الكتاب : بداية المجتهد و نهاية المقتصد
المؤلف : أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي
كتاب الوضوء
الباب الأول: أدلة الوجوب
كتاب الطهارة من الحدث
فنقول: إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث وطهارة من الخبث واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء وغسل وبدل منهما وهو التيمم وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء فنقول:كتاب الوضوء
إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول في الدليل على وجوبها وعلى من تجب ومتى تجب. الثاني في معرفة أفعالها. الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء. الرابع في معرفة نواقضها. الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها.
الباب الأول
فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية. فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل. وأما الإجماع فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف ولو كان هناك خلاف لنقل إذ العادات تقتضي ذلك. وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع. أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث فذكر: الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق" .
وأما الإجماع فإنه لم ينقل في ذلك خلاف واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا؟ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي. وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة وأراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت. أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية. فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة ومن شروط الصلاة دخول الوقت وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها واختلاف الناس في ذلك.
الباب الثاني: في معرفة فعل الوضوء
الباب الثانيوأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وما ورد من ذلك أيضا في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار الثابتة ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان وصفة الأفعال وأعدادها وتعيينها وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك.
المسألة الأولى من الشروط : اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" الحديث المشهور. فذهب فريق منهم إلى أنها شرط وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور وداود. وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط وهو مذهب أبي حنيفة والثوري. وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة: أعني غير معقولة المعنى وإنما يقصد بها القربة له فقط كالصلاة وغيرها وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية والعبادة المفهومة المعنى
غير مفتقرة إلى النية والوضوء فيه شبه من العبادتين ولذلك وقع الخلاف فيه وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به.
المسألة الثانية من الأحكام : اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق وإن تيقن طهارة اليد وهو مشهور مذهب مالك والشافعي. وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده وهو أيضا مروي عن مالك. وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم وبه قال داود وأصحابه. وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار وبه قال أحمد فتحصل في ذلك أربعة أقوال: قول إنه سنة بإطلاق, وقول إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من النوم وقول إنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وفي بعض رواياته "فليغسلها ثلاثا" فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ها ههنا على ظاهره من الوجوب وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها: أعني من يقول إن ذلك سنة من يقول إنه ندب ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا
الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك لأنه في معنى النائم والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم البدء في الوضوء وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة أما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء ويحتمل أن يكون من حكم الماء أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر.
المسألة الثالثة من الأركان : اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال: قول إنهما سنتان في الوضوء وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وقول إنهما فرض فيه وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر. وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محمولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في كلاهما ماء ثم لينثر ومن استجمر فليوتر" خرجه مالك في موطئه و البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة.
"المسألة الرابعة من تحديد المحال" : اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} واختلفوا منه في ثلاثة مواضع: في غسل البياض الذي بين العذار والأذن وفي غسل ما انسدل من اللحية وفي تخليل اللحية فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه وقد قيل في المذهب بين الأمرد والملتحي فيكون في المذهب ثلاثة أقوال. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو من الوجه. وأما ما انسدل من اللحية فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه ولم يوجبه أبو حنيفة ولا الشافعي في أحد قوليه وسبب اختلافهم في هاتين فإذا هو خفاء الراوي اسم الوجه لهذين الموضعين أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما وأما تخليل اللحية فمذهب مالك أنه ليس واجبا وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل.
المسألة الخامسة من التحديد : اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} واختلفوا في إدخال المرافق فيها فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها وذهب بعض أهل الظاهر وبعض متأخري أصحاب مالك والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية ومرة يكون بمعنى مع واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط وعلى الكف والذراع وعلى الكف والذراع والعضد فمن جعل إلى بمعنى مع1 أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل2 ومن فهم من إلى الغاية ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلهما
ـــــــ
1 هنا في نسخة فا س بمعنى من.
2 فيها هنا زيادة, لأن إلى عنده تكون بمعنى من ومبدأ الشيء من الشيء.
في الغسل وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل اليسرى كذلك ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل وإن كانت إلى في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى مع وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب والمسألة محتملة كما ترى. وقد قال قوم: إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه.
المسألة السادسة من التحديد : اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء واختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث ومنهم من حده بالثلثين. وأما أبو حنيفة فحده بالربع وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه. وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا. وأصل هذا الاختلاف الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل: أخذت بثوبه وبعضده ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب أعني كون الباء مبعضة وهو قول الكوفيين من النحويين فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله ومعنى الزائدة ها هنا كونها مؤكدة ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ فمسح بناصيته وعلى يباع خرجه مسلم. وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ها هنا أيضا احتمال آخر وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها
المسألة السابعة من الأعداد : اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما لما صح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة. فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا وأكثر أن المسح لا فضيلة في تكريره وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه نه مسح واحدة فقط. وفي بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين فإن صحت يجب المصير إليها لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره. وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء. وروي عن ابن الماجشون أنه قال: إذا نفد الماء مسح رأسه ببلل لحيته وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي.
ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم الرأس فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت. وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ إلا أنه لم يثبت في الصحيحين.
المسألة الثامنة من تعيين المحال: اختلف العلماء في المسح على يباع فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره
أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى يباع وقياسا على الخف ولذلك اشترط أكثرهم لبسها على طهارة وهذا الحديث إنما رده من رده إما لأنه لم يصح عنده وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده أعني الأمر فيه بمسح الرأس وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل وهو حديث خرجه مسلم وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول وفي بعض الإشارة أنه مسح على يباع ولم يذكر الناصية ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على يباع المسح على الناصية إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد.
المسألة التاسعة من الأركان : اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك1 إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء. وقال بهذا القول جماعة أيضا من أصحاب مالك ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضمضة وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك أعني مسحه عليه الصلاة والسلام اليسرى هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب أم هي مبينة للمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة والآثار الواردة بذلك كثيرة وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها. وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء أو يكونا جزءا من الرأس. وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس
ـــــــ
1 انظر هذا, فإن المقرر في مذهب أبي حنيفة أن مسحهما سنة لا فرض.
ويغسل ظاهرهما مع الوجه وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به. والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس.
المسألة العاشرة : اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء واختلفوا في نوع طهارتهما فقال قوم: طهارتهما الغسل وهم الجمهور وقال قوم: فرضهما المسح وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين: الغسل والمسح وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء: أعني قراءة من قرأ وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك وبه قال الطبري وداود. وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر:
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوا في المحور والقطر
بالخفض ولو عطف على المعنى لرفع القطر.
وأما الفريق الثاني وهم الذين أوجبوا المسح فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: "ويل للأعقاب من النار" قالوا فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب وهذا ليس فيه حجة لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا
أعقابهم دون غسل ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى ويل للأعقاب من النار وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح فهو أدل على جوازه منه على منعه لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة بل سكت عن نوعها وذلك دليل على جوازها. وجواز المسح أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين ولكن من طريق المعنى الغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحيا ومعنى عباديا وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس. وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد ومن اشتراك حرف إلى وهنا من قبل اشتراك حرف إلى فقط وقد اختلفوا في الكعب ما هو وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته فقيل هما العظمان اللذان عند معقد الشراك وقيل هما العظمان الناتئان في طرف الساق ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذ كانا جزءا من القدم لذلك قال قوم: إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه: أعني الشيء الذي يدل عليه حرف إلى وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
المسألة الحادية عشرة من الشروط : اختلفوا في وجوب ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية فقال قوم: هو سنة وهو الذي حكاه المتأخرون
من أصحاب مالك عن المذهب وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود. وقال قوم: هو فريضة وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض وأما ترتيب الأفعال المفروضة. مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب وقال أبو حنيفة هو سنة وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المرتبة بعضها على بعض وقد يعطف بها غير المرتبة وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين فقال نحاة البصرة: ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا وإنما تقتضي الجمع فقط وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه. والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة.
المسألة الثانية عشرة من الشروط : اختلفوا في الماوردي في أفعال الوضوء فذهب مالك إلى أن الماوردي فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا وذلك قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض. وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض وقد احتج قوم لسقوط الماوردي بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان" وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وضوء لمن لم يسم الله" وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة وإما بتحديد مواضعها وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء.
والكلام المحيط بأصوله في سبع في جوازه وفي تحديد محله وفي تعيين محله وفي صفته: أعني صفة المحل وفي توقيته وفي شروطه وفي نواقضه:
المسألة الأولى : فأما الجواز ففيه ثلاثة أقوال: القول المشهور أنه جائز على الإطلاق وبه قال جمهور فقهاء الأمصار. والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر. والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها. والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخر آية الوضوء وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار وهو مذهب ابن عباس واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير وذلك أنه روى أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة وقال المتأخرون القائلون بجوازه: ليس بين الآية والآثار تعارض لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له والرخصة إنما هي للابس الخف. وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين. وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة
في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف والمسح على الخفين هو من باب التخفيف فإن نزعه على المسافر.
المسألة الثانية : وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار فقال قوم: إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وأن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب ومالك أحد من رأى هذا والشافعي ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة وشذ أشهب فقال: إن الواجب مسح الباطن أو الأعلى أيهما مسح1 وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه أنه صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وباطنه والآخر حديث علي لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب وحديث علي على الوجوب وهي طريقة حسنة. ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي وإما بحديث المغيرة فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس أعني قياس المسح على الغسل ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند والأسد في هذه المسألة هو مالك. وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة لأنه لا هذا الأثر اتبع ولا هذا القياس استعمل أعني قياس المسح على الغسل.
المسألة الثالثة : وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين واختلفوا في المسح على الجوربين فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري. وسبب اختلافهم
ـــــــ
1 نسخة فاس: والأعلى مستحب.
اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين. واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه ومن صح عنده الأثر أو لصاحب القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلم وصححه الترمذي ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان: إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز.
المسألة الرابعة : وأما صفة الخف فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح واختلفوا في المخرق فقال مالك وأصحابه: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا أقل من ثلاثة أصابع. وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه وممن روي عنه ذلك الثوري ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه. وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين؟ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضها من المسح إلى الغسل ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا. وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج. وقال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم. قلت: هذه المسألة هي مسكوت عنها فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
المسألة الخامسة : وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه
جنابة وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث: أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم. خرجه مسلم. والثاني حديث أبي بن عمارة أنه قال يا رسول الله أأمسح على الخف ؟ قال: "نعم" قال: يوما ؟ قال: "نعم" ويومين ؟ قال: "نعم" قال: وثلاثة ؟ قال: "نعم" حتى بلغ سبعا ثم قال: "امسح ما بدا لك" خرجه أبو داود والطحاوي. والثالث حديث صفوان بن عسال قال: كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من بول أو نوم أو غائط1. قلت: أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم. وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي. وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال: إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت لكن حديث أبي لم يثبت بعد فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة لأن النواقض هي الأحداث.
المسألة السادسة : وأما شرط المسح على الخفين فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه فقال عليه
ـــــــ
1 هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي ثلاثة أيام بلياليهن من غائط وبول ونوم إلا من جنابة.
الصلاة والسلام: "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما؟ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك وبالقول الأول قال أبو حنيفة وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة وقد قال عليه الصلاة والسلام: "وهما طاهرتان" فأخبر عن الطهارة الشرعية. وفي بعض روايات المغيرة إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى فقال مالك: لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق. وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود: يجوز له المسح وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان. وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى؟ ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك.
المسألة السابعة : فأما نواقض هذه الطهارة فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم: إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية, وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة إلا أن مالك رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب الموالاة على الشرط الذي تقدم. وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض
الوضوء وليس عليه غسل وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى. قال الحسن بن حي: إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين وهذه المسألة هي مسكوت عنها. وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين؟ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما وإن قلنا إنه بدل فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور. وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب.
الباب الثالث في المياه.
والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وقوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها إلا ماء البحر فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا وهم محجوجون بتناول اسم الماء المطلق له وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته فظاهر الشرع يعضده وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلب صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا روى في الماء الآجن عن ابن سيرين وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحدة من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور. واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب.
المسألة الأولى : اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه فقال قوم: هو طاهر سواء أكان كثيرا أو قليلا وهي إحدى الروايات عن مالك وبه قال أهل الظاهر وقال قوم: بالفرق بين القليل والكثير فقالوا إن كان قليلا كان نجسا وإن كان كثيرا لم يكن نجسا. وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من قلال هجر وذلك نحو من خمسمائة رطل ومنهم من لم يحد في ذلك حدا ولكن قال: إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه وهذا أيضا مروي عن مالك وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال: قول إن النجاسة تفسده وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه وقول إنه مكروه. وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه" الحديث يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك أيضا حديث أبي هريرة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. وأما حديث أنس الثابت أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها فصاح به الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه" فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب. وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: إنه يستقي من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الماء لا ينجسه
شيء" فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء بنجس حتى أن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت: لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما أعني على الإجزاء. وأما الشافعي وأبو حنيفة فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل وحديث أبي سعيد على الماء الكثير. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه وخرجه أبو داود والترمذي وصححه أبو محمد بن حزم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه والدواب؟ فقال: "إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس. وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم وله إذا تؤمل وجه من النظر وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير وإذا كان ذلك كذلك فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لوحله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل
فناء ذلك الماء وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقى من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة أعني في وقوع الجزء على آخر جزء يبقى من عين النجاسة ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن. واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء وأولى إذنه عندي وأحسنها طريقة في الجمع هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية, وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا فقول لا معنى له لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة ولذلك أجمع العلماء على أن الماء الكثير لا تفسده النجاسة القليلة فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة أو يرد عليها جزءا بعد جزء فإذن هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك والموضعان في غاية التباين لمسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان
عنه وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض.
المسألة الثانية : الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالبا متى غيرت أحد أوصافه فإنه طاهر عند جميع العلماء غير مطهر عند مالك والشافعي ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ. وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء أعني هل يتناوله أو لا يتناوله؟ فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه فيقال ماء كذا لا ماء مطلق لم يجز الوضوء به إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق أجاز به الوضوء ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه إلا ما في كتاب ابن شعبان من إجازة طهر الجمعة بماء الورد. والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم المطلق مثل ما يقال ماء الغسل وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف وقد قال عليه الصلاة والسلام لأم عطية عند أمره أياها بغسل ابنته: "اغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور" فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق وقد روى عن مالك باعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف ولم يجزه مع الكثرة.
المسألة الثالثة : الماء المستعمل في الطهارة. اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فقوم لم يجيزوا الطهارة به على كل حال وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وقوم كرهوه ولم يجيزوا التيمم مع وجوده وهو مذهب مالك وأصحابه وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقا وبه قال أبو ثور وداود وأصحابه وشذ أبو يوسف فقال إنه نجس. وسبب الخلاف في هذا أيضا ما يظن من أنه
نَجَسٌ} فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه. وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع. أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات" وفي بعض طرقه "أولاهن بالتراب" وفي بعضها "وعفروه الثامنة بالتراب" وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" وقرة ثقة عند أهل الحديث. وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" . وأما تعارض الآثار في هذا الباب فمنها أنه روي عنه أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع فقال: "لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا" ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد وترد علينا وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك أن كبشة سكبت له وضوءا فجاءت هرة لتنشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور فذهب مالك بالأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه إلى أن ذلك عبادة غير معللة وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس
يشترط في غسلها العدد فقال: إن هذا الغسل إنما هو عبادة ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده. وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب وأنه يجب أن يغسل الصيد منه وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة. وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من تلك الآثار الواردة بنجاسة والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال: الأسآر تابعة للحوم الحيوان. وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك. وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر فاستثنى من ذلك السباع فقط. أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله ولمعارضة ظاهر الكتاب له ولمعارضة حديث أبي قتادة له إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين والكلب طواف. وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر وما ورد في معناه لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم. وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها. قال القاضي: فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة آسار الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من
القياس وكذلك ظاهر الحديث وعليه أكثر الفقهاء أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها. قال القاضي: وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة. بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا فيخاف منه السم. قال: ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض وهذا الذي قاله رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس فالأولى أن يعطي علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل وهذا طاهر بنفسه وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب لا في مباديها وفي أول حدوثها فلا معنى لاعتراضهم. وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء وإنما فيه ذكر الإناء ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة أعني قبل أن يستحكم به الكلب ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس وتعليل ذلك أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الحضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل إلا أن يقول قائل: إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه.
المسألة الخامسة : اختلف العلماء في أسآر الطهر على خمسة أقوال: فذهب قوم إلى أن أسآر الطهر طاهرة بإطلاق وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن
يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبا أو حائضا وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معا. وقال قوم: لا يجوز وإن شرعا معا وهو مذهب أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار وذلك أن في ذلك أربعة آثار: أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد. والثاني حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها. والثالث حديث الحكم الغفاري أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة, خرجه أبو داود والترمذي. والرابع حديث عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل ولكن يشرعان معا. فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين: مذهب الترجيح ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض. أما من رجح حديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد على سائر الأحاديث لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه ولم يكن عنده فرق بين أن يغتسلا لأن المغتسلين معا كل واحد منهما مغتسل بفضل صاحبه بكذا حديث ميمونة مع هذا الحديث ورجحه على حديث الغفاري فقال بطهر الأسآر على الإطلاق. وأما من رجح حديث الغفاري على حديث ميمونة وهو مذهب أبي محمد بن حزم. وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه من إناء واحد بأن فرق بين الاغتسال معا وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر وعمل على هذين الحديثين فقط أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناء واحد ولم يجز أن يتطهر هو من فضل طهرها وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره. وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة فإنه أخذ بحديث عبد الله بن سرجس لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري وحديث غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد ويكون فيه زيادة وهي أن لا تتوضأ المرأة أيضا بفضل الرجل لكن يعارضه حديث ميمونة وهو حديث خرجه مسلم لكن قد علله كما قلنا بعض الناس من أن بعض رواته قال فيه: أكثر ظني أو أكثر
علمي أن أبا الشعثاء حدثني وأما من لم يجز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة. وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر.
المسألة السادسة : صار أبو حنيفة من بين معظم أصحابه وفقهاء الأمصار إلى إجازة الوضوء بنبيذ التمر في السفر لحديث ابن عباس أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل معك من ماء" ؟ فقال: معي نبيذ في إداوتي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبب فتوضأ به" , وقال: "شراب وطهور" وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله ابن مسعود بمثله وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثمرة طيبة وماء طهور" وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس وأنه لا مخالف لهم من الصحابة فكان كالإجماع عندهم. ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قال فلم يجعل ها هنا وسطا بين الماء والصعيد وبقوله عليه الصلاة والسلام: "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجيج فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" ولهم أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ.
الباب الرابع في نواقض الوضوء
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة
من أحدث حتى يتوضأ" واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك إذا كان خروجها على وجه الصحة.
ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب.
المسألة الأولى : اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي جهة خرج, وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وجماعة ولهم من الصحابة السلف فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد, واعتبر قوم آخرون المخرجين الذكر والدبر فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم أو حصا أو بلغم وعلى أي وجه خرج كان خروجه على سبيل الصحة أو على سبيل المرض وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه و محمد بن الحكم من أصحاب مالك. واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء فلم يروا في الدم والحصاة والبول وضوءا ولا في السلس وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه. والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك. تطرق إلى ذلك ثلاثة احتمالات: أحدها أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. والاحتمال الثالث أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين
السبيلين فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها إنما هو من باب الخاص أريد به العام ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه فالشافعي وأبو على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام واختلفا أي عام هو الذي قصد به؟ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك, والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق وكلاهما ذات واحدة. والفرق بينهما اختلاف المخرجين فكان هذا تنبيها على أن الحكم للمخرج وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية أعني طهارة النجس وبحديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ وبما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف وبما روي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس وإنما اتفق الشافعي وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها وإن خرجت على جهة المرض لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة المستحاضة والاستحاضة مرض. وأما مالك فرأى أن المرض له ها هنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته ويختلف في هذه الزيادة فيه أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة ولكن صححها أبو عمر ابن عبد البر قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثغب دما.
المسألة الثانية : اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب: فقوم رأوا أنه حدث فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء. وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك,
وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله أعني هل يكون منه حدث أم لا؟ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل فأوجبوا في الكثير المستنقل الوضوء دون القليل وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور. ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض وكذلك خروج الحدث اختلف الفقهاء في ذلك فقال مالك: من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء طويلا كان النوم أو قصيرا. ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به. واختلف القول في مذهبه في الراكع فمرة قال حكمه حكم القائم ومرة قال حكمه حكم الساجد. وأما الشافعي فقال: على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا على من نام جالسا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا. وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك وذلك أن هاهنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا كحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه" وما روي أيضا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون وكلها آثار ثابتة وها هنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال وذلك أنه قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ولا ننزعها إلا من جنابة فسوى بين البول والغائط والنوم صححه الترمذي. ومنها حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه" فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ} أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الترجيح ومذهب الجمع فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله وكثيره على ظاهر الأحاديث التي تسقطه أيضا أعني على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة أو من الأحاديث المسقطة ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير والمسقطة للوضوء على القليل وهو كما قلنا مذهب الجمهور والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين. وأما الشافعي فإنما حملها على أن المستثنى من هيئات النائم الجلوس فقط لأنه قد صح ذلك عن الصحابة أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضئون ويصلون. وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم في الاضطجاع فقط لأن ذلك ورد في حديث تزوجها وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنما الوضوء على من نام مضطجعا" والرواية بذلك ثابتة عن عمر. وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سببا للحدث راعى فيه ثلاثة أشياء: الاستثقال أو الطول أو الهيئة فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينها وبينه حجاب ولا ستر فعليه الوضوء وكذلك من قبلها لأن القبلة عندهم لمس ما سواء التذ أو لم يلتذ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس ومرة سوى بينهما ومرة فرق أيضا بين ذوات المحارم والزوجة فأوجب الوضوء على من لمس الزوجة دون ذوات المحارم ومرة سوى بينهما. وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا فارقته اللذة أو قصد اللذة في تفصيل لهم في ذلك وقع بحائل أو بغير حائل بأي
عضو اتفق ما عدا القبلة فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه. ونفى قوم إيجاب الوضوء لمن لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد ومرة تكني به عن الجماع فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص فاشترط فيه اللذة ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه ومن اشترط اللذة فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ فقلت من هي إلا أنت؟ فضحكت قال أبو عمر هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون وإلى تصحيحه مال أبو عمر بن عبد البر قال: وروي هذا الحديث أيضا من طريق معبد بن نباتة وقال الشافعي إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا. وقد اجتمع من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد وينطلق مجازا على الجماع وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز ولأولئك أن يقولوا إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة. والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد وترتفع المعارضة
التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدا من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها وهذا بين بنفسه في كلامهم.
المسألة الرابعة : مس الذكر. اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب فمنهم من رأى الوضوء فيه كيفما مسه وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وداود ومنهم من لم ير فيه وضوءا أصلا وهو أبو حنيفة وأصحابه ولكلا صليت سلف من الصحابة والتابعين. وقوم فرقوا بين أن يمسه بحال أو لا يمسه بتلك الحال وهؤلاء افترقوا فيه فرقا: فمنهم من فرق فيه بين أن يلتذ أو لا يلتذ. ومنهم من فرق بين أن يمسه بباطن الكف أو لا يمسه فأوجبوا الوضوء مع اللذة ولم يوجبوه مع عدمها وكذلك أوجبه قوم مع المس بباطن الكف ولم يوجبوه مع المس بظاهرها وهذان الاعتباران مرويان عن أصحاب مالك وكأن اعتبار باطن الكف راجع إلى اعتبار سبب اللذة. وفرق قوم في ذلك بين العمد والنسيان فأوجبوا الوضوء منه مع العمد ولم يوجبوه مع النسيان وهو مروي عن مالك وهو قول داود وأصحابه. ورأى قوم أن الوضوء من مسه سنة لا واجب. قال أبو عمر: وهذا الذي استقر من مذهب مالك عند أهل المغرب من أصحابه والرواية عنه فيه مضطربة. وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين: احدهما الحديث الوارد عن طريق بسرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر خرجه مالك في الموطأ وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وضعفه أهل الكوفة وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة وكان أحمد بن حنبل يصححه وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة وكان ابن الموطأ أيضا يصححه ولم يخرجه البخاري ولا مسلم. والحديث الثاني المعارض له حديث طلق بن علي قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: "وهل هو إلا بضعة منك" ؟
خرجه أيضا أبو داود والترمذي وصححه كثير من أهل العلم الكوفيون وغيرهم فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين: إما مذهب الترجيح أو النسخ وإما مذهب الجمع فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال أو حمل حديث بسرة على الندب وحديث طلق بن علي على نفي الوجوب والاحتجاجات التي يحتج بها كل واحد من صليت في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها وهي قوما في كتبهم ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه.
المسألة الخامسة : اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول على سقوطه إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة ولما ورد من حديث جابر أنه قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار خرجه أبو داود. ولكن ذهب قوم من أهل الحديث أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
المسألة السادسة : شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة. ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها الصلاة وهو مرسل صحيح.
المسألة السابعة : وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت وفيه أثر ضعيف من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ وينبغي أن تعلم أن جمهور العلماء أوجبوا الوضوء من زوال العقل بأي نوع كان من قبل إغماء أو جنون أو سكر وهؤلاء كلهم قاسوه على النوم أعني أنهم
رأوا أنه إذا كان النوم يوجب الوضوء في الحالة التي هي سبب للحدث غالبا وهو الاستثقال فأحرى أن يكون ذهاب العقل سببا لذلك فهذه هي مسائل الباب المجمع عليها والمشهورات من المختلف فيها وينبغي أن نصير إلى الباب الخامس.
الباب الخامس: معرفة أفعال شروط الطهارة
الباب الخامسوهو معرفة الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية وقوله عليه الصلاة والسلام: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول} فاتفق المسلمون على أن الطهارة شرط من شروط الصلاة لمكان هذا وإن كانوا اختلفوا هل هي شرط من شروط الصحة أو من شروط الوجوب ولم يختلفوا أن ذلك شرط في جميع الصلوات إلا في صلاة الجنازة وفي السجود أعني سجود التلاوة فإن فيه خلافا شاذا. والسبب في ذلك الاحتمال العارض في انطلاق اسم الصلاة على الصلاة على الجنائز وعلى السجود فمن ذهب إلى أن اسم الصلاة ينطلق على صلاة الجنائز وعلى السجود نفسه وهم الجمهور اشترط هذه الطهارة فيهما ومن ذهب إلى أنه لا ينطلق عليهما إذ كانت صلاة الجنائز ليس فيها ركوع ولا سجود وكان السجود أيضا ليس فيه قيام ولا ركوع لم يشترط هذه الطهارة فيهما. ويتعلق بهذا الباب مع هذه المسألة أربع مسائل:
المسألة الأولى : هل هذه الطهارة شرط في مس المصحف أم لا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنها شرط في مس المصحف وذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بشرط في ذلك. والسبب في اختلافهم تردد مفهوم قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} بين أن يكون المطهرون هم بني آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة وبين أن يكون هذا الخبر مفهومه النهي وبين أن يكون خبرا لا نهيا فمن فهم من المطهرون بني آدم وفهم من الخبر النهي قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ المطهرون الملائكة قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط
هذه الطهارة في مس المصحف وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة احتج الجمهور لمذهبهم بحديث عمرو بن حزم أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر, وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها مصحفة ورأيت ابن المفوز يصححها إذا روتها الثقات لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأهل الظاهر يردونها ورخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير لأنهم غير طهر مكلفين.
المسألة الثانية : اختلف الناس في إيجاب الوضوء على الجنب في أحوال: أحدها إذا أراد أن ينام وهو جنب فذهب الجمهور إلى استحبابه دون وجوبه وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ واغسل ذكرك ثم نم" وهو أيضا مروي عنه من طريق عائشة. وذهب الجمهور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبته وجوب الطهارة لإرادة النوم أعني المناسبة الشرعية وقد احتجوا أيضا لذلك بأحاديث أثبتها حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتي بطعام فقالوا: ألا نأتيك بطهر؟ فقال: "أأصلي فأتوضأ" . وفي بعض رواياته: فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: "ما أردت الصلاة فأتوضأ" والاستدلال به ضعيف فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه وقد احتجوا بحديث عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب لا يمس الماء إلا أنه حديث ضعيف. وكذلك اختلفوا في وجوب الوضوء على الجنب الذي يريد أن يأكل أو يشرب وعلى الذي يريد أن يعاود أهله فقال الجمهور في هذا كله بإسقاط الوجوب لعدم مناسبة الطهارة لهذه الأشياء وذلك أن الطهارة إنما فرضت في الشرع لأحوال التعظيم كالصلاة وأيضا لمكان تعارض الآثار في ذلك وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر الجنب إذا أراد أن يعاود أهله أن يتوضأ
وروي عنه أنه كان يجامع ثم يعاود ولا يتوضأ. وكذلك روي عنه منع الأكل والشرب للجنب حتى يتوضأ. وروي عنه إباحة ذلك.
المسألة الثالثة : ذهب مالك والشافعي إلى اشتراط الوضوء في الطواف وذهب أبو حنيفة إلى إسقاطه. وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة أو لا يلحق وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع الحائض الطواف كما منعها الصلاة فأشبه الصلاة من هذه الجهة. وقد جاء في بعض الآثار تسمية الطواف صلاة وحجة أبي حنيفة أنه ليس كل شيء منعه الحيض فالطهارة شرط في فعله إذا ارتفع الحيض كالصوم عند الجمهور.
المسألة الرابعة : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لغير متوضئ أن يقرأ القرآن ويذكر الله وقال قوم: لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ. وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي جهم قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام. والحديث الثاني حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول.
كتاب الغسل
مدخل
كتاب الغسل
والأصل في هذه الطهارة قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} والكلام المحيط بقواعدها ينحصر بعد المعرفة بوجوبها وعلى من تجب ومعرفة ما به تفعل وهو الماء المطلق في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في معرفة العمل في هذه الطهارة. والثاني: في معرفة نواقض هذه الطهارة. والباب الثالث: في معرفة أحكام نواقض هذه الطهارة. فأما على من تجب؟ فعلى كل من لزمته الصلاة ولا خلاف في ذلك وكذلك لا خلاف في وجوبها ودلائل ذلك هي دلائل الوضوء بعينها وقد ذكرناها وكذلك أحكام المياه وقد تقدم القول فيها.الباب الأول في معرفة العمل في هذه الطهارة
وهذا الباب يتعلق به أربع مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه فأكثر العلماء على أن إفاضة الماء كافية في ذلك. وذهب مالك وجل أصحابه و المزني من أصحاب الشافعي إلى أنه إن فات المتطهر موضع واحد من جسده لم يمر يده عليه أن طهره لم يكمل بعد. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث الواردة في وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة وميمونة ليس فيها ذكر التدلك وإنما فيها إفاضة الماء فقط. ففي حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يخلو بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ الدفع للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات ثم يفيض الماء على جلده كله والصفة الواردة في حديث ميمونة المساجد من هذا إلا أنه أخر غسل رجليه من أعضاء الوضوء إلى آخر الطهر وفي حديث أم سلمة أيضا وقد سألته عليه الصلاة والسلام: هل تنقض ضفر رأسها لغسل الجنابة فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وهو أقوى في إسقاط التدلك من تلك الأحاديث الأخر لأنه لا يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك وأما هاهنا فإنما حصر لها شروط الطهارة ولذلك أجمع العلماء على أن صفة الطهارة الواردة من حديث ميمونة وعائشة هي أكمل صفاتها وأن ما ورد في حديث أم سلمة من ذلك فهو من أركانها الواجبة وأن الوضوء في أول الطهر ليس من شرط الطهر إلا خلافا شاذا روي عن الشافعي وفيه قوة من جهة ظواهر الأحاديث وفي قول الجمهور قوة من جهة النظر لأن
الطهارة ظاهر من أمرها أنها شرط في صحة الوضوء لا أن الوضوء شرط في صحتها فهو من باب معارضة القياس الأحاديث على القياس فذهب قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث وغلبوا ذلك على قياسها على الوضوء فلم يوجبوا التدلك وغلب آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر هذه الأحاديث فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى إسقاط التدلك وأعني بالقياس: قياس الطهر على الوضوء. وأما الاحتجاج من طريق الاسم ففيه ضعف إذ كان اسم الطهر والغسل ينطلق في كلام العرب على المعنيين جميعا على حد سواء.
المسألة الثانية : اختلفوا هل من شروط هذه الطهارة النية أم لا؟ كاختلافهم في الوضوء فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأصحابه إلى أن النية من شروطها وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنها المساجد بغير نية كالحال في الوضوء عندهم. وسبب اختلافهم في الطهر هو بعينه سبب اختلافهم في الوضوء وقد تقدم ذلك.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في هذه الطهارة أيضا كاختلافهم فيهما في الوضوء أعني هل هما واجبان فيها أم لا؟ فذهب قوم إلى أنهما غير واجبين فيها وذهب قوم إلى وجوبهما وممن ذهب إلى عدم وجوبهما مالك والشافعي وممن ذهب إلى وجوبهما أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أم سلمة للأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام في طهره وذلك أن الأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه في الطهر فيها المضمضة والاستنشاق وحديث أم سلمة ليس فيه أمر لا بمضمضة ولا باستنشاق فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} أوجب المضمضة والاستنشاق ومن جعله معارضا جمع بينهما بأن حمل حديثي عائشة وميمونة على الندب وحديث أم سلمة على الوجوب ولهذا السبب بعينه اختلفوا في تخليل الرأس هل هو واجب في هذه الطهارة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مستحب ومذهب غيره أنه واجب وقد عضد مذهبه
من أوجب التخليل بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "تحت كل شعرة جنابة فأنقوا البشرة وبلوا الشعر" .
المسألة الرابعة : اختلفوا هل من شرط هذه الطهارة الفور والترتيب أم ليسا من شروطها كاختلافهم من ذلك في الوضوء؟. وسبب اختلافهم في ذلك هل فعله عليه الصلاة والسلام محمول على الوجوب أو على الندب؟ فإنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما توضأ قط إلا مرتبا متواليا وقد ذهب قوم إلى أن الترتيب في هذه الطهارة أبين منها في الوضوء وذلك بين الرأس وسائر الجسد لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي الماء على جسدك" وحرف ثم يقتضي الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة.
الباب الثاني في معرفة نواقض هذه الطهارة
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقوله ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الآية. واتفق العلماء على وجوب الطهارة من حدثين: أحدهما خروج المني على وجه الصحة في النوم أو في اليقظة من ذكر كان أو أنثى إلا ما روي عن النخعي من أنه كان لا يرى على المرأة غسلا من الاحتلام وإنما اتفق الجمهور على مساواة المرأة في الاحتلام للرجل لحديث أم سلمة الثابت أنها قالت: يا رسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل هل عليها غسل؟ قال: "نعم إذا رأت الماء" . وأما الحديث الثاني الذي اتفقوا أيضا عليه فهو دم الحيض أعني إذا انقطع وذلك أيضا لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} الآية. ولتعليمه الغسل من الحيض لعائشة وغيرها من النساء واختلفوا في هذا الباب مما يجري مجرى الأصول في مسألتين مشهورتين.
المسألة الأولى : اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سبب إيجاب الطهر من الوطء فمنهم من رأى الطهر واجبا في التقاء الختانين أنزل أو لم ينزل وعليه أكثر فقهاء الأمصار مالك وأصحابه و الشافعي وأصحابه وجماعة من أهل الظاهر وذهب قوم من أهل الظاهر إلى إيجاب الطهر مع الإنزال فقط.
والسبب في اختلافهم في ذلك تعارض الأحاديث في ذلك لأنه ورد في ذلك حديثان ثابتان اتفق أهل الصحيح على تخريجهما. قال القاضي رضي الله عنه: ومتى قلت ثابت فإنما أعني به ما أخرجه البخاري أو مسلم أو ما اجتمعا عليه أحدهما حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل" والحديث الثاني حديث عثمان أنه سئل فقيل له أرأيت الرجل إذا جامع أهله ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب العلماء في هذين الحديثين مذهبين: أحدهما مذهب النسخ, والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح. فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان ومن الحجة لهم على ذلك ما روى عن أبي بن كعب أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل خرجه أبو داود. وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق وهو وجوب الماء من الماء. وقد رجح الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس قالوا: وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل وحكوا أن هذا القياس مأخوذ عن الخلفاء الأربعة ورجح الجمهور ذلك أيضا من حديث عائشة لإخبارها ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم.
المسألة الثانية : اختلف العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للطهر. فذهب مالك إلى اعتبار اللذة في ذلك. وذهب الشافعي إلى أن نفس خروجه هو الموجب للطهر سواء أخرج بلذة أو بغير لذة وسبب اختلافهم في ذلك هو شيئان: أحدهما هل اسم الجنب ينطلق على الذي أجنب على الجهة الغير المعتادة أم ليس ينطلق عليه؟ فمن رأى أنه إنما ينطلق على الذي أجنب على طريق العادة لم يوجب الطهر في خروجه من غير لذة ومن
رأى أنه ينطلق على خروج المني كيفما خرج أوجب منه الطهر وإن لم يخرج من لذة. والسبب الثاني تشبيه خروجه بغير لذة بدم الاستحاضة واختلافهم في خروج الدم على جهة الاستحاضة هل يوجب طهرا أم ليس يوجبه؟ فسنذكره في باب الحيض وإن كان من هذا الباب.
وفي المذهب في هذا الباب فرع وهو إذا انتقل من أصل مجاريه بلذة ثم خرج في وقت آخر بغير لذة مثل أن يخرج من المجامع بعد أن يتطهر هذا النوع من الخروج صحبته اللذة في بعض نقلته ولم تصحبه في بعض فمن غلب حال اللذة قال: يجب الطهر ومن غلب حال عدم اللذة قال: لا يجب عليه الطهر.
الباب الثالث في أحكام هذين الحدثين أعني الجنابة والحيض
أما أحكام الحدث الذي هو الجنابة ففيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال: فقوم منعوا ذلك بإطلاق وهو مذهب مالك وأصحابه وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه لا مقيم ومنهم الشافعي وقوم أباحوا ذلك للجميع ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب. وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هناك محذوف مقدر وهو موضع الصلاة: أي لا تقربوا موضع الصلاة ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة وبين ألا يكون هنالك محذوف أصلا وتكون الآية على حقيقتها ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ولا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث واختلافهم في الحائض في هذا المعنى هو اختلافهم في الجنب.
المسألة الثانية : مس الجنب المصحف: ذهب قوم إلى إجازته وذهب الجمهور إلى منعه وهم الذين منعوا أن يمسه غير متوضئ. وسبب اختلافهم هو سبب اختلافهم في منع غير المتوضئ أن يمسه أعني قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وقد ذكرنا سبب الاختلاف في الآية فيما تقدم وهو بعينه سبب اختلافهم في منع الحائض مسه.
المسألة الثالثة : قراءة القرآن للجنب: اختلف الناس في ذلك فذهب الجمهور إلى منع ذلك وذهب قوم إلى إباحته. السبب في ذلك الاحتمال المتطرق إلى حديث على أنه قال كان عليه الصلاة والسلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة وذلك أن قوما قالوا: إن هذا لا يوجب شيئا لأنه ظن من الراوي ومن أين يعلم أحد أن ترك القراءة كان لموضع الجنابة إلا لو أخبره بذلك؟ والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن وإنما قاله عن تحقق وقوم جعلوا الحائض في هذا الاختلاف بمنزلة الجنب وقوم فرقوا بينهما فأجازوا للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا وهو مذهب مالك فهذه هي أحكام الجنابة.
وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم
مدخل
وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم:فالكلام المحيط بأصولها ينحصر في ثلاثة أبواب:
الأول : معرفة أنواع الدماء الخارجة من الرحم.
والثاني : معرفة العلامات التي تدل على انتقال الطهر إلى الحيض والحيض إلى الطهر أو الاستحاضة, والاستحاضة أيضا إلى الطهر.
والثالث : معرفة أحكام الحيض والاستحاضة: أعني موانعهما وموجباتهما.
ونحن نذكر في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول لجميع ما في هذا الباب على ما قصدنا إليه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.
الباب الأول
اتفق المسلمون على أن الدماء التي تخرج من الرحم ثلاثة: دم حيض وهو الخارج على جهة الصحة. ودم استحاضة وهو الخارج على جهة المرض,الباب الثاني
أما معرفة علامات انتقال هذه الدماء بعضها إلى بعض وانتقال الطهر إلى الحيض والحيض إلى الطهر فإن معرفة ذلك في الأكثر تنبني على معرفة أيام الدماء المعتادة وأيام الأطهار. ونحن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول وهي سبع مسائل:المسألة الأولى : اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما وبه قال الشافعي, وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام. وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك بل قد تكون الدفعة الواحدة عنده حيضا إلا أنه لا يعتد بها في الأقراء في الطلاق. وقال الشافعي: أقله يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وأما أقل الطهر فاضطربت فيه الروايات عن مالك فروي عنه عشرة أيام وروي عنه ثمانية أيام وروي خمسة عشر يوما وإلى هذه الرواية مال البغداديون من أصحابه وبها قال الشافعي وأبو حنيفة وقيل سبعة عشر يوما وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب. وأما أكثر الطهر فليس له عندهم حد وإذا كان هذا موضوعا من أقاويلهم فمن كان لأقل الحيض عنده قدر معلوم وجب أن يكون ما كان أقل من ذلك القدر إذا ورد في سن الحيض عنده استحاضة ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا وجب أن يكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا أوجب أن تكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة ولكن محصل مذهب مالك في ذلك أن النساء على ضربين: مبتدأة ومعتادة فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى تمام خمسة عشر يوما فإن لم ينقطع صلت وكانت مستحاضة وبه قال الشافعي أن مالكا قال تصلي من حين تتيقن الاستحاضة وعند الشافعي أنها تعيد صلاة ما سلف لها من الأيام إلا أقل الحيض عنده وهو يوم وليلة. وقيل عن مالك بل تعتد أيام ولادتها ثم تستظهر
بثلاثة أيام فإن لم ينقطع الدم فهي مستحاضة. وأما المعتادة ففيها روايتان عن مالك: إحداهما بناؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام ما لم تتجاوز أكثر مدة الحيض. والثانية جلوسا إلى انقضاء أكثر مدة الحيض أو تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز. وقال الشافعي: تعمل على أيام عادتها وهذه الأقاويل كلها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر لا مستند لها إلا التجربة والعادة وكل إنما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا وإنما أجمعوا بالجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة الحيض أنه استحاضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت لفاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" والمتجاوزة لأمد أكثر أيام الحيض قد ذهب عنها قدرها ضرورة وإنما صار الشافعي ومالك رحمه الله في المعتادة في إحدى الروايتين عنه إلى أنها تبني على عادتها لحديث أم سلمة الذي رواه في الموطأ أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي" فألحقوا حكم الحائض التي تشك في الاستحاضة بحكم المستحاضة التي تشك في الحيض. وإنما رأى أيضا في المبتدأة أن يعتبر أيام ولادتها لأن أيام ولادتها شبيهة بأيامها فجعل حكمهما واحدا. وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام, فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه رحمهم الله وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي, إذ لم يكن لذلك ذكر في الأحاديث الثابتة وقد روي في ذلك أثر ضعيف.
المسألة الثانية : ذهب مالك وأصحابه في الحائض التي تنقطع حيضتها,
وذلك بأن تحيض يوما أو يومين وتطهر يوما أو يومين إلى أنها تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل في كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي فإنها لا تدري لعل ذلك طهر فإذا اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما فهي مستحاضة وبهذا القول قال الشافعي. وروي عن مالك أيضا أنها تلفق أيام الدم وتعتبر بذلك أيام عادتها فإن ساوتها استظهرت بثلاثة أيام فإن انقطع الدم وإلا فهي مستحاضة وجعل الأيام التي لا ترى فيها الدم غير معتبرة في العدد لا معنى له فإنه لا تخلو تلك الأيام أن تكون أيام حيض أو أيام طهر فإن كانت أيام حيض فيجب أن تلفقها إلى أيام الدم وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم إذ كان قد تخللها طهر والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين فتدبر هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو النفاس كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أقل النفاس وأكثره فذهب مالك إلى أنه لا حد لأقله وبه قال الشافعي وذهب أبو حنيفة وقوم إلى أنه محدود فقال أبو حنيفة: هو خمسة وعشرون يوما وقال أبو يوسف صاحبه: أحد عشر يوما وقال الحسن البصري: عشرون يوما. وأما أكثره فقال مالك مرة: هو ستون يوما ثم رجع عن ذلك فقال: يسأل عن ذلك النساء وأصحابه ثابتون على القول الأول وبه قال الشافعي. وأكثر أهل العلم من الصحابة على أن أكثره أربعون يوما وبه قال أبو حنيفة وقد قيل تعتبر المرأة في ذلك أيام أشباهها من النساء فإذا جاوزتها فهي مستحاضة. وفرق قوم بين ولادة الذكر وولادة الأنثى فقالوا: للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أربعون يوما وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر.
المسألة الرابعة : اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة؟ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه وغيرهما إلى أن الحامل تحيض وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن الحامل لا تحيض وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة إلا أن يصيبها الطلق فإنهم أجمعوا على أنه دم نفاس وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك من أحكامه ولمالك وأصحابه في معرفة انتقال الحائض الحامل إذا تمادى بها الدم من حكم الحيض إلى حكم الاستحاضة أقوال مضطربة: أحدها أن حكمها حكم الحائض نفسها أعني إما أن تقعد أكثر أيام الحيض ثم هي مستحاضة وإما أن تستظهر على أيامها المعتادة بثلاثة أيام ما لم يكن مجموع ذلك أكثر من خمسة عشر يوما وقيل إنها تقعد حائضا ضعف أكثر أيام الحيض وقيل إنها تضعف أكثر أيام الحيض بعدد الشهور التي مرت لها ففي الشهر الثاني من حملها تضعف أيام أكثر الحيض مرتين وفي الثالث ثلاث مرات وفي الرابع أربع مرات وكذلك ما زادت الأشهر. وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل لضعف الجنين ومرضه التابع لضعفها ومرضها في الأكثر فيكون دم علة ومرض وهو في الأكثر دم علة.
المسألة الخامسة : اختلف الفقهاء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا؟ فرأت جماعة أنها حيض في أيام الحيض وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وروي مثل ذلك عن مالك. وفي المدونة عنه: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أو لم تره. وقال داود وأبو يوسف: إن الصفرة والكدرة لا تكون حيضة إلا بأثر الدم. والسبب في اختلافهم مخالفة ظاهر حديث أم عطية لحديث عائشة وذلك أنه روي عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا وروى عن عائشة: أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول: لا تعجلن حتى ترين
القصة البيضاء. فمن رجح حديث عائشة جعل الصفرة والكدرة حيضا سواء طهرت في أيام الحيض أو في غير أيامه مع الدم أو بلا دم فإن حكم الشيء الواحد في نفسه ليس يختلف ومن رام الجمع بين الحديثين قال: إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم وحديث عائشة في أثر انقطاعه أو أن حديث عائشة هو في أيام الحيض وحديث أم عطية في غير أيام الحيض. وقد ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة والكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دم الحيض دم أسود يعرف" ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم وهو مذهب أبي محمد بن حزم.
المسألة السادسة : اختلف الفقهاء في علامة الطهر فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء أو الجفوف وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف أي ذلك رأت طهرت به. وفرق قوم فقالوا: إن كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف وذلك في المدونة عن مالك. وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط وقد قيل إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف وقد قيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك.
المسألة السابعة : اختلف الفقهاء في المستحاضة إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم الحائض كما اختلفوا في الحائض إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم المستحاضة وقد تقدم ذلك فقال مالك في المستحاضة أبدا: حكمها حكم الطاهرة إلى أن يتغير الدم إلى صفة الحيض وذلك إذا مضى لاستحاضتها من الأيام ما هو أكثر من أقل أيام الطهر فحينئذ تكون حائضا: أعني إذا اجتمع لها هذان الشيئان تغير الدم وأن يمر لها في الاستحاضة من الأيام ما يمكن أن يكون طهرا وإلا فهي مستحاضة أبدا. وقال أبو حنيفة تقعد أيام عادتها إن كانت لها عادة وإن كانت مبتدأة قعدت أكثر الحيض
وذلك عنده عشرة أيام. وقال الشافعي: تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز وإن كانت من أهل العادة عملت على العادة وإن كانت من أهلهما معا فله في ذلك قولان: أحدهما تعمل على التمييز والثاني على العادة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين مختلفين أحدهما حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها وكانت مستحاضة أن تدع الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم تغتسل وتصلي وفي معناه أيضا حديث أم سلمة المتقدم الذي خرجه مالك والحديث الثاني ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيضة أسود يعرف فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" وهذا الحديث صححه أبو محمد بن حزم فمن هؤلاء من ذهب مذهب الترجيح ومنهم من ذهب مذهب الجمع فمن ذهب مذهب ترجيح حديث أم سلمة وما ورد في معناه قال باعتبار الأيام و مالك رضي الله عنه اعتبر عدد الأيام فقط في الحائض التي تشك في الحيض أعني لا عددها ولا موضعها من الشهر إذ كان عندها ذلك معلوما والنص إنما جاء في المستحاضة التي تشك في الحيض فاعتبر الحكم في الفرع ولم يعتبره في الأصل وهذا غريب فتأمله. ومن رجح حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال باعتبار اللون ومن هؤلاء من راعى مع اعتبار لون الدم مضي ما يمكن أن يكون طهرا من أيام الاستحاضة وهو قول مالك فيما حكاه عبد الوهاب. ومنهم من لم يراع ذلك. ومن جمع بين الحديثين قال: الحديث الأول هو في التي تعرف عدد أيامها من الشهر وموضعها. والثاني في التي لا تعرف عددها ولا موضعها وتعرف لون الدم ومنهم من رأى أنها إن لم تكن من أهل التمييز ولا تعرف موضع أيامها من الشهر وتعرف عددها أو لا تعرف عددها أنها تتحرى على حديث حمنة بنت جحش صححه الترمذي وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنما هي ركضة
من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسيأتي الحديث بكماله عند حكم المستحاضة في الطهر, فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب, وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع: أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض. والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر. والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة. والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض وهو الذي وردت فيه الأحاديث. وأما الثلاثة فمسكوت عنها: أعني عن تحديدها وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة.
الباب الثالث
وهو معرفة أحكام الحيض والاستحاضةوالأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية, والأحاديث الواردة في ذلك التي سنذكرها. واتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء: أحدها فعل الصلاة ووجوبها أعني أنه ليس يجب على الحائض قضاؤها بخلاف الصوم. والثاني أنه يمنع فعل الصوم لا قضاؤه وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة, وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج. والثالث فيما أحسب الطواف لحديث عائشة الثابت حين أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفعل كل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت. والرابع الجماع في الفرج لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الآية.
واختلفوا من أحكامها في مسائل نذكر منها مشهوراتها وهي خمس:
المسألة الأولى : اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: له منها ما فوق الإزار فقط. وقال سفيان الثوري وداود الظاهري: إنما يجب عليه أن يجتنب موضع الدم فقط. وسبب اختلافهم ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك والاحتمال الذي في مفهوم آية الحيض, وذلك أنه ورد في الأحاديث الصحاح عن عائشة وميمونة
وأم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر إذا كانت إحداهن حائضا أن تشد عليها إزارها ثم يباشرها. وورد أيضا من حديث ثابت بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح" وذكر أبو داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض: "اكشفي عن فخذك" قالت: فكشفت فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ وكان قد أوجعه البرد. وأما الاحتمال الذي في آية الحيض فهو تردد قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} بين أن يحمل على عمومه إلا ما خصصه الدليل أو أن يكون من باب العام أريد به الخاص بدليل قوله تعالى فيه: {قُلْ هُوَ أَذىً} والأذى إنما يكون في موضع الدم فمن كان المفهوم منه عنده العموم أعني أنه إذا كان الواجب عنده أن يحمل هذا القول على عمومه حتى يخصصه الدليل استثنى من ذلك ما فوق الإزار بالسنة إذ المشهور جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الأصوليين ومن كان عنده من باب العام أريد به الخاص رجح هذه الآية على الآثار المانعة مما تحت الإزار وقوى ذلك عنده بالآثار المعارضة للآثار المانعة مما تحت الإزار الجمع بين هذه الآثار وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة ومفهوم الآية على الجواز ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة أنه ليس من جسم الحائض شيء نجس إلا موضع الدم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عائشة أن تناوله الخمرة وهي حائض فقالت: إني حائض فقال عليه الصلاة والسلام: "إن حيضتك ليست في يدك" وما ثبت أيضا من ترجيلها رأسه عليه الصلاة والسلام وهي حائض وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المؤمن لا ينجس" .
المسألة الثانية : اختلفوا في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل وذهب
أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر أمد الحيض وهو حائض طهرت متى طهرت وبه قال أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ ثم إن كان الطهر بالماء فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج؟ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين لا على ما يكون من فعل غيرهم فيكون قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه ورجح أبو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء. والمسألة كما ترى محتملة ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظة يطهرن النقاء ويفهم من لفظ تطهرن الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار فإذا دخل المسجد فأعطه درهما بل إنما يقولون وإذا دخل الدار فأعطه درهما لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى. ومن تأول قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} على أنه النقاء وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار فإذا دخل المسجد فأعطه درهما وذلك غير مفهوم في كلام العرب إلا أن يكون هنالك محذوف ويكون تقدير الكلام: ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله وفي تقدير هذا الحذف بعد أما
ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية فإن الحذف مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز وكذلك فرض المجتهد هاهنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ يطهرن على ظاهره من النقاء فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال وظهور لفظ يطهرن في النقاء فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد أعني إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله, وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال: كل مجتهد مصيب. وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف.
المسألة الثالثة : اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه. وقال أحمد بن حنبل: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أنه يتصدق بدينار. وروي عنه بنصف دينار. وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار. وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وروي في هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار وبه قال الأوزاعي فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل.
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في المستحاضة فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار وأكثر هؤلاء أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وأول وقت العشاء وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا وهو مروي عن علي. ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. وقول إن عليها الطهر لكل صلاة. وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك, وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته وثلاثة مختلف فيها. أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: "لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي بعض روايات هذا الحديث "وتوضئي لكل صلاة" وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم وخرجها أبو داود
وصححها قوم من أهل الحديث. والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة أسنده إسحاق عن الزهري وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه: أنها استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إنما هو عرق وليست بالحيضة" وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه لا أن ذلك منقول عن لفظه عليه الصلاة والسلام ومن هذا الطريق خرجه البخاري. وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتغسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والغشاء غسلا واحدا وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك" خرجه أبو داود وصححه أبو محمد بن حزم. وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب: مذهب النسخ ومذهب الترجيح ومذهب الجمع ومذهب البناء والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر فتأمل هذا فإنه فرق بين. أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة ابنة أبي حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد ولا بشيء من تلك إذنه وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور ومن صحت عنه من هؤلاء الزيادة الواردة فيه وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها ومن لم تصح عنده
لم يوجب ذلك عليها وأما من ذهب مذهب البناء فقال: إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا؟ فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة إلا عند انقطاع دم الحيض وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض. وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر الواجب عليها عند انقطاع دم الحيض فمضمن في قوله: "إنها ليست بالحيضة" لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة هل الزيادة نسخ أم لا؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء. وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة واستدل على ذلك بما روي عن عائشة أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. وأما حديث أسماء فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم
وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين. وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها. ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة وهذا هو قول خامس في المسألة إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات. وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا.
المسألة الخامسة : اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يجوز وطؤها وهو الذي عليه فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس و سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وقال قوم: ليس يجوز وطؤها وهو مروي عن عائشة وبه قال النخعي والحكم. وقال قوم: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها وبهذا القول قال أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر؟ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها ومن رأى أن ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك, وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها. وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان.
كتاب التيمم
مدخل
كتاب التيمم
والقول المحيط بأصول هذا الكتاب يشتمل بالجملة على سبعة أبواب:الباب الأول: في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها.
الثاني : معرفة من تجوز له هذه الطهارة.
الثالث : في معرفة شروط جواز هذه الطهارة.
الرابع : في صفة هذه الطهارة.
الخامس : فيما تصنع به هذه الطهارة.
السادس : في نواقض هذه الطهارة. السابع: في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها.
الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها
اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من هذه الطهارة الصغرى واختلفوا في الكبرى فروي عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى وكان علي وغيره من أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى وبه قال عامة الفقهاء. والسبب في اختلافهم الاحتمال الوارد في آية التيمم وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} يحتمل أن يعود الضمير الذي فيه على المحدث حدثا أصغر فقط ويحتمل أن يعود عليهما معا لكن من كانت الملامسة عنده في الآية الجماع فالأظهر أنه عائد عليهما معا ومن كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد أعني في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فالأظهر أنه إنما يعود الضمير عنده على المحدث حدثا أصغر فقط إذ كانت الضمائر إنما يحمل أبدا عودها على أقرب مذكور إلا أن يقدر في الآية تقديما وتأخيرا حتى يكون تقديرها هكذا يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا: وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. ومثل هذا ليس ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل فإن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز وقد يظن أن في الآية شيئا يقتضي تقديما وتأخيرا وهو أن حملها على ترتيبها يوجب أن المرض والسفر حدثان لكن هذا لا يحتاج إليه إذا قدرت أو هاهنا بمعنى الواو وذلك موجود في كلام العرب في مثل قول الشاعر:
وكان سيان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السرح
فإنه إنما يقال: سيان زيد وعمرو. وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة. وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم: أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال:
الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها
اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من هذه الطهارة الصغرى واختلفوا في الكبرى فروي عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى وكان علي وغيره من أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى وبه قال عامة الفقهاء. والسبب في اختلافهم الاحتمال الوارد في آية التيمم وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} يحتمل أن يعود الضمير الذي فيه على المحدث حدثا أصغر فقط ويحتمل أن يعود عليهما معا لكن من كانت الملامسة عنده في الآية الجماع فالأظهر أنه عائد عليهما معا ومن كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد أعني في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فالأظهر أنه إنما يعود الضمير عنده على المحدث حدثا أصغر فقط إذ كانت الضمائر إنما يحمل أبدا عودها على أقرب مذكور إلا أن يقدر في الآية تقديما وتأخيرا حتى يكون تقديرها هكذا يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا: وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. ومثل هذا ليس ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل فإن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز وقد يظن أن في الآية شيئا يقتضي تقديما وتأخيرا وهو أن حملها على ترتيبها يوجب أن المرض والسفر حدثان لكن هذا لا يحتاج إليه إذا قدرت أو هاهنا بمعنى الواو وذلك موجود في كلام العرب في مثل قول الشاعر:
وكان سيان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السرح
فإنه إنما يقال: سيان زيد وعمرو. وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة. وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم: أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال:
الباب الثاني في معرفة من تجوز له هذه الطهارة
وأما من تجوز له هذه الطهارة فأجمع العلماء أنها تجوز لاثنين: للمريض
الباب الثالث في معرفة شروط جواز هذه الطهارة
وأما معرفة شروط هذه الطهارة فيتعلق بها ثلاث مسائل قواعد: إحداها: هل النية من شرط هذه الطهارة أم لا؟. والثانية: هل الطلب شرط في جواز التيمم عند عدم الماء أم لا؟ والثالثة: هل دخول الوقت شرط في جواز التيمم أم لا؟.
أما المسألة الأولى : فالجمهور على أن النية فيها شرط لكونها عبادة غير معقولة المعنى وشذ زفر فقال: إن النية ليست بشرط فيها وأنها لا تحتاج إلى نية وقد روي ذلك أيضا عن الأوزاعي والحسن بن حي وهو ضعيف.
وأما المسألة الثانية : فإن مالكا رضي الله عنه اشترط الطلب وكذلك الشافعي ولم يشترطه أبو حنيفة. سبب اختلافهم في هذا هو هل يسمى من لم يجد الماء دون واجد للماء أم ليس واجد للماء إلا إذا طلب الماء فلم يجده؟ لكن الحق في هذا أن يعتقد أن المتيقن لعدم الماء إما بطلب متقدم وإما بغير ذلك هو عادم للماء وأما الظان فليس بعادم للماء ولذلك يضعف القول بتكرر الطلب الذي في المذهب في المكان الواحد بعينه ويقوى اشتراطه ابتداء إذا لم يكن هنالك علم قطعي بعدم الماء.
وأما المسألة الثالثة : وهو اشتراط دخول الوقت فمنهم من اشترطه وهو مذهب الشافعي ومالك ومنهم من لم يشترطه وبه قال أبو حنيفة وأهل الظاهر وابن شعبان من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل ظاهر مفهوم آية الوضوء يقتضي أن لا يجوز التيمم والوضوء إلا عند دخول الوقت لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية فأوجب الوضوء والتيمم عند وجوب القيام إلى الصلاة وذلك إذا دخل الوقت فوجب لهذا أن يكون حكم الوضوء والتيمم في هذا حكم الصلاة أعني أنه كما أن الصلاة من شرط صحتها الوقت كذلك من شروط صحة الوضوء
والتيمم الوقت إلا أن الشرع خصص الوضوء من ذلك فبقي التيمم على أصله أم ليس يقتضي هذا ظاهر مفهوم الآية وأن تقدير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأيضا فإنه لو لم يكن هنالك محذوف لما كان يفهم من ذلك إلا إيجاب الوضوء والتيمم عند وجوب الصلاة فقط لا أنه لا يجزئ إن وقع قبل الوقت إلا أن يقاسا على الصلاة فلذلك الأولى أن يقال في هذا إن سبب الخلاف فيه هو قياس التيمم على الصلاة لكن هذا يضعف فإن قياسه على الوضوء أشبه فتأمل هذه المسألة فإنها ضعيفة أعني من يشترط في صحته دخول الوقت ويجعله من العبادات المؤقتة فإن التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي وإنما يسوغ القول بهذا إذا كان على رجاء من وجود الماء قبل دخول الوقت فيكون هذا ليس من باب أن هذه العبادة مؤقتة لكن من باب أنه ليس ينطلق اسم الغير واجد للماء إلا عند دخول وقت الصلاة لأنه ما لم يدخل وقتها أمكن أن يطرأ هو على الماء ولذلك اختلف المذهب متى يتيمم؟ هل في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره؟ لكن ههنا مواضع يعلم قطعا أن الإنسان ليس بطارئ على الماء فيها قبل دخول الوقت ولا الماء بطارئ عليه. وأيضا فإن قدرنا طرو الماء فليس يجب عليه إلا نقض التيمم فقط لا منع صحته وتقدير الطرو هو ممكن في الوقت وبعده فلم جعل حكمه قبل دخول الوقت خلاف حكمه في الوقت أعني أنه قبل الوقت يمنع انعقاد التيمم وبعد دخول الوقت لا يمنعه وهذا كله لا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل سمعي ويلزم على هذا أن لا يجوز التيمم إلا في آخر الوقت فتأمله.
الباب الرابع في صفة هذه الطهارة
وأما صفة هذه الطهارة فيتعلق بها ثلاث مسائل هي قواعد هذا الباب.
المسألة الأولى : اختلف الفقهاء في حد الأيدي التي أمر الله بمسحها في التيمم في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} على أربعة أقوال: القول الأول : أن الحد الواجب في ذلك هو الحد الواجب بعينه في الوضوء وهو إلى المرافق وهو مشهور المذهب وبه قال فقهاء الأمصار.
والقول
الثاني : أن الفرض هو مسح الكف فقط وبه قال أهل الظاهر وأهل الحديث والقول الثالث: الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان وهو مروي عن مالك.
والقول الرابع : أن الفرض إلى المناكب وهو شاذ روي عن الزهري ومحمد بن مسلمة. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم اليد في لسان العرب وذلك أن اليد في كلام العرب يقال على ثلاثة معان: على الكف فقط وهو أظهرها استعمالا ويقال على الكف والذراع ويقال على الكف والساعد والعضد. والسبب الثاني اختلاف الآثار في ذلك وذلك أن حديث عمار المشهور فيه من الإشارة الثابتة إنما يكفيك أن تضرب بيدك ثم تنفخ فيها ثم تمسح بها وجهك وكفيك. وورد في بعض الإشارة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: "وأن تمسح بيديك إلى المرفقين" . وروي أيضا عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" وروي أيضا من طريق ابن عباس ومن طريق غيره فذهب الجمهور إلى ترجيح هذه الأحاديث على حديث عمار الثابت من جهة عضد القياس لها: أعني من جهة قياس التيمم على الوضوء وهو بعينه حملهم على أن عدلوا بلفظ اسم اليد عن الكف الذي هو فيه أظهر إلى الكف والساعد ومن زعم أنه ينطلق عليهما بالسواء وأنه ليس في أحدهما أظهر منه في الثاني فقد أخطأ فإن اليد وإن كانت أعطى مشتركا فهي في الكف حقيقة وفيما فوق الكف مجاز وليس كل اسم مشترك هو مجمل وإنما المشترك المجمل الذي وضع من أول أمره مشتركا وفي هذا قال الفقهاء إنه لا يصح الاستدلال به ولذلك ما نقول إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء فإن كان أظهر فيجب المصير إليه على ما يجب المصير إلى الأخذ بالظاهر وإن لم يكن أظهر فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت فأما أن يغلب القياس هاهنا على الأثر فلا معنى له ولا أن ترجح به أيضا أحاديث لم تثبت بعد فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة فتأمله. وأما من ذهب إلى الآباط فإنما ذهب إلى ذلك لأنه قد روي في بعض طرق حديث عمار أنه قال
تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب. ومن ذهب إلى أن يحمل تلك الأحاديث على الندب وحديث عمار على الوجوب فهو مذهب حسن إذا كان الجمع أولى من الترجيح عند أهل الكلام الفقهي إلا أن هذا إنما ينبغي أن يصار إليه إن صحت تلك الأحاديث.
المسألة الثانية : اختلف العلماء في عدد الضربات على الصعيد للتيمم فمنهم من قال واحدة ومنهم من قال اثنتين والذين قالوا اثنتين منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين وهم الجمهور وإذا قلت الجمهور فالفقهاء الثلاثة معدودون فيهم: أعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة. ومنهم من قال: ضربتان لكل واحد منهما: أعني لليد ضربتان وللوجه ضربتان. والسبب في اختلافهم أن الآية مجملة في ذلك والأحاديث متعارضة وقياس التيمم على الوضوء في جميع أحواله غير متفق عليه والذي في حديث عمار الثابت من ذلك إنما هو ضربة واحدة للوجه والكفين معا لكن ها هنا أحاديث فيها ضربتان فرجح الجمهور هذه الأحاديث لمكان قياس التيمم على الوضوء.
المسألة الثالثة : اختلف الشافعي مع مالك وأبي حنيفة وغيرهما في وجوب توصيل التراب إلى أعضاء التيمم فلم ير ذلك أبو حنيفة واجبا ولا مالك ورأى ذلك الشافعي واجبا. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في حرف من في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وذلك أن من ترد للتبعيض وقد ترد لتمييز الجنس فمن ذهب إلى أنها هنا للتبعيض أوجب نقل التراب إلى أعضاء التيمم. ومن رأى أنها لتمييز الجنس قال: ليس النقل واجبا. و الشافعي إنما رجح حملها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء لكن يعارضه حديث عمار المتقدم لأن فيه ثم تنفخ فيها وتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحائط. وينبغي أن تعلم أن الاختلاف في وجوب الترتيب في التيمم ووجوب الفور فيه هو بعينه اختلافهم في ذلك في الوضوء وأسباب الخلاف هنالك هي أسبابه هنا فلا معنى لإعادته.
الباب الخامس فيما تصنع به هذه الطهارة
وفيه مسألة واحدة وذلك أنهم اتفقوا على جوازها بتراب الحرث الطيب واختلفوا في جواز فعلها بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولدة عنها كالحجارة فذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وذهب مالك وأصحابه إلى أنه يجوز التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها في المشهور عنه الحصا والرمل والتراب. وزاد أبو حنيفة فقال: وبكل ما يتولد من الأرض من الحجارة مثل النورة والزرنيخ والجص والطين والرخام. ومنهم من شرط أن يكون التراب على وجه الأرض وهم الجمهور. وقال أحمد بن حنبل: يتيمم بغبار الثوب واللبد. والسبب في اختلافهم شيئان: أحدهما اشتراك اسم الصعيد في لسان العرب فإنه مرة يطلق على التراب الخالص ومرة يطلق على جميع أجزاء الأرض الظاهرة حتى أن مالكا وأصحابه حملهم دلالة اشتقاق هذا الاسم أعني الصعيد أن يجيزوا في إحدى الروايات عنهم التيمم على الحشيش وعلى الثلج قالوا: لأنه يسمى صعيدا في أصل التسمية أعني من جهة صعوده على الأرض وهذا ضعيف. والسبب الثاني إطلاق اسم الأرض في جواز التيمم بها في بعض روايات الحديث المشهور وتقييدها بالتراب في بعضها وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" فإن في بعض رواياته "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وفي بعضها "جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت لي تربتها طهورا" وقد اختلف أهل الكلام الفقهي هل يقضى بالمطلق على المقيد أو بالمقيد على المطلق؟ والمشهور عندهم أن يقضى بالمقيد على المطلق وفيه نظر ومذهب أبي محمد بن حزم أن يقضى بالمطلق على المقيد لأن المطلق فيه زيادة معنى فمن كان رأيه القضاء بالمقيد على المطلق وحمل اسم الصعيد الطيب على التراب لم يجز التيمم إلا بالتراب ومن قضى بالمطلق على المقيد وحمل اسم الصعيد على كل ما على وجه الأرض من أجزائها أجاز التيمم بالرمل والحصى. وأما إجازة التيمم بما يتولد منها فضعيف إذ كان لا يتناوله اسم الصعيد فإن أعم دلالة اسم الصعيد أن يدل على ما تدل عليه الأرض لا أن
يدل على الزرنيخ والنورة ولا على الثلج والحشيش والله الموفق للصواب. والاشتراك الذي في اسم الطيب أيضا من أحد دواعي الخلاف.
الباب السادس في نواقض هذه الطهارة
وأما نواقض هذه الطهارة فإنهم اتفقوا على أنه ينقضها ما ينقض الأصل الذي هو الوضوء أو الطهر واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما هل ينقضها إرادة صلاة أخرى مفروضة غير المفروضة التي تيمم لها؟. والمسألة الثانية هل ينقضها وجود الماء أم لا؟.
أما المسألة الأولى : فذهب مالك فيها إلى أن إرادة الصلاة الثانية تنقض طهارة الأولى ومذهب غيره خلاف ذلك. وأصل هذا الخلاف يدور على شيئين: أحدهما هل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} محذوف مقدر أعني إذا قمتم من النوم أو قمتم: محدثين أم ليس هنالك محذوف أصلا؟ فمن رأى أن لا محذوف هنالك قال: ظاهر الآية وجوب الوضوء أو التيمم عند القيام لكل صلاة لكن خصصت السنة من ذلك الوضوء فبقي التيمم على أصله لكن لا ينبغي أن يحتج بهذا لمالك فإن مالكا يرى أن في الآية محذوفا على ما رواه عن زيد بن أسلم في موطئه. وأما السبب الثاني فهو تكرار الطلب عند دخول وقت كل صلاة وهذا هو ألزم لأصول مالك أعني أن يحتج له بهذا وقد تقدم القول في هذه المسألة ومن لم يتكرر عنده الطلب وقدر في الآية محذوفا لم ير إرادة الصلاة الثانية مما ينقض التيمم.
وأما المسألة الثانية : فإن الجمهور ذهبوا إلى أن وجود الماء ينقضها. وذهب قوم إلى أن الناقض لها هو الحدث وأصل هذا الخلاف هل وجود الماء يرفع استصحاب الطهارة التي كانت بالتراب أو يرفع ابتداء الطهارة به؟ فمن رأى أنه يرفع ابتداء الطهارة به قال: لا ينقضها إلا الحدث. ومن رأى أنه يرفع استصحاب الطهارة قال: إنه ينقضها فإن حد الناقض هو الرافع للاستصحاب وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ما لم يجد الماء" والحديث
محتمل فإنه يمكن أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: "ما لم يجد الماء" يمكن أن يفهم منه فإذا وجد الماء انقطعت هذه الطهارة وارتفعت ويمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء لم تصح ابتداء هذه الطهارة والأقوى في عضد الجمهور هو حديث أبي سعيد الخدري وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" فإن الأمر محمول عند جمهور المتكلمين على الفور وإن كان أيضا قد يتطرق إليه الاحتمال المتقدم فتأمل هذا. وقد حمل الشافعي تسليمه أن وجود الماء يرفع هذه الطهارة أن قال: إن التيمم ليس رافعا للحدث: أي ليس مفيدا للمتيمم الطهارة الرافعة للحدث وإنما هو مبيح للصلاة فقط مع بقاء الحدث وهذا لا معنى له فإن الله قد سماه طهارة وقد ذهب قوم من أصحاب مالك هذا المذهب فقالوا: إن التيمم لا يرفع الحدث لأنه لو رفعه لم ينقضه إلا الحدث. والجواب أن هذه الطهارة وجود الماء في حقها هو حدث خاص بها على القول بأن الماء ينقضهما واتفق القائلون بأن وجود الماء ينقضها على أنه ينقضها قبل الشروع في الصلاة وبعد الصلاة واختلفوا هل ينقضها طروه في الصلاة؟ فذهب مالك والشافعي وداود إلى أنه لا ينقض الطهارة في الصلاة وذهب أبو حنيفة وأحمد وغيرهما إلى أنه ينقض الطهارة في الصلاة وهم أحفظ للأصل لأنه أمر غير مناسب للشرع أن يوجد شيء واحد لا ينقض الطهارة في الصلاة وينقضها في غير الصلاة وبمثل هذا شنعوا على مذهب أبي حنيفة فيما يراه من أن الضحك في الصلاة ينقض الوضوء مع أنه مستند في ذلك إلى الأثر فتأمل هذه المسألة فإنها بينة ولا حجة في الظواهر التي يرام الاحتجاج بها لهذا المذهب من قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فإن هذا لم يبطل الصلاة بإرادته وإنما أبطلها طرو الماء كما لو أحدث.
الباب السابع في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها
واتفق الجمهور على أن الأفعال التي هذه الطهارة شرط في صحتها هي الأفعال التي الوضوء شرط في صحتها من الصلاة ومس المصحف وغير ذلك,
واختلفوا هل يستباح بها أكثر من صلاة واحدة فقط؟ فمشهور مذهب مالك أنه لا يستباح بها صلاتان مفروضتان أبدا واختلف قوله في الصلاتين المقضيتين والمشهور عنه أنه إذا كانت إحدى الوقوف فرضا والأخرى نفلا أنه إن قدم الفرض جمع بينهما. وإن قدم النفل لم يجمع بينهما وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز الجمع بين صلوات مفروضة بتيمم واحد. وأصل هذا الخلاف هو: هل التيمم لكل صلاة أم لا؟ إما من قبل ظاهر الآية كما تقدم وإما من قبل وجوب تكرار الطلب وإما من كليهما.
كتاب الطهارة من النجس
مدخل
كتاب الطهارة من النجس
والقول المحيط بأصول هذه الطهارة وقواعدها ينحصر في ستة أبواب. الباب الأول: في معرفة حكم هذه الطهارة: أعني في الوجوب أو في الندب إما مطلقا وإما من جهة أنها مشترطة في الصلاة. الباب الثاني: في معرفة أنواع النجاسات. الباب الثالث: في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها. الباب الرابع: في معرفة الشيء الذي به تزال. الباب الخامس: في صفة إزالتها في محل محل. الباب السادس: في آداب الإحداث.الباب الأول في معرفة حكم هذه الطهارة
والأصل في هذا الباب أما من الكتاب فقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وأما من السنة فآثار كثيرة ثابتة منها قوله عليه الصلاة والسلام: "من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر" ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيض من الثوب وأمره بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي, وقوله عليه الصلاة والسلام في صاحبي القبر: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول" واتفق العلماء لمكان هذه المسموعات على أن إزالة النجاسة مأمور بها في الشرع واختلفوا: هل ذلك على الوجوب أو على الندب المذكور وهو الذي يعبر عنه بالسنة؟ فقال قوم: إن إزالة النجاسات واجبة وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال قوم: إزالتها سنة مؤكدة وليست بفرض. وقال قوم:
الباب الثاني في معرفة أنواع النجاسات
وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا أعني كثيرا وعلى بول ابن آدم ورجيعه وأكثرهم على نجاسة الخمر وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين واختلفوا ذلك والقواعد من ذلك سبع مسائل:
المسألة الأولى : اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له وفي ميتة الحيوان البحري فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له طاهرة وكذلك ميتة البحر وهو مذهب مالك وأصحابه وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم ملكا لا دم لها في النجاسة واستثنوا من ذلك ميتة البحر وهو مذهب الشافعي إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة مثل دود الخل وما يتولد في المطعومات وسوى قوم بين ميتة البر والبحر واستثنوا ميتة ما لا دم له وهو مذهب أبي حنيفة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وذلك أنهم فيما أحسب اتفقوا أنه من باب العام أريد به الخاص واختلفوا أي خاص أريد به فمنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر وما لا دم له ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط ومنهم من استثنى من ذلك ميتة ما لا دم له فقط. وسبب اختلافهم في هذ
المستثنيات هو سبب اختلافهم في الدليل المخصوص. أما من استثنى من ذلك ما لا دم له فحجته مفهوم الأثر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من أمره بمقل الذباب إذا وقع في الطعام قالوا: فهذا يدل على طهارة الذباب وليس لذلك علة إلا أنه غير ذي دم. وأما الشافعي فعذره أن هذا خاص بالذباب لقوله عليه الصلاة والسلام: "فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى دواء" ووهن الشافعي هذا المفهوم من الحديث بأن ظاهر الكتاب يقتضي أن الميتة والدم نوعان من أنواع المحرمات: أحدهما تعمل فيه التذكية وهي الميتة وذلك في الحيوان المباح الأكل باتفاق والدم لا تعمل فيه التذكية فحكمهما مفترق فكيف يجوز أن يجمع بينهما حتى يقال: إن الدم هو سبب تحريم الميتة؟ وهذا قوي كما ترى فإنه لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتفع الحرمية عن الحيوان بالذكاة وتبقى حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس هو سببا ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم. وأما من استثنى من ذلك ميتة البحر فإنه ذهب إلى الأثر الثابت في ذلك من حديث جابر وفيه أنهم أكلوا من الحوت الذي رماه البحر أياما وتزودوا منه وأنهم أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن فعلهم وسألهم: هل بقي منه شيء؟ وهو دليل على أنه لم يجوز لهم لمكان ضرورة خروج الزاد عنهم. واحتجوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" . وأما أبو حنيفة فرجح عموم الآية على هذا الأثر إما لأن الآية مقطوع بها والأثر مظنون وإما لأنه رأى أن ذلك رخصة لهم أعني حديث جابر أو لأنه احتمل عنده أن يكون الحوت مات بسبب وهو رمي البحر به إلى الساحل لأن الميتة هو ما مات من تلقاء نفسه من غير سبب خارج ولاختلافهم في هذا أيضا سبب آخر وهو احتمال عودة الضمير في قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} -
أعني أن يعود على البحر أو على الصيد نفسه فمن أعاده على البحر قال طعامه هو الطافي ومن أعاده على الصيد قال هو الذي أحل فقط من صيد البحر مع أن الكوفيين أيضا تمسكوا في ذلك بأثر ورد فيه تحريم الطافي من السمك وهو عندهم ضعيف.
المسألة الثانية : وكما اختلفوا في أنواع الميتات كذلك اختلفوا في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة وذلك أنهم اتفقوا على أن اللحم من أجزاء الميتة ميتة. واختلفوا في العظام والشعر فذهب الشافعي إلى أن العظم والشعر ميتة وذهب أبو حنيفة إلى أنهما ليسا بميتة وذهب مالك للفرق بين الشعر والعظم فقال: إن العظم ميتة وليس الشعر ميتة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم فيما ينطلق عليه اسم الحياة من أفعال الأعضاء. فمن رأى أن النمو والتغذي هو من أفعال الحياة قال: إن الشعر والعظام إذا فقدت النمو والتغذي فهي ميتة. ومن رأى أنه لا ينطلق اسم الحياة إلا على الحس قال: إن الشعر والعظام ليست بميتة لأنها لا حس لها. ومن فرق بينهما أوجب للعظام الحس ولم يوجب للشعر. وفي حس العظام اختلاف والأمر مختلف فيه بين الأطباء ومما يدل على أن التغذي والنمو ليسا هما الحياة التي يطلق على عدمها اسم الميتة أن الجميع قد اتفقوا على أن ما قطع من البهيمة وهي حية أنه ميتة لورود ذلك في الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" واتفقوا على أن الشعر إذا قطع من الحي أنه طاهر ولو انطلق اسم الميتة على من فقد التغذي والنمو لقيل في النبات المقلوع إنه ميتة وذلك أن النبات فيه التغذي الموت هو التغذي الموجود في الحساس.
المسألة الثالثة : اختلفوا في الانتفاع بجلود الميتة فذهب قوم إلى الانتفاع بجلودها مطلقا دبغت أو لم تدبغ وذهب قوم إلى خلاف هذا وهو ألا ينتفع به أصلا وإن دبغت وذهب قوم إلى الفرق بين أن تدبغ وألا تدبغ ورأوا أن الدباغ مطهر لها وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وعن مالك في ذلك روايتان إحداهما مثل قول الشافعي والثانية أن الدباغ لا يطهرها,
ولكن تستعمل في اليابسات والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان أعني المباح الأكل واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة فذهب الشافعي إلى أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة فقط وأنه بدل منها في إفادة الطهارة. وذهب أبو حنيفة إلى تأثير الدباغ في جميع ميتات الحيوان ما عدا الخنزير. وقال داود: تطهر حتى جلد الخنزير. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك وذلك أنه ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقا وذلك أن فيه أنه مر بميتة فقال عليه الصلاة والسلام: "هلا انتفعتم بجلدها؟" وفي حديث ابن عكيم منع الانتفاع بها مطلقا وذلك أن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب "ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" قال: وذلك قبل موته بعام. وفي بعضها الأمر بالانتفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ. وذهب قوم مذهب النسخ فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه قبل موته بعام. وذهب قوم مذهب الترجيح لحديث ميمونة ورأوا أنه يتضمن زيادة على ما في حديث ابن عباس وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ لأن الانتفاع غير الطهارة أعني كل طاهر ينتفع به وليس يلزم عكس هذا المعنى أعني أن كل ما ينتفع به هو طاهر.
المسألة الرابعة : اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس واختلفوا في دم السمك وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري فقال قوم: دم السمك طاهر وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء وهو قول مالك في المدونة. وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه. وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد والأول عليه الجمهور. والسبب في اختلافهم في دم السمك
هو اختلافهم في ميتته فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسا على الميتة وفي ذلك أثر ضعيف وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان الجراد والحوت والكبد والطحال" . وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق أو بالمطلق على المقيد وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وورد مقيدا في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إلى قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فمن قضى بالمقيد على المطلق وهم الجمهور قال المسفوح هو النجس المحرم فقط ومن قضى بالمطلق على المقيد لأن فيه زيادة قال: المسفوح وهو الكثير وغير المسفوح وهو القليل كل ذلك حرام وأيد هذا بأن كل ما هو نجس لعينه فلا يتبعض.
المسألة الخامسة : اتفق العلماء على نجاسة بول ابن آدم ورجيعه إلا بول الصبي الرضيع واختلفوا فيما سواه من الحيوان فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها كلها نجسة. وذهب قوم إلى طهارتها بإطلاق أعني فضلتي سائر الحيوان البول والرجيع. وقال قوم: أبوالها وأرواثها تابعة للحومها فما كان منها فأبوالها وأرواثها وما كان منها لحومها مأكولة فأبوالها وأرواثها طاهرة ما عدا التي تأكل النجاسة وما كان منها مكروها فأبوالها وأرواثها مكروهة وبهذا قال مالك كما قال أبو حنيفة بذلك في الأسآر. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في مفهوم الإباحة الواردة في الصلاة في مرابض الغنم وإباحته عليه الصلاة والسلام للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها وفي مفهوم النهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والسبب الثاني اختلافهم في قياس سائر الحيوان في ذلك على الإنسان فمن قاس سائر الحيوان على الإنسان ورأى أنه من باب قياس الأولى والأخرى ولم يفهم من إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها جعل ذلك عبادة ومن فهم من للعرنيين أبوال الإبل لمكان المداواة على أصله في إجازة ذلك قال: كل رجيع وبول
فهو نجس ومن فهم من حديث إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها وكذلك من حديث العرنيين وجعل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل عبادة أو معنى النجاسة وكان الفرق عنده بين الإنسان وبهيمة الأنعام أن فضلتي الإنسان مستقذرة بالطبع وفضلتي بهيمة الأنعام ليست كذلك جعل الفضلات تابعة للحوم والله أعلم. ومن قاس على بهيمة الأنعام غيرها جعل الفضلات كلها ما عدا فضلتي الإنسان غير نجسة ولا محرمة والمسألة محتملة ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر وكذلك المسك وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر.
المسألة السادسة : اختلف الناس في قليل النجاسات على ثلاثة أقوال: فقوم رأوا قليلها وكثيرها سواء وممن قال بهذا القول الشافعي. وقوم رأوا أن قليل النجاسات معفو عنه وحددوه بقدر الدرهم البغلي وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وشذ محمد بن الحسن فقال: إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة. وقال فريق ثالث: قليل النجاسات وكثيرها سواء إلا الدم على ما تقدم وهو مذهب مالك وعنه في دم الحيض روايتان والأشهر مساواته لسائر الدماء. وسبب اختلافهم اختلافهم في قياس قليل النجاسة على الرخصة الواردة في الاستجمار للعلم بأن النجاسة هناك باقية فمن أجاز القياس على ذلك استجاز قليل النجاسة ولذلك حدده بالدرهم قياسا على قدر المخرج ومن رأى أن تلك رخصة والرخص لا يقاس عليها منع ذلك. وأما سبب استثناء مالك من ذلك الدماء فقد تقدم وتفصيل مذهب أبي حنيفة أن النجاسات عنده تنقسم إلى مغلظة ومخففة وأن المغلظة هي التي يعفى منها عن قدر الدرهم والمخففة هي التي يعفى منها عن ربع الثوب والمخففة عندهم هي مثل أرواث الدواب وما لا تنفك منه الطرق غالبا وتقسيمهم إياها إلى مغلظة ومخففة حسن جدا.
المسألة السابعة : اختلفوا في المني: هل هو نجس أم لا؟ فذهبت طائفة منهم مالك وأبو حنيفة إلى أنه نجس وذهبت طائفة إلى أنه طاهر وبهذا قال الشافعي وأحمد وداود وسبب اختلافهم فيه شيئان: أحدهما اضطراب الرواية في حديث عائشة وذلك أن في بعضها كنت أغسل ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المني فيخرج إلى الصلاة وإن فيه لبقع الماء, وفي بعضها كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي بعضها فيصلي فيه, خرج هذه الزيادة مسلم. والسبب الثاني تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة كاللبن وغيره فمن جمع الأحاديث كلها بأن حمل الغسل على باب النظافة واستدل من الفرك على الطهارة على أصله في أن الفرك لا يطهر نجاسة وقاسه على اللبن وغيره من الفضلات الشريفة لم يره نجسا ومن رجح حديث الغسل على الفرك وفهم منه النجاسة وكان بالأحداث عنده أشبه منه مما ليس بحدث قال: إنه نجس وكذلك أيضا من اعتقد أن النجاسة ينعقد بالفرك قال: الفرك يدل على نجاسته كما يدل الغسل وهو مذهب أبي حنيفة وعلى هذا فلا حجة لأولئك في قولها فيصلي فيه بل فيه حجة لأبي حنيفة في أن النجاسة تزال بغير الماء وهو خلاف قول المالكية.
الباب الثالث في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها
وأما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة ولا خلاف في ذلك: أحدها الأبدان ثم الثياب ثم المساجد ومواضع الصلاة. وإنما اتفق العلماء على هذه الثلاثة لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة. أما الثياب ففي قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} على مذهب من حملها على الحقيقة وفي الثابت من أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الثوب من دم الحيض وصبه الماء على بول الصبي الذي بال عليه وأما المساجد فلأمره عليه الصلاة والسلام بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغسل المذي من البدن وغسل النجاسات من المخرجين واختلف
الفقهاء هل يغسل الذكر كله من المذي أم لا؟ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي المشهور وقد سئل عن المذي فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" وسبب الخلاف فيه هل هو: الواجب هو الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فمن رأى أنه بأواخرها: أعني بأكثر ما ينطلق عليه الاسم قال بغسل الذكر كله ومن رأى الأخذ بأقل ما ينطلق عليه قال إنما يغسل موضع الأذى فقط قياسا على البول والمذي.
الباب الرابع في الشيء الذي تزال به
وأما الشيء الذي به تزال فإن المسلمين اتفقوا على أن المطهر يزيلها من هذه الثلاثة المحال واتفقوا أيضا على أن الحجارة تزيلها من المخرجين واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها. فذهب قوم إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه وبه قال مالك والشافعي. واختلفوا أيضا في إزالتها في الاستجمار بالعظم والروث فمنع ذلك قوم: وأجازه بغير ذلك مما ينقي واستثنى مالك من ذلك ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز وقد قيل ذلك فيما في استعماله سرف كالذهب والياقوت. وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط وهو مذهب أهل الظاهر. وقوم أجازوا الاستنجاء بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم. وشذ الطبري فأجاز الاستجمار بكل طاهر ونجس. وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء فمن لم يظهر عنده للماء مزيد خصوص قال بإزالتها بسائر المائعات والجامدات الطاهرة وأيد هذا المفهوم بالاتفاق على إزالتها من المخرجين بغير الماء وبما ورد من حديث أم سلمة أنها قالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده" وكذلك بالآثار التي خرجها أبو داود في هذا
مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب له طهور" ذلك مما روي في هذا المعنى ومن رأى أن الماء في ذلك مزيد خصوص منع ذلك إلا في موضع الرخصة فقط وهو المخرجان. ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجأوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا حتى أنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي وطال الخطب والجدل بينهم: هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول خلفا عن سلف واضطرت الشافعية إلى أن تثبت أن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية أعني شرعية ولذلك لم تحتج إلى نية ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في المذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع وأما اختلافهم في الروث فسببه اختلافهم في المفهوم من النهي الوارد في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أعني أمره عليه الصلاة والسلام أن لا يستنجى بعظم ولا روث فمن دل عنده النهي على الفساد لم يجز ذلك ومن لم ير ذلك إذ كانت النجاسة معنى معقولا حمل ذلك على الكراهية ولم يعده إلى إبطال الاستنجاء بذلك ومن فرق بين العظام والروث فلأن الروث نجس عنده.
الباب الخامس في صفة إزالتها
وأما الصفة التي ينعقد فاتفق العلماء على أنها غسل ومسح ونضح لورود ذلك في الشرع وثبوته في الآثار واتفقوا على أن الغسل عام لجميع أنواع النجاسات ولجميع محال النجاسات وأن المسح بالأحجار يجوز في المخرجين ويجوز في الخفين وفي النعلين من العشب اليابس وكذلك ذيل المرأة الطويل اتفقوا على أن طهارته هي على ظاهر حديث أم سلمة من العشب اليابس وكذلك ذيل المرأة الطويل اتفقوا على أن طهارته هي على ظاهر حديث أم سلمة من العشب اليابس واختلفوا من ذلك في ثلاثة مواضع هي أصول هذا الباب: أحدها في النضح لأي نجاسة هو والثاني في المسح لأي محل هو ولأي نجاسة هو بعد أن اتفقوا على ما ذكرناه. والثالث اشتراط العدد في الغسل والمسح. أما النضح فإن قوما قالوا: هذا خاص بإزالة بول الطفل الذي لم يأكل الطعام وقوم فرقوا بين بول الذكر في ذلك والأنثى فقالوا: ينضح بول الذكر ويغسل بول الأنثى. وقوم قالوا: الغسل طهارة ما يتيقن بنجاسته والنضح طهارة ما شك فيه وهو مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك أعني اختلافهم في مفهومها وذلك أن هاهنا حديثين ثابتين في النضح: أحدهما حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله, وفي بعض رواياته فنضحه ولم يغسله, خرجه البخاري والآخر حديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته قال: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبث فنصحته بالماء. فمن الناس من صار إلى العمل بمقتضى حديث عائشة وقال: هذا خاص ببول الصبي واستثناه من سائر البول. ومن الناس من رجح الآثار الواردة في الغسل على هذا الحديث وهو مذهب مالك ولم ير النضح إلا الذي في حديث أنس وهو الثوب المشكوك فيه على ظاهر مفهومه. وأما الذي فرق في ذلك بين بول الذكر والأنثى فإنه اعتمد على ما رواه أبو داود
عن أبي السمح من قوله عليه الصلاة والسلام: "يغسل بول الجارية ويرش بول الصبي" وأما من لم يفرق فإنما اعتمد قياس الأنثى على الذكر الذي ورد فيه الحديث الثابت. وأما المسح فإن قوما أجازوه في أي محل كانت النجاسة إذا ذهب عينها على مذهب أبي حنيفة وكذلك الفرك على قياس من يرى أن كل ما أزال العين فقد طهر وقوم لم يجيزوه إلا في المتفق عليه وهو المخرج وفي ذيل المرأة وفي الخف وذلك من العشب اليابس لا من الأذى غير اليابس وهو مذهب مالك وهؤلاء لم يعدوا المسح إلى غير المواضع التي جاءت في الشرع وأما الفريق الآخر فإنهم عدوه. والسبب في اختلافهم في ذلك هل ما ورد من ذلك رخصة أو حكم؟ فمن قال رخصة لم يعدها إلى غيرها: أعني لم يقس عليها ومن قال هو حكم من أحكام إزالة النجاسة كحكم الغسل عداه. وأما اختلافهم في العدد فإن قوما اشترطوا الإنقاء فقط في الغسل والمسح وقوم اشترطوا العدد في الاستجمار وفي الغسل والذين اشترطوه في الغسل منهم من اقتصر على المحل الذي ورد فيه العدد في الغسل بطريق السمع ومنهم من عداه إلى سائر النجاسات أما من لم يشترط العدد لا في غسل ولا في مسح فمنهم مالك وأبو حنيفة. وأما من اشترط في الاستجمار العدد: أعني ثلاثة أحجار لا أقل من ذلك فمنهم الشافعي وأهل الظاهر. وأما من اشترط العدد في الغسل واقتصر به على محله الذي ورد فيه وهو غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فالشافعي ومن قال بقوله. وأما من عداه واشترط السبع في غسل النجاسات ففي أغلب ظني أن أحمد بن حنبل منهم و أبو حنيفة يشترط الثلاثة في إزالة النجاسة الغير محسوسة العين أعني الحكمية. وسبب اختلافهم في هذا تعارض المفهوم من هذه العبادة لظاهر اللفظ في الأحاديث التي ذكر فيها العدد وذلك أن من كان المفهوم عنده من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها لم يشترط العدد أصلا وجعل العدد الوارد من ذلك في الاستجمار في حديث سلمان الثابت الذي فيه الأمر أن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار على سبيل الاستحباب حتى يجمع بين المفهوم من الشرع والمسموع من هذه الأحاديث وجعل العدد المشترط في غسل الإناء من ولوغ الكلب عبادة لا لنجاسة كما تقدم من مذهب مالك. وأما
من صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم فاقتصر بالعدد على هذه المحال التي ورد العدد فيها. وأما من رجح الظاهر على المفهوم فإنه عدى ذلك إلى سائر النجاسات. وأما حجة أبي حنيفة في الثلاثة فقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في إنائه" .
الباب السادس في آداب الإستنجاء
وأما آداب الاستنجاء ودخول الخلاء فأكثرها محمولة ثم الفقهاء على الندب وهي معلومة من السنة كالبعد في المذهب إذا أراد الحاجة وترك الكلام عليها والنهي عن الاستنجاء باليمين وألا يمس ذكره بيمينه وغير ذلك مما ورد في الآثار وإنما اختلفوا من ذلك في مسألة واحدة مشهورة وهي استقبال القبلة للغائط والبول واستدبارها فإن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: إنه لا يجوز أن تستقبل القبلة لغائط ولا بول أصلا ولا في موضع من المواضع. وقول إن ذلك يجوز بإطلاق. وقول إنه يجوز في المباني والمدن ولا يجوز ذلك في الصحراء وفي غير المباني والمدن. والسبب في اختلافهم هذا حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا" . والحديث الثاني حديث عبد الله بن عمر أنه قال: ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة, فذهب الناس في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الجمع. والثاني مذهب الترجيح. والثالث مذهب الرجوع إلى البراءة الأصلية إذا وقع التعارض, وأعني بالبراءة الأصلية عدم الحكم فمن ذهب مذهب الجمع حمل حديث أبي أيوب الأنصاري على الصحارى وحيث لا سترة وحمل حديث ابن عمر على السترة وهو مذهب مالك. ومن ذهب مذهب الترجيح رجح حديث أبي أيوب لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن
يصار إلى الحديث المثبت للشرع لأنه وقد وجب العمل بنقله من طريق العدول وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم ويمكن أن يكون بعده فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن من لم نؤمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع: أعني التي توجب رفعها أو إيجابها وليست هي أي ظن اتفق ولذلك يقولون إن العمل ما لم يجب بالظن وإنما وجب بالأصل المقطوع به يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن وهذه الطريقة التي قلنا ها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي وهو راجع إلى أنه لا يرفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي. وأما من ذهب مذهب الرجوع إلى الأصل عند التعارض فهو مبني على أن الشك يسقط الحكم ويرفعه وأنه كلا حكم وهو مذهب داود الظاهري ولكن خالفه أبو محمد بن حزم في هذا الأصل مع أنه من أصحابه. قال القاضي: فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به إما تعلقا قريبا أو قريبا من القريب وإن تذكرنا لشيء من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه إذنه إلى أربابها هو كتاب الاستذكار وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه والله المعين.
كتاب الصلاة
مدخل
كتاب الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على سيدنا محمد ولله وصحبه وسلم تسليما.الصلاة تنقسم أولا وبالجملة إلى فرض وندب. والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل: الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به. والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاث:
أعني شروط الوجوب وشروط الصحة وشروط التمام والكمال. والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال وهي الأركان. والجملة الرابعة في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره لأنه قضاء ما إذا كان استدراكا لما فات.
الجملة الأولى
في الشروط :وهذه الجملة فيها أربع مسائل هي في معنى أصول هذا الباب. المسألة الأولى : في بيان وجوبها. الثانية: في بيان عدد الواجبات منها. الثالثة: في بيان على من تجب. الرابعة: ما الواجب على من تركها متعمدا؟.
المسألة الأولى : أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والإجماع وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه.
المسألة الثانية : وأما عدد الواجب منها ففيه قولان: أحدهما قول مالك والشافعي والأكثر وهو أن الواجب هي الخمس صلوات فقط لا غير. والثاني قول أبي حنيفة وأصحابه وهو أن الوتر واجب مع الخمس واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا أو فرضا لا معنى له؟. وسبب اختلافهم الأحاديث المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعته فقال تعالى: "هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي" وحديث الأعرابي المشهور الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال له: "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" وأما الأحاديث التي مفهومها وجوب الوتر فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها" وحديث حارثة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله هي قد .... خير لكم من حمر النعم وهي الوتر وجعلها
لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الوتر حق فمن لم يؤثر فليس منا" فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة المشهورة رجح تلك الأحاديث وأيضا فإنه ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء: "إنه لا يبدل القول لدي" وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص منها وإن كان هو في النقصان أظهر والخبر ليس يدخله النسخ ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب العمل أوجب المصير إلى هذه الزيادة لا سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخا لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة.
المسألة الثالثة : وأما على من تجب فعلى المسلم البالغ ولا خلاف في ذلك.
المسألة الرابعة : وأما ما الواجب على من تركها عمدا وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودا لفرضها فإن قوما قالوا: يقتل وقوما قالوا: يعزر ويحبس والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي. والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس بين العبد وبين الكفر- أو قال الشرك- إلا ترك الصلاة" فمن فهم من الكفر هاهنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: "كفر بعد إيمان" ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن" لم ير قتله كفرا. وأما من قال يقتل حدا فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات والقتل رأس المنهيات.
وعلى الجملة فاسم الكفر إنما يطلق بالحقيقة على التكذيب وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي فيجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقدا لتركها فقد كفر وإما أن يحمل على أن اسم الكفر موضوعه الأول وذلك على أحد معنيين إما على أن حكمه حكم الكافر أعني في القتل وسائر أحكام الكفار وإن لم يكن مكذبا وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال إذ كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر وإما أن نحمله على المعنى المستعار وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن فشيء مفارق للأصول مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرا أو حدا ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب.
الجملة الثانية: في الشرط
مدخل
الجملة الثانية في الشروط:وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب: الباب الأول: في معرفة الأوقات. الثاني: في معرفة الأذان والإقامة. الثالث: في معرفة القبلة. الرابع: في ستر العورة واللباس في الصلاة. الخامس: في اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة. السادس: في تعيين المواضع التي يصلى فيها
من المواضع التي لا يصلى فيها. السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة. الثامن: في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة.
الباب الأول: في معرفة الأوقات
االفصل الأول: في معرفة الأوقات المأمور بها
الباب الأول في معرفة الأوقاتوهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين: الأول في معرفة الأوقات المأمور بها. الثاني في معرفة الأوقات المنهي عنها.
الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها
وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا: القسم الأول في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني في أوقات أهل الضرورة.
القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة الصلاة وأن منها روينا فضيلة وأوقات توسعة واختلفوا في حدود روينا التوسعة والفضيلة وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى : اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب فيه. فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه وهو عنده أول وقت العصر. وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر هو المثل وأول وقت العصر المثلان وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر وبه قال صاحباه أبو يوسف ومحمد. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله ثم قال: "الوقت ما بين هذين" وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم:
"إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت ونحن كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا لا, قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث فواجب أن يكون أول العصر أكثر من قامة وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر. قال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر وأظنه قال: وثلث وحجة من قال باتصال الوقتين أعني اتصالا لا بفصل غير منقسم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت أخرى" وهو حديث ثابت. وأما وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات. وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وروي مثل ذلك عن مالك. وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" والثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة, وفي حديث خباب أنهم شكوا حر الرمضاء
فلم يشكهم" , خرجه مسلم قال زهير راوي الحديث: قلت لأبي إسحاق شيخه أفي الظهر؟ قال نعم قلت أفي تعجيلها قال نعم فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص. وقوم رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول ميقاتها" والحديث متفق عليه وهذه الزيادة فيه أعني "لأول ميقاتها" مختلف فيها.
المسألة الثانية : اختلفوا من صلاة العصر في موضعين: أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صلاة الظهر. والثاني في آخر وقتها. فأما اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا: أعني بقدر ما يصلى فيه أربع ركعات. وأما الشافعي وأبو ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر وهو زمان غير منقسم. وقال أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك. وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. وفي حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام: "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" خرجه مسلم. فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث عبد الله إلى حديث جبريل لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي وحديث ابن عمر خرجه مسلم. وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما : أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه وبه قال الشافعي.
والثانية : أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس وهذا قول أحمد بن حنبل. وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة: الظاهر أحدها حديث عبد الله بن عمر خرجه مسلم وفيه: "فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس , وفي بعض رواياته "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" . والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل وفيه أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه. والثالث حديث أبي هريرة المشهور: "من أدرك ركعة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" , فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها المختار المثلين ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها المختار اصفرار الشمس1 ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس وهم أهل الظاهر كما قلنا. وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع لأن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما ولذلك قال مالك مرة بهذا ومرة بذلك. وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت فقالوا: حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم لا؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير موسع وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي. وذهب قوم إلى أن وقتها موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد وفي حديث عبد الله
ـــــــ
1 ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس أثبتناه لأنه ضروري.
ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحدا ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل: أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له: "الوقت ما بين هذين" والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي خرجه مسلم وهو أصل في هذا الباب. قالوا: وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة.
المسألة الرابعة : اختلفوا من وقت العشاء الآخرة في موضعين: أحدهما في أوله والثاني في آخره. أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان: أحمر وأبيض. ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل: أعني الفجر الكاذب وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة فالطوالع إذن أربعة: الفجر الكاذب والفجر الصادق والأحمر والشمس وكذلك يجب أن تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة1 وذلك أنه لا خلاف بينهم أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة ورجح أبو حنيفة مذهبه بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره وقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأخرت الصلاة إلى نصف الليل" وأما آخر وقتها فاختلفوا
ـــــــ
1 ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا هـ.
فيه على ثلاثة أقوال: قول إنه ثلث الليل. وقول إنه نصف الليل وقول إنه إلى طلوع الفجر وبالأول: أعني ثلث الليل. قال الشافعي وأبو حنيفة وهو المشهور من مذهب مالك وروي عن مالك القول الثاني: أعني نصف الليل. وأما الثالث فقول داود. وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل. وفي حديث أنس أنه قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل, خرجه البخاري. وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى. فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال شطر الليل. وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أن به قال أبو حنيفة.
المسألة الخامسة : واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس إلا ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها الإسفار. واختلفوا في وقتها المختار فذهب الكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه و الثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل وذهب مالك والشافعي وأصحابه و أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل, وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث المختلفة الظواهر في ذلك وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام من طريق رافع بن خديج أنه قال: "أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر" وروي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول ميقاتها" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب فمن قال إن حديث رافع خاص وقوله: "الصلاة لأول ميقاتها" عام والمشهور أن الخاص يقضي عن العام إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل حديث عائشة محمولا على الجواز وأنه إنما تضمن الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب أحواله صلى الله عليه وسلم قال: الإسفار أفضل من التغليس. ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له ولأنه نص في ذلك أو ظاهر وحديث رافع بن خديج محتمل لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر وتحققه فلا تكون بينه وبين حديث عائشة ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال: أفضل الوقت أوله. وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات: أعني قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر. والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا ووافقوا أهل الظاهر ولذلك لأهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك.
القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول
فأما روينا الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر, وقد تقدم سبب اختلافهم في ذلك. واختلف هؤلاء الذين أثبتوها في ثلاثة مواضع: أحدها لأي الصلوات توجد هذه الأوقات ولأيها لا؟ والثاني في حدود هذه الأوقات. والثالث في من هم أهل العذر الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في ذلك: أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها.
المسألة الأولى : اتفق مالك والشافعي على أن هذا الوقت هو لأربع صلوات: للظهر والعصر مشتركا بينهما والمغرب والعشاء كذلك وإنما اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد وخالفهم أبو حنيفة فقال: إن
هذا الوقت إنما هو للعصر فقط وإنه ليس هاهنا وقت مشترك. وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما سيأتي بعد فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة العصر أعني الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل مغيب الشمس فقد أدرك العصر" وفهم من هذا الرخصة ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" ولما سنذكره بعد في باب الجمع من حجج الفريقين قال: إنه لا يكون هذا الوقت إلا لصلاة العصر فقط. ومن أجاز الاشتراك في الجمع في السفر قاس عليه أهل الضرورات لأن المسافر أيضا صاحب ضرورة وعذر فجعل هذا الوقت مشتركا للظهر والعصر والمغرب والعشاء.
المسألة الثانية : اختلف مالك والشافعي في آخر الوقت المشترك لهما فقال مالك: هو للظهر والعصر من بعد الزوال بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر إلى أن يبقى للنهار مقدار أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع ركعات للحاضر بعد الزوال وإما ركعتان للمسافر وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر: أعني أنه من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة قبل ذلك الوقت ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء إلا أن الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال: هو مقدار ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر ومرة جعله للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو مقدار أربع ركعات وهو القياس وجعل آخر هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر. وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس وذلك للظهر والعصر معا ومقدار
ركعة أيضا قبل انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا وقد قيل عنه بمقدار تكبيرة: أعني أنه من أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر معا. وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص. وسبب اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما وقتين: وقت خاص بهما ووقت مشترك؟ أم إنما يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط؟ وحجة الشافعي أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت خاص. وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة: أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع وقتان وقت مشترك ووقت خاص وجب أن يكون الأمر كذلك في أوقات الضرورة و الشافعي لا يوافقه على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله فإنه بين والله أعلم.
المسألة الثالثة : وأما هذه الأوقات: أعني أوقات الضرورة فاتفقوا على أنها لأربع:؛ للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه الأوقات وهي لم تصل والمسافر يذكر الصلاة في هذه الأوقات وهو حاضر أو الحاضر يذكرها فيها وهو مسافر والصبي يبلغ فيها والكافر يسلم. واختلفوا في المغمى عليه فقال مالك والشافعي: هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي عندهم الصلاة التي ذهب وقتها. وعند أبي حنيفة أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس فإذا أفاق عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة. وعند الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته الصلاة التي أفاق في وقتها وإذا لم يفق فيها لم تلزمه الصلاة وستأتي مسألة المغمى عليه فيما بعد واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت في وقتها فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا. وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان معا كما قلنا أو تكبيرة على القول الثاني له وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي
يحضر في هذه الأوقات أو الحاضر يسافر وكذلك الكافر يسلم في هذه الأوقات: أعني أنه تلزمهم الصلاة وكذلك الصبي يبلغ. والسبب في أن جعل مالك الركعة جزءا لآخر الوقت وجعل الشافعي جزء الركعة حدا مثل التكبيرة. منها أن قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو عند مالك من باب التنبيه بالأقل على الأكثر وعند الشافعي من باب التنبيه بالأكثر على الأقل وأيد هذا بما روي من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر فإنه فهم من السجدة هاهنا جزء من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه: من أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد أدرك الوقت. ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد بهذا الوقت من طهرها وكذلك الصبي يبلغ. وأما الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ من الطهر وفيه خلاف. والمغمى عليه عند مالك كالحائض وعند عبد الملك كالكافر يسلم. ومالك يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم تصل بعد أن القضاء ساقط عنها والشافعي يرى أن القضاء واجب عليها وهو لازم لمن يرى أن الصلاة تجب بدخول أول الوقت لأنها إذا حاضت وقد مضى من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت عليها الصلاة إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك.
الفصل الثاني: في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها
الفصل الثاني من الباب الأولفي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وهذه الأوقات اختلف العلماء فيها في موضعين: أحدهما في عددها والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها.
المسألة الأولى : اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي: وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ومن لدن تصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. واختلفوا في وقتين: في وقت الزوال وفي الصلاة
بعد العصر فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة: الطلوع والغروب وبعد الصبح وبعد العصر وأجاز الصلاة عند الزوال. أن هذه الأوقات الخمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة. واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر. وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل: أعني عمل أهل المدينة وهو مالك بن أنس فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه وحيث ورد المعارض اختلفوا. أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب, خرجه مسلم وحديث أبي عبد الله الصنابحي في معناه ولكنه منقطع خرجه مالك في موطئه. فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها. ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال إما بإطلاق وهو مالك وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي. أما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث: أعني الزوال أباح الصلاة فيه واعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل. وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه. و أما الشافعي فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ومعلوم أن خروج عمر كان بعد زوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع ما رواه أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى ينعقد الشمس إلا يوم الجمعة استثنى من ذلك
النهي يوم الجمعة وقوى هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك وإن كان الأثر عنده ضعيفا. وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك فبقي على أصله في النهي. وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين أحدهما حديث أبي هريرة المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. والثاني حديث عائشة قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية ركعتين: قبل الفجر وركعتين بعد العصر. فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه صلى الله عليه وسلم قال بالجواز وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة وفيه أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته عن ذلك فقال: "إنه أتاني ناس من عبد آلاف فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان" .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه قالوا: فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه. واتفق مالك والشافعي أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات. وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح: أعني في السنن وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد فإن الشافعي التابعين هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح ولا التابعين ذلك مالك واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب. وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي ما عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: قول هي الصلوات
بإطلاق. وقول إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا. وقول إنها النفل دون السنن. وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب. وسبب الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك أعني الواردة في السنة وأي يخص بأي وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا ذكرها" يقتضي استغراق جميع الأوقات وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها يقتضي أيضا عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام والخاص إما في الزمان وإما في اسم الصلاة. فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان: أعني استثناء الخاص من العام منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات. ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح. وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضي في الوقت المنهي عنه فإذا الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب الخاص أريد به الخاص أو من باب الخاص أريد به العام؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما فهو عنده من باب
الخاص أريد به الخاص ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط ولا الصبح بل جميع الصلاة المفروضة فهو عنده من باب الخاص أريد به العام وإذا كان ذلك كذلك فليس هاهنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة كما أنه ليس هاهنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي وهذا بين فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل: أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك من عام هذا وذلك بين والله أعلم.
الباب الثاني: في معرفة الأذان والإقامة
الفصل الأول
الباب الثاني في معرفة الأذان والإقامةهذا الباب ينقسم أيضا إلى فصلين: الأول في الأذان. والثاني في الإقامة.
الفصل الأول
هذا الفصل ينحصر الكلام فيه في خمسة أقسام: الأول: في صفته. الثاني: في حكمه. الثالث: في وقته. الرابع: في شروطه. الخامس: فيما يقوله السامع له.
القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني في صفة الأذان
اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة: إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره. واختار المتأخرين من أصحاب مالك الترجيع وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت. والصفة الثانية أذان المكيين وبه قال الشافعي وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان. والصفة الثالثة أذان الكوفيين وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث
الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ثم يعيد كذلك مرة ثانية: أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة وبه قال الحسن البصري وابن سيرين. السبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذاك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله. أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز فروي من طرق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد الأنصاري وتربيعه أيضا عن أبي محذورة من طرق أخر وعن عبد الله بن زيد. قال الشافعي: وهي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة. وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك فروي من طريق أبي قدامة: قال أبو عمر: وأبو قدامة عندهم ضعيف. وأما الكوفيون فبحديث أبي ليلى وفيه أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلا قام على خرم حائط وعليه بردان أخضران فأذن مثنى وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بلال فأذن مثنى وأقام مثنى والذي خرجه البخاري في هذا الباب إنما هو من حديث أنس فقط وهو أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة فإنه يثنيها وخرج مسلم عن أبي محذورة على صفة أذان الحجازيين ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير لا على إيجاب واحدة منها وأن الإنسان مخير فيها واختلفوا في قول المؤذن في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم هل يقال فيها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يقال ذلك فيها. وقال آخرون: إنه لا يقال لأنه ليس من الأذان المسنون وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم هل قيل ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو إنما قيل في زمان عمر؟.
القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني
اختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة, وإن كان
واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ فقيل عن مالك إن الأذان هو فرض على مساجد الجماعات وقيل سنة مؤكدة ولم يره على المنفرد لا فرضا ولا سنة. وقال بعض أهل الظاهر واجب على الأعيان. وقال بعضهم: على الجماعة كانت في أو في حضر. وقال بعضهم: في السفر. واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة للمنفرد والجماعة إلا أنه آكد في حق الجماعة. قال أبو عمر: واتفق الكل على أنه سنة مؤكدة أو فرض على المصري لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع النداء لم يغر وإذا لم يسمعه أغار. والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظواهر الآثار, وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولصاحبه: "إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما" وكذلك ما روى من اتصال عمله به صلى الله عليه وسلم في الجماعة فمن فهم من هذا الوجوب مطلقا قال إنه فرض على الأعيان أو على الجماعة وهو الذي حكاه ابن المفلس عن داود ومن فهم منه الدعاء إلى الاجتماع للصلاة قال إنه سنة في المساجد أو فرض في المواضع التي يجتمع إليها الجماعة. فسبب الخلاف هو تردده بين أن يكون قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون المقصود به هو الاجتماع.
القسم الثالث من الفصل الأول في وقته
وأما وقت الأذان فاتفق الجميع على أنه لا يؤذن للصلاة قبل وقتها ما عدا الصبح فإنهم اختلفوا فيها فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز أن يؤذن لها قبل الفجر ومنع ذلك أبو حنيفة وقال قوم: لا بد للصبح إذا أذن لها قبل الفجر من أذان بعد الفجر لأن الواجب عندهم هو الأذان بعد الفجر. وقال أبو محمد بن حزم: لا بد لها من أذان بعد الوقت وإن أذن قبل الوقت جاز إذا كان بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد الثاني. والسبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث المشهور الثابت وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وكان ابن أم مكتوم
رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. والثاني ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام وحديث الحجازيين أثبت وحديث الكوفيين أيضا خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم فذهب الناس في هذين الحديثين إما مذهب الجمع وإما مذهب الترجيح. فأما من ذهب مذهب الترجيح فالحجازيون فإنهم قالوا: حديث بلال أثبت والمصير إليه أوجب. وأما من ذهب مذهب الجمع فالكوفيون وذلك أنهم قالوا: يحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر لأنه كان في بصره ضعف ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يتيقن فيه طلوع الفجر ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت لم يكن بين أذانيهما إلا بقدر ما يهبط هذا ويصعد هذا وأما من قال إنه يجمع بينهما: أعني أن يؤذن قبل الفجر وبعده فعلى ظاهر ما روي من ذلك في صلاة الصبح خاصة أعني أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم.
القسم الرابع من الفصل الأول في الشروط
وفي هذا القسم مسائل ثمانية: إحداها هل من شروط من أذن أن يكون هو الذي يقيم أم لا؟ والثانية هل من شرط الأذان أن لا يتكلم في أثنائه أم لا؟ والثالثة هل من شرطه أن يكون على طهارة أم لا؟ والرابعة هل من شرطه أن يكون متوجها إلى القبلة أم لا؟ والخامسة هل من شرطه أن يكون قائما أم لا؟ والسادسة هل يكره أذان الراكب أم ليس يكره؟ والسابعة هل من شرطه البلوغ أم لا؟ والثامنة هل من شرطه ألا يأخذ على الأذان أجرا أم يجوز له أن يأخذه. فأما اختلافهم في الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الأخر فأكثر فقهاء الأمصار على إجازة ذلك وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز. والسبب في ذلك أنه ورد في هذا حديثان متعارضان: أحدهما حديث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أوان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم" . والحديث الثاني ما روي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن ثم أمر عبد الله فأقام. فمن ذهب مذهب النسخ قال: حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي متأخر. ومن ذهب مذهب الترجيح قال: حديث عبد الله بن زيد أثبت لأن حديث الصدائي انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم. وأما اختلافهم في الأجرة على الأذان فلمكان اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك: أعني حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال إن من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ومن منعه قاس الأذان في ذلك على الصلاة. وأما سائر الشروط الأخر فسبب الخلاف فيها هو قياسها على الصلاة, فمن قاسها على الصلاة أوجب تلك الشروط الموجودة في الصلاة, ومن لم يقسها لم يوجب ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر: قد روينا عن أبي وائل بن حجر قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا على طهر قال: وأبو وائل هو من الصحابة وقوله سنة يدخل في المسند وهو أولى من القياس. قال القاضي: وقد خرج الترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا يؤذن إلا متوضئ" .
القسم الخامس
اختلف العلماء فيما يقوله السامع للمؤذن؛ فذهب قوم إلى أنه يقول ما يقول المؤذن كلمة بكلمة إلى آخر النداء وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال حي على الصلاة حي علة الفلاح فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. والسبب في الاختلاف في ذلك تعارض الآثار وذلك أنه قد روي من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" وجاء من طريق عمر بن الخطاب وحديث معاوية أن السامع يقول عند حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بعموم حديث أبي سعيد الخدري ومن بنى العام في ذلك على الخاص جمع بين الحديثين وهو مذهب مالك بن أنس.
الفصل الثاني
من الباب الثاني من الجملة الثانية في الإقامةاختلفوا في الإقامة في موضعين في حكمها وفي صفتها. أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في حق الأعيان والجماعات سنة مؤكدة أكثر من الأذان وهي عند أهل الظاهر فرض ولا أدري هل هي فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة؟ والفرق بينهما أن على القول الأول لا تبطل الصلاة بتركها. وعلى الثاني تبطل. وقال ابن كنانة من أصحاب مالك: من تركها عامدا بطلت صلاته. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة فيحمل على الوجوب لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب؟ وظاهر حديث مالك ابن الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما على المنفرد. وأما صفة الإقامة فإنها عند مالك والشافعي. أما التكبير الذي في أولها فمثنى. وأما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة فإنها عند مالك مرة واحدة وعند الشافعي مرتين. وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى مثنى وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية على رأيه في التخيير في النداء. وسبب الاختلاف تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث أبي ليلى المتقدم وذلك أن في حديث أنس الثابت أمر بلال أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا قد قامت الصلاة. وفي حديث أبي ليلى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بلالا فأذن مثنى وأقام مثنى. والجمهور أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة. وقال مالك: إن أقمن فحسن. وقال الشافعي: إن أذن وأقمن فحسن. وقال إسحاق: إن عليهن الأذان والإقامة. وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم فيما ذكره ابن المنذر والخلاف آيل إلى هل تؤم المرأة أو لا تؤم؟ وقيل الأصل أنها في معنى الرجل في كل عبادة إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب الدليل؟.
الباب الثالث من الجملة الثانية في القبلة
اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من شروط صحة الصلاة لقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أما إذا أبصر البيت فالفرض عندهم هو التوجه إلى عين البيت ولا خلاف في ذلك. أما إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما هل الفرض هو العين أو الجهة؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد: أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين؟ فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين وذهب آخرون إلى أنه الجهة. والسبب في اختلافهم هل في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} محذوف حتى يكون تقديره: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أم ليس هاهنا محذوف أصلا وأن الكلام على حقيقته؟ فمن قدر هنالك محذوفا قال: الفرض الجهة ومن لم يقدر هنالك محذوفا قال: الفرض العين والواجب حمل الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز وقد يقال إن الدليل على تقدير هذا المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه نحو البيت" قالوا: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة. والذي أقوله إنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها.
وأما المسألة الثانية: فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد فقط حتى يكون إذا قلنا إن فرضه الإصابة متى تبين له أنه أخطأ أعاد الصلاة, ومتى قلنا إن فرضه الاجتهاد لم يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ وقد كان
صلى قبل اجتهاده. أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبدا. وقال قوم: لا يعيد وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد وبه قال مالك وأبو حنيفة إلا أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت. وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح الأثر الوارد في ذلك. أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت: أعني بوقت الصلاة وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي, وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت وهذا ميقات جهة. وأما الأثر فحديث عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر فخفيت علينا القبلة فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مضت صلاتكم" ونزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته. وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة. وقد اختلفوا في ذلك فمنهم من منعه على الإطلاق ومنهم من أجازه على الإطلاق ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل يسمى مستقبلا للبيت كما يسمى من استقبله من خارج أم لا؟ أما الأثر فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث ابن عباس قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج, فلما خرج ركع ركعتين في قبل
الكعبة وقال: "هذه القبلة" والثاني حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح فأغلقها عليه ومكث فيها فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ثم صلى, فمن ذهب مذهب الترجيح أو النسخ قال إما بمنع الصلاة مطلقا إن رجح حديث ابن عباس وإما بإجازتها مطلقا إن رجح حديث ابن عمر ومن ذهب مذهب الجمع بينهما حمل حديث ابن عباس على الفرض وحديث ابن عمر على النفل والجمع بينهما فيه عسر, فإن الركعتين اللتين صلاهما عليه الصلاة والسلام خارج الكعبة وقال: "هذه القبلة" هي نفل ومن ذهب مذهب سقوط الأثر عند التعارض فإن كان ممن يقول باستصحاب حكم الإجماع والاتفاق لم يجز الصلاة داخل البيت أصلا وإن كان ممن لا يرى استصحاب حكم الإجماع عاد النظر في انطلاق اسم المستقبل للبيت على من صلى داخل الكعبة فمن جوزه أجاز الصلاة ومن لم يجوزه وهو الأظهر لم يجز الصلاة في البيت. واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى منفردا كان أو إماما وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل" واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط. وقال أحمد بن حنبل: يخط خطا بين يديه. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط والأثر رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يكن فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه" خرجه أبو داود وكان أحمد بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة والحديث الثابت أنه كان يخرج له العنزة فهذه جملة قواعد هذا الباب وهي أربع مسائل.
الباب الرابع: من الجملة الثانية
الفصل الأول
الباب الرابع من الجملة الثانيةوهذا الباب ينقسم إلى فصلين: أحدهما في ستر العورة والثاني فيما يجزئ من اللباس في الصلاة.
الفصل الأول
اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق, واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة, وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة, وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة, واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس التي هي زينة, واحتج لذلك بما جاء في الحديث من أنه كان رجال يصلون مع النبي عليه الصلاة والسلام عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان, ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا قالوا: ولذلك من لم يجد ما به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي واختلف فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا يصلي؟
وأما المسألة الثانية : وهو حد العورة من الرجل فذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة منه ما بين السرة إلى الركبة وكذلك قال أبو حنيفة وقال قوم: العورة هما السوأتان فقط من الرجل. وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث جرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" . والثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه قال البخاري وحديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط وقد قال بعضهم العورة الدبر والفرج والفخذ.
وأما المسألة الثالثة : وهي حد العورة من المرأة فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة ما خلا الوجه والكفين وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة. وسبب الخلاف في ذلك احتمال قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره ثم الحركة قال بدنها كله عورة حتى ظهرها واحتج لذلك بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج.
الفصل الثاني من الباب الرابع فيما يجزئ في اللباس في الصلاة
أما اللباس فالأصل فيه قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} والنهي الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة وذلك أنهم اتفقوا فيما أحسب على أن الهيئات من اللباس التي لهن على الصلاة فيها مثل اشتمال الصماء وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء وسائر ما ورد من ذلك أن ذلك كله سد ذريعة ألا تنكشف عورته ولا أعلم أن أحدا قال لا تجوز صلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشف عورته وقد كان على أصول أهل الظاهر يجب ذلك واتفقوا على أنه يجزئ الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: "أو لكلكم ثوبان؟" واختلفوا في الرجل هل يصلي مكشوف الظهر والبطن فالجمهور على جوازصلاته لكون الظهر والبطن من الرجل ليسا بعورة وشذ قوم فقالوا لا تجوز صلاته لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وتمسك بوجوب قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} واتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في الصلاة هو درع وخمار لما روي عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة؟ فقال: "في الخمار والدرع السابغ إذا غيبت ظهور قدميها" ولما روي أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو المروي عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنهم كانوا يفتون بذلك وكل هؤلاء يقولون إنها إن صلت مكشوفة أعادت في الوقت وبعده إلا مالكا فإنه قال إنها تعيد في الوقت فقط والجمهور على أن الخادم لها أن تصلي مكشوفة الرأس والقدمين وكان الحسن البصري يوجب عليها الخمار واستحبه عطاء. وسبب الخلاف الخطاب المتوجه إلى الجنس الواحد هل يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ واختلفوا في صلاة الرجل في الثوب الحرير فقال قوم تجوز صلاته فيه وقال قوم لا تجوز وقوم استحبوا له الإعادة في الوقت. وسبب اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقا اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا؟ فمن ذهب إلى أنه شرط قال إن الصلاة لا تجوز به ومن ذهب إلى أنه يكون بلباسه مأثوما والصلاة جائزة قال ليس شرطا في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط وهذه المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها مشهور.
الباب الخامس: الطهارة من النجس
الباب الخامسوأما الطهارة من النجس فمن قال إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول إنها فرض في الصلاة أي من شروط صحتها وأما من قال إنها فرض بإطلاق فيجوز أن يقول إنها فرض في الصلاة ويجوز ألا يقول ذلك وحكى عبد الوهاب عن المذهب في ذلك قولين أحدهما أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة
في حال القدرة والذكر والقول الآخر إنها ليست شرطا والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة وإنما يتخرج على القول بأنها فرض مع كتاب الطهارة وعرف الخلاف فيها وإنما الذي يتعلق به هاهنا الكلام من ذلك هل ما هو فرض مطلق مما يقع في الصلاة يجب أن يكون فرضا في الصلاة أم لا؟ والحق أن الشيء المأمور به على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما آخر مأمور به وإن وقع فيه إلا بأمر آخر وكذلك الأمر في الشيء المنهي عنه على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما1 إلا بأمر آخر.
ـــــــ
1 ما بين القوسين غير موجود بالنسخة المصرية, لكنه مثبت في النسخة الفاسية ا هـ.
الباب السادس: المواضع التي يصلى فيها
الباب السادسوأما المواضع التي يصلي فيها فإن من الناس من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله. ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط ومنهم من استثنى المقبرة والحمام. ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما روي عن مالك وقد روي عنه الجواز وهذه رواية ابن القاسم. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب وذلك أن هاهنا حديثين متفق على صحتهما وحديثين مختلف فيهما. فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي وذكر فيها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت" وقوله عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" وأما الغير المتفق عليهما فأحدهما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة
الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله خرجه الترمذي والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل" فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح والنسخ والثاني مذهب البناء: أعني بناء الخاص على العام والثالث مذهب الجمع. فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال هذا ناسخ لغيره لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام وذلك مما لا يجوز نسخه. وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على العام فقال: حديث الإباحة عام وحديث النهي خاص فيجب أن يبنى الخاص على العام. فمن هؤلاء من استثنى السبعة مواضع. ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة والسلام لأنه قد روي أيضا النهي عنهما مفردين. ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم. وأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن الموطأ من عام فقال أحاديث النهي محمولة على الكراهة والأول على الجواز. واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس فكرهها قوم وأجازها قوم بين أن يكون فيها صور أو لا يكون وهو مذهب ابن عباس لقول عمر: لا تدخل كنائسهم من أجل التماثيل والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير حملها على النجاسة واتفقوا على الصلاة على الأرض واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما يباع عليه على الأرض والجمهور على إباحة السجود علة الحصير وما يشبهه مما تنبته الأرض والكراهية بعد ذلك وهو مذهب مالك بن أنس1.
ـــــــ
1 لا يخفى ما في هذه العبارة فتدبر.
الباب السابع: في معرفة شروط في صحة الصلاة
الباب السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاةوأما التروك المشترطة في الصلاة فاتفق المسلمون على أن منها قولا ومنها
فعلا. فأما الأفعال فجميع الأفعال المباحة التي ليست من أفعال الصلاة إلا قتل العقرب والحية في الصلاة فإنهم اختلفوا في ذلك لمعارضة الأثر في ذلك للقياس واتفقوا فيما أحسب على جواز الفعل الخفيف. وأما الأقوال فهي أيضا الأقوال التي ليست من أقاويل الصلاة وهذه أيضا لم يختلفوا أنها تفسد الصلاة عمدا لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ولما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء" ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة وهو حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم أنه قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وحديث معاوية ابن الحكم السلمي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن" إلا أنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما إذا تكلم ساهيا والآخر إذا تكلم عامدا لإصلاح الصلاة. وشذ الأوزاعي فقال: من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير فإنه يبني والمشهور من مذهب مالك أن التكلم عمدا على جهة الإصلاح لا يفسدها. وقال الشافعي: يفسدها التكلم كيف كان إلا مع النسيان وقال أبو حنيفة: يفسدها التكلم كيف كان. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك وذلك أن تقتضي تحريم الكلام على العموم وحديث أبي هريرة المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين؟" فقالوا: نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم والناس معه وأنهم بنوا بعد التكلم ولم يقطع ذلك التكلم صلاتهم فمن أخذ بهذا الظاهر ورأى أن هذا شيء يخص الكلام لإصلاح الصلاة استثنى هذا من ذلك العموم وهو مذهب مالك بن أنس ومن ذهب إلى أنه ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمدا في الصلاة وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا وهم يظنون
أن الصلاة قد قصرت وتكلم النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن أن الصلاة قد تمت ولم يصح عنده أن الناس قد تكلموا بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قصرت الصلاة وما نسيت" قال: إن المفهوم من الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد فإذن السبب في اختلاف مالك والشافعي في المستثنى من ذلك العموم هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث مع أن الشافعي اعتمد أيضا في ذلك أصلا عاما وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها.
الباب الثامن في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة
وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطا في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من المصالح المحسوسة واختلفوا هل من شرط نية المأموم أن توافق نية الإمام في تعيين الصلاة وفي الوجوب حتى لا يجوز أن يصلي المأموم ظهرا بإمام يصلي عصرا؟ ولا يجوز أن يصلي الإمام ظهرا يكون في حقه نفلا وفي حق المأموم فرضا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجب أن توافق نية المأموم نية الإمام وذهب الشافعي إلى أنه ليس يجب. والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" لما جاء في حديث معاذ من أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي بقومه فمن رأى ذلك الموطأ لمعاذ وأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" يتناول النية اشترط موافقة نية الإمام للمأموم. ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال: لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ وإما أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في ذلك
العموم وفي النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من الشرع رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق بالمنطوق به من الشرع.
الجملة الثالثة: من كتاب الصلاة
مدخل
الجملة الثالثة من كتاب الصلاة:وهي معرفة ما تشتمل عليه من الأقوال والأفعال وهي الأركان والصلوات المفروضة تختلف في هذين بالزيادة والنقصان إما من قبل الانفراد والجماعة وإما من قبل الزمان مثل مخالفة ظهر الجمعة لظهر سائر الأيام وإما من قبل الحضر والسفر وإما من قبل الأمن والخوف وإما من قبل الصحة والمرض فإذا أريد أن يكون القول في هذه صناعيا وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص واحدة واحدة منها أو يقال في واحدة واحدة منها وهو الأسهل وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار ما وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن نتبعهم في ذلك فنجعل هذا الجملة مقسمة إلى ستة أبواب. الباب الأول: في صلاة المنفرد الآمن الصحيح. الباب الثاني: في صلاة الجماعة: أعني في أحكام الإمام والمأموم في الصلاة. الباب الثالث: في صلاة الجمعة. الباب الرابع: في صلاة السفر. الباب الخامس: في صلاة الخوف. الباب السادس: في صلاة المريض.
الباب الأول: في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح
*
الفصل الأول: في أقوال الصلاة
الباب الأول في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيحوهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أقوال الصلاة. والفصل الثاني: في أفعال الصلاة.
الفصل الأول في أقوال الصلاة
وفي هذا الفصل من قواعد المسائل تسع مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: إن التكبير كله واجب في الصلاة. وقوم قالوا: إنه كله ليس بواجب وهو شاذ. وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط وهم الجمهور. وسبب اختلاف من أوجبه كله ومن أوجب منه تكبيرة الإحرام فقط: معارضة ما نقل من قوله
الفصل الثاني في الأفعال التي هي أركان
وفي هذا الفصل من قواعد المسائل ثمان مسائل:
المسألة الأولى : اختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة في ثلاثة مواضع: أحدها في حكمه. والثاني في المواضع التي ترفع فيها من الصلاة. والثالث إلى أين ينتهي برفعها. فأما الحكم فذهب الجمهور إلى أنه سنة في الصلاة وذهب داود وجماعة من أصحابه إلى أن ذلك فرض وهؤلاء انقسموا أقساما فمنهم من أوجب ذلك في تكبيرة الإحرام فقط. ومنهم من أوجب ذلك في الاستفتاح وعند الركوع. أعني عند الانحطاط فيه وعند الارتفاع منه ومنهم من أوجب ذلك في هذين الموضعين وعند السجود وذلك بحسب اختلافهم في المواضع التي يرفع فيها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أبي هريرة الذي فيه تعليم فرائض الصلاة لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أن حديث أبي هريرة إنما فيه أنه قال له وكبر ولم يأمره برفع يديه وثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر وغيره أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وأما اختلافهم في المواضع التي ترفع فيها فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر فقهائهم إلى أنه لا يرفع المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام فقط وهي رواية ابن القاسم عن مالك وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث وأهل الظاهر إلى الرفع عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع وهو مروي عن مالك إلا أنه عند بعض أولئك فرض وعند مالك سنة. وذهب بعض أهل الحديث إلى رفعها عند السجود وعند الرفع منه. والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل بالمدينة لبعضها وذلك أن في ذلك
أحاديث أحدها حديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب أنه كان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها والحديث الثاني حديث سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكان لا يفعل ذلك في السجود وهو حديث متفق على صحته وزعموا أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا من أصحابه. حديث وائل بن حجر وفيه زيادة على ما في حديث عبد الله بن عمر أنه كان يرفع يديه عند السجود فمن حمل الرفع هاهنا على أنه ندب أو فريضة فمنهم من اقتصر به على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك لموافقة العمل به ومنهم من رجح حديث عبد الله بن عمر فرأى الرفع في الموضعين أعني في الركوع وفي الافتتاح لشهرته واتفق الجميع عليه ومن كان رأيه من هؤلاء أن الرفع فريضة حمل ذلك على الفريضة ومن كان رأيه أنه ندب حمل ذلك على الندب ومنهم من ذهب مذهب الجمع وقال: إنه يجب أن تجمع هذه الزيادات بعضها إلى بعض على ما في حديث وائل بن حجر فإذن العلماء ذهبوا في هذه الآثار مذهبين: إما مذهب الترجيح وإما مذهب الجمع. والسبب في اختلافهم في حمل رفع اليدين في الصلاة: هل هو على الندب أو على الفرض؟ هو السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ومنهم من يرى أن الأصل أن لا يزاد فيما صح بدليل واضح من قول ثابت أو إجماع أنه من فرائض الصلاة إلا بدليل واضح وقد تقدم هذا من قولنا ولا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة وأما الحد الذي ترفع إليه اليدان فذهب بعضهم إلى أنه المنكبان وبه قال مالك والشافعي وجماعة وذهب بعضهم إلى رفعها إلى الأذنين وبه قال أبو حنيفة وذهب بعضهم إلى رفعها إلى الصدر وكل ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أثبت ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه الجمهور والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى الصدر. وأشهر.
المسألة الثانية : ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من الركوع وفي الركوع غير واجب. وقال الشافعي: هو واجب. واختلف أصحاب مالك: هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في ذلك؟ والسبب في اختلافهم: هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم, فمن كان الواجب عنده الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط الاعتدال في الركوع, ومن كان الواجب عنده الأخذ بالكل اشترط الاعتدال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتقدم للرجل الذي علمه فروض الصلاة: "اركع حتى تطمئن راكعا وارفع حتى تطمئن رافعا" فالواجب اعتقاد كونه فرضا وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن الأصل لا تحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا الحديث على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك ومن قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضا ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في الصلاة فتأمل هذا فإنه أصل مناقض للأصل الأول وهو سبب الخلاف في أكثر هذه المسائل.
المسألة الثالثة : اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس فقال مالك وأصحابه ويفضي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينصب الرجل اليمنى ويقعد على اليسرى. وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة وفي الأخيرة بمثل قول مالك. وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته عليه الصلاة والسلام وفيه وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته. والثاني حديث وائل بن حجر وفيه أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى. والثالث ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى, وهو يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة. وفي روايته عن القاسم
ابن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث. وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل. وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد. وذهب الطبري مذهب التخيير. وقال: هذه الهيئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول حسن فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر في الفعل مع القول أو في القول مع القول.
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في الجلسة الوسطى والأخيرة فذهب الأكثر في الوسطى إلى أنها سنة وليست بفرض وشذ قوم وقالوا: إنها فرض وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخيرة إلى أنها فرض وشذ قوم فقالوا إنها ليست بفرض. والسبب في اختلافهم هو تعارض مفهوم الأحاديث وقياس إحدى الجلستين على الثانية وذلك أن في حديث أبي هريرة المتقدم "اجلس حتى تطمئن جالسا" فوجب الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها فمن أخذ بهذا قال: إن الجلوس كله فرض ولما جاء في حديث ابن بحينة الثابت أنه عليه الصلاة والسلام أسقط الجلسة الوسطى ولم يجبرها وسجد لها وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرها وكذلك ركعة. فهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم الجلسة الوسطى وحكم الركعة وكانت عندهم الركعة فرضا بإجماع فوجب أن لا تكون الجلسة الوسطى فرضا فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين الجلستين ورأوا أن سجود السهو إنما يكون للسنن دون الفروض ومن رأى أنها فرض قال: السجود للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض. وأما من ذهب إلى أنهما كليهما سنة فقاس الجلسة الأخيرة على الوسطى بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة. فإذا السبب في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة الاستدلال لظاهر القول أو ظاهر الفعل فإن
من الناس أيضا من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض من جهة أن أفعاله عليه الصلاة والسلام عنده الأصل فيها أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل ذلك على ما تقدم فإذن الأصلان جميعا يقتضيان هاهنا أن الجلوس الأخير فرض ولذلك عليه أكثر الجمهور أن يكون له معارض إلا القياس وأعني بالأصلين القول والعمل لذلك أضعف الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى ويشير بأصبعه واتفق العلماء على أن هذه الهيئة من هيئات الجلوس المستحسنة في الصلاة أنه كان يشير فقط.
المسألة الخامسة : اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة فكره ذلك مالك في الفرض وأجازه في النفل. ورأى قوم أن هذا الفعل من سنن الصلاة وهم الجمهور. والسبب في اختلافهم أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى وثبت أيضا أن الناس كانوا يؤمرون بذلك. وورد ذلك أيضا من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام في حديث أبي حميد فرأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة وأن الزيادة يجب أن يصار إليها. ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليست فيها هذه الزيادة لأنها أكثر ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة وإنما هي من باب الاستعانة ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض وقد يظهر من أمرها أنها هيئة تقتضي الخضوع وهو الأولى بها.
المسألة السادسة : اختار قوم إذا كان الرجل في وتر من صلاته أن لا ينهض حتى يستوي قاعدا واختار آخرون أن ينهض من سجوده نفسه وبالأول قال الشافعي وجماعة وبالثاني قال مالك وجماعة. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين مختلفين: أحدهما حديث مالك بن الحويرث الثابت أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى
يستوي قاعدا وفي حديث أبي حميد في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك فأخذ بالحديث الأول الشافعي, وأخذ بالثاني مالك, وكذلك اختلفوا إذا سجد هل يضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب مالك وضع الركبتين قبل اليدين. وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. وقال بعض أهل الحديث: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة.
المسألة السابعة : اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" واختلفوا فيمن سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك الأعضاء هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال قوم: لا تبطل صلاته لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه فقط. وقال قوم: تبطل إن لم يسجد على السبعة الأعضاء للحديث الثابت ولم يختلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه واختلفوا فيمن سجد على أحدهما فقال مالك: إن سجد على جبهته دون أنفه جاز وإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجز. وقال أبو حنيفة: بل يجوز ذلك. وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يسجد عليهما جميعا. وسبب اختلافهم: هل الواجب هو امتثال بعض ما ينطلق عليه الاسم أم كله وذلك أن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عن ابن عباس قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" فذكر منها الوجه فمن رأى أن الواجب هو بعض ما ينطلق عليه الاسم قال: إن سجد على الجبهة أو الأنف أجزأه. ومن رأى أن اسم السجود يتناول من سجد على الجبهة ولا يتناول من سجد على الأنف أجاز السجود على الجبهة دون الأنف وهذا كأنه تحديد للبعض الذي هو امتثاله هو الواجب مما ينطلق عليه الاسم وكان هذا على
مذهب من يفرق بين أبعاض الشيء فرأى أن بعضها يقوم في امتثاله مقام الوجوب وبعضها لا يقوم مقامه فتأمل هذا فإنه أصل في هذا الباب وإلا جاز لقائل أن يقول: إنه إن مس من كلاهما الأرض مثقال خردلة تم سجوده. وأما من رأى أن الواجب هو امتثال كل ما ينطلق عليه الاسم فالواجب عنده أن يسجد على الجبهة والأنف. والشافعي يقول: إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله فعله عليه الصلاة والسلام وبينه فإنه كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء, فوجب أن يكون فعله مفسرا للحديث المجمل. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه الأنف والجبهة. قال القاضي أبو الوليد: وذكر بعضهم الجبهة فقط وكلا الروايتين في كتاب مسلم وذلك حجة لمالك. واختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه أم ليس ذلك من شرطه؟ فقال مالك: ليس ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود. ومن هذا الباب اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه ثلاثة مذاهب: قول بالمنع وقول بالجواز وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها شيء وهذا الاختلاف كله موجود في المذهب وعند فقهاء الأمصار وفي البخاري كانوا يسجدون على القلانس والعمائم. واحتج من لم ير إبراز اليدين في السجود بقول ابن عباس أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكفت ثوبا ولا شعرا وقياسا على الركبتين وعلى الصلاة في الخفين يمكن أن يحتج بهذا العموم في السجود على العمامة.
المسألة الثامنة : اتفق العلماء على كراهية الإقعاء في الصلاة لما جاء في الحديث من النهي أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب إلا أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم فبعضهم رأى أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على أليتيه في الصلاة ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من هيئات الصلاة. وقوم رأوا أن معنى
الإقعاء الذي نهي عنه هو أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهو أن يجلس على صدور قدميه وهو مذهب مالك لما روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إنما كان يفعل ذلك لأنه كان يشتكي قدميه. وأما ابن عباس فكان يقول الإقعاء على القدمين في السجود على هذه الصفة هو سنة نبيكم, خرجه مسلم. وسبب اختلافهم هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل على معنى شرعي. أعني على هيئة خصها الشرع بهذا الاسم فمن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال: هو إقعاء الكلب. ومن رأى أنه يدل على معنى شرعي قال: إنما أريد بذلك إحدى هيئات الصلاة المنهي عنها ولما ثبت عن ابن عمر أن قعود الرجل على صدور قدميه ليس من سنة الصلاة سبق إلى اعتقاده أن هذه الهيئة هي التي أريد بالإقعاء المنهي عنه وهذا ضعيف فإن الأسماء التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي بخلاف الأمر في الأسماء التي تثبت لها معان شرعية: أعني أنه يجب أن يحمل على المعاني الشرعية حتى يدل الدليل على المعنى اللغوي مع أنه قد عارض حديث ابن عمر في ذلك حديث ابن عباس.
الباب الثاني: من الجملة الثالثة
الفصل الأول: في معرفة حكم صلاة الجماعة
الباب الثاني من الجملة الثالثةوهذا الباب الكلام المحيط بقواعده فيه فصول سبعة: أحدها: في معرفة حكم صلاة الجماعة. والثاني في معرفة شروط الإمامة ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به. الثالث: في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين. الرابع: في معرفة ما يتبع فيه المأموم الإمام مما ليس يتبعه. الخامس: في صفة الاتباع. السادس: فيما يحمله الإمام عن المأمومين. السابع: في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.
الفصل الأول في معرفة حكم صلاة الجماعة
في هذا الفصل مسألتان: إحداهما: هل صلاة الجماعة واجبة على من سمع النداء أم ليست بواجبة. المسألة الثانية: إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى هل
يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أم لا؟.
أما المسألة الأولى : فإن العلماء اختلفوا فيها فذهب الجمهور إلى أنها سنة أو فرض على الكفاية. وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف. والسبب في اختلافهم تعارض مفهومات الآثار في ذلك وذلك أن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة" يعني أن الصلاة في جماعات من جنس المندوب إليه وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة فكأنه قال عليه الصلاة والسلام صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد. والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء وحديث الأعمى المشهور حين استأذنه في التخلف عن صلاة الجماعة لأنه لا قائد له فرخص له في ذلك ثم قال له عليه الصلاة والسلام: "أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: لا أجد لك رخصة" هو كالنص في وجوبها مع عدم العذر, خرجه مسلم. ومما يقوي هذا حديث أبي هريرة المتفق على صحته وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" وحديث ابن مسعود وقال فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه وفي بعض رواياته ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك الجمع بتأويل حديث مخالفه وصرفه إلى ظاهر الحديث الذي تمسك به. فأما أهل الظاهر فإنهم قالوا: إن المفاضلة لا يمنع أن تقع في الواجبات أنفسها: أي إن صلاة الجماعة في حق من فرضه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في حق من سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك الدرجات المذكورة. قالوا: وعلى هذا فلا تعارض بين الحديثين واحتجوا لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام:
"صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" وأما أولئك فزعموا أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم الجمعة إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه الإتيان إليه باتفاق وهذا فيه بعد والله أعلم لأن نص الحديث هو أن أبا هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم, قال: فأجب" وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة مع أن الإتيان إلى صلاة الجمعة واجب على كل من كان في المصر وإن لم يسمع النداء ولا أعرف في ذلك خلافا. وعارض هذا الحديث أيضا حديث عتبان بن مالك المذكور في الموطأ وفيه أن عتبان بن مالك كان يؤم وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه تكون الظلمة والمطر والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أين تحب أن أصلي" فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المسألة الثانية : فإن الذي دخل المسجد وقد صلى لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون صلى منفردا وإما أن يكون صلى في جماعة. فإن كان صلى منفردا فقال قوم: يعيد معهم كل الصلوات إلا المغرب فقط, وممن قال بهذا القول مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر. وقال الأوزاعي: إلا المغرب والصبح. وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر. وقال الشافعي: يعيد الصلوات كلها, وإنما اتفقوا على إيجاب إعادة الصلاة عليه بالجملة لحديث بشر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين دخل المسجد ولم يصل معه: "ما لك لم تصل مع الناس: ألست برجل مسلم؟ فقال بلى يا رسول الله ولكني صليت في أهلي, فقال عليه الصلاة والسلام: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" فاختلف الناس لاحتمال تخصيص هذا العموم بالقياس أو بالدليل فمن حمله على عمومه أوجب عليه إعادة الصلوات
كلها وهو مذهب الشافعي وأما من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك رحمه الله وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب هي وتر فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع التي ليست بوتر لأنها كانت تكون بمجموع ذلك ست ركعات فكأنها كانت تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى وذلك مبطل لها وهذا القياس فيه ضعف لأن السلام قد فصل بين الأوتار والتمسك بالعموم أقوى من الاستثناء بهذا النوع من القياس وأقوى من هذا ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون قد أوتر مرتين وقد جاء في الأثر لا وتران في ليلة وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الصلاة الثانية تكون له نفلا فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد العصر وقد جاء النهي عن ذلك فخصص العصر بهذا القياس والمغرب بأنها وتر والوتر لا يعاد وهذا قياس جيد إن سلم لهم الشافعية أن الصلاة الأخيرة لهم نفل. وأما من فرق بين العصر والصبح في ذلك فلأنه لم تختلف الآثار في النهي عن الصلاة بعد الصبح واختلف في الصلاة بعد العصر كما تقدم وهو قول الأوزاعي. وأما إذا صلى في جماعة فهل يعيد في جماعة أخرى؟ فأكثر الفقهاء على أنه لا يعيد, منهم مالك وأبو حنيفة, وقال بعضهم: بل يعيد وممن قال بهذا القول أحمد وداود وأهل الظاهر. والسبب في اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في ذلك وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تصلى صلاة في يوم مرتين" وروي عنه أنه أمر الذين صلوا في جماعة أن يعيدوا مع الجماعة الثانية وأيضا فإن ظاهر حديث بسر يوجب الإعادة على كل مصل إذا جاء المسجد فإن قوته قوة العموم والأكثر على أنه إذا ورد العام على سبب خاص لا يقتصر به على سببه وصلاة معاذ مع النبي عليه الصلاة والسلام ثم كان يؤم قومه في تلك الصلاة فيه دليل على جواز إعادة الصلاة في الجماعة فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الجمع ومذهب الترجيح. أما من ذهب مذهب الترجيح فإنه أخذ بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" ولم يستثن من ذلك إلا صلاة المنفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها. وأما من ذهب مذهب الجمع فقالوا إن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" إنما ذلك
أن لا يصلي الرجل الصلاة الواحدة بعينها مرتين يعتقد في كل واحدة منهما أنها فرض بل يعتقد في الثانية أنها زائدة على الفرض ولكنه مأمور بها وقال قوم: بل معنى هذا الحديث إنما هو للمنفرد أعني ألا يصلي الرجل المنفرد: صلاة واحدة بعينها مرتين.
الفصل الثاني: في معرفة شروط الإمامة
ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به. وفي هذا الفصل مسائل أربع:المسألة الأولى : اختلفوا فيمن أولى بالإمامة فقال مالك يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد يؤم القوم أقرؤهم. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يباع في بيته على تكرمته إلا بإذنه" وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف العلماء في مفهومه فمنهم من حمله على ظاهره وهو أبو حنيفة ومنهم من فهم من الأقرأ هاهنا الأفقه لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة وأيضا فإن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة وذلك بخلاف ما عليه الناس اليوم.
المسألة الثانية : اختلف الناس في إمامة الصبي الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا فأجاز ذلك قوم لعموم هذا الأثر1 ولحديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو صبي ومنع ذلك قوم مطلقا وأجازه قوم في النفل ولم يجيزوه في الفريضة وهو مروي عن مالك. وسبب الخلاف في ذلك هل
ـــــــ
1 ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع أنه لم يذكر أثرا فلهذا نبهنا على زيادته.
يؤم أحد في واجبة عليه من وجبت عليه وذلك لاختلاف نية الإمام والمأموم؟.
المسألة الثالثة : اختلفوا في إمامة الفاسق فردها قوم بإطلاق وأجازها قوم بإطلاق وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به فقالوا: إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا وإن كان مظنونا استحبت له الإعادة في الوقت وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول. وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع والقياس فيه متعارض. فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن يحتاج المأموم من إمامه إلا صحة صلاته فقط على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز إمامة الفاسق ومن قاس الإمامة على الشهادة واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته ولذلك فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير تأويل وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به لأنه إذا كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله وقد رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "يؤم القوم أقرؤهم" قالوا: فلم يستثن من ذلك فاسقا محمود والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة.
المسألة الرابعة : اختلفوا في إمامة المرأة فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء فأجاز ذلك الشافعي ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "أخروهن حيث أخرهن
الله ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من اختلافهم المشترطة في الإمام تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع. قال القاضي: وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة أو ما له تعلق قريب بالمسموع.
وأما أحكام الإمام الخاصة به فإن في ذلك أربع مسائل متعلقة بالسمع: إحداها هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن؟ أم المأموم هو الذي يؤمن فقط. والثانية متى يكبر تكبيرة الإحرام؟ والثالثة إذا ارتج عليه هل يفتح عليه أم لا؟ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين. فأما هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب فإن مالكا ذهب في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء وهي رواية المدنيين عن مالك. وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر: أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا" والحديث الثاني ما خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين" فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام: أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط ولكن الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام وإنما الخلاف بينه وبين
الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا ويمكن أيضا أن يتأول الحديث الأول بأن يقال إن معنى قوله: "فإذا أمن الإمام فأمنوا" أي فإذا بلغ موضع التأمين وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا عدول عن الظاهر مفهوم من الحديث إلا بقياس: أعني أن يفهم من قوله: "فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا" أنه لا يؤمن الإمام. وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا: لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة. وقوم قالوا: إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر. وسبب الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال. أما حديث أنس فقال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة, مثل ما روى عن عمر أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ يكبر. وأما حديث بلال فإنه روى أنه كان يقيم للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول له: يا رسول الله لا تسبقني بآمين خرجه الطحاوي. قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم. وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا ارتج عليه فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه ومنع ذلك الكوفيون. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار وذلك أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد في آية فلما انصرف قال: "أين أبي ألم يكن في القوم؟" أي يريد الفتح عليه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يفتح على الإمام" والخلاف في ذلك في الصدر الأول والمنع مشهور عن علي والجواز عن ابن عمر مشهور. وأما موضع الإمام فإن قوما أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين وقوم منعوا ذلك وقوم استحبوا من ذلك اليسير وهو مذهب مالك. وسبب الخلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث الثابت: أنه عليه الصلاة والسلام أم
الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر والثاني ما رواه أبو داود أن حذيفة أم الناس على دكان فأخذ ابن مسعود بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك أو ينهى عن ذلك؟. وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة ورأى قوم أن هذا محتمل وأنه لا بد من ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين وهذا على مذهب من يرى أن الإمام يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين.
الفصل الثالث في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين
وفي هذا الفصل خمس مسائل:
المسألة الأولى : اتفق جمهور العلماء على أن سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره وأنهم إن كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه واختلفوا إذا كانا اثنين سوى الإمام فذهب مالك والشافعي إلى أنهما يقومان خلف الإمام. وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: بل يقوم الإمام بينهما. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال: قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا خلفه والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام وسطهما وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: واختلف رواة هذا الحديث فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده والصحيح أنه موقوف وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام أو خلف الإمام إن كانت وحدها فلا أعلم في ذلك خلافا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال: فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا والذي خرجه عنه أيضا مالك أنه قال: فصففت أنا واليتيم وراءه عليه الصلاة والسلام والعجوز من ورائنا وسنة الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة. وقال قوم: بل عن يساره ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه.
المسألة الثانية : أجمع العلماء على أن الصف الأول مرغب فيه وكذلك تراص الصفوف وتسويتها لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده فالجمهور على أن صلاته تجزئ. وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل له وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لقائم خلف الصف" وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس. وكان أحمد يقول: ليس في ذلك حجة لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال. وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة. وقال غيره: هو من مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة. واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له: "زادك الله حرصا ولا تعد" ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض: أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة.
المسألة الثالثة : اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة؟ فروي عن عمر وابن عمر وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة. وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا السعي بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا
الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .
وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير ولكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال التقرب.
المسألة الرابعة : متى يستحب أن يقام إلى الصلاة فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة وبعض عند قوله: قد قامت الصلاة وبعضهم عند حي على الفلاح وبعضهم قال: حتى يروا الإمام وبعضهم لم يحد في ذلك حدا كمالك رضي الله عنه فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فإن صح هذا وجب العمل به وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه: أعني أنه ليس فيها شرع وأنه متى قام كل فحسن.
المسألة الخامسة : ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له دون الصف الأول ثم يدب راكعا وكره ذلك الشافعي وفرق أبو حنيفة بين الجماعة والواحد فكرهه للواحد وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة وهو أنه دخل هم ركوع فركع ثم سعى إلى الصف فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الساعي؟ قال أبو بكرة أنا قال: زادك الله حرصا ولا تعد" .
الفصل الرابع في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام
وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله
إلا في قوله: سمع الله لمن حمده وفي جلوسه إذا صلى جالسا لمرض عند من أجاز إمامة الجالس. وأما اختلافهم في قوله سمع الله لمن حمده فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده فقط ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد فقط وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وغيرهما. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وأن المأموم يتبع فيهما معا الإمام كسائر التكبير سواء. وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا ولا خلاف في المنفرد: أعني أنه يقولهما جميعا. وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" والحديث الثاني حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" فمن رجح مفهوم حديث أنس قال: لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا الإمام ربنا ولك الحمد وهو من باب دليل الخطاب لأنه جعل حكم المسكوت عنه خلاف حكم المنطوق به. ومن رجح حديث ابن عمر قال: يقول الإمام ربنا ولك الحمد ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم. والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده. وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب. وحديث أنس يقتضي بعمومه أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده بعموم قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وبدليل خطابه ألا يقولها فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب لكن العموم يختلف أيضا في القوة
والضعف ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوم من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية: أعني في المأموم.
وأما المسألة الثانية: وهي خلف القاعد فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا وممن قال بهذا القول أحمد وإسحاق والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما. قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم وزاد هؤلاء فقالوا يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يومئ إيماء. وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع والأول هو المشهور عنه. وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار: أعني عمل أهل المدينة عند مالك وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أنس وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وحديث عائشة في في معناه وهو أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصل وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" والحديث الثاني حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ ومذهب
الترجيح. فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث عائشة وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس وأن أبا بكر كان مسمعا لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة وإن الناس كانوا قياما وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان آخر فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم. وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر؟ وأما مالك فليس له مستند من السماع لأن كلا على جواز إمامة القاعد وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه. قال أبو عمر: وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن بعدي قاعدا" قال أبو عمر: وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بمارواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض فكان أبو بكر هو الإمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال: "ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته" وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث.
الفصل الخامس: في صفة الاتباع
وفيه مسألتان: إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم والثانية في حكم من رفع رأسه قبل الإمام. أما اختلافهم في وقت تكبيرة المأموم فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام قال: وإن كبر معهأجزأه وقد قيل إنه لا يجزئه وأما إن كبر قبله فلا يجزئه. وقال أبو حنيفة: وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام فإن فرغ قبله لم يجزه. وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر. والثانية أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا كبر فكبروا" والثاني ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم الطهارة وهو أيضا مبني على أصله في أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام والحديث ليس فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أم لم يستأنفوه فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه. وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء ولكن صلاته جائزة وأنه يجب عليه أن يرجع فيتبع الإمام. وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" ؟.
الفصل السادس فيما حمله الإمام عن المأمومين
واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر به. والثاني أنه لا يقرأ معه أصلا. والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغيرها وفيما جهر أم الكتاب فقط وبعضهم فرق في الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع ونهاه عنها إذا سمع وبالأول قال مالك إلا أنه يستحسن له القراءة فيما أسر فيه الإمام. وبالثاني قال أبو حنيفة وبالثالث قال الشافعي والتفرقة بين أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل. والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الباب وبناء بعضها على بعض,
وذلك أن في ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وما ورد من الأحاديث في هذا المعنى مما قد ذكرناه في باب وجوب القراءة. والثاني ما روى مالك عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: "هل قرأ معي منكم أحد آنفا" فقال رجل: نعم أنا يا رسول الله فقال رسول الله: "إني أقول ما لي أنازع القرآن" فانتهى الناس عن القراءة فيما الرجعة فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث حديث عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: "إني لأراكم تقرأون وراء الإمام" قلنا نعم قال: "فلا تفعلوا إلا بأم القرآن" قال أبو عمر وحديث عبادة بن الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند صحيح. الحديث الرابع حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" وفي هذا حديث خامس صححه أحمد بن حنبل وهو ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا" فاختلف الناس في وجه جمع هذه الأحاديث. فمن الناس من استثنى من النهي عن القراءة فيما الرجعة فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن الصامت. ومنهم من استثنى من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد عن القراءة فيما الرجعة فيه الإمام في حديث أبي هريرة وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قالوا: وهذا إنما ورد في الصلاة. ومنهم من استثنى القراءة الواجبة على المصلى للمأموم فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا وجعل الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط مصيرا إلى حديث جابر وهو مذهب أبي حنيفة فصار عنده حديث جابر مخصصا لقوله عليه الصلاة والسلام: "واقرأ ما تيسر معك فقط" لأنه لا يرى وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة وإنما يرى وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم وحديث جابر لم يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي, ولا حجة في شيء مما ينفرد به. قال أبو عمر: وهو حديث لا يصح إلا مرفوعا عن جابر.
الفصل السابع
في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.
واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد. واختلفوا إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة فقال قوم: صلاتهم صحيحة وقال قوم صلاتهم فاسدة وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو ناسيا لها فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم وبالأول قال الشافعي وبالثاني قال أبو حنيفة وبالثالث قال مالك. وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست مرتبطة؟ فمن لم يرها مرتبطة قال: صلاتهم جائزة ومن رآها مرتبطة قال: صلاتهم فاسدة ومن فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم و الشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة مرتبطة للزم أن يبدؤوا بالصلاة مرة ثانية.
الباب الثالث: من الجملة الثالثة
مدخل
الباب الثالث من الجملة الثالثةوالكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في وجوب الجمعة وعلى من تجب. الثاني: في شروط الجمعة. الثالث: في أركان الجمعة. الرابع: في أحكام الجمعة.
الفصل الأول: في وجوب الجمعة ومن تجب عليه
أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر ولظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}الفصل الثاني في شروط الجمعة
وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها: أعني ما عدا الوقت والأذان فإنهم اختلفوا فيهما وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها. أما الوقت فإن الجمهور على أن وقتها وقت الظهر بعينه: أعني وقت الزوال وأنها لا تجوز قبل الزوال وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن حنبل. والسبب في هذا الاختلاف الاختلاف في مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا نتغدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقيل إلا بعد الجمعة. ومثل ما روى أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال فمن فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك ومن لم يفهم منها إلا التبكير فقط لم يجز ذلك لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن مالك أن النبي