيه عنه خلاف ووافقه أبو حنيفة في النظر إلى الفرج فقط وحمل الثوري النظر محمل اللمس ولم يشترط اللذة
وخالفهم في ذلك ابن أبي ليلى والشافعي في أحد قوليه فلم يوجب في النظر شيئا.
وأوجب في اللمس.
ومبنى الخلاف هل المفهوم من اشتراط الدخول في قوله تعالى :{ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الوطء أو التلذذ بما دون الوطء؟ فإن كان التلذذ فهل يدخل فيه النظر أم لا؟
(المسألة الثالثة) وأما الأم فذهب الجمهور من كافة فقهاء الأمصار إلى أنها تحرم بالعقد على البنت دخل بها أو لم يدخل وذهب قوم إلى أن الأم لا تحرم إلا بالدخول على البنت كالحال في البنت: أعني أنها لا تحرم إلا بالدخول على الأم وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من طرق ضعيفة.
ومبنى الخلاف هل الشرط في قوله تعالى: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يعود إلى أقرب مذكور وهم الربائب فقط أو إلى الربائب والأمهات المذكورات قبل الربائب في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فإنه يحتمل أن يكون قوله تعالى: { اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } يعود على الأمهات والبنات ويحتمل أن يعود إلى أقرب مذكور وهم البنات.
ومن الحجة للجمهور ما روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال " أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا تحل له أمها ".
(وأما المسألة الرابعة) فاختلفوا في الزنا هل يوجب من التحريم في هؤلاء ما يوجب الوطء في نكاح صحيح أو بشبهة أعني الذي يدرأ فيه الحد فقال الشافعي: الزنا بالمرأة لا يحرم نكاح أمها ولا ابنتها ولا نكاح أبي الزاني لها ولا ابنه.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: يحرم الزنا ما يحرم النكاح وأما مالك ففي الموطأ عنه مثل قول الشافعي أنه لا يحرم وروى عنه ابن القاسم مثل قول أبي حنيفة أنه يحرم وقال سحنون: أصحاب مالك يخالفون ابن القاسم فيها ويذهبون إلى ما في الموطأ وقد روي عن الليث أن الوطء بشبهة لا يحرم وهو شاذ.
وسبب الخلاف:
الاشتراك في اسم النكاح: أعني في دلالته على المعنى الشرعي واللغوي فمن راعى الدلالة اللغوية في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} قال يحرم الزنا ومن راعى الدلالة الشرعية قال: لا يحرم الزنا.
ومن علل هذا الحكم بالحرمة التي بين الأم والبنت وبين الأب والابن قال: يحرم الزنا أيضا ومن شبهه بالنسب قال: لا يحرم لإجماع الأكثر على أن النسب لا يلحق بالزنا.
واتفقوا فيما حكى ابن المنذر على أن الوطء بملك اليمين يحرم منه ما يحرم الوطء بالنكاح.
واختلفوا في تأثير المباشرة في ملك اليمين كما اختلفوا في النكاح.
الفصل الثالث في مانع الرضاع
واتفقوا على أن الرضاع بالجملة يحرم منه ما يحرم منه النسب: أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم فتحرم على المرضع هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب واختلفوا من ذلك في مسائل كثيرة القواعد منها تسع: إحداها: في مقدار المحرم من اللبن.
والثانية في سن الرضاع.
والثالثة في حال المرضع في ذلك الوقت عند من يشترط للرضاع المحرم وقتا خاصاً.
والرابعة: هل يعتبر فيه وصوله برضاع والتقام الثدي أو لا يعتبر.
والخامسة: هل يعتبر فيه المخالطة أم لا يعتبر.
والسادسة: هل يعتبر فيه الوصول من الحلق أو لا يعتبر.
والسابعة:هل ينزل صاحب اللبن: أعني الزوج من المرضع منزلة أب وهو الذي يسمونه لبن الفحل أم ليس ينزل منه بمنزلة أب.
والثامنة: الشهادة على الرضاع.
والتاسعة: صفة المرضعة.
(المسألة الأولى) أما مقدار المحرم من اللبن فإن قوما قالوا فيه بعدم التحديد وهو مذهب مالك وأصحابه وروي عن علي وابن مسعود وهو قول ابن عمر وابن عباس وهؤلاء يحرم عندهم أي قدر كان وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وقالت طائفة: بتحديد القدر المحرم وهؤلاء انقسموا إلى ثلاث فرق فقالت طائفة: لا تحرم المصة ولا المصتان وتحرم الثلاث رضعات فما فوقها وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وقالت طائفة: المحرم خمس رضعات وبه قال الشافعي وقالت طائفة: عشر رضعات.
والسبب في اختلافهم:
في هذه المسألة معارضة عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد ومعارضة الأحاديث في ذلك بعضها بعضا.
فأما عموم الكتاب فقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية وهذا يقتضي ما ينطلق عليه اسم الإرضاع والأحاديث المتعارضة في ذلك راجعة إلى حديثين في المعنى:
أحدهما: حديث عائشة وما في معناه أنه قال عليه الصلاة والسلام " لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة والرضعتان " خرجه مسلم من طريق عائشة ومن طريق أم الفضل ومن طريق ثالث وفيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان " والحديث الثاني حديث سهلة في سالم أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أرضعيه خمس رضعات " وحديث عائشة في هذا المعنى أيضا قالت " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن " فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الأحاديث قال: تحرم المصة والمصتان.
ومن جعل الأحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحرم المصة ولا المصتان " على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال: الثلاثة فما فوقها هي التي تحرم وذلك أن دليل الخطاب في قوله " لا تحرم المصة ولا المصتان " يقتضي أن ما فوقها يحرم ودليل الخطاب في قوله " أرضعيه خمس رضعات " يقتضي أن ما دونها لا يحرم والنظر في ترجيح أحد دليلي الخطاب.
(المسألة الثانية) واتفقوا على أن الرضاع يحرم في الحولين.
واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء: لا يحرم رضاع الكبير وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم وهو مذهب عائشة ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام.
وسبب اختلافهم:
تعارض الآثار في ذلك وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما حديث سالم وقد تقدم.
والثاني حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال عليه الصلاة والسلام انظرن من إخوانكن من الرضاعة فإن الرضاعة من المجاعة ".
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء إلا أن حديث سالم نازلة في عين وكان سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يرون ذلك رخصة لسالم ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير.
(المسألة الثالثة) واختلفوا إذا استغنى المولود بالغذاء قبل الحولين وفطم ثم أرضعته امرأة فقال مالك: لا يحرم ذلك الرضاع وقال أبو حنيفة والشافعي: تثبت الحرمة به.
وسبب اختلافهم:
اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما الرضاعة من المجاعة" فإنه يحتمل أن يريد بذلك الرضاع الذي يكون في سن المجاعة كيفما كان الطفل وهو سن الرضاع ويحتمل أن يريد إذا كان الطفل غير مفطوم فإن فطم في بعض الحولين لم يكن رضاعا من المجاعة فالاختلاف آيل إلى أن الرضاع الذي سببه المجاعة والافتقار إلى اللبن هل يعتبر فيه الافتقار الطبيعي للأطفال وهو الافتقار الذي سببه سن الرضاع أو افتقار المرضع نفسه وهو الذي يرتفع بالفطم ولكنه موجود بالطبع والقائلون بتأثير الإرضاع في مدة الرضاع سواء من اشترط منهم الفطام أو لم يشترطه اختلفوا في هذه المدة فقال هذه بالمدة حولان فقط.
وبه قال زفر واستحسن مالك التحريم في الزيادة اليسيرة على العامين وفي قول الشهر عنه.
وفي قول عنه إلى ثلاثة أشهر وقال أبو حنيفة: حولان وستة شهور.
وسبب اختلافهم:
ما يظن من معارضة آية الرضاع لحديث عائشة المتقدم وذلك أن قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} يوهم أن ما زاد على هذين الحولين ليس هو رضاع مجاعة من اللبن وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الرضاعة من المجاعة " يقتضي عمومه أن ما دام الطفل غذاؤه اللبن أن ذلك الرضاع يحرم.
(المسألة الرابعة) وأما هل يحرم الوجور واللدود وبالجملة ما يصل إلى الحلق من غير رضاع فإن مالكا قال: يحرم الوجور واللدود وقال عطاء وداود: لا يحرم.
وسبب اختلافهم:
هل المعتبر وصول اللبن كيفما وصل إلى الجوف أو وصوله على الجهة المعتادة فمن راعى وصوله على الجهة المعتادة؟ وهو الذي ينطلق عليه اسم الرضاع قال: لا يحرم الوجور ولا اللدود ومن راعى وصول اللبن إلى الجوف كيفما وصل قال: يحرم.
(المسألة الخامسة) وأما هل من شرط اللبن المحرم إذا وصل إلى الحلق أن يكون غير مخالط لغيره فإنهم اختلفوا في ذلك أيضا فقال ابن القاسم إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره ثم سقيه الطفل لم تقع الحرمة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي وابن حبيب ومطرف وابن الماجشون من أصحاب مالك: تقع به الحرمة بمنزلة ما لو انفرد اللبن أو كان مختلطا لم تذهب عينه.
وسبب اختلافهم:
هل يبقى للبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره أم لا يبقى به حكمها كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر.
والأصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء هل يطهر إذا خالطه شيء طاهر؟
(المسألة السادسة) وأما هل يعتبر فيه الوصول إلى الحلق أو لا يعتبر فإنه يشبه أن يكون هذا هو سبب اختلافهم في السعوط باللبن والحقنة به.
ويشبه أن يكون اختلافهم في ذلك لموضع الشك هل يصل اللبن من هذه الأعضاء أو لا يصل؟
(المسألة السابعة) وأما هل يصير الرجل الذي له اللبن: أعني زوج المرأة أبا للمرضع حتى يحرم بينهما ومن قبلهما ما يحرم من الآباء والأبناء الذين من النسب وهي التي يسمونها لبن الفحل فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري: لبن الفحل يحرم وقالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل وبالأول قال علي وابن عباس وبالقول الثاني قالت عائشة وابن الزبير وابن عمر.
وسبب اختلافهم:
معارضة ظاهر الكتاب لحديث عائشة المشهور: أعني آية الرضاع وحديث عائشة هو قالت "جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن علي بعد أن أنزل الحجاب فأبيت أن آذن له وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه عمك فأذني له فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال: إنه عمك فليلج عليك " خرجه البخاري ومسلم ومالك.
فمن رأى أن ما في الحديث شرع زائد على ما في الكتاب وهو قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وعلى قوله صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة " قال: لبن الفحل محرم ومن رأى أن آية الرضاع وقوله " يحرم من الرضاع ما يحرم
من الولادة " إنما ورد على جهة التأصيل لحكم الرضاع إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة قال: ذلك الحديث إن عمل بمقتضاه أوجب أن يكون ناسخا لهذه الأصول لأن الزيادة المغيرة للحكم ناسخة مع أن عائشة لم يكن مذهبها التحريم بلبن الفحل وهي الرواية للحديث ويصعب رد الأصول المنتشرة التي يقصد بها التأصيل والبيان عند وقت الحاجة بالأحاديث النادرة وبخاصة التي تكون في عين ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس: لا نترك كتاب الله لحديث امرأة.
(المسألة الثامنة) وأما الشهادة على الرضاع فإن قوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين وقوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة أربع وبه قال الشافعي وعطاء وقوم قالوا: تقبل فيه شهادة امرأة واحدة.
والذين قالوا تقبل فيه شهادة امرأتين منهم من اشترط في ذلك فشو قولهما بذلك قبل الشهادة وهو مذهب مالك وابن القاسم ومنهم من لم يشترطه وهو قول مطرف وابن الماجشون. والذين أجازوا أيضا شهادة امرأة واحدة منهم من لم يشترط فشو قولها قبل الشهادة وهو مذهب أبي حنيفة ومنهم من اشترط ذلك وهي رواية عن مالك وقد روي عنه أنه لا تجوز فيه شهادة أقل من اثنتين.
والسبب في اختلافهم:
أما بين الأربع والاثنتين فاختلافهم في شهادة النساء هل عديل كل رجل هو امرأتان فيما ليس يمكن فيه شهادة الرجل أو يكفي في ذلك امرأتان وستأتي هذه المسألة في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
وأما اختلافهم في قبول شهادة المرأة الواحدة فمخالفة الأثر الوارد في ذلك للأصل المجمع عليه أعني أنه لا يقبل من الرجال أقل من اثنين وأن حال النساء في ذلك إما أن يكون أضعف من حال الرجال وإما أن تكون أحوالهم في ذلك مساوية للرجال والإجماع منعقد على أنه لا يقضى بشهادة واحدة.
والأمر الوارد في ذلك هو حديث عقبة بن الحارث قال " يا رسول الله إني تزوجت امرأة فأتت امرأة فقالت: قد أرضعتكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل دعها عنك " وحمل بعضهم هذا الحديث على الندب جمعا بينه وبين الأصول وهو أشبه وهي رواية عن مالك.
(المسألة التاسعة) وأما صفة المرضعة فإنهم اتفقوا على أنه يحرم لبن كل أمرأة
بالغ وغير البالغ واليائسة من المحيض كان لها زوج أو لم يكن حاملا كانت أو غير حامل وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الاسم واختلفوا من هذا الباب في لبن الميتة.
وسبب الخلاف:
هل يتناولها العموم أو لا يتناولها ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول.
الفصل الرابع في مانع الزنا
واختلفوا في زواج الزانية فأجاز هذا الجمهور ومنعها قوم.
وسبب اختلافهم:
اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في قوله { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } إلى الزنا أو إلى النكاح؟ وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذم لا على التحريم لما جاء في الحديث " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته إنها لا ترد يد لامس فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: طلقها فقال له: إني أحبها فقال له: فأمسكها " وقال قوم أيضا إن الزنا يفسخ النكاح بناء على هذا الأصل.
وبه قال الحسن وأما زواج الملاعنة من زوجها الملاعن فسنذكرها في كتاب اللعان.
الفصل الخامس في مانع العدد
واتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء معا وذلك للأحرار من الرجال.
واختلفوا في موضعين: في العبيد وفيما فوق الأربع.
أما العبيد فقال مالك في المشهور عنه: يجوز أن ينكح أربعا.
وبه قال أهل الظاهر.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز له الجمع إلا بين اثنتين فقط.
وسبب اختلافهم:
هل العبودية لها تأثير في إسقاط هذا العدد كما لها تأثير في إسقاط نصف الحد الواجب على الحر في الزنا وكذلك في الطلاق ثم عند من رأى ذلك.
وذاك أن
المسلمين اتفقوا على تنصيف حده في الزنا: أعني أن حده نصف حد الحر واختلفوا ذلك.
وأما ما فوق الأربع فإن الجمهور على أنه لا تجوز الخامسة لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: لغيلان لما أسلم وتحته عشرة نسوة " أمسك أربعا وفارق سائرهن " وقالت فرقة: يجوز تسع ويشبه أن يكون من أجاز التسع ذهب مذهب الجمع في الآية المذكورة أعني جمع الأعداد في قوله تعالى: { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ }.
الفصل السادس في مانع الجمع
واتفقوا على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح لقوله تعالى :{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} واختلفوا في الجمع بينهما بملك اليمين والفقهاء على منعه وذهبت طائفة إلى إباحة ذلك.
وسبب اختلافهم:
معارضة عموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} لعموم الاستثناء في آخر الآية وهو قوله تعالى :{ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وذلك أن هذا الاستثناء يحتمل أن يعود لأقرب مذكور ويحتمل أن يعود لجميع ما تضمنته الآية من التحريم إلا ما وقع الإجماع على أنه لا تأثير له فيه فيخرج من عموم قوله تعالى: { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ملك اليمين ويحتمل أن لا يعود إلا إلى أقرب مذكور فيبقى قوله { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } على عمومه ولا سيما إن عللنا ذلك بعلة الأخوة أو بسبب موجود فيهما.
واختلف الذين قالوا بالمنع في ملك اليمين إذا كانت إحداهما بنكاح والأخرى بملك يمين فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي وكذلك اتفقوا فيما أعلم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة وتواتره عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قال عليه الصلاة والسلام " لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " واتفقوا على أن العمة ههنا هي كل أنثى هي أخت لذكر له عليك ولادة إما بنفسه وإما بواسطة ذكر آخر وأن الخالة: هي كل أنثى هي أخت لكل أنثى لها عليك ولادة إما بنفسها وإما بتوسط أنثى غيرها وهن الحرات من قبل الأم واختلفوا هل هذا من باب
الخاص أريد به الخاص أم هو من باب الخاص أريد به العام؟ والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا أي عام هو المقصود به؟ فقال قوم وهم الأكثر وعليه الجمهور من فقهاء الأمصار: هو خاص أريد به الخصوص فقط وأن التحريم لا يتعدى إلى غير من نص عليه.
وقال قوم: هو خاص والمراد به العموم وهو الجمع بين كل امرأتين بينهما رحم محرمة أو غير محرمة فلا يجوز الجمع عند هؤلاء بين ابنتي عم أو عمة ولا بين ابنتي خال أو خالة ولا بين المرأة وبنت عمها أو بنت عمتها أو بينها وبين بنت خالتها وقال قوم: إنما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة محرمة, أعني لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى لم يجز لهما أن يتناكحا ومن هؤلاء من اشترط في هذا المعنى أن يعتبر هذا من الطرفين جميعا أعني إذا جعل كل واحد منهما ذكرا والآخر أنثى فلم يجز لهما أن يتناكحا فهؤلاء لا يحل الجمع بينهما وأما إن جعل في أحد الطرفين ذكر يحرم التزويج ولم يحرم من الطرف الآخر فإن الجمع يجوز كالحال في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها فإنه إن وضعنا البنت ذكرا لم يحل نكاح المرأة منه لأنها زوج أبيه وإن جعلنا المرأة ذكرا حل لها نكاح ابنة الزوج لأنها تكون ابنة الأجنبي وهذا القانون هو الذي اختاره أصحاب مالك وأولئك يمنعون الجمع بين زوج الرجل وابنته من غيرها.
الفصل السابع في موانع الرق
واتفقوا على أنه يجوز للعبد أن ينكح الأمة وللحرة أن تنكح العبد إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها.
واختلفوا في نكاح الحر الأمة فقال قوم: يجوز بإطلاق وهو المشهور من مذهب ابن القاسم وقال قوم: لا يجوز إلا بشرطين عدم الطول وخوف العنت وهو المشهور من مذهب مالك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
والسبب في اختلافهم:
معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى :{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ} ا لآية لعموم قوله: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} الآية وذلك أن مفهوم دليل الخطاب في قوله تعالى :{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } الآية يقتضي أنه
لا يحل نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما عدم الطول إلى الحرة والثاني خوف العنت.
وقوله تعالى: { وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} يقتضي بعمومه إنكاحهن من حر أو عبد واجدا كان الحر أو غير واجد خائفا للعنت أو غير خائف لكن دليل الخطاب أقوى ههنا والله أعلم من العموم لأن هذا العموم لم يتعرض فيه إلى صفات الزوج المشترطة في نكاح الإماء وإنما المقصود به الأمر بإنكاحهن وألا يجبرن على النكاح وهو أيضا محمول على الندب عند الجمهور مع ما في ذلك من إرهاق الرجل ولده.
واختلفوا من هذا الباب في فرعين مشهورين أعني الذين لم يجيزوا النكاح إلا بالشرطين المنصوص عليهما: أحدهما إذا كانت تحته حرة هل هي طول أو ليست بطول؟ فقال أبو حنيفة: هي طول وقال غيره: ليست بطول وعن مالك في ذلك القولان.
والمسألة الثانية هل يجوز لمن وجد فيه هذان الشرطان نكاح أكثر من أمة واحدة ثلاث أو أربع أو ثنتان؟ فمن قال إذا كانت تحته حرة فليس يخاف العنت عزب قال: إذا كانت تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ومن قال خوف العنت إنما يعتبر بإطلاق سواء كان عزبا أو متأهلا لأنه قد لا تكون الزوجة الأولى مانعة من العنت وهو لا يقدر على حرة تمنعه من العنت فله أن ينكح أمة لأن حاله مع هذه الحرة في خوف العنت كحالة قبلها وبخاصة إذا خشي العنت من الأمة التي يريد نكاحها.
وهذا بعينه السبب في اختلافهم هل ينكح أمة ثانية على الأمة الأولى أو لا ينكحها؟ وذلك أن من اعتبر خوف العنت مع كونه عزبا إذ كان الخوف على العزب أكثر قال: لا ينكح أكثر من أمة واحدة ومن اعتبره مطلقا قال: ينكح أكثر من أمة واحدة وكذلك يقول إنه ينكح على الحرة.
واعتباره مطلقا فيه نظر وإذا قلنا إن له أن يتزوج على الحرة أمة فتزوجها بغير إذنها فهل لها الخيار في البقاء معه أو في فسخ النكاح؟ اختلف في ذلك قول مالك واختلفوا إذا وجد طولا بحرة هل يفارق الأمة أم لا؟ ولم يختلفوا أنه إذا ارتفع عنه خوف العنت أنه لا يفارقها.
أعني أصحاب مالك واتفقوا من هذا الباب على أنه لا يجوز أن تنكح المرأة من ملكته وإنها إذا ملكت زوجها انفسخ النكاح.
الفصل الثامن في مانع الكفر
واتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } واختلفوا في نكاحها بالملك.
واتفقوا على أنه يجوز أن ينكح الكتابية الحرة إلا ما روي في ذلك عن ابن عمر.
واختلفوا في إحلال الكتابية الأمة بالنكاح واتفقوا على إحلالها بملك اليمين.
والسبب في اختلافهم:
في نكاح الوثنيات بملك اليمين معارضة عموم قوله تعالى: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وعموم قوله تعالى :{ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} لعموم قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهن المسبيات وظاهر هذا يقتضي العموم سواء كانت مشركة أو كتابية والجمهور على منعها.
وبالجواز قال طاوس ومجاهد ومن الحجة لهم ما روي من نكاح المسبيات في غزوة أوطاس إذ استأذنوه في العزل فأذن لهم.
وإنما صار الجمهور لجواز نكاح الكتابيات الأحرار بالعقد لأن الأصل بناء الخصوص على العموم: أعني أن قوله تعالى :{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} هو خصوص وقوله: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} هو عموم فاستثنى الجمهور الخصوص من العموم ومن ذهب إلى تحريم ذلك جعل العام ناسخا للخاص وهو مذهب بعض الفقهاء.
وإنما اختلفوا في إحلال الأمة الكتابية بالنكاح لمعارضة العموم في ذلك القياس وذلك أن قياسها على الحرة يقتضي إباحة تزويجها وباقي العموم إذا استثني منه الحرة يعارض ذلك لأنه يوجب تحريمها على قول من يرى أن العموم إذا خصص بقي الباقي على عمومه فمن خصص العموم الباقي بالقياس أو لم ير الباقي من العموم المخصوص عموما قال: يجوز نكاح الأمة الكتابية.
ومن رجح باقي العموم بعدم التخصيص على القياس قال: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية وهنا أيضا سبب آخر لاختلافهم وهو معارضة دليل الخطاب للقياس وذلك أن قوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات } يوجب أن لا يجوز نكاح الأمة الغير مؤمنة بدليل الخطاب وقياسها على الحرة يوجب ذلك والقياس من
كل جنس يجوز فيه النكاح بالتزويج ويجوز فيه النكاح بملك اليمين أصله المسلمات والطائفة الثانية أنه ثم لم يجز نكاح الأمة المسلمة بالتزويج إلا بشرط فأحرى أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية بالتزويج وإنما اتفقوا على إحلالها بملك اليمين لعموم قوله تعالى: { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ولإجماعهم على أن السبي يحل المسبية الغير متزوجة.
وإنما اختلفوا في المتزوجة هل يهدم السبي نكاحها وإن هدم فمتى يهدم؟ فقال قوم: إن سبيا معا أعني الزوج والزوجة لم يفسخ نكاحهما وإن سبي أحدهما قبل الآخر انفسخ النكاح وبه قال أبو حنيفة وقال قوم: بل السبي يهدم سبيا معا أو سبي أحدهما قبل الآخر وبه قال الشافعي وعن مالك قولان: أحدهما أن السبي لا يهدم النكاح أصلا.
والثاني أنه يهدم بإطلاق مثل قول الشافعي.
والسبب في اختلافهم:
هل يهدم أو لا يهدم هو تردد المسترقين الذين أمنوا من القتل بين نساء الذميين أهل العهد وبين الكافرة التي لا زوج لها أو المستأجرة من كافر وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يسبيا معا وبين أن يسبى أحدهما فلأن المؤثر عنده في الإحلال هو اختلاف الدار بهما لا الرق والمؤثر في الإحلال عند غيره هو الرق وإنما النظر هل هو الرق مع الزوجية أو مع عدم الزوجية؟ والأشبه أن لا يكون للزوجية ههنا حرمة لأن محل الرق وهو الكفر سبب الإحلال وأما تشبيهها بالذمية فبعيد لأن الذمي إنما أعطى الجزية بشرط أن يقر على دينه فضلا عن نكاحه.
الفصل التاسع في مانع الإحرام
واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد لا ينكح المحرم ولا ينكح فإن فعل فالنكاح باطل وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك.
وسبب اختلافهم:
تعارض النقل في هذا الباب فمنها حديث ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم " وهو حديث ثابت النقل خرجه أهل الصحيح وعارضه أحاديث كثيرة عن ميمونة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال " قال أبو عمر رويت عنها من طرق شتى من طريق أبي رافع ومن طريق سليمان بن يسار وهو مولاها وعن
يزيد بن الأصم.
وروى مالك أيضا من حديث عثمان بن عفان مع هذا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" فمن رجح هذه الأحاديث على حديث ابن عباس قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح ومن رجح حديث ابن عباس أو جمع بينه وبين حديث عثمان بن عفان بأن حمل النهي الوارد في ذلك على الكراهية قال ينكح وينكح وهذا راجع إلى تعارض الفعل والقول والوجه الجمع أو تغليب القول.
الفصل العاشر في مانع المرض
واختلفوا في نكاح المريض.
فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز وقال مالك في المشهو عنه: إنه لا يجوز ويتخرج ذلك من قوله إنه يفرق بينهما وإن صح, ويتخرج من قوله أيضا أنه لا يفرق بينهما أن التفريق مستحب غير واجب.
وسبب اختلافهم:
تردد النكاح بين البيع وبين الهبة وذلك أنه لا تجوز هبة المريض إلا من الثلث ويجوز بيعه ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو هل يتهم على إضرار الورثة بإدخال وارث زائد أو لا يتهم؟ وقياس النكاح على الهبة غير صحيح لأنهم اتفقوا على أن الهبة تجوز إذا حملها الثلث ولم يعتبروا بالنكاح هنا بالثلث ورد جواز النكاح بإدخال وارث قياس مصلحي لا يجوز عند أكثر الفقهاء وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة حتى إن قوما رأوا القول بهذا القول شرع زائد وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف وأنه لا تجوز الزيادة فيه كما لا يجوز النقصان والتوقف أيضا عن اعتبار المصالح تطرق للناس أن يتسرعوا لعدم السنن التي في ذلك الجنس إلى الظلم فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم ووجه عمل الفاضل العالم في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال فإن دلت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيرا لا يمنع النكاح وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع من ذلك كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشيء وضده
مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد مؤقت صناعي وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة.
الفصل الحادي عشر في مانع العدة
واتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة كانت عدة حيض أو عدة حمل أو عدة أشهر.
واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها فقال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: يفرق بينهما وإذا انقضت العدة بينهما فلا بأس في تزويجه إياها مرة ثانية.
وسبب اختلافهم:
على هل قول الصاحب حجة أم ليس بحجة؟ وذلك أن مالكا روى عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشدا الثقفي لما تزوجها في العدة من زوج ثان وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا قال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها.
وربما عضدوا هذا القياس بقياس شبه ضعيف مختلف في أصله وهو أنه أدخل في النسب شبهة فأشبه الملاعن.
وروي عن علي وابن مسعود مخالفة عمر في هذا.
والأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم على ذلك دليل من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة.
وفي بعض الروايات أن عمر كان قضى بتحريمها وكون المهر في بيت المال فلما بلغ ذلك عليا أنكره فرجع عن ذلك عمر وجعل الصداق على الزوج ولم يقض بتحريمها عليه رواه الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق.
وأما من قال بتحريمها بالعقد فهو ضعيف.
وأجمعوا على أنه لا توطأ حامل مسبية حتى تضع لتواتر الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا إن وطىء هل يعتق عليه الولد أو لا يعتق والجمهور على أنه لا يعتق.
وسبب اختلافهم:
هل ماؤه مؤثر في خلقته أو غير مؤثر؟ فإن قلنا أنه مؤثر كان له ابنا بجهة ما وإن قلنا أنه ليس بمؤثر لم يكن ذلك.
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
قال " كيف يستعبده وقد غذاه في سمعه وبصره ".
وأما النظر في مانع التطليق ثلاثا.
فسيأتي في كتاب الطلاق.
الفصل الثاني عشر في مانع الزوجية
وأما مانع الزوجية فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة وبين الذميين.
واختلفوا في المسبية على ما تقدم واختلفوا أيضا في الأمة إذا بيعت هل يكون بيعها طلاقا؟ فالجمهور على أنه ليس بطلاق.
وقال قوم: هو طلاق.
وهو مروي عن ابن عباس وجابر وابن مسعود وأبي بن كعب.
وسبب اختلافهم:
معارضة مفهوم حديث بريرة لعموم قوله تعالى :{ إلا ما ملكت أيمانكم} وذلك أن قوله تعالى:{ إلا ما ملكت أيمانكم} يقتضي المسبيات وغيرهن.
وتخيير بريرة يوجب أن لا يكون بيعها طلاقا.
لأنه لو كان بيعها طلاقا لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العتق.
ولكان نفس شراء عائشة لها طلاقا من زوجها.
والحجة للجمهور ما خرجه ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم وأصابوا نساء لهن أزواج وكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله عز وجل :{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذه المسألة هي أليق بكتاب الطلاق.
فهذه هي جملة الأشياء المصححة للأنكحة في الإسلام وهي كما قلنا راجعة إلى ثلاثة أجناس: صفة العاقد والمعقود عليها وصفة العقد وصفة الشروط في العقد.
وأما الأنكحة التي انعقدت قبل الإسلام ثم طرأ عليها الإسلام فإنهم اتفقوا على أن الإسلام إذا كان منهما معا: أعني من الزوج والزوجة وقد كان عقد النكاح على من يصح ابتداء العقد عليها في الإسلام أن الإسلام يصحح ذلك واختلفوا في موضعين: أحدهما إذا انعقد النكاح على أكثر من أربع أو على من لا يجوز الجمع بينهما في الإسلام.
والموضع الثاني إذا أسلم أحدهما قبل الآخر.
(فأما المسألة الأولى) وهي إذا أسلم الكافر وعنده أكثر من أربع نسوة أو أسلم وعنده أختان فإن مالكا قال: يختار منهن أربعا ومن الأختين واحدة أيتهما شاء وبه قال الشافعي وأحمد وداود وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: يختار الأوائل منهن في العقد فإن تزوجهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك: إذا أسلم وعنده أختان فارقهما جميعا ثم استأنف نكاح أيتهما شاء ولم يقل بذلك أحد من أصحاب مالك غيره.
وسبب اختلافهم:
معارضة القياس للأثر وذلك أنه ورد في ذلك أثران: أحدهما مرسل مالك " أن غيلان بن سلامة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة أسلمن معه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا" والحديث الثاني حديث قيس بن الحارث أنه أسلم على الأختين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختر أيتهما شئت ".
وأما القياس المخالف لهذا الأثر فتشبيه العقد على الأواخر قبل الإسلام بالعقد عليهن بعد الإسلام: أعني أنه كما أن العقد عليهن فاسد في الإسلام كذلك قبل الإسلام وفيه ضعف.
وأما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر.
وهي المسألة الثانية ثم أسلم الآخر فإنهم اختلفوا في ذلك.
فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: أنه إذا أسلمت المرأة قبله فإنه إن أسلم في عدتها كان أحق بها وإن أسلم هو وهي كتابية فنكاحها ثابت لما ورد في ذلك من حديث صفوان بن أمية وذلك " أن زوجه عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله ثم أسلم هو فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه " قالوا: وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها.
وأما إذا أسلم الزوج قبل إسلام المرأة فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك: إذا أسلم الزوج قبل المرأة وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فأبت وقال الشافعي: سواء أسلم الرجل قبل المرأة أو المرأة قبل الرجل إذا وقع إسلام المتأخر في العدة ثبت النكاح.
وسبب اختلافهم:
معارضة العموم للأثر والقياس وذلك أن عموم قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} يقتضي المفارقة على الفور.
وأما الأثر المعارض
لمقتضى هذا العموم فما روي من أن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته وكان إسلامه بمر الظهران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة فأخذت بلحيته وقالت:اقتلوا الشيخ الضال ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرا على نكاحهما.
وأما القياس المعارض للأثر فلأنه يظهر أنه لا فرق بين أن تسلم هي قبله أو هو قبلها فإن كانت العدة معتبرة في إسلامها قبل فقد يجب أن تعتبر في إسلامه أيضا قبل.
الباب الثالث في موجبات الخيار في النكاح
وموجبات الخيار أربعة: العيوب والإعسار بالصداق أو بالنفقة والكسوة.
والثالث: الفقد: أعني فقد الزوج.
والرابع: العتق للأمة المزوجة.
فينعقد في هذا الباب أربعة فصول:
الفصل الأول في خيار العيوب
اختلف العلماء في موجب الخيار بالعيوب لكل واحد من الزوجين وذلك في موضعين: أحدهما هل يرد بالعيوب أو لا يرد؟. والموضع الثاني إذا قلنا إنه يرد فمن أيها يرد وما حكم ذلك؟. فأما الموضع الأول فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: العيوب توجب الخيار في الرد أو الإمساك وقال أهل الظاهر: لا توجب خيار الرد والإمساك وهو قول عمر بن عبد العزيز.
وسبب اختلافهم:
شيئان: أحدهما هل قول الصاحب حجة والآخر قياس النكاح في ذلك على البيع؟ فأما قول الصاحب الوارد في ذلك فهو ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص وفي بعض الروايات: أو قرن فلها صداقها كاملا وذلك غرم لزوجها على وليها.
وأما القياس على البيع فإن القائلين بموجب الخيار للعيب في النكاح قالوا: النكاح في ذلك شبيه بالبيع وقال المخالفون لهم: ليس شبيها بالبيع لإجماع المسلمين على أنه لا يرد النكاح بكل عيب ويرد به البيع.
وأما الموضع الثاني في الرد بالعيوب فإنهم اختلفوا في أي العيوب يرد بها وفي أيها لا يرد وفي حكم الرد فاتفق مالك والشافعي على أن الرد يكون من أربعة عيوب: الجنون
والجذام والبرص وداء الفرج الذي يمنع الوطء إما قرن أو رتق في المرأة أو عنة في الرجل أو خصاء واختلف أصحاب مالك في أربع: في السواد والقرع وبخر الفرج وبخر الفم فقيل ترد بها وقيل لا ترد وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا ترد المرأة في النكاح إلا بعيبين: فقط القرن والرتق.
فأما أحكام الرد فإن القائلين بالرد اتفقوا على أن الزوج إذا علم بالعيب قبل الدخول طلق ولا شيء عليه.
واختلفوا إن علم بعد الدخول والمسيس فقال مالك: إن كان وليها الذي زوجها ممن يظن به لقربه منها أنه عالم بالعيب مثل الأب والأخ فهو غار يرجع عليه الزوج بالصداق وليس يرجع على المرأة بشيء وإن كان بعيدا رجع الزوج على المرأة بالصداق كله إلا ربع دينار فقط.
وقال الشافعي: إن دخل لزمه الصداق كله بالمسيس ولا رجوع له عليها ولا على ولي.
وسبب اختلافهم:
تردد تشبيه النكاح بالبيع أو بالنكاح الفاسد الذي وقع فيه المسيس أعني اتفاقهم على وجوب المهر في الأنكحة الفاسدة بنفس المسيس لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن سيدها فنكاحها باطل ولها المهر بما استحل منها ".
فكان موضع الخلاف تردد هذا الفسخ بين حكم الرد بالعيب في البيوع وبين حكم الأنكحة المفسوخة: أعني بعد الدخول واتفق الذين قالوا بفسخ نكاح العنين أنه لا يفسخ حتى يؤجل سنة يخلى بينه وبينها بغير عائق.
واختلف أصحاب مالك في العلة التي من أجلها قصر الرد على هذه العيوب الأربعة فقيل لأن ذلك شرع غير معلل وقيل لأن ذلك مما يخفى ومحمل سائر العيوب على أنها مما لا تخفى وقيل لأنها يخاف سرايتها إلى الأبناء وعلى هذا التعليل يرد بالسواد والقرع وعلى الأول يرد بكل عيب إذا علم أنه مما خفي على الزوج.
الفصل الثاني في خيار الإعسار بالصداق والنفقة
واختلفوا في الإعسار بالصداق فكان الشافعي يقول: تخير إذا لم يدخل بها وبه قال مالك.
واختلف أصحابه في قدر التلوم له فقيل ليس له في ذلك حد وقيل سنة وقيل سنتين وقال أبو حنيفة: هي غريم من الغرماء لا يفرق بينهما ويؤخذ بالنفقة ولها أن تمنع نفسها حتى يعطيها المهر.
وسبب
اختلافهم تغليب شبه النكاح في ذلك بالبيع أو تغليب الضرر اللاحق للمرأة في ذلك من عدم الوطء تشبيها بالإيلاء والعنة.
وأما الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وجماعة: يفرق بينهما وهو مروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وقال أبو حنيفة والثوري: لا يفرق بينهما وبه قال أهل الظاهر.
وسبب اختلافهم:
تشبيه الضرر الواقع من ذلك بالضرر الواقع من العنة لأن الجمهور على القول بالتطليق على العنين حتى لقد قال ابن المنذر إنه إجماع.
وربما قالوا النفقة في مقابلة الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور.
فإذا لم يجد النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار.
وأما من لا يرى القياس فإنهم قالوا قد ثبتت العصمة بالإجماع فلا تنحل إلا بإجماع أو بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه فسبب اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس.
الفصل الثالث في خيار الفقد
واختلفوا في المفقود الذي تجهل حياته أو موته في أرض الإسلام فقال مالك يضرب لامرأته أجل أربع سنين من يوم ترفع أمرها إلى الحاكم فإذا انتهى الكشف عن حياته أو موته فجهل ذلك ضرب لها الحاكم الأجل فإذا انتهى اعتدت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وحلت قال: وأما ماله فلا يورث حتى يأتي عليه من الزمان ما يعلم أن المفقود لا يعيش إلى مثله غالبا فقيل سبعون وقيل ثمانون وقيل تسعون وقيل مائة فيمن غاب وهو دون هذه الأسنان وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وهو مروي أيضا عن عثمان وبه قال الليث وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته وقولهم مروي عن علي وابن مسعود.
والسبب في اختلافهم:
معارضة استصحاب الحال للقياس وذلك أن استصحاب الحال يوجب أن لا تنحل عصمة إلا بموت أو طلاق حتى يدل الدليل على غير ذلك.
وأما القياس فهو تشبيه الضرر اللاحق لها من غيبته بالإيلاء والعنة فيكون لها الخيار كما يكون في هذين والمفقودون عند المحصلين من أصحاب مالك أربعة مفقود في أرض الإسلام وقع الخلاف فيه ومفقود في أرض الحرب
ومفقود في حروب الإسلام أعني فيما بينهم ومفقود في حروب الكفار والخلاف عن مالك وعن أصحابه في الثلاثة الأصناف من المفقودين كثير.
فأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه عندهم حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يصح موته ما خلا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في أرض المسلمين.
وأما المفقود في حروب المسلمين فقال: إن حكمه حكم المقتول دون تلوم وقيل يتلوم له بحسب بعد الموضع الذي كانت فيه المعركة وقربه وأقصى الأجل في ذلك سنة.
وأما المفقود في حروب الكفار ففيه في المذهب أربعة أقوال: قيل حكمه حكم الأسير وقيل حكمه حكم المقتول بعد تلوم سنة إلا أن يكون بموضع لا يخفى أمره فيحكم له بحكم المفقود في حروب المسلمين وفتنهم والقول الثالث أن حكمه حكم المفقود في بلاد المسلمين والرابع حكمه حكم المقتول في زوجته وحكم المفقود في أرض المسلمين في ماله أعني يعمر وحينئذ يورث وهذه الأقاويل كلها مبناها على تجويز النظر بحسب الأصلح في الشرع وهو الذي يعرف بالقياس المرسل وبين العلماء فيه اختلاف: أعني بين القائلين بالقياس.
الفصل الرابع في خيار العتق
واتفقوا على أن الأمة إذا عتقت تحت عبد أن لها الخيار واختلفوا إذا عتقت تحت الحر هل لها خيار أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة والأوزاعي وأحمد والليث لا خيار لها.
وقال أبو حنيفة والثوري لها الخيار حرا كان أو عبدا.
وسبب اختلافهم:
تعارض النقل في حديث بريرة واحتمال العلة الموجبة للخيار أن يكون الجبر الذي كان في إنكاحها بإطلاق إذا كانت أمة أو الجبر على تزويجها من عبد فمن قال: العلة الجبر على النكاح بإطلاق قال: تخير تحت الحر والعبد ومن قال الجبر على تزويج العبد فقط قال: تخير تحت العبد فقط.
وأما اختلاف النقل فإنه روي عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود.
وروي عن عائشة أن زوجها كان حرا.
وكلا النقلين ثابت عند أصحاب الحديث واختلفوا أيضا في الوقت الذي يكون لها الخيار فيه فقال مالك والشافعي: يكون لها الخيار ما لم يمسها وقال
أبو حنيفة: خيارها على المجلس وقال الأوزاعي: إنما يسقط خيارها بالمسيس إذا علمت أن المسيس يسقط خيارها.
الباب الرابع في حقوق الزوجية
واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة لقوله تعالى :{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية.
ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولقوله لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
فأما النفقة فاتفقوا على وجوبها.
واختلفوا في أربعة مواضع في وقت وجوبها ومقدارها ولمن تجب؟ وعلى من تجب؟ فأما وقت وجوبها فإن مالكا قال: لا تجب النفقة على الزوج حتى يدخل بها أو يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ وقال أبو حنيفة والشافعي: يلزم غيرالبالغ النفقة إذا كانت هي بالغا.
وأما إذا كان هو بالغا والزوجة صغيرة فللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك والقول الثاني أن لها النفقة بإطلاق.
وسبب اختلافهم:
هل النفقة لمكان الاستمتاع أو لمكان أنها محبوسة على الزوج كالغائب والمريض.
وأما مقدار النفقة فذهب مالك إلى أنها غير مقدرة بالشرع وأن ذلك راجع إلى ما يقتضيه حال الزوج وحال الزوجة وأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال وبه قال أبو حنيفة وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة فعلى الموسر مدان وعلى الأوسط مد ونصف وعلى المعسر مد.
وسبب اختلافهم:
تردد حمل النفقة في هذا الباب على الإطعام في الكفارة أو على الكسوة وذلك أنهم اتفقوا أن الكسوة غير محدودة وأن الإطعام محدود.
واختلفوا من هذا الباب في هل يجب على الزوج نفقة خادم الزوجة؟ وإن وجبت فكم يجب؟ والجمهور على أن على الزوج النفقة لخادم الزوجة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها وقيل بل على الزوجة خدمة البيت واختلف الذين أوجبوا النفقة على خادم الزوجة على كم تجب نفقته؟ فقالت طائفة: ينفق على خادم واحدة وقيل على خادمين إذا كانت المرأة ممن لا يخدمها إلا خادمان وبه قال مالك وأبو ثور.
ولست أعرف دليلا شرعيا لإيجاب النفقة على الخادم
إلا تشبيه الإخدام بالإسكان.
فإنهم اتفقوا على أن الإسكان على الزوج للنص الوارد في وجوبه للمطلقة الرجعية وأما لمن تجب النفقة فإنهم اتفقوا على أنها تجب للحرة الغير ناشز.
واختلفوا في الناشز والأمة.
فأما الناشز فالجمهور على أنها لا تجب لها نفقة وشذ قوم فقالوا تجب لها النفقة.
وسبب الخلاف:
معارضة العموم للمفهوم.
وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " يقتضي أن الناشز وغير الناشز في ذلك سواء والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز.
وأما الأمة فاختلف فيها أصحاب مالك اختلافا كثيرا فقيل لها النفقة كالحرة وهو المشهور وقيل لا نفقة لها وقيل أيضا إن كانت تأتيه فلها النفقة وإن كان يأتيها فلا نفقة لها وقيل لها النفقة في الوقت الذي تأتيه وقيل إن كان الزوج حرا فعليه النفقة وإن كان عبدا فلا نفقة عليه.
وسبب اختلافهم:
معارضة العموم للقياس وذلك أن العموم يقتضي لها وجوب النفقة والقياس يقتضي أن لا نفقة لها إلا على سيدها الذي يستخدمها وتكون النفقة بينهما لأن كل واحد منهما ينتفع بها ضربا من الانتفاع ولذلك قال قوم: عليه النفقة في اليوم الذي تأتيه.
وقال ابن حبيب: يحكم على مولى الأمة المزوجة أن تأتي زوجها في كل أربعة أيام.
وأما على من تجب فاتفقوا أيضا أنها تجب على الزوج الحر الحاضر واختلفوا في العبد والغائب.
فأما العبد فقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن على العبد نفقة زوجته.
وقال أبو المصعب من أصحاب مالك: لا نفقة عليه.
وسبب الخلاف:
معارضة العموم لكون العبد محجورا عليه في ماله.
وأما الغائب فالجمهور على وجوب النفقة عليه وقال أبو حنيفة لا تجب إلا بإيجاب السلطان.
وإنما اختلفوا فيمن القول قوله إذا اختلفوا في الاتفاق وسيأتي ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله.
وكذلك اتفقوا على أن من حقوق الزوجات العدل بينهن في القسم لما ثبت من قسمه صلى الله عليه وسلم بين أزواجه ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كان للرجل امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" ولما ثبت " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد السفر أقرع بينهن " واختلفوا في مقام
الزوج عندالبكر والثيب وهل يحتسب به أو لا يحتسب إذا كانت له زوجة أخرى؟ فقال مالك والشافعي وأصحابهما: يقيم عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا ولا يحتسب إذا كان له امرأة أخرى بأيام التي تزوج وقال أبو حنيفة: الإقامة عندهن سواء بكرا كانت أو ثيبا.
ويحتسب بالإقامة عندها إن كانت له زوجة أخرى.
وسبب اختلافهم:
معارضة حديث أنس لحديث أم سلمة وحديث أنس هو " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا " وحديث أم سلمة هو " أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها فأصبحت عنده فقال: ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت فقالت: ثلث " وحديث أم سلمة هو مدني متفق عليه خرجه مالك والبخاري ومسلم وحديث أنس حديث بصري خرجه أبو داود فصار أهل المدينة إلى ما خرجه أهل البصرة وصار أهل الكوفة إلى ما خرجه أهل المدينة.
واختلف أصحاب مالك في هل مقامه عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا واجب أو مستحب؟ فقال ابن القاسم: هو واجب وقال ابن عبد الحكم: يستحب.
وسبب الخلاف:
حمل فعله عليه الصلاة والسلام على الندب أو على الوجوب.
وأما حقوق الزوج على الزوجة بالرضاع وخدمة البيت على اختلاف بينهم في ذلك وذلك أن قوما أوجبوا عليها الرضاع على الإطلاق وقوم لم يوجبوا ذلك عليها بإطلاق وقوم أوجبوا ذلك على الدنيئة ولم يوجبوا ذلك على الشريفة إلا أن يكون الطفل لا يقبل إلا ثديها وهو مشهور قول مالك.
وسبب اختلافهم:
هل آية الرضاع متضمنة حكم الرضاع: أعني إيجابه أو متضمنة أمره فقط؟ فمن قال أمره قال: لا يجب عليها الرضاع إذ لا دليل هنا على الوجوب ومن قال تتضمن الأمر بالرضاع وإيجابه وأنها من الأخبار التي مفهومها مفهوم الأمر قال: يجب عليها الإرضاع.
وأما من فرق بين الدنيئة والشريفة فاعتبر في ذلك العرف والعادة.
وأما المطلقة فلا رضاع عليها إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فعليها الإرضاع وعلى الزوج أجر الرضاع هذا إجماع لقوله سبحانه وتعالى :{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} (والجمهور على أن الحضانة للأم إذا طلقها الزوج وكان الولد صغيرا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " ولأن الأمة والمسبية إذا لم يفرق بينها وبين ولدها فأخص بذلك الحرة.
واختلفوا إذا بلغ الولد حد التمييز فقال قوم يخير ومنهم الشافعي واحتجوا بأثر ورد في ذلك وبقي قوم على الأصل لأنه لم يصح عندهم هذا الحديث والجمهور على أن تزويجها لغير الأب يقطع الحضانة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنت أحق به ما لم تنكحي " ومن لم يصح عنده هذا الحديث طرد الأصل.
وأما نقل الحضانة من الأم إلى غير الأب فليس في ذلك شيء يعتمد عليه).
الباب الخامس
في الأنكحة المنهي عنها بالشرع والأنكحة الفاسدة وحكمها
والأنكحة التي ورد النهي فيها مصرحا أربعة: نكاح الشغار ونكاح المتعة والخطبة على خطبة أخيه ونكاح المحلل.
فأما نكاح الشغار فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلا آخر على أن ينكحه الآخر وليته ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى واتفقوا على أنه نكاح جائز لثبوت النهي عنه واختلفوا إذا وقع هل يصحح بمهر المثل أم لا؟ فقال مالك: لا يصحح ويفسخ أبدا قبل الدخول وبعده وبه قال الشافعي إلا أنه قال: إن سمى لإحداهما صداقا أو لهما معا فالنكاح ثابت بمهر المثل والمهر الذي سمياه فاسد وقال أبو حنيفة: نكاح الشغار يصح بفرض صداق المثل وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري.
وسبب اختلافهم:
هل النهي المعلق بذلك معلل بعدم العوض معلل أو غير معلل فإن قلنا غير معلل لزم الفسخ على الإطلاق وإن قلنا العلة عدم الصداق صح بفرض صداق المثل مثل العقد على خمر أو على خنزير وقد أجمعوا على أن النكاح المنعقد على الخمر
والخنزير لا يفسخ إذا فات بالدخول.
ويكون فيه مهر المثل وكأن مالكا رضي الله عنه رأى أن الصداق وإن لم يكن من شرط صحة العقد ففساد العقد ههنا من قبل فساد الصداق مخصوص لتعلق النهي به أو رأى أن النهي إنما يتعلق بنفس تعيين العقد والنهي يدل على فساد المنهي.
وأما نكاح المتعة فإنه وإن تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم ففي بعض الروايات أنه حرمها يوم خيبر وفي بعضها يوم الفتح وفي بعضها في غزوة تبوك وفي بعضها في حجة الوداع وفي بعضها في عمرة القضاء وفي بعضها في عام أوطاس وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها واشتهر عن ابن عباس تحليلها وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك لقوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وفي حرف عنه إلى أجل مسمى.
وروي عنه أنه قال:ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عز وجل رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي.
وهذا الذي روي عن ابن عباس رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار.
وعن عطاء قال: "سمعت جابر بن عبد الله يقول: "تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر" ثم نهى عنها عمر الناس.
وأما اختلافهم في النكاح الذي تقع فيه الخطبة على خطبة غيره فقد تقدم أن فيه ثلاثة أقوال: قول بالفسخ وقول بعدم الفسخ.
وفرق بين أن ترد الخطبة على خطبة الغير بعد الركون والقرب من التمام أو لا ترد وهو مذهب مالك.
وأما نكاح المحلل أعني الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثا فإن مالكا قال: هو نكاح مفسوخ وقال أبو حنيفة والشافعي: هو نكاح صحيح.
وسبب اختلافهم:
اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله المحلل " الحديث.
فمن فهم من اللعن التأثيم فقط قال: النكاح صحيح ومن فهم من التأثيم فساد العقد تشبيها بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه قال: النكاح
فاسد, فهذه هي الأنكحة الفاسدة بالنهي.
وأما الأنكحة الفاسدة بمفهوم الشرع فإنها تفسد إما بإسقاط شرط من شروط صحة النكاح.
أو لتغيير حكم واجب بالشرع من أحكامه مما هو عن الله عز وجل وإما بزيادة تعود إلى إبطال شرط من شروط الصحة.
وأما الزيادات التي تعرض من هذا المعنى فإنها لا تفسد النكاح باتفاق وإنما اختلف العلماء في لزوم الشروط التي بهذه الصفة أو لا لزومها مثل أن يشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من بلدها فقال مالك: إن اشترط ذلك لم تلزمه إلا أن يكون في ذلك يمين بعتق أو طلاق فإن ذلك يلزمه إلا أن يطلق أو يعتق من أقسم عليه فلا يلزم الشرط الأول أيضا وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة.
وقال الأوزاعي وابن شبرمة: لها شرطها وعليه الوفاء وقال ابن شهاب: كان من أدركت من العلماء يقضون بها وقول الجماعة مروي عن علي وقول الأوزاعي مروي عن عمر.
وسبب اختلافهم:
معارضة العموم للخصوص.
فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط " وأما الخصوص فحديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج " والحديثان صحيحان خرجهما البخاري ومسلم إلا أن المشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم وهو لزوم الشروط وهو ظاهر ما وقع في العتبية وإن كان المشهور خلاف ذلك.
وأما الشروط المقيدة بوضع من الصداق فإنه قد اختلف فيها المذهب اختلافا كثيرا: أعني في لزومها أو عدم لزومها وليس كتابنا هذا موضوعا على الفروع.
(وأما حكم الأنكحة الفاسدة إذا وقعت) فمنها ما اتفقوا على فسخه قبل الدخول وبعده.
وهو ما كان منها فاسدا بإسقاط شرط متفق على وجوب صحة النكاح بوجوده مثل أن ينكح محرمة العين ومنها ما اختلفوا فيه بحسب اختلافهم في ضعف علة الفساد وقوتهما ولماذا يرجع من الإخلال بشروط الصحة ومالك في هذا الجنس وذلك في الأكثر يفسخه قبل الدخول ويثبته بعده والأصل فيه عنده أن لا فسخ ولكنه يحتاط بمنزلة ما يرى في كثير من
البيع الفاسد أنه يفوت بحوالة الأسواق وغير ذلك ويشبه أن تكون هذه عنده هي الأنكحة المكروهة وإلا فلا وجه للفرق بين الدخول وعدم الدخول والاضطراب في المذهب في هذا الباب كثير وكأن هذا راجع عنده إلى قوة دليل الفسخ وضعفه فمتى كان الدليل عنده قويا فسخ قبله وبعده ومتى كان ضعيفا فسخ قبل ولم يفسخ بعد وسواء كان الدليل القوي متفقا عليه أو مختلفا فيه.
ومن قبل هذا أيضا اختلف المذهب في وقوع الميراث في الأنكحة الفاسدة إذا وقع الموت قبل الفسخ وكذلك وقوع الطلاق فيه فمرة اعتبر فيه الاختلاف والاتفاق ومرة اعتبر فيه الفسخ بعد الدخول أو عدمه وقد نرى أن نقطع ههنا القول في هذا الكتاب فإن ما ذكرنا منه كفاية بحسب غرضنا المقصود.
كتاب الطلاق
والكلام في هذا الباب ينحصر في أربع جمل: الجملة الأولى: في أنواع الطلاق.الجملة الثانية: في أركان الطلاق.
الجملة الثالثة: في الرجعة.
الجملة الرابعة: في أحكام المطلقات.
(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة خمسة: أبواب الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي.
الباب الثاني: في معرفة الطلاق السني من البدعي.
الباب الثالث: في الخلع.
الباب الرابع: في تمييز الطلاق من الفسخ.
الباب الخامس: في التخيير والتمليك.
الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي
واتفقوا على أن الطلاق نوعان: بائن ورجعي.
وأن الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج رجعتها من غير اختيارها وأن من شرطه أن يكون في مدخول بها وإنما اتفقوا على هذا لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} إلى قوله تعالى :{ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وللحديث الثابت أيضا من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجع زوجته لما طلقها حائضا.
ولا خلاف في هذا.
وأما الطلاق البائن فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول ومن قبل عدد التطليقات ومن قبل العوض في الخلع على اختلاف بينهم هل الخلع طلاق أو فسخ على ما سيأتي بعد.
واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات إذا وقعت مفترقات لقوله تعالى: الطلاق مرتان الآية.
واختلفوا إذا وقعت ثلاثا في اللفظ دون الفعل وكذلك اتفق الجمهور على أن الرق مؤثر في إسقاط أعداد الطلاق وأن الذي يوجب البينونة في الرق اثنتان.
واختلفوا هل هذا معتبر برق الزوج أو برق الزوجة أم برق من رق منهما ففي هذا الباب إذن ثلاث مسائل
(المسألة الأولى) جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى: { الطلاق مرتان } إلى قوله في الثالثة : {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة لا مطلق ثلاث واحتجوا أيضا بما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر واحتجوا أيضا بما رواه ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال " طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها" وقد احتج من انتصر لقول الجمهور بأن حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين إنما رواه عنه من أصحابه طاوس وأن جلة أصحابه رووا عنه لزوم الثلاث منهم سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة غيرهم وأن حديث ابن إسحاق وهم وإنما روى الثقات أنه طلق ركانة زوجه البتة لا ثلاثا.
وسبب الخلاف:
هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال: لا يلزم ومن شبهه بالنذور
والأيمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذاك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى :{ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }.
(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اعتبار نقص عدد الطلاق البائن بالرق فمنهم من قال المعتبر فيه الرجال فإذا كان الزوج عبدا كان طلاقه البائن الطلقة الثانية سواء كانت الزوجة حرة أو أمة وبهذا قال مالك والشافعي ومن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وإن كان اختلف عنده في ذلك لكن الأشهر عنه هو هذا القول.
ومنهم من قال إن الاعتبار في ذلك هو بالنساء فإذا كانت الزوجة أمة كان طلاقها البائن الطلقة الثانية سواء كان الزوج عبدا أو حرا.
وممن قال بهذا القول من الصحابة علي وابن مسعود ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة وغيره.
وفي المسألة قول أشذ من هذين وهو أن الطلاق يعتبر برق من رق منهما قال ذلك عثمان البتي وغيره وروي عن ابن عمر.
وسبب هذا الاختلاف:
هل المؤثر في هذا هو رق المرأة أو رق الرجل فمن قال التأثير في هذا لمن بيده الطلاق قال: يعتبر بالرجال ومن قال التأثير في هذا للذي يقع عليه الطلاق قال: هو حكم من أحكام المطلقة فشبهوها بالعدة.
وقد أجمعوا على أن العدة بالنساء: أي نقصانها تابع لرق النساء.
واحتج الفريق الأول بما روي عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء " إلا أنه حديث لم يثبت في الصحاح.
وأما من اعتبر من رق منهما فإنه جعل سبب ذلك هو الرق مطلقا ولم يجعل سبب ذلك لا الذكورية ولا الأنوثية مع الرق.
(المسألة الثالثة) وأما كون الرق مؤثرا في نقصان عدد الطلاق فإنه حكى قوم أنه إجماع وأبو محمد بن حزم وجماعة من أهل الظاهر مخالفون فيه ويرون أن الحر والعبد في هذا سواء.
وسبب الخلاف:
معارضة الظاهر في هذا للقياس وذلك أن الجمهور صاروا إلى هذا المكان قياس طلاق العبد والأمة على حدودهما وقد أجمعوا على كون الرق مؤثرا في نقصان الحد.
أما أهل الظاهر فلما كان الأصل عندهم أن حكم العبد في التكاليف حكم الحر إلا
ما أخرجه الدليل والدليل عندهم هو نص أو ظاهر من الكتاب أو السنة ولم يكن هناك دليل مسموع صحيح وجب أن يبقى العبد على أصله ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد لأن المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر.
وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ لأن وقوع التحريم على الإنسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بيد الزوجة لعنتت المرأة وشقيت ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم وكان ذلك عسرا عليه فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين ولذلك ما نرى والله أعلم أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة.
الباب الثاني في معرفة الطلاق السني من البدعي
أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
واختلفوا من هذا الباب في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: هل من شرطه أن لا يتبعها طلاقا في العدة؟. والثاني: هل المطلق ثلاثا: أعني بلفظ الثلاث مطلق للسنة أم لا؟ والثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض.
(أما الموضع الأول) فإنه اختلف فيه مالك وأبو حنيفة ومن تبعهما فقال مالك: من شرطها أن لا يتبعها في العدة طلاقا آخر.
وقال أبو حنيفة: إن طلقها عند كل طهر طلقة واحدة كان مطلقا للسنة.
وسبب هذا الاختلاف:
هل من شرط هذا الطلاق أن يكون في حال الزوجية بعد رجعة أم ليس من
شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتبعها فيه طلاقا ومن قال ليس من شرطه أتبعها الطلاق ولا خلاف بينهم في وقوع الطلاق المتبع.
(وأما الموضع الثاني) فإن مالكا ذهب إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة.
وسبب الخلاف:
معارضة إقراره عليه الصلاة والسلام للمطلق بين يديه ثلاثا في لفظة واحدة لمفهوم الكتاب في حكم الطلقة الثالثة.
والحديث الذي احتج به الشافعي هو ما ثبت من أن العجلاني طلق زوجته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الملاعنة قال: فلو كان بدعة لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما مالك فلما رأى أن المطلق بلفظ الثلاث رافع للرخصة التي جعلها الله في العدد قال فيه إنه ليس للسنة.
واعتذر أصحابه عن الحديث بأن المتلاعنين عنده قد وقعت الفرقة بينهما من قبل التلاعن نفسه فوقع الطلاق على غير محله فلم يتصف لا بسنة ولا ببدعة وقول مالك والله أعلم أظهر ههنا من قول الشافعي.
(وأما الموضع الثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض) فإن الناس اختلفوا من ذلك في مواضع: منها أن الجمهور قالوا يمضي طلاقه وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع والذين قالوا ينفذ قالوا: يؤمر بالرجعة وهؤلاء افترقوا فرقتين فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر على ذلك وبه قال مالك وأصحابه.
وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره يجبر ما لم تنقض عدتها وقال أشهب: لا يجبر إلا في الحيضة الأولى.
والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها وبه قال مالك والشافعي وجماعة وقوم قالوا: بل يراجعها فإن طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها فإن شاء أمسك وإن شاء طلق وبه قال أبو حنيفة والكوفيون وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه فهنا إذن أربع مسائل:
أحدها: هل يقع هذا الطلاق أم لا؟ والثانية: إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط؟ والثالثة: متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب.
والرابعة: متى يقع الإجبار.
(أما المسألة الأولى) فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به وكان طلاقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " مره فليراجعها " قالوا: والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم وروى أنه الذي كان يفتي به ابن عمر.
وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله صلى الله عليه وسلم " كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وقالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه.
وبالجملة فسبب الاختلاف هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء.
أم شروط كمال وتمام؟ فمن قال شروط إجزاء قال: لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة ومن قال: شروط كمال وتمام قال: يقع ويندب إلى أن يقع كاملا ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض فتدبر ذلك.
(وأما المسألة الثانية) وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر؟ فمن اعتمد ظاهر الأمر وهو الوجوب على ما هو عليه عند الجمهور قال: يجبر ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال: هذا الأمر هو على الندب.
(وأما المسألة الثالثة) وهي متى يوقع الطلاق بعد الإجبار فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم قالوا: والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول.
وبالجملة فقالوا إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله
وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عبد الوهاب ، وأما الذين لم يشترطوا ذلك ، فإنهم صاروا إلى ماروى يونس ابن جبير وسعيد ابن جبير وابن سيرين ومن تابعهمعن ابن عمر في هذا الحديث أنّه قال: يراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء، وقالوا : المعنى في ذلك أنّه إنما أمر بالرجوع عقوبة له لأنه طلقه في زمان كره له فيه الطلاق ، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه، فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذه المسألة وتعارض مفهوم العلة.
(وأما المسألة الرابعة) وهي متى يجبر فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها.
وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث لأن فيه " مره فليراجعها حتى تطهر " فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة وأيضا فإنه قال: إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع فإن قلنا إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة.
فسبب الاختلاف هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد.
الباب الثالث في الخلع
واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تؤول إلى معنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طلاقها إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها والصلح ببعضه والفدية بأكثره والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه على ما زعم الفقهاء.
والكلام ينحصر في أصول هذا النوع من الفراق في أربعة فصول: في جواز وقوعه أولا ثم ثانيا في شروط وقوعه: أعني جواز وقوعه ثم ثالثا في نوعه: أعني هل هو طلاق أو فسخ؟ ثم رابعا فيما يلحقه من الأحكام.
الفصل الأول في جواز وقوعه
فأما جواز وقوعه فعليه أكثر العلماء.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى :{ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه}ِ.
وأما السنة
فحديث ابن عباس " أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اقبل الحديقة وطلقها طلقة واحدة " خرجه بهذا اللفظ البخاري وأبو داود والنسائي وهو حديث متفق على صحته وشذ أبو بكر ابن عبد الله المزيني عن الجمهور فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئا واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} منسوخ بقوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} الآية.
والجمهور على أن معنى ذلك بغير رضاها وأما برضاها فجائز.
فسبب الخلاف حمل هذا اللفظ على عمومه أو على خصوصه.
الفصل الثاني في شروط وقوعه
فأما شروط جوازه فمنها ما يرجع إلى القدر الذي يجوز فيه ومنها ما يرجع إلى صفة الشيء الذي يجوز به ومنها ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها ومنها ما يرجع إلى صفة من يجوز له الخلع من النساء أو من أوليائهن ممن لا تملك أمرها ففي هذا الفصل أربع مسائل:
(المسألة الأولى) أما مقدار ما يجوز لها أن تختلع به فإن مالكا والشافعي وجماعة قالوا: جائز أن تختلع المرأة بأكثر مما يصير لها من الزوج في صداقها إذا كان النشوز من قبلها وبمثله وبأقل منه.
وقال قائلون: ليس له أن يأخذ أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت.
فمن شبهه بسائر الأعواض في المعاملات رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك.
وكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق.
(المسألة الثانية) وأما صفة العوض فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب.
ومالك يجيز فيه المجهول الوجود
والقدر والمعدوم مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد غير الموصوف.
وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم.
وسبب الخلاف:
تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع أو الأشياء الموهوبة والموصى بها.
فمن شبهها بالبيوع اشترط فيه ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع.
ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك.
واختلفوا إذا وقع الخلع بما لا يحل كالخمر والخنزير هل يجب لها عوض أم لا بعد اتفاقهم على أن الطلاق يقع؟ فقال مالك: لا تستحق عوضا.
وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: يجب لها مهر المثل.
(المسألة الثالثة) وأما ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها الخلع من التي لا يجوز فإن الجمهور على أن الخلع جائز مع التراضي إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وشذ أبو قلابة والحسن البصري فقالا: لا يحل للرجل الخلع عليها حتى يشاهدها تزني وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا وقال داود: لا يجوز إلا بشرط الخوف أن لا يقيما حدود الله على ظاهر الآية وشذ النعمان فقال: يجوز الخلع مع الإضرار والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل فيتحصل في الخلع خمسة أقوال: قول إنه لا يجوز أصلا.
وقول إنه يجوز على كل حال: أي مع الضرر.
وقول إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا.
وقول مع خوف أن لا يقيما حدود الله.
وقول إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر وهو المشهور.
(المسألة الرابعة) وأما من يجوز له الخلع ممن لا يجوز فإنه لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها وأن الأمة لا تخالع عن نفسها إلا برضا سيدها وكذلك السفيهة مع وليها عند من يرى الحجر وقال مالك: يخالع
الأب على ابنته الصغيرة كما ينكحها وكذلك على ابنه الصغير لأنه عنده يطلق عليه والخلاف في الابن الصغير قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز لأنه لا يطلق عليه عندهم والله أعلم.
وخلع المريضة يجوز عند مالك إذا كان بقدر ميراثه منها وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز خلعها بالثلث كله وقال الشافعي: لو اختلعت بقدر مهر مثلها جاز وكان من رأس المال وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث.
وأما المهملة التي لا وصي لها ولا أب فقال ابن القاسم: يجوز خلعها إذا كان خلع مثلها والجمهور على أنه يجوز خلع المالكة لنفسها وشذ الحسن وابن سيرين فقالا: لا يجوز الخلع إلا بإذن السلطان.
الفصل الثالث في نوعه
وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق وبه قال مالك وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ وقال الشافعي: هو فسخ وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس.
وقد روي عن الشافعي أنه كناية فإن أراد به الطلاق كان طلاقا وإلا كان فسخا وقد قيل عنه في قوله الجديد إنه طلاق.
وفائدة الفرق هل يعتد به في التطليقات أم لا؟ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى وقال أبو ثور: إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة.
احتج من جعله طلاقا بأن الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق مما ليس يرجع إلى اختياره وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ واحتج من لم يره طلاقا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال :{ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم ذكر الافتداء ثم قال :{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع وعند هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي قياسا على فسوخ البيع: أعني الإقالة وعند المخالف أن الآية إنما تضمنت حكم الافتداء على أنه شيء يلحق جميع أنواع
الطلاق لا أنه شيء غير الطلاق.
فسبب الخلاف هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع فرقة الفسخ أم ليس يخرجها؟
الفصل الرابع فيما يلحقه من الأحكام
وأما لواحقه ففروع كثيرة لكن نذكر منها ما شهر: فمنها هل يرتدف على المختلعة طلاق أم لا؟ فقال مالك: لا يرتدف إلا إن كان الكلام متصلا وقال الشافعي: لا يرتدف وإن كان الكلام متصلا وقال أبو حنيفة: يرتدف ولم يفرق بين الفور والتراخي.
وسبب الخلاف:
أن العدة عند الفريق الأول من أحكام الطلاق وعند أبي حنيفة من أحكام النكاح ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها.
فمن رآها من أحكام النكاح ارتدف الطلاق عنده ومن لم ير ذلك لم يرتدف ومنها أن جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة.
إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها.
والفرق الذي ذكرناه عن أبي ثور بين أن يكون بلفظ الطلاق أو لا يكون.
ومنها أن الجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها وقالت فرقة من المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة.
وسبب اختلافهم:
هل المنع من النكاح في العدة عبادة أو ليس بعبادة بل معلل؟ واختلفوا في عدة المختلعة وسيأتي بعد.
واختلفوا إذا اختلف الزوج والزوجة في مقدار العدد الذي وقع به الخلع فقال مالك: القول قوله إن لم يكن هنالك بينة.
وقال الشافعي: يتحالفان ويكون عليها مهر المثل شبه الشافعي اختلافها باختلاف المتبايعين وقال مالك:هي مدعى عليها وهو مدع.
ومسائل هذا الباب كثيرة وليس مما يليق بقصدنا.
الباب الرابع في تمييز الطلاق من الفسخ
واختلف قول مالك رحمه الله في الفرق بين الفسخ الذي لا يعتد به في التطليقات الثلاث وبين الطلاق الذي يعتد به في الثلاث إلى قولين: أحدهما أن النكاح إن كان فيه خلاف خارج عن مذهبه: أعني في جوازه.
وكان الخلاف مشهورا
فالفرقة عنده فيه لكلامه مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها والمحرم فهذه على هذه الرواية هي طلاق لا فسخ.
والقول الثاني أن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب للتفرق.
فإن كا غير راجع إلى الزوجين مما لو أراد الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح العدة وإن كان مما لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا.
الباب الخامس في التخيير والتمليك
ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة: التمليك والتخيير والتمليك عن مالك في المشهورغير التخيير وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق فهو يحتمل الواحدة فما فوقها ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة والخيار بخلاف ذلك لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة إلا أن يكون تخييرا مقيدا مثل أن يقول لها اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين.
ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث.
وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الأمر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس.
والرواية الثانية أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق.
والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها أن في التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق وليس له ذلك في التمليك.
وقال الشافعي: اختاري وأمرك بيدك سواء ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاث فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه وفي العدد في الخيار أو التمليك وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية وكذلك هي عند مالك في التمليك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخيار ليس بطلاق فإن طلقت نفسها في التمليك.
واحدة فهي بائنة وقال الثوري: الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما وقد قيل القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك وليس للزوج مناكرتها وهذا القول مروي عن علي وابن المسيب وبه قال الزهري وعطاء وقد قيل إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة
وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما روي أنه جاء ابن مسعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك قالت: فأنت طالق ثلاثا قال: أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها وسألقى أمير المؤمنين عمر ثم لقيه فقص عليه القصة فقال: صنع الله بالرجال وفعل: يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال: وأنا أرى ذلك ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب.
وقد قيل ليس التمليك بشيء لأن ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل.
وكذلك التخيير وهو قول أبي محمد بن حزم وقول مالك في المملكة إن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة فقهاء الأمصار وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة.
ولو أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو التخيير وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قالت عائشة خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يكن طلاقا لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق.
وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم لأن من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره.
وأما مالك فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه لأن المفهوم منه إنما كان البينونة.
وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها.
وأما الشافعي فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية.
فسبب الخلاف هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية.
وكذلك فعل في التخيير وإنما اتفقوا على
أن له مناكرتها في العدد: أعني في لفظ التمليك لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره.
وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية لأن الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة.
وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك.
وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك فلأن معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق.
وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم واحتياطا للرجال لأن العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم.
وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاثة مواضع: أحدها أنه لا يقع بواحد منهما طلاق.
والثاني أنه تقع بينهما فرقة.
والثالث الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة أعني أن تملك بالتخيير البينونة وبالتمليك ما دون البينونة وإذا قلنا بالبينونة فقيل تملك واحدة وقيل تملك الثلاث وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل رجعية وقيل بائنة.
وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة في الطلا ق أو كناية أو محتملة وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق.
(الجملة الثانية) وفي هذه الجملة ثلاثة أبواب: الباب الأول: في ألفاظ الطلاق وشروطه.
الباب الثاني: في تفصيل من يجوز طلاقه ممن لا يجوز.
الباب الثالث في تفصيل من يقع عليها الطلاق من النساء ممن لا يقع.
الباب الأول في ألفاظ الطلاق وشروطه
وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة.
الفصل الثاني: في أنواع ألفاظ الطلاق المقيدة.
الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة
أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية وبلفظ صريح.
واختلفوا هل يقع بالنية مع اللفظ الذي ليس بصريح أو بالنية دون اللفظ أو باللفظ دون النية فمن اشترط فيه النية واللفظ الصريح فاتباعا لظاهر الشرع وكذلك من أقام الظاهر مقام الصريح ومن شبهه بالعقد في النذر وفي اليمين أوقعه بالنية فقط ومن أعمل التهمة أوقعه باللفظ فقط.
واتفق الجمهور على أن ألفاظ الطلاق المطلقة صنفان: صريح وكناية.
واختلفوا في تفصيل الصريح من الكناية وفي أحكامها وما يلزم فيها ونحن إنما قصدنا من ذلك ذكر المشهور وما يجري مجرى الأصول فقال مالك وأصحابه: الصريح هو لفظ الطلاق فقط وما عدا ذلك كناية وهي عنده على ضربين ظاهرة ومحتملة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاث: الطلاق والفراق والسراح وهي المذكورة في القرآن وقال بعض أهل الظاهر: لا يقع طلاق إلا بهذه الثلاث.
فهذا هو اختلافهم في صريح الطلاق من غير صريحه.
وإنما اتفقوا على أن لفظ الطلاق صريح لأن دلالته على هذا المعنى الشرعي دلالة وضعية بالشرع فصار أصلا في هذا الباب.
وأما ألفاظ الفراق والسراح فهي مترددة بين أن يكون للشرع فيها تصرف: أعني أن تدل بعرف الشرع على المعنى الذي يدل عليه الطلاق أو هي باقية على دلالتها اللغوية فإذا استعملت في هذا المعنى: أعني في معنى الطلاق كانت مجازا إذ هذا هو معنى الكناية: أعني اللفظ الذي يكون مجازا في دلالته وإنما ذهب من ذهب إلى أنه لا يقع الطلاق إلا بهذه الألفاظ الثلاث لأن الشرع إنما ورد بهذه الألفاظ الثلاثة وهي عبادة ومن شرطها اللفظ فوجب أن يقتصر بها على اللفظ الشرعي الوارد فيها.
فأما اختلافهم في أحكام صريح ألفاظ الطلاق ففيه مسألتان
مشهورتان: إحداهما اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة عليها.
والثانية اختلفوا فيها.
فأما التي اتفقوا عليها فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة قالوا: لا يقبل قول المطلق إذا نطق بألفاظ الطلاق أنه لم يرد به طلاقا إذا قال لزوجته أنت طالق.
وكذلك السراح والفراق عند الشافعي.
واستثنت المالكية بأن قالت: إلا أن تقترن بالحالة أو المرأة قرينة تدل على صدق دعواه مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هي فيه وشبهه فيقول لها أنت طالق.
وفقه المسألة عند الشافعي وأبي حنيفة أن الطلاق لا يحتاج عندهم إلى نية وأما مالك فالمشهور عنه أن الطلاق عنده يحتاج إلى نية لكن لم ينوه ههنا لموضع التهم ومن رأيه الحكم بالتهم سدا للذرائع وذلك مما خالفه فيه الشافعي وأبو حنفية.
فيجب على رأي من يشترط النية في ألفاظ الطلاق ولا يحكم بالتهم أن يصدقه فيما ادعى.
(وأما المسألة الثانية) فهي اختلفوا فيمن قال لزوجته أنت طالق وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة إما ثنتين وإما ثلاثا فقال مالك هو ما نوى وقد لزمه وبه قال الشافعي إلا أن يقيد فيقول طلقة واحدة وهذا القول هو المختار عند أصحابه وأما أبو حنيفة فقال: لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق لأن العدد لا يتضمنه لفظ الإفراد لا كناية ولا تصريحا.
وسبب اختلافهم:
هل يقع الطلاق بالنية دون اللفظ أو بالنية مع اللفظ المحتمل؟ فمن قال بالنية أوجب الثلاث وكذلك من قال بالنية واللفظ المحتمل ورأى أن لفظ الطلاق يحتمل العدد ومن رأى أنه لا يحتمل العدد وأنه لا بد من اشتراط اللفظ في الطلاق مع النية قال: لا يجب العدد وإن نواه وهذه المسألة اختلفوا فيها وهي من مسائل شروط ألفاظ الطلاق: أعني اشتراط النية مع اللفظ أو بانفراد أحدهما فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية وبه قال أبو حنيفة وقد روي عنه أنه يقع باللفظ دون النية وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية فمن اكتفى بالنية احتج بقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " ومن لم يعتبر النية دون اللفظ احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها " والنية دون قول حديث نفس.
قال: وليس يلزم من اشتراط النية في العمل في الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها.
واختلف المذهب
هل يقع بلفظ الطلاق في المدخول بها طلاق بائن إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هنالك عوض؟ فقيل يقع وقيل لا يقع وهذه المسألة من مسائل أحكام صريح ألفاظ الطلاق وأما ألفاظ الطلاق التي ليست بصريح فمنها ما هي كناية ظاهرة عند مالك ومنها ما هي كناية محتملة.
ومذهب مالك أنه إذا ادعى في الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه في الصريح وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة وذلك في المدخول بها إلا أن يكون قال ذلك في الخلع.
وأما غيرالمدخول بها فيصدقه في الكناية الظاهرة فيما دون الثلاث لأن طلاق غير المدخول بها بائن وهذه هي مثل قولهم: حبلك على غاربك ومثل البتة ومثل قولهم: أنت خلية وبرية.
وأما مذهب الشافعي في الكنايات الظاهرة فإنه يرجع في ذلك إلى ما نواه فإن كان نوى طلاقا كان طلاقا وإن كان نوى ثلاثا كان ثلاثا أو واحدة كان واحدة ويصدق في ذلك.
وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول الشافعي إلا أنه إذا نوى على أصله واحدة أو اثنتين وقع عنده طلقة واحدة بائنة وإن اقترنت به قرينة تدل على الطلاق وزعم أنه لم ينوه لم يصدق وذلك إذا كان عنده في مذاكرته الطلاق.
وأبو حنيفة يطلق بالكنايات كلها إذا اقترنت بها هذه القرينة إلا أربع: حبلك على غاربك واعتدي واستبرئي.
وتقنعي لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة.
وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيها نيته كالحال عند الشافعي في الكناية الظاهرة وخالفه في ذلك جمهور العلماء فقالوا: ليس فيها شيء وإن نوى طلاقا فيتحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال: قول أن يصدق بإطلاق.
وهو قول الشافعي وقول إنه لا يصدق بإطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة وهو قول مالك وقول إنه يصدق إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق وهو قول أبي حنيفة.
وفي المذهب خلاف في مسائل يتردد حملها بين الظاهر والمحتمل وبين قوتها وضعفها في الدلالة على صفة البينونة فوقع فيها الاختلاف وهي راجعة إلى هذه الأصول وإنما صار مالك إلى أنه لا يقبل قوله في الكنايات الظاهرة إنه لم يرد به طلاقا لأن العرف اللغوي
والشرعي شاهد عليه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تلفظ بها الناس غالبا.
والمراد بها الطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على خلاف ذلك وإنما صار إلى أنه لا يقبل قوله فيما يدعيه دون الثلاث لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة والبينونة لا تقع إلا خلعا عنده في المشهور أو ثلاثا وإذا لم تقع خلعا لأنه ليس هناك عوض فبقي أن يكون ثلاثا وذلك في المدخول بها.
ويتخرج على القول في المذهب بأن البائن تقع.
من دون عوض ودون عدد أن يصدق في ذلك وتكون واحدة بائنة وحجة الشافعي أنه إذا وقع الإجماع على أنه يقبل قوله فيما دون الثلاث في صريح ألفاظ الطلاق كان أحرى أن يقبل قوله في كنايته لأن دلالة الصريح أقوى من دلالة الكناية.
ويشبه أن تقول المالكية إن لفظ الطلاق وإن كان صريحا في الطلاق فليس بصريح في العدد ومن الحجة للشافعي حديث ركانة المتقدم وهو مذهب عمر في حبلك على غاربك وإنما صار الشافعي إلى أن الطلاق في الكنايات الظاهرة إذا نوى ما دون الثلاث يكون رجعيا لحديث ركانة المتقدم وصار أبو حنيفة إلى أنه يكون بائنا لأنه المقصود به قطع العصمة ولم يجعله ثلاثا لأن الثلاث معنى زائد على البينونة عنده.
فسبب اختلافهم هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ وإذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضي البينونة فقط أو العدد فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية.
ومما اختلف فيه الصدر الأول وفقهاء الأمصار من هذا الباب أعني من جنس المسائل الداخلة في هذا الباب لفظ التحريم أعني من قال لزوجته أنت علي حرام وذلك أن مالكا قال يحمل في المدخول بها على البت أي الثلاث وينوي في غير المدخول بها وذلك على قياس قوله المتقدم في الكنايات الظاهرة وهو قول ابن أبي ليلى وزيد بن ثابت وعلي من الصحابة وبه قال أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه قال لا ينوي في غير المدخول بها وتكون ثلاثا فهذا هو أحد الأقوال في هذه المسألة والقول الثاني أنه إن نوى بذلك ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها وإن لم ينو به طلاقا ولا يمينا فليس بشيء هي كذبة وقال بهذا القول الثوري والقول الثالث أن يكون أيضا ما نوى بها وإن نوى واحدة فواحدة أو ثلاثا
فثلاث وإن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهذا القول قاله الأوزاعي.
والقول الرابع أن ينوي فيها في الموضعين في إرادة الطلاق وفي عدده فما نوى كان ما نوى فإن نوى واحدة كان رجعيا وإن أراد تحريمها بغير طلاق فعليه كفارة يمين وهو قول الشافعي.
والقول الخامس أنه ينوي أيضا في الطلاق وفي العدد فإن نوى واحدة كانت بائنة فإن لم ينو طلاقا كان يمينا وهو مول فإن نوى الكذب فليس بشيء وهذا القول قاله أبو حنيفة وأصحابه.
والقول السادس إنها يمين يكفرها ما يكفر اليمين إلا أن بعض هؤلاء قال يمين مغلظة وهو قول عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين وقال ابن عباس وقد سئل عنها لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة خرجه البخاري ومسلم ذهب إلى الاحتجاج بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } الآية.
والقول السابع أن تحريم المرأة كتحريم الماء وليس فيه كفارة ولا طلاق لقوله تعالى :{ لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وهو قول مسروق والأجدع وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وغيرهم.
ومن قال فيها إنها غير
مغلظة بعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار.
وبعضهم أوجب فيها عتق رقبة.
وسبب الاختلاف هل هو يمين أو كناية أو ليس بيمين ولا كناية فهذه أصول ما يقع من الاختلاف في ألفاظ الطلاق.
الفصل الثاني في ألفاظ الطلاق المقيدة
والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين إما تقييد اشتراط أو تقييد استثناء والتقيد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس أو إلى الوجود أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون.
فأما تعليق الطلاق بالمشيئة فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة مخلوق فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله فإن مالكا قال لا يؤثر
الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع ولا بد.
وقال أبو حنيفة والشافعي:إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق.
وسبب الخلاف:
هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر فمن قال لا يتعلق به قال لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق ومن قال يتعلق به قال يؤثر فيه وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ويتوصل إلى علمها فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته.
وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له ففيه خلاف في المذهب قيل يلزمه الطلاق وقيل لا يلزمه والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى فمن شبهه بطلاق الهزل وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال يقع هذا الطلاق ومن اعتبر وجود الشرط قال لا يقع لأن الشرط قد عدم ههنا.
وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب أحدها ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء كدخول الدار وقدوم زيد فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف.
وأما ما لا بد من وقوعه كطلوع الشمس غدا فهذا يقع ناجزا عند مالك ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال لا يقع إلا بوقوع الشرط ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال يقع الطلاق والثالث هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر ففي ذلك روايتان عن مالك إحداهما وقوع الطلاق ناجزا والثانية وقوعه على وجود شرطه وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولا بد والخلاف فيه قوي.
وأما تعليق الطلاق بالشرط.المجهول الوجود فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق.فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول إن ولدت أنثى فأنت طالق
فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود. وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى فإن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت أنثى وكان هذا من باب التغليظ والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده.
ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل ويوقف عنده عن وطء زوجته فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت.
ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة أو تبعيض الطلاق وإرداف الطلاق على الطلاق.
فأما مسألة تبعيض المطلقة فإن مالكا قال إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه وقال أبو حنيفة لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها مثل الثلث أو الربع وقال داود لا تطلق وكذلك إذا قال عند مالك طلقتك نصف تطليقة طلقت لأن هذا كله عنده لا يتبعض وعند المخالف إذا تبعض لم يقع وأما إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا فإنه يكون ثلاثاعند مالك وقال أبو حنيفة والشافعي يقع واحدة فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد أعني بقوله طلقتك ثلاثا قال يقع الطلاق ثلاثا ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال لا يقع عليها الثاني والثالث.
ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي.
وأما الطلاق المقيد بالاستثناء فإنما يتصور في العدد فقط فإذا طلق أعدادا من الطلاق فلا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يستثني ذلك العدد بعينه مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا أو اثنتين إلا اثنتين وإما أن يستثني ما هو أقل فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل فإذا استثنى الأقل من الأكثر فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وأما إن
استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان أحدهما أن الاستثناء لا يصح وهو مبني على من منع أن يستثني الأكثر من الأقل.
والآخر أن الاستثناء يصح وهو قول مالك.
وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا فإن مالكا قال يقع الطلاق لأنه اتهمه على أنه رجوع منه.
وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع.
الطلاق فلا طلاق عليه.
كما لو قال أنت طالق لا طالق معا.
فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل.
وشذ أبو محمد بن حزم فقال لا يقع طلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع.
هذا قياس قوله عندي وحجته.
وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك.
الباب الثاني في المطلق الجائز الطلاق
واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ الحر غير المكره واختلفوا في طلاق المكره والسكران وطلاق المريض وطلاق المقارب للبلوغ.
واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح واختلفوا هل ترثه إن مات أم لا فأما طلاق المكره فإنه غير واقع عند مالك والشافعي وأحمد وداود وجماعة وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفرق أصحاب الشافعي بين أن ينوي الطلاق أو لا ينوي شيئا فإن نوى الطلاق فعنهم قولان أصحهما لزومه وإن لم ينو فقولان أصحهما أنه لا يلزم وقال أبو حنيفة وأصحابه هو واقع
وكذلك عتقه دون بيعه ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق.
وسبب الخلاف:
هل المطلق من قبل الإكراه مختار أم ليس بمختار لأنه ليس يكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره.
والمكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشيء أصلا وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام :"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولكن الأظهر أن المكره على الطلاق وإن كان موقعا للفظ
باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المكره لقوله تعالى :{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} وإنما فرق أبو حنيفة بين البيع والطلاق لأن الطلاق مغلظ فيه ولذلك استوى جده وهزله.
وأما طلاق الصبي فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ وقال في مختصر ما ليس في المختصر إنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام وبه قال أحمد بن حنبل إذا هو أطاق صيام رمضان وقال عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما طلاق السكران فالجمهور من الفقهاء على وقوعه وقال قوم لا يقع منهم المزني وبعض أصحاب أبي حنيفة.
والسبب في اختلافهم:
هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق فمن قال هو والمجنون سواء إذ كان كلاهما فاقدا للعقل ومن شرط التكليف العقل قال لا يقع ومن قال الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك ألزم السكران الطلاق وذلك من باب التغليظ عليه واختلف الفقهاء فيما يلزم السكران بالجملة من الأحكام وما لا يلزمه فقال مالك يلزمه الطلاق والعتق.والقود من الجراح والقتل ولم يلزمه النكاح ولا البيع وألزمه أبو حنيفة كل شيء وقال الليث كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه ولا يلزمه طلاق ولا عتق ولا نكاح ولا بيع ولا حد في قذف وكل ما جنته جوارحه فلازم له فيحد في الشرب والقتل والزنا والسرقة وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان لا يرى طلاق السكران وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة.
وقول من قال إن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ليس نصا في إلزام السكران الطلاق لأن السكران معتوه ما وبه قال داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين أعني أن طلاقه ليس يلزم وعن الشافعي القولان في ذلك واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور واختار المزني من أصحابه أن طلاقه غير واقع
وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه فإن مالكا وجماعة يقول ترثه زوجته والشافعي وجماعة لا يورثها والذين قالوا بتوريثها انقسموا ثلاث فرق ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري.
وقال قوم لها الميراث ما لم تتزوج،
وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى وقال قوم بل ترث كانت في العدة أو لم تكن تزوجت أم لم تتزوج وهو مذهب مالك والليث.
وسبب الخلاف:
اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته ليقطع حظها من الميراث فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا وذلك أن هذه الطائفة تقول إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه لأنهم قالوا إنه لا يرثها إن ماتت.
وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها ولا بد لخصومهم من أحد الجوابين لأنه يعسر أن يقال إن في الشرع نوعا من الطلاق توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح لأن هذا يكون طلاقا موقوف الحكم إلى أن يصح أو لا يصح وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع ولكن إنما أنس القائلون به أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة ولا معنى لقولهم فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور.
وأما من رأى أنها ترث في العدة فلأن العدة عنده من بعض أحكام الزوجية وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية وروي هذا القول عن عمر وعن عائشة.
وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث.
واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها أمرها الزوج فطلقت نفسها فقال أبو حنيفة لا ترث أصلا وفرق الأوزاعي بين التمليك والطلاق فقال ليس لها الميراث في التمليك ولها في الطلاق.
وسوى مالك في ذلك كله حتى لقد قال إن ماتت لا يرثها وترثه هي إن مات وهذا مخالف للأصول جدا.
الباب الثالث فيمن يتعلق به الطلاق من النساء ومن لا يتعلق
وأما من يقع طلاقه من النساء فإنهم اتفقوا على أن الطلاق يقع على النساء اللاتي في عصمة أزواجهن أو قبل أن تنقضي عددهن في الطلاق الرجعي،
وأنه لا يقع على الأجنبيات أعني الطلاق المعلق. وأما تعليق الطلاق على الأجنبيات بشرط التزويج مثل أن يقول إن نكحت فلانة فهي طالق فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب قول إن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلا عم المطلق أو خص وهو قول الشافعي وأحمد وداود وجماعة وقول إنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص وهو قول أبي حنيفة وجماعة وقول إنه إن عم جميع النساء لم يلزمه وإن خصص لزمه وهو قول مالك وأصحابه أعني مثل أن يقول كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق وكذلك في وقت كذا فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن.
وسبب الخلاف:
هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه فمن قال هو من شرطه قال لا يتعلق الطلاق بالأجنبية ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال يقع بالأجنبية.
وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال فكان ذلك عنتا به وحرجا وكأنه من باب نذر المعصية وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق واحتج الشافعي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا طلاق إلا من بعد نكاح" وفي رواية أخرى "لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك" وثبت ذلك عن علي ومعاذ وجابر بن عبد الله وابن عباس وعائشة وروي مثل قول أبي حنيفة عن عمر وابن مسعود وضعف قوم الرواية بذلك عن عمر رضي الله عنهم.
(الجملة الثالثة في الرجعة بعد الطلاق).
ولما كان الطلاق على ضربين بائن ورجعي وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان الباب الأول في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي.
الباب الثاني في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن.
الباب الأول في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي
وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له.
واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد.
واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء فأما الإشهاد فذهب مالك إلى أنه مستحب وذهب الشافعي إلى أنه واجب.
وسبب الخلاف:
معارضة القياس للظاهر وذلك أن ظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
يقتضي الوجوب وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أن لا يجب الإشهاد.
فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب.
وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة فإن قوما قالوا لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط وبه قال الشافعي وقوم قالوا تكون رجعتها بالوطء.
وهؤلاء انقسموا قسمين فقال قوم لا تصح الرجعة بالوطء إلا إذا نوى بذلك الرجعة لأن الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية وهو قول مالك.
وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطء إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية.
فأما الشافعي فقاس الرجعة على النكاح وقال قد أمر الله بالإشهاد ولا يكون الإشهاد إلا على القول.
وأما سبب الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة الوطء عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولأن الملك لم ينفصل عنده ولذلك كان التوارث بينهما وعند مالك أن وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها فلا بد عنده من النية فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة.
واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة فقال مالك لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما.
وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها وقال أبو حنيفة لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل وبه قال الثوري وأبو يوسف والأوزاعي وكلهم قالوا لا يدخل عليها إلا أن
تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل واختلفوا في هذا الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ثم يراجعها فيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة فتتزوج إذا انقضت عدتها فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل هذا قوله في الموطأ وبه قال الأوزاعي والليث.
وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول وأنه قال الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه.
قالوا ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ وأما الشافعي والكوفيون و أبو حنيفة وغيرهم فقالوا زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها دخل بها الثاني أو لم يدخل وبه قال داود وأبو ثور وهو مروي عن علي وهو الأبين.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها وحجة مالك في الرواية الأولى ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب.فقط.
وحجة الفريق الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول وهو الأظهر إن شاء الله ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما".
الباب الثاني في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن
والطلاق البائن إما بما دون الثلاث فذلك يقع غير المدخول بها بلا خلاف وفي المختلعة باختلاف وهل يقع أيضا دون عوض فيه خلاف.
وحكم الرجعة بعد هذا الطلاق حكم ابتداء النكاح أعني في اشتراط الصداق والولي والرضا إلا أنه لا يعتبر فيه انقضاء العدة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة.
وأما البائنة بالثلاث فإن العلماء كلهم على أن المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد الوطء لحديث رفاعة بن سموءل "أنه طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير. فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة زوجها الأول أن ينكحها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزويجها وقال:" لا تحل لك حتى تذوق العسيلة".
وشذ سعيد بن المسيب فقال إنه جائز أن ترجع إلى زوجها الأول بنفس العقد لعموم قوله تعالى :{ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنكاح ينطلق على العقد وكلهم قال التقاء الختانين يحلها إلا الحسن البصري فقال لا تحل إلا بوطء إنزال.
وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد ويفسد الصوم والحج ويحل المطلقة ويحصن الزوجين ويوجب الصداق هو التقاء الختانين.
وقال مالك وابن القاسم لا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف ولا يحل الذمية عندهما وطء زوج ذمي لمسلم ولا وطء من لم يكن بالغا وخالفهما في ذلك كله الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي فقالوا يحل الوطء وإن وقع في عقد فاسد أو مباح.
وكذلك وطء المراهق عندهم يحل ويحل وطء الذمي الذمية للمسلم وكذلك المجنون عندهم والخصي الذي يبقى له ما يغيبه في فرج والخلاف في هذا كله آيل إلى هل يتناول اسم النكاح أصناف الوطء الناقص أم لا يتناوله واختلفوا من هذا الباب في نكاح المحلل أعني إذا تزوجها على شرط أن يحللها لزوجها الأول فقال مالك النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده والشرط فاسد لا تحل به ولا يعتبر في ذلك عنده إرادة المرأة التحليل وإنما يعتبر عنده إرادة الرجل وقال الشافعي وأبو حنيفة النكاح جائز ولا تؤثر النية في ذلك وبه قال داود وجماعة وقالوا هو محلل للزوج المطلق ثلاثا وقال بعضهم النكاح جائز والشرط باطل أي ليس
يحللها وهو قول ابن أبي ليلى وروي عن الثوري واستدل مالك وأصحابه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر أنه قال صلى الله عليه وسلم :"لعن الله المحلل والمحلل له" فلعنه إياه كلعنه آكل الربا وشارب الخمر.
وذلك يدل على النهي والنهي يدل على فساد المنهي عنه واسم النكاح الشرعي لا ينطلق على النكاح المنهي عنه.
وأما الفريق الآخر فتعلق بعموم قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وهذا ناكح وقالوا وليس في تحريم قصد التحليل ما يدل على أن عدمه شرط في صحة النكاح كما أنه ليس النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة مما يدل على أن من شرط صحة الصلاة صحة ملك البقعة أو الإذن من مالكها في ذلك قالوا وإذا لم يدل النهي على فساد عقد النكاح فأحرى أن لا يدل على بطلان التحليل.
وإنما لم يعتبر مالك قصد المرأة لأنه إذا لم يوافقها على قصدها لم يكن لقصدها معنى مع أن الطلاق ليس بيدها.
واختلفوا في هل يهدم الزوج ما دون الثلاث فقال أبو حنيفة يهدم وقال مالك والشافعي لا يهدم أعني إذا تزوجت قبل الطلقة الزوج الأول ثم راجعها هل يعتد بالطلاق الأول أم لا فمن رأى أن هذا شيء يخص الثالثة بالشرع قال لا يهدم ما دون الثالثة عنده ومن رأى أنه إذا هدم الثالثة فهو أحرى أن يهدم ما دونها قال يهدم ما دون الثلاث والله أعلم.
(الجملة الرابعة) وهذه الجملة فيها بابان الأول في العدة.
الثاني في المتعة.
الباب الأول في العدة
والنظر في هذا الباب في فصلين الفصل الأول في عدة الزوجات.
الفصل الثاني في عدة ملك اليمين.
الفصل الأول في عدة الزوجات
والنظر في عدة الزوجات ينقسم إلى نوعين أحدهما في معرفة العدة.
والثاني في معرفة أحكام العدة.
(النوع الأول) وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة وكل واحدة من هاتين إذا طلقت فلا يخلو أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها بإجماع لقوله تعالى :{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
وأما المدخول بها فلا يخلو أن تكون من ذوات الحيض أو من غير ذوات الحيض وغير ذوات الحيض إما صغار وإما يائسات وذوات الحيض إما حوامل وإما جاريات على عاداتهن في الحيض وإما مرتفعات الحيض وإما مستحاضات.
والمرتفعات الحيض في سن الحيض إما مرتابات بالحمل أي بحس في البطن وإما غير مرتابات.
وغير المرتابات إما معروفات سبب انقطاع الحيض من رضاع أو مرض معروفات.
فأما ذوات الحيض الأحرار الجاريات في حيضهن على المعتاد فعدتهن ثلاثة قروء والحوامل منهن عدتهن وضع حملهن واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر ولا خلاف في هذا لأنه منصوص عليه في قوله تعالى:{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية وفي قوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} الآية.
واختلفوا من هذه الآية في الأقراء ما هي فقال قوم هي الأطهار أعني الأزمنة التي بين الدمين وقال قوم هي الدم نفسه وممن قال إن الأقراء هي الأطهار أما من فقهاء الأمصار فمالك والشافعي وجمهور أهل المدينة و أبو ثور وجماعة وأما من الصحابة فابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة وممن قال إن الأقراء هي الحيض أما من فقهاء الأمصار فأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وجماعة وأما من الصحابة فعلي وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري.
وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون الأقراء هي الحيض.
وحكى أيضا عن الشعبي أنه قول أحد عشر أو اثني عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما أحمد بن حنبل فاختلفت الرواية عنه.
فروي عنه أنه كان يقول إنها الأطهار على قول زيد ابن ثابت وابن عمر وعائشة ثم توقفت الآن من أجل قول ابن مسعود وعلي هو أنها الحيض والفرق بين المذهبين هو أن من رأى أنها الأطهار رأى أنها إذا دخلت الرجعية عنده في الحيضة الثالثة لم يكن للزوج عليها رجعة وحلت للأزواج ومن رأى
أنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة.
وسبب الخلاف:
اشتراك اسم القرء فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار وقد رام كلا الفريقين أن يدل على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه فالذين قالوا إنها الأطهار قالوا إن هذا الجمع خاص بالقرء الذي هو الطهر وذلك أن القرء الذي هو الحيض يجمع على أقراء لا على قروء وحكوا ذلك عن ابن الأنباري وأيضا فإنهم قالوا إن الحيضة مؤنثة والطهر مذكر فلو كان القرء الذي يراد به الحيض لما ثبت في جمعه الهاء لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة وقالوا أيضا إن الاشتقاق يدل على ذلك لأن القرء مشتق من قرأت الماء في الحوض أي جمعته فزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر فهذا هو أقوى ما تمسك به الفريق الأول من ظاهر الآية.
وأما ما تمسك به الفريق الثاني من ظاهر الآية فإنهم قالوا إن قوله تعالى :{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ظاهر في تمام كل قرء منها لأنه ليس ينطلق اسم القرء على بعضه إلا تجوزا وإذا وصفت الأقراء بأنها هي الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرأين وبعض قرء لأنها عندهم تعتد بالطهر الذي تطلق فيه وإن مضى أكثره وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطلق عليها اسم الثلاثة إلا تجوزا واسم الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض لأن الإجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة أنها.
لا تعتد بها ولكل واحد من الفريقين احتجاجات متساوية من جهة لفظ القرء والذي رضيه الحذاق أن الآية مجملة في ذلك.
وأن الدليل ينبغي أن يطلب من جهة أخرى فمن أقوى ما تمسك به من رأى أن الأقراء هي الأطهار حديث ابن عمر المتقدم وقوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" قالوا وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه وقوله عليه الصلاة والسلام: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" دليل واضح على أن العدة هي الأطهار لكي يكون الطلاق متصلا بالعدة.
ويمكن أن يتأول قوله فتلك العدة أي فتلك مدة استقبال العدة لئلا يتبعض القرء بالطلاق في الحيض.
وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار ولذلك كان عدة من ارتفع الحيض عنها بالأيام فالحيض هو سبب العدة بالأقراء فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض واحتج من قال الأقراء هي الأطهار بأن المعتبر في براءة الرحم هو النقلة من الطهر إلى الحيض لا انقضاء الحيض فلا معنى لاعتبار الحيضة الأخيرة وإذا كان ذلك فالثلاث المعتبر فيهن التمام أعني المشترط هي الأطهار التي بين الحيضتين ولكلا الفريقين احتجاجات طويلة.
ومذهب الحنفية أظهر من جهة المعنى وحجتهم من جهة المسموع متساوية أو قريب من متساوية ولم يختلف القائلون أن العدة هي الأطهار أنها تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة.
واختلف الذين قالوا إنها الحيض فقيل تنقضي بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة وبه قال الأوزاعي وقيل حين تغتسل من الحيضة الثالثة وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود ومن الفقهاء الثوري وإسحاق بن عبيد وقيل حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وقيل إن للزوج عليها الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة حكي هذا عن شريك.
وقد قيل تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة.
وهو أيضا شاذ.
فهذه هي حال الحائض التي تحيض.
وأما التي تطلق فلا تحيض وهي في سن الحيض وليس هناك ريبة حمل ولا سبب من رضاع ولا مرض فإنها تنتظر عند مالك تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت بثلاثة أشهر فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة الأشهر اعتبرت الحيض واستقبلت انتظاره فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض الثانية اعتدت ثلاثة أشهر فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر من العام الثاني انتظرت الحيضة الثالثة فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر فإن حاضت الثالثة في الثلاثة الأشهر كانت قد استكملت عدة الحيض وتمت عدتها ولزوجها عليها الرجعة ما لم تحل.
واختلف عن مالك متى تعتد بالتسعة أشهر فقيل من يوم طلقت وهو قوله في الموطأ وروى ابن القاسم عنه من يوم رفعها حيضتها.
وقال أبو حنيفة.والشافعي والجمهور في التي ترتفع حيضتها وهي لا تيأس منها في المستأنف إنها تبقى أبدا تنتظر حتى تدخل في السن الذي تيأس فيه من المحيض وحينئذ تعتد بالأشهر
وتحيض قبل ذلك وقول مالك مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس.
وقول الجمهور قول ابن مسعود وزيد.
وعمدة مالك عن طريق المعنى هو أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنا غالبا بدليل أنه قد تحيض الحامل وإذا كان ذلك كذلك فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم بل هي قاطعة على ذلك ثم تعتد بثلاثة أشهر عدة اليائسة.
فإن حاضت قبل تمام السنة حكم لها بحكم ذوات الحيض واحتسبت بذلك القرء ثم تنتظر القرء الثاني أو السنة إلى أن تمضي لها ثلاثة أقراء.
وأما الجمهور فصاروا إلى ظاهر قوله تعالى :{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} والتي هي من أهل الحيض ليست بيائسة وهذا الرأي فيه عسر وحرج ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها.
وكان قوله إن ارتبتم راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك عليه فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية فإنه فهم من اليائسة هنا من تقطع على أنها ليست من أهل الحيض وهذا لا يكون إلا من قبل السن ولذلك جعل قوله إن ارتبتم راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض أي إن شككتم في حكمهن ثم قال في التي تبقى تسعة أشهر لا تحيض وهي في سن من تحيض أنها تعتد بالأشهر.
وأما إسماعيل وابن بكير من أصحابه فذهبوا إلى أن الريبة ههنا في الحيض وأن اليائس في كلام العرب هو ما لم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع فطابقوا تأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك ونعم ما فعلوا لأنه إن فهم ههنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن أعني سن اليائس وإن فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي انقطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر وهو قياس قول أهل الظاهر لأن اليائسة في الطرفين ليس هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور.
أما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان.
وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم مثل رضاع أو مرض فإن المشهورعند مالك أنها تنتظر الحيض قصر الزمان أم طال وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب وأما المستحاضة فعدتها عند مالك سنة إذا لم تميز بين الدمين فإن ميزت بين الدمين فعنه روايتان إحداهما
أن عدتها السنة.والأخرى أنها تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء وقال أبو حنيفة عدتها الأقراء إن تميزت لها وإن لم تتميز لها فثلاثة أشهر وقال الشافعي عدتها بالتمييز إذا انفصل عنها الدم فيكون الأحمر القاني من الحيضة ويكون الأصفر من أيام الطهر فإن طبق عليها الدم اعتدت بعدد أيام حيضتها في صحتها.
وإنما ذهب مالك إلى بقاء السنة لأنه جعلها مثل التي.لا تحيض وهي من أهل الحيض والشافعي إنما ذهب في العارفة أيامها أنها تعمل على معرفتها قياسا على الصلاة لقول صلى الله عليه وسلم للمستحاضة "اتركي الصلاة أيام أقرائك فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي الدم".
وإنما اعتبر التمييز من اعتبره لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش: "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضيء وصلى فإنما هو عرق" خرجه أبو داود وإنما ذهب من ذهب إلى عدتها بالشهور إذا اختلط عليها الدم لأنه معلوم في الأغلب أنها في كل شهر تحيض وقد جعل الله العدة بالشهور عند ارتفاع الحيض وخفاؤه كارتفاعه.
وأما المسترابة أعني التي تجد حسا في بطنها تظن به أنه حمل فإنها تمكث أكثر مدة الحمل وقد اختلف فيه فقيل في المذهب أربع سنين وقيل خمس سنين وقال أهل الظاهر تسعة أشهر.
ولا خلاف أن انقضاء عدة الحوامل لوضع حملهن أعني المطلقات لقوله تعالى: { وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأما الزوجات غير الحرائر فإنهن ينقسمن أيضا بتلك الأقسام بعينها أعني حيضا ويائسات ومستحاضات ومرتفعات الحيض من غير يائسات.
فأما الحيض اللاتي يأتيهن حيضهن فالجمهور على أن عدتهن حيضتان وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن عدتهن ثلاث حيض كالحرة وبه قال ابن سيرين.
فأهل الظاهر اعتمدوا عموم قوله تعالى :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وهي ممن ينطلق عليها اسم المطلقة.
واعتمد الجمهور تخصيص هذا العموم بقياس الشبه وذلك أنهم شبهوا الحيض بالطلاق والحد أعني كونه متنصفا مع الرق.
وإنما جعلوها حيضتين لأن الحيضة الواحدة لا تتبعض.
وأما الأمة المطلقة اليائسة من المحيض أو الصغيرة فإن مالكا وأكثر أهل المدينة قالوا عدتها ثلاثة أشهر وقال
الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة عدتها شهر ونصف شهر نصف عدة الحرة وهو القياس إذا قلنا بتخصيص العموم فكأن مالكا اضطرب قوله فمرة أخذ بالعموم وذلك في اليائسات ومرة أخذ بالقياس وذلك في ذوات الحيض والقياس في ذلك واحد.
وأما التي ترتفع حيضتها من غير سبب فالقول فيها هو القول في الحرة والخلاف في ذلك وكذلك المستحاضة واتفقوا على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها.
واختلفوا فيمن راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي ثم فارقها قبل أن يمسها هل تستأنف عدة أم لا فقال جمهور فقهاء الأمصار تستأنف وقالت فرقة تبقى في عدتها من طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي وقال داود ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستأنفة.
وبالجملة فعند مالك أن كل رجعة تهدم العدة وإن لم يكن مسيس ما خلا رجعة المولي.
وقال الشافعي إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطء ثبتت على عدتها الأولى وقول الشافعي أظهر.
وكذلك عند مالك رجعة المعسر بالنفقة تقف صحتها عنده على الإنفاق فإن أنفق صحت.
الرجعة وهدمت العدة إن كان طلاقا وإن لم ينفق بقيت على عدتها الأولى وإذا تزوجت ثانيا في العدة فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما تداخل العدتين والأخرى نفيه.
فوجه الأولى اعتبار براءة الرحم لأن ذلك حاصل مع التداخل.
ووجه الثانية كون العدة عبادة فوجب أن تتعدد بتعدد الوطء الذي له حرمة وإذا عتقت الأمة في عدة الطلاق مضت على عدة الأمة عند مالك ولم تنتقل إلى عدة الحرة وقال أبو حنيفة تنتقل في الطلاق الرجعي دون البائن وقال الشافعي تنتقل في الوجهين معا.
وسبب الخلاف:
هل العدة من أحكام الزوجية أم من أحكام انفصالها فمن قال من أحكام الزوجية قال لا تنتقل عدتها ومن قال من أحكام انفصال الزوجية قال تنتقل كما لو أعتقت وهي زوجة ثم طلقت وأما من فرق بين البائن والرجعي فبين وذلك أن الرجعي فيه شبه من أحكام العصمة ولذلك وقع فيه الميراث باتفاق إذا مات وهي في عدة من طلاق رجعي وأنها تنتقل إلى عدة الموت فهذا هو القسم الأول من قسمي النظر في العدة.
(القسم الثاني) وأما النظر في أحكام العدد فإنهم اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى وكذلك الحامل لقوله تعالى:في الرجعيات {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الآية ولقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
واختلفوا في سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال أحدها أن لها السكنى والنفقة وهو قول الكوفيين.
والقول الثاني أنه لا سكنى لها ولا نفقة وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة.
الثالث أن لها السكنى ولا نفقة لها وهو قول مالك والشافعي وجماعة.
وسبب اختلافهم:
اختلاف الرواية في حديث فاطمة بنت قيس ومعارضة ظاهر الكتاب له فاستدل من لم يوجب لها نفقة ولا سكنى بما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت طلقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة خرجه مسلم وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة" وهذا قول مروي عن علي وابن عباس وجابر بن عبد الله.
وأما الذين أوجبوا لها السكنى دون النفقة فإنهم احتجوا بما رواه مالك في موطئه من حديث فاطمة المذكورة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس لك عليه نفقة" وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ولم يذكر فيها إسقاط السكنى فبقي على عمومه في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وعللوا أمره عليه الصلاة والسلام بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم بأنه كان في لسانها بذاء.
وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الإسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية.
وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة وروي عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة يريد قوله تعالى: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } الآية.ولأن المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب
النفقة حيث تجب السكنى فلذلك الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الأمرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور.
وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير ووجه عسره ضعف دليله.
وينبغي أن تعلم أن المسلمين اتفقوا على أن العدة تكون في ثلاثة أشياء في طلاق أو موت أو اختيار الأمة نفسها إذا أعتقت.
واختلفوا فيها في الفسوخ والجمهور على وجوبها.
ولما كان الكلام في العدة يتعلق فيه أحكام عدة الموت رأينا أن نذكرها ههنا فنقول إن المسلمين اتفقوا على أن عدة الحرة من زوجها الحر أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى :{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.
واختلفوا في عدة الحامل وفي عدة الأمة إذا لم تأتها حيضتها في الأربعة الأشهر وعشرا ماذا حكمها فذهب مالك إلى أن من شرط تمام هذه العدة أن تحيض حيضة واحدة في هذه المدة فإن لم تحض فهي عنده مسترابة فتمكث مدة الحمل وقيل عنه إنها قد لا تحيض وقد لا تكون مسترابة وذلك إذا كانت عادتها في الحيض أكثر من مدة العدة وهذا إما غير موجود أعني من تكون عادتها أن تحيض أكثر من أربعة أشهر إلى أكثر من أربعة أشهر وإما نادر.
واختلف عنه فيمن هذه حالها من النساء إذا وجدت فقيل تنتظر حتى تحيض وروى عنه ابن القاسم تتزوج إذا انقضت عدة الوفاة ولم يظهر بها حمل.
وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار أبي حنيفة والشافعي والثوري.
(وأما المسألة الثانية) وهي الحامل التي يتوفى عنها زوجها فقال الجمهور وجميع فقهاء الأمصار عدتها أن تضع حملها مصيرا إلى عموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وإن كانت الآية في الطلاق وأخذا أيضا بحديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر وفيه "فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد حللت فانكحي من شئت " وروى مالك عن ابن عباس أن عدتها آخر الأجلين يريد أنها تعتد بأبعد الأجلين إما الحمل وإما انقضاء العدة عدة الموت وروي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحجة لهم أن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين عموم آية الحوامل وآية الوفاة.
وأما الأمة المتوفى عنها من
تحل له فإنها لا تخلو أن تكون زوجة أو ملك يمين أو أم ولد أو غير أم ولد فأما الزوجة فقال الجمهور إن عدتها نصف عدة الحرة قاسوا ذلك على العدة.
وقال أهل الظاهر بل عدتها عدة الحرة وكذلك عندهم عدة الطلاق.
مصيرا إلى التعميم.
وأما أم الولد فقال مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة عدتها حيضة وبه قال ابن عمر.
وقال مالك وإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر ولها السكنى وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري عدتها ثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وقال قوم عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها زوجها وقال قوم عدتها عدة الحرة أربعة أشهر وعشرا وحجة مالك أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض فلم يبق إلا استبراء رحمها وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها وذلك ما لا خلاف فيه وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة ولا بأمة فتعتد عدة أمة فوجب أن تستبرىء رحمها بعدة الأحرار.
أما الذين أوجبوا لها عدة الوفاة فاحتجوا بحديث روي عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا وضعف أحمد هذا الحديث ولم يأخذ به.
وأما من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيها بالزوجة الأمة.
فسبب الخلاف أنها مسكوت عنها وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة وهو مذهب أبي حنيفة.
الباب الثاني في المتعة
والجمهور على أن المتعة ليست واجبة في كل مطلقة وقال قوم من أهل الظاهر هي واجبة في كل مطلقة وقال قوم هي مندوب إليها وليست واجبة وبه قال مالك والذين قالوا بوجوبها في بعض المطلقات اختلفوا في ذلك فقال أبو حنيفة هي واجبة على من طلق قبل الدخول ولم يفرض لها صداقا مسمى وقال الشافعي هي واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول وعلى هذا جمهور العلماء.واحتج أبو حنيفة
بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} فاشترط المتعة مع عدم المسيس وقال تعالى :{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فعلم أنه لا متعة لها مع التسمية والطلاق قبل المسيس لأنه إذا لم يجب لها الصداق فأحرى أن لا تجب لها المتعة وهذا لعمري مخيل لأنه حيث لم يجب لها صداق أقيمت المتعة مقامه وحيث ردت من يدها نصف الصداق لم يجب لها شيء.
وأما الشافعي فيحمل الأوامر الواردة بالمتعة في قوله تعالى :{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} على العموم في كل مطلقة إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول وأما أهل الظاهر فحملوا الأمر على العموم والجمهور على أن المختلعة لا متعة لها.
لكونها مغطية من يدها كالحال في التي طلقت قبل الدخول وبعد فرض الصداق وأهل الظاهر يقولون هو شرع فتأخذ وتعطي.
وأما مالك فإنه حمل الأمر بالمتعة على الندب لقوله تعالى:في آخر الآية {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي على المتفضلين المتجملين وما كان من باب الإجمال والإحسان فليس بواجب.
واختلفوا في المطلقة المعتدة هل عليها إحداد فقال مالك ليس عليها إحداد.
باب في بعث الحكمين
اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني المحق من المبطل لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} الآية وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين أحدهما من قبل الزوج والآخر من قبل المرأة إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما وأجمعوا على أن
قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل من الزوجين.
واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك فقال مالك وأصحابه يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما في ذلك.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق وحجة مالك ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب أنه قال في الحكمين إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع.
وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج.
واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا فقال أبو القاسم تكون واحدة وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين هل تدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي فقال الرجل أما الفرق فلا فقال علي لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة قال فاعتبر في ذلك إذنه.
و مالك يشبه الحكمين بالسلطان والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
كتاب الإيلاءوالأصل في هذا الباب قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر}ٍ والإيلاء هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر أو أربعة أشهر أو بإطلاق على الاختلاف المذكور في ذلك فيما بعد.
واختلف فقهاءالأمصار في الإيلاء في مواضع فمنها هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولي أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر فإما فاء وإما طلق ومنها هل الإيلاء يكون بكل يمين أم بالأيمان المباحة في الشرع فقط ومنها إن أمسك عن الوطء
بغير يمين هل يكون موليا أم لا ومنها هل المولي هو الذي قيد يمينه بمدة من أربعة أشهر فقط أو أكثر من ذلك أو المولي هو الذي لم يقيد يمينه بمدة أصلا ومنها هل طلاق الإيلاء بائن أو رجعي ومنها إن أبى الطلاق والفيء هل يطلق القاضي عليه أم لا ومنها هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها من غير إيلاء حادث في الزواج الثاني ومنها هل من شرط رجعة المولي أن يطأها في العدة أم لا ومنها هل إيلاء العبد حكمه أن يكون مثل إيلاء الحر أم لا ومنها هل إذا طلقها بعد انقضاء مدة الإيلاء تلزمها عدة أم لا فهذه هي مسائل الخلاف المشهورة في الإيلاء بين فقهاء الأمصار التي تتنزل من هذا الباب منزلة الأصول ونحن نذكر خلافهم في مسألة مسألة منها وعيون أدلتهم وأسباب خلافهم على ما قصدنا.
(المسألة الأولى) أما اختلافهم هل تطلق بانقضاء الأربعة الأشهر نفسها أم لا تطلق وإنما الحكم أن يوقف فإما فاء وإما طلق فإن مالكا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود والليث ذهبوا إلى أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر فإما فاء وإما طلق وهو قول علي وابن عمر وإن كان قد روي عنهما غير ذلك لكن الصحيح هو هذا وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبالجملة الكوفيون إلى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر إلا أن يفيء فيها وهو قول ابن مسعود وجماعة من التابعين.
وسبب الخلاف:
هل قوله تعالى :{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة الأشهر أو بعدها فمن فهم منه قبل انقضائها قال يقع الطلاق ومعنى العزم عنده في قوله تعالى :{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أن لا يفيء حتى تنقضي المدة.
فمن فهم من اشتراط الفيئة اشتراطها بعد انقضاء المدة قال معنى قوله وإن عزموا الطلاق أي باللفظ فإن الله سميع عليم.
وللمالكية في الآية أربعة أدلة أحدها أنه جعل مدة التربص حقا للزوج دون الزوجة فأشبهت مدة الأجل في الديون المؤجلة الدليل الثاني أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله.
وعندهم ليس يقع من فعله إلا تجوزا أعني ليس ينسب إليه على مذهب الحنفية إلا تجوزا وليس يصار إلى المجاز عن الظاهر إلا بدليل.
الدليل الثالث قوله تعالى :{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قالوا فهذا يقتضي وقوع الطلاق على
وجه يسمع وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة.
الرابع: أن الفاء في قوله تعالى :{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ظاهرة في معنى التعقيب فدل ذلك على أن الفيئة بعد المدة وربما شبهوا هذه المدة بمدة العتق.
وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة بالعدة الرجعية إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم وبالجملة فشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي وقد روي ذلك عن ابن عباس.
(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اليمين التي يكون بها الإيلاء فإن مالكا قال يقع الإيلاء بكل يمين وقال الشافعي لا يقع إلا بالأيمان المباحة في الشرع وهي اليمين بالله أو بصفة من صفاته فمالك اعتمد العموم أعني عموم قوله تعالى:{للذين يولون من نسائهم تربص أربعة.
أشهر والشافعي يشبه الإيلاء بيمين الكفارة وذلك أن كلا اليمينين يترتب عليهما حكم شرعي فوجب أن تكون اليمين التي ترتب عليها حكم الإيلاء هي اليمين التي يترتب عليها الحكم الذي هو الكفارة.
(المسألة الثالثة) وأما لحوق حكم الإيلاء للزوج إذا ترك الوطء بغير يمين فإن الجمهور على أنه لا يلزمه حكم الإيلاء بغير يمين ومالك يلزمه وذلك إذا قصد الإضرار بترك الوطء وإن لم يحلف على ذلك فالجمهور اعتمدوا الظاهر ومالك اعتمد المعنى لأن الحكم إنما لزمه باعتقاده ترك الوطء وسواء شد ذلك الاعتقاد بيمين أو بغير يمين لأن الضرر يوجد في الحالتين جميعا.
(المسألة الرابعة) وأما اختلافهم في مدة الإيلاء فإن مالكا ومن قال بقوله يرى أن مدة الإيلاء يجب أن تكون أكثر من أربعة أشهر إذ كان الفيء عندهم إنما هو بعد الأربعة الأشهر وأما أبو حنيفة فإن مدة الإيلاء عنده هي الأربعة الأشهر فقط إذ كان الفيء عنده إنما هو فيها وذهب الحسن وابن أبي ليلى إلى أنه إذا حلف وقتا ما وإن كان أقل من أربعة أشهر كان موليا يضرب له الأجل إلى انقضاء الأربعة الأشهر من وقت اليمين.
وروي عن ابن عباس أن المولي هو من حلف أن لا يصيب امرأته على التأبيد.
والسبب في اختلافهم:
في المدة إطلاق الآية فاختلافهم في وقت الفيء وفي صفة اليمين ومدته هو كون الآية عامة في هذه المعاني أو مجملة وكذلك اختلافهم في صفة المولي والمولى
منها ونوع الطلاق على ما سيأتي بعد.
وأما ما سوى ذلك فسبب اختلافهم فيه هو سبب السكوت عنها.
وهذه هي أركان الإيلاء أعني معرفة نوع اليمين ووقت الفيء والمدة وصفة المولى منها ونوع الطلاق الواقع فيه.
(المسألة الخامسة) فأما الطلاق الذي يقع بالإيلاء فعند مالك والشافعي أنه رجعي لأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن وقال أبو حنيفة وأبو ثور هو بائن وذلك أنه إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة.
فسبب الاختلاف معارضة المصلحة المقصودة بالإيلاء للأصل المعروف في الطلاق فمن غلب الأصل قال رجعي ومن غلب المصلحة قال بائن.
(المسألة السادسة) وأما هل يطلق القاضي إذا أبى الفيء أو الطلاق أو يحبس حتى يطلق.
فإن مالكا قال يطلق القاضي عليه وقال أهل الظاهر يحبس حتى يطلقها بنفسه.
وسبب الخلاف:
معارضة الأصل المعروف في الطلاق للمصلحة فمن راعى الأصل المعروف في الطلاق قال لا يقع طلاق إلا من الزوج ومن راعى الضرر الداخل من ذلك على النساء قال يطلق السلطان وهو نظر إلى المصلحة العامة وهذا هو الذي يعرف بالقياس المرسل والمنقول عن مالك العمل به وكثير من الفقهاء يأبى ذلك.
(المسألة السابعة) وأما هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها فإن مالكا يقول إذا راجعها فلم يطأها تكرر الإيلاء عليه وهذا عنده في الطلاق الرجعي والبائن.
وقال أبو حنيفة الطلاق البائن يسقط الإيلاء وهو أحد قولي الشافعي وهذا القول هو الذي اختاره المزني.
وجماعة العلماء على أن الإيلاء لا يتكرر بعد الطلاق إلا بإعادة اليمين.
والسبب في اختلافهم:
معارضة المصلحة لظاهر شرط الإيلاء.
وذلك أنه لا إيلاء في الشرع إلا حيث يكون يمين في ذلك النكاح بنفسه لا في نكاح آخر ولكن إن راعينا هذا وجد الضرر المقصود إزالته بحكم الإيلاء ولذلك رأى مالك أنه يحكم بحكم الإيلاء بغير يمين إذا وجد معنى الإيلاء.
(المسألة الثامنة) وأما هل تلزم الزوجة المولى منها عدة أو ليس تلزمها فإن الجمهور على أن العدة تلزمها وقال جابر بن زيد لا تلزمها عدة إذا
كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيض.
وقال بقوله طائفة وهو مروي عن ابن عباس.
وحجته أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم وهذه قد حصلت لها البراءة.
وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات.
وسبب الخلاف:
أن العدة جمعت عبادة ومصلحة.
فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة.
(المسألة التاسعة) وأما إيلاء العبد فإن مالكا قال إيلاء العبد شهران على النصف من إيلاء الحر قياسا على حدوده وطلاقه.
وقال الشافعي وأهل الظاهر إيلاؤه مثل إيلاء الحر أربعة أشهر تمسكا بالعموم.
والظاهر أن تعلق الأيمان بالحر والعبد سواء والإيلاء يمين وقياسا أيضا على مدة العنين وقال أبو حنيفة النقص الداخل على الإيلاء معتبر بالنساء لا بالرجال كالعدة فإن كانت المرأة حرة كان الإيلاء إيلاء الحر وإن كان الزوج عبدا وإن كانت أمة فعلى النصف.
وقياس الإيلاء على الحد غير جيد وذلك أن العبد إنما كان حده أقل من حد الحر لأن الفاحشة منه أقل قبحا ومن الحر أعظم قبحا ومدة الإيلاء إنما ضربت جمعا بين التوسعة على الزوج وبين إزالة الضرر عن الزوجة فإذا فرضنا مدة أقصر من هذه كان أضيق على الزوج وأنفى للضرر على الزوجة والحر أحق بالتوسعة ونفي الضرر عنه فلذلك كان يجب على هذا القياس أن لا ينقص من الإيلاء إلا إذا كان الزوج عبدا والزوجة حرة فقط وهذا لم يقل به أحد فالواجب التسوية.
والذين قالوا بتأثير الرق في مدة الإيلاء اختلفوا في زوال الرق بعد الإيلاء هل ينتقل إلى إيلاء الأحرار أم لا فقال مالك لا ينتقل من إيلاء العبيد إلى إيلاء الأحرار وقال أبو حنيفة ينتقل فعنده أن الأمة إذا عتقت وقد آلى زوجها منها انتقلت إلى إيلاء الأحرار وقال ابن القاسم الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا إيلاء عليها فإن وقع وتمادى حسبت الأربعة الأشهر من يوم بلغت وإنما قال ذلك لأنه لا ضرر عليها في ترك الجماع وقال أيضا لا إيلاء على خصي ولا على من لا يقدر على الجماع.
(المسألة العاشرة ) وأما هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا فإن الجمهور ذهبوا إلى أن ذلك ليس من شرطها وأما مالك فإنه قال إذا لم يطأ فيها من غير عذر مرض أو ما أشبه ذلك فلا رجعة عنده له عليها وتبقى