كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْفَصْلُ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ : وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَالسُّنَّةُ ) النَّاسِخَةُ فَأُطْلِقَ نَسْخُهَا بِالْقُرْآنِ ثُمَّ أُوجِبَ نَسْخُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نُسِخَ بِالْقُرْآنِ يَسْتَحِيلُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْمَنْسُوخِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ جَازَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ سُنَّةً بِالْقُرْآنِ وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ ( اللَّهُ مِنْ الْبُيُوعِ إلَى آخِرِ ) مَا ذَكَرَ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ إنْ صَحَّتْ مَنَعَتْ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّسْخَ ، فَإِذْ قَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ ، وَمِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَارِيخٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بَلْ يَكُونُ اسْتِدْرَاكُ حُكْمِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَتَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَوْكُولًا إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِهِ .
كَذَلِكَ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَيَكُونُ سَبِيلُ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ طَلَبَ تَارِيخِ الْحُكْمِ
مِنْ سَائِرِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِتَارِيخِهِمْ ، وَلَا كَانَ فِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فِي ( بَابِ ) صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي { تَأَخُّرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِالصَّلَوَاتِ حَتَّى كَانَ هَوِيَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَضَاهُنَّ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ
ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ }
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فِي الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا - كَمَا أَنْزَلَ ( اللَّهُ ) ، وَسَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِهَا وَنَسَخَ ( رَسُولُ اللهِ ) سُنَّتَهُ فِي تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ثُمَّ بِسُنَّتِهِ ، صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا كَمَا وُصِفَتْ " فَنَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، إلَّا أَنَّهُ وَصَلَهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : نَسَخَهَا بِفَرْضِ اللهِ فِي كِتَابِهِ ثُمَّ بِسُنَّتِهِ ، وَمَا قَدْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ ( لَا ) يَصِحُّ نَسْخُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بِالسُّنَّةِ وَلَا بِغَيْرِهَا .
فارغة
الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
وَفِيهِ فَصْلٌ : نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
فارغة
بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَأَجَازَهُ أَصْحَابُنَا إذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ مَجِيئًا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهَا هِيَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ ، نَحْوُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَيْضًا .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ جَوَازَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } ، وَالنَّسْخُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ ( فِي ) تَوَهُّمِنَا بَقَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُنَا لَهُ ، فَانْتَظَمَ قَوْلُهُ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } سَائِرَ وُجُوهِ الْبَيَانِ ، فَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَوْعِبَهُ الْآيَةُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارُ مَا أُنْزِلَ وَتَبْلِيغُهُ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا أَحَدُ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ ضَرْبًا مِنْ الْبَيَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرِ بِإِظْهَارِ ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ تَحْتَهُ .
كَذَلِكَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ النَّسْخُ ( وَاجِبٌ أَنْ ) يَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ اسْتَحَالَ أَنْ تَنْسَخَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ بِمَا
يُبَيِّنُهُ .
قِيلَ ( لَهُ ) : إنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلَالَةٌ وَهُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَكَأَنَّك إنَّمَا جَعَلْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ دَلَالَةً عَلَى الْمَسْأَلَةِ .
وَعَلَى أَنَّ النَّسْخَ ضَرْبٌ مِنْ الْبَيَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهِ .
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
فَلَمَّا كَانَ النَّاسِخُ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ صِرَاطَ اللهِ ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ لِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَهْدِي إلَى صِرَاطِ اللهِ ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبًا مِنْ اللهِ تَعَالَى ، جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهَا وَحْيٌ وَهُوَ قُرْآنٌ كَمَا جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُمَا ، وَحْيٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) : نَسْخُ التِّلَاوَةِ .
( وَالثَّانِي ) : نَسْخُ الْحُكْمِ .
وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا بِقُرْآنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، لِأَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ يَكُونُ بِالْإِنْسَاءِ تَارَةً وَبِالْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَتْبِهَا وَحِفْظِهَا أُخْرَى ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ وُجِدَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا قُرْآنٌ مَوْجُودٌ نُسِخَتْ بِهِ ، فَلَمَّا جَازَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا بِقُرْآنٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُ الْحُكْمِ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ نَسْخِ الْقُرْآنِ ،
وَلِأَنَّ التِّلَاوَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا ( وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ) مِنْ الثَّوَابِ إذْ كَانَتْ قُرْآنًا ، وَلَا تَسْتَحِقُّ بِغَيْرِهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ
الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ يَقْتَضِي نَسْخَ حُكْمٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قُرْآنٌ مَنْسُوخٌ بِغَيْرِ قُرْآنٍ فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي حُكْمٍ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ مَا صَحَّ اجْتِمَاعُهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ جَازَ النَّسْخُ بِهِ عَلَى ( حَسَبِ ) مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ تَجْوِيزِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، مُوجِبَةً لِتَوْقِيتِ حُكْمِهِ ، أَنَّ مُرَادَ اللهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ كَذَا ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِعْلُهُ بَعْدَهُ ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عِبَادَةٌ أُخْرَى ، كَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ : الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَالْحَجُّ وَاجِبٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ ، وَجَبَ أَنْ ( لَا ) يَمْنَعَ إبْهَامَ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ ثُمَّ تَرِدُ سُنَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَوَالِ ذَلِكَ ( الْحُكْمِ ) ، وَوُجُوبِ ضِدِّهِ كَمَا جَازَ وُجُودُ ذَلِكَ ( مِنْهُ ) عَقِيبَ نُزُولِ الْقُرْآنِ .
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ .
إذْ كَانَ النَّسْخُ تَخْصِيصًا بِالْوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ( مِنْهُمَا ) ، وَارِدٌ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ كَمَا جَوَّزْت تَخْصِيصَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ .
قِيلَ لَهُ : لَنَا فِي تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ شَرَائِطُ قَدْ بَيَّنَّا
بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ ( مِنْهُ ) ظَاهِرَ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ السَّلَفُ فِيهِ وَيُسَوِّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ أَوْ يَتَّفِقُوا عَلَى خُصُوصِهِ ، فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمُوجِبِ عُمُومِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَمُوجِبُ حُكْمِهِ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ مُوجِبُهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِمَا يَجُوزُ ( بِهِ ) النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ .
فَإِنْ قَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ التَّخْصِيصِ مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ مَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَبْقَى مَعَ النَّسْخِ حُكْمٌ يُسْتَعْمَلُ .
قِيلَ ( لَهُ ) : هَذَا فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ ( آخَرَ ) لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَعَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا وَقَدْ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ مَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَبَقَّى مِنْ حُكْمِ الِاسْمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ نَفَى جَوَازَهُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِمَا ادَّعَى ( فِيهِ ) مِنْ وُرُودِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
قَالَ : وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ بِوَجْهٍ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ نَذْكُرُهَا ( إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) .
فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا ، ثُمَّ نَشْرَعُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ
فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَا عَلَى مَا ادَّعَوْهُ ( إنْ شَاءَ اللَّهُ ) .
فَأَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " بِخَيْرٍ مِنْهَا " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ( بِهِ ) خَيْرًا مِنْهَا فِي نَظْمِهَا وَصُورَتِهَا وَحُرُوفِهَا ، أَوْ خَيْرًا مِنْهَا أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفَاسِدٌ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا ، فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمٌ ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ أَصْلَحَ لَنَا وَأَنْفَعَ مِنْهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ قُرْآنٌ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ قُرْآنًا وَأَنْزَلَ بِبَعْضِهَا وَحْيًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَصَالِحِنَا ( فِيهَا ) .
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِ إطْلَاقِهَا أَنَّهَا خَيْرٌ لَنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ " مِثْلِهَا " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ ( جَمِيعِ جِهَاتِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي نَظْمِهِ وَصُورَتِهِ وَحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ هُوَ الْمَنْسُوخَ وَيُوجِبُ بُطْلَانَ النَّسْخِ رَأْسًا ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وُجُودُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ ) بَعْضِ الْجِهَاتِ ، وَقَدْ يَصِحُّ إطْلَاقُ ( اسْمِ ) الْمَثَلِ إذَا تَمَاثَلَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ لِمُمَاثَلَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ غَيْرُ مُمَاثِلَةٍ لِلُّؤْلُؤِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، وَإِنَّمَا مِثْلُهُنَّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
فَمَتَى اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ السُّنَّةُ مِثْلَ الْآيَةِ ، مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا وَحْيٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهُ بِهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا فِيمَا يَكُونُ ( مُمَاثِلًا ) لَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا ( يُقَالُ ) هُوَ مِثْلُهُ عَلَى التَّقْيِيدِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يُرِدْ بِالْمِثْلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرْت ، لِمَا بَيَّنَّا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا مَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ النَّاسِخَ لَهَا ، وَإِنَّمَا ( قُلْنَا ) ( فِيهَا ) أَنَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَخَ الْآيَةَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ يَأْتِي بِآيَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا وَلَا تَكُونُ هِيَ النَّاسِخَةَ إذْ لَمْ يَقُلْ ( مَا نَنْسَخْ ) مِنْ آيَةٍ نَأْتِ بِمَا يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ( أَنَّ قَوْلَهُ ) " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا يَكُونُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا بَلْ بِغَيْرِ آيَةٍ ثُمَّ يَأْتِي بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا لَيْسَتْ هِيَ النَّاسِخَةَ لِلتِّلَاوَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحُكْمِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ هُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلنَّظْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ بَاقِيَةً وَالْحُكْمَ مَنْسُوخٌ ، وَقَدْ تُنْسَخُ الْآيَةُ وَالْحُكْمُ بَاقٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلرَّسْمِ وَالنَّظْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، ( فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } عَلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ دُونَ الْحُكْمِ
) ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْحُكْمُ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } مِنْ ( أَحَدِ ) أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُرِيدَ ( بِهِ ) نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ أَوْ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ أَوْ نَسَخَهُمَا مَعًا .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخِلَافِ ( لِأَنَّ الْخِلَافَ ) بَيْنَنَا فِي نَسْخِ الْحُكْمِ ، وَلَمْ نَخْتَلِفْ أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ ( قَدْ ) يَكُونُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ أَنَّهُ أَصْلَحُ لَنَا وَأَنْفَعُ ، لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْرِ لَا يُطْلَقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ إلَّا بِإِضْمَارِ إضَافَتِهِ إلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ ، لِأَنَّك لَا تَقُولُ إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا إلَّا وَمُرَادُك أَنَّهُ خَيْرٌ لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهِ أَوْ جَعَلَ لَهُ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا ، فَإِنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ ، بِأَنْ يُنْسِيَ اللَّهُ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ يَأْمُرَ عَلَى ( لِسَانِ ) رَسُولِ اللهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا فَتُنْسَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَمْنَعْ نَسْخَ الْحُكْمِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالسُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُمَا مَعًا بِالسُّنَّةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { بِخَيْرٍ مِنْهَا } ؟ ( أَوْ مِثْلِهَا أَنْ يَكُونَ ) خَيْرًا مِنْ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِتِلَاوَتِهَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ يَعْنِي فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِتِلَاوَتِهَا مِنْ الثَّوَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِهَا .
وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ { بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ بِهِ عَنْ قُرْآنٍ مِثْلِهِ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْ جِهَةِ مَا ذُكِرَ ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ .
الْجَوَابُ : إنَّ هَذَا لَا يُعْتَرَضُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّا إذَا سَلَّمْنَا لَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَوْنِ التِّلَاوَةِ خَيْرًا لَهُ لِمَا يُسْتَحَقّ بِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ .
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ ، وَهُوَ كَوْنُ ثَوَابِهَا خَيْرًا لَنَا ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَصْمُنَا أَوْلَى بِصَرْفِ مَعْنَاهَا إلَيْهِ مِنَّا ( بِصَرْفِهِ ) إلَى الْحُكْمِ وَمَا لَنَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا ( لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي نَفْسِهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَنْفَعُ لَنَا ) ، وَأَصْلَحُ إمَّا مِنْ جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقُرْآنِ ، إنْ كَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا فِي بَابِ أَنَّهُ أَصْلَحُ لَنَا ، فَلَيْسَ إذَنْ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الثَّانِي خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَأَيْضًا : فَإِذَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّنَّةِ خَيْرًا لَنَا مِنْ حُكْمٍ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَازَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ كَمَا جَازَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ ، كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ تَجْوِيزَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَسْخِهَا بِقُرْآنٍ مِثْلِهَا ، أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا ، مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ وَمِنْ نَسْخِهَابِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا يَكُونُ خَيْرًا لَنَا فِي بَابِ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ نَسْخُ النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، لِأَنَّ الْآيَةَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالرَّسْمِ لَا الْحُكْمِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ .
إذْ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : مَا نَنْسَخْ مِنْ نَظْمِ آيَةٍ وَرَسْمِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فَلَا يَعْتَرِضُ ( ذَلِكَ ) عَلَى مَوْضُوعِ الْخِلَافِ ، لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ لَا فِي نَسْخِ النَّظْمِ وَالتِّلَاوَةِ ، إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ .
وَأَيْضًا : فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } دَلَالَةٌ عَلَى ( أَنَّ ) الْمَأْتِيَّ بِهِ
هُوَ النَّاسِخُ لَهَا ، إذْ لَمْ يَقُلْ نَأْتِ بِمَا يَنْسَخُهَا خَيْرًا مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَأْتِ بِنَاسِخٍ خَيْرٍ مِنْهَا ، لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ دَعْوَاهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، وَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا ، إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِأَوْلَى بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْآخَرِ ، بَلْ لَوْ قُلْنَا : إنَّ الْأَظْهَرَ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ فَحْوَى الْخِطَابِ ، نَسْخُ الْآيَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ وُجُوهِ النَّسْخِ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَ قُرْآنٍ ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ، كَانَ قَوْلًا سَدِيدًا أَوْ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِنَا .
فَإِنْ قَالَ : قَوْله تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْآيَةِ بِقُرْآنٍ مُعْجِزٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنَعَ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ .
قِيلَ لَهُ : ( وَلَوْ ) سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت لَمْ
يُعْتَرَضْ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ ( وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ ) ، وَالنَّظْمِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا ، فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهَا ( عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُلُّ ) عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ .
وَمِنْ ( وَجْهٍ آخَرَ ) : لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْت لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ مِثْلُهَا هُوَ النَّاسِخُ لَهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَسْخَ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتِهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَيَأْتِي مَعَ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَجُوزُ فِيهِ ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي ( بِهِ ) بَعْدَ النَّسْخِ يَكُونُ قُرْآنًا ( إنْ اقْتَضَتْ ) الْآيَةُ ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حُكْمًا مِنْ جِهَةِ وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ .
وَيَصِحُّ الْوَصْفُ لَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ الَّذِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ قُرْآنٌ مُعْجِزٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ } ( فَدَلَّ أَنَّهُمْ ) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ نَفْسِهَا وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ جَازَ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ لَكَانَ قَدْ بَدَّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ ( إذَاكَانُوا ) سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْآيَةِ نَفْسِهَا لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ ، هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ أَمْ لَا ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ وَالرَّسْمِ ، أَوْ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ ، أَوْ تَبْدِيلَهُمَا جَمِيعًا .
فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلِأَنَّ أَحَدًا غَيْرُ اللهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْدِيلِ نَظْمِ الْقُرْآنِ إلَى نَظْمٍ آخَرَ مُعْجِزٍ .فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ .
وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ دُونَ النَّظْمِ لَمْ يُعْتَرَضْ أَيْضًا عَلَى قَوْلِنَا ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ نَفْيٌ تَبْدِيلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يُبَدِّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُبَدِّلُهُ اللَّهُ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ إمَّا قُرْآنٌ ( وَإِمَّا ) غَيْرُ قُرْآنٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ } ( وَالْوَحْيُ ) لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَبْدِيلِ حُكْمِهِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى الْحُكْمِ ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ نَسْخُ النَّظْمِ وَالرَّسْمِ .
إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ كَانَ قُرْآنًا وَجَوَّدَهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّظْمِ ، وَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ تَبْدِيلَ النَّظْمِ وَالْحُكْمِ مَعًا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ إنَّهُ يُبَدِّلُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَ ( إنَّمَا ) قُلْنَا إنَّمَا يَتَّبِعُ مَا يُوحَى إلَيْهِ
وَمَا يُوحَى إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَغَيْرَ قُرْآنٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا
أَنْتَ مُفْتَرٍ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُنْسَخُ الْآيَةُ بِآيَةٍ مِثْلِهَا قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ وَإِبْطَالًا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهَا وَأَنَّهُ أَتَى بِهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } مَا يُوجِبُ أَنَّ حُكْمَ الْقُرْآنِ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ إذَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَالَ الْكُفَّارُ { إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ لَا يَنْسَخُهَا بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( إنَّهُ ) إنَّمَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَطْعًا لِحُجَجِ الْكُفَّارِ وَبُطْلَانًا لِدَعْوَاهُمْ فَإِنَّهُ ( قَدْ ) أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا ( مَعَ ) تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ وَلَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَسْخِ آيَةٍ أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ .
وَعَلَى أَنَّ " قَوْلَهُ { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْمَتْلُوِّ لَا الْحُكْمَ وَلَيْسَ ( فِي ) الْمَتْلُوِّ مَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْمَتْلُوِّ ، فَلَيْسَ لِمَا ذَكَرُوهُ تَعَلُّقٌ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ نَسَخَهَا بِالسُّنَّةِ لَارْتَابَ الْكُفَّارُ وَقَالُوا : إنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ ارْتَابَ الْكُفَّارُ مَعَ نَسْخِهَا بِآيَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَمْنَعْ ، ارْتِيَابُهُمْ مِنْ نَسْخِهَا بِآيَةٍ غَيْرِهَا .
فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهَا بِالسُّنَّةِ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا ( عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِمَا قَدَّمْنَا ) وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي
السَّمْعِ مَا يَمْنَعُ ( مِنْ ) ذَلِكَ ، وَنُدِلُّ الْآنَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ( لَا يَجِدُ ) نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ إيَّانَا عَلَى تَجْوِيزِهِ فَنَقُولُ : إنَّ أَصْحَابَنَا قَدْ ذَكَرُوا أَحْكَامًا فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِالسُّنَّةِ ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { تَوَّابًا رَحِيمًا } .
فَاتَّفَقَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ كَانَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْمُوجِبُ ( لِنَسْخِ ) ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ ، وَالرَّجْمُ } .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى نُسِخَا بِالْخَبَرِ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فِي هَذَا الْحَدِيثِ ) { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَنَبَّهَنَا عَلَى وُجُودِ السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي } عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِخْبَارُ بِالنَّسْخِ فِي الْحَالِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا النَّسْخَ وَاقِعٌ لَا بِقُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : { خُذُوا عَنِّي } قَدْ أَفَادَ وُقُوعَ النَّسْخِ بِسُنَّتِهِ لَا بِالْقُرْآنِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَأَنَّ السَّبِيلَ كَانَ مُتَقَدِّمًا ، فَلَمْ يَكُنْ ( يَصِحُّ ) الْإِخْبَارُ بِأَنَّ السَّبِيلَ مَأْخُوذٌ عَنْهُ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى وُجُودِهِ إلَّا مَعَ تَقَدُّمِ عِلْمِهِمْ بِهَا ، وَتَقْرِيرِهَا قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت ، لَكَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى وُقُوعِ نَسْخِهَا بِالسُّنَّةِ ، وَهِيَ أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، وَقَدْ كَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى حَدًّا ثَابِتًا عَلَى الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَكَانَتْ آيَةُ الْجَلْدِ نَاسِخَةً لِلْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
وَلَوْ خَلَّيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَمُقْتَضَى حُكْمِ آيَةِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَآيَةِ الْجَلْدِ ، لَأَوْجَبَ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى فِي الْمُحْصَنَيْنِ ، ، وَلَا شَيْءَ نَسَخَهُ عَنْهُمَا إلَّا إيجَابُ الرَّجْمِ وَالرَّجْمُ ( إنَّمَا ) ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ الْجَلْدِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا ، وَمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ .
فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِهِ ( وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ ) .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَلَّا يَدُلَّ حَدِيثُ عُبَادَةَ فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى نَسْخِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى .
لِأَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ مُؤَقَّتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَإِنَّمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ السَّبِيلَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْآيَةِ إلَى سَنَةٍ لَمْ يَكُنْ مُضِيُّ السَّنَةِ مُوجِبًا لِنَسْخِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَيَكُونُ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى عَلَى
التَّأْبِيدِ ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } لَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ ثَبَاتُ حُكْمِهَا إلَى أَنْ يَنْسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَذِكْرُ السَّبِيلِ إنَّمَا أَفَادَ تَأْكِيدَ بَقَاءِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ وُقُوعِ النَّسْخِ .
وَعَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت كَانَتْ دَلَالَةُ الْخَبَرِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبِيلَ مَذْكُورٌ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الرِّجَالِ ، لِأَنَّ حَدَّ الرَّجُلِ كَانَ الْأَذَى إلَى أَنْ يَتُوبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ الْآنَ بِرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَجَلْدِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ النَّاسِخِ لِحُكْمِ الْآيَةِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ فَلَا مَحَالَةَ قَدْ أَوْجَبَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ ، وَالْأَذَى كَانَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْصَنِ حُكْمٌ ثَابِتٌ فَكَانَ وُجُوبُ الرَّجْمِ حَدًّا مُبْتَدَأً .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ السَّلَفِ قَدْ قَالَ إنْ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ حَدًّا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَنُقِلَ وَلَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْلَمُوهُ حَدًّا لِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ فَيَنْقُلُوا مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَدًّا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ، إخْبَارٌ بِأَنَّ السَّبِيلَ لِجَمِيعِ مَنْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ السَّبِيلِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَصَرَ بِذِكْرِ السَّبِيلِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ ، فَلَمَّا جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ
الْمُحْصَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فِي بَيَانِ السَّبِيلِ فَقَالَ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي ( الْآيَةِ كَانَ لِلْفَرِيقَيْنِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي ) الْخَبَرِ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا .
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ : نُسِخَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
فَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّمَا يَنْقُضُ بِذَلِكَ قَوْلَ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ قَائِلٌ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى مَنْسُوخَيْنِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي كَانَ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ ، فَلَا يَدُلُّ مَا ذَكَرْت عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ .
وَهَذَا ( أَيْضًا ) غَلَطٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي الْآيَةِ كَانَ عَقِيبَ مَا أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا .
وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } كَانَ قُرْآنًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ قُرْآنًا مَعَ إخْبَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنْهُ لَا عَنْ الْقُرْآنِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الْمَذْكُورِ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا قَطُّ .
وَلَوْ كَانَ قُرْآنًا مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ لَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خُذُوا عَنِّي } ، وَلَكَانَ السَّبِيلُ الَّذِي جُعِلَ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ الثَّابِتِ الْحُكْمِ ، وَفِي خَبَرِ عُبَادَةَ مَا يَنْفِي هَذَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَنْسُوخَانِ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِقُرْآنٍ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّهُ لَوْ شَاعَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سُنَّةٍ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ ، فَيُوجِبُ هَذَا أَلَّا يَثْبُتَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَّةٌ ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي جَمِيعِ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا قَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ إنَّهُ إنَّمَا نُسِخَ بِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ ، ثُمَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى بِالْحُكْمِ الْآخَرِ .
وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : مَا نُسِخَتْ سُنَّةٌ قَطُّ إلَّا بِقُرْآنٍ قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فَيُوجِبُ هَذَا بُطْلَانَ قَوْلِ مُخَالِفِنَا إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عُبَادَةَ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ .
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ( وَهُوَ ) أَنَّ خَبَرَ عُبَادَةَ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَلَيْهَا مِمَّنْ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ خِلَافًا مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَقَدْ أَجَازَ أَصْحَابُنَا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِهِ لِتَلَقِّي النَّاسِ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ رَجْمَ الْمُحْصَنِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ مُوجِبَةِ عِلْمٍ بِمُخْبَرَاتِهَا فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا الرَّجْمَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَبِخَبَرِ عُبَادَةَ ، وَأَثْبَتْنَا بِهَا نَسْخَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنَاتِ ، فَصَارَ حَظُّ خَبَرِ عُبَادَةَ فِي إثْبَاتِ تَارِيخِ الرَّجْمِ ، وَأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَمْرَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى الرَّجْمِ بِلَا وَاسِطَةِ حُكْمٍ بَيْنَهُمَا وَلَا نُزُولِ آيَةٍ قَبْلَهُ أَوْجَبَتْ نَسْخَهُمَا .
وَقَدْ يَجُوزُ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّسْخِ إذَا كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا .
وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } فَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ، وَنَحْوُهُ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَلَمْ يُنْسَخْ إلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
فَزَعَمَ مُخَالِفُونَا أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ الْمِيرَاثَ .
كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لَا قَوْلُهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا ( ذَكَرَهُ مِنْ ) ذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمِيرَاثِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَآيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا فِيهَا إيجَابُ ( الْمِيرَاثِ ) بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَجَمَعْنَا لَهُمَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ كُلَّ حُكْمَيْنِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَلَيْسَ فِي وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ .
فَوَجَبَ عَلَى هَذَا مَتَى وَجَدْنَا حُكْمَيْنِ قَدْ نُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إيجَابِ الْآخَرِ مِمَّا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّسْخَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّا لَوْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا لَمَا أَوْجَبْنَا نَسْخًا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لَا يُوجِبُ مَا ذَكَرُوهُ ، لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ إذَنْ لَمْ تُوجِبْ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا ، فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهَا هِيَ النَّاسِخَةُ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
فَإِنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَا قَالُوا ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْمِيرَاثَ ، فَنَسَخَ وَصِيَّتَهُ ( بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ ) لَا بِآيَةِ الْمِيرَاثِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا بَلْ يَكُونُ سَائِغًا جَائِزًا ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذِكْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ ذِكْرِ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ ( أَنَّهُ ) ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ وَإِنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ حَظِّ الْمِيرَاثِ مَا
عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ قَبْلَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ حَظٍّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ مَا يَنْفِي أَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَأَجَازَ
لَهُ وَصِيَّةً أَيَّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَهَا بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ ، ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ عَلَى السِّهَامِ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } نَفْيٌ لِجَوَازِ ( نَسْخِ ) الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، إذْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَصِيَّةً مَنْكُورَةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ عَلَى قَوْمٍ ، فَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْوَارِثِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، فَلَمْ يَنْسَخْ جَوَازَهَا لِلْوَارِثِ إلَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
قِيلَ ( لَهُ ) : الَّذِي فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِهَا إلَّا عَنْ الْوَاجِبِ ، وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ جَوَازَهَا عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ بِهَا ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَمَّا كَانَتْ مُطْلَقَةً عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نَسْخَ إيجَابِهَا .
فَإِذَنْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } لَمْ يُنْسَخْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ الَّذِي فِيهَا الْإِيجَابُ قَدْ نُسِخَ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْجَوَازُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِيجَابِ فَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ .
فَإِنْ قَالَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ اللَّفْظُ إلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إيجَابِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ( وَيُخَصِّصُهَا بِلَفْظٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَطْلَقَهَا بِلَفْظِ النَّكِرَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) إذْ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ إيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَهَا لِسَائِرِ النَّاسِ ، وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَهَا لِلْوَرَثَةِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَسْخَ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، وَارِثِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ وَارِثِينَ ، وَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ فِي آخَرِينَ حِينَ أَثْبَتُوا فَرْضَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً وَلَمْ يُجَوِّزُوهَا لِلْأَجْنَبِيِّينَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ مَوْجُودِينَ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ
لِلْمُعْتَقَيْنِ فِي الْمَرَضِ الثُّلُثَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ قَرَابَةٌ ( قَالَ ) : فَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْهُ إجَازَةَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً بِالْخَبَرِ .
وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } قَالُوا : فَقَدْ كَانَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا مُسْتَقِرًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ .
قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَّرَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ } لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ .
قَالُوا : وَقَدْ اعْتَرَفَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ فِي أَمْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا فِي حَالِ الْخَوْفِ وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُتَنَفِّلِ ثُمَّ نُسِخَ تَرْكُ التَّوَجُّهِ إلَيْهِمَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يُؤْمَرُوا بَدْءًا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَفِي غَيْرِ حَالِ السَّفَرِ لِلْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ( وَإِنَّمَا كَانَتْ حَالَ الْخَوْفِ ) مَخْصُوصَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مَنْ لُزُومِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا قَدْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ نُسِخَ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ خِطَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَوْجَبَ كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْأَمْنِ ( وَالْإِقَامَةِ ) دُونَ حَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَعَلَى أَنَّ ( فِي ) سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَمْرِ
بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ .
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يَقْتَضِي لُزُومَ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ حَتْمًا كَانَ قَوْله تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَتَيْ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ - لِلتَّنَقُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ - اللَّتَيْنِ صَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمَا
إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ نُسِخَ كَمَا لَا يُقَالُ فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } أَنَّهُ نَاسِخٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِخًا لَكَانَ ( نَسْخُ الْقُرْآنِ ) بِقُرْآنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِي رَاحِلَتِي تَطَوُّعًا ثُمَّ تَلَا { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } . وَقَالَ : فِي هَذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَبَاحَتْ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خُصَّتْ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عَامًّا أَوْ نَسَخَتْهَا ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَقَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي حَالِ الْخَوْفِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَئِذٍ
لِتَعَذُّرِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا .
فَإِنَّهُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ جَمِيعًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ .
فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ ( قَدْ ) كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ ،وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، لِأَنَّهُ شُغِلَ بِالْقِتَالِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسَايِفِ وَالْمُقَاتِلِ صَلَاةٌ وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ { مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .
وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ ( الْآنَ ) عِنْدَ الْجَمِيعِ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ نَسْخَهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ .
وَمِمَّا نُسِخَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ قُرْآنٍ مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } قَالَتْ : { مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ } ، وَرُوِيَ عَنْهَا حَتَّى " أُحِلَّ لَهُ نِسَاءُ أَهْلِ الْأَرْضِ " .
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا ( يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ ) فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ } قِيلَ لَهُ : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَلَمْ يُوجِبْ نَسْخَ قَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك } .
وَأَمَّا نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَالْقُرْآنُ وَمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا تَضَمَّنَاهُ ، فَغَيْرُ ( جَائِزٍ ) أَنْ ( يَنْزِلَ مَا ) كَانَ هَذَا وَصْفُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَجُوزُ تَرْكُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الْمَنْعِ قَدْ وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا وَيُقْبَلُ ( مَعَ ذَلِكَ ) خَبَرُ الْوَاحِدِ
فِي حَظْرِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا طَرِيقُ اسْتِبَاحَتِهِ الِاجْتِهَادُ ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي أَلَّا يَلْحَقَنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو بِهِ مِنْ نَفْعٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَاتِ وَالْخُرُوجَ فِي الْأَسْفَارِ وَشُرْبَ الْأَدْوِيَةِ وَأَكْلَ الْأَطْعِمَةِ إنَّمَا يَصِحُّ لَنَا مِنْهَا اسْتِبَاحَةُ مَا لَا يَلْحَقُنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ الَّذِي نَرْجُوهُ بِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ( فِيمَا ) سَلَفَ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ نَظِيرَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مَرَضِيَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمَا أَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ ، ثُمَّ مَتَى عَيَّنَّا شَاهِدَيْنِ كَانَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا ( مِنْ طَرِيقِ غَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ قَبُولِهَا أَوْ رَدِّهَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ هُوَ عَلَى ( هَذَا السَّبِيلِ ) .
.
الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرَبَعُوْنَ:فِيْ ذِكْرُ نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ
فارغة
بَابٌ ذِكْرُ نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَدْ يَرِدُ النَّسْخُ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ( وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{ وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ .
ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ بَدْءًا ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ اللَّذَيْنِ نُسِخَ بِهِمَا .
ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ ، وَالرَّجْمُ }
وَهَذَا الْحَدُّ مَنْسُوخٌ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَعَنْ الْمُحْصَنِ رَجْمُهُ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ ( مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ وَبِقَوْلِهِ : ) { يَا أُنَيْسُ اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } ، فَلَمْ تُوجِبْ الْآيَةُ النَّفْيَ ، وَلَمْ يُوجِبْ الْخَبَرُ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ ( بْنِ الصَّامِتِ ) لِأَنَّهُمْ نُقِلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ ، بِلَا وَاسِطَةٍ لِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ثُمَّ كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ وَقِصَّةُ مَاعِزٍ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ : إبَاحَةُ
الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ حُظِرَ ثُمَّ أُبِيحَ ، ثُمَّ حُظِرَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ { عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَرَوَى : أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَرَوَى : أَنَّ قُدُومَهُ مِنْهَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ ، قَالَ : فَسَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، وَقَدْ كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ .قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ : أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمًا لِيَوْمِ بَدْرٍ .
وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي إبَاحَتِهِ أَيْضًا قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ ( لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ) وَرُوِيَ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ} .فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ مُشَاهَدَةَ حَالِ إبَاحَةِ الْكَلَامِ مِنْهَا ، وَهُوَ ( مِمَّنْ ) لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ، وَلَمْ يَكُنْ ( حِينَئِذٍ ) مِمَّنْ يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ ، أَوْ عَسَى لَمْ يَكُنْ
وُلِدَ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ : إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ ، ثُمَّ حَظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِهِ ، نَحْوُ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ، } وَلِأَنَّ ( النَّاسَ قَدْ ) اتَّفَقُوا : أَنَّ آخِرَ حُكْمِهِ كَانَ الْحَظْرَ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا : مُتْعَةُ النِّسَاءِ ، لِأَنَّهُ ( رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاحَهَا ، ثُمَّ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ } ، وَرَوَى سَمُرَةُ الْجُهَنِيُّ {
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاحَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ حَرَّمَهَا } ( فَدَلَّ أَنَّهَا ) أُبِيحَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ ، ثُمَّ حُظِرَتْ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ ، فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا الْحَظْرَ ) .
الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ :بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ
فارغة
بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ
رُوِيَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ .
وَأَنَّ الرَّحِمَ ( بَعْدَ ) قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا ، وَيَقُولُ : إنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ قَالَ : فَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ فَقَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ اسْتَحَقَّ ( الْحَلِيفُ ) الْمِيرَاثَ ، إذَا كَانَ عَاقَدَهُ وَوَالَاهُ عَلَى ( أَنَّهُ ) يَرِثُهُ إذَا مَاتَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ مَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُ وَارِثًا مِنْكُمْ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلْيَضَعْ أَحَدُكُمْ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ ) .
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ ، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَنْسُوخًا عِنْدَ وُجُودِ الِابْنِ ، كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ ( ذِي رَحِمٍ ) أَوْ وَلَاءٍ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِيرَاثَهُ حَيْثُ شَاءَ ، بِحُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ : وُجُوبُ الْإِرْثِ بِالْمُعَاقَدَةِ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ فِي حَالِ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَوْجَبَهُ لِلْحَلِيفِ مَعَ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ ،
وَمَعَ عَدَمِهِمْ ، وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } .
فَقَدْ صَرَفَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا كَانَ جَعَلَهُ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْمَيِّتِ ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقِدِ ، فِي حَالِ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو رَحِمٍ : فَحُكْمُ الْإِرْثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ ، فَكَأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى إحْدَى حَالَيْ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْحَلِفِ ( وَهِيَ حَالُ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَنُفِيَ هَذَا الْحُكْمُ ) فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتْرُكُ الْمَيِّتُ فِيهَا ذَا رَحِمٍ عَلَى مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقَدَةِ .
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ قَوْله تَعَالَى { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ النَّاسُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سُتُورٌ ، فَكَانَ خَادِمُ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَع
أَهْلِهِ ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ لِذَلِكَ ، فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَالَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بَاقٍ ، وَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ ، مَتَى زَالَ السَّبَبُ عَادَ الْحُكْمُ ، كَالْحَائِضِ لَا صَلَاةَ عَلَيْهَا ، لِأَجْلِ وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي إذَا زَالَ لَزِمَتْهَا الصَّلَاةُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلصَّلَاةِ عَنْهَا ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ ، مَتَى زَالَ عَادَ حُكْمُ لُزُومِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ ، فَنُقِلَتْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْآيَةُ فِي إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَسْبَابِ
السَّاتِرَةِ لَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الدَّاخِلِينَ إلَيْهِمْ ، مِنْ خَدَمِهِمْ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ نُقِلُوا عَنْهُ بِالْآيَةِ إلَى غَيْرِهِ ( فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ ) الَّذِي مِنْ ( أَجْلِهِ ) أُمِرُوا بِذَلِكَ ( زَالَ ) الْحُكْمََََََََُ
فارغة ََََََََََََ
الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ََََََََََََ
فارغة ََََََََ
بَابٌ الْقَوْلُ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : لَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرَائِعِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَإِنَّمَا الْمَبْعُوثُ إلَيْنَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَتُهُ خَاصَّةً دُونَ شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : كُلُّ مَا ثَبَتَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ فَهُوَ لَازِمٌ لَنَا ، ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا ، وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّ حُكْمَ كَيْتَ وَكَيْتَ قَدْ كُنْت شَرَعْته لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ،وَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَيَلْزَمُنَا ذَلِكَ ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَبَدَّلُوهَا ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رِوَايَةِ مَنْ حَكَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ كَذَا ، وَلَا إلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ أَيْضًا ، لِأَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ ، بِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ .
وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ ، لِإِجَارَةِ الْمُهَايَأَةِ فِي الشِّرْبِ ، بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ ، حِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } .
وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً : أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتََََََََََََْ نَسْخُهُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهَؤُلَاءِ لَازِمٌ لَنَا .
ثُمَّ جَائِزٌ لَنَا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ إنَّمَا رَآهُ لَازِمًا لَنَا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ كُنْت أَرَى أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَظَاهِرُ احْتِجَاجِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ؟ قَائِلٌ : قَدْ كَانَتْ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى آخِرِ الْأَبَدِ مَا لَمْ يُنْسَخْ.
أَوْ يَقُولُ : إنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ لَمْ تَلْزَمْ النَّاسَ كَافَّةً عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
أَوْ يَقُولُ قَائِلٌ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ثَابِتَةً ، لَا مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ هَذَا ، إذَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا عَلَى مَا قَالَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ بَدْءًا وَلَا مِنْ جِهَةِ : أَنَّهَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا شَيْءٌ ، وَإِنْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّهُ شَرَعَهَا لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَوْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لَنَا .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ بَعِيدٌ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ هَكَذَا ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوَامِرُ أَوَامِرَ لَنَا ، وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ( خُصِصْت بِخَمْسٍ لَمْ يُعْطَهُنَََََّ أَحَدٌ قَبْلِي ، مِنْهَا : أَنِّي بُعِثْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ، وَكُلُّ نَبِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ ) وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا طَلَبُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَنَتَّبِعُهَا ، وَلَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ إلَيْهَا دُعَاءً عَامًّا ، كَدُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَامًّا ، وَلَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْلِيمُهَا الصَّحَابَةَ وَتَبْلِيغُهَا إيَّاهُمْ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلُوهَا َََ
كَنَقْلِهِمْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحِيفَةً فَقَالَ : مَا هَذِهِ فَقَالَ : التَّوْرَاةُ ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ لَوْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي } فَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا وَعَنْ تَعَلُّمِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ نَتَّبِعَ مِنْهَا مَا قَدْ بَدَّلُوهُ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَهُ لَهُ ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ : ( لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ) ، دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ قَائِمَةً ثَابِتَةَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً ثَابِتَةً لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا ، مَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا ، فَهَذَا الْوَجْهُ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمَقَالَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا .
فَنَقُولُ : إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَارَتْ شَرِيعَةًَ
لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَزِمَ النَّاسَ حِينَئِذٍ حُكْمُهَا ، مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ }.
وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } فَبَقِيَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ : أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَلَى شَرِيعَتِهِ ، وَلَزِمَتْنَا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا ، لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ : أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فَتَكُونُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لَنَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا ، فَإِلْزَامُ اللهِ تَعَالَى إيَّانَا فِعْلَهَا بِالْقُرْآنِ ، لَا لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا ، وَلَا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ أَمْرًا لَنَا عِنْدَ وُرُودِهَا .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ سَجْدَةِ ( ص ) مِنْ أَيْنَ سَجَدْت ؟ قَالَ : أَوَمَا تَقْرَءُوا { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ }
إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَكَانَ دَاوُد مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ ،فَسَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسَجَدَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ شَرَائِعِ مِثْلِهِ ، الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْأُمَمِ فِيهَا .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّهُ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ ، وَقَدْ أُمِرَ بِاقْتِدَائِهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَسَاوَى الْجَمِيعُ فِي تَكْلِيفِهِ : مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَنَحْوِهِ ، مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ شَرَائِعَهُمْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهَا ، لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْأَزْمَانِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَجُوزُ
نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ مِمَّا فِي الْعُقُولِ إيجَابُهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا } وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْآخَرِينَ .
الْجَوَابُ : أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَيْهِ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ ، مِنْ قَبْلِ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى يَتَنَاوَلُ مَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَوْحِيدِهِ ، وَعَدْلِهِ ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرَائِعِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فَسَمَّى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُدًى ، وَقَالَ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى : مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ فِيهَا ، وَعَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَةِ إدْرَاكِهَا السَّمْعُ ، ثُمَّ سَمَّى الْجَمِيعَ هُدًى ، فَدَلَّ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِمَا فِي الْعَقْلِ إيجَابُهُ ، دُونَ مَا يَدُلُّ السَّمْعُ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، اقْتَضَى عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ هُدًى ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ ، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ هَذَا حُكْمُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ لَفْظِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ ، وَقَدْ أُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّوْحِيدِ ، فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْآيَةِ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ ، وَإِخْوَانِهِمْ ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ ، فَأُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ أَيْضًا ،
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ ، وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } جُمْلَةً ، لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ إلَّا وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ : يَقْتَضِي الِاقْتِدَاءَ بِالْجَمِيعِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ شَرِيعَةٌ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا وَاجِبٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَخْصُوصٌ مِنْ اللَّفْظِ ، إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءَ خَاصَّةً .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ : مِنْ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا ، فَلَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ، كَذَلِكَ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا ، وَتَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا مَا اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ حُكْمُهُ إلَى مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَجُعِلَ شَرِيعَةً لَهُ دُونَ مَا نُسِخَ مِنْهَا ، وَعَلِمْنَا بِالنَّاسِخِ مِنْهَا مِنْ الْمَنْسُوخِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا ، لِأَنَّا نَقُولُ :إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ ، ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِهِ ، فَأَمَّا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا تَتَبُّعُهُ ، لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كُنَّا مُتَعَبِّدِينَ بِذَلِكَ ، لَكَانَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ ، فَلَيْسَ بِمُوجِبِ مَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ إذَا صَارَ شَرِيعَةً لَنَا فَقَدْ اكْتَفَيْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَنْ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
وَنَقُولُ : إنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ ، لِأَنَّا لَا نَصِلُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ يُوثَقُ بِهَا ، وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمُهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنَّا تَكْلِيفُهُ ، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا شَيْءٌ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِهِ - فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ ، فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِإِيجَابِهِ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حِكَايَةُ كَوْنِهِ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا - فَيَكْفِي بِهَذَا عَنْ طَلَبِهِ وَتَتَبُّعِهِ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَغَيْرُ مَانِعٍ مِمَّا قُلْنَا : مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرَائِعِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي خَالَفَ بِهِ شَرِيعَتُنَا شَرَائِعَهُمْ ، هُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّسْخُ ، فَلَا يَلْزَمُنَا اسْتِعْمَالُهُ ، وَقَدَّمْنَا ذِكْرَ قَوْله تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهَذَا الظَّاهِرُ قَدْ اقْتَضَى الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَمِيعِ ، لِأَنَّ الدِّينَ
اسْمٌ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ جَمِيعًا .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } لِأَنَّ الْمِلَّةَ اسْمٌ يَجْمَعُ ذَلِكَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُنْسَخُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ، وَالظَّالِمُونَ ، وَالْفَاسِقُونَ فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ، فَنَبَّهَ بِهَا عَلَى كَذِبِهِمْ ، وَبَهَتَهُمْ فِي كِتْمَانِهِمْ لِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ ، فِيهَا حُكْمُ اللهِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } فَحَكَمَ بِإِكْفَارِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الرَّجْمِ ، الَّذِي كَانَ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ شَرِيعَتِهِ فِيهِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِإِكْفَارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِتَرْكِهِمْ الرَّجْمَ الَّذِي كَانَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَرْكِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِسِمَةِ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِتَرْكِهِمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ ، إذْ هُمْ
مَأْمُورُونَ فِيهَا بِتَرْكِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ ، إلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ ، صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، بَلْ صَارَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوخَةً بِشَرَائِعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا : وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } - وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ - فَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ صَارَ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَيْنِهِ ، وَإِعْلَامِهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَذَلِكَ ، لَمَا كَانَ الْيَهُودُ ظَالِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ ، عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَدَلَّ : عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْوَصْفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى دِينِهِ ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةً لِعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَدُونَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ كَوْنِهِ مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَسِمَةَ الْفِسْقِ ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَرَائِعِهِ ، بَلْ يَقْتَضِي : أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْبَقَاءِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبُلُوغِهِمْ دَعْوَتَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخِلَافِهَا وَنَسْخِهَا ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ ، لِأَنَّهُمْ زَالُوا عَنْ حَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، مِنْ اتِّبَاعِهِ ، وَالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
الْبَابُ السَّاددِسُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ
فارغة
بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخَالِفِي الْمِلَّةِ ، وَعَلَى مَنْ شَذَّ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جُمْهُورِ الْأُمَّةِ ، مَا يُغْنِي وَيَكْفِي .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ جُمَلًا ، ثُمَّ نُعَقِّبُهَا بِفُرُوعِهَا الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا ، وَاَللَّهُ نَسْأَلُ الْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَخْبَارِ : فَنَفَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ ، وَأَنْكَرَتْ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَنَفَتْ الْيَهُودُ كُلَّ خَبَرٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَأَثْبَتَتْ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ : لَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهَا مَعْصُومًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : شَرْطُ صِحَّتِهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ بِهَا عُدُولًا ، أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، وَلَيْسُوا بِأَعْيَانِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ : لَا يُعْرَفُ بِخَبَرِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ شَيْءٌ ، وَمِنْ فَوْقِ الْأَرْبَعَةِ إلَى
الْعِشْرِينَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِخَبَرِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُعْلَمَ ، إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ ، وَعَلَى نَفْيِهِ ، وَأَمَّا الْعِشْرُونَ فَقَدْ يُعْلَمُ صِحَّةُ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ ، إذَا كَانَ الْعِشْرُونَ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ سَوَاءً ، أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى .
وَقَالَ النَّظَّامُ : خَبَرُ الْوَاحِدِ يُضْطَرُّ إلَى الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، وَمَتَى عَلِمَهُ اضْطِرَارًا عِنْدَ مُقَارَبَةِ أَسْبَابِهِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ اثْنَيْ عَشْرَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ سَبْعِينَ رَجُلًا .
فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ بَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَبَعْضُهَا شُذُوذٌ عَنْ كَافَّةِ الْأُمَّةِ .
وَالْوَجْهُ :
أَنْ نَبْتَدِئَ بِذِكْرِ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا عَلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَا صَحَّ عِنْدَنَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا ، ثُمَّ بِإِفْسَادِ مَا خَالَفَهَا وَخَرَجَ عَنْهَا .
الْبَابُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي ذِكْرُ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَحْكَامِهَا
وفيه فصول ثلاثة:
فصل في الكلام على من حكينا أقاويلهم في الباب الأول
فصل: في إبطال قول من رد الأخبار المختلف فيها و إثبات المتفق عليها
فصل: في إبطال من قال لانعرف صحة الخبر إلا بقول المعصوم
فارغة
بَابٌ ذِكْرُ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَحْكَامِهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جُمْلَةً فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ وَأَحْكَامِهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِي الْأَخْبَارِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَعَانِيَهَا مُخْتَصَرَةً دُونَ سِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَكَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا عَلَى نَسَقِهَا ، وَاقْتَصَرْت مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِ فِيهَا .
ذَكَرَ : أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ فِيهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ .
وَقِسْمٌ مِنْهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ .
وَقِسْمٌ : يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَمَا وَقَعَ الْعِلْمُ بِمُخْبِرِهِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مُخْبِرِهِ ، كَعِلْمِنَا بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَخُرَاسَانَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا النَّاسَ إلَى اللهِ تَعَالَى ، وَجَاءَ بِالْقُرْآنِ ، وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ ، وَأَمْرُهُ إيَّانَا : بِالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمُ اضْطِرَارٍ وَإِلْزَامٍ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ ، رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا ، خَارِجًا عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ ، كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ ، وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَوْمٌ ، وَأَنَّ الْمَوْجُودِينَ أَوْلَادُ أُولَئِكَ ، وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَى
ذَلِكَ .
وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَدٌّ مَعْلُومٌ ، وَلَا عِدَّةٌ مَحْصُورَةٌ .
وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ قَدْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَعْنَاهُ عِنْدِي إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَشَاعِرِينَ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ .
قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : لِأَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ : هُوَ مَا يَقَعُ لَنَا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ ، الَّذِي لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ مَعَهُ ، وَلَا مَسَاغَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَذَكَرَ مَا فِي هَذَا الْقِسْمِ ، مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ ، عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ } الْآيَةَ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ م فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ ، فَوُجِدَ مُخْبَرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى .
وَنَحْوُهُ : مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، مِمَّا لَا يَخْفَى كَثْرَةً ، فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ وَوَصَفَ .
فَمِنْهُ مَا وُجِدَ فِي أَيَّامِهِ ، وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يَكُونُ بَعْدَهُ ، فَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ .
وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا : إنَّا إذَا رَأَيْنَا النَّاسَ مُنْصَرِفِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ ، فَاعْتَرَضْنَاهُمْ سَائِلِينَ لَهُمْ عَنْ مَجِيئِهِمْ فَقَالُوا : جِئْنَا مِنْ الْجَامِعِ ، وَقَدْ صَلَّيْنَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً : أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ ، مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَرَضْنَا قَافِلَةَ الْحَاجِّ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَسَأَلْنَاهُمْ ، فَقَالُوا : حَجَجْنَا ،
وَوَقَفْنَا بِعَرَفَاتٍ ، عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِأَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ ، مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ .
قَالَ عِيسَى : وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي يُعْلَمُ كَذِبُهُ حَقِيقَةً ، فَكَنَحْوِ أَخْبَارِ مُسَيْلِمَةَ وَإِضْرَابِهِ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ ، أَخْبَرُوا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَانَتْ كَذِبًا وَزُورًا ، وَادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ
دَلَائِلَ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ مِنْ النُّبُوَّةِ ، فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا ، فَبَانَ كَذِبُهُمْ ، وَانْكَشَفَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمْ .
قَالَ : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ قَائِلٍ : رَأَيْت رِجَالًا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ ، وَرَأَيْت دَارًا وُجِدَتْ مِنْ غَيْرِ بَانٍ بَنَاهَا ، وَرَأَيْت النَّاسَ تَفَانَوْا بِالْقَتْلِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ ، ثُمَّ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ بِمِثْلِ خَبَرِهِ ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ .
قَالَ : فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يَتَوَاتَرُ بِهَا الْخَبَرُ ، وَيَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ ، فَيَجُوزُ فِي خَبَرِهِمْ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ، فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ ، فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ ، عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا ، مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ مِنَّا بِصِدْقِهِ ، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ .
وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْفِسْقَ وَالتُّهْمَةَ بِالْكَذِبِ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَصَدَ عِيسَى إلَى ذِكْرِ تَقْسِيمِ الْأَخْبَارِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِمُخْبِرِهَا دُونَ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَارِنُهُ ، دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ ، وَسَنُفَصِّلُهَا بِاسْتِيفَائِنَا لِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُتَوَاتِرٌ ، وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ .
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا تَنْقُلُهُ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ عَدَدِهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ صِفَتِهِمْ الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى
الْعَادَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فِيمَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ .
وَغَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ : مَا يَنْقُلُهُ وَاحِدٌ وَجَمَاعَةٌ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَقْلِهِ .
فَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ : فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ بِاضْطِرَارٍ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ ، لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ .
وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُهُ ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهِهِ ، بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا .
[فصل:]الْكَلَامُ عَلَى مَنْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ
قَالَ : الَّذِينَ دَفَعُوا وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ طَرِيقُ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ
بِالِاسْتِدْلَالِ مَبْنِيًّا عَلَى عُلُومِ الِاضْطِرَارِ ، فَمَنْ جَحَدَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ مَا جَحَدَهُ ، مِمَّا لَا يَشُكُّ هُوَ وَلَا وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فِي مُكَابَرَتِهِ ، وَدَفْعُ مَا لَا يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً ، كَمَا نَتَكَلَّمُ فِي دَفْعِ عُلُومِ الْخَبَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ ، إذْ لَا فَرْقَ فِي عُقُولِ النَّاسِ جَمِيعًا كَامِلِهِمْ وَنَاقِصِهِمْ وَذَكِيِّهِمْ وَغَبِيِّهِمْ ، بَيْنَ مَا عَلِمُوهُ وَتَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا نَاسٌ قَبْلَنَا ، وَأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا أَجْدَادٌ وَمُلُوكٌ ( قَبْلَ ) وُجُودِنَا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ ، كَانَ كَمَنْ رَامَ تَشْكِيكَهَا فِي وُجُودِ نَفْسِهِ ، وَوُجُودِ مَا نُشَاهِدُهُ وَنُحِسُّهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ وَغَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ .
وَأَنَا ذَاكِرٌ : إنْ عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ
وُجُودِنَا ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نَاسٌ مِثْلُنَا ، وَتَكُونُ الْبُلْدَانُ الْفَانِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهَا ، وَكَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ ، وَالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ : أَنَّهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَتَى أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى خُرَاسَانَ ، قَصَدُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ ، وَإِذَا أَرَادُوا مِصْرَ خَرَجُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِكَوْنِ خُرَاسَانَ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ ، وَكَوْنِ مِصْرَ نَاحِيَةَ الْمَغْرِبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِمْ تَقْرِيرًا لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ ، وَلَا تَشْكِيكَ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ ، كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ التَّغْرِيرُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ فِيهِ خَوَاطِرُ ، وَلَا تَعْتَرِيهِمْ الشُّكُوكُ ، وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافٌ ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ عَلِمُوا صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ثَارَتْ إلَيْهِمْ ، مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالشُّهُودُ ، وَلَا الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقْصِدُونَ سَمْتَ الشَّرْقِ إذَا أَرَادُوا خُرَاسَانَ ، وَسَمْتَ الْمَغْرِبِ إذَا
أَرَادُوا مِصْرَ ، لِمَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ عِلْمٍ ، إذْ قَدْ يَغْلِبُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً ، وَتَسْكُنُ نَفْسُهُ إلَى مَا لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى يَقِينٍ .
قِيلَ : إنَّ مَا وَصَفْت أَنَّهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ ، وَسُكُونُ نَفْسٍ ، عُلِمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمْتُمْ أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُمْ اضْطِرَارًا ، لَمَا جَازَ أَنْ يُدْفَعَ ، وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ أَنْ نَكُونَ عَالِمِينَ بِصِحَّةِ
مَا ذَكَرْتُمْ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ تَدْفَعُوا أَنْتُمْ كَوْنَ هَذِهِ الْبُلْدَانِ ، وَلَا وُجُودَ السَّمَاءِ ، قَبْلَ مَوْلِدِكُمْ ، وَلَا وُجُودَ أَجْدَادِكُمْ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ حِينَ تَوَهَّمْتُمْ : أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ ، كَظَنِّ مَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ، وَالْأَصْلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ .
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ عِبَادَهُ وَتَرْغِيبَهُمْ فِيمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِمَا فِيهِ مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، عَلَى سُنَّةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، بَعْدَمَا قَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ وُجُوبَ اجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِيهَا ، وَفِعْلَ مَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إبْلَاغُ كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ ، وَمُشَافَهَتُهُ بِمَا تَعَبَّدَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا ، خَالَفَ بَيْنَ طَبَائِعِ النَّاسِ ، وَهِمَمِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ ، لِيَجْمَعَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَلِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُمْ اتِّفَاقٌ ، وَمِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَجْرَى بِذَلِكَ عَادَةً تَقَرَّرَتْ فِي نُفُوسِ النَّاسِ ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْخَبَرِ عَلَى مُخْبَرَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ ، عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ ، فَصَادَفَ ذَلِكَ وُجُودَ مُخْبَرِهِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَيَقَّنَ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ ، ثُمَّ وَفَّقَ بَيْنَ طَبَائِعِهِمْ فِي اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ ، وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ ، وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ نَقْلَهَا وَإِذَاعَتَهَا ، لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِ الشَّرَائِعِ ، وَمَا بِهِمْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، فَكُلُّ خَبَرٍ وَرَدَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَنَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ ، وَالْهِمَمِ ، غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، أَوَّلُهُمْ كَآخِرِهِمْ ، وَوَسَطُهُمْ كَطَرَفِهِمْ ، فَأَخْبَرُوا عَمَّنْ شَاهَدُوهُ وَعَرَفُوهُ
اضْطِرَارًا بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِ ، لِامْتِنَاعِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، عَنْ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَخْبَارِ مِنْ نَاقِلِيهَا إنَّمَا يَكُونُ حَسَبَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَالْعِلَلِ الْمُثِيرَةِ لِنَقْلِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ مَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى نَقْلِهِ ، مِنْ نَحْوِ مُخْبِرٍ إنَّهُ رَأَى نَاسًا يَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَآخَرِينَ يَتَبَايَعُونَ فِيهَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى نَقْلِ مِثْلِهِ .
وَكَذَلِكَ اخْتِرَاعُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا ، وَإِنَّمَا تَتَّفِقُ عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ .
وَمَعْلُومٌ الِاخْتِلَافُ ( فِي ) دَوَاعِي النَّاسِ وَأَسْبَابِهِمْ .
فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ وُقُوعُ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ : أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى يُخْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَصَارَ قِطْعَتَيْنِ ، وَبَقِيَتَا طُولَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتَا .
فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ ، إلَّا عَنْ تَوَاطُؤٍ .
وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا كَالصِّدْقِ ، فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نَقْلِ خَبَرِ أَمْرٍ قَدْ شَاهَدُوهُ ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالصِّدْقِ دَاعٍ تَجْمَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ ، وَمَا جُعِلَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ .
فَلَمَّا كَانَتْ هُنَاكَ دَوَاعِي تَدْعُو إلَى نَقْلِهِ ، وَسَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ ، وَكَانَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ
مُسْتَقِلًّا فِي طِبَاعِهِمْ سَوَاءً كَانَ عَلَيْهِمْ فِي إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ ضَرَرٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، صَارَتْ هَذِهِ الدَّوَاعِي سَبَبًا لِنَقْلِهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ ، لِتَبْلُغَ الْحُجَّةُ بِالْإِخْبَارِ مَبْلَغَهَا ، وَتَنْتَهِي مُنْتَهَاهَا .
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إلَى اخْتِرَاعِهِ ، وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، وَلَا سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى وَضْعِهِ ، بَلْ الدَّوَاعِي مُتَّفِقَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْإِشَاعَةِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ تَوَاطُؤٍ وَتَرَاسُلٍ ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى ، بَلْ يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ ، حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ .
وَعَلَى أَنَّا قَدْ شَرَطْنَا فِي ذَلِكَ : امْتِنَاعَ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشَاعُرِ فِيهِ ، عَلَى حَسَبِ امْتِحَانِنَا لِأَحْوَالِ النَّاسِ ، فَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبِرِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَيْسَ سَبِيلُ الْإِخْبَارِ فِي هَذَا السَّبِيلِ اعْتِقَادَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عَلَى مِثْلِهِمْ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى امْتِحَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، فَوَجَدْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا ، لَا يَجُوزُ مِنْهَا وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَوَجَدْنَاهُمْ يَجُوزُ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِقَادِ مَذْهَبٍ فَاسِدٍ ، فَإِنَّمَا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى الْمَوْجُودِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ، فِيمَا صَحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ ، وَفِيمَا امْتَنَعَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا مَنَعْنَا وُقُوعَ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْهُمْ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ ، وَدَوَاعِيهِمْ ، وَأَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ خَبَرٍ فِي شَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِ صَاحِبِهِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَّفِقَ دَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ ، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ خُطُورُهُ بِبَالِ جَمَاعَتِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْإِخْبَارُ بِهِ وَنَقْلُهُ أَبْعَدُ فِي
الْجَوَازِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا اعْتِقَادُ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ ، إلَّا بِدُعَاءِ دَاعٍ لَهُمْ إلَيْهِ ، أَوْ لِشُبْهَةٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ اعْتِقَادِهِ فَيَعْتَقِدُونَهُ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ : أَنْ يَدْعُوَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ جَامِعٌ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ وَصَفْنَا حَالَهُمْ ، وَإِنْ اتَّفَقَ التَّوَاطُؤُ مِنْ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَانْتِشَارِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِقَادَاتِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ نَقَلَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَتْلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَلْبَهُ ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ ، وَنَقَلَتْ الْمَجُوسُ أَعْلَامَ زَرَادُشْتَ وَمُعْجِزَاتِهِ ، وَهُوَ كَذَّابٌ ، مَعَ اخْتِلَافِ
أَسْبَابِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ .
وَكَيْفَ نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ مَعَ وُجُودِ مَنْ وَصَفْنَا بِخَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَلَا شَكَّ فِي كَذِبِهِ ، وَهُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : شَرْطُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ : أَنْ يَنْقُلَهُ قَوْمٌ وَصْفُهُمْ مَا ذَكَرْنَا ، وَيُخْبِرُوا عَنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا .
وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَمْ يَكْذِبُوا عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِيمَا نَقَلُوا ، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذَا الْخَبَرِ لَيْسَ كَآخِرِهِ ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ ، إذْ نَحْنُ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي سَمَاعِهِ ، كَمَا أَنَّ عُلُومَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ مُشَاهِدُوهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِمُخْبِرِ أَخْبَارِهَا ، وَلَا مَعَ سَمَاعِنَا لَهَا ، عَلِمْنَا أَنَّ
أَوَّلَ خَبَرِهِمْ كَانَ عَمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ ، فَقَلَّدُوهُمْ فِيهِ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ : أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّنْيَا ، كَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهَا ، مِنْ حَيْثُ كَانَ أَوَّلُ خَبَرِهِمْ كَآخِرِهِ فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ ، وَاخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، فَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ أَرْبَعَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ ، وَالْخَطَأُ ، وَالتَّوَاطُؤُ فِي النَّقْلِ ، وَأَمَّا الْيَهُودُ : فَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ قَصْدِهِمْ إيَّاهُ لِقَتْلِهِ ، وَإِنَّمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : يَهُوذَا ، كَانَ مِمَّنْ يَصْحَبُ الْمَسِيحَ .
وَاجْتَعَلَ مِنْهُمْ عَلَى دَلَالَتِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، وَقَالَ لَهُمْ : الَّذِي تَرَوْنِي أُقَبِّلُهُ هُوَ صَاحِبُكُمْ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ هُنَاكَ أَخَذُوهُ ، وَقَتَلُوهُ ، عَلَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى قَتْلَ رَجُلٍ ( إلَّا مَنْ يَجُوزُ ) عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ فِي الْأَخْبَارِ
وَالنَّاقِلُونَ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَهَؤُلَاءِ ، إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ فَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَوَاطَئُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَصْلُوبًا قَدْ قَالُوا : إنَّ الْمَصْلُوبَ كَانَ الْمَسِيحَ ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ ، وَلَا سَائِرُ مَنْ نَقَلُوا إلَيْهِ الْخَبَرَ بِهِ ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } حِينَئِذٍ كَذَّبَ الْخَوَاطِرَ فِي أَمْرِهِ ، وَشَكَّ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَاعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ بُطْلَانَ خَبَرِهِمْ
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْحَوَارِيُّونَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ ظَاهِرِينَ مِنْ الْيَهُودِ ، حَتَّى طَلَبُوا الْمَسِيحَ لِيَقْتُلُوهُ ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِمَّنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مَصْلُوبًا ، قِيلَ : إنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا رَجَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ يَهُوذَا الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } فَإِنَّ أَوَّلَ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي ظَنِّهِمْ ، أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ ، أَوْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى نَقْلِهِ ، لَمَّا جَازَ وُقُوعُ الشَّكِّ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ أَخْبَارَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ فِي قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَشْكِيكُ أَحَدٍ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ عَلَى قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ ، أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا مَقْتُولًا ، فَلَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ، وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ، هُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَ : أَنَّهُ عَرَفَهُ مَقْتُولًا ، مَصْلُوبًا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت ، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُمْ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ لَوْ كَانَ فِي وَزْنِ نَقْلِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا ، لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَتْلِهِ ، وَصَلْبِهِ ، كَوُقُوعِهِ بِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَيْسَ لِنَقْلِ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِهِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ ، وَالْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَدْ اعْتَرَضَهُمَا أَسْبَابٌ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ بِهِمَا مِنْ قَوْمٍ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ
عِلْمًا ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ : أَنَّهُمْ لَمَّا فَقَدُوا الْمَسِيحَ ، وَرَأَوْا رَجُلًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ، قَالَ لَهُمْ مَنْ بِحَضْرَتِهِ : هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ ، فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ ، مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، وَلَا تَأَمُّلٍ لِأَصْلِهِ ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ ، مِمَّا لَا يَجُوزُ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَلَا اخْتِرَاعُ الْكَذِبِ فِي خَبَرٍ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، لَمَا أَوْجَبَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا نَقَلُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا شَخْصًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِي رُؤْيَتِهِمْ لِشَخْصٍ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَلَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا شَخْصًا قَدْ قُتِلَ وَصُلِبَ ، فَأَمَّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ أَوْ غَيْرُ الْمَسِيحِ فَلَمْ يَكُنْ يَقِينًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ شَخْصٍ مِثْلِ الْمَسِيحِ ، فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ ، وَظَنَّهُ الْقَاتِلُونَ وَاَلَّذِينَ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا ، بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ ، وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ ، لِوُجُودِ الشَّبَهِ .
وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَهُ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ أَصْلُ خَبَرِهِمْ عَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ ، وَعِلْمِ اضْطِرَارٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ .
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِعْلُ خَبَرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، لِأَنَّ شَرْطَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ يُخْبِرَ بِهِ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرْجِعُ خَبَرِهِمْ إلَى ظَنٍّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ
خَبَرِهِمْ : أَنَّهُ كَانَ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُ الْمَسِيحِ وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ ، حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ إلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ ؟
( قِيلَ لَهُ ) : لِأَنَّ قَلْبَ الْعَادَاتِ وَنَقْضَهَا جَائِزَانِ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا ( كَانَ يُرَى جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ) ، وَدُخُولِ إبْلِيسَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ مَرَّةً وَفِي صُورَةِ
سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ مَرَّةً أُخْرَى ) ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَخْصًا عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ دِحْيَةُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَوِّزَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي مُشَاهَدَتِهِمْ لِشَخْصٍ مَقْتُولٍ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ ، مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ هُوَ لَا مَحَالَةَ ، مَعَ تَجْوِيزِهِ لِنَقْضِ الْعَادَةِ بِإِحْدَاثِ اللهِ مِثْلَهُ ، أَوْ إلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
فَلَمَّا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِالشَّوَاهِدِ الصَّادِقَةِ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّهُمْ { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } عَلِمْنَا أَنَّ : الْأَمْرَ جَرَى فِي أَصْلِ الْخَبَرِ عَنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَأَمَّا الْمَجُوسُ : فَإِنَّ الَّذِي تَدَّعِيهِ فِي أَعْلَامِ زَرَادُشْتَ يَجْرِي مَجْرَى الْخُرَافَاتِ ، الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا يَعُدُّونَهُ لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ فَرَسٍ لِلْمَلِكِ فِي جَوْفِهِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا ، وَعَادَ الْفَرَسُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ ، وَمَرْجِعُ هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ إلَى الْمَلِكِ وَقَوْمٍ مِنْ خَاصَّتِهِ ، وَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ ، وَأَنَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْمَلِكِ لَمَّا اخْتَبَرَهُ فَرَأَى حِيلَتَهُ وَدَهَاءَهُ
وَاطَأَهُ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدَ أَرْكَانِ شَرَائِعِهِ الَّتِي يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا لِلتَّدَيُّنِ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ ، وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَلِكُ قَوْمًا مِنْ خَاصَّتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْفَرَسِ ، فَتَلَقَّوْهُ وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ بِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُ ، وَنَشَأَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ ، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ ، وَأَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ ، ثُمَّ مَا زَالَ مَنْ يَنْتَحِلُ مِنْهُمْ الدِّينَ وَيَتَخَصَّصُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ ، وَيَزِيدُ فِيهِ ، وَيُشِيعُهُ فِي الدَّهْمَاءِ ، فَيَنْقُلُوهُ إرَادَةً مِنْهُمْ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ ، وَبِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ ، وَكَانَتْ الْعُلُومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الْفَرَسِ مَقْصُورَةً عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ ، وَيَمْنَعُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ انْتِحَالُهُ ، وَالنَّظَرُ فِيهِ ،
وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ .
وَكَانَتْ سَائِرُ النَّاسِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ أَخْبَارَ زَرَادُشْتَ وَأَمْرَ الدِّينِ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَخْبَارِهِمْ صِحَّةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ مِمَّا ادَّعَوْهُ .
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ زَرَادُشْتَ : إنَّ لِلَّهِ ضِدًّا مُغَالِبًا فِي مُلْكِهِ ، مَعَ مَا يُضِيفُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَامَتْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ : إنَّ أَنْبِيَاءَ اللهِ تَعَالَى لَا يَعْتَقِدُونَهَا .
عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُخَرِّفًا ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُظْهِرَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ حُجَّةً وَالْمُخْبِرُونَ بِهَا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْهَا ، وَمَتَى شَاءُوا اخْتَرَعُوهَا ، وَأَخْبَرُوا بِهَا ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهُ ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ وَيُمْكِنُهُمْ اخْتِرَاعُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ كَيْفَ شَاءُوا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ : إنَّ الْأَخْبَارَ فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَخْبَارًا ، حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْت ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا مَتَى قَارَنَهَا أَحْوَالٌ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُخْبِرِينَ ، بَلْ اللَّهُ الْمُتَوَلِّي لَهَا وَوَاضِعُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، حَتَّى خَالَفَ بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُخْبِرِينَ وَعِلَلِهِمْ ، وَأَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ ذَكَرُوا : أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ اضْطِرَارًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ ، فَالْحُجَّةُ إنَّمَا لَزِمَتْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ افْتِعَالَ الْكَذِبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِرِينَ ، لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا يُؤْمِنُنَا كَذِبُهُمْ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ حُكْمَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الشَّاهِدِ وَمَا يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا امْتَحَنَّا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ ، فَوَجَدْنَا الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا شَأْنَهَا ، يَمْتَنِعُ جَوَازُ اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ مَشَاهِدِهِ ، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا صِدْقًا ، وَأَنَّ مُخْبَرَهُ وَاقِعٌ عَلَى مَا أَخْبَرُوا بِهِ ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا جَوَّزْنَا الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرٍ ، وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ ، فَرَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى مَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالُ الشَّاهِدِ ، وَخَبَرُ إنَّ الْعَادَةُ ، فَجَوَّزْنَا مِنْهُ مَا أَجَازَتْهُ ، وَمَنَعْنَا مِنْهُ مَا مَنَعَتْهُ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْكَثِيرِ فِي هَذَا كَحُكْمِ الْقَلِيلِ ، لَوَجَبَ إذَا جَازَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، وَتَكَلُّمُهُ مِنْ عَرَضِ الْكَلَامِ ، أَنْ يَجُوزَ مِنْهُ إنْ أَتَى بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ ،
إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجَمُ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِمَّا فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ ، فَيَخْتَرِعَهُ وَيَنْتَبِهَ مُبْتَدِئًا بِهِ .
أَنْ نُجَوِّزَ مِنْهُ إنْشَاءَ قَصَائِدَ مِثْلِ قَصَائِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ ، فِي وَزْنِهَا وَأَلْفَاظِهَا وَنَظْمِهَا ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ ، فَيُصَادِفُ وُجُودَ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، أَنْ يُجَوِّزَ مِنْهُ أَنْ يَظُنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخْطِرُ بِبَالِهِ وَيَتَوَهَّمَهُ ، فَيُخْبِرَ بِهِ ، ثُمَّ يَتَّفِقَ أَنْ يُصَادِفَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وُقُوعَ مُخْبَرِهِ ، وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ ضَرُورَةً ، فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إذَا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ إذَا انْفَرَدَ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ ، الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ فِي خَبَرِهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا اكْتِسَابٌ ، وَلَيْسَ بِعِلْمِ اضْطِرَارٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ : بِمَا قَدَّمْنَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ اضْطِرَارِيًّا اسْتِوَاءُ حَالِ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي الْعِلْمِ ، كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ ، لِأَنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا كُنَّا نَعْلَمُ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ أَجْدَادِنَا وَأَوَائِلِنَا كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهِمْ .
وَأَيْضًا : .
فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالِاكْتِسَابِ لَجَازَ لِبَعْضِنَا أَنْ لَا يَكْتَسِبَهُ ( وَلَا يُسْتَدَلُّ ) عَلَيْهِ ، فَلَا يُعْلَمُ بِصِحَّتِهِ ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ ( لَا يَعْرِفُهُ ) مَنْ لَا يَسْتَدِلُّ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ اكْتِسَابًا ، لَجَازَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَلَجَازَ وُجُودُ الشَّكِّ فِيهِ مَعَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ لِبَعْضِ مَا
ذَكَرْنَا كَالْمُنْكَرِ لِبَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ بِحَاسَّتِهِ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا وَصَفْنَا اضْطِرَارٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ ، تُثْبِتُ التَّوَاتُرَ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ اضْطِرَارًا .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ التَّوَاتُرِ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ : فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، كَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ، الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ ، كَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى : أَنَّ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالِاسْتِدْلَالِ ، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ .
وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا لَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتُهُ مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ الْأَخْبَارِ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : مِنْ { إبَاحَتِهِ مُتْعَةَ النِّسَاءِ ، ثُمَّ حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ } ، وَمِثْلُهُ أَخْبَارِ الرَّجْمِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَاعَةٌ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِهِمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ ، أَوْ وُقُوعُ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِيهِ ، فَنَعْلَمُ بِتَأَمُّلِنَا حَالَهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ ، وَلَا تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَأَمَّلْ حَالَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ، وَلَمْ نَسْتَدِلَّ عَلَى صِحَّتِهَا ، لِمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهَا .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ، وَيُعَارِضُ هَذَا الْخَبَرَ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِهِ نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ ،
وَرَجَعَ إلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ ( فِي الرَّدِّ ) عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَا يَخْلُو الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : يَضِلُّ تَارِكُهُ ، وَيَأْثَمُ ، وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ وَالْخَطَأِ .
وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجْمِ يَرُدُّهُ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ بِهِ الْخَبَرُ كَمَا تَوَاتَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَلَا يَكْفُرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا النَّاقِلِينَ ، فَأَخْطَئُوا فِي التَّأْوِيلِ ، وَعَارَضُوا بِظَاهِرِ الْكِتَابِ .
قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِثْلُ خَبَرِ الصَّرْفِ ، وَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، يُخَطَّأُ مُخَالِفُهُ ،
وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَارَضَ حَدِيثَ الصَّرْفِ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } وَالْخَوَارِجُ خَالَفَتْ الْإِجْمَاعَ ، وَخَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
وَقَالُوا : إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ، فَأَخْطَئُوا ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ ، وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يُدْرَى هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، أَمْ لَا ، وَيُرَدُّ قَضَاءُ مَنْ قَضَى بِهِ ( لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَرُدُّهُ ) .
قَالَ : وَمِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ ، مَنْ اسْتَحَقَّ دَمًا بِالْقَسَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ كَاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمْ ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ .
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا نَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنْهَا ، وَاخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا ، مَعَ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهَا ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَكُونُ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : اثْنَانِ .
وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ السَّفَرِ فِيهِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ طَرِيقُهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ ، وَلَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ ، فِيهِ وَلَا يَضِلُّ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَقْسِيمِ مَنَازِلِ مُوجِبِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ ، أَنَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ ، لِأَنَّ خَبَرَ الرَّجْمِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ ، لَكِنْ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ بِهِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا ، وَلَا يُعَدُّ الْخَوَارِجُ خِلَافًا ، فَإِنَّمَا يُوجَبُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لِمُسَاعَدَةِ إجْمَاعِ السَّلَفِ إيَّاهُ ، وَجَعْلُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَخَبَرِ الصَّرْفِ دُونَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى السَّلَفِ قَدْ ذَهَبُوا إلَيْهِمَا ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ ، وَأَخْطَئُوا بِتَرْكِهِمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الضَّلَالِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ مِمَّا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ ، كَإِخْبَارِ أَهْلِ بَلَدٍ بِخَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ ، وَكَإِخْبَارِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ بِخَبَرِ كُلٍّ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ يَعْتَقِدُ النَّصْرَانِيَّةَ ، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ ( إذَا أَدْلَى )
الْمُخْبِرُونَ بِهِ فَصَارُوا بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ كِتْمَانُ خِلَافِ مَا أَظْهَرُوهُ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِمَالِ خَبَرِهِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، كُلٌّ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْآخَرُ ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ غَيْرُ كَاذِبَةٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَلَى صِدْقٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ لَنَا صِدْقُ الصَّادِقِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُعْلَمُ مُخْبَرُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ عَدَدًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي ذَلِكَ ، وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فَهُوَ تَوَاتُرٌ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا : أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ، أَنَّا مَتَى حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ أَنْ لَا نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمْ ، وَأَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ ، إذْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَأَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ فِي مَغِيبِ شَهَادَتِهِمْ إلَى اللهِ تَعَالَى ، وَإِنْ أَمْضَيَا الْحُكْمَ بِهَا
قَالُوا : وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْنَا التَّعَبُّدَ بِمَا وَصَفْنَا ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَادُّ وَيَتَنَافَى .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا خَبَرُهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ ، حَتَّى إذَا كَثُرَ الْعَدَدُ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ
التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ ، أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُدَانَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ ، وَذَلِكَ : أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا : شَرْطُ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا مُجْتَمِعِينَ ، وَيَكُونُوا مُتَشَاعِرِينَ ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً أَوْ عِشْرِينَ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ
مُتَشَاعِرِينَ يُخْبِرُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ ، لَمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، إذَا جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَسْوَاقِ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى تَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَرُبَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرُ ، يَشْهَدُونَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِجِنَايَةٍ فِي نَفْسٍ ، أَوْ عِرْضٍ ، أَوْ مَالٍ ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِمْ .
فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَنْ يُسْتَدَلَّ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ : عَلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الْمُخْبِرِينَ هَذَا مِقْدَارُهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُ إنْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا .
قِيلَ لَهُ : نَحُدُّهُمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَحْضُرُوا جَمِيعًا ، فَيَشْهَدُونَ مُجْتَمِعِينَ ، وَإِلَّا كَانُوا قَذَفَةً .
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَحَدَدْتهمْ جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُ لَوْ شَهِدَ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ .
هَلْ يَقَعُ لَك الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ؟ وَهَلْ نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا فُسَّاقًا ، لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنْ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى جَاءُوا
غَيْرَ مُتَشَاعِرِينَ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فِيهِ ؟ .
قِيلَ لَهُ : إنْ جَازَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ ، إذْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ حَقًّا لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْحُكْمَ ، أَوْ يَعْلَمَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ حُكْمِهِ ، ثُمَّ يَصِيرَ إلَى عِلْمِهِ ، أَوْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا ، أَوْ السَّرِقَةِ ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي عِلْمِهِ ، أَوْ فِي مُخْبِرِ عِلْمِهِ ، فَيَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ سِوَاهُ ، حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا .
وَأَيْضًا : فَإِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ ، وَالْأَرْبَعَةَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا سَوَاءٌ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيهَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا فِي شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .
فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إذَا أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ عَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَوَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا بِخَبَرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ هُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ ، قَدْ عَلِمُوهُ اضْطِرَارًا ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوقِعَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فَكَذَبُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَخْبَرُوا عَنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا عِنْدَ خَبَرِ الْخَمْسَةِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ ، بِخَبَرِ
أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ فَمَنْ دُونَهُمْ ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَالْبَاقُونَ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ ، وَلَا مُشَاهَدَةٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَوْ انْفَرَدَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعِلْمُ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ إخْبَارِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا ، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ بِخَبَرِهِ ، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْجَمَاعَةِ صَادِقِينَ فِي خَبَرِهِمْ .
قَالُوا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ الْمُخْبِرِينَ ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَأَقَلَّ مِنْهُمْ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَدَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ عِنْدَنَا ، إلَّا أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا : أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَيَقَعُ بِخَبَرِ الْكَثِيرِ ، إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِخَبَرِ جَمَاعَةٍ ، وَلَا يَقَعُ بِخَبَرِ مِثْلِهِمْ فِي حَالٍ أُخْرَى ، حَتَّى يَكُونُوا أَكْثَرَ ، عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ خَبَرَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا : أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ، إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ خَبَرِهِمْ ، لِأَنَّا لَمَّا امْتَحَنَّا أَحْوَالَ النَّاسِ لَمْ نَرَ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ ، وَالْكَثِيرُ يُوجِبُهُ ، إذَا كَانُوا بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَحْدِيدِهِ ، وَإِيجَابُ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ
لِسَامِعِهِ ، إذَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ ، مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُقَارِنُهُ ، وَلَا يُوجِبُهُ إلَّا إذَا قَارَنَتْهُ أَسْبَابٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ .
فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ سَامِعٍ صِدْقَ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ شَاهَدَهُ مِنْ كَذِبِهِ ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ ، إذَا لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَمَتَى وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حَكَمْنَا بِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى بَيِّنَةٍ ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْيَمِينِ ، وَوَاجِبٌ أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ الزَّوْجِ أَوْ صِدْقُهُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِدْقِهِ حَكَمْنَا بِكَذِبِهِ وَحَدَدْنَاهُ ، وَلَا نُوجِبُ بَيْنَهُمَا لِعَانًا ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ كَافِيًا لَنَا بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مَا جَازَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ الْآخَرُ عَلَى صِدْقِهِ ، مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِأَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهِ ، مَعَ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ كَذِبٌ ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ .
وَأَوْجَبَ أَيْضًا : أَنْ لَا تُعْتَبَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَقَعُ لِلْحَاكِمِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ، فَإِنْ وَقَعَ
لَهُ عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِذَلِكَ عُلِمَ صِدْقُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ حُكِمَ بِكَذِبِهِمْ ، عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِخَبَرِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ، وَلَيْسَ
يَمْتَنِعُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا السَّامِعِ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ .
قِيلَ لَهُ : قَوْلُك إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِ عِنْدَ هَذَا الْخَبَرِ : هُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ يُحْدِثُ اللَّهُ عِنْدَ خَبَرِهِ لِلسَّامِعِ عِلْمًا ، فَاقْتِصَارُك بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَعَلَى أَنَّ مَا أَلْزَمْنَاهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَبَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ ، وَإِنْ أَحْدَثَهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِلْكَلَامِ فِي تَبْيِينِهِ فِي نَظَرٍ وَحِجَاجٍ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُضْطَرُّ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخَبَرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهُ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا لِنَتَثَبَّتَ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الشُّهُودِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِحَالٍ ، لَمَا جَازَ أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، بِأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّةِ مَا عَلِمْنَاهُ ضَرُورَةً .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ إذَا صَحِبَهُ أَسْبَابٌ ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقَارِنُ الْخَبَرَ شَيْءٌ آكَدُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي ( قَارَنَتْ أَخْبَارَ ) النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، الْمُوجِبَةَ لِتَصْدِيقِهِ ، ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ خَبَرِ الِاسْتِدْلَالِ ، إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَخِطَابِهِ إيَّاهُ ، وَأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَإِلَى السَّمَاءِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَاحِدٌ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ لَكَانَ خَبَرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ .
فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يُرَى الرَّجُلُ يَمُرُّ بِبَابِ دَارِ الرَّجُلِ فَيَرَى جِنَازَةً مَنْصُوبَةً وَمُغَسَّلًا مَوْضُوعًا ، وَيَسْمَعُ صُرَاخًا فِي الدَّارِ ، فَيَسْأَلُ عَجُوزًا خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ عَنْ ذَلِكَ ، فَتَقُولُ مَاتَ فُلَانٌ ، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهَا ، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مَجْلِسًا حَافِلًا وَرَأَى رَجُلًا فِي الصَّدْرِ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ ، فَيَسْأَلُ رَجُلًا مِنْ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْجَالِسِ فِي الصَّدْرِ فَيَقُولُ : فُلَانٌ الْقَاضِي ، فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهِ ، وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِمْ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت ، وَذَلِكَ لِأَنَّك لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ سُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهِ وَلَا يَقِينِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ ثُمَّ يَتَعَقَّبُهَا ، فَيَجِدُهَا بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَ فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ نُفُوسُهُمْ سَاكِنَةٌ إلَى اعْتِقَادَاتِهِمْ ، وَلَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ وَلَا يَقِينٍ ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَكُفْرٍ ، ثُمَّ إذَا تَعَقَّبُوا اعْتِقَادَاتِهِمْ ، وَنَظَرُوا فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ ، عَلِمُوا فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَسْهُو الرَّجُلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثَلَاثًا وَيُسَلِّمُ ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا .
فَإِنْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : إنَّمَا صَلَّيْت ثَلَاثًا ، شَكَّ فِيمَا كَانَتْ نَفْسُهُ سَاكِنَةً إلَيْهِ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلْمًا لِلْيَقِينِ .
وَعَلَى أَنَّا قَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَمَّدُونَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي ذَكَرْت أَنَّهَا إذَا قَارَبَتْ الْخَبَرَ أَوْ أَوْجَبَتْ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِمُخْبَرِهِ وَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا أَغْرَاضٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مُجُونٍ وَخَلَاعَةٍ .
وَقَدْ بَلَغَنَا : أَنَّ أَبَا الْعِيرِ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ قَدْ كَانَ يَتَعَمَّدُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى
وَجْهِ الْمُجُونِ وَالْخَلَاعَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ لِهَذَا السَّائِلِ ( عَنْ ) الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّارِ : إنَّ هَذِهِ الْعَجُوزَ قَدْ غَلِطَتْ أَوْ كَذَبَتْ ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ فَأَحْضَرُوا الْجِنَازَةَ وَالْمُغْتَسَلَ ، ثُمَّ تَبَيَّنُوهُ حَيًّا ، أَوْ قَالَ هُوَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يَمُتْ ، لِشَكِّ السَّائِلِ فِي خَبَرِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَقِينًا وَعِلْمًا ضَرُورِيًّا لَمَا جَازَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِضِدِّهِ ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرُهُ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ .
فَإِنْ قَالَ : لِمَ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ إذَا أَخْبَرَتْ بِشَيْءٍ شَاهَدَتْهُ وَعَلِمَتْهُ ضَرُورَةً إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْوَاحِدِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ ، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَتَى أَخْبَرَ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أَخْبَرَتْ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَقَعَ لِلسَّامِعِ بِقَوْلِهَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهَا ، أَوْ عِلْمُ اكْتِسَابٍ ، فَإِنْ أَوْجَبَ خَبَرُهَا عِلْمًا مُكْتَسَبًا فَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمَاعَةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ : إنَّ الْعِلْمَ حَادِثٌ مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ السَّامِعَ إنَّمَا اسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ ، فَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ مُجْتَمِعِينَ وَكَانُوا مِمَّنْ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ ، فَالْعِلْمُ حَادِثٌ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ ، دُونَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، إذَا كَانُوا قَدْ عَلِمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ ضَرُورَةً ، وَإِنْ كَانُوا أَخْبَرُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ ، فَإِنْ أَحْدَثَ اللَّهُ بِهِ الْعِلْمَ عِنْدَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا : جَوَّزُوا إحْدَاثَ اللهِ لَهُ الْعِلْمَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ إذَا تَقَدَّمَتْهُ جَمَاعَةٌ تُخْبِرُ بِمِثْلِ خَبَرِهِ ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ مَتَى وُجِدَتْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ أَوْجَبَ خَبَرُهَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُدُوثِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ( لَوْ ) كَانَ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْأَسْبَابِ ، لَجَازَ أَنْ تُخْبِرَ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِخَبَرٍ ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، إذَا لَمْ يُقَارِنْ خَبَرَهُمْ أَسْبَابٌ
تَقْتَضِي إيجَابَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ بِبَغْدَادَ مَنْ قَدْ نَشَأَ فِيهَا ، وَأَتَى عَلَيْهِ خَمْسُونَ سَنَةً ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ ، وَالْمَدِينَةَ ، وَالشَّامَ ، وَمِصْرَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارِنْ مَا سَمِعَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ لَهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ ، وَهَذَا فَاسِدٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ ضَرُورَةً ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ خَبَرِهَا بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَجُوزُ وُجُودُ الْإِخْبَارِ مِنْهَا عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَتْهُ وَعَرَفَتْهُ ضَرُورَةً ، ثُمَّ لَا يَقَعُ لِسَمَاعِهِ ضَرُورَةُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا .
وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَرُورَةَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ بِحَالٍ ، فَكَانَ أَمْرُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مَحْمُولًا عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ، وَعُرِفَ بِامْتِحَانِ أَحْوَالِ الْأَخْبَارِ وَالْمُخْبِرِينَ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِاثْنَيْ عَشْرَ ، وَالْعِشْرِينَ ، وَالسَّبْعِينَ ، فَشَيْءٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدًا أَقَلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الِانْفِصَالُ مِنْهُ ، إذْ لَيْسَ فِي اقْتِصَارِهِ بِالْبَقَاءِ بِهِ عَلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ ، وَأَمْرِ الْعِشْرِينَ بِالْجِهَادِ ، وَاخْتِيَارِ السَّبْعِينَ لِحُضُورِهِمْ مَعَ مُوسَى مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِالْأَخْبَارِ ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ خَبَرٌ أُمِرُوا بِنَقْلِهِ دُونَ مَنْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا ، وَقَدْ يَلْزَمُ الْجِهَادُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ ، وَجَازَ كَوْنُ النَّقِيبِ وَاحِدًا لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ .
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ .
وَيُقَالُ لَهُمْ : أَلَيْسَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الثَّابِتَةِ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَكُمْ فِي صِحَّتِهَا ، وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِهَا ، مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا .
فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَنْ خَالَفَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا الْعَقْلُ لَا الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا الِاخْتِلَافُ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الصَّحِيحِ ، وَفَسَادِ الْفَاسِدِ ، ثُمَّ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَمْ يُعْتَبَرْ خِلَافُ مُخَالِفٍ فِيهَا ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهِ ، فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ صِحَّتَهَا مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ تُوجِبُ عَلَى الْيَهُودِ عَلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ شَيْءٌ مِنْ أَعْلَامِ مُوسَى لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا ، إذْ كَانَتْ الثَّنَوِيَّةُ وَالْمَجُوسُ وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ يَجْحَدُونَهَا ، فَلِمَا صَحَّتْ أَعْلَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِوُجُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ ، يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَيَثْبُتَ ، وَأَنْ لَا يَقْدَحَ فِيهَا خِلَافُ مَنْ خَالَفَ .
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا نَعْرِفُ صِحَّةَ الْخَبَرِ إلَّا بِقَوْلِ الْمَعْصُومِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ، مِنْ جِهَةِ : أَنَّ عِلْمَ الرُّومِ وَسَائِرِ مُلْكِ الْكَفَرَةِ فِي بِلَادِهَا تَكُونُ أَقَاوِيلُهُمْ وَسَائِرُ مُلُوكِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ النَّائِيَةِ عَنْهَا - كَعِلْمِنَا بِكَوْنِ أَوَائِلِنَا وَأَسْلَافِنَا ، فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ لَوَجَبَ أَنْ ( لَا ) يَعْلَمَ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَيْئًا ( مِنْ
أَخْبَارِهِمْ ) ، وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ مِنَّا لَا يَعْرِفُ صِحَّةَ وُجُودِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ ، وَكَوْنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ .
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ فَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ .
فَإِنْ قَالَ : لِمَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي خَبَرِهِمْ .
فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا ، قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ ، عَلَى مَنْ نَفَى صِحَّةَ الْأَخْبَارِ رَأْسًا ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
فارغة
الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ
فارغة
بَابٌ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ لِمَا تَصْحَبُهُ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ .
وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ .
وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُهُ .
ثُمَّ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ عَلَى وُجُوهٍ ، مِنْهُ : مَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا وَرَدَ عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْهُ : مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِقْدَارٌ مِنْ الْعَدَدِ ، وَهُوَ : الشَّاهِدَانِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ .
وَمِنْهَا : مَا يَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ جَمِيعًا ، كَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ ، وَالْكَافِرِ ، وَالْعَبْدِ ، وَالصَّبِيِّ ، فِي وُجُوهٍ مِنْهَا .
وَمِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ : مِنْ عَدَالَةٍ ، أَوْ عَدَدٍ ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَبْيِينِ وُجُوهِهِ ، إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَنَقُولُ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُوجِبَةَ لِلْعِلْمِ لِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَة لِصِحَّتِهَا عَلَى وُجُوهٍ ، مِنْهَا : إخْبَارُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ، وَعَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ ، قَدْ
شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الشَّوَاهِدُ الصَّادِقَةُ ، وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ ، الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، فَأَوْجَبَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ إخْبَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ عِلْمُ اكْتِسَابٍ ، وَاقِعٌ مِنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَاسْتَوَى السَّامِعُونَ بِخَبَرِهِ ، فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا
فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، مَعَ سَمَاعِهِمْ بِخَبَرِهِ ، وَمُشَاهَدَتِهِمْ لِأَعْلَامِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ خَبَرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ كَانَ شَاهَدَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ .
وَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ : مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ ، فَيَكُونُ تَصْدِيقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ : مَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ .
وَكَذَلِكَ خَبَرُ مُخْبِرٍ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ ، أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِدْقِهِ .
فَبِذَا كُلِّهِ نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ .
وَأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حَقٌّ .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا : أَنْ يُخْبِرَ مُخْبِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ ، وَقَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ ، فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ : فَلَا تُنْكِرُهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَامْتَحَنَّاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ : تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مِثْلِهِ ، إذَا لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَاب يَجْرِي مَجْرَى كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ ، وَالْأَعَاجِيبِ الْحَادِثَةِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ كِتْمَانُهَا ، فَكَذَلِكَ تَرْكُ النَّكِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ ، فَبِمَا وَصَفْنَا سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ فِي مَحْفِلٍ عَظِيمٍ ، بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْآرَاءِ : إنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ : أَنْ سَارَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةَ الْمَسِيحِ ، وَأَنَّهُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ عَلَى
هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْهُ ، أَنْ تُخَلِّيَهُ مِنْ تَكْذِيبِهِ ، وَظَاهِرُ النَّكِيرِ عَلَيْهِ ، كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى مِثْلِهَا خَبَرٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، عَلَى شَيْءٍ يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مِنْ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتْمَانِ ، وَاخْتِلَافُ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ ، وَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِمِثْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَعَنْ سَبَبٍ يَجْمَعُهُمْ ، وَالْمُوَاطَأَةُ ، عَنْ مِثْلِهِمْ إذَا كَانَتْ ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْكَتِمْ .
كَذَلِكَ كِتْمَانُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ اسْتِثْقَالَ كِتْمَانِ مِثْلِهَا ، وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِخْبَارَ بِهَا ، وَجَعَلَ لَهُمْ دَوَاعِيَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَدْعُوهُمْ إلَى إشَاعَتِهَا وَنَشْرِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ فِي كِتْمَانِهَا ضَرَرٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ مَوْتَ الْخُلَفَاءِ وَقَتْلَهُمْ وَخُلْفَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ - لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ فِيهِ ، حَتَّى يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ وَالْبَيْعَةِ لِآخَرَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يُخْبِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِهِ ، وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ : أَنْ يَدْخُلَ رَجُلٌ بَغْدَادَ فَيَسْأَلَ عَنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ ، أَوْ عَنْ مَسْجِدِ جَامِعِ الْمَدِينَةِ ، فَلَا يُرْشِدُهُ أَحَدٌ إلَيْهِ ، حَتَّى يَبْقَى طُولَ دَهْرِهِ بِهَا فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَدُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَبِمِثْلِهِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ الرَّافِضَةِ : إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَصَبَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ لِلْإِمَامَةِ بَعْدَهُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ .
لِأَنَّ نَصْبَ النَّبِيِّ لِإِمَامٍ بَعْدَهُ ، وَتَعْيِينَهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ - أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ ، وَأَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَلْعِ خَلِيفَةٍ فِي زَمَانِنَا ، وَالْبَيْعَةِ لِغَيْرِهِ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَلِأَنَّ عِلَلَهُمْ وَأَسْبَابَهُمْ تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ ، كَمَا تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَوْ جَازَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ لَجَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَعَلَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ آخَرُ بَعَثَهُ ، فَكَتَمَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهُ ، وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ آخَرُ : إنَّ النَّبِيَّ كَانَ غَيْرَهُ فَكَتَمَتْهُ الْأُمَّةُ ، وَادَّعَتْ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ ، وَفِيمَا دُونَ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامَةِ وَتَعْيِينِهَا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْكِتْمَانُ .
فَكَيْفَ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ ، وَأَجَلَّ فِي الصُّدُورِ ، كَانَ حِرْصُ النَّاسِ عَلَى نَقْلِهِ أَشَدَّ ، وَكُلْفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ أَكْثَرَ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى : أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ شَرَطَ
أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْآحَادِ : أَنْ لَا يَكُونَ وُرُودُهُ فِيمَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، لِأَنَّ مَا كَانَ بِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ تَوَقُّفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ فَعَلَ لَمَا جَازَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ ، وَتَرْكُ نَقْلِهِ مَعَ تَدَيُّنِهِمْ بِوُجُوبِ نَقْلِهِ ، وَمَا يَرْجُونَ مِنْ الثَّوَابِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى بِإِذَاعَتِهِ وَنَشْرِهِ .
فَأَمَّا مَا قُلْنَا : مِنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِمُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ - فَيُوجِبُ لَنَا ذَلِكَ عِلْمًا بِصِدْقِهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا انْصَرَفَ : لَا جُمُعَةَ لَك .
فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّ سَعْدًا قَالَ لِي : لَا جُمُعَةَ لَك .
فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لِمَ يَا سَعْدٌ ؟ قَالَ : إنَّهُ تَكَلَّمَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَ سَعْدٌ } .
وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ وَقَرَأَ آيَةً : مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك الْيَوْمَ إلَّا مَا لَغَوْت ، فَذَكَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ : صَدَقَ أُبَيٌّ } فَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَيْنِ الْمُخْبِرَيْنِ بِمَا أَخْبَرَا بِهِ لَكَانَ ظَاهِرُ خَبَرِهِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ ، فَلَمَّا صَدَّقَهُمَا وَقَعَ لِسَامِعِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِمَا فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَأَمَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ ، نَحْوُ مَا رُوِيَ : أَنَّ { زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ قَدْ دَفَعَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ كَلَامًا ، قَالَ : لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، فَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَلَفَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ مَا قَالَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ صَدَّقَك } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ .
وَأَمَّا : إخْبَارُ مَنْ
أَخْبَرَ بِخَبَرٍ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ فَلَا تُنْكِرُهُ ، أَوْ يَذْكُرُهُ لِحَضْرَتِهَا فَلَا تَكْرَهُ ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسِيَرِهِ ، وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ ، مِمَّا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِهِ كَانَتْ شَائِعَةً مُسْتَفِيضَةً ، يُحِيلُونَهَا عَلَى مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَاتِ الْعَظِيمَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ بِهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ ، وَتَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى قَائِلِهِ ، إذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَتِهِ ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَكَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي مَنَعَتْ وُقُوعَ الْإِخْبَارِ مِنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ - هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ إقْرَارِهَا مَنْ يَدَّعِي مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ لَا يَفْقَهُونَهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَخَبَرِهِ ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اكْتِسَابٌ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا وَصَفْنَا .
وَأَمَّا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ ، وَمُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ - فَإِنَّهُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } إنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ
وَاسْتِقَامَتِهِ .
وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا ، { إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ ، أَوْ يَتَرَادَّانِ } وَنَحْوُهُ : حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي { أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ } وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ } .
قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا شُذُوذٌ ، لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ ، أَوْ بِخَبَرِ مِثْلِهِ ، مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي التَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ ، وَالنَّظَرِ فِيهَا ، وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ - دَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ : عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إلَى حُكْمِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُسَاعَدَةُ الِاتِّفَاقِ لِحُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْتُمْ دَلِيلًا
عَلَى صِحَّتِهِ ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لَهُ غَالِطًا ، وَيَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، مِنْ قِبَلِ
أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي عَامَّةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا ، أَنَّ فُقَهَاءَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : إنَّمَا صَارُوا إلَى حُكْمِهَا حِينَ سَمِعُوا وَبَلَغَهُمْ أَمْرُهَا ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا ، وَيُجِيزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهَا وَاتَّبَعُوهَا ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُمْ أَجْمَعُوا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ ، مَعَ مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ تَسْلِيمِهِمْ ، فَحُكْمُهُ خَطَأٌ ، خَطَأٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَائِلِ .
وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ .
وَالْآخَرُ : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ .
وَأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ .
وَالْآخَرُ : يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهَا .
فَأَمَّا الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَقِسْمٌ مِنْهَا : الشَّهَادَاتُ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ : أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ ، عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ .
فَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ : أَحَدُهَا : الشَّهَادَاتُ عَلَى مَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ ، وَهُوَ : الْحُدُودُ ، وَالْقِصَاصُ .
فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا إلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فِي الزِّنَا ، وَرَجُلَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ، وَعَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ ، وَذِي الْحِجَّةِ - إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .
وَالثَّالِثُ : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَعَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ - فَيُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي مَعْنَيَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ .
وَلَا يُقْبَلُ : أَعْلَمُ ، وَأُخْبِرُ .
وَالثَّانِي : مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَةِ الشَّاهِدِ .
وَهِيَ : أَنْ ( يَكُونَ ) بَالِغًا ، عَاقِلًا ، حُرًّا ، مُسْلِمًا ، عَدْلًا ، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ ، صَحِيحَ النَّظَرِ ، طَائِقًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ ، نَافِيًا لِمَا يُؤْذِيهِ ، لَا تَجُرُّ شَهَادَتُهُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَغْرَمًا .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ فَهِيَ : نَحْوُ خَبَرِ الرَّسُولِ
فِي الْهَدِيَّةِ ، وَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ ، وَالْبَيْعِ فِيمَا عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ ، وَنَحْوُ : قَوْلُ الْآذِنِ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ ، مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّ السَّامِعِ كَذِبُ الْمُخْبِرِ ، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا : مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .
وَمِنْهَا : مَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُخْبِرِ ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ فِي خَبَرِهِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ خَبَرِ الْوَكِيلِ ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ ، وَخَبَرِ الْأَذَانِ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَنَحْوُ خَبَرِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ رَسُولًا ، فَلَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ عِنْدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ .
أَوْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَدْلًا ، فَشُرِطَ فِيهِ : أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ الْعَدَدُ ، أَوْ الْعَدَالَةُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا ، وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ ، حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا ، أَوْ رَجُلًا عَدْلًا .
وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ : مَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مِنْ الْأَعْدَادِ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوْصَافِهَا ، بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ ، وَبَعْضُهَا إجْمَاعٌ ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأُصُولِ ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْكَلَامِ فِيهَا ، إذْ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِأُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ : فَالْأَصْلُ فِي قَبُولِهَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } .
فَحَظَرَ الدُّخُولَ بَدْءًا ، إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ ، ثُمَّ أَبَاحَهُ بِإِذْنِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَوَصْفِ الْمُخْبَرِ فِيهِ .
وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ بَرِيرَةَ : إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا فَتُهْدِيهِ فَقَالَ : هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } فَقَبِلَ قَوْلَهَا : فِي إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ كَانَ مَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهَا ، فَصَدَّقَهَا عَلَى انْتِقَالِهِ إلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: { رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ } .
فارغة
الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْكَلَامِ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: فِيْ إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَبِلَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ وَ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
فارغة
بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
نَتَكَلَّمُ بِعَوْنِ اللهِ فِي تَثْبِيتِ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ ، وَاحِدًا كَانَ الْمُخْبِرُ ، أَوْ أَكْثَرَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَبَى إلَّا قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فُرُوعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَشُرُوطِهَا ، بِمَا يُسَهِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ : قَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِذَلِكَ بِحُجَجٍ كَافِيَةٍ مُغْنِيَةٍ ، وَأَنَا ذَاكِرٌ جُمْلَةً ، وَنَتْبَعُهَا بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَمَا احْتَجَّ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وقَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } .
فَنَقُولُ : إنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِتْمَانِ ، فَثَبَتَ وُقُوعُ الْبَيَانِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ إذَا أَخْبَرُوا ، فَدَلَّ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ ، لِوُقُوعِ بَيَانِ أَحْكَامِ اللهِ بِخَبَرِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لِيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ وَيَنْتَشِرَ فَيُوجِبَ الْعِلْمَ .
قِيلَ لَهُ : لَمَّا ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ ، لِأَنَّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانُ فِي خَبَرِهِمْ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ ( فَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ )
فَإِنْ قِيلَ : لَا دَلَالَةَ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ .
فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ؟
قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } إخْبَارًا مِنْهُ بِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا أُخْبِرُوا - دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ ، وَوُجُوبِ الْتِزَامِ حُكْمِهِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرُوا بِالْإِخْبَارِ بَيَانًا لَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ مَا يُوصَفُ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِهِ ، لُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ ، إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَالْفِرْقَةُ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ ، وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ جَعَلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْفِرْقَةَ ، وَهِيَ بَعْضُهَا ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ مَنْ دُونَ الثَّلَاثَةِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وَقَدْ يَتَنَاوَلُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } قَدْ قِيلَ : إنَّ أَقَلَّهَا وَاحِدٌ ، فَكَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالطَّائِفَةُ اسْمٌ قَدْ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إيجَابَ قَبُولِ خَبَرِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَمَرَ الطَّوَائِفَ بِالْإِنْذَارِ لِيَتَوَاتَرَ بِهِمْ الْخَبَرُ ، فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إذَا أَخْبَرَتْ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رُجُوعَ الطَّوَائِفِ
وَدَوَرَانَهَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حِيَالِهِمْ ، أَوْ رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى قَوْمِهَا دُونَ قَوْمِ طَائِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا .
فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ تَنْفِرْ الطَّائِفَةُ مِنْهُمْ : إنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمٍ : إنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ .
صَحَّ أَنَّ
الْمُرَادَ رُجُوعُ كُلِّ طَائِفَةٍ أُفْرِدَتْ مِنْ قَوْمٍ رُجُوعُهَا إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، ثُمَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ لِقَوْمِهَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ بِخَبَرِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِهِمْ قَبُولَ خَبَرِهَا وَإِنْذَارَهَا .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَ الطَّوَائِفِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، ثُمَّ دَوَرَانَ جَمِيعِهَا فِي الْقَبَائِلِ عَلَى فِرْقَةٍ ، لَكَانَ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ جَازَ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْآيَةِ لَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا مَحَالَةَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاجْتِمَاعِ لِلتَّفَقُّهِ ، ثُمَّ الدَّوَرَانِ عَلَى الْقَبَائِلِ لِلْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ عَنْهُ ، بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ لِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْهُمْ ، وَالْوَافِدُ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِهِمْ .
دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ فِي إبْلَاغِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ ، بِمَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ إنَّمَا أُمِرَتْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا وَإِبْلَاغِهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِيَنْتَشِرَ
الْخَبَرُ عَنْهَا ، وَيَسْتَفِيضَ ، فَلَا يَكُونُ فِي أَمْرِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْإِنْذَارِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا ، كَمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى حِيَالِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحْدَهُ .
قِيلَ لَهُ : ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوفِهِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِنْذَارِ قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ قَبُولِ خَبَرِهِ ، دُونَ مَعْنًى آخَرَ يَنْضَافُ إلَيْهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وقَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ وَبِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُوجِبَيْنِ - لِقَبُولِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا ، إذْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّ ( أَمْرَنَا بِإِقَامَتِهَا ) وَأَدَائِهَا - مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا ، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ حُكْمِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُكْمًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِسَمَاعِهِ ، أَوْ مُشَارِكًا لِغَيْرِهِ فِيهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى : أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِخَبَرِهِ ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ غَيْرُهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ تَعَلُّقَ قَوْلِهِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ تَعَلُّقَ صِحَّتِهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ .
وَأَيْضًا : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَمَعْنَاهُ لِكَيْ يَحْذَرُوا ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ مَا سَمِعُوهُ ، كَمَا قَالَ { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي إيجَابِهِ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِ طَائِفَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا ، لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الطَّائِفَةِ فِي شَيْءٍ ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ ، مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أُنْذِرَتْ الطَّائِفَةُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ الْعُقُوبَةِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أُخْبِرَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - لَمَا كَانَ الْإِنْذَارُ قَدْ أَلْزَمَهُ شَيْئًا ، إذْ كَانَ الْحَذَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاجِبًا قَبْلَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ وَبَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى لِكَيْ يَحْذَرُوا ، فَلَا يَأْمَنُوا أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ صَحِيحًا ، فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ الْبَحْثَ عَنْهُ ، حَتَّى يَعْلَمَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ إنْ كَانَ صَحِيحًا ، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ إلَى مُوجِبِ حُكْمِهِ .
قِيلَ لَهُ : إنْ لَمْ يَكُنْ إنْذَارُ الطَّائِفَةِ قَدْ أَلْزَمَهُ حُكْمًا فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ قَبْلَ إنْذَارِهَا وَبَعْدَهُ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ : احْذَرْ وَاطْلُبْ الْآثَارَ وَالسُّنَنَ ، لِتَعْرِفَ الْمُتَوَاتِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْءٌ .
وَهَذَا يُوجِبُ إسْقَاطَ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ ، وَإِيجَابَ الْحَذَرِ بِهِ ، وَمَا أَدَّى إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ فَهُوَ سَاقِطٌ ، وَفَائِدَةُ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
وقَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَنَحْوِهِ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ .
فَمِنْهُمْ : مَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِهَا فِي لُزُومِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَمْرِ اللهِ إيَّانَا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ ثَبَتَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ ، فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ ، لِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَضُمُّ إلَيْهَا قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فَتَوَكَّدَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ ، وَأَوْجَبَ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ، وَتَرْكِ التَّثَبُّتِ فِيهِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ خَاصَّةً مَوْجُودَةً بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَبْلَهَا فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ .
فَالْمَعْقُولُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ : إيجَابُ التَّفْرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي أَوْجَبَ بِهَا التَّفْرِقَةَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا
عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ .
كَأَنَّهُ قَالَ : أَوْ خَبَرُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَكُلُّ بَعْضٍ أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بِهِ بَيْنَهُمَا ، فَالِاحْتِجَاجُ
بِمِثْلِهِ فِيمَا وَصَفْنَا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } قَالَ : فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إجَابَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ وَاحِدٌ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُشَافَهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُ لَيْسَ هُوَ دُعَاءَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ مَنْ عَدَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا جَازَ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ : دَعَانِي فُلَانٌ ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِ بِرَسُولٍ تَنَاوَلَ لَفْظَ الْآيَةِ ، دَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ شِفَاهًا ، وَبِإِرْسَالِهِ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ شِفَاهًا مُرَادٌ بِالْآيَةِ ، وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ ، وَمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ ، فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى حَصَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ : ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا جَاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُ ( مَدْعُوٌّ مِنْ ) رَسُولِ اللهِ ، أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إذْ لَيْسَ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْ الرَّسُولِ ، دُونَ أَنْ يَنْقُلَهُ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، بِدَلَالَةٍ تَحْتَاجُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنَّهُ احْتَجَّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } قَالَ وَالْآذِنُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ مَا يُقَالُ لَهُ ، فَمَدَحَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ .
قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، أَنَّهُ قَالَ:{ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ شَيْءٌ أَوْهَى مِنْ هَذَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، أَوْ الشَّهَادَاتِ ، فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، بَلْ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُهُ ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ .
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبُولَ الشَّهَادَاتِ فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مَعْلُومَةٍ ، لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا هَاهُنَا ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوُهَا ، وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ .
فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَمِنْهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ : { لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ تَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ { أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ
وَبِعَالٍ } وَأَنَّهُ { أَمَرَ بِالْغَدَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ ، نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَهْلِيَّةِ } { وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ } .
وَأَنَّهُ { قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ } وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ كَنَحْوِهَا تُوجِبُ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهَا فِي طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأُمَّةِ ، وَقَدْ تَلَقَّتْهَا وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي نَقْلِ الْعِلْمِ وَأَدَائِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ ، وَفِي قَبُولِ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ .
وَقَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ ، وَرَوَى بَعْضَهَا مُرْسَلًا ، وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ احْتِجَاجِهِ بِذَلِكَ وَيَقُولُ : كَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مُبْطِلِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَائِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي قَبُولِهِ ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ رَأْسًا .
وَإِنَّمَا وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِهِ : أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهَا ، بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ قَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا ، وَتَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ فِي لُزُومِ نَقْلِ الْعِلْمِ ، وَدَلَالَتُهَا وَاضِحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّهُ قَالَ : { فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَأَخْبَرَ : أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فِقْهٌ ، وَلَيْسَ يَكُونُ فَقِيهًا إلَّا وَقَدْ لَزِمَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ .
وَكَذَلِكَ النِّدَاءُ ، لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُنَادِي - وَهُوَ وَاحِدٌ - لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى .
وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ : وَهُوَ رُسُلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ ، أَرْسَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ رَسُولًا وَكِتَابًا ، وَكَانَ فِي كُتُبِهِ إلَيْهِمْ ، الدُّعَاءُ إلَى التَّوْحِيدِ ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرِّسَالَةِ ، وَجُمَلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُهَا ، وَالْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِإِرْسَالِهِمْ وَكَتْبِ الْكُتُبِ مَعَهُمْ مَعْنًى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : التَّصْدِيقُ وَالتَّوْحِيدُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالْخَبَرِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا الرِّسَالَةُ : فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِهِ ، وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى يَدِهِ ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ ، وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّسُلَ ، لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ .
وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ : أَنَّهُمْ إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا ، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا ، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ .
وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ ، كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ .
وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْأَحْكَامِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا ، وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ .
قِيلَ لَهُ : أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ ، فَأَمَرَهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ ، وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ ، لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا ، فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ : تَوْجِيهُ الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا ، وَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ ، ثَبَتَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ عَنْهُ إلَّا مَا كَانَ حَقًّا ، وَقَدْ كَانَ
يَعْلَمُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْوُلَاةِ ، يَتَوَارَثُهَا أَعْقَابُهُمْ ، كَسَائِرِ الْفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ ، نَحْوُ " مَا خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَة غَسَّلَتْ حَنْظَلَةَ " ، وَنَحْوَهَا مِنْ الْأُمُورِ .
فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ وُلَاتَهُ مَعْصُومُونَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْقَائِلِ .
وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فِي الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً ، قَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً : وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِهِ ، كَمَا عَلِمْنَا ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا : أَنَّهُ قَوْلُ قَائِلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، وَكَمَا نَعْلَمُ ضَرُورَةً إذَا أَخْبَرَنَا النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُنْصَرِفُونَ فِي طَرِيقِ الْجَامِعِ قَدْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ ، أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَ خَبَرُهَا عَلَى صِدْقٍ ، وَإِنْ
لَمْ يُقْطَعْ بِصِحَّةِ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، إذَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَهُمْ ، وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِاضْطِرَارٍ : أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَرَوَتْهُ ، ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ ، يُخْبِرُ بِهِ الْخَاصَّ مِنْ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ نَقْلُهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ ، وَلَا يُشِيعُهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ، عَلَى مَا كَانَ يَحْدُثُ مِنْ الْحَوَادِثِ ، وَيُبْلَى بِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ ،
فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَنْ بُلِيَ بِهَا ، دُونَ كَافَّةِ النَّاسِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ حُكْمِهِ ، لَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ إشَاعَتِهِ وَإِظْهَارِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ الْحُكْمُ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُمْ إلَى الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ .
وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ ، وَأَتْبَاعِهِمْ ، فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ .
وَاَلَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ ، وَالْعَمَلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِهَا ، وَلَا رَدَّ لَهَا .
وَقَدْ أَوْرَدَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا .
مِنْهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْته ، فَإِنْ حَلَفَ صَدَّقْته ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، إلَّا غَفَرَ لَهُ اللَّهُ }
وَقَبِلَ أَبُو بَكْرٍ شَهَادَةَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ }
وَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا "
وَقَبِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ }
وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } .
وَقَبِلَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ ، وَالْمُغِيرَةِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ " .
وَقَبِلَتْ الْأَنْصَارُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَقَبِلَ أَهْلُ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ حِينَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ : { كُنَّا لَا نَرَى بِالْمُخَابَرَةِ بَأْسًا ، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا ، فَتَرَكْنَاهَا } وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْأَلُ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورٍ ، كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا أَنَّهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ بِعِلْمِهَا .
وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ جَرَى أَيْضًا أَمْرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ فَاجِرَةٌ ، قَلِيلَةُ الْفِقْهِ ، جَاهِلَةٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَخَالَفَتْ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ ، وَسُنَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ ، إلَى
آرَائِهِمْ ، وَعَارَضُوهَا بِنَظَرٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَمَا أَمْكَنَهُمْ بِهِ تَصْحِيحُ مَقَالَتِهِمْ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَفَرُّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِوَايَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ ، وَدُعَاءُ النَّاسِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرًا لَأَنْكَرُوهُ عَلَى رُوَاتِهَا ، وَمَنَعُوهُمْ مِنْهَا ، إذْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ } .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي رَوَيْته عَنْ الصَّحَابَةِ فِي تَثْبِيتِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ
الْآحَادِ : هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَكَيْفَ جَعَلْته أَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى خَصْمِك وَهُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُنَازِعُك فِيهَا .
قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ وَظُهُورَهُ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقِّيَهُمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَالثَّانِي : أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا كَوْنَ ذَلِكَ وَوُجُودَهُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ خَبَرٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ( إلَّا ) أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِاضْطِرَارٍ : أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِي بَعْضِ مُخْبَرَاتِهَا ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ .
وَلَعَلِمْنَا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حَوَادِثِ الْمَسَائِلِ ، وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فِيهَا .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ إذَا حَدَثَتْ لَهُنَّ حَوَادِثُ فِيمَا خَصَّهُنَّ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ : أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُنَّ ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ يَقْتَصِرْنَ فِيهَا عَلَى أَخْبَارٍ مِنْ خَبَرِهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكَلِّفُهُنَّ الْحُضُورَ لِذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ : اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُفْتِي ، مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَعَلَى أَنَّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ ، وَقَدْ ضَمِنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اعْتِقَادِهِ ، وَمَذْهَبُهُ الْحُكْمُ الَّذِي أَمْضَاهُ عَلَيْهِ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ لَمَا جَازَ حُكْمُهُ ، وَقَدْ قَبِلَ الْجَمِيعُ خَبَرَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، فَصَارَ أَصْلًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ ، عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهُ عَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي ، وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَخْبَرَا عَنْ رَأْيِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا ، فَإِذَا أُخْبِرَ حُكْمَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ ، فَهُوَ أَوْلَى ( مِنْ قَبُولِ ) خَبَرِهِمَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ : إنَّ هَذَا أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ : كَيْتَ وَكَيْتَ ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي لَزِمَ السَّامِعَ حُكْمُهُ ، وَالْعَمَلُ بِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي : إنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْقُرْآنِ ، لَزِمَهُ قَبُولُ قَوْلِهِ ، وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرْت .
قِيلَ لَهُ : لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ : فَإِنِّي أُثْبِتُهُ ، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي غَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُ خَبَرِ الْمُفْتِي ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ
الْحُكْمِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ مَتَى فَقَدُوا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ ، رَجَعُوا إلَى اسْتِعْمَالِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ الظَّنِّ .
وَالْأَثَرُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَقُولُ هَذَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى ، أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ عَنْ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ النَّظَرَ مَعَ الْأَثَرِ ، وَقَدَّمْنَا الْأَثَرَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَيْهِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، فَانْتَفَى قَبُولُهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } .
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ قَائِلِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَاوِيهِ .
وَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ ، فَانْتَفَى بِهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي ( بَدْءِ دُعَائِهِ ) النَّاسَ إلَى التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ ، إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ
لِصِدْقِهِ ، فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ ، لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ ، إذْ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ ، وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ .
وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَذَلِكَ : أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ ، وَالْحُكْمَ بِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ قَبُولِهِ ، فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ
كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ : إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا ، كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ ، وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْحَقِيقَةِ .
وَالْآخَرُ : حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا ، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { إنَّ ابْنَك سَرَقَ ، وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا ، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ ، { وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ ، يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ إعْلَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ .
وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ ، حَكَمْنَا بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ
الْعِلْمِ ، حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ صِدْقِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ ، وَكَانَ خَبَرُ
الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ ، إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ ، وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ .
وَمَعْلُومٌ : أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ ، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا .
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا ، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا ، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا ، بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، لَمْ يَتَعَدَّدْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ ، وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ ، أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَخْبَارُ الْآحَادِ الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ ، وَالْإِقْرَارَاتِ ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ،
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا ، وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ ، وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، لَا عِلْمَ الْمُضَمَّنِ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ ، لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا }
قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّا نَقُولُ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَلَا نُكَلَّفُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ ، وَمِنْهَا مَا اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَمَا قَبِلْنَا فِيهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ - فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَّ } { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } لَا يَنْفِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا السَّائِلُ ، لَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ أَخْبَارَ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا ، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ : مِنْ حَظْرِ مُبَاحٍ ، أَوْ إبَاحَةِ مَحْظُورٍ ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةً مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ إصَابَةَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَضِيَّةَ هَذَا السَّائِلِ يَمْنَعُ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولَ قَوْلِ الْمُفْتِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ : قَدْ طَهُرْتُ مِنْ حَيْضِي ، أَوْ قَدْ حِضْت ، فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَحَظْرِهِ ، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ هَؤُلَاءِ مَقْبُولَةً مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُخْبَرَاتِهَا ، عَلِمْنَا بِهِ فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ لَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ ، لَمَا سَاغَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ يُفْضِيَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ الظَّنِّ وَأَكْثَرُ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الدِّينِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا ، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ
الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ ، فَكَانَ غَيْرُهُ بِمَثَابَتِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ صِدْقَهُ .
فَلَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدْءٌ فَإِنَّمَا كَانَ مَعَ دُعَائِهِ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ، وَكُلِّ مَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي ( كُلِّ مَا ) كَانَ سَبِيلُهُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْخَبَرِ مُجَرَّدًا دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ .
ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً لِصِدْقِ إخْبَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُنَا بِهَا الْعَمَلُ دُونَ الْعِلْمِ .
فَالْمُسْتَدِلُّ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعْتَقِدٌ لِمَا وَصَفْنَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ فِي الشَّهَادَاتِ ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ ، فِي الْفُتْيَا ، وَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَنَحْوِهَا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ ، مَعَ تَفَرُّدِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ ، حَتَّى تُقَارِنَهُ دَلَائِلُ غَيْرِهِ تُوجِبُ صِحَّتَهُ ، وَخَبَرُ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ ، دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ لَهُ .
فَأَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ ، دُونَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَالْقَطْعِ عَلَى عَيْنِهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اقْتَضَى وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ ، وَمَا دَعَا إلَيْهِ ، احْتَاجَ إلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ ، فَلَمْ نَجْعَلْ الْمُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ظَنَّ السَّائِلُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ بِلَا دَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ مُوجِبَةٍ لِتَصْدِيقِهِ ، وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ .
فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ مَعَهُ مُوجِبُ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، فَهُوَ دَالٌّ : عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، وَرَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَنَا ذَاكِرُهَا ، وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْقَوْلِ فِيهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَوْضِعَ اعْتِرَاضَاتِهِ ، وَأُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ .
فَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } .
أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسَمَّى طَائِفَةً ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي أَمَرَ الطَّائِفَةَ بِالنُّفُورِ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ : فَلَوْ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ ، عُلِمَ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ : أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَثْبِيتِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ ، وَلَا شَرْعٍ ، بَلْ الدَّلَائِلُ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَقَوْلِ السَّلَفِ ظَاهِرَةٌ : أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَنَاوَلُ
اسْمَ الطَّائِفَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ : أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ .
فَقَدْ تَأَوَّلَ السَّلَفُ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَلَوْلَا أَنَّهَا اسْمٌ لَهُ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَدَلَّ : أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَ .
وَمَوْجُودٌ أَيْضًا : فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ : أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ وَالْبَعْضِ وَالْخَبَرِ يَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ : أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا شَاءَ مِنْهَا ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ بَعْضُهَا ، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، كَانَتْ الطَّائِفَةُ بِمَعْنَى الْبَعْضِ ، فَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ مِنْهَا .
وَقَالَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْوَاحِدَ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ : إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُدُولِ دُونَ الْفُسَّاقِ .
وَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ، كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْعَدْلِ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ مِنْ الْحُكْمِ - دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ أُمِرَ بِالْأَدَاءِ لِيَنْتَشِرَ وَلِيَسْتَفِيضَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا سَلَفَ .
وَنَقُولُ أَيْضًا : إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ يَقْتَضِي قَبُولَ خَبَرِهِ ، وَمَا يُؤَدِّيهِ ، كَمَا اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، وقَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا ، هَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ
الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ ، وَهُمْ الْفُسَّاقُ ، كَمَا أَنَّ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمَا إقَامَةَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ ، إذَا دُعِيَا لِلشَّهَادَةِ ، ( وَأَنَّهُ وَاجِبُ ) التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِمَا ، وَلَا يَقْدَحُ وُجُوبُ التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ ، فِي صِحَّةِ
الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ كَمَا يَقُولُ فِي الْعُمُومِ : إنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَتِهِ .
وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعُمَّالَ عَلَى الْبُلْدَانِ وَاسْتِعْمَالُ السُّعَاةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ - دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ ، لِأَنَّ قَبُولَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاجِب عَلَى رَعِيَّتِهِ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَيْنَ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِذْ قَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِكَذَا ، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ ، فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ بِمَنْزِلَتِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانَ يَبْعَثُهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُونُوا يَقْتَصِرُونَ فِي تَعْلِيمِ رَعَايَاهُمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ إنْ أَجَابُوا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْكَافَّةُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَعَايَا الْوُلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِهِمْ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَتْ بِهِ الْوُلَاةُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَذُكِرَ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ :
أَنَّهُ جَائِزٌ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى ، غَيْرِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي حَكَى إخْبَارَهُ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخْبِرٌ آخَرُ وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لَنُقِلَ ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إلَّا خَبَرُ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ صَارَتْ إلَى حُكْمِ خَبَرِهِ ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ شُهُودٍ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ لِلزِّنَا وَحْدَهُ ، وَلَكِنْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ فَحَسْبُ ، لَكِنْ لِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا ، وَلُزُومُ هَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ السُّنَنِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي حُكْمٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِهِ لِحُدُوثِ حَادِثَةٍ - أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا.
وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ جَمَاعَةٍ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ فِي نَحْوِ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ .
وَذُكِرَ : أَنَّ رَاوِيَ خَبَرِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ : عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ، وَكَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ ، لِأَنَّهُ بَلَغَ عَامَ الْخَنْدَقِ ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضْبِطُ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ فِيهِ ، لِأَنَّ خَبَرَ مَسْجِدِ قُبَاءَ قَدْ رَوَاهُ
أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْهَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى إسْنَادٍ ، حَتَّى قَدْ صَارَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِيهِ بَعْضَ صَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَبَعْضَهَا إلَى الْكَعْبَةِ ، فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ .وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَئِذٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَضْبِطُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ سِنَّهُ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ ، وَكَانَ سِنُّ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَنَةً ، لِأَنَّهُ قَالَ : عُرِضْت يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَلَمْ يُجِزْنِي ، وَأَجَازَنِي يَوْمَ أُحُدٍ ، وَبِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَمَنْ رَوَى : أَنَّ سِنَّهُ كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ ، لِأَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ ، وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَوَى قِصَّةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ لَمَا رَوَاهَا ، وَلَا قَطَعَ بِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَرْوِي مَا يَرْوِيهِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ مِنْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ ، هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ ، وَيُقَالُ : إنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمَاعًا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا ، وَالْبَاقِي سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يُطْعَنْ فِي رِوَايَتِهِ لِمَا رَوَاهُ سَمَاعًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِغَرِهِ ، بَلْ قَدْ قَبِلَهُ النَّاسُ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا .
رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَأَحْكَامِهَا ، فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ
فِيهَا عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَالَتُهُ - لِيَعْرِفَ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ ، وَكَانَ أَصْلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَجْلِ صِغَرِهِ .
وَمِمَّنْ كَانَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَرَوَى عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ ، فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِ ، وَبَيْنَ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ : زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيمَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ بِالسِّنِّ فِي وَقْتِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَحْكِيهَا .
وَذُكِرَ : أَنَّ الْأَنْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَاقُوا شَرَابَهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ مُخْبِرٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ ، كَمَا كَسَرُوا الْأَوَانِيَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ مَالًا لَهُمْ قَبْلَ سَمَاعِ الْخَبَرِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ قَدْ أَوْجَبَ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَهُ لَمَّا أَسْرَعُوا إلَى إتْلَافِهِ ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْجِرَارَ تَأْكِيدًا لِأَمْرِ التَّحْرِيمِ ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعَادَةِ فِي شُرْبِهَا ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَقِّ رَوَايَا الْخَمْرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَبِّهَا ، تَأْكِيدًا لِأَمْرِ تَحْرِيمِهَا ، وَتَغْلِيظًا
عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ عَادَاتِهِمْ عَنْهَا .
وَذُكِرَ فِي قَبُولِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } : أَنَّهُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَكَانَ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ .
وَمَعَ ذَلِكَ إنَّ الضَّحَّاكَ ذَكَرَ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ اسْتَدَلَّ عُمَرُ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ .
قَالَ أَبُوبَكْرٍ : أَمَّا كَوْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ يَقُولُ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَحَلَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُسَمَّى رَاوِيَةَ عُمَرَ ، وَكَانَ يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ : مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِقَضَايَا عُمَرَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ .
فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الضَّحَّاكَ حَكَى لِعُمَرَ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا عِنْدَ عُمَرَ وَقْتَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ لِذَلِكَ ، إنَّمَا كَانُوا فِي قَبَائِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ ، وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا ذَكَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ ، فَكَانَ غَائِبًا عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ الْقِصَّةِ ، وَتَرْكِ النَّكِيرِ مِمَّنْ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَى رَاوِي الْخَبَرِ ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَهَا الَّذِينَ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِمْ كَانُوا حَضَرُوا عِنْدَهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ .
وَذُكِرَ فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ : أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَحْرَيْنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا تَظَنِّي وَحُسْبَانٌ ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ ، وَلَا بِرِوَايَتِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ : أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْبَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ ، وَذَكَرَ : أَنَّ رُجُوعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ ، حِينَ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَدْ أَخْبَرَاهُ جَمِيعًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاعْتِبَارَ .
وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ
مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَرْوِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً تَوَاتَرَ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِهَا ، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِهِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ اسْتَدَلَّ بِهَا مُثْبِتُو خَبَرِ الْوَاحِدِ بِتَنَاوُلِهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي إفْسَادِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، وَنَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } ) قَالَ : وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ ، حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُصَدِّقًا .
عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ ، فَجَاءَ وَادَّعَى : أَنَّهُمَا أَرَادُوا قَتْلَهُ ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْوَلِيدِ .
فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ فِسْقَهُ وَجَعْلَهُ فَاسِقًا بِإِخْبَارِهِ بِالْكَذِبِ - فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ الظَّاهِرُ ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ فَسَقَ فِي إخْبَارِهِ ، كَمَا فَسَقَ الْوَلِيدُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ ، بَلْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ ،
فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَحْدَهُ .
فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، وَمَقَادِيرِهَا ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ .
وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ .
ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِسْقِهِ حِينَ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَذِبٍ ، أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ .
فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ لَعَلَّهُ قَدْ فَسَقَ فِي قَوْلِهِ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَسَقَا ، وَتَمْنَعُ فِي
قَبُولِ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا عِنْدَنَا ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَسَقُوا ، فَهَذَا اعْتِبَارٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ : أَنَّ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِشَهَادَتِهِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ ، ثُمَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ قِيَاسَ الْأَخْبَارِ عَلَى الشَّهَادَاتِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَيْسَتْ الشَّهَادَةُ أَصْلًا لِلْأَخْبَارِ ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْعَبِيدِ ، وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ، وَخَبَرِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ .
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا : عَلَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، إلَّا مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ، وَأَنَّ ( شَهَادَةَ ) النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ مَقْبُولَةٌ فِي الْوِلَادَةِ ، وَنَحْوِهَا ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَاتِ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ لِلْأَخْبَارِ .
وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ أَصْلًا لِذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ الْخَبَرُ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ ، وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَثُرْنَ ، مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا ، فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَنَّ الْأَخْبَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالشَّهَادَاتِ .
وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ فِي الْأَخْبَارِ ، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ، فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ : أَنَّ الشَّهَادَاتِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْأَخْبَارِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا .
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُعَايَنَةِ .
وَالْأَخْبَارُ يُقْبَلُ فِيهَا : فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ ، وَالْخَبَرُ يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ السَّامِعِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالنَّقْلِ عَنْهُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ ، إلَّا بِتَحْمِيلِ الشَّاهِدِ إيَّاهُ ، وَأَمْرِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَقَبِلَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ ، بِأَخْبَارٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ الطَّرِيقِ