كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، فَسَقَطَ سُؤَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا حُكْمُ دَاوُد فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ ( بِحُكْمٍ ) اسْتَمَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ ، ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهَا عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } مَعْنَاهُ : أَنَّا عَلَّمْنَاهُ حُكْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ ، وَلَمْ يُصِبْهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فَخَصَّ سُلَيْمَانَ ) بِالْفَهْمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفَاهُ مِنْ الْحُكْمِ .
قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مُصِيبَانِ جَمِيعًا : قَوْله تَعَالَى : { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَوَصَفَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي تَعَبَّدَا بِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ كَانَ دَاوُد مُصِيبًا لِلْحُكْمِ لِمَ نَقَضَهُ سُلَيْمَانُ حِينَ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ حُكْمِ دَاوُد فِيهَا ؟ قِيلَ لَهُ : الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَائِمٌ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْقَوْمِ الْحُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَمْ يُمْضِهِ ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ قَالَ : الْحُكْمُ عِنْدِي كَيْتَ وَكَيْتَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ ، وَنَصَّ لَهُ
عَلَيْهَا ، فَكَانَ قَوْلُ دَاوُد فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَمَا نَصَّ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ خِلَافُ حُكْمِ دَاوُد قَبْلَ أَنْ يُمْضِيَ دَاوُد مَا رَآهُ فِيهَا .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهُ فَهَّمَهَا سُلَيْمَانَ ، يَعْنِي بِنَصٍّ مِنْ عِنْدِهِ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ لِدَاوُدَ فِي الْحُكُومَةِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَاد .
مِنْهَا : إذْنُهُ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ } وَمِنْهَا : مَا كَانَ مِنْهُ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى ، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ ، فَلَمْ يُعَرَّ مِنْ الْخَطَأِ فِيهِ .
( قِيلَ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْقَفَهُ عَلَى حَقِيقَةِ النَّظِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَطَأُ ) خَطَأً فِي الدِّينِ ، وَلَكِنَّهُ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ ، وَعُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ النَّظِيرِ عَلَى مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْك } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَنْبًا .
وَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ ذَنْبٌ .
وَالْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } يَعْنِي سَهَّلَ عَلَيْكُمْ .
وَاحْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ .
قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ لَهُمْ : وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ الْحِصْنِ أَوْ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ تَعَالَى ، فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ تَعَالَى ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ } قَالُوا : فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ : إنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ .
وَبِقَوْلِ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ } ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ مِثْلَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } ، ( قَالُوا ) : فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُنَبِّئُ عَنْ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُتْيَا ، وَهِيَ نَافِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .
الْجَوَابُ : أَمَّا حَدِيثُ ، بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ } يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانُوا عَرَفُوهُ حِينَ فَارَقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِهِ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ إذَا نَزَلُوا عَلَيْهِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا عِنْدَ نُزُولِهِمْ ، فَيَلْزَمُنَا إمْضَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَرَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَصْلَحَ : مِنْ قَتْلٍ ، أَوْ سَبْيٍ ، أَوْ مَنٍّ ، وَاسْتِبْقَاءٍ ، وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقَوْمِ .
فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ تَعَالَى ، وَأَنْتُمْ الْآنَ قَبْلَ نُزُولِهِمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُونَهُ إذَا اجْتَهَدْتُمْ فِي أُمُورِهِمْ بَعْدَ نُزُولِهِمْ ، وَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ .
فَيَكُونُ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ التَّعْزِيرِ لَهُمْ مِمَّا ( لَمْ ) يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ
حُكْمَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَنَا فِيهِمْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ ، دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إذَا أَصَابَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ - وَإِصَابَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ - ( فَلَهُ أَجْرَانِ ) وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ، فَيَكُونُ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ ،
مُخْطِئًا فِي أَحَدِهِمَا لِلْأَشْبَهِ ، لَا لِلْحُكْمِ ، إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَشْبَهُ هُوَ الْحُكْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ ، كَخَطَأِ الرَّامِي لِلْكَافِرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي أَحَدِهِمَا أَجْرَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ أَجْرًا وَاحِدًا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَجْرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَعْدِ لَهُ بِالتَّفْضِيلِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا وَعَدَ أَحَدَهُمَا زِيَادَةَ أَجْرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ .
وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعِدَّ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، كَمَا هُوَ جَائِزٌ ( مُتَعَالَمٌ بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ حَكِيمٌ ) مِنْ الْحُكَمَاءِ لِرَجُلَيْنِ : ارْمِيَا هَذَا الْكَافِرَ
فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمَا فَلَهُ دِينَارَانِ ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ ( مُمْتَنِعًا وَيَكُونُ ) الْفَضْلُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُصِيبِ مِنْهُمَا ، تَحْرِيضًا لَهُمَا ، وَتَطْيِيبًا فِي وُقُوعِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّسْدِيدِ ، وَتَحَرِّي إصَابَةِ الْمَرْمَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا .
وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَوَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي ذَلِكَ .
كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ لِلْمُصِيبِ الْأَشْبَهَ ، غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِنَفْسِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا وَعَدَ بِهَا تَحْرِيضًا وَحَثًّا عَلَى التَّقَصِّي فِي الِاجْتِهَادِ ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحَرِّي الْمَطْلُوبِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ .
قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ أَجْرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ ، حِينَ كَانَ الْوَعْدُ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلٍ يَكُونُ مِنْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } .
فَسَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ فِي إيجَابِهِ الْأَجْرَيْنِ لِمَنْ أَصَابَ الْأَشْبَهَ مِنْهُمَا : وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ مُتَعَلِّقَةً بِضَرْبٍ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، يُصَادِفُ بِهَا مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا دُونَهَا مِنْ التَّقَصِّي وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَلَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا لِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَلَا يُصِيبُ الْأَشْبَهَ مَعَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ الضَّرْبَانِ جَمِيعًا مِنْ الِاجْتِهَادِ جَائِزَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ .
إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ لِلْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ مُسْتَحَقًّا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِ زِيَادَةِ اجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِ الَّذِي قَصَّرَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ .
وَهَذَا جَائِزٌ سَائِغٌ ، نَحْوُ وُرُودِ الْعِبَادَةِ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : { وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ الْفَضْلِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ، فَأَبَاحَ لَنَا الْإِفْطَارَ ، وَأَخْبَرَ بِالْفَصْلِ .
{ وَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً ، وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ،ثُمَّ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ ، ضَاعَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ } .
وَأُبِيحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَإِنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا كَانَ أَفْضَلَ .
( وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ لَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَهَا كَانَ أَفْضَلَ ) وَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِي إتْيَانِهَا ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : التَّقَصِّي ( فِيهِ ) ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ ، فَيَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُصَادَفَةُ الْمَطْلُوبِ ، الَّذِي لَوْ انْكَشَفَ أَمْرُهُ لِلْمُجْتَهِدِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ
وَاجْتِهَادُ دُونِهِ : قَدْ أُبِيحَ لِلْمُجْتَهِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ ، وَإِنْ ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ أَنَّهُ ( قَدْ ) وَافَقَهُ .
فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا ، كَمَا قُلْنَا فِي نَظَائِرِهِ - الَّتِي وَصَفْنَا - فِي النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ بِهَذَا الْخَبَرِ : خَبِّرْنَا عَنْ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ ، هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؟
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يَكُونُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ إذَا فَعَلَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بِهِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى الْخَطَأِ ؟
وَإِنْ قَالَ : هُوَ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى خَطَأٍ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ ؟ هَذَا خَلْفٌ فِي الْقَوْلِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ( قَالَ ) : { وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ } .
قَالُوا : وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، مَا هُنَاكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ أَحَدٍ .
فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ فِي الْمَقَايِيسِ مُخْتَلِفَةٌ .
فَمِنْهَا : مَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَالْحَقُّ فِيهِ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ .
وَمِنْهَا : مَا يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا ، لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ ( الْمَنْصُوصَةِ عَلَيْهِ ) وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ ، وَمَا يَجُوزُ مِنْهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ ، وَأَعْلَمُ بِمَوَاضِعِ النُّصُوصِ مِنْ بَعْضٍ ، فَلَيْسَ إذًا فِي كَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْفِي صِحَّةَ قَوْلِنَا .
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ : مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ : ( أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللهِ تَعَالَى ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ ) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ ( فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ يَتَحَدَّثُ إلَيْهَا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ ، وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَقَالُوا : لَا شَيْءَ عَلَيْك ، إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ ، وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا ، وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك ، أَرَاك قَدْ ضَمِنْت ، فَقَبِلَ قَوْلَهُ دُونَهُمْ ، وَضَمِنَهُ )
فَقَدْ أَطْلَقَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ .
وَبِمَا رُوِيَ ( أَنَّ عُمَرَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَصَبْت أَصَابَ اللَّهُ بِكَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ وَلَكِنِّي لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ ) .
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَاتِبًا كَتَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ الْقَضَاءِ ، سُئِلَ عَنْهُ ، فَكَتَبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ تَعَالَى عُمَرَ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَمْحُوَهُ وَيَكْتُبَ : هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ ، وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ وَمَا يُؤَدِّيه
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، لَمَا امْتَنَعَ كَأَنَّ يَكْتُبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ .
وَبِقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ : ( فَمَنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا ، أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللهِ تَعَالَى ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي ) .
وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ ، وَلَا يَجْعَلُ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ؟ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ ) .
وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى ) نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
وَبِقَوْلِ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : ( أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْت رَجُلًا عَلَى فَاحِشَةٍ .
أَكُنْتَ تُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؟ قَالَ : لَا ، حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي ، قَالَ : فَقُلْتُ : لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْتُ أَنَّك لَمْ تُصِبْ ) .
وَبِمَا رُوِيَ ( أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْ صَيْدٍ أَصَابَهُ حَلَالٌ ( يَأْكُلُ ) مِنْهُ الْمُحْرِمُ ؟ فَأَفْتَى بِأَكْلِهِ ، ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ ، فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ فُتْيَاهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لَأَوْجَعْتُك ) .
( وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : إنَّ شُرَيْحًا يَقْضِي فِي مُكَاتَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ : أَنَّ الدَّيْنَ وَالْكِتَابَةَ بِالْحِصَصِ ، قَالَ : أَخْطَأَ شُرَيْحٌ ) ، قَالُوا : فَقَدْ أَجَازَ هَؤُلَاءِ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ ، وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَهُ عَلَيْهِمْ .
الْجَوَابُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ : وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ : إنَّمَا هُوَ إشْفَاقٌ ( مِنْهُمَا ) أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ آرَائِهِمَا ،وَقَدْ كَانُوا يَعْرِضُونَ آرَاءَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرُوا ، هَلْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْحَاضِرِينَ ؟ ( فَأَخْبَرَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ ) هُنَاكَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ رَأْيِهِمَا ، فَاسْتِعْمَالهمَا لِلرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَطَأٌ ، مِنْهُمَا وَمِنْ الشَّيْطَانِ ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلرَّأْيِ مَعَ السُّنَّةِ ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، تَسْأَلُهُ عَنْ مِيرَاثِهَا ، قَالَ : ( مَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا ، وَسَأَلَ النَّاسَ ، فَلَمَّا سَأَلَ أُخْبِرَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمَةً فِي مِيرَاثِهَا ) فَأَشْفَقَ حِينَ رَأَى فِي الْكَلَالَةِ مَا رَأَى ، أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ رَأْيِهِ .
وَيُبَيِّنُ لَك هَذَا : قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ( أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا أَعْلَمُ ) فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكَلَالَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ، لَمْ يَكُنْ قَوْلًا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بِخِلَافِهِ ) .
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ أَخْطَئُوا حُكْمَ اللهِ تَعَالَى .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدِي ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يَرْوِيه الْحَسَنُ ، وَالْحَسَنُ لَمْ يُشَاهِدْ ( هَذِهِ ) الْقِصَّةَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا أَدْرِي أَصَبْت أَمْ أَخْطَأْت ؟ هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : لَا أَدْرَى أَصَبْتُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْأَشْبَهَ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ ، أَمْ لَا .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ عُمَرَ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ : هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ ، فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ ، يُوهِمُ أَنَّهُ ( قَالَ ) مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ ، إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِيه
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ } وَمُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - : مَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَأُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَلَا يَتَّقِ اللَّهَ زَيْدٌ ؟ وَقَوْلُهُ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته : أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا .
وَذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ مُخَالِفَهُ فِي الْجَدِّ ، تَارِكٌ ( لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى ) ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيمَنْ يُخَالِفُ فِي الْجَدِّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : إنَّ مَنْ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْجَدِّ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُتْيَا ، إلَّا قَوْمًا خَارِجِينَ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ .
وَظَاهِرُ ذَلِكَ عِنْدَنَا : مِنْ قَوْلِهِ : إنْ أَخْبَرَ عَنْ اسْتِبْصَارِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُصِيبٌ - فِي الْحَقِيقَةِ - النَّظِيرَ ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ - إعْلَامًا مِنْهُ لِلسَّامِعِينَ - بِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ ، وَلَا نَاظِرٍ .
وَلَوْ بَاهَلَ لَكَانَتْ مُبَاهَلَتُهُ مُنْصَرِفَةً إلَى أَنَّ هَذَا عِنْدِي كَذَا ، وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ الْمُبَاهَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
( فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى مُخَالِفِيهِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئِينَ لِلْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدُوا بِهِ ) .
وَكَذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته ، أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نَزَلَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ، إنَّمَا ( هُوَ )إخْبَارٌ عَنْ عِلْمِهِ بِتَارِيخِ نُزُولِ السُّورَتَيْنِ ، وَمَعْنَى الْمُبَاهَلَةِ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَرَاجِعٌ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَوْ قُلْت غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْت أَنَّك لَمْ تُصِبْ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّك لَمْ تُصِبْ عِنْدِي حَقِيقَةَ النَّظِيرِ ، الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي فُتْيَاهُ : لَوْ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُكَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَهْيَهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّسَرُّعِ فِي الْجَوَابِ ، إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يَسْأَلُ عَنْهُ ، مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ مِنْهُ إلَى إمَامِهِ ، أَوْ إلَى مُشَاوَرَةِ قَوْمٍ مِنْ ذَوِي الْفِقْهِ .
سُؤَالٌ : -وَمِمَّا يَسْأَلُ أَيْضًا : مِنْ أَيْنَ هَذَا الْمَذْهَبُ ؟ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَتَنَافِيهَا ، وَإِلَى مَا يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهِ مِنْ اللهِ تَعَالَى .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَجَابَهُ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ .
وَسُئِلَ آخَرُ : فَأَجَابَهُ فِيهَا بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَمَعْلُومٌ : أَنَّ عَلَيْهِ الْمَصِيرَ إلَى قَوْلِ الْمُفْتِينَ ، فَيُوجِبُ هَذَا عَلَيْهِ اعْتِقَادَ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ ، فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَيَلْزَمُونَ عَلَى ذَلِكَ تَجْوِيزَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّيْنِ ، فَيَأْمُرَ أَحَدَهُمَا بِإِيجَابِ حَظْرِ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ ، وَيَأْمُرَ الْآخَرَ بِإِبَاحَتِهَا لَهُ بِعَيْنِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَيَكُونُ فَرْجٌ وَاحِدٌ مَحْظُورًا مُبَاحًا ، عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي نَبِيَّيْنِ يَأْمُرَانِهِ بِذَلِكَ ، لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ نَبِيٌّ وَاحِدٌ ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : هَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك ، وَمُبَاحٌ لَك فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ ، يَمْتَنِعُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى .
قَالُوا : وَيُوجِبُ تَجْوِيزَ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّبِيَّيْنِ : أَنْ يَكُونَ إنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ فَقَدْ أُبِيحَ لَهُ إذًا مُخَالَفَةُ أَمْرِ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ .
قَالُوا : وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ لَوْ وَقَعَ لَهُ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ
جَمِيعًا ، وَلَمْ يَبِنْ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُ مِنْ الْآخَرِ بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ : أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ .
فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ ، عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى وَاحِدٌ ( مِنْهُمَا ) ، وَأَنَّ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا جَمَاعَةَ أَقَاوِيلَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا خَطَأً ، وَالصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ غَيْرِهَا .
الْجَوَابُ : أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنَّمَا غَلِطَ السَّائِلُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ ، فَظَنَّ فِيهِ شَيْئًا صَادَفَ ظَنَّهُ غَيْرَ حَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ ، فَأَخْطَأَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِلْزَامِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُفْتٍ أَفْتَى بِشَيْءٍ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي اتِّبَاعَ فُتْيَاهُ وَمَذْهَبِهِ ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ : إذَا تَسَاوَى عِنْدَك حَالُ الْفَقِيهَيْنِ ، فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي قَبُولِ فُتْيَايَ أَوْ تَرْكِهَا ، وَقَبُولِ فُتْيَا غَيْرِي ، فَإِنْ أَخَذْتَ بِقَوْلِي ، وَاخْتَرْتُهُ فَعَلَيْكَ فِيهِ كَيْتَ وَكَيْتَ .
وَإِنْ اخْتَرْت قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِي - مِمَّنْ يَقُولُ بِضِدِّ مَذْهَبِي - لَمْ يَلْزَمْكَ اتِّبَاعُ قَوْلِي ، وَكَانَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ مَا أَفْتَاكَ بِهِ دُونَ فُتْيَايَ .
فَإِذَا أَفْتَاهُ الْمُفْتِيَانِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ ، فَإِنْ يُصْدَرْ فُتْيَا ( كُلِّ ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قَائِلِهَا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَيَكُونُ الْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ الَّذِي عَلَيْهِ ، دُونَ غَيْرِهِ ، وَيَكُونُ الْوَطْءُ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْحَاظِرِ مِنْهُمَا ، غَيْرُ الْوَطْءِ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْمُبِيحِ ، إذَا أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ ، وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَعْنًى غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ ، وَهَذَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي النَّبِيَّيْنِ : جَائِزٌ أَنْ يَبْعَثَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ شَيْءٍ ، وَالْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ، وَلَا يَقُولُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّبِيَّيْنِ : إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَحْظُورٌ عَلَيْك حَظْرًا بَاتًّا ، بَلْ يَقُولُ لَهُ : إنْ اخْتَرْتَ الْمَصِيرَ إلَى هَذَا
الْقَوْلِ لَزِمَكَ حُكْمُهُ ، وَلَك أَنْ لَا تَخْتَارَهُ ، وَتَصِيرُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ الْآخَرِ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُك مَا يَخْتَارُهُ ،وَيَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِمِثْلِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَاحِدٍ أَيْضًا .بِأَنْ يَقُولَ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بِأَنْ تُلْزِمَ نَفْسَك أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، بِأَنْ يُقَالَ ( لَهُ ) : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَجْعَلَهُ طَلَاقًا ، أَوْ لَا تَجْعَلَهُ كَذَلِكَ .
فَإِنْ جَعَلْتَهُ طَلَاقًا كَانَتْ مُحَرَّمَةً ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ طَلَاقًا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْكَ .
كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا ، فَيَكُونَ عَلَى حَالِهَا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ أَمَتَهُ بِالْعِتْقِ ، وَبَيْنَ تَرْكِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالرِّقِّ .
وَإِذَا كَانَ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، جَازَ أَنْ يَفْرِضَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَيَكُونَ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، كَمَا خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ نِسَائِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مُخَالَفَةَ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ السَّائِلِ بِذِكْرِ الْمُخَالَفَةِ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ فَلَا ، وَإِنْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْفِعْلِ فَجَائِزٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَقَدَ أَمْرَهُ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِك لَهُ ، دُونَ اخْتِيَارِ ( أَمْرِ ) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْآخَرِ .
فَإِذَا اخْتَارَ أَمْرَ النَّبِيِّ الْآخَرِ ، لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ : فَجَائِزٌ إذَا صَادَفَ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعًا ، كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فِي أَمْرِهِ .
وَقَدْ سَأَلُوا فِي نَحْوِ هَذَا ، بِأَنْ قَالُوا : أَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يَكُونَ نَاهِيًا لِلْمَأْمُورِ عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْآخَرِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ مُبِيحٌ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً لِلْآخَرِ .
فَنَقُولُ لَهُ : إنْ هَهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ، قَدْ ذَهَبَ عَلَيْك أَمْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ مَعْقُولٌ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ إيَّاهُ ، فَإِنْ اخْتَارَهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ اخْتَارَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْآخَرُ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا اخْتَارَهُ ، وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إمْضَاءِ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَإِذَا كَانَ مَصْدَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيَّيْنِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ ، سَقَطَ اعْتِرَاضُ السَّائِلِ لِمَا ذُكِرَ ، وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَمِرَّةً عَلَى أَصْلِ الْقَوْمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ يُوجِبُ إبَاحَتَهَا ، وَدَلِيلُ الْحَظْرِ يُوجِبُ حَظْرَهَا ، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ ، لَوْ وَرَدَ عَلَى هَذَا النَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْتَضِ التَّخْيِيرَ .
وَإِيجَابُ التَّخْيِيرِ ضِدُّ مُوجِبِ الدَّلِيلِ جَمِيعًا .
وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَهُمَا ثَابِتَا الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِذَلِكَ عَلَى جِهَةِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ .
فَأَمَّا وُرُودُهُمَا مَعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمُحَالٌ .
فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الدَّلِيلِ ، لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا كَذَلِكَ لَا يُوجِبَا تَخْيِيرًا .
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِمَدْلُولَاتِهَا ، وَأَنَّهُ
يَجُوزُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً عَنْ مَدْلُولِهَا ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَامَةً ( لَهَا ) وَسِمَةً ، كَدَلَالَاتِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا عُلِّقَ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا ، لَمْ يَمْتَنِعْ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَيَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِي نَفْيِهِ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، مُنَفِّرًا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا .
وَالْكَلَامُ فِي حُكْمِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لَمَّا صَارَا مُوجِبَيْنِ لِلتَّخْيِيرِ مِنْ مُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا .
وَمَتَى قُلْنَا لِلْمُسَائِلِ : إنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ حَجْمِ مُوجِبِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ ، سَقَطَ سُؤَالُهُ ، وَصَارَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهَا .
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ وَجْهَ إيجَابِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَةِ الْحَظْرِ وَجِهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ لِلسَّائِلِ بِحَقِّ النَّظَرِ .
فَنَقُولُ : قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ رُجْحَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ : أَنَّ الْمُوجِبَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ هُوَ الِاجْتِهَادُ ، فَمَتَى زَالَ تَرْجِيحُ الِاجْتِهَادِ لَهُ ، وَصَارَ الِاجْتِهَادُ مُوجِبًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، اسْتَحَالَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ مَعَ نَفْيِ الِاجْتِهَادِ لَهُ ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِيرُ إلَى الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَفْيَ مُوجِبٍ لِلِاجْتِهَادِ ، إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ قَدْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ ، إذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ يَبْطُلُ .
وَلَوْ جَازَ نَفْيُ التَّسْوِيَةِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهَا لَجَازَ نَفْيُ الرُّجْحَانِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهُ ، وَفِي إجَازَةِ ذَلِكَ إبْطَالُ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ، عَلِمْنَا أَنَّ تَسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ
وَالْإِبَاحَةِ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ ، فِي أَنْ يُمْضِيَ أَيَّ الِاجْتِهَادَيْنِ شَاءَ ، فَيَحْكُمُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ ، لِاسْتِحَالَةِ جَمْعِهِمَا ( جَمِيعًا ) فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ ، وَيُحِيلُ تُسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدَيْنِ .
وَمَنْ قَبْلَهُ أَجَازَ ذَلِكَ ( وَيَقُولُ : لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ ) فِي الْعَادَةِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ جِهَتَا الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ .
وَقَدْ يَتَسَاوَى عِنْدَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الْجِهَاتُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ ، أَوْ فِي فَلَاةٍ فِي غَيْمٍ وَظُلْمَةٍ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِيمَا وَصَفْنَاهُ ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا وَتَسَاوِي جِهَاتِ الْإِحْكَامِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَجْهٌ .
فَإِنْ قَالَ : فَإِذَا جَوَّزْتُمْ لِلْمُجْتَهِدِ تَسَاوِي الْحُكْمَيْنِ عِنْدَهُ ، وَاعْتِدَالَهُمَا فِي نَفْسِهِ ، وَأَوْجَبْتُمْ بِهِ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَجَوِّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي حَالٍ ، ثُمَّ يُعْقِبَهُ بِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَالْعُدُولِ عَنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ ، حَتَّى يَخْتَارَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ حَرَامٌ ، طَلَاقَ امْرَأَتِهِ ، وَيَخْتَارَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي لَفْظٍ قَدْ اعْتَدَلَ فِيهِ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ ، ثُمَّ يَخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ، وَيَخْتَارَ رَدَّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ ، وَلَا فِكْرٍ ، وَلَا اجْتِهَادٍ ، كَمَا كَانَ لَهُ بَدْءًا أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ ، إذَا كَانَا عِنْدَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ .
فَكَذَلِكَ يَخْتَارُ الثَّانِيَ عَقِيبَ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَخْتَارَ الْأَوَّلَ ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِاعْتِدَالِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ .
وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى هَذَا : أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتَيْنِ ، فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمَا وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ ، بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَا يَخْتَارَ فِي الْأُخْرَى وَنَوْعِهَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ ، وَأَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا إلَى أَنْ يُوقِفَ ، وَيُحَرِّمَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَا يُحَرِّمَ الْأُخْرَى إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
كَمَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَيْنِ فَيُرَاجِعُ إحْدَاهُمَا ، وَلَا يُرَاجِعُ الْأُخْرَى حَتَّى تَبِينَ .
وَكَمَا أَنَّ لَهُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينَيْنِ أَنْ يَخْتَارَ فِي إحْدَاهُمَا الْعِتْقَ ، وَفِي الْأُخْرَى الْكِسْوَةَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيزُوا لَهُ إذَا اسْتَفْتَاهُ رَجُلَانِ فِي الْحَرَامِ : أَنْ يُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِالطَّلَاقِ ، وَيُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِأَنَّهُ يَمِينٌ ، لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَهُمَا حَاضِرَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْجَوَابُ : أَنَّهُ مَتَى اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ ، إلَّا بِرُجْحَانٍ يُبَيِّنُ لَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ .
وَالْكَلَامُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا .
وَمَتَى قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ جَائِزٍ ، لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ .
فَقِيلَ لَنَا : مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ كَسَائِرِ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ؟ فَشَرَعْنَا فِي ذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، كَانَ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى .
وَعَلَى أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُخَلِّي السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ ، مِنْ إسْقَاطِ سُؤَالِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ فِي فِعْلِ الْآخَرِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، وَبَيْنَ تَبْقِيَتِهَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُطَلَّقَةَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، فَتَبِينَ .
وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ عِتْقِ عَبْدِهِ ، وَبَيْعِهِ ، أَوْ تَرْكِهِ .
وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ مَا بِيعَ فِي شَرِكَتِهِ ، أَوْ جِوَارِهِ بِالشُّفْعَةِ ، وَبَيْنَ أَلَّا يَأْخُذَ ، وَلَا يَطْلُبَ ، فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ .
وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِقَالَةِ ، وَالْخُلْعِ ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُقُودِ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَرْكِ إيقَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ ، سَقَطَ خِيَارُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُدُولُ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَا فَسْخُ مَا كَانَ أَوْقَعَهُ ، مِمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ قَبْلَ إيقَاعِهِ .
وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ : مُخَيَّرٌ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ يَدْخُلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا .
فَإِنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ سَقَطَ خِيَارُهُ ، ( فَإِذْ قَدْ كُنَّا ) وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ ( إيَّاهُ ) ( وَأَمْضَاهُ ) ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَمْضَاهُ ، وَلَا الْعُدُولُ إلَى آخَرَ ، فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِوُجُوهِ خِيَارِهِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالْإِيقَاعِ عَلَى بَقَاءِ خِيَارِهِ فِي فَسْخِ مَا أَوْقَعَ ( وَ ) الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَسَقَطَ بِذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ لَنَا : بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ بَقَاءُ خِيَارِهِ ، مَا لَمْ يَحْدُثْ هُنَاكَ عِنْدَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَارَ الَّذِي يَصْدُرُ لَهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ ، مِمَّا لَا يُمْنَعُ اخْتِيَارُهُ ( لِأَحَدِ أَشْيَاءَ ) ، مِنْ بَقَاءِ خِيَارِهِ دُونَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ لَهُ فِيهَا الْخِيَارُ ، ثُمَّ إذَا أَوْقَعَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْآخَرِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَذْكُرُ الْمَعْنَى الْمُسْقَطِ لِلْخِيَارِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لِلسَّائِلِ .
نُحِقُّ النَّظَرَ إذْ كَانَ الْفَرْضُ حُصُولُ الْفَائِدَةِ .
فَنَقُولُ : إنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ مَعْنًى قَدْ انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا عَلَى أَقَاوِيلَ ثَلَاثَةٍ :
مِنْهُمْ : مَنْ أَبَى وُجُودَ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ ، ( وَيَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ، فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ )
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَقُولُ يَصِحُّ وُجُودُ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَلَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا ، حَتَّى يَبِينَ لَهُ رُجْحَانُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ الْآخَرِ ، إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ عَنْهُ .
فَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ ، بِامْتِنَاعِ جَوَازِ انْتِقَالِ مَا اخْتَارَهُ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ ، يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ إلَيْهِ عَنْ الْأَوَّلِ .
فَمَتَى أَجَزْنَا لَهُ التَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ نَظَرٍ وَلَا رُجْحَانٍ ، كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ .
وَجِهَةٌ أُخْرَى : وَهِيَ ( أَنَّ ) التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالِاخْتِيَارِ مَعَ تَقَارُبِ الْحَالِ وَسُرْعَةِ الْمُدَّةِ ، فِعْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلُزُومِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَحْسَنُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ ، وَالسِّيَرِ ، وَالسِّيَاسَاتِ ، مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْآرَاءِ وَيُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ذَا بَدَوَاتٍ ، يَذُمُّونَهُ بِهِ ، وَتَقِلُّ الثِّقَةُ بِرَأْيِهِ وَالِاسْتِنَامَةُ إلَى اخْتِيَارَاتِهِ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، صَارَ حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ضَرْبًا مِنْ الرُّجْحَانِ ، وَوَجْهًا مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرُّجْحَانِ فِيهِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ إيَّاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الرُّجْحَانِ ، أَوْجَبَ ذَلِكَ كَوْنَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْآخَرَ الْعُدُولُ إلَيْهِ .
مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالتَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَسُرْعَةِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَهُ ، يُوجِبُ الظِّنَّةَ بِصَاحِبِهِ ، وَالتُّهْمَةَ لَهُ فِي إيقَاعِ الْهَوَى ، وَاخْتِيَارِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، بِمَا تَسَلَّقَ بِهِ عَلَى إيثَارِهِ الْهُوَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ ، وَعَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ .
وَالْإِنْسَانُ مَنْهِيٌّ عَنْ فِعْلِ مَا يَطْرُقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْوُجُوهِ .
وَرُبَّمَا تَسَلَّقَ أَيْضًا بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ ، مِمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ
وَالْفُقَهَاءِ ، إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَالْجَهْلِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، وَيَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ ، وَاسْتِيكَالِ النَّاسِ بِهِ ، كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ يَفْعَلُونَهُ ، ثُمَّ يُوهِمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مُسَوِّغٌ لَهُ فِي الدِّينِ ، وَأَنَّ اجْتِهَادَهُ قَدْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ .
فَلَمَّا كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إلَى هَذِهِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فِي التَّخْيِيرِ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ ظِنَّةٌ وَلَا تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِهِ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ .
وَسَائِرُ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ ذَلِكَ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ مَعْدُومَةٌ فِيهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ النَّقْلُ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا نَظَرٍ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمُخَيَّرَ فِي إيقَاعِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اخْتِيَارُ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ ، إلَّا ( بِجَاذِبٍ - يَجْذِبُهُ ) إلَيْهِ ، وَدَاعَ يَدْعُوهُ إلَيْهِ ، وَبِمَعْنًى يَتَفَرَّدُ بِهِ مِمَّا سِوَاهُ ، كَنَحْوِ مَنْ يَدْعُوهُ دَاعٍ مِنْ نَفْسِهِ إلَى اخْتِيَارِ الطَّعَامِ ، لِأَنَّهُ يَرَاهُ أَسْهَلَ مَطْلَبًا ( وَأَوْلَى ) بِسَدِّ الْجَوْعَةِ .
أَوْ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا ، أَوْ الْكِسْوَةِ ، لِأَنَّهَا تَنْفَعُ فِي وُجُوهٍ لَا يَسُدُّ فِيهَا مَسَدَّهَا غَيْرُهَا ، مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَالزِّينَةِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ ، إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مُلَازَمَتُهُ وَالثُّبُوتُ عَلَيْهِ ، إلَى أَنْ يَثْبُتَ مِنْ رُجْحَانِ الْآخَرِ عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ النَّقْلَ عَنْهُ .
وَيَنْفَصِلُ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ تُنْقَلَ الْآرَاءُ وَتُبَدَّلُ الِاخْتِيَارُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ فِي أَحْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ ، غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ .
وَالتَّنَقُّلُ فِي اخْتِيَارٍ مِنْهُ يُخْرِجُهُ الِاجْتِهَادُ ، لَا يَتَقَارَبُ أَوْقَاتُهَا إذَا كَانَ عَنْ نَظَرٍ وَفَحْصٍ ، وَإِذَا
ظَهَرَ مِنْهُ التَّنَقُّلُ فِي وَقْتٍ قَرِيبِ الْمُدَّةِ أَوْجَبَ ذَلِكَ سُوءَ الظِّنَّةِ بِهِ ، وَالتُّهْمَةَ بِإِيثَارِ الْهَوَى ، وَالِانْتِقَالُ عَنْ مَذْهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَ انْتِقَالَهُ ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ ، مِنْ غَيْرِ حَادِثٍ مِنْ نَظَرٍ يَدْعُو إلَيْهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَرْجِعُ عَلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ سَأَلَ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالْقَائِلِينَ بِمَا يُسَمِّيه دَلِيلًا ، أَوْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ ، مِمَّنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ ، فَهَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ ( قَائِمٌ ) فِي مَذْهَبِهِ ، حَسَبَ مَا أَرَادَ إلْزَامَنَا إيَّاهُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الْمُسْتَفْتِي إذَا اسْتَفْتَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا عَنْ مَسْأَلَةٍ نَازِلَةٍ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَصْنَعُ ؟ فَإِنْ قَالَ : يَنْظُرُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي وُجُوهِ دَلَائِلِهِ ، فَيُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ ، وَلَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأُصُولِ ، وَالْمَعْرِفَةِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهُوَ غُلَامٌ قَدْ بُلِيَ بِالْحَادِثَةِ فِي أَوَّلِ حَالِ بُلُوغِهِ ، أَوْ امْرَأَةٌ ( قَدْ ) بُلِيَتْ بِحَادِثَةٍ فِي أَمْرِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ بِأَمْرِهَا بِمَا يَتَعَلَّمُ الْأُصُولَ وَالتَّفَقُّهَ فِيهَا ، حَتَّى يَصِيرَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ ، وَيُهْمِلَا أَمْرَ الْحَادِثَةِ ، وَعَسَى أَنْ لَا يَبْلُغَا هَذَا الْحَالَ أَبَدًا .
وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ ، مَرْذُولٌ ، خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ قَوْلِ أَحَدِ الْمُفْتِيَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالثِّقَةِ .
فَيُقَالُ لِهَذَا السَّائِلِ : فَمَا تَصْنَعُ إذَا اخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : هُوَ مُخَيَّرٌ ( فِي أَنْ يَأْخُذَ ) بِقَوْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ .
( قِيلَ لَهُ ) : فَإِنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ ، هَلْ يَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى قَوْلِ الْآخَرِ وَنَسْخِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
أَجَازَ مَا أَنْكَرَهُ فِي سُؤَالِهِ إيَّانَا ، وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ سُؤَالِهِ .
فَإِنْ قَالَ : لَا .
قُلْنَا : مِثْلُهُ فِيمَا سَأَلَ ، وَسُقُوطُ سُؤَالِهِ أَيْضًا .
وَمِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ فِي ذَلِكَ : الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ ، كَلِمَةً لَيْسَتْ عِنْدَهُ بِطَلَاقٍ ، وَلَا عَتَاقٍ ، وَعِنْدَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ أَنَّهَا طَلَاقٌ وَعَتَاقٌ .
وَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، فَيُوجِبُ قَوْلُكُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعَ عَلَيْهِ ، وَيُوجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إبَاحَةَ وَطْئِهَا ، وَيُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الِامْتِنَاعَ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ ، وَيُجِيزُ لِلْمَوْلَى اسْتِرْقَاقُهُ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّمَانُعِ وَالْفَسَادِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْعِبَارَةِ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ عَلَى هَذَا ، فَعَلَى الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِ ، حَتَّى يَخْتَصِمَا إلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُمَا اتِّبَاعُ حُكْمِهِ ، وَتَرْكُ رَأْيِهِمَا لِرَأْيِهِ ( فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ ) تَمَانُعٌ ، وَلَا فَسَادٌ ، وَلَا تَنَافِي فِي الْأَحْكَامِ ، وَلَا تَضَادَّ .
ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَةٌ مُقِرَّةٌ بِالرِّقِّ ، مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا لَهُ ( إذَا ) أَعْتَقَهَا بِحَضْرَتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهَا ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ ، وَلَهُ ابْنٌ لَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهَا .أَلَيْسَ مِنْ قَوْلِك وَقَوْلِ النَّاسِ جَمِيعًا : إنَّهُ جَائِزٌ لِلِابْنِ اسْتِرْقَاقُهَا ، وَوَطْؤُهَا ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ ، فِيهِ فَهَلْ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَضَادًّا فِي الْحُكْمِ ؟
فَإِذْ كَانَ وُقُوعُ مِثْلِهِ جَائِزًا فِيمَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ ، فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَ رَأْيِهِ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ .
فَهَلَّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي اجْتِهَادِهِ ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الصَّوَابِ إلَى غَيْرِهِ .
قِيلَ لَهُ : لَمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، وَصَارَ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ دُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي خِلَافِ قَوْلِهِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ .
وَمِنْ سُؤَالَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، لَمَّا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَقُولَ : قَوْلِي أَصْوَبُ ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِي ، وَلَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِلنَّاسِ إلَى قَوْلِهِ بِأَوْلَى مِنْ دُعَائِهِ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ .
فَلَمَّا وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا يَدْعُو إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ دُونَ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَأَصْوَبُ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصِيبُ وَأَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ .
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، لَارْتَفَعَتْ الْمُنَاظَرَاتُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُنَاظِرَ لِيَرُدَّهُ عَنْ صَوَابِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَهُ عَنْ صَوَابٍ هُوَ عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ ، إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ اخْتِلَافَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِكَثْرَةِ إصَابَةِ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ .
الْجَوَابُ : أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ تَخْطِئَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِيهِ وَتَصْوِيبُهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ تَخْطِئَةُ مُخَالِفِهِ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ فَرْضِهِ لِفَرْضِهِ .
وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلطَّاهِرِ تَخْطِئَةُ الْحَائِضِ ، لِأَنَّ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ فَرْضِ صَاحِبِهِ ، كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ، فَإِنَّ فَرْضَهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ صَاحِبِهِ فِي اعْتِقَادِهِ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ : قَوْلِي أَوْلَى وَأَصْوَبُ ، بَعْدَ أَنْ يَعْتَدَّ بِشَرِيطَةِ مَا عِنْدَهُ فَيَقُولُ : هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ وَأَوْلَى ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي
هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ ، فَيَقُولُ : هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ ، لِأَنَّ فِي اجْتِهَادِي أَنَّ حُكْمَ هَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْأَصْوَبَ وَالْأَوْلَى لِمُخَالِفِي اتِّبَاعُ قَوْلِي ، وَلَا الرُّجُوعُ إلَى اجْتِهَادِي ، فَلَا يَقُولُ أَيْضًا : إنَّ الْأَصْوَبَ عِنْدَ مَنْ خَالَفَنِي خِلَافُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ .
وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُخَالِفِيهِ إلَى قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ : إذَا كَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ قَدْ صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادٍ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ ، وَفِيهِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ - مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ مُصِيبِينَ - .
مِنْهَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِقْصَاءُ فِي النَّظَرِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَحْصِ
وَالثَّانِي : اجْتِهَادٌ دُونَ ذَلِكَ ، قَدْ يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّظَرِ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْأَشْبَهِ ، وَأَوْلَى بِمُصَادَفَةِ الْمَطْلُوبِ ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَيْنِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ - وَأَنَّ مَا دُونَهُ أَبْعَدُ مِنْ مُوَافَقَةِ النَّظِيرِ وَإِصَابَةِ الْمَطْلُوبِ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ( إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ ) وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ ( الْأَجْرَ ) الْوَاحِدَ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا ، جَازَ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ دُعَاءُ مُخَالِفِهِ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ وَاسْتِقْصَاءِ وُجُوهِ الْمَقَايِيسِ ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهَذَا الْمَحَلِّ ، وَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدَهُ ، فَيَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، لِيَسْتَحِقَّ الْأَجْرَيْنِ ، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ ( جَائِزٌ )
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، لِيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَإِيثَارِ الْهُوَيْنَا مِنْ غَيْرِ مُقَايَسَةٍ وَلَا نَظِيرٍ ، وَأَنَّ مَا انْتَحَلَهُ وَجْهٌ يُسَوِّغُهُ الِاجْتِهَادُ ، وَيَجُوزُ اعْتِقَادُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ تُسَاوِي الْعُلَمَاءِ فِي رُتْبَةِ الْعِلْمِ ، وَأَنْ لَا يَفْضُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، إذْ كُلُّهُمْ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى : فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إذَا كَانَ عَلَى مَرَاتِبَ : مِنْهُ : مَا يُصَادِفُ ( بِهِ ) حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ ( وَمِنْهُ مَا يَقْصُرُ دُونَهُ ، جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مُوَافَقَةً لِلْمَطْلُوبِ ) كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ .
وَأَيْضًا : فَلَيْسَ الْعِلْمُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ ، حَتَّى إذَا تَسَاوَى الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُصِيبٌ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَسَاوِيهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِالْأُصُولِ أَنْفُسِهَا ، وَمَوَاضِعِ النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى النَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ ، وَوُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي ، وَبِحُكْمِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا مِنْ الْمَعَانِي .
فَإِذَا كَانَتْ مَنَازِلُ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ بِتَصْوِيبِنَا الْمُجْتَهِدِينَ ، إذَا كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ؟ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُ فِي الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ؟ تَقُولُ : إنَّهُ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ ؟
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ تُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ ، وَتَجْعَلَ لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِمْ طَلَبَهُ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ
طَلَبَ مَا لَيْسَ بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ .
قِيلَ لَهُ : ( نَقُولُ ) : إنَّ الْأَشْبَةَ هُوَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ صَادَفَهُ بِاجْتِهَادِهِ
وَمَنْ لَمْ يُصَادِفْهُ بِاجْتِهَادِهِ فَحُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفًا لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي ( تَحَرِّي ) مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَهُ ، فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ الْأَشْبَهَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ .
وَلَا يُطْلَقُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَهَذَا كَمَا نَقُولُ لِلْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ ، وَلِرَامِي الْكَافِرِ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ إصَابَةَ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ ، وَإِصَابَةَ الْكَافِرِ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّا نُقَيِّدُهُ فَنَقُولُ : هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ وَالِارْتِئَاءِ فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ ، وَإِصَابَةِ الْكَافِرِ ، فَإِنْ أَصَابَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخْطَأَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللهِ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ ، لَا غَيْرُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفُوا ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَجْتَهِدَ مُجْتَهِدٌ فَيَعْتَقِدَ أَنَّكُمْ مُخْطِئُونَ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ ، فَيَكُونُ مُصِيبًا ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوَارِجُ وَمَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَكُمْ مُصِيبًا ، إذَا قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ
قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْحَوَادِثِ طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ ، وَغَالِبُ الظَّنِّ ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ ، يَأْثَمُ مُخْطِئُوهُ وَالْعَادِلُ عَنْهُ ( وَمِنْهَا : مَا لَا يَجُوزُ ) الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، وَيُخْطِئُ الْقَائِلُ بِهِ ، قَوْلُ مَنْ أَبِي جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ .
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ : قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِبُطْلَانِ
قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا إبَاحَةُ الدَّمِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَيَجُوزُ حَظْرُهُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، فِيمَا لَمْ يُنْصَبْ لَنَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ .
أَلَا تَرَى : أَنَّا نُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ، وَنُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي حَظْرِهِ ، فَيَكُونُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا مُصِيبِينَ .
وَإِنَّمَا ( لَا ) يُسَوَّغُ ذَلِكَ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فَيَذْهَبُ ذَاهِبٌ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِيهِ فِي بَابِ الْمَأْثَمِ ، وَعِظَمِ الْخَطَأِ ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الْوَاقِعُ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ وَافَقَكُمْ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَصْلِ ، وَخَالَفَكُمْ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ ؟ هَلْ تَجْعَلُونَ مَذْهَبَهُ هَذَا ( مِنْ ) بَابِ الِاجْتِهَادِ ، وَتُصَوِّبُونَهُ فِيهِ ؟ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْخَطَأِ فِي تَصْوِيبِكُمْ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَقَوْلُهُ صَوَابٌ ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَقْتَضِي مِنْكُمْ الْقَوْلَ بِخَطَأِ قَوْلِكُمْ ، مِنْ حَيْثُ صَوَّبْتُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ بِتَخْطِئَتِكُمْ .
وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوا لَهُمْ الْقَوْلَ : بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، لَزِمَكُمْ ( الْحُكْمُ بِتَأْثِيمِهِمْ ) عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمْتُمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ رَأْسًا .
قِيلَ لَهُ : لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا ، وَبَيْنَ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا وَصَفْنَا ، وَلَا يُسَوَّغُ عِنْدَنَا الِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، كَمَا لَا يُسَوَّغُ فِي نَفْيِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ .
وَالْحُكْمُ بِتَأْثِيمِ الْجَمِيعِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ، وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الَّتِي دَلَّتْ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ : هِيَ بِعَيْنِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَالْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَأْثِيمِهِمَا وَاجِبٌ .
سُؤَالٌ : إنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلْ يَخْلُو الْقَائِلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ، أَوْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ؟ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ سَاقِطًا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا فَكَيْفَ يَصِيرُ طَلَاقًا بِالِاجْتِهَادِ ؟ .
الْجَوَابُ : إنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَيْسَ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ بِحُكْمٍ بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَحُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيهِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ .
فَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ طَلَاقٌ حَكَمَ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ ، وَمَنْ غَلَبَ فِي رَأْيِهِ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِهِ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا ، لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ : بِأَنَّهُ طَلَاقٌ إلَّا عَلَى التَّقْيِيدِ وَالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَعْطَيْتُمْ الْقَوْلَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الطَّلَاقِ بِلَفْظٍ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ؟ قِيلَ لَهُ : جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِإِلْزَامِ الطَّلَاقِ بِمَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ تَعَالَى ، بِأَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ طَلُقَتْ مِنْهُ ، أَوْ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ كَذْبَةً طَلُقَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ .
وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَنَا بِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ طَلَاقٌ ، فَلَيْسَ اللِّعَانُ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ ، وَفُرْقَةُ الْمَجْبُوبِ طَلَاقٌ فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ .
فَإِنْ قَالَ : حُكْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَكُمْ أَمُبَاحَةٌ هِيَ أَمْ مَحْظُورَةٌ ؟ قِيلَ : إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قَدَّمْنَا ، ( فَلَا نُطْلِقُ الْقَوْلَ : بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ ، إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ) .
فَإِنْ قَالَ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الظُّنُونِ ، وَمَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ إلَّا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِهِ بِاعْتِقَادَاتِ الْمُعْتَقِدِينَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَمُعْتَقِدِهِ ، وَلَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ .
قِيلَ لَهُ : الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الظُّنُونَ قَدْ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ كُلُّ ظَانٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ ، إذْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ ، وَلِرَمْيِ الْكَافِرِ ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَالنَّفَقَاتِ ، وَنَحْوِهَا .
وَنَحْوُ رَجُلَيْنِ الْتَقَيَا لَيْلًا فَغَلَبَ فِي ظَنِّ كُلِّ ( وَاحِدٍ ) مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ ، قَدْ أُبِيحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَمَلُ عَلَى ( مَا غَلَبَ ) فِي ظَنِّهِ ، وَقَتْلُ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ ، وَجَمِيعًا مُطِيعَانِ فِيمَا يَأْتِيَانِهِ ، مُصِيبَانِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا .
إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ .
وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ قَدْ تَعَبَّدَ اللَّهَ تَعَالَى الْحُكَّامُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ عِنْدَ التُّهَمِ ، وَإِلْغَاءِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِمْ فِسْقُهُ ، فَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا مُتَعَلِّقَةً بِالظُّنُونِ ، قَدْ وَرَدَ ( بِهِ نَصُّ ) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ
وَاخْتِلَافُ الظُّنُونِ فِيهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي حَقَائِقِهَا .
وَأَمَّا الْعُلُومُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ سَبِيلَهَا ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا وَاحِدًا ، هَذَا مَوْجُودًا وَهَذَا مَعْدُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَظُنَّهُ هَذَا مَوْجُودًا ، وَيَظُنَّهُ آخَرُ مَعْدُومًا ، فَيَصِحُّ وُقُوعُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ .
وَلَا يَصِحُّ بِهِ عِلْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي إنْزَالِهِ عَلَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، كَمَا يَصِحُّ ظَنَّانِ مُوجِبَانِ لَهُ حُكْمَ مُخْتَلِفَيْنِ ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ ( الْوَاحِدِ ) حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ، فَعِلْمَانِ بِعِلْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
ثُمَّ يُقْلَبُ هَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الظُّهْرِ أَهِيَ أَرْبَعٌ ؟
وَعَنْ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ ؟
وَعَنْ النِّسَاءِ هَلْ عَلَيْهِنَّ صَلَاةٌ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لَا .
خَرَجَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ .
وَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
أَخْطَأَ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْجَمِيعِ .
فَإِنْ قَالَ : ( لَا ) يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ ، فَيُقَالُ : إنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ عَلَى الْمُقِيمِ ، وَرَكْعَتَانِ عَلَى الْمُسَافِرِ ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، مَحْظُورٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ ، وَالطَّاهِرُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ فَرْضُهَا .
وَإِذَا كَانَتْ ( هَذِهِ ) الْفُرُوضُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا خَالَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ بَيْنَ ( أَنَّ ) أَحْكَامَ الْمُكَلَّفِينَ لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، إلَّا بِتَقْيِيدٍ وَإِضَافَةٍ وَشَرْطٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا .
وَلَمْ يَلْزَمْك عَلَى هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الظُّنُونِ وَالْجَاحِدِينَ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُعْتَقِدِيهَا .
فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا .
فَإِنْ قَالَ : فَهَلْ تَخْلُو هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا ، أَوْ حَلَالًا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى ؟
قِيلَ لَهُ : الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعَيْنِهِ ،لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِينَ ، وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ هُوَ حُكْمُهُ عَلَيْنَا بِهِ .
فَإِنْ قَالَ : فَإِذَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْحَظْرَ ، وَبَعْضُهُمْ الْإِبَاحَةَ ، فَقَدْ صَارَ مَحْظُورًا مُبَاحًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ ، وَلَا بِأَنَّهُ مُبَاحٌ ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ تَعَلَّقَا بِهِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا مُحَالٌ ، وَلَكِنْ يُقَالُ بِتَقْيِيدٍ وَشَرْطٍ : إنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَى هَذَا ، وَمُبَاحٌ لِهَذَا ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، كَمَا نَقُولُ : فَرْضُ الظُّهْرِ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعٌ ، وَعَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ .
فَإِنْ قَالَ : إنْ قَالَ الْأَوَّلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا نَاظِرًا ، أَوْ مُسْتَفْتِيًا مُسْتَرْشِدًا ، فَاسْتَقَرَّ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ ، فَاخْتَارَ الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ فُتْيَا مَنْ رَآهُ طَلَاقًا ، مَتَى تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً ، حِينَ قَالَ الْقَوْلَ ، أَوْ حِينَ اسْتَقَرَّ ( عِنْدَهُ ) حُكْمُ الطَّلَاقِ ؟ قِيلَ : إنَّمَا نَحْكُمُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا وَقْتَ فُصِّلَ مِنْ قَائِلِهِ ، فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ ، مِنْ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ مِنْ يَوْمَئِذٍ ، وَمِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ ، وَقَطْعِ التَّوَارُثِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي الْمَاضِي مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ ؟ قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمِهِ ، فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ .
وَلَسْنَا نَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ يَوْمئِذٍ بِهَذَا الْقَوْلِ شَيْءٌ ، بَلْ نَقُولُ : " إنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْقَوْلِ عَلَى ( الشَّرْطِ ) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ .
مِنْهَا : الرَّجُلُ يَجْرَحُ الرَّجُلَ فَيَكُونُ حُكْمُ جِرَاحِهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ ، فَإِنْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ حَصَلَ
لَهُ ( الْقَتْلُ الْآنَ بِالْجِرَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْجَارِحَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ كَانَ ) حُكْمُ الْقَتْلِ ثَابِتًا عَلَى الْجَارِحِ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا يَوْمَ صَارَتْ الْجِرَاحَةُ نَفْسًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : خَبِّرْنِي عَنْ الْمُجْتَهِدِ إذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى شَيْءٍ ، أَيَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ ؟ أَوْ لَا يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ بِمَعْنًى يُحَدِّدُهُ ؟ قِيلَ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ .
وَالْآخَرُ : أَنْ لَا يَلْزَمَهُ حَتَّى يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ .
فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ : ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ ( ذَلِكَ ) فِي ظَنِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ : أُنَفِّذُ هَذَا الْحُكْمَ ، وَالْتَزَمَهُ ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ لُزُومِهِ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ .
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي الْحَالِ مَا يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَقَدْ يُلْزِمُهُ حَاكِمٌ خِلَافَ رَأْيِهِ ، فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَتَرْكُ رَأْيِهِ لَهُ ، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَخْتَارُ إلْزَامَهُ نَفْسَهُ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ .
فارغة
الْبَابُ الْخَامِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيْمَا يُوْجِبُهُ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْأَحْكَامِ
فارغة
بَابُ : الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ
قَالَ أَبُو ( بَكْرٍ ) :
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ ( أَقَاوِيلِ ) الْمُخْتَلِفِينَ ، فِيمَا سَبِيلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا .
( فَقَالَ ) قَائِلُونَ : لَيْسَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا الْأَشْبَهُ ( مَا يَغْلِبُ ) فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ ، ( وَكُلِّفَ إمْضَاءَ ) الْحُكْمِ بِهِ .
وَأَمَّا ( الْأُصُولُ ) فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهَا إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ الْأُصُولِ ، يَتَحَرَّاهَا الْمُجْتَهِدُ ، هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ ، مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ إلَيْهِ .
وَقَالُوا بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ ( دَائِمًا ) ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا لِتَصْحِيحِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ ، وَيُسَمِّيه تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ ، يَعْنِي أَنَّهُ يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ ، فَإِذَا عَلِمْنَا فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا ، فَنَحْنُ نُجَوِّزُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِهَا ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الِاجْتِهَادِ ، وَحَكَيْنَا أَيْضًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ : أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ ، يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهَا بِاجْتِهَادِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِإِصَابَتِهَا ، وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْأَشْبَهُ الْمَطْلُوبُ.
لَا يُحْفَظُ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ : الْحَقُّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي أَنَّ لَهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِمَا يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَشَفَ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْأَشْبَهِ بِالنَّصِّ ( وَالتَّوْقِيفِ ) لَكَانَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ .
وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ : ( مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ) فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَتَخْصِيصِهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْفَهْمِ ، ( مَعَ إخْبَارِهِ ) بِإِيتَائِهِمَا الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( قَدْ ) أَصَابَ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ ( دَاوُد ) عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَثَبَتَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ سُلَيْمَانُ كَانَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ ( الَّذِي تَحَرَّيَاهُ ) جَمِيعًا بِاجْتِهَادِهِمَا ، فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي فَهْمِ الْحَادِثَةِ ، ( وَإِصَابَةِ ) الْأَشْبَهِ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ لَهُ حَقِيقَةً يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدَانِ فَرُبَّمَا أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا ، وَأَخْطَأَهُ الْآخَرُ ، لَمَا صَحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ ، إذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَطَأَ الْحُكْمِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَأُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ ، ( أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ ) .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَشْبَهُ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ الْأُصُولِ ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهُ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ ، وَكَانَ
يَكُونُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ تَابِعًا لِوُجُودِ الشَّبَهِ ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَرُدَّ الْحَادِثَةَ إلَى ( مَا شَاءَ ) مِنْ الْأُصُولِ ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ، إذْ لَيْسَتْ تَخْلُو الْحَادِثَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا شَبَهٌ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ .
فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنَّمَا يَطْلُبُ أَشْبَهَ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ .
فَلَوْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ لَاسْتَحَالَ طَلَبُ الْأَشْبَهِ ، مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ تَحَرِّيَ الْكَعْبَةِ .
وَلَيْسَ هُنَاكَ كَعْبَةٌ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ رَمْيَ الْكَافِرِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَرْمًى مَقْصُودًا بِالرَّمْيِ .
وَكَذَلِكَ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ هِيَ الْعَدَالَةُ ، وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمْنَا لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكْلِيفُ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا ، كَذَلِكَ لَوْ عَلِمْنَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ ( لَاسْتَحَالَ تَكْلِيفٌ ) فِي طَلَبِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَشْبَهُ الْأُصُولِ ( بِالْحَادِثَةِ عِنْدَهُ ) فَظَنَّهُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ، لِأَنَّ ( الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ يَتَكَلَّفُ ) الِاجْتِهَادَ لِيُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادَهُ إلَى أَنَّهُ ظَانٌّ ، لِأَنَّهُ قَدْ ( حَصَلَ لَهُ الظَّنُّ ) مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ ، هُوَ ( الْحَقِيقَةُ ) الْمَطْلُوبَةُ بِالِاجْتِهَادِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : فِي غَالِبِ ظَنِّي ( أَنِّي مُصِيبٍ ) لِلظَّنِّ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ : فِي
غَالِبِ ظَنِّي أَنِّي مُصِيبٌ لِلْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ (
عِنْدَهُ ) حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ ، فَالِاجْتِهَادُ سَاقِطٌ فِي طَلَبِ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الدَّلِيلُ عَلَى الْأَشْبَهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ : أَنَّ الْقَائِسِينَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ ( عِلَّةِ ) التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ : مِنْ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ ، أَوْ الْوَزْنِ ، أَوْ الْأَكْلِ ، أَوْ الِاقْتِيَاتِ ، مَعَ الْجِنْسِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَيْسَ بِأَشْبَهَ بِمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ بَعْضٍ ، بَلْ هِيَ فِي الشَّبَهِ بِالْحَادِثَةِ مُتَسَاوِيَةٌ ، لَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، صَحَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ مَا يَحْصُلُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهَ .
الْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَشْبَهَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ وَنَحْوِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ ( كَذَلِكَ ) ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا دَائِمًا يُعْتَبَرُ الْأَشْبَهُ مِنْ طَرِيقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَشْبَهُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا وَصَفْنَا ، وَسَلِمَ لَنَا الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا .
فَإِنْ قَالَ : إنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي دَلِيلِ الْعِلَّةِ ، لَا فِي الْعِلَّةِ نَفْسِهَا ، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعِلَّةِ لَا عَلَى دَلِيلِهَا .
قِيلَ لَهُ : وَهَذَا غَلَطٌ ثَانٍ ، لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ إنَّمَا صَارَا عِلَّةً لِأَنَّهُمَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا ، فَإِذَا كَانَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِمَا كَانَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ مِنْ بَابِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا .
فَتَبَيَّنَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَصْلِ الْمَقِيسِ ( عَلَيْهِ لَا إلَى ) ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ، ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِ ، هَذَا السُّؤَالَ فِيمَا ( يَعْتَبِرُهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ ) الْأَشْبَهِ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ .
فَيُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الْكَيْلِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الِاقْتِيَاتِ ، أَيَقُولُ : إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرِ ( مِنْ بَعْضِهِ ) ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ( شَبَهَ الْأَرُزِّ بِالْبُرِّ ) فِي كَوْنِهِمَا مَكِيلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي كَوْنِهِمَا مَأْكُولَيْنِ وَمُقْتَاتَيْنِ ( وَمُدَّخَرَيْنِ ) فَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ .
فَإِذًا ( لَا ) اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِحُصُولِ ( الْأَشْبَهِ ) ( غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ ) ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَهِ ، وَيُعْتَبَرَ وُجُودُ ( الشَّبَهِ ) فَحَسْبُ .
فَيُؤَدِّيك هَذَا إلَى إسْقَاطِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا ، رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى أَيِّ الْأُصُولِ شَاءَ الْقَائِسُ ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَلَيْسَ قَدْ جَازَ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ ، وَإِنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) الْحَوَادِثِ ؟
قِيلَ لَهُ : لَوْ لَمْ نَظُنَّ أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكَلُّفَنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلِّفَنَا ( طَلَبَ ) عَدَالَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ بِفِسْقِهِ ، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّنَا ظَنَنَّا أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةً فَاجْتَهَدْنَا فِي طَلَبِهَا .
فَهَلْ تَقُولُ أَنْتَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ : إنِّي أَظُنُّ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا فِي الْحَقِيقَةِ ؟ .
فَإِنْ قُلْت هَذَا : فَقَدْ تَرَكْت قَوْلَك : فِي أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا يَتْبَعُ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ ، لَا الْأَصْلَ الْمَطْلُوبَ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَمْت عَلَى قَوْلِك : إنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهَ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَمْ يَصِحَّ لَك الِاسْتِشْهَادُ بِمَسْأَلَةِ الْمُتَحَرِّي فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ، بَلْ كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَيْك ، مِنْ حَيْثُ لَوْ عَلِمْنَا أَنْ لَا عَدَالَةَ لَمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، هَلْ يُسَمَّى دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ : ( لَا يُقَالُ : إنَّهُ دِينٌ ) لِلَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ لَنَا أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ
وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَيْضًا : أَنْ يَقُولَ : إنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَحِلُّ تَرْكُهُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ ، وَلَوْ جَازَ تَرْكُ دِينِ اللهِ تَعَالَى لَجَازَتْ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ أَنَّهُ دِينُ اللهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ فِيهِ إحْلَالُ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ دِينِ اللهِ تَعَالَى .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَمَنْ أَبَى إطْلَاقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الِاجْتِهَادِ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ) قَدْ فَرَضَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى مَنْ أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ عَامِلٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، وَمَا أَلْزَمُونَا مِنْ إيجَابِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُرُوضِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ لَمْ يُلْزِمْهُمْ ( ذَلِكَ ) .
كَذَلِكَ إذَا قُلْنَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ : لَمْ يَلْزَمْنَا ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، وَمَا عَدَاهُ خَطَأً ، فَلَا يُطْلَقُ : أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ خَطَأً ، لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ .
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَأَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، فَلَا وَجْهَ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ : بِأَنَّ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ دِينُ اللهِ تَعَالَى .
الْبَابُ السَّادِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: فِي الْكَلَامِ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ
فارغة
بَابُ الْكَلَامِ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
زَعَمَ عُبَيْدُ اللهِ الْعَنْبَرِيُّ : أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ ، وَفِي التَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ ، وَالْإِرْجَاءِ وَالْوَعِيدِ ، وَفِي الْأَسْمَاءِ ، وَالْأَحْكَامِ ، وَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كُلُّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ .
إذْ كُلُّ قَائِلٍ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَجَمِيعُهُمْ مُصِيبُونَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلِّفَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ رَأْيُهُ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهِ عِلْمَ الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ : أَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ ، ( وَكُلُّ مَا ) أَجَزْنَا فِيهِ الِاجْتِهَادَ ، وَصَوَّبْنَا فِيهِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ ، فَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ .
فَأَمَّا الْعَدْلُ وَالْجَبْرُ ، وَالتَّوْحِيدُ وَالتَّشْبِيهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ فِيهِ بِجَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ .
وَاَلَّذِي كُلِّفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ اعْتِقَادَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ النَّصِّ بِتَكْلِيفِ بَعْضِ النَّاسِ الْقَوْلَ بِالْعَدْلِ ، وَآخَرِينَ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ ، وَبِتَكْلِيفِ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ ، وَآخَرَ الْقَوْلَ بِالتَّشْبِيهِ .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ ، لِتَنَاقُضِ الْقَوْلِ بِهِ ، وَاسْتِحَالَتِهِ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ ، مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَعَلَيْهِ الرَّأْيُ ، وَجَازَ تَكْلِيفُهُمْ الْقَوْلَ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ، لِجَوَازِ وُرُودِ النَّصِّ ( بِهِ ) ، عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا ، مُتَّفِقُونَ قَبْلَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ حَسَنٍ عَلَى إيجَابِ التَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِالْخِلَافِ فِيهَا ، فَمَنْ صَوَّبَ الْجَمِيعَ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّا قَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ صِحَّةِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ مَعْقُولَةٍ كَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ ، إثْبَاتُ الصَّانِعِ الْقَدِيمِ ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ ، وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَنَحْوِهَا .
فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَقَامَ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَدْلُولَاتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ عَنْ الدَّلِيلِ مُصِيبًا ، إذْ قَدْ جُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ مِنْ جِهَةِ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَلِّقًا بِالِاعْتِقَادِ .
فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَبْرِيِّ وَالْمُشَبِّهِ اعْتِقَادَ مَا اعْتَقَدَهُ ، لَكَانَ مُبِيحًا لِلْجَهْلِ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ .
وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ بِهِ ، وَبِكَوْنِهِ صَانِعًا قَدِيمًا ، وَلَوْ جَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْجَهْلِ ( بِهِ ) ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ ( فِي ) وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ .وَعَدَلَ عَنْهُ ، فَهُوَ ضَالٌّ غَيْرُ مُهْتَدٍ .
وَأَيْضًا : فَلَا يَخْلُو الْقَائِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُجَوِّزَ عَلَى اللهِ تَعَالَى تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ ،حَتَّى يَكُونَ مُكَلِّفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِحَّةَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَنَظَرُهُ ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ ، وَتَضَادِّ الْمَذْهَبَيْنِ ، أَوْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّنَّ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ .
فَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُمَا مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَاحِدَةٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ ، فَتَكُونُ مَعْلُومَةً مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْعِلْمَيْنِ .
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ .
فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ تَكْلِيفِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، ( وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ كَلَّفَهُمَا الظَّنَّ فَحَسْبُ ، دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، مِنْ حَيْثُ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ) .
وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ وَاحِدَةً ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَكَانَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النَّظَرِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَى مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ وَطَلَبِ الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الظَّنُّ مُبَاحًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسَبَبِ مَا يَسْتَفْرِغُ مُدَّةَ النَّظَرِ ، فَيُؤَدِّيه إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ .
وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا : تَكْلِيفُ الظَّنِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، مِنْ جِهَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِمِثْلِهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ ، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ ظُهُورِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ مِنْهَا ، وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَعَلَى تَأْثِيمِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ ، وَهُوَ مُتَفَارِقٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ
الَّتِي ذَكَرْنَا .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ مِمَّا طَرِيقُهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، بَلْ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَسَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ قَدْ حَصَلَتْ عَلَى حَقِيقَةٍ مَعْلُومَةٍ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا .
وَمِنْهَا : أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ إنَّمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ ، كَاخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ، وَالْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ .
وَلَمَّا امْتَنَعَ وُرُودُ النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُ اعْتِقَادِهَا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ إنَّمَا كُلِّفَ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ ، دُونَ إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ ، إذْ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ .
فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُمْ ذَلِكَ ، دُونَ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهِ .
كَمَا كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الِاعْتِقَادَ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ مِنْ جِهَتِهَا ، مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ وَتَضَادِّهَا ، فَكُلِّفَ وَاحِدٌ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الشِّمَالِ ، إذَا غَلَبَ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ ، وَكُلِّفَ الْآخَرُ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ ، عِنْدَ غَلَبَةِ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ ، مَعَ تَضَادِّ الْجِهَتَيْنِ ، وَاسْتِحَالَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِهِمَا ، وَالْكَعْبَةُ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَجِهَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلَا يُغَيِّرُهَا عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ .
وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَى وَاحِدٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ : اعْتِقَادَ عَدَالَتِهِمْ وَإِمْضَاءَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَفَرَضَ
عَلَى آخَرَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ( فِسْقُهُمْ ) : اعْتِقَادَ فِسْقِهِمْ ، وَإِلْغَاءَ شَهَادَتِهِمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عُدُولًا أَوْ فُسَّاقًا ، قَدْ حَصَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى إحْدَى جِهَتَيْنِ .
وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ ، وَتَقْوِيمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ ، وَمَقَادِيرُ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتُ ، قَدْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، قَدْ حَصَلَتْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، إمَّا مُوَافِقَةً لِظَنِّ بَعْضِهِمْ ، أَوْ مُخَالِفَةً لِظَنِّ جَمِيعِهِمْ ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ مَا قَالُوا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ بِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي حَصَلَ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا ، فَقَدْ صَحَّ تَكْلِيفُهُمْ الظُّنُونَ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَضَادِّهَا ،
بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ ، وَنَحْوِهَا ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاعْتِقَادِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَةِ الْمَظْنُونِ ، إذْ لَمْ يُكَلَّفُوا الْمَغِيبَ .
وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ إذَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ الشَّيْءَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ كَذَا ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدِي ، وَفِي ظَنِّي ، فَيَكُونُ صَادِقًا .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَجُوزُ إنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ ، أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ ، وَيَقُولُ آخَرُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ جِهَةٌ أُخْرَى : إنَّ هَذِهِ جِهَتُهَا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا عِنْدَهُ لَا إلَى الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهَا .
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ : أَنَّهُ أَمَاتَهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ { قَالَ كَمْ لَبِثْت قَالَ لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وَكَانَ صَادِقًا ، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا كَانَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ .
وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ ، إذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ ظُنُونِهِمْ ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ ، { وَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } وَمَعْنَاهُ : لَمْ يَكُنْ عِنْدِي ، فَإِذًا قَدْ جَازَ إطْلَاقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ الْمَمْدُوحِينَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُتَعَلِّقًا بِغَالِبِ ظُنُونِهِمْ ، دُونَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ ، وَدُونَ حَقِيقَةِ مَظْنُونِهِمْ ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ غَلَبَةُ رَأْيِهِ مُتَعَبِّدٌ بِاعْتِقَادِ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ، وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، أَنَّهُ كَذَلِكَ ، عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ ، وَكَانَ إطْلَاقُهُ ( سَائِغًا حَائِزًا ) بِمَا عِنْدَهُ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ .
الْجَوَابُ : أَنَّ مَا قَدَّمْنَا كَافٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ فِي إسْقَاطِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَفِي إجَازَةِ مَا شَاءَ مِنْهُ هَذَا السَّائِلُ إجَازَةُ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُبِيحَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَيَشْتُمَهُ ، وَيَشْتُمَ أَنْبِيَاءَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَهَذَا قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ( عَلَى اللهِ تَعَالَى ) ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهَذَا الْقَوْلِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ أَجَازَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ ، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مُعْتَقِدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ مَا
اعْتَقَدَهُ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ فِيهِ ، دُونَ مَا خَالَفَ فِيهِ الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ ، مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ .
فَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ مُؤَدِّيًا إلَى انْسِلَاخٍ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلَّةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ ، ( وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ ) مَانِعًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ - عَلَى اخْتِلَافِهِمْ - وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اخْتِلَافِ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَأَفْعَالُهُ .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَحَرِّي الْكَعْبَةِ ، وَتَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَالنَّفَقَاتِ ، وَإِثْبَاتِ مَقَادِيرِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ لِغَالِبِ الظَّنِّ ، وَتَكْلِيفِ كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مَعَ كَوْنِ الْحَقِيقَةِ فِيهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَاحِدَةً ، وَامْتِنَاعُ وُرُودِ النَّصِّ بِهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودٍ لَا اخْتِلَافٍ ، فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ ، وَذَلِكَ ( أَنَّهُ ) لَيْسَ الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ هُوَ ظَنُّهُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ دُونَ غَيْرِهَا .
وَكَذَلِكَ ( الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي ) الْحَاكِمِ لَيْسَ الْفَرْضَ الَّذِي كُلِّفَ وُجُودَ الظَّنِّ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا عَدْلٌ ، أَوْ فَاسِقٌ وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ وَنَحْوُهَا .
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأُمُورٍ أُخَرَ قَدْ أُمِرُوا بِإِمْضَائِهَا عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْهُمْ عَلَى وَصْفٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّنُّ نَفْسُهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ
فَأَمَّا مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ هَذِهِ جِهَةٌ لِلْكَعْبَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَيْهَا ، وَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ ، أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ الْمُسْتَهْلَكِ كَذَا ،
أَنْ يَلْزَمَهَا مُسْتَهْلِكَةَ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْلَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ ، لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِطَلَبِهَا وَلَا التَّحَرِّي لِجِهَتِهَا .
وَمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِخْبَارِ بِالِاجْتِهَادِ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ ( فَالتَّحَرِّي ) عَنْهُ سَاقِطٌ .
وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلْزَامُ حُكْمٍ لِغَيْرِهِ فِي ضَمَانِ مَا احْتَاجَ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ .
فَعَلِمْت أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُتَعَلِّقٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ، لَا الِاعْتِقَادِ لِلظَّنِّ ، وَكُلُّ مَا كُلِّفَ مِنْ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِإِمْضَائِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ النَّاسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَبَعْضَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى غَيْرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا ، كَالْخَائِفِ وَنَحْوِهِ .
وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ الْإِنْسَانَ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ هَذَيْنِ ، وَيُكَلِّفَ آخَرَ أَنْ لَا يُمْضِيَ حُكْمًا بِشَهَادَتِهِمَا .
وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ مُسْتَهْلِكَ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَ دَرَاهِمَ ، وَيُكَلِّفَ آخَرَ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَالْأُمُورُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا صِحَّةُ التَّكْلِيفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ مُصِيبِينَ ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الظُّنُونِ الْمُخْتَلِفَةِ ، إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْفُرُوضُ الَّتِي كُلِّفُوهَا ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا كُلِّفُوا الْفُرُوضَ
عِنْدَ وُجُودِهَا ، كَمَا يُكَلَّفُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَحُضُورُ أَوْقَاتٍ ، وَأُمُورٍ لَيْسَتْ هِيَ فِي أَنْفُسِهَا فُرُوضًا .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى ، وَأَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ الِاعْتِقَادُ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَهُمْ اعْتِقَادَ مَا كَلَّفَهُمْ اعْتِقَادَهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ ، وَهُوَ الَّذِي صَادَفَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَمَا عَدَاهُ فَضَلَالٌ وَبَاطِلٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
كَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " ح " :
فَرَغَ مِنْ نَسْخِ هَذَا الْكِتَابِ الْفُصُولِ لِلرَّازِيِّ بِعَوْنِ اللهِ الْمُجَازِي ، الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَتِهِ ، مُحَمَّدُ بْنُ مَاضِيٍّ ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَتَّعَ بِهِ مُسْتَنْسِخَهُ وَنَاظِرَهُ .
الْعَصْرَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ ، عَامَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ .
أَحْسَنَ اللَّهُ عَافِيَتَهُ ، وَذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " .
وَكَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " هـ " : "
هَذَا آخِرُ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَرَغَ عَنْ كِتَابَتِهِ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَبُو حَنِيفَةَ ، أَمِيرُ كَاتِبِ بْنِ أَمِيرِ عُمَرَ الْعَمِيدِ الْمَدْعُوّ بِقِوَامِ الْفَارَابِيِّ الْأَتْقَانِيِّ بِدِمَشْقَ ، حَمَاهَا اللَّهُ عَنْ الْآفَاتِ ، سِرَارَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ ، وَكَانَ تَارِيخُ النُّسْخَةِ الَّتِي كُتِبَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ مِنْهَا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ ، وَكَانَ وَفَاةُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ .
قُوبِلَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ بِالْأَصْلِ الْمَنْسُوخِ مِنْهُ ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ " .
(تَمَّ دِرَاسَةُ وَتَحْقِيقُ كِتَابِ " الْفُصُولِ فِي الْأُصُولِ " لِلْإِمَامِ الْجَصَّاصِ وَلِلَّهِ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ.)