كتاب : قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أَمَّا بعد: فإن التوحيد سر القرآن ولب الإيمان - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو دعوة جميع الرسل ومحور جميع الكتب السماوية، وهو صراط الله المستقيم، ولا سبيل إلى الجنة والنجاة من النار إلا به. ومن أجله شرع الجهاد وعلى أساسه ربى الأنبياء أتباعهم، أدرك ذلك سلفنا الصالح اهتداء بالقرآن والسنة، وجهله كثير من الناس وعلى رأسهم كثير من أدعياء العلم، بعد ذهاب العلماء حقًّا وبعد القرون المفضلة.
ألهاهم عن التوحيد علوم اليونان؛ الفلسفة والمنطق والكلام وألهاهم التصوف وما امتزج به من حلول واتحاد وخرافات وأساطير وتعلق بالقبور وغلو في الأموات من الصالحين وغير الصالحين، ومع كل هذا لا يزال في الأمة من هو قائم بالحق وثابت عليه، يقيم حجة الله على عباده كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"(1). إلى أن أتى الله بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الذي
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب حديث (3641) ومسلم في الإمارة حديث (1920).

أمده الله بمواهب وطاقات أهلته لحمل لواء السنة وراية التوحيد وشجعته أن يتصدى للباطل وأهله في كل مجال بقوة وشجاعة وعلم واسع قل أن تتوافر في غيره بعد القرون المفضلة؛ فكان من ثمار ذلك الجهاد والعلم مؤلفاته الكثيرة النافعة التي لا يوجد لها نظير في شمولها وقوتها وعمقها وذيادها عن الحق ودك صروح الباطل في شتى ألوانه وصوره والتي هي المنار المضيء بعد كتاب الله وسنة رسول الله لكل مصلح ناصح يريد للأمة الإسلامية السعادة والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
ومن بين مؤلفاته النافعة الجليلة "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" أحببت أن أقدمها للقرّاء الكرام في أحسن ثوب وأجمل صورة ولقد بذلت أقصى ما عندي من جهد في خدمتها من ضبط نصوصها وتخريج أحاديثها والحكم عليها وتخريج الآثار وعزو الأقوال إلى مصادرها وعمل الفهارس النافعة لها، ولا أدعي الكمال فالنقص والتقصير لازمة من لوازم البشر.
أسأل الله أن ينفعني والقراء الكرام بما حوته من عقيدة وقواعد ومقاصد ونصوص ضمنها المؤلف العظيم هذا الكتاب المبارك.

الأسباب الدافعة إلى العمل في هذا الكتاب
أول الأسباب وأهمها هو أني في إحدى مطالعاتي في هذا الكتاب استوقفتني كلمة استبعدت أن تكون ممن هو دون شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فضلاً عن أن تكون منه والكلمة هي: "والرغبة إلى الله ورسوله" في ص 44 س 12 كما في نسخة محب الدين الخطيب - رحمه الله - نشر المكتبة العلمية. بيروت و ص 44 س 4 من طبعة زهير الشاويش سنة 1390هـ 1970م والتي راجعها - بطلب من الشيخ زهير -

كل من الشيخ شعيب أرناؤوط والشيخ أحمد القطيفاني على المخطوطة المحفوظة في الظاهرية.
وتكرر الخطأ نفسه في الطبعة الثانية لزهير سنة 1398هـ - 1978م ولم ينج من هذا الخطأ الشيخ عبد القادر أرناؤوط حيث خدم هذا الكتاب مشكورًا ونشره له مكتبة دار البيان في دمشق سنة 1405هـ- 1985م وجاء الخطأ نفسه في نسخته ص 49 س 18 وكذلك جاء الخطأ نفسه في الطبعة التي راجعها الشيخ عطية محمد سالم، والخطأ جسيم جداً ولا أدري كيف خفي على هؤلاء الأفاضل وواضح جداً من كتاب الله ومن سنة رسوله أن الرغبة كسائر قضايا التوحيد من العبادات التي لا يجوز أن يتوجه بها العبد إلا إلى الله وحده جل جلاله، كما قال تعالى (94 : 7، 8): {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}. وكما قال تعالى (9 : 59): {وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون}.
وكم رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر في كتبه أن الرغبة من العبادات الخاصة بالله حتى في هذا الكتاب "التوسل والوسيلة" قرر فيه عدة مرات قبل هذا الموضع وبعده أن الرغبة من العبادات التي لا يجوز صرفها إلى غير الله، انظر إليه وهو يقرر أن الرغبة والحسب من خصائص الله لا يشركه فيها غيره.
قال رحمه الله: "وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى (94 : 7، 8): {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} أي ارغب إلى الله لا إلى غيره.

وأما الحسب فأمرهم أن يقولوا: {حسبنا الله}، لا أن يقولوا حسبنا الله ورسوله، ويقولوا: (9 : 59) {إنا إلى الله راغبون}، لم يأمرهم أن يقولوا: إنا إلى الله ورسوله راغبون.
فالرغبة إلى الله وحده، كما قال تعالى في الآية الأخرى (24: 52): {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقْهِ فأولئك هم الفائزون}، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده "التوسل والوسيلة" ص 56 الفقرتان (154، 155) وانظر ص 237 الفقرة 659 فإنه تكلم عن الرغبة وغيرها بمثل هذا الكلام الذي سقناه لك.
وقال رحمه الله في كتاب الرد على الأخنائي (ص 98): "ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب، فلا يتقى غيره، ولا يخاف غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يدعى غيره، ولا يصلى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدق إلا له ولا يحج إلا إلى بيته، قال تعالى (النور: 52): {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقهِ فأولئك هم الفائزون} فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى (التوبة: 59): {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فجعل الإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى (الحشر: 7): {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده. وكثيراً ما يذكر هذا في كثير من مؤلفاته رحمه الله.
كان الخطأ السابق وما أعرفه في هذه القضية وما أعرفه من منهج شيخ الإسلام فيها وفي مثيلاتها من الجزم بأنها من العبادات الخاصة بالله، من أقوى الدوافع للقيام بخدمة هذا الكتاب فرأيت لزاما البحث أولاً عن

أصوله الخطية في المكتبات الإسلامية ومظان وجودها؛ فشرعت في البحث والسؤال عنها، وكنت أعلم أن هذه الطبعات كلها ترجع إلى الأصل الذي ضمنه ابن عروة كتابه العظيم "الكواكب الدراري" لكني سمعت من بعض المعنيين بالمخطوطات أنه يوجد نسختان في الرياض، إحداهما في مكتبة عبد الرحمن بن قاسم، والثانية في المكتبة السعودية فطلبت من والدنا الكريم وشيخنا الكبير سماحة رئيس الإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - أن يحاول الحصول على النسختين المذكورتين فبذل جهدًا مشكورًا للحصول عليهما ثم بعد البحث تبين له أنهما لا يوجدان في المكتبتين المذكورتين فأبلغني بذلك ثم لعله كلف الشيخ سعدًا الحصين بأن يصور لي صورة عن مخطوطة الكواكب بالظاهرية فتكرم مشكورًا بإرسال صورة منها فتناولتها مبتهجاً بها شاكراً ومقدرًا جهود شيخنا الكبير نفع الله به ثم تعاون أخينا سعد الحصين ومبادرته بإرسالها وأول شيء بدأت بقراءته من المصورة هوتلك الكلمة فوجدت ما حقق اعتقادي في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أن الكلمة كما وضعها المؤلف "والرغبة إلى الله وسؤاله" فطرت بذلك فرحًا ثم شمرت عن ساعد الجد لخدمة هذا الكتاب العظيم خدمة تليق بمكانته العظيمة بين كتب شيخ الإسلام وكتب التوحيد وبعد إنجازه ظهرت للكتاب طبعة جديدة للشيخ عبد القادر أرناؤوط.
فأول شيء أحببت الاطلاع عليه هو تلك الكلمة الخاطئة راجياً أن يكون قد انتبه لها وقام بتصحيحها فصدمت بأنه قد اشترك مع سابقيه

في هذا الخطأ وإني لأرجو الله أن يتجاوز عن تساهلهم وأن يكرمني بجزاء تصحيح هذا الخطأ الجسيم.
ومن الأسباب التي دفعتني لخدمة هذا الكتاب مكانته العظيمة ومكانة مؤلفه الكبير.
ومن الأسباب أيضاً حب عقيدة التوحيد والحرص علىتقديم جهد في ميادينها.
والسبب الرابع والأخير أن الكتاب لم يخدم الخدمة اللائقة بمكانته إلى حين شروعي في خدمته.

الكتب التي ألفت في التوسل
:
منها: هذا الكتاب العظيم.
ومنها: كتاب آخر أقل حجماً منه لشيخ الإسلام نفسه وهو من مصورات مكتبة الجامعة الإسلامية.
ومنها: مؤلف للشوكاني وهو من مصورات الجامعة.
وقد تعرض للتوسل كثير من المخالفين لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاباتهم تدل على تعسف ومجازفات، وتدل على جهل يؤدي إلى الخلط الشنيع بين التوسل والاستغاثة ويؤدي ثانياً إلى هدم قواعد التوحيد وتحريف نصوص الكتاب والسنة، ويؤدي إلى تضليل الأمة الإسلامية وإيقاعهم في مهاوي الشرك بحجة أن الآيات التي تضلل وتكفر من يدعو غير الله إنما تعني كفار قريش والعرب خاصة، فإذا دعا القرشي أو غيره من العرب غير الله في وقت نزول القرآن وقبله فهو مشرك كافر، وإذا

دعا غير الله من يدعي الإسلام فهذا في نظرهم جائز أو هو مما يقرب إلى الله زلفى.
وفي العصر الحاضر ألف علامة الشام ومحدثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله كتاباً في التوسل وأحكامه فأجاد وأفاد.
وللشيخ نسيب الرفاعي أحد كبار تلاميذ الشيخ الألباني كتاب "التوصل إلى حقيقة التوسل" أجاد فيه وأفاد.
ولكن ميزة ما كتبه شيخ الإسلام في هذا الكتاب أنه وضع قضية التوحيد نصب عينيه فجعل من الكتابة عن التوسل وسيلة إلى توضيح قضايا التوحيد ووسائله وقضايا الشرك ووسائله معتمدًا في توضيحه على الكتاب والسنة وقواعد التوحيد والأصول واللغة والتاريخ.
ولشيخ الإسلام عناية خاصة بالتوحيد بأنواعه لا يخلو كتاب من كتبه من هذه العناية.
ومما شارك هذا الكتاب في موضوعه من مؤلفات شيخ الإسلام "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وكتاب "العبودية" وكتاب "الرد على البكري" وكتاب "الرد على الأخنائي" وكتابه الآخر في التوسل ولا يخلو كتاب من كتبه من التركيز على قضية التوحيد.

عملي في هذا الكتاب
:
أولاً : حرصت على ضبط نص الكتاب، فقابلت بين المخطوطة وبين نسختين مطبوعتين إحداهما: نسخة محب الدين الخطيب رحمه الله والتي صورتها المكتبة العلمية ببيروت وحذفت تاريخ الطبع وثانيتهما: نسخة زهير الشاويش طبع دار العربية للطباعة والنشر عام 1390 بمراجعة الأستاذ شعيب أرناؤوط، والأستاذ أحمد القطيفاني على مخطوطة الظاهرية.

وكان يشاركني في المراجعة أحد الطلاب النبهاء فاستدركنا على الطبعتين المذكورتين أخطاء من أهمها الخطأ الكبير الذي نوهنا عنه سابقاً.
ثانياً: خرجت الأحاديث والآثار من مصادرها وكثيرًا ما أضيف مصادر لم يذكرها شيخ الإسلام.
ثالثاً: عزوت الأقوال التي نقلها شيخ الإسلام إلى المصنفين الذين نقل عنهم والأئمة والمذاهب إلى مصادرها بقدر الإمكان.
رابعاً: حكمت على الأحاديث بالحسن أو الصحة أو الضعف في ضوء الدراسة وقواعد أهل الحديث.
خامساً: علقت بعض التعليقات في المواضع التي تتطلب التعليق وهي مهمة جداً والحمد لله.
سادساً: استفدت من تعليقات الطبعتين المذكورتين اللغوية وغيرها فأبقيت منها ما رأيته مناسباً.
سابعاً: اعتمدت في ترقيم الآيات القرآنية على ترقيم الطبعتين مع العودة في بعض الأحيان إلى المصحف الكريم للتأكد.
ثامناً: عملت مقدمة اشتملت على ترجمة موجزة لشيخ الإسلام رحمه الله وملخص لمقاصد الكتاب وفكرة عن منهج شيخ الإسلام فيه وأسباب عملي في الكتاب ووصف المخطوطة.
تاسعاً: عملت فهارس للأحاديث والآثار والأعلام والموارد والطوائف وموضوعات الكتاب.

لمحة عن حياة الإمام ابن تيمية
(661 - 728)
هو شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام المحدث الحافظ الناقد والمفسر الغواص في معاني القرآن والمؤرخ المطلع على أحداث التاريخ المبرز في العلوم النقلية والعقلية على كبار المتخصصين فيها والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الزاهد العابد المجاهد المظفر في ميادين القتال وفي ميادين الدفاع عن حياض الإسلام بالحجة والبرهان.
سيف الله المسلول على الفلاسفة والملحدين وعلى الغلاة المبتدعين، جندت كثير من الأقلام لترجمته وإبراز شخصيته الفذة وسطرت في هذا الشأن عشرات من المجلدات(1) وفي ذلك ما يغني القارئ عن أن أترجم له في هذه المقدمة، غير أني أرى أن أتحف القارئ بشذرات مما زكاه به كبار علماء عصره تتناول بعض الجوانب من حياته وأن أعطيه فكرة مجملة عن كثرة مصنفاته الدالة على تبحره في العلوم وامتلاك نواصيها.
__________
(1) كثرت الكتابة عن شيخ الإسلام - رحمه الله - فبلغ عدد المعروف من المؤلفات المستقلة في سيرته وأعماله ثمانية وستين مؤلفاً.
وترجم له عدد كبير من المؤرخين القدامى والمحدثين المعروف منهم أربعة وستون.
وهناك دراسات لعدد من المستشرقين تناولت تراث شيخ الإسلام ومنهجه وأفكاره.
انظر في هذا مقدمة الرسالة الموسومة بـ (شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه) (1/179 - 195) لأخي وأحد تلاميذي النجباء عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي قدمها لنيل درجة الدكتوراه من شعبة السنة بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.

1 - قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت744): "هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر وقريع الدهر، شيخ الإسلام، وعلامة الزمان ترجمان القرآن، علم الزهاد، أوحد العباد وقامع المبتدعين وآخر المجتهدين، تقي الدين أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن، عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة، شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، نزيل دمشق، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها"(1).
2 - وقال الإمام الحافظ الفقيه الأديب ابن سيد الناس فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد اليعمري المصري الشافعي: وهو يتحدث عن المزي: "وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه، فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل، لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه(2).
__________
(1) العقود الدرية (ص 2).
(2) العقود الدرية (ص10) والرد الوافر ص (26) والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية (ص 26) والدرر الكامنة (1/166 - 167).

3 - وقال الإمام الحافظ الناقد أبو الحجاج يوسف المزي (ت742):
ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه".
4 - وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني:
"كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف، إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا قد عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.. واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها"(1).
وقال الإمام الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي (ت 748) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك رأساً في معرفة الكتاب والسنة، والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعة وسخاء وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وكثرة التصانيف وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس
__________
(1) العقود الدرية (ص 7 - 8) وسجل ابن عبد الهادي لكمال الدين شهادات أخر قد تفوق هذه الشهادة مع أنه كان من مخالفيه والمتعصبين عليه.

والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة وتقدم في علم الأصول وجميع علوم الإسلام: أصولها وفروعها، ودقها وجلها سوى علم القراءات فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا وسرد وأُبلسوا واستغنى وأفلسوا وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سيناء يقدم الفلاسفة فلَّهم وتيَّسهم وهتك أستارهم وكشف عوراهم وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب فالله يغفر له ويسكنه أعلى الجنة فإنه كان رباني الأمة فريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب معضلات المسلمين، وكان رأسا في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لحظتها من فقيه.
وقال في مكان آخر: قلت: وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح وبالسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث" لكن الإحاطة لله غير أن يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي.
وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه،

ولفرط إمامته في التفسير وعظم إطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين ويوهي أقوالاً عديدة وينصر قولاً واحدًا موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث.
ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه الآن تبلغ خمسمائة مجلدة، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد(1).
شيوخه
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ، من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 682)، والمحدث أبو العباس أحمد ابن عبد الدائم (ت668)، وابن أبي اليسر، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت689)، وابن الظاهري الحافظ أبو العباس الحلبي الحنفي (ت690).
تلاميذه
أَمَّا تلاميذه فلا يحصون كثرة، فمن تلاميذه البارزين والمبرزين:
1 - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751).
__________
(1) العقود الدرية (ص 23 - 25) وقد ذكر بعض مؤلفاته وله ثناء عاطر على ابن تيمية في عدد من مؤلفاته ونقل العلماء عنه.
انظر: الشهادة الزكية (ص 38 - 44) والرد الوافر (ص 31 - 36).

2 - والحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي
(ت 744).
3 - والحافظ أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي المتوفى (742).
4 - والحافظ المؤرخ أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (ت748).
5 - وأبو الفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري (ت734).
6 - والحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي (ت739).
مؤلفاته:
إن مؤلفات هذا الإمام كثيرة جداً بحيث عجز تلاميذه ومحبوه عن إحصائها، قال تلميذه النجيب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم - رحمه الله -:
"أما بعد: فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ أوحد زمانه، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه - فذكرت لهم أني عجزت عن حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها إن شاء الله فيما بعد...".
ثم قال:
1 - "فمما رأيته في التفسير" فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين

رسالة وقاعدة(1).
2 - قال: "ومما صنفه في الأصول مبتدئًا أو مجيباً لمعترض أو سائل" فذكر عشرين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(2).
3 - ثم قال: "قواعد وفتاوى" فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة(3).
4 - "الكتب الفقهية" وسرد خمسة وخمسين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(4).
5 - "وصايا وإجازات ورسائل تتضمن علوماً" بلغت اثنتين وعشرين(5).
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية(6) من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا الإمام العظيم - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته.
__________
(1) أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص 9 - 18).
(2) أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص 19).
(3) أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص 20-26).
(4) أسماء مؤلفات ابن تيمية (27 - 29).
(5) أسماء مؤلفات ابن تيمية (29 - 30).
(6) العقود الدرية (ص 26 - 67).

موضوع كتاب التوسل والوسيلة
لعل أحسن العبارات التي تقال في موضوع هذا الكتاب هي عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه.
قال - رحمه الله - في ص (244) من "التوسل" وفقرة (687): "فإن هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو كلما تنوع بيانها ووضحت عباراتها، فإن ذلك نور على نور".
وقال - رحمه الله - وقد ذكر مصنفًا له ذكر فيه قواعد تتعلق بحكم الحكام.. "لإفراد الكلام في هذا الموضوع (يعني كتاب التوسل) على قواعد التوحيد ومتعلقاته". الفقرة (686).
وقال في خاتمة ملحق هذا الكتاب فقرة (945):
"فهذا آخر السؤال والجواب الذي أحببت إيراده هنا بألفاظه لما اشتمل عليه من المقاصد المهمة والقواعد النافعة في هذا الباب مع الاختصار، فإن التوحيد، هو سر القرآن ولب الإيمان، وتنويع العبارة بوجوه الدلالات من أهم الأمور وأنفعها للعباد في مصالح المعاش والمعاد".
فهذا هو موضوع الكتاب. وضع قواعد ترمي إلى أسمى الغايات وهي:
أولاً: تقرير التوحيد الذي أرسل الله من أجله تقريره جميع الرسل، وأنزل من أجله جميع الكتب.
ثانياً: حسم مادة الشرك، الذي جاءت كلُّ الرسالات لحسمه ومحوه وتطهير الأرض والقلوب والنفوس من أقذاره وأدرانه.

ثالثاً: حسم مادة الغلو في أي ناحية من نواحي الدين العقائدية والتشريعية. قال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} سورة النساء، آية (171). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"(1).
آمن هذا الإمام - وهو الحق - "بأن التوحيد هو سر القرآن ولب الإيمان" فهو حري بأن توضح قواعده وأن تنوع فيه العبارات بوجوه الدلالات. حتى ترسخ عقيدة التوحيد واضحة جلية في نفوس وعقول الأمة الإسلامية، ويزول الغبش واللبس وتنقشع سحب الظلام التي تعكسها كتابات وأعمال ودعايات من لا يدري ما هو التوحيد، وما هو الشرك فلا يعرفون ذلك من الكتاب ولا من السنة ولا من واقع الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهم أبعد الناس وأعجزهم عن استخراج القواعد والمقاصد، لأصل دين الله - توحيد الله وإخلاص العبادة له وتطهيره من شوائب الشرك والضلال.
انطلق شيخ الإسلام في هذا الكتاب وغيره من مصنفاته العظيمة لتحقيق هذه الغايات الكبيرة، وهي منطلق جميع الأنبياء لتقرير التوحيد بكل أنواعه وقواعده وكلياته وجزئياته، ولحسم مادة الشرك بكل أنواعه وأسبابه ووسائله، وسد أبواب الغلو وذرائعه.
وانطلق خصومه وخصوم دعوة الأنبياء من منطلق خصوم الأنبياء:
__________
(1) رواه البخاري 6/478 حديث رقم (3445).

تغيظهم الدعوة إلى توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة رغبة ورهبة وتوكلاً.
وتغيظهم الدعوة إلى وصف الله بما وصف به نفسه من صفات الكمال والجلال في كتابه ووصفه به رسوله في سنته وآمن به سادة هذه الأمة وخير قرونها الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
وتغيظهم الدعوة إلى هدم الشرك وحسم مواده وسد أبوابه وذرائعه.
وتزعجهم الدعوة إلى حسم باب الغلو الذي أهلك الأمم قبلنا ليقودوا هذه الأمة بمقاوماتهم للحق في كل هذه الميادين من هلاك إلى هلاك ومن هزيمة إلى هزيمة ومن دمار إلى دمار في دينهم ودنياهم.
والفرق بين هذا الإمام الموحد المخلص وبين خصومه أنه رحمه الله يجعل من الكلام في التوسل والبحث فيه منطلقا إلى تحقيق التوحيد وإخلاصه لله وحده ودحض الشرك، والقضاء على وسائله وأسبابه. وخصومه يجعلون من التوسل منطلقاً إلى الشرك بالله وهدم قواعد التوحيد وتحريف نصوصه دفاعاً عن الشرك وذرائعه تحت ستار حب النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين، والدفاع في زعمهم عن مكانتهم التي زين لهم الشيطان أن الدعوة إلى توحيد الله وإلى إخلاص العبادة له والدعوة إلى محاربة الشرك في كل مظاهره تعني الحط من مكانة الأنبياء والأولياء.
ولكل قوم سلف فقد كان نوح يدعو إلى التوحيد ويحارب الشرك ولو كان بالصالحين كود وسواع ويغوث ويعوق وقد كان قومه الضالون يدافعون عن الشرك تحت شعار حب هؤلاء الصالحين ود

وسواع... إلخ ولقد قالوا في حماس: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} سورة نوح، آية (23).
إن هذا الإمام المجاهد المناضل عن التوحيد والحق قد وقف حياته للدعوة إلى الحق في ميادينه مدافعًا عنه بكل ما منحه الله من طاقات ومواهب، واضعًا نصب عينيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أُثِر عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في مجال العقيدة والعبادة والتشريع وسائر الميادين الإسلامية، وفي هذا الكتاب الجليل قد عالج القضايا الآتية:
1 - التوسل وأنواعه وأشياء تتعلق وترتبط به.
2 - الشفاعة بأنواعها وأشياء تجر إليها من لا يفهم.
3 - الدعاء بأنواعه.
مفرقاً فيها بين الحق والباطل والهدى والضلال بالأدلة الواضحة والحجج الساطعة.

منهج شيخ الإسلام في هذا الكتاب
إن هذا الإمام واسع الاطلاع، طويل الباع، عميق الفهم فهو الإمام الفذ في التفسير وعلومه، والحافظ الناقد في الحديث وعلومه، وهو الفقيه المبرز والأصولي المتمكن، والمجتهد المطلق، والعالم بالملل والنحل، والمنطق والفلسفة والتصوف والكلام، والعارف بأباطيلها وزيفها وغشها وخداعها.
عرف العلوم المسماة بالعقلية أكثر من أهلها المختصين فيها وعرف عيوبها وزيفها وخطرها وما تؤدي إليه من ضلال وهلاك، فوجه ما حباه الله به من طاقات، فزلزل قواعدها، ودك معاقلها.
وعرف التصوف وما ينطوي عليه من شرور وخرافات وأباطيل واصطلاحات فاسدة ومغالطات تفسد وتدمر الدين والعقل، فثلَّ عروشه ودمر قواعده، وكشف تلك المغالطات بالحجج الواضحة والبراهين الساطعة.
وخرج من معاركه العلمية والجهادية ظافرًا منتصرًا انتصاراً حاسماً فلا ترى لخصومه إلى يومنا هذا إلا معارك فاشلة وحججاً متهاوية وكلاماً فارغاً إلا من المغالطات التي لا تنطلي إلا على الأغبياء.
ومن علامات هزائمهم أن كثيراً منهم يتظاهرون بمدحه واحترامه، ثم يكيدون لدعوته إلى التوحيد بنقل ما يزعمون أنه يؤيد باطلهم من كلامه بعد بتره وتشويهه.
هذا ما يقال بصفة إجمالية بالنسبة لجهوده في مؤلفاته الجليلة.

أَمَّا منهجه في هذا الكتاب فإنه يعرض القضية من القضايا ويدرسها من كل النواحي التي تتطلبها الدراسات العلمية؛ من الناحية اللغوية والتفسيرية والحديثية والتأريخية والأصولية والفقهية، ويضرب الأمثال، ويقرب النظير من الأمور إلى نظيره بطريقة فذة تدل على غزارة علمه وقوة استحضاره وقدرته على استحضار الأمثال والأشباه من المسائل وهذا شأنه في جميع مؤلفاته - رحمه الله -.
وإنني لأعترف أنني لم أوف هذا الكتاب حقه من الدراسة لأسباب منها؛ خوف الإطالة وضيق وقتي، فأجتزئ بنماذج من منهجه الفذ في هذا الكتاب القيم.
قال - رحمه الله - فيما يتعلق بلفظ التوسل فقرة (236): "إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة، ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع فيه من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب".
ثم بين معاني التوسل والوسيلة في لغة القرآن والسنة وكلام الصحابة وأن من أعظم معاني التوسل التقرب إلى الله بالإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقيام بكل واجب ومستحب أمر الله به ورسله، وطاعة الرسول في كل ما أمر به ونهى عنه، وأن من معانيه: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حياته في الدنيا وبدعائه وشفاعته في

الحياة الأخرى وأثبت له أنواعاً من الشفاعة منها الشفاعة العظمى، وأن الصحابة إذا أطلقوا لفظ التوسل إنما يريدون به هذا.
وأن التوسل في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به، والسؤال به كما يقسمون ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح.
وهذا هو التوسل المحدث المبتدع، والذي ليس له أصل في الكتاب والسنة ولا في عرف الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وقد بين كل هذه الأنواع بياناً شافياً مفرقاً فيها بين الحق والباطل، هذه فكرة إجمالية عن موضوع الكتاب الأساسي.
وله جولات تتخلل بحوثه ومناقشاته العلمية؛ لغوية وتفسيرية وأصولية وفقهية وانتقادات حديثية وإلزامات جدلية يدعم بها وجهات نظره التي هداه الله إليها وسدد خطاه فيها.
قال - رحمه الله - وهو ينتقد قصة المنصور مع مالك:
1 - من جهة الإسناد:
فقرة (384): "ثم ذكر حكاية - يعني القاضي عياضا - بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، ثم ذكر إسناده إلى محمد بن حميد الرازي وساق القصة إلى قوله: فقال - أي المنصور -: يا أبا عبدالله أستقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال: ولم تصرف وجهك عنه؟ وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله.

قال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما} سورة النساء، آية (64).
قال شيخ الإسلام رحمه الله فقرة (385): "قلت:
أ - وهذه الحكاية منقطعة فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً، لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين.
ولم يخرج من بلده حتى رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه.
ب - وهو مع ذلك ضعيف عند أكثر أهل الحديث كذبه أبو زرعة وابن وارة.
وقال صالح بن محمد الأسدي: "ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه، وأحذق بالكذب منه".
وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.
ج - وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله.
د - وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه.

ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته".
هذه أربع علل تقدح في ثبوت هذه الحكاية من جهة الإسناد، كل واحدة منها كافية لردها:
الأولى: الانقطاع بين محمد بن حميد وبين مالك.
والثانية: الطعن في عدالته فهو ضعيف من جهة عدالته بل رمي بالكذب من أئمة معتبرين.
والثالثة: تفرد هذا الرجل المطعون في عدالته بهذه الحكاية عن أصحاب مالك على كثرة عددهم وعدالتهم وملازمتهم لمالك.
والرابعة: جهالة بعض رواة هذه القصة.
2 - ثم يردها من وجه آخر وهو طريقة أصحاب مالك وشروطهم في قبول المسائل الفقهية البحته فكيف بالمسائل الفقهية العقدية التي تناقض مذهبه مناقضة صريحة.
فقال: "وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه. بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد ابن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه، رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه، وهو ضعيف عند أهل الحديث" الفقرة (386).
3 - ثم إن ما يتعلق به المجيزون للتوسل بالجاه وبالذوات لا دليل

لهم في هذه الحكاية التي تعلقوا بها، فيقول في الفقرة (387)(1):
"مع أن قوله: وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة وهذا حق كما جاءت به الأحاديث الصحيحة وساق حديثاً من أحاديث الشفاعة.
4 - مناقضتها لمذهب مالك المعروف عنه من وجوه أحدها: قوله: "أستقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو؟".
فقال: - أي مالك - "ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة آبيك آدم".
فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين، أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة، ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له.
هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
__________
(1) استمر هذا النقاش إلى مسافة طويلة إلى الفقرة (448) فاخترت بعض الفقرات نموذجاً لمعالجته القضايا التي يخالفه فيها خصومه، حيث يتعلقون بشبه واهية وحكايات باطلة، بينما هو يغترف من بحر من العلوم الإسلامية، فيدعم مذهبه بالكتاب، والسنة، والتاريخ، ومذاهب الصحابة والتابعين والأئمة، والقواعد الأصولية والحديثية واللغوية. ويؤيد كل ذلك بمناقضة ما يتعلقون به من شبهات وحكايات لمذاهب السلف من الصحابة فمن بعدهم خصوصاً الإمام مالك الذي نسبت إليه هذه الحكاية الباطلة.

وعند أصحاب أبي حنيفة، لا يستقبل القبر - وقت السلام عليه - أيضاً، ثم منهم من قال: "يجعل الحجرة عن يساره، وقد رواه ابن وهب عن مالك".
ثم نقل الروايات عن مالك في هذه القضية عن القاضي عياض عن المبسوط في مذهب مالك وعن غيره ونقل أقوال أصحاب مالك رحمهم الله ونقل كلام الباجي وابن حبيب وغيرهما، واستدلالهم بالأحاديث وبفعل ابن عمر وبواقع التابعين.
5 - ثم انتهى إلى القول الآتي: "فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة في قوله: "استقبله واستشفع به". كذبٌ على مالك مخالف لأقواله وأقوال أصحابه والتابعين وأفعالهم التي نقلها مالك وأصحابه، ونقلها سائر العلماء، إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به يقول له: يا رسول الله اشفع لي أو ادع لي أو يشتكي إليه المصائب في الدين والدنيا أو يطلب منه أو من غيره من الأموات من الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة الذين لا يراهم، أن يشفعوا له أو يشتكي إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين، ومن ضاهاهم من مبتدعي هذه الأمة ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين".
وهكذا يبطل هذه القصة من جهات عديدة: من جهة إسنادها ومتنها، ومن جهة مناقضتها للمعروف المشهور من مذهب الإمام مالك الذي نسبت إليه كذبا وبمناقضتها لمذاهب الأئمة وما كان عليه خير القرون من سلف هذه الأمة.

6 - يؤكد على فساد معنى هذه الحكاية فيقول في الفقرة (432):
"ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سنه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، لا مالك ولا غيره من الأئمة فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو مالك، وعظم فضيلته وإمامته وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع، فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقوله".
7 - ثم يكر على الحكاية وعلى فساد معناها من حيث اللغة العربية فيقول في فقرة (433): "ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله".
والاستشفاع به معناه في اللغة، أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به... .
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك استشفع به فيشفعه الله فيك، لا يقال فيشفعك الله فيه، وهذا معروف في الكلام ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء.
يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه، فالمشفَّع الذي يشفِّعه المشفوع إليه هو الشفيع المستَشفَع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له.

8 - ويستمر في نقاش لغوي وشرعي إلى أن يقول في فقرة (441): "ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به، ويقولون لمن توسل في دعائه بنبيٍّ أو غيره، قد تشفع به من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع للسائل فيطلب له مايطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه.
وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول.
نعم هذا سؤال به.. لكن هؤلاء لما غيروا اللغة كما غيروا الشريعة وسموا هذا استشفاعًا أي سؤالا بالشافع صاروا يقولون: استشفع به فيشفعك أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة وأين لفظها من ألفاظ مالك.
9 - إلى أن يقول في فقرة (445): ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام وإلاّ حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله ورسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة

خلاف ذلك وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم.
وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم ويقولون إنا موافقون للأنبياء.
وهذا موجود في كلام كثير من ملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة مثل لفظ "المحدث" و "المخلوق" و"المصنوع" وإن كان عنده قديماً أزلياً، ويسمى بذلك الحدوث الذاتي ثم يقول: نحن نقول إن العالم محدث، ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار، ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم: ما كان بعد أن لم يكن وكذلك يضعون لفظ الملائكة على ما يثبتونه من العقول والنفوس، وقوى النفس، ولفظ الجن والشياطين على بعض قوى النفس.
ويقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين، ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك.
ومنهجه يقوم على دراسة أحوال الناس والمجتمعات والأوضاع والواقع معرفة واعية، فاستمع إليه وهو يتحدث عن واقع عباد القبور وتلاعب الشياطين بهم. لا في بلد بل في بلدان كثيرة وأصقاع متباعدة.
قال في الفقرات (901- 904): "ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلانا أغثني

وانصرني وادفع عني وأنا في حسبك، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام.
وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم - لما كانوا من جنس عباد الأوثان - صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأصنام ويغويهم فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لا بد أن يكون في ذلك ما هو كذب، بل الكذب أغلب عليه من الصدق وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك. ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به، المستغيث به، كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب وهو اليوم موجود في المشركين في الترك والهند وغيرهم.
وقال في فقرة (905 - 906) وأعرف من ذلك واقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذلك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم.
ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم، ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التي أشرك بها المشركون وعبدة الأوثان، إلى أن

يقول - عن كثير ممن تتلاعب بهم الشياطين فتوقعهم في الشرك - في فقرة (920 - 924):
"وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم".
ويقول معللاً ومبيناً أسباب هذا الضلال فقرة (921): "وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإِيمان ظهرت آثار النبوة، والرسالة وضعفت هذه الأحوال الشيطانية، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية..
والمشركون الذين لم يدخلو في الإسلام مثل البخشية والطونية والبدَّيَ ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخُطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضيفه طعاماً يكفيهم ويأتيهم بألوان مختلفة، وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به".
ولا شك أن المعرفة بهذه الأمور قد سبقها دراسة وعناية واستقراء لأحوال الناس وعقائدهم وعاداتهم في مختلف البلدان وهذا شأن العظماء والمصلحين.

اسم الكتاب
جاء في مخطوطة الكتاب ضمن مجموع مصور في قسم المخطوطات والمصورات بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية تحت رقم (4472) في أولها اسم الكتاب "قاعدة جليلة في التوسلة والوسيلة".
وفي مصورة أرسلها إليّ فضيلة الأستاذ سعد الحصين الملحق التعليمي بعمان الأردن لا تحمل رقما، وهي مصورة عن الأصل الذي صورت عنه مصورة الجامعة الإسلامية وفيها التسمية المذكورة.
وممن ذكر اسم هذا الكتاب الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم (ت 751) رحمه الله والتلميذ البار لابن تيمية في رسالة "أسماء مؤلفات ابن تيمية ص 19 رقم 12" تحت عنوان ومما صنفه في الأصول "كتاب في الوسيلة مجلد". وقال في ص 25 تحت عنوان الفتاوى رقم 111 من الكتاب السابق "قاعدة فيما يتعلق بالوسيلة بالنبي صلى الله عليه وسلم والقيام بحقوقه الواجبة على أمته" فالله أعلم أي الاسمين هو اسم كتابنا هذا، ثم ترجح لي أن ابن القيم رحمه الله علم أن لشيخ الإسلام كتابين في التوسل ويوجد في مصورات الجامعة كتاب باسم قاعدة في التوسل يقع في (16) لوحة تحت رقم (1052) مصورة عن مخطوطة في الظاهرية وكان بعض الإخوة يظن أنها جزء من كتاب التوسل والوسيلة فعقدت مقارنة بينهما فإذا بها مؤلف مستقل ولست أشك أنها لابن تيمية.
وممن ذكره الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي أحد تلاميذ ابن تيمية النجباء المتوفى سنة (744) في كتابه "العقود الدرية من

مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية" قال في ثنايا سرده لمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية: "قاعدة فيما يتعلق بالوسيلة بالنبي صلى الله عليه وسلم".
وقد ورد اسمه على كل الطبعات التي بين يديَّ "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" مطابقة لأصلها المخطوط.

وصف المخطوطة
تقع المخطوطة في أربع وأربعين صحيفة، بعضها يشتمل على تسعة وعشرين سطراً وبعضها على ثمانية وعشرين سطراً، وقد يصل بعض الصحائف إلى ثلاثين سطراً بخط نسخ ولم يذكر عليه اسم الناسخ ولا تأريخ النسخ ولعل سبب ذلك أن الكتاب مدرج ضمن الكواكب الدراري لابن عروة وهو كتاب كبير يتكون من عشرات المجلدات وليس لدي منه إلا أوراق التوسل والوسيلة.
ولعلي أجد في المستقبل فرصة فأبحث عن الناسخ وتاريخ نسخه لهذا الكتاب.

الرموز
خ: المراد بها المخطوطة التي اعتمدناها لكتاب التوسل والوسيلة.
ب: نسخة محب الدين الخطيب.
ز: نسخة زهير الشاويش

قاعدة جليلة
في
التوسل والوسيلة
تأليف
شيخ الإسلام ابن تيمية
"661 - 728"
دراسة وتحقيق
ربيع بن هادي عمير المدخلي
أستاذ في السنة وعلومها
بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سابقاً

بسم الله الرحمن الرحيم
1 - الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهرَه على الدين كله وكفى بالله شهيداً. أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصرَّ به من العمى، وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعيناً عميًا، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلفًا، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ففرّق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه.
2 - فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين: الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمانُ به ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى (5: 35): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه.
3 - وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال، باطناً وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده

ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته.
4 - وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله.
وقد قال تعالى (33: 69) عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وقال (3: 45) عن المسيح: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ}. ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع بهما(1) من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
5 - ولفظ (التوسل) في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى. والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة.
6 - ولهذا نُهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له (63 : 6): {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. ولكن الكفار
__________
(1) في المخطوطة: "به". والذي يظهر أن لفظ (بهما) أولى لأنه الضمير يعود إلى الشفاعة والدعاء.

يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال تعالى (9 : 37): {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه، لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم(1) عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت: يا رسول الله فهل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، وفي لفظ: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح"(2)، وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه"(3) وقال: "إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه"(4).
7 - وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في
__________
(1) كتاب الإيمان 90 - باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، حديث (375)، والحديث في البخاري 63 - مناقب الأنصار، 40 - باب قصة أبي طالب، حديث (3883)، 78 - كتاب الأدب حديث (6208). وفي مسند أحمد (1/206، 207، 208). كلهم من طريق عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس - رضي الله عنه - مرفوعاً.
(2) صحيح مسلم الباب السابق ذكره حديث (358).
والضحضاح أصله الماء القليل القريب القعر ثم استعير للقليل من النار، اللسان (2/514).
(3) مسلم الباب السابق حديث (360) وباب إن أهون أهل النار عذاباً، حديث (362).

الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(1). وروى أنه دعا بذلك: أن اغفر لهم فلا تعجّل عليهم العذاب في الدنيا، قال تعالى (35 : 45): {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، وأيضاً فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله(2)، وكما دعا لدَوْس فقال: "اللهم اهد دوساً وائت بهم" فهداهم الله(3).
8 - وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم(4)، وكان ذلك إحساناً منه إليهم
__________
(1) البخاري، كتاب المرتدين 88 - باب 5، حديث (6929). ومسلم 32 - كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، حديث (105). وابن ماجه 36 - كتاب الفتن، حديث (4025) ج (2/1335). ومسند أحمد (1/380، 427، 432، 441، 453، 456، 457). كلهم من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
(2) صحيح مسلم 44 - كتاب فضائل الصحابة 35 - باب فضل أبي هريرة حديث (158) من طريق أبي كثير، يزيد بن عبد الرحمن.
حدثني أبو هريرة، قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فاسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: "اللهم أهد أم أبي هريرة"، ثم ساق القصة، وفيها أنها أسلمت، رضي الله عنها.
(3) البخاري 64 - مغازي 75 - باب قصة دوس والطفيل بن عمرو، حديث (4392)، 80 - الدعوات، 59 - باب الدعاء للمشركين، حديث (6397). ومسلم (4/1957)، باب فضائل غفار وأسلم... وطيِّىء ودوس، حديث (197). وأحمد (2/243، 448). كلهم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) لم أجد هذا الحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام في سنن أبي داود في الاستسقاء، فربما أورده أبو داود في غير أبواب الاستسقاء وقد يكون سبق قلم من الإمام أو من الناسخ، والحديث المشار إليه في البخاري، الاستسقاء حديث (1020) فتح (2/510) =

يتألف به قلوبهم، كما كان يتألفهم بغير ذلك.
9 - وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم توجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمناً بالله ورسوله مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعاً.
10 - وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهًا، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى (14: 41) عنه: {رَبّنا اغْفرْ لي وَلوالدَيّ وللمُؤمنينَ يومَ يَقُومُ الحساب}.
__________
= و 65 - كتاب التفسير سورة 44 - الدخان، 5 - باب ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون حديث (4824). ومسند أحمد (1/380 - 381) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - واللفظ للبخاري قال: "إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين"، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأى قريشاً استعصوا عليه فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم السنة حتى حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والجلود والميتة وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان فجاء أبو سفيان، فقال: أي محمد إن قومك قد هلكوا فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا...) وفي رواية للبخاري قبل هذه برقم (4822) "فقيل له إن كشفنا عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر".

وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى (9 : 113): {ما كان للنّبِيّ والذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أولي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لهُمْ أنهم أصْحَابُ الجحيم} ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال (9 : 114 - 115): {وما كان اسْتغْفارُ إبْراهيمَ لأبيهِ إلاّ عنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوٌ للهِ تَبَرّأ منْهُ إنَّ إبْراهيمَ لأوّاهٌ حليمٌ * وما كانَ اللهُ لِيُضلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيّن لهُمْ ما يَتّقونَ}.
11 - وثبت في صحيح البخاري(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له ابراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب أنت وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذيخ(2) متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار". فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين (60 : 4 - 5): {قد كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهيمَ وَالذينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لقَوْمهمْ إنّا بُرءَآؤُاْ منْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون الله كَفْرنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنَا
__________
(1) 60 - كتاب الأنبياء 8 - باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} حديث (3350)، 65 - كتاب التفسير (1) باب {ولا تخزني يوم يبعثون} حديث (4768، 4769).
(2) الذيخ: ذكر الضباع.

وَبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتَّى تُؤمنُوا بالله وَحْدَهُ إلاّ قَوْلَ إبراهيمَ لأبيه لأسْتَغْفرَنَّ لَكَ وما أمْلكُ لكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيءٍ رَبّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلنا وإليْكَ أَنَبْنا وإليْكَ المَصيرُ * رَبّنا لا تجْعَلْنا فِتْنَةً للّذينَ كَفَرُا واغْفرْ لَنا رَبّنا إنّك أنْتَ الْعَزيزُ الحكِيمُ} فقد أمر الله(1) تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: "لأستغفرنَّ لك" فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
12 - وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم(2) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".
وفي رواية(3) أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت".
13 - وثبت عن أنس في الصحيح(4) أن رجلاً قال: يا رسول الله
__________
(1) لفظ الجلالة غير موجود في المخطوطة.
(2) كتاب الجنائز 36 - باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه، حديث (105).
(3) مسلم في الموضع السابق حديث (106). وأبو داود (3/557) 15 - الجنائز، 81 - باب في زيارة القبور، حديث (3234). والنسائي (4/74)، كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك. وابن ماجه (1/501)، 6 - كتاب الجنائز، 48 - باب ما جاء في زيارة قبور المشركين حديث (1572). وأحمد (2/441). والحاكم (1/375). كلهم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وأخرج أحمد (5/356 - 357) من حديث بريدة، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بودّان قال: "مكانكم حتى آتيكم"، فانطلق، ثم جاءنا وهو سقيم، فقال: أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة فمنعنيها...". وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/375، 376).
(4) مسلم (1/191)، 1 - كتاب الإيمان، 88 - باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين، حديث (347). وأبو داود (5/90) =

أين أبي؟ قال: "في النار". فلما قفّى(1) دعاه فقال: "إني أبي وأباك في النار".
14 - وثبت أيضًا في الصحيح(2) عن أبي هريرة: لما أنزلت هذه الآية (26: 214): {وَأنْذرْ عَشيرتَكَ الأَقْرَبينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال: "يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عَبْد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، [يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار](3)، يا بني عبد المطلب انقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من
__________
= 34 - السنة، 18 - باب في ذراري المشركين حديث (4718). كلاهما من حديث أنس، رضي الله عنه.
وأخرج ابن ماجه (1/501) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان، فأين هو؟ قال: "في النار" قال: فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله فأين أبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حيثما مررت بقبر مشرك، فبشره بالنار...".
قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، محمد بن إسماعيل (يعني ابن البختري) وثقه ابن حبان والدارقطني والذهبي، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين "مصباح الزجاجة (2/43) باب زيارة قبور المشركين".
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "قفا". والتصحيح من صحيح مسلم.
(2) مسلم (1/192)، كتاب الإيمان، 89 - باب قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} حديث (348)، والترمذي (5/338 - 339)، 48 - التفسير باب 27 - وفي سورة الشعراء، حديث (3185). والنسائي (6/208)، كتاب الوصايا، باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين. وأحمد (2/333، 360، 519). كلهم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) الزيادة من: صحيح مسلم، ولفظ هذا المتن له.

الله شيئاً، غير أن لكم رحما سأبُلُّها ببلالها(1).
وفي رواية عنه "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ياصفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً"(2).
وعن عائشة لما نزلت: {وَأنذرْ عَشيرَتَكَ الأقْرَبين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة بنت محمد، ياصفية بنت عبد المطلب، [يا بني عبد المطلب](3)، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم"(4).
15 - وعن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فذكر الغلول(5) فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته
__________
(1) البلال: الماء، ومعنى الحديث: سأصلها. شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة بالبرودة ومنه: بلوا أرحامكم أي صلوها.
(2) البخاري 65 - تفسير سورة الشعراء 2 - باب {وأنذر عشيرتك الأقربين} حديث (4771) ومسلم 1/192)، الإيمان، حديث (351). والنسائي (6/208) الوصايا باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين. كلهم من طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) سقط من: المطبوعة. والتصحيح من المخطوطة وصحيح مسلم.
(4) مسلم (1/192) الإيمان حديث (350). والنسائي (6/209) الوصايا الباب السابق ذكره من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها.
(5) الغلول: اختلاس المرء ما ليس له به من حق.

فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق(1) فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت(2) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك". أخرجاه في الصحيحين(3).
وزاد مسلم(4) "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك".
وفي البخاري(5) عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار(6) فيقول يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول لا أملك لك شيئاً، قد بلغت".
__________
(1) الرقاع هنا: الثباب.
(2) المال عند العرب صامت وناطق، فالصامت الذهب والفضة، والناطق المواشي والسوائم.
(3) البخاري 56 - الجهاد، 189 - باب الغلول، حديث (3073). ومسلم (3/1461)، 33 - كتاب الإمارة، 6 - باب غلظ تحريم الغلول حديث (24). وأحمد (2/426).
وروى بعضه النسائي (5/16)، باب مانع زكاة الإبل.
(4) هو جزء من الحديث السابق.
(5) 24 - الزكاة، 3 - باب إثم مانع الزكاة، حديث (1402).
(6) في المطبوعة: "ثغاء" والتصحيح من المخطوطة، وصحيح البخاري.

16 - وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئاً كقول إبراهيم لأبيه (60 :4): {لأستَغْفرَن لَكَ ومَا أمْلكُ لكَ منَ الله منْ شَيءٍ}.
17 - وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهي نافعةٌ في الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين.
وقد قيل إن بعض أهل البدعة ينكرها.
18 - وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم.
19 - وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج(1) والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثمَّ إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب.
20 - وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم فيقرّون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قومًا بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قومًا بلا شفاعة(2).
__________
(1) انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري ص 86، 274.
(2) راجع صحيح مسلم 1 - كتاب الإيمان من حديث (299 - 346) ج (1/163 - 190).

21 - واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى (2: 48): {وَاتَّقوا يومًا لا تَجْزى نَفس عن نفْسٍ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ ولا يُؤْخَذُ منها عَدْلٌ} وبقوله (2: 123): {ولا يُقْبَلُ منها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شفاعةٌ} وبقوله (2: 254): {منْ قَبْل أَنْ يأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شفاعة} وبقوله (40: 18): {وما للظَّالِمينَ منْ حَميم ولا شَفِيع يُطاع} وبقوله (74: 48): {فما تَنْفَعُهُمْ شفاعةُ الشافعين}.
وجواب أهل السنّة أن هذا [لعله يراد](1) به شيئان:
22 - أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى (74: 42 - 48) في نعتهم: {ما سَلَكَكُمْ في سَقَر * قالوا لَمْ نَكُ منَ المصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وكُنَّا نخُوضُ مَعَ الْخائضين * وكُنَّا نُكَذِّبُ بيَوْمِ الدِّين * حَتَّى أَتانا الْيَقين * فَمَا تَنْفَعُهُم شفاعَةُ الشَّافِعين} فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارًا.
23 - والثاني: أنه يراد بذلك نفي الشفاعة التي أثبتها(2) أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة الشافع(3) لحاجته إليه رغبة ورهبة، كما يعامل المخلوقُ المخلوق(4) بالمعاوضة. فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من : المطبوعة. قصد بها استقامة الكلام لأنه لا يستقيم إلا بها.
(2) في المخطوطة: "ثبّتها".
(3) في المطبوعة: "شافع".
(4) سقطت من: ز. وهي موجودة في: ب، خ.

والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يُتوَسل إلى الملوك بخواصِّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة. فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى (2: 255): {مَنْ ذا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بإذْنه}، وقال (53: 26): {وكَمْ مِنْ مَلَك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال (21: 26 - 28) عن الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال: (34: 22 - 23): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال تعالى (10: 18): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال تعالى (6: 51): {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقال تعالى (32: 4): {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى (43: 86): {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال

تعالى (6: 94): {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} وقال تعالى (39: 43 - 45): {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقال تعالى (20: 108 - 109): {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} وقال صاحب يس (36: 22 - 25): {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِي * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي}.
24 - فهذه الشفاعة التي أثبتها(1) المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم(2) وقالوا: استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا: نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة
__________
(1) في المخطوطة: "ثبتها".
(2) تعليق الصور على الجدران سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل، أو لا ظل لها، يدوية أو فوتوغرافية، فإن ذلك كله لا يجوز، ويجب على المستطيع نزعها إن لم يستطع تمزيقها، وفيه أحاديث كثيرة. انظر ص 100 من (آداب الزفاف) للشيخ المحدث ناصر الدين الألباني - طبعة المكتب الإسلامي. (زهير شاويش).

أبطلها الله ورسوله وذم المشركين عليها وكفرهم بها. قال الله تعالى عن قوم نوح (71: 23 - 24): {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}.
25 - قال ابن عباس وغيره: هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم.
26 - وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخاري(1) وغيره، وهذه أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وحسم مادتها وسد ذريعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها وإن كان المصلي فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وأرسل علي بن أبي طالب فأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه ومحاه، ولعن المصورين.
27 - وعن أبي الهياج الأسدي، قال لي علي بن أبي طالب: إني لأبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً(2) مشرفاً إلا سويته. وفي لفظ: ولا صورة إلا طمستها. أخرجه مسلم(3).
__________
(1) في 65، كتاب التفسير، تفسير سورة نوح، حديث (4920). وتفسير ابن جرير (29/98 - 99) ذكر أقوالاً لابن عباس وغيره. والدر المنثور (8/293).
(2) فيه تحريم رفع القبور فوق الحد المشروع في السنة، وهو قدر شبر أو شبرين، والأمر فيه بتسويتها بالأرض، لا ينافي السنة، خلافاً لمن أنكر هدم القباب والقبور المشرفة من قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وجماعته، فإن الهدم للقبور سنة بل واجب، إذا كانت على خلاف السنة. فتنبه ولا تكن من الغافلين.
(3) في 11، الجنائز، 31 - باب الأمر بتسوية القبر، حديث (93). وأبو داود 15 - كتاب الجنائز، 72 باب في تسوية القبر، حديث (3218). والترمذي (3/357)، =

فصل
28 - ولفظ (التوسل) قد يراد به ثلاثة أمور، يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين.
29 - أحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به(1) وبطاعته.
30 - والثاني: دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضاً نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين. ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً.
31 - ولكن التوسل بالإيمان وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة.
32 - وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضاً كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد.
33 - أَمَّا دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة.
34 - وأما الشفاعة يوم القيامة، فمذهب أهل السنة والجماعة - وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة
__________
= 8 - كتاب الجنائز 56 - باب ما جاء في تسوية القبر، حديث (1049). والنسائي (4/73)، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور إذا رفعت. وأحمد (1/96، 129).
(1) أي بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وغيرهم - أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر. ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون(1) دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محباً له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به. ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها.
35 - وفي صحيح البخاري(2) عن أبي هريرة أنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قالا لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".
36 - وعنه في صحيح مسلم(3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة
__________
(1) في المخطوطة: "المؤمنين".
(2) كتاب العلم، 33 - باب الحرص على الحديث، حديث (99)، وفي 81 - كتاب الرقاق، 51 - باب صفة الجنة والنار، حديث (6570). وأحمد (2/307، 373، 518)، وعند أحمد: "شفاعتي لمن يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه".
(3) كتاب الإيمان، 86 - باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته، حديث (334 - 340). وأخرجه البخاري 97 - كتاب التوحيد 31 - باب في المشيئة والإرادة، حديث (7474). والترمذي (5/580)، 49 - كتاب الدعوات، 131 - باب فضل لاحول ولا قوة إلا بالله، حديث (3602). وابن ماجه، 37 - كتاب الزهد، 37 - باب في ذكر الشفاعة، حديث (4307). والدارمي (2/235) حديث (2808). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأحمد (2/275، 396، 426، 486) وأخرجه مسلم في الباب السابق من حديث أنس برقم (341 - 343) ومن حديث جابر برقم (345). وأحمد (1/281، 296) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - و (3/134، 208، 219) من حديث أنس - رضي الله عنه - و (5/145 و 148) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً".
37 - وفي السنن(1) عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة
__________
(1) الترمذي (4/627)، 38 - كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة 13 - باب منه، حديث (2441) قال: حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاني آت..." فذكر الحديث. وأحمد (6/28) في قصة طويلة نوعاً ما من طريق أبي عوانة عن قتادة به. قال الترمذي عقب رواية الحديث وقد روى عن أبي المليح، عن رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عن عوف بن مالك، وفي الحديث قصة طويلة، حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وهذا الاختلاف على أبي المليح بين قتادة ومن أشار إليه الترمذي لا يضر للأسباب الآتية:
أولاً: أن قتادة حافظ. فاحتمال وهمه بذكر عوف بن مالك بدلاً من صحابي آخر ضعيف جداً.
ثانياً: أن مخالفه مجهول، فيحتمل أن يكون ضعيفاً كما يحتمل أن يكون هو الواهم على أبي المليح بذكر الصحابي الآخر.
ثالثاً: وهو مؤيد لحفظ قتادة أن ابن ماجه روى في سننه (2/1444)، 37 - كتاب الزهد 37 - باب ذكر الشفاعة، حديث (4317) عن هشام بن عمار، حدثنا صدقة ابن خالد، حدثنا ابن جابر (يعني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) قال: سمعت سليم بن عامر، سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول... وذكر الحديث نحوه.
وله شاهدان:
أولاً: حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني آت من ربي عز وجل فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، فقالا (يعني هو ومعاذ): ادع الله عز وجل أن يجعلنا في شفاعتك، فقال: "أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئاً في شفاعتي". رواه أحمد (4/404) حدثنا عفان ثنا حماد يعني ابن سلمة، نا عاصم عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صححه الشيخ الألباني بناء على رواية الترمذي عن عوف بن مالك وحديث أبي موسى هذا. انظر صحيح الجامع (1/72) رقم (56).
ثانياً: حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى". رواه الإمام أحمد (2/75)، من طريق =

وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" وفي لفظ قال:"ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً فهو في شفاعتي".
38 - وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: (43: 45): {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى (21: 25): {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى (16: 36): {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}. وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه (11: 50 و 61): {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
39 - وفي المسند(1) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن
__________
= علي بن النعمان بن قراد عن رجل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو إسناد ضعيف لجهالة الرجل المذكور في الإسناد، وكذلك علي بن النعمان بن قراد لم أقف له على ترجمة.
(1) (2/50). والبخاري، 56 - كتاب الجهاد، 88 - باب ما قيل في الرماح، ذكره معلقا، فقال: ويذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وليس فيه: "ومن تشبه بقوم فهو منهم". حديث (2914).
ورجاله ثقات غير عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، مختلف في توثيقه. قال الحافظ في الفتح (6/96): وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع (3/8).

تشبه بقوم فهو منهم".
40 - والمشركون من قريش وغيرهم - الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي صلى الله عليه وسلم / دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار - كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السماوات والأرض كما قال (31: 25): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وقال (29: 61): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ} وقال (23: 84 - 91): {قُلْ لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
41 - وكان المشركون الذي جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتم مخلوقة، ولكنهم يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى (10: 18): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال تعالى (39: 1 - 3): {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ

يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
42 - وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
وقال تعالى (30: 28 - 32): {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
43 - بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم، فأنتم فيه سواء يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضاً، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟.
44 - وهذا كما كانوا يقولون: له بنات. فقال تعالى (16: 62): {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}. وقد قال تعالى (16: 58 - 60): {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
45 - والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله (بالشرك أصلهم)(1) صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر. وكل من هؤلاء وهؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن؛ فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم. قال تعالى: (34: 40 - 41): {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
46 - والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك/ ، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو (الشيخ فلان، و)(2) هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنًّا يشهد بعضهم لبعض. والجن كالإنس، فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد
__________
(1) هاتان الكلمتان سقطتا من: ز.
(2) سقطت من: ز، ب.

الجاهل(1)، فمنهم من يحب شخاً فيتزيّا في صورته ويقول: أنا فلان. ويكون ذلك في برِّية ومكان قفر فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شراباً أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته(2) وهذه حقيقته أو هذا مَلَكٌ جاء على صورته. وإنما يكون ذلك جنيًّا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان. وقد قال الله تعالى (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
47 - قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله(3)، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين.
48 - والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحد طلبنا منه أن
__________
(1) في ز: الجاهل العابد، وفي هذا الكلام إشارة إلى الآية الكريمة: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك، كنا طرائق قدداً} (سورة الجن: 11).
(2) أي طيفه. وكل من رق جسده ونفسه يسمى رقيقًا.
(3) والمسيح عليه السلام يتبرأ من الذين اتخذوه وأمه إلهين، وذلك يوم يسأله الله سبحانه: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}. (المائدة 116).

يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله - والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم - قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله . فيقول أحدهم: يا سيدي فلاناً أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو ياستي الحنونة مريم. أو يا سيدي الخليل أو موسى ابن عمران أو غير ذلك، اشفع لي إلى ربك. وقد يخاطبون الميت عند قبره أو يخاطبون الحي وهو غائب، كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياًّ وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلانا! أنا في حسبك، أنا في جوارك، اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة. أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي. ومنهم من يتأول قوله تعالى: (4: 64): {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
49 - ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها(1) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر: (ص 121).

50 - فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من(1) أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال الله تعالى(2) (42: 21): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال - و [نصب] تماثيلهم بمعنى طلب الشفاعة منهم - هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولاً ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين/ لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان. وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع لا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين.
51 - ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعةً سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب(3). وكثير من
__________
(1) كلمة "من" سقطت من: ز، ب.
(2) "قال الله تعالى" سقطت من: ز.
(3) في خ: "واجبا أو مستحبا".

الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافعَ ومصالح، ويحتجون(1) عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك.
52 - وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما الاحتجاج(2) بالنص والإجماع، والثاني القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يظن فيه من المصلحة.
53 - أَمَّا الأول فيقال: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب، وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم.
54 - فلا يقول أحد: ياملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا.
55 - وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله! ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله لي أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني.
56 - ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني.
__________
(1) في خ: "يحتج".
(2) في خ: "وهو الاحتجاج".

57 - ولا يقول: أنا نزيلك أنا ضيفك أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك، أو أنت خير معاذ يستعاذ به.
58 - ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم.
59 - فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته.
60 - وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها/ أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
61 - وكان أصحابه يُبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم.

62 - بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. وكل بدعة ليست واجبة ولامستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين.
63 - ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان.
64 - كما قال عبد الله بن مسعود(1): خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ (6: 153): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/435، 465). وابن حبان كما في الإحسان (1/106) حديث رقم (6). وابن جرير (8/88). والحاكم في المستدرك (2/318). وابن أبي عاصم في السنة (1/13) حديث (17). والبغوي في شرح السنة (1/196) وفي التفسير (2/142) (ط دار المعرفة). كلهم من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. وعاصم قال فيه الحافظ في التقريب (1/383): "صدوق له أوهام".
ولكن للحديث شاهد من حديث جابر يرتقي به إلى درجة الحسن، وهو ما رواه ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اتباع السنة حديث (11). وابن أبي عاصم في السنة (1/13) حديث 16. والآجري ص12 من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر، ومجالد ليس بالقوي لكنه يصلح للاعتبار.

65 - فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه في بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع والنزاع فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته.
66 - ولو قدر أنه نازع في ذلك عالم مجتهد لكان مخصوماً(1) بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ممن ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعي، وإنما اتبع من تكلم في الدين بلا علم، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
67 - بل(2) النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجباً ولا مستحباً، فإنه قد حرم ذلك وحرم ما يفضي إليه، كما حرم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
68 - ففي صحيح مسلم(3) عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
__________
(1) في خ: "مخصوصاً". والظاهر ما أثبتناه.
(2) في ز، ب: "إن النبي صلى الله عليه وسلم".
(3) (1/377) 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (23). وأبو عوانة (1/401). والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف 2/443. والطبراني في الكبير 2/180، حديث (1686). وابن سعد في الطبقات 2/240، وله شاهد عنده (2/241) من حديث أبي أمامة عن كعب بن مالك، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، والقاسم ابن عبد الرحمن وهو صدوق يرسل كثيراً.

69 - وفي الصحيحين(1) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال قبل موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً(2).
70 - واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجداً إنما يقصد فيه
__________
(1) البخاري 23 - كتاب الجنائز، 61 - باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث (1330)، وباب 69 ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حديث (1390). و 64 - كتاب المغازي، 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته حديث، (4441) ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (19). والنسائي (4/78) كتاب الجنائز، باب اتخاذ القبور مساجد، كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري 8 - كتاب الصلاة، 55 - باب حديث (436). و 60 - كتاب الأنبياء، 50 - باب ماذكر عن بني إسرائيل، حديث (3454). و 64 - كتاب المغازي، 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، حديث (4444). و 77 - كتاب اللباس، 19 - باب الأكسية والخمائص، حديث (5816). ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (22). والنسائي (2/33) مساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأبو عوانة (1/399، وأحمد 1/218. والدارمي 1/267. كلهم من حديث عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما -.
وأخرجه البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 55 - باب، حديث (437). ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (20 - 21). وأبو داود 15 - كتاب الجنائز، 76 - باب البناء على القبر، حديث (3227). والنسائي (4/78) كتاب الجنائز، باب اتخاذ القبور مساجد. وأبو عوانة (1/400). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) وكان إعلانه صلى الله عليه وسلم هذا التشريع قبيل موته بخمسة أيام خوفاً على أمته من الوقوع فيما وقع به غيرها من الضلال والانحراف.

عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين.
71 - فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده.
72 - فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده؛ لئلا يتخذ ذلك(1) ذريعة إلى الشرك بالله. والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة(2) لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك. وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة؛ لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات.
73 - ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب(3) فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة(4)، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه.
__________
(1) سقط من: ز، ب.
(2) وقت طلوع الشمس واستوائها في وسط السماء وغروبها.
(3) كركعتي تحية المسجد.
(4) سقط من: ز، ب.

74 - فإذا كان نهيه عن الصلاة(1) في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك، لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها، كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها، كان معلوماً أن دعوة الشمس - والسجود لها هو محرم في نفسه - أعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها؛ لئلا يفضي ذلك(2) إلى دعاء الكواكب.
75 - كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فنهى عن قصدها للصلاة عندها؛ لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم، لأن دعاءهم والسجود لهم أعظم تحريماً من اتخاذ قبورهم مساجد.
76 - ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له.
77 - فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى في المنافقين (9: 84): {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فنهى نبيه / عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون.
78 - فلما نهى عن هذا وهذا؛ لأجل هذه العلة وهي الكفر دل على انتفاء هذا النهي عند انتفاء هذه العلة.
79 - ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يصلى عليه ويقام
__________
(1) في خ: "فيه" وهو زائد كما يظهر.
(2) سقطت من: ز، ب.

على قبره، إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد لم يخصوا بالنهي، ولم يعلل ذلك بكفرهم.
80 - ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره، ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل" رواه أبو داود(1) وغيره.
81 - وقد كان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم"(2).
__________
(1) (3/550) - 15 كتاب الجنائز، 73 - باب الاستغفار عند القبر للميت، (3221). والحاكم في المستدرك (1/370). والبيهقي (4/56). كلهم من حديث عثمان - رضي الله عنه - وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الألباني انظر أحكام الجنائز ص 156.
(2) صحيح مسلم (2/669)، 11 - كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (102)، وآخر حديث (103). والنسائي (4/76، كتاب الجنائز، باب الاستغفار للمؤمنين - وفي عمل اليوم والليلة (ص 588)، وأحمد (6/221)، وابن سعد في الطبقات (2/240، 241). كلهم عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه مسلم حديث (104). والنسائي (4/77) وفي عمل اليوم والليلة (ص 588) عن بريدة - رضي الله عنه -. وأخرج ابن سعد (2/240) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضاً.
وليس في هذه المصادر "اللهم لا تحرمنا أجرهم" إلخ، وإنما هي في كتاب ابن السني. انظر الأذكار للنووي (ص 234)؛ فقد ذكر هذه الزيادة في حديث عائشة - رضي الله عنها -.

82 - وفي صحيح مسلم(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".
83 - والأحاديث في ذلك صحيحة معروفة. فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم، وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكفار.
84 - كما ثبت في صحيح مسلم وأبي داود(2) والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى(3) من حوله ثم قال: "استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة". فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافراً، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين.
85 - وأما الزيارة البدعية؛ فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجْوَبُ للدعاء.
__________
(1) (1/218)، 2 - كتاب الطهارة، حديث (39). وأبو داود (3/559)، 15 - كتاب الجنائز، حديث (3237). وابن ماجه (2/1439). 37 - كتاب الزهد، حديث (4306). وأحمد (2/300، 375، 408).
(2) تقدم ص 8، رقم (3، 4).
(3) في: ز، ب "بكى". وهو تصحيف.

86 - فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.
87 - ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم؛ مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرماً منهياً عنه، ولكان صاحبه متعرضاً لغضب الله ولعنته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(1).
__________
(1) رواه مالك في الموطأ (1/172) 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، 24 - باب جامع الصلاة، حديث (85) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. وعبد الرزاق في المصنف (1/406، باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في الطبقات (2/241). وابن أبي شيبة (3/345) من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم؛ فهو معضل عند هؤلاء، لكنه قد جاء موصولاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه أحمد (2/246). وأبو نعيم في الحلية (7/317). والحميدي (2/445)، حديث (1024). كلهم من طريق سفيان بن عيينة.
قال: حدثنا حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وهذا إسناد حسن.
حمزة بن المغيرة قال الحميدي في شأنه: وكان من سراة الموالي، ولعله من قول سفيان. وقال أبو النضر: كان رجل الكوفة. وقال ابن معين: ليس به بأس.
وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال (1/334).
ورواه أبو نعيم في الحلية (6/283) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي حدثني أبي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
ورواه البزار كما في كشف الأستار (1/220) من طريق عمر بن صهبان - وهو ضعيف - عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وذكر ابن عبد البر في التمهيد (5/42) أن البزار رواه من طريق عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثم صحح الحديث من طريق أبي سعيد روي بإسناد إلى البزار، وساق إسناد =

88 - وقال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما صنعوا(1).
89 - وقال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"(2).
90 - فإذا كان هذا محرماً وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات ونيل الطَّلبات وقضاء الحاجات!؟ وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس.
91 - قال ابن عباس(3): كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم.
وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في صحيح/ البخاري(4) وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله (23: 71): {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس: ثم صارت هذه الأوثان في
__________
= البزار إلا أنه قال: عمر بن محمد بدل عمر بن صهبان فينظر. وعلى كل حال فالحديث صحيح، انظر: الزرقاني (1/385).
(1) تقدم تخريجه (ص 30) رقم (1).
(2) تقدم تخريجه في (ص 29) رقم (3).
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (2/334).
(4) تقدم تخريجه في (ص15).

قبائل العرب(1).
92 - وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئاً آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيرها(2)، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم فإنهم لا يقرون، بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءهم، فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه.
93 - كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية.
__________
(1) "قال أبو عمر: الوثن الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن صنماً كان أو غير صنم، وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كان إذا مات نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه ويسجد نحوه، ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبورهم أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدًا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم على جهة التعيير والتوبيخ: "لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل حتى إن أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه". فجزاه الله عن التوحيد وسنة نبيه خيرًا.
(2) انظر ص (167).

94 - فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلاً صالحاً قد مات لا سيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعّال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك - بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك - ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.
95 - وفي هذا القول من انواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره، ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب الضلال بني آدم، وجعل القبور أوثانًا هو أول الشرك.
96 - ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين؛ مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان؛ فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعي أحدهم أنه النبي فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذبًا في ذلك.
97 - وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذلك - الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه - هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما، والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان ويتبين ذلك بأمور:

98 - أحدها؛ أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ في الأرض أو احتجب، ولو كان رجلاً صالحاً أو ملكاً أو جنيًّا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشياطين، كما ثبت في الصحيح(1) من حديث أبي هريرة لما قال له الجني: اقرأ آية الكرسي إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب".
99 - ومنها؛ أن يستعيذ بالله من الشياطين.
100 - ومنها؛ أن يستعيذ بالمعوذة الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء في حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم.
101 - كما جاءت الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشعلة من النار تريد أن تحرقه فأتاه جبريل بالمعوّذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروي عن أبي
__________
(1) البخاري، 40 - الوكالة، 10 - تعليقاً باب إذا وكل رجلاً، فترك الوكيل شيئًا فأجازه فهو جائز، حديث (2311) و 95 - بدء الخلق، 11 - باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3275). والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/285) وفي اليوم والليلة (ص 531 - 533) حديث رقم (958، 959) والدلائل لأبي نعيم (2/475 - 476)، حديث (267)، وانظر الدر المنثور (2/15) وذكر أبو نعيم في الدلائل (2/478) قصة لرجل صارع شيطاناً فصرعه مراراً ثم أخبر الجني ذلك الرجل بأن من قرأ سورة البقرة؛ فإن الشيطان لا يسمع منها بشيء إلا أدبر له هيج كهيج الحمار. فقيل لابن مسعود: ومن ذلك الرجل؟ قال: ومن عسى إلا أن يكون عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وذكر السيوطي في الدر المنثور (2/10، 12) قصة لأبي أسيد وقصة لأبي أيوب مع الجن حيث سرقوا عليهما طعاماً ثم أخبرتهما الجن بأن التحصن من الشياطين يتم بقراءة آية الكرسي.

التياح أنه قال: سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش(1) وكان شيخًا كبيرًا قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه من الشعاب والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فرعب رسول الله صلى الله عليه وسلم / فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! قل، قال: "ما أقول؟" قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق، إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن. قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل(2).
__________
(1) عبد الرحمن بن خنبش (بمعجمة ثم نون ثم موحدة بوزن جعفر وقيل خنيس بمعجمة ثم نون مصغرا) التميمي البصري، عن ابن مسعود وعنه أبو عمران الجوني، وأبو التياح، الإصابة (4/156)، وتعجيل المنفعة (ص 166).
(2) ذكر الحافظ في الإصابة (4/157) أنه أخرجه ابن منده، والبزار، وأبو زرعة في مسنده، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحسن بن سفيان. كلهم من طريق عفان.
وأخرجه أحمد (3/419) قال: ثنا سيار بن حاتم أبو سلمة العنزي قال: ثنا جعفر يعني ابن سليمان، قال ثنا أبو التياح، قال: قلت لعبد الرحمن ابن خنيس التميمي: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. قال: قلت: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين وساق الحديث، ثم ساقه مرة أخرى من طريق عفان ثنا جعفر به.
قال الحافط: وذكره البخاري في الصحابة، وقال: في إسناده نظر. وقال ابن منده: وفي إسناده إرسال. وتعقبه أبو نعيم بأن أبا التياح صرح بسؤاله له يعني فلا إرسال فيه، قال الحافظ: "ولعل ابن منده أراد أنه لم يصرح بسماعه لذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المعتمد على من جزم بأن له صحبة".
وفي الإسناد سيار بن حاتم الضبعي صدوق له أوهام. لكن روايته تتقوى بمتابعة عفان له.

102 - وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتًا من الجن جاء يفتك بي البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله عز وجل منه فذعتُّه(1) أردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام (38 : 35): {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرده الله تعالى خاسئاً"(2).
103 - وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه صلى الله عليه وسلم فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة سليمان لأصبح ذلك موثقاً حتى يراه الناس".
104 - أخرجه النسائي(3) وإسناده على شرط البخاري كما ذكر ذلك أبو عبد الله المقدسي في مختاره الذي هو خير من صحيح الحاكم(4)
__________
(1) نقل البخاري عن النضر بن شميل: أي خنقته. والذعت والدعت - بالدال والذال المضعفتين - الدفع العنيف.
(2) البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 75 - باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، حديث (461) و 60 - كتاب الأنبياء، باب 40، حديث (3423). و 65 - تفسير سورة 38 - باب 2، حديث (4808). ومسلم، كتاب المساجد، حديث (39) (1/384). وأحمد (2/298). والدلائل لأبي نعيم (2/474).
(3) في الكبرى عن إسحاق بن إبراهيم عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش عن حصين ابن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة، انظر تحفة الأشراف (1/479) حديث (16307) وهو إسناد صحيح.
(4) صحيح الحاكم (321 - 405) هو كتابه (المستدرك على الصحيحين) وقد طبع في حيدر أباد الدكن سنة (1335 - 1342 في أربع مجلدات كبيرة. وأبو عبد الله المقدسي. =

105 - وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وأبليس، فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" رواه الإمام أحمد في مسنده(1)، وأبو داود في سننه(2).
106 - وفي صحيح مسلم(3) عن أبي الدرداء أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول "أعوذ بالله منك" ثم قال "ألعنك
__________
= هو ضياء الدين محمد بن عبد الواحد السعدي الدمشقي المتوفى سنة 643، واسم مختاره (الأحاديث الجياد المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما) مرتب على المسانيد على حروف المعجم لا على الأبواب، وهو في 86 جزءًا، وهو يعد للطبع في المكتب الإسلامي.
(1) (3/82 - 83).
(2) (1/448 - 449)، (107)، باب الدنو من السترة، حديث (699) هو وأحمد من طريق أبي أحمد الزبيري، أخبرنا مسرة بن معبد اللخمي قال: حدثني أبو عبيد حاجب سليمان... حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، وذكر أحمد الحديث بطوله واقتصر أبو داود على قوله: "فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل".
ورجال الإسناد كلهم ثقات إلا مسرة بن معبد فإنه صدوق له أوهام، كما قال الحافظ في التقريب (2/242). وقال الذهبي في الكاشف (3/136): "وثق" وقال ابن حَبان في المجروحين (3/42): "كان ممن ينفرد عن الثقات بما ليس من أحاديث الأثبات على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". وقال أبو حاتم: "شيخ ما به بأس".
ويشهد له حديث أبي هريرة وعائشة فيرتقي بهما إلى درجة الحسن.
(3) 5 - كتاب المساجد (1/385)، 8 - باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، حديث (40). والنسائي (3/12 - 13)، كتاب السهو، باب لعن إبليس والتعوذ بالله منه في الصلاة.

بلعنة الله ثلاثاً" وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول شيئاً في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت(1)، ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر(2). ثم أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به وِلدان المدينة".
107 - فإذا كانت الشياطين تأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قمع شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال ومن أعظمها الصلاة والجهاد. وأكثر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد.
108 - فمن كان متبعًا للأنبياء نصره الله سبحانه بما نصر به الأنبياء. وأما من ابتدع دينًا لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلوَّ في الأنبياء والصالحين والشرك بهم فإن هذا يتلعب به الشياطين، قال تعالى (16: 99 - 100): {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
__________
(1) في خ قال: "والتصحيح من مسلم".
(2) في ز، ب، خ: "فاستأخر". والتصحيح من مسلم والنسائي.

وقال تعالى (15: 42): {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ}.
109 - ومنها؛ أن يدعو الرائي بذلك ربَّه تبارك وتعالى ليبين له الحال.
110 - ومنها؛ أن يقول لذلك الشخص: أأنت فلان؟ ويقسم عليه بالأقسام المعظمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين.
111 - وهذا كما كان كثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشًا عظيماً وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة ويظن أن تلك الصورة هي الله تعالى وتقدس، ويكون ذلك شيطاناً.
112 - وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة في /العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر! أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك. قال: فقلت له أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ ياعدو الله. قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر، نجوتَ مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنتُ بهذه القصة سبعين رجلاً. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: "حلَّلت لك ما حرمت على غيرك"، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال أنا ربك، ولم يقدر أن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا.

113 - ومن هؤلاء من اعتقد أن المرئي هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة، ومستندهم ما شاهدوه. وهم صادقون فيما يخبرون به ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان.
114 - وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه في الدنيا لأن كثيراً منهم أُرِيَ ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان.
115 - وكثير منهم رأى من ظن أنه نبي أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً.
116 - وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي"(1)
__________
(1) أخرجه البخاري، 3 - كتاب العلم، 38 - باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم حديث (110)، وفي 78 - كتاب الأدب، 109 - باب من سمى بأسماء الأنبياء، حديث (6197)، وفي 91 - كتاب التعبير، 10 - باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، حديث (6993). ومسلم (4/1775)، 42 - كتاب الرؤيا، 1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "من رآني في المنام فقد رآني"، حديث (10، 11). وابن ماجه، 35 - كتاب التعبير، 2 - باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، حديث (3901). وأحمد (2/232، 411، 463) و(5/306) في مسند أبي قتادة. كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأخرجه البخاري عن أبي قتادة 91 - كتاب التعبير حديث (6995، 6996). ومسلم 42 - كتاب الرؤيا، تابع الحديث (11). وأخرجه البخاري في التعبير، حديث (6994). وأحمد (3/269) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
وأخرجه الترمذي (3/365)، أبواب الرؤيا، باب 3، حديث (2378). وابن ماجه، 35 - كتاب تعبير الرؤيا، باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حديث (3900). وأحمد (1/375، 400، 440) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. =

117 - فهذا في رؤية المنام؛ لأن الرؤية في المنام تكون حقًّا وتكون من الشيطان فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا فمن ظن أن المرئي هو الميت فإنما أُتِيَ من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان(1).
118 - وبعض من رأى - هذا أو صدق من قال: إنه رآه - اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين في حالة واحدة فخالف صريح المعقول.
119 - ومنهم من يقول هذه رقيقة ذلك المرئي أو هذه روحانيته أو هذه معناه لشكل(2) ولا يعرفون أنه جنّي تصور بصورته.
120 - ومنهم من يظن أنه مَلَك، والملك يتميز عن الجني بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفساق والجهال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة.
121 - وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول هي روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه
__________
= وأخرجه مسلم، 42 - كتاب الرؤيا، حديث (12، 13). وابن ماجه 35 - تعبير الرؤيا 1 - باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حديث (3902). وأحمد (3/305) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن ماجه 35 - تعبير، حديث (3904) من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -.
(1) بل إن أكثر أصحاب هذه الدعوى، من المعروفين بالكذب في الأمور المحسوسة الملموسة، فمن كانت هذه حاله لا يصدق فيما يزعم وراء ذلك.
(2) قال السيد رشيد رضا رحمه الله: لعلها "تشكل" أي ظهر في شكل حسي.

من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين.
122 - والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان؛ فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها، وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك، وتارة يجلبون له من يريد من الإنس، وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقًا، وتارة يحملونه في الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد.
123 - فمنهم من يذهبون به إلى مكة عشية عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين؛ لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال.
124 - ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية. فلا يُحرم إذا حاذى الميقات.
125 - ومعلوم أن من أراد نسكا بمكة لم يكن له أن يُجاوز الميقات إلا محرماً، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأمورًا أيضاً بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه قولان مشهوران للعلماء.
126 - وهذا باب واسع، ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
127 - وعند المشركين عبَّاد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من / الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبيًّا كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من

ذلك ما كان من أسباب ضلاله، كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم أو يظنون أنه في صورتهم ويقول أنا فلان ويكلمهم ويقضي بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم وإنما هو من الجن والشياطين.
128 - ومنهم من يقول هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله.
129 - وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه.
130 - وأهل الجاهلية فيها نوعان: نوع يكذّب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله.
131 - فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة فمن رأى ذلك وعاينه موجوداً أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك والعارفين به بالأخبار الصادقة.
132 - ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدّي فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى (10: 62 - 63): {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا

وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، فيرون من هو مِن أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين.
133 - فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلي بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين.
134 - ومنهم من يبقى حائرًا مترددًا شاكاً مرتاباً، يقدم إلى الكفر رِجلاً وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.
135 - وسبب ذلك؛ أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك قال تعالى (26: 221 - 222): {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.
136 - وهؤلاء لا بد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم. وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم وهي دلالة وعلامة على ذلك، والجاهل الضالُّ يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه.
137 - وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلاً على

الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان/ فضلاً عن الولاية ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلاً عليه.
138 - وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين، والمقتصدون قد يستعملونها في المباحات، وأما من استعان بها في المعاصي فهو ظالم لنفسه، متعد حدَّ ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى.
139 - فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها في طاعة الشيطان فهذا المال وإن ناله بسبب عمل صالح فإذا أنفقه في طاعة الشيطان كان وبالاً عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهي تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان، ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام. ولبسط هذه الأمور موضع آخر.
140 - والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان؛ كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهيّ عانقه أو كلمه ظن أن ذلك هو النبي المقبور (أو الشيخ المقبور)(1)، والقبر
__________
(1) سقط من: ز، ب.

لم ينشق وإنما الشيطان مثل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط.
141 - ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذي رآه قد خرج من القبر: نحن لا نبقى في قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشي بين الناس.
142 - ومنهم من يرى ذلك الميت في الجنازة يمشي ويأخذه بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها.
143 - وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبي أو الرجل الصالح أو ملك على صورته.
144 - وربما قالوا: هذا روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص في مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون في الساعة الواحدة في مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسي.
145 - وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدْعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم (وغير قبورهم)(1) من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب، والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى (3: 79 - 80): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ
__________
(1) سقطت من: ز، ب.

وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وقال تعالى (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، وقال تعالى (34: 22 - 23): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
146 - ومثل هذا كثير في القرآن ينهى أن يُدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك. بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من / الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.
147 - فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: "ادع لي" لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدُعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.

148 - ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى: (40: 7 - 9) {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى (42: 5 - 6): {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.
149 - فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد. وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته، هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد.
150 - وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين:
151 - أحدهما: أن ما أمر الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم.
152 - الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يفضي إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة، فلو قُدِّر أن فيه مصلحة لكانت

هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه. بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم. بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة.
153 - وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه.
154 - وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى (94: 7 -8): {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره. وقال تعالى (9: 59): {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى (59: 7): {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فأمرهم بإرضاء الله ورسوله.
155 - وأما في الحَسْب فأمرهم أن يقولوا: {حسبنا الله} لا [أن] يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ويقولوا(1) (9: 59): {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى (24: 25): {ومن يطع الله
__________
(1) في خ: وقالوا.

ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.
156 - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضرُّوك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل/ لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً"(1).
157 - وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً، وقوله: "اذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" هو من أصح ماروى عنه.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/293، 303، 307) من طريقين منقطعين، ومن طرق صحيحة متصلة إلى قيس بن الحجاج الكلاعي المصري وهو صدوق، عن حنش الصنعاني عن ابن عباس - رضي الله عنه - والترمذي (4/667)، 38 - كتاب صفة القيامة، حديث (2516) من طريقين إلى قيس بن الحجاج به. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 174): "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وعبيد الله بن عبد الله وعمرو مولى عفرة وابن أبي مليكة وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي كذا قاله ابن منده وغيره".

158 - وفي المسند لأحمد(1) أن أبا بكر الصديق كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً.
159 - وفي صحيح مسلم(2) عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسرَّ إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئاً. قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث في المسند والذي وجدته في المسند (1/11) عن ابن أبي مليكة قال: "كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه فقال: إن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئاً" وهو ضعيف لانقطاعه لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر - رضي الله عنه -.
وقد ضعفه الشيخ أحمد شاكر (1/180) رقم (65) تحقيقه. وأخرج ابن ماجه (1/588) 8 - كتاب الزكاة، حديث (1836) عن ثوبان بإسناد حسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن يتقبل لي بواحدة أتقبل له بالجنة؟" قلت: أنا. قال: لا تسأل الناس شيئاً.
قال عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ثوبان: "فكان ثوبان يقع سوطه، وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه، حتى ينزل فيأخذه.
وله متابعة في أبي داود (2/295) 3 - كتاب الزكاة، حديث (1643) من طريق شعبة عن عاصم عن أبي العالية عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة". فقال ثوبان: أنا؛ فكان لا يسأل أحداً.
(2) (2/721)، 12 - كتاب الزكاة 35 - باب كراهية المسألة للناس حديث (108). وأخرجه أبو داود (2/294)، 27 - باب كراهية المسألة حديث (1642). وابن ماجه (2/957)، 24 - كتاب الجهاد - باب 41 - باب البيعة، حديث (2867). والنسائي (1/185 - 186) كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلاة.

160 - وفي الصحيحين(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب"، وقال: "هم الذين لا يَسترْقُون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون" فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم. والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك.
161 - وقد روي فيه "ولا يرقون"(2) وهو غلط، فإن رقيتهم(3) لغيرهم ولأنفسهم حسنة.
162 - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه(4).
__________
(1) البخاري، 76 - كتاب الطب، 17 - باب من اكتوى أو كوى غيره، حديث (5705)، و 81 - الرقاق، 21 - باب "ومن يتوكل على الله فهو حسبه، حديث (6472)، و 50 - باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، حديث (6541).
ومسلم (1/199)، 1 - كتاب الإيمان، باب 94، حديث (374). والترمذي 38 - كتاب صفة القيامة، باب 16 - حديث (2446). وأحمد (1/271، 321). كلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما.
وأحمد (1/401، 403) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. ومسلم (1/198)، 1 - كتاب الإيمان، 94 - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، حديث (371، 372) من حديث عمران بن حُصين - رضي الله عنه -.
(2) هذه الزيادة في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رواها من طريق هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهي ضمن الحديث (374) السابق.
(3) في ز، ب: "رقياهم".
(4) يشير - رحمه الله - إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها.
رواه البخاري: 66 - كتاب فضائل القرآن. 14 - باب فضل المعوذات حديث (5016)، و 76 - كتاب الطب، 32 - باب الرقي بالقرآن والمعوذات، حديث (5735). ومسلم، (4/1723)، 39 - كتاب السلام، 20 - باب رقية المريض =

163 - وغيره(1) ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به، فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيره.
164 - وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق(2) قال له جبريل: سل، قال: "حسبي من سؤالي علمه بحالي"(3) ليس له إسناد معروف وهو باطل.
165 - بل الذي ثبت في الصحيح(4) عن ابن عباس أنه قال:
__________
= بالمعوذات والنفث، حديث (50، 51). وأبو داود (4/224)، 22 - كتاب الطب 19 - باب كيف الرقى، حديث (3902). ومالك في الموطأ (2/942 - 943)، 50 - كتاب العين. 4 - باب في التعوذ من المرض، حديث (10). وأحمد (6/104، 114). وابن ماجه (2/1166)، 31 - كتاب الطب، 38 - باب النفث في الرقية حديث (3529).
(1) يشير - رحمه الله - إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً يقول: "أذهب البأس، رب الناس اشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما".
انظر صحيح مسلم (4/1722)، حديث (46 - 84). ومسند أحمد (6/114).
(2) آلة كانت تقذف بها الحجارة على الحصون في الحروب، وقذقوا بها إبراهيم لما أرادوا أن يحرقوه بالنار.
(3) ذكره البغوي في تفسيره تفسير سورة الأنبياء (3/250) قال: وروي عن أبي بن كعب، ثم ذكر قصة إحراق إبراهيم، وذكر خلاله قوله: "حسبي من سؤالي..." إلخ. وقال العجلوني في كشف الخفاء (1/357) بعد ذكره هذا الأثر: وذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء بلفظ وروي عن كعب الأحبار... وذكر قصة من جملتها هذا الأثر، ولعل ذهنه انتقل من أبي بن كعب إلى كعب الأحبار، وذلك أن الموجود في تفسير البغوي في الطبعتين إنما هو عن أبي بن كعب انظر الطبعة بحاشية الخازن (3/331) وكذلك الخازن نفسه (3/230) بالإضافة إلى طبعة دار المعرفة التي أحلنا إليها سابقاً.
فالأمر - كما قال شيخ الإسلام - ليس له إسناد معروف وهو باطل.
(4) البخاري، 65 - كتاب التفسير، 13 - باب {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم}، حديث (4563، 4564). والحاكم في المستدرك (2/298) بإسناد البخاري. =

"حسبي الله ونعم الوكيل" قال ابن عباس: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قال لهم(1) الناس (3: 173): {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.
166 - وقد روي أن جبريل قال: هل لك من حاجة؟ قال: "أما إليك فلا" وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره(2).
167 - وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع(3)، فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه بحالي، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابًا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين.
168 - وهو سبحانه يعلم الأشياء علىماهي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته.
__________
= قال ابن كثير في تفسيره (2/147): "والعجب أن الحاكم رواه من حديث أحمد بن يونس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (5/238).
(1) أي قالوا للرسول وللمؤمنين.
(2) لم أجده في المسند، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره (5/345)، فقال: "وقد ذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ ... الأثر، ولم يعزه إلى المسند، وهو من حفاظ المسند. ورواه ابن جرير في تفسيره (17/45) بإسناده إلى معتمر بن سليمان عن بعض أصحابه، قال: جاء جبريل إلى إبراهيم عليه السلام فذكره، وذكره السيوطي في الدر (5/641) وعزاه إلى ابن جرير فحسب.
(3) سيذكر شيخ الإسلام بعض أدعية إبراهيم فيما يأتي قريباً.

169 - ولكن العبد قد يكون مأمورًا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث:
"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
170 - وفي الترمذي(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" قال الترمذي: حديث حسن غريب.
171 - وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل واحد في موطنه مأمور به، ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفي الركوع ، والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر (بالتسبيح والذكر وفي آخرها يؤمر)(2) بالدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القيام أيضاً وفي الركوع،/ وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل.
172 - فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور، وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه (14: 37 - 41): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ
__________
(1) في (5/184)، 46 - كتاب فضائل القرآن، حديث (2926). والدارمي (2/317)، فضائل القرآن، 6 - باب فضل كلام الله على سائر الكلام، حديث (3359)، كلاهما من حديث عطية ابن سعد العوفي، وهو صدوق يخطيء كثيراً، وكان شيعياً مدلسا، وقد عنعن في هذا الحديث، وقد ذكره الحافظ في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين (ص 50): "وهم من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع" وأورده الحافظ الضياء في كتاب فضائل الأعمال (ص 107).
(2) من قوله: "بالتسبيح" إلى : "يؤمر" سقطت من: ز، ب.

لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. وقال تعالى (2: 127 - 129): {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
173 - وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسنٌ مأمور به، وقد ثبت في الصحيح(1) عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"(2) أي بمثل ما دعوت لأخيك به.
174 - وأما سؤال المخلوق المخلوق(3) أن يقضي حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم فإن الله أمر بسؤال العلم كما في قوله تعالى: (16: 43 و 21: 7): {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
__________
(1) مسلم (4/2094)، 48 - كتاب الذكر، 23 - باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، حديث (86، 87). وابن ماجه (2/967)، 25 - مناسك، 5 - باب فضل دعاء الحاج حديث (2895).
(2) في ز، ب: "بمثله".
(3) سقطت من: ز، ب.

كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: (10: 94): {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وقال تعالى: (43: 45): {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
175 - وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة(1). وهو يزكو على التعليم، لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل. ولهذا يشبه بالمصباح.
176 - وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده.
177 - وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر، للرجل أن يطلب حقه(2) منه كما يطلب حقه
__________
(1) يشير إلى حديث رواه أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - أَمَّا حديث أبي هريرة، فأخرجه أبو داود 19 - كتاب العلم، 9 - باب كراهية منع العلم حديث (3658). والترمذي، 42 - كتاب العلم، 3 - باب ما جاء في كتمان العلم حديث (2649). وابن ماجه، 24 - باب من سئل عن علم فكتمه، حديث (261). وابن عبد البر في جامع بيان العلم (ص4). كلهم من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً. وذكره صاحب مشكاة المصابيح في كتاب العلم حديث (223)، قال الشيخ الألباني - معلقاً عليه -: "صحيح وقد أعلّ بالانقطاع وليس بشيء".
وأما حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - فأخرجه الحاكم في المستدرك (1/102) بإسناده إلى أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو، وقال: "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وليس له علة". وابن حبان (1/169)، حديث (96). وابن عبد البر، جامع بيان العلم (ص5) وهو شاهد لحديث أبي هريرة. وانظر المدخل إلى الصحيح للحاكم (1/88 - 89).
(2) سقطت من: ز، ب.

من الوقف والميراث والوصية، لأن المسئول(1) يجب عليه أداء الحق إلى مستحقيه.
178 - ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية.
179 - وكذلك الغريم له أن يطلب دَينه ممن هو عليه. وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه: فالبائع يسأل الثمن، والمشتري يسأل المبيع. ومن هذا الباب قوله تعالى: (4: 1): {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}.
180 - ومن السؤال ما لا يكون مأموراً به، والمسئول مأمور بإجابة السائل: قال تعالى (93: 10): {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} وقال تعالى (70: 24 - 25): {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وقال تعالى (22: 36): {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}(2).
181 - ومنه الحديث: "إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً"(3) وقوله: /"اقطعوا عني لسان هذا"(4).
__________
(1) في ز، ب: "المستولي".
(2) القانع: الفقير الذي لا يسأل، والمعتر: المتعرض للسؤال.
(3) أخرجه أحمد في المسند (3/4، 16) من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وهو إسناد صحيح؛ لأن الأعمش وإن كان قد عنعن فيه فإنه من روايته عن أبي صالح، وهو من كبار شيوخه وما كان من روايته عن كبار شيوخه يحمل على الاتصال، انظر الميزان للذهبي (2/224).
(4) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/160) وقال: "سببه كما رواه الخطابي في الغريب عن ابن شهاب وذكر مثله عن عكرمة وقال: هما مرسلان". =

182 - وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي تحريم أو تنزيه، وإن كان المسئول مأموراً بإجابة سؤاله. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان من كماله أن يعطي السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهيًّا عنه.
183 - ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا قد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم(1) فقال عمر: يا رسول الله! كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالاً(2) جياعاً! ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو الله بالبركة فإن الله يبارك لنا في دعوتك. وفي رواية: فإن الله سيغيثنا بدعائك(3).
184 - وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى
__________
= وقد رجعت إلى غريب الخطابي في ضوء إشارة المفهرس إلى جزء (2/6) فلم أجده، وذكره ابن الجوزي في غريب الحديث (2/254) وابن الأثير في النهاية (4/83) بدون إسناد.
(1) أي ما يركبون ظهوره من دوابهم.
(2) رجالاً: أي مشاة على أرجلهم.
(3) صحيح مسلم، (1/55 - 56)، كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، حديث 44، 45. والمسند لأبي عوانة (1/7 - 9). والمستخرج لأبي نعيم (ق13/1). كلهم من حديث أبي هريرة وفيها "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك".
وفي البخاري، 47 - كتاب الشركة، حديث، (2484)، 56 - كتاب الجهاد، 123 - باب حمل الزاد في الغزو حديث (2982) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. ولم أجد في الحديثين، قوله: "فإن الله سيغيثنا بدعائك"، ولعل شيخ الإسلام رواه بالمعنى أو أنه في بعض المصادر فلم أقف عليه.

أن يدعو الله له ليرد عليه بصره(1)، وكما سألته أم سُلَيم أن يدعو الله لخادمه أنس(2)، وكما سأله أبو هريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين(3)، ونحو ذلك.
185 - وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله (92: 17 - 21): {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
186 - وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن أمنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" فلم يكن في الصحابة أعظم منَّةً من الصديق في نفسه وماله(4).
__________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) البخاري: 30 - كتاب الصوم، 61 - باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، حديث (1982)، 80 - كتاب الدعوات، 26 - باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله، حديث (6344). ومسلم (4/1928)، 44 - فضائل الصحابة، 32 - باب من فضائل أنس بن مالك - رضي الله عنه -، حديث (141، 144). والترمذي (5/681)، 50 - كتاب المناقب، 46 - باب مناقب أنس، حديث (3829). ومسند الطيالسي (ص 267) حديث (1987). ومسند أحمد (3/108، 193). كلهم عن أنس - رضي الله عنه - عن أم سليم أنها قالت: "يا رسول الله!. أنس خادمك ادع الله له. قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته". واللفظ للترمذي.
(3) أخرجه مسلم (4/1939)، 44 - كتاب فضائل الصحابة 35 - باب من فضائل أبي هريرة، حديث (158)، وهو بقية حديث تقدم (ص 4).
(4) البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 80 - باب الخوخة في المسجد حديث (466)، (7/12) فتح 62 - فضائل الصحابة، 3 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر..."، حديث (3654). وأحمد (1/270) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وأحمد (3/18). ومسلم (4/1854)، 44 - فضائل الصحابة، =

187 - وكان أبو بكر إنما يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنياً بكسبه وماله عن كل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى (26: 127): {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1).
188 - وأما عليٌّ وزيد(2) وغيرهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه، قال تعالى (33: 37): {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، وعليٌّ كان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لجدب أصاب أهل مكة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى عياله وأخذ العباس جعفراً إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع آخر.
__________
= حديث (2). والترمذي (5/608) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ومسلم (4/1855)، 44 - كتاب فضائل الصحابة، حديث (3 - 7) من حديث أبي سعيد ومن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وليس فيه "إن من أمن الناس".
وأحمد (3/478). والترمذي (5/607، 608) من حديث أبي المعلى - رضي الله عنه -.
(1) في خ: كتبت الآية خطأ.
(2) هو زيد بن حارثة الكلبي ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت الآية: {ادعوهم لآبائهم} الأحزاب: 5.

189 - والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بالثمن"(1). فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم.
190 - ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم (76: 9): {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}.
191 - والدعاء جزاء كما في الحديث "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه(2) به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه"(3).
192 - وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى
__________
(1) البخاري (7/230) فتح، 63 - مناقب الأنصار، 45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حديث (3905).
و(10/273 - 274)، 77 - كتاب اللباس، 16 - باب التقنع حديث (5807). وأحمد (6/198) من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها-.
(2) في خ: "تكافئوه"، والتصحيح من: أبي داود.
(3) أخرجه أبو داود (2/310)، 3 - كتاب الزكاة، 38 - باب عطية من سأل بالله، حديث (1672). وأحمد (2/68، 99، 6127). والنسائي (5/61)، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل. مِنْ حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

أجرنا على الله.
193 - وقال بعض السلف إذا قال لك السائل: بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيراً مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبياً أو رجلاً صالحاً أو ملكاً من الملوك أو غنياً من الأغنياء فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً لله يبتغي به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا دعاء ولا غيره، لا من نبي ولا رجل / صالح ولا ملك(1) من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين.
194 - وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل فلا يقبل من أحد ديناً غيره، قال تعالى (3: 85): {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
195 - وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح (10: 72): {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ}، وقال عن إبراهيم (2: 130 - 132): {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الأخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، (10: 84): {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}، وقالت السحرة
__________
(1) سقطت من: ز، ب.

(7: 126): {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، وقال يوسف (12: 101): {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقال تعالى (5: 44): {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}، وقال (5: 111) عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
196 - ودين الإسلام مبني على أصلين(1): أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيُعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أُمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا(2) عن دين الإسلام.
197 - فكلُّ من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. ولا بد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى (98: 4 - 5): {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ *
__________
(1) وقد أفاض شيخ الإسلام بشرح هذا المعنى في كتابه "العبودية" انظر (ص 170)، وراجع المقدمة (ص 16) طبعة المكتب الإسلامي الثانية.
(2) في خ: "خروج".

وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وقال تعالى (39: 1 - 3): {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
198 - فكل ما يفعله المسلم من القُرَب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمورٌ بأن يفعله خالصاً لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غيره.
199 - وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب، بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسئول مأموراً بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك صلى الله عليه وسلم، فإنه أجل قدراً وأغنى بالله من غيره.
200 - فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك.
ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق.
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم النفس.
201 - فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله. وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو

ينتفع بدعائهم له فهو أيضاً ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة.
202 - فإنه ثبت عنه في الصحيح(1) أنه قال:
"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"(2).
203 - ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً(3).
204 - ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال، لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيئاً(4). وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد [يكون] للوالد مثلُ أجره، وإنما ينتفع / الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب.
205 - كما قال في الحديث الصحيح(5):
__________
(1) مسلم (4/2060)، 47 - كتاب العلم، 6 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة، حديث 16. وأبو داود (5/16)، 34 - كتاب السنة، 7 - لزوم السنة، حديث (4609). والترمذي (5/43)، 42 - كتاب العلم، 15 - باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع، حديث (2674) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه (1/74)، المقدمة 14 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة حديث (206). وأحمد (2/397).
(2) في ز، ب: "شيء".
(5) صحيح مسلم (3/1255)، 25 - كتاب الوصية 3 - باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث (14). وأبو داود (3/300)، (12) كتاب الوصايا، 14 - باب ما جاء في الصدقة عن الميت، حديث (2880). والنسائي (6/210)، كتاب =

"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".
206 - فالنبي صلى الله عليه وسلم - فيما يطلبه من أمته من الدعاء - طلبُه طلبُ أمر وترغيب ليس بطلب سؤال. فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذا قد أمر الله به في القرآن بقوله (33: 56): {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة.
207 - ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود كما ثبت في صحيح مسلم(1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في
__________
= الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت. والبخاري في الأدب المفرد (ص 28). والطحاوي في مشكل الآثار (1/85). والبيهقي في السنن الكبرى (6/278). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1) (1/288)، 4 - كتاب الصلاة، 7 - باب استحباب القول مثل قول المؤذن، حديث (11)، وأبو داود (1/359). كتاب الصلاة، 36 - باب ما يقول إذا سمع المؤذن حديث (523). والنسائي (2/22)، كتاب الأذان، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ص (49). وأحمد (2/169). كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
والترمذي (5/586)، 50 - كتاب المناقب، 1 - باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، حديث (3612). وأحمد (2/265، 365) وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص47) وفي إسناده ليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه. وأحمد (3/83) من حديث أبي سعيد الخدري من طريق موسى بن داود عن ابن لهيعة، وابن لهيعة صدوق اختلط بعد احتراق كتبه.

الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة".
208 - وفي صحيح البخاري(1) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. حلت له شفاعتي يوم القيامة".
209 - فقد رغَّب المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة، وبيَّن أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فإن الجزاء من جنس العمل.
210 - ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد(2) وأبو داود(3)
__________
(1) 10 - كتاب الأذان، 8 - باب الدعاء عند النداء، حديث (614). وأبو داود (1/362)، 2 - كتاب الصلاة، 38 - باب ما جاء في الدعاء عند الأذان، حديث (526). والنسائي (2/22) كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان. والترمذي (1/413). أبواب الصلاة، باب 157، حديث (211). وأحمد (3/354). وابن ماجه (1/239)، 3 - كتاب الأذان، حديث (722). والسنن الكبرى للبيهقي (1/410). كلهم من حديث جابر - رضي الله عنه -.
أَمَّا كلمة "الدرجة الرفيعة" فهي مدرجة ولم يذكرها أحد إلا ابن السني.
وكذلك كلمة "إنك لا تخلف الميعاد" عند البيهقي، فهي شاذة.
وهاتان الكلمتان لعلهما من زيادة بعض نساخ هذا الكتاب. والله أعلم. انظر: الإرواء (1/260، 261).
(2) (1/29).
(3) (2/169)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء، حديث (1498).

والترمذي(1) وصححه، وابن ماجه(2) أن عمر بن الخطاب استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: "ولا تنسنا يا أخي من دعائك".
211 - فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه. وهو صلى الله عليه وسلم أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له.
212 - ومن هذا الباب قول القائل: إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت" قال: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت(3) فهو خير لك" قال: النصف؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير لك" قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإذا زدت فهو خير لك" قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تُكفى همك ويُغفر لك ذنبك" رواه أحمد(4) في مسنده والترمذي(5)
__________
(1) (5/559)، 49 - كتاب الدعوات، باب 110 حديث (3562) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2) (2/966)، 25 - كتاب المناسك 5 - باب فضل دعاء الحاج، حديث (2894). كلهم من طريق عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن سالم عن أبيه أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم به.
وعاصم ضعيف. وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/690) وفي ضعيف الجامع (6/78).
(3) في خ: "أردت".
(4) (5/136) من حديث وكيع.
(5) (4/636 - 637)، 38 - كتاب صفة القيامة، باب 23 حديث (2457) من حديث قبيصة.

وغيرهما(1).
213 - وقد بسط الكلام عليه في (جواب المسائل البغدادية)(2).
214 - فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: "آمين، ولك بمثلٍ"(3) فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك.
215 - ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أو لنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضاً بأمره وبفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.
216 - وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك،
__________
(1) منهم الحاكم في المستدرك (2/421) من طريق قبيصة.
والإمام إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 29)، حديث (14) من طريق سعيد بن سلام العطار. كلهم عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، وقال العلامة الألباني في تعليقه عليه: "حديث جيد".
وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل لينه أبو حاتم الرازي وابن خزيمة واحتج بحديثه أحمد وإسحاق، ووثقه البخاري والترمذي وحسن الذهبي حديثه، وهو الأعدل والأقرب.
(2) يبحث عن جواب المسائل البغدادية.
(3) تقدم تخريجه في ص 61.

بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تَرْكه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله(1) أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع.
217 - وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة بل إمّا أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع.
218 - فقد تبين أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الدعاء من غيره هو من باب الإحسان إلى الناس / الذي هو واجب أو مستحب.
219 - وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حقٌّ الحقِّ في الدنيا والآخرة، والزكاة حقٌّ الخلق.
220 - فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً. ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله سبحانه به كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين،
__________
(1) في ز، ب: "ورسوله" وهذا خطأ فاحش من الطابعين، والصواب وسؤاله كما في الأصل لأنه لا يجوز أن تكون الرغبة إلى غير الله، كما قال تعالى: {وإلى ربك فارغب} سورة الشرح: 8، {إنا إلى الله راغبون}. سورة التوبة: 59.

فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو بهم(1)، لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين، وكانوا مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم. فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة.
221 - فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد. فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال تعالى (4: 36): {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها.
222 - وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه الحاكم في صحيحه(2).
__________
(1) في ز، ب: "أنهم" بدل "بهم" وهو غلط.
(2) المستدرك (2/613). وأحمد (2/381). والبخاري: في الأدب المفرد (ص 104)، حديث (273). وابن سعد في الطبقات (1/192). كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وحسن الألباني إسناده، ثم قال: وله شاهد. أخرجه ابن وهب في الجامع (ص 75)، أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم مرفوعاً به، وهذا مرسل حسن الإسناد، =

223 - وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى"(1).
__________
= فالحديث صحيح، وقد رواه مالك في الموطأ (2/904)، وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره.
انظر الصحيحة (1/75) حديث (45).
(1) البخاري، 24 - كتاب الوصايا، باب 9 - حديث (2750). و 24 - كتاب الزكاة، 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، حديث (1427)، ومسلم (2/718)، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، حديث (96). وأحمد (3/402). والنسائي (5/45)، كتاب الزكاة، باب اليد العليا. والدارمي (1/327) 22 - باب فضل اليد العليا، حديث (1660). كلهم من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -.
والبخاري 24 - كتاب الزكاة، باب 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني حديث (1429). ومسلم (2/717)، 12 - كتاب الزكاة، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، حديث (94). والنسائي (5/26) كتاب الزكاة، باب اليد السفلى. أحمد (2/4). وأبو داود (2/297). 3 - كتاب الزكاة، 28 - باب الاستعفاف، حديث (1648). والدارمي (2/327)، كتاب الزكاة، باب فضل اليد العليا، حديث (1659). والموطأ (2/998)، 58 - كتاب الصدقة، حديث (8). كلهم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
والبخاري، كتاب الزكاة، حديث (1428) حوالة على حديث حكيم. والنسائي (5/46)، كتاب الزكاة، باب الصدقة عن ظهر غني. والترمذي (3/55)، 5 - كتاب الزكاة، 38 - باب ما جاء في النهي عن المسألة، حديث (680). وأحمد (2/230). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومسلم (2/718)، 12 - كتاب الزكاة، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من السفلى، حديث (97). وأحمد (5/262) من حديث أبي أمامة.
وأحمد (3/330، 346)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.
وقال الترمذي عقب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وفي الباب عن حكيم بن حزام، وأبي سعيد الخدري، والزبير بن العوام، وعطية السعدي، وعبد الله ابن مسعود، ومسعود بن عمرو، وابن عباس، وثوبان، وزياد بن الحارث الصدائي، وأنس، وحبشي ابن جنادة وقبيصة بن مخارق، وسمرة، وابن عمر - رضي الله عنهم أجمعين -.

224 - وقال: "اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة(1)"(2).
225 - وهذا ثابت عنه في الصحيح. فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم؟.
226 - وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه وأن يحب كما يحب الله؟
227 - وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟.
228 - فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها، ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول، قال تعالى (36: 60 - 62): {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ
__________
(1) في ز: "هي السائلة".
(2) البخاري 24 - الزكاة، 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، حديث (1429). وأخرجه مسلم (2/717)، 12 - الزكاة حديث (94). والنسائي (5/46)، كتاب الزكاة، باب أيتها هي العليا. وأبو داود (2/297) 3 - كتاب الزكاة، 28 - باب في الاستعفاف حديث (1648). ومالك في الموطأ (2/998)، 58 - كتاب الصدقة، حديث (8). وأحمد (1/446).
وهو جزء من حديث ابن عمر، الذي سبق تخريجه ويشهد لهذا الجزء حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيدي ثلاثة؛ فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى".
وفيه إبراهيم بن مسلم الهَجَري، لين الحديث لكنه يصلح للاستشهاد.

لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}، وقال تعالى (15: 42): {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ}، وقال تعالى (16: 98 - 99): {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، وقال تعالى (43: 36 - 37): {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}، وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزل الله على رسوله الذي قال فيه (15: 9): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقال تعالى (20 : 123 - 126): {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}، وقد قال تعالى (7: 1 - 3)، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقد قال تعالى (14: 1 - 2): {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، وقال تعالى (42: 52 - 53): {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الأيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا

نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ/ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}.
229 - فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر، وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر، لا طريق إلى الله إلا ذلك. وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين، وكل ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغي والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا فقال تعالى (53: 1 - 4): {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى} وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
230 - وقد روى الترمذي(1) وغيره عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون". قال الترمذي: حديث صحيح.
__________
(1) (5/203)، 48 - كتاب التفسير، سورة الفاتحة، جزء من حديث برقم (2953)، (5/204)، حديث (2954). وأحمد (4/378) كلاهما من طريق سماك بن حرب، سمعت عباد ابن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم، وساقا حديثاً طويلاً منه هذا القدر الذي ساقه شيخ الإسلام.
وعباد بن حبيش مقبول لكن له متابعتان رواهما ابن جرير في تفسيره (1/79 - 80).
1 - قال: حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عن عدي بن حاتم مرفوعاً.
2 - من طريق محمد بن مصعب عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم مرفوعاً. بلفظ "المغضوب عليهم هم اليهود". =

231 - وقال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى.
232 - وكان غير واحد من السلف يقول: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
233 - فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم (2: 44): {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
234 - ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم (5: 77): {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
235 - فالأول من الغاوين، والثاني من الضالين؛ فإن الغي اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى، قال تعالى (7: 175 - 176): {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال تعالى (7: 146): {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ
__________
= وله شاهد مرسل رواه ابن جرير في الموضع المشار إليه. من طرق إلى عبد الله بن شقيق. وبهاتين المتابعتين والشاهد المرسل تتقوى رواية عباد بن حبيش فترتقي إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.

يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. ومن جمع الضلال والغي ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء. نسأل الله تعالى(1) أن يهدينا وسائر إخواننا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
__________
(1) سقطت من: ز، ب.

فصل
236 - إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ "الوسيلة" و"التوسل" فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك.
237 - ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
238 - فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى (5: 35): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وفي قوله تعالى (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
239 - فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.
240 - فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً.

241 - فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول/ فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصلُ ذلك الإيمان بما جاء به الرسول.
242 - فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى ذلك إلا ذلك.
243 - والثاني لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : "سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة"(1).
244 - وقوله: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد(2)، حلت له الشفاعة".
245 - فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه(3) الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه
__________
(1) تقدم تخريجه في ص (72) رقم (1).
(2) تقدم تخريجه في (ص 73) رقم (1).
(3) سقطت من: ز، ب.

بها عشرا(1).
246 - وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.
247 - والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون ويسألون(2) بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح.
248 - وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به(3) معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
فأما المعنيان الأولان - الصحيحان باتفاق العلماء -
فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.
والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم.
فهذان جائزان بإجماع المسلمين.
249 - ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا(4). أي بدعائه وشفاعته.
__________
(1) هذا جزء من الحديث الذي تقدم تخريجه في (ص 72) رقم (1).
(2) سقط من: ز، ب.
(3) كلمة "يراد به" سقطت من: ز.
(4) أخرجه البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، 3 - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث (1010)، و 62 - كتاب فضائل الصحابة، 11 - باب ذكر =

وقوله تعالى (5: 35): {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة إليه بطاعته. وطاعةُ رسوله طاعته، قال تعالى (4: 80): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاع الله}.
250 - فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسُّل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً.
251 - فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:
أحدهما: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
252 - والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
253 - والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف
__________
= العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حديث (3710). وابن سعد في الطبقات (4/28 - 29).
والبيهقي في السنن الكبرى (3/88). كلهم من حديث أنس - رضي الله عنه -.

هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
254 - وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك/.
255 - قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة.
256 - قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وأكره أن يقول: "بمعاقد العز من عرشك" أو "بحق خلقك". وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام(1).
257 - قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقاً.
258 - وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:
__________
(1) انظر: الجامع الصغير للشيباني مع النافع الكبير للكنوي ص 395، والهداية (2/402) ط الهندية والفتاوى البزازية (3/351)، الدر المختار في الفقه الحنفي (2/630). الفتاوى الهندية (5/280). وشرح الإحياء للزبيدي (2/285).

259 - أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فَلأنْ يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى.
260 - وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقا، والصافات صفا.
261 - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
262 - "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ "فقد كفر" وقد صححه الحاكم.
263 - وقد ثبت عنه في الصحيحين(2) أنه قال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وقال: "لا تحلفوا
__________
(1) الترمذي (4/110) وحسنه، 21 - كتاب النذور والأيمان 8 - باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، حديث (1535). وأحمد (2/34، 86، 125). وأبو داود (3/570)، 16 - كتاب الأيمان والنذور، 5 - باب كراهية الحلف بالآباء، حديث (3251). وابن حبان كما في الموارد (ص 286)، حديث (1177). والحاكم (1/18) كتاب الأيمان، و (4/297) كتاب الأيمان والنذور. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي"، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 257 حديث 1896، والبيهقي في السنن (10، 29) كتاب الأيمان. والطحاوي في المشكل (1/359) من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(2) البخاري، 83 - كتاب الأيمان والنذور، 4 - باب لاتحلفوا بآبائكم، حديث (6646)، 52 - كتاب الشهادات، 26 - باب كيف يستحلف حديث (2679)، 78 - كتاب الأدب، (6108). ومسلم (3/1266)، 27 - كتاب الأيمان، حديث =

إلا بالله"(1).
وقال: "لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"(2).
264 - وفي الصحيحين(3) عنه أنه قال: "من حلف باللات والعُزَّى فليقل: لا إله إلا الله".
265 - وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وأيمان السذق(4) وسراويل
__________
= (3، 4). والدارمي (2/106)، حديث (2346). ومالك في الموطأ، (2/480)، 22 - كتاب النذور والأيمان 9 - باب جامع الأيمان حديث (14). وأحمد (2/7، 11). كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
(1) سقط من ز قوله: "وقال: لا تحلفوا إلا بالله"، ومن ب قوله: "ليصمت" وقال لا تحلفوا إلا بالله.
والحديث أخرجه أبو داود (3/569) 16 - 5 باب كراهية الحلف بالآباء حديث (3248) من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون والنسائي (7/5 - 6) بإسناده ومتنه وإسناده صحيح.
(2) هو جزء من حديث ابن عمر السابق.
(3) أخرجه البخاري 83 - كتاب الأيمان والنذور. 5 - باب لا يحلف باللات والعزى، حديث (6650). ومسلم (2/1267)، 27 - كتاب الأيمان 2 - باب من حلف باللات والعزى، حديث (5، 6). وأبو داود (3/568)، 16 - كتاب الأيمان والنذور. 4 - باب الحلف بالأنداد، حديث (3247). والترمذي (4/116)، 21 - كتاب الأيمان والنذور، باب 17 حديث (1545). والنسائي (7/7) باب الحلف باللات. وأحمد (2/309).
(4) لعلها "السذق" فارسية معربة وهي ليلة الوقود يعظمها المجوس، أو تكون مصحفة عن الصدق كما يدرج في لهجة العوام من الدروز.

الفتوة وغير ذلك لا ينعقد يمينه ولا كفارة في الحلف بذلك.
266 - والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور(1) وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.
وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه.
267 - والأول أصح حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله(2) ابن عباس وعبد الله بن عمر: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن
__________
(1) بل حكى ابن حزم الإجماع على ذلك، فقال في مراتب الإجماع (ص 158):
"واتفقوا أن من حلف ممن ذكرنا بحق زيد أو عمرو أو بحق ابنه أنه آثم".
يريد بقوله من ذكر؛ الحر والعبد الذكر والأنثى البالغين العقلاء غير المكرهين ولا الغضاب ولا السكارى، فإنه ذكرهم قبل هذه الفقرة.
(2) روى عبد الرزاق عن الثوري، عن أبي سلمة عن وبرة، قال:
قال عبد الله - لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر -: لأن أحلف بالله كاذباً، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً (المصنف 8/469).
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/177). وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، وهو في الطبراني (9/205) حديث (8902).
وفي المدونة (2/108) ابن وهب عن سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن وبرة أن ابن مسعود كان يقول: لأن أحلف بالله كاذباً... إلخ.
وفي المدونة (2/108) "وقال ابن عباس لرجل حلف بابنه: لأن أحلف مائة مرة بالله، ثم آثم أحب إلي من أن أحلف بغيره واحدة ثم أبر".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبد الله بن الزبير يخبر، أن عمر لما كان بالمخمص من عسفان استبق الناس فسبقهم عمر، فقال ابن الزبير، فانتهرت فسبقته، فقلت سبقته والكعبة.
... ثم انتهر الثالثة فسبقني، فقال: سبقته والله، ثم أناخ فقال:
والله لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك أحلف بالله فأثم أو أبرر".
المصنف (8/468). وأخرجه البيهقي (10/29) من طريق الوليد بن مسلم مختصراً، وفيه فأراد أن يضربني وفي هذا الأثر "أن عمر يرى أن الحلف بالله وإن أثم فيه أهون من الحلف بغيره باراً وهو معنى قول ابن مسعود".

أحلف بغير الله صادقاً. وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب.
268 - وإنما يعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان:
إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور؛ مالك وأبي حنيفة والشافعي.
والثانية: ينعقد اليمين به واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء.
وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء.
269 - وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص فالإقسام به على الله - والسؤال به بمعنى الإقسام - هو من هذا الجنس.
270 - وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم - وبينهما فرق - فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم.
271 - وثبت عنه في الصحيحين(1) أنه قال: "إن من عباد الله
__________
(1) أخرجه البخاري (5/306) مع الفتح، 53 - كتاب الصلح، 8 - باب الصلح في الدية، حديث (2703)، (6/21) مع الفتح، 56 - كتاب الجهاد، حديث (2806). ومسلم (3/1302)، 28 - كتاب القسامة، 5 - باب إثبات القصاص في الأسنان، حديث (24). وأبو داود (4/717)، 33 - كتاب الديات، 32 - باب القصاص من =

من لو أقسم على الله لأبره" قال ذلك لما قال أنس بن النضر: أتكسرُ(1) ثنية الربيع؟ قال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها. فقال: "يا أنس كتابُ. الله القصاص"، فرضي القوم وعفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
272 - وقال: "ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" رواه مسلم(2) وغيره.
__________
= السن، حديث (4595). والنسائي (8/24)، القسامة، باب القصاص في السن، وباب القصاص من الثنية. والترمذي (5/693) 50 - كتاب المناقب، 55 - باب مناقب البراء بن مالك، حديث (3854). وابن ماجه (2/884)، 21 - كتاب الديات، 16 - باب القصاص في السن، حديث (2649). وأحمد (3/128، 167) كلهم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(1) في النسخ المطبوعة: "نكسر بالنون" وهو تصحيف.
(2) (4/2024)، 45 - باب فضل الضعفاء والخاملين حديث (138)، و (4/2190)، 51 - كتاب الجنة، حديث (48) في الموضعين عن سويد بن سعيد، حدثني حفص بن ميسرة عن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً وسويد بن سعيد، قال فيه الذهبي: كان يحفظ لكنه تغير الكاشف (1/411). وقال الحافظ: صدوق في نفسه إلاَّ أنه عمي فصار يتلقن، التقريب (1/340).
وقد رواه مسلم في الموضع الثاني في الشواهد، وله متابعة رواها الحاكم في "المستدرك" (4/328)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/292). وأبو نعيم من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
ورواها أبو نعيم في الحلية (1/7) بهذا الإسناد إلاَّ أنه قال: عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال الحاكم عقب هذا الحديث: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
قال الشيخ الألباني - حفظه الله - معلقاً على الحاكم والذهبي:
قلت: وفيه نظر؛ فإن المطلب ابن عبد الله صدوق كثير التدليس كما في التقريب، وقد عنعنه، وكثير بن زيد، وهو المدني.
قال الحافظ: صدوق يخطئ تخريج أحاديث مشكلة الفقر (ص 79). =

273 - وقال: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار/ كل عُتُلّ جوّاظ(1) مستكبر"(2).
وهذا في الصحيحين وكذلك [حديث] أنس بن النضر والآخر
__________
= أقول أنا الضعيف: قد روى أبو نعيم هذا الحديث عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، وصوب الحافظ أنه رباح بن الوليد وهو صدوق؛ فإن كان كثير روى عنهما ففي رواية أبي نعيم متابعة رباح بن الوليد للمطلب بن عبد الله وانزاحت تهمة التدليس عن رواية المطلب.
ويجوز في هاتين الروايتين أمران آخران: الأول؛ أن تكون إحداهما محفوظة والأخرى شاذة أو منكرة، لكن ليس لدينا من القرائن ما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى وينشأ عن هذا الأمر الثاني؛ وهو أن يكون هذا من اضطراب كثير بن زيد لأنه ليس بالحافظ وهو الذي يغلب على الظن.
وعلى ثبوت هذه العلة فإن حديث أبي هريرة في غنى عن هذه المتابعة.
فإن الإمام مسلما - رحمه الله - أورده شاهداً لحديث حارثة بن وهب الخزاعي الذي رواه بلفظ "ألا أخبركم بأهل الجنة؟" قالوا: بلى، قال: "كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره..." الحديث، وهو في كتاب الجنة برقم، (46، 47) قبل حديث أبي هريرة مباشرة.
ورواه البخاري في 65 - كتاب التفسير سورة 68، حديث (4918). وابن ماجه (2/1378)، 37 - كتاب الزهد، حديث (4116). وأحمد (4/306). والطحاوي في المشكل (1/293).
كما يشهد له حديث أنس السابق.
ولأنس رواية أخرى بلفظ "كم أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره". أخرجه الترمذي (5/693). 50 - كتاب المناقب، باب مناقب البراء بن مالك، حديث (3854) وله شاهدان آخران:
أحدهما: عن حذيفة أخرجه أحمد (5/407).
وثانيهما: عن سراقة بن مالك أخرجه الحاكم (3/619).
(1) العتل: الغليظ الجافي. من العتلة وهي حديدة كبيرة يقلع بها الحجر. والجواظ: الكثير اللحم المختال في مشيته.
(2) أخرجه مسلم 51 - كتاب الجن 13 - باب النار يدخلها الجبارون حديث 46.

من أفراد مسلم(1).
274 - وقد روى في قوله: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"(2) أنه قال: "منهم البراء بن مالك"(3).
275 - وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء، أقسم على ربك. فيقسم على الله فينهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء أقسم على ربك. فقال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتفاهم وجعلتني أول شهيد. فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب(4).
276 - والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا؛ فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه
__________
(1) سبق تخريجه (ص 92) رقم (1).
(2) سبق تخريجه (ص 93) رقم (2).
(3) البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري النَّجاري البطل الكرار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها إلا بدراً، وشهد وقعة اليمامة، مات سنة 20. ترجمته في أسد الغابة (1/206)، والإصابة (1/147)، وتاريخ الطبري (3/209)، وسير أعلام النبلاء (1/195).
(4) أخرجه خليفة في تاريخه ص 109 من طريق ابن إسحاق معضلاً ومن طريق الأنصاري عن أبيه عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه، ولم نقف لأبيه على ترجمة ولعله عن عمه ثمامة.
وعلى كل حال، فالأنصاري هو عبد الله بن المثنى وهو صدوق كثير الغلط، فالأثر ضعيف لا يثبت - والله أعلم -.

عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله فالكفارة على الحالف الحانث.
277 - وأما قوله: "سألتك بالله أن تفعل كذا" فهذا سؤال وليس بقسم، وفي الحديث "من سألكم بالله فأعطوه"(1) ولا كفارة علىهذا إذا لم يجب سؤاله.
278 - والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا(2).
وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون.
279 - فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام(3).
__________
(1) تقدم تخريجه ص 67.
(2) إشارة إلى الآية 67 من سورة الإسراء.
(3) صحيح: أخرجه الترمذي (5/550)، 49 - كتاب الدعوات، 100 - باب خلق الله مائة رحمة حديث (3544). وابن ماجه (2/1268)، 34 - كتاب الدعاء، 9 - باب اسم الله الأعظم، حديث (3858). والنسائي (3/44) كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر. وأحمد (3/120، 158، 245، 265). وأبو داود 2/167)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء، حديث (1495). كلهم من طرق عن أنس - رضي الله عنه - بلفظ "اللهم إني أسألك..." مختصراً أحياناً ومطولاً أخرى. فأحمد في طريق، وأبو داود، والنسائي رووه من طريق خلف بن خليفة عن حفص بن عمر - ابن أخي أنس - عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً.
وهذا إسناد حسن، والحديث من هذين الطريقين صحيح لغيره. =

280 - وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد(1).
281 - وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك(2).
__________
= ثم رواه أحمد فقال: حدثنا وكيع، حدثني أبو خزيمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك وهو إسناد حسن - أيضاً -.
أَمَّا الترمذي ففي إسناده سعيد بن زربي وهو منكر الحديث.
ثم رواه أحمد من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن عاصم الأحول عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة.
وفي هذا الإسناد سلمة بن الفضل الأبرشي قاضي الري صدوق كثير الخطأ، ومحمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن فالمعول في ثبوت الحديث على الإسنادين الأولين ويستأنس لهما بالأخير.
(1) أخرجه أبو داود (2/167)، كتاب الصلاة 358 - باب الدعاء حديث (1493). والترمذي (5/515)، 49 - كتاب جامع الدعوات حديث (3475). وابن ماجه (2/1267) 34 - كتاب الدعاء حديث (3857). وأحمد (5/349). بأسانيدهم إلى مالك بن مِغْوَل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بلفظ "اللهم إني أشهد أنك أنت الله" ... إلخ وعند ابن ماجه "بأنك أنت الله" وهو إسناد صحيح.
وأخرجه النسائي (3/45) عن عمرو بن يزيد قال: عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي قال حدثنا حسين المعلم عن ابن بريد، قال حدثني حنطلة بن علي أن محجن بن الأردح بلفظ "اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد"، وعمرو بن يزيد قال الذهبي في الكاشف ضعفوه، وفي الميزان (3/293).
قال يحيى: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف.
وهذه المخالفة التي وقعت في الإسناد لعلها من عمرو بن يزيد وهو ضعيف كما عرفت فلا تأثير لها؛ لأن الرواة عن مالك بن مغول من كبار الحفاظ مثل زهير بن معاوية، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (1/391، 452). وأبو يعلى في مسنده (ق 156/1) كما في الصحيحة للألباني (1/177). والطبراني في الكبير (10/209 - 210) حديث =

282 - فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً(1) عليه، فإن أفعاله هي مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو. ولهذا لما قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن وافقتُ ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني"(2).
283 - وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر
__________
= (10352). وابن حبان كما في الموارد (ص 589) رقم 3272). والحاكم (1/509) كتاب الدعاء.
من طريق فضيل بن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن"، "فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك عدل فيَّ فضاؤك أسألك بكل اسم هو لك..." الحديث، وللحديث شاهد عن أبي موسى الأشعري أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 133). حديث (341) بإسناد لا بأس به عن فياض بن غزوان عن عبد الله بن زبيد عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال الشيخ الألباني - بعد بحث نفيس -: "وجملة القول: أن الحديث صحيح، من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى - رضي الله عنهما - وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، وتلميذه ابن القيم وقد صرح بذلك في أكثر كتبه منها "شفاء العليل" (ص 274)".
(1) في خ: "إقسام" وهو خطأ.
(2) صحيح: أخرجه الترمذي (5/534)، 49 - كتاب الدعوات، باب 85 حديث (3513). وابن ماجه (2/1265)، 34 - كتاب الدعاء، 5 - باب الدعاء في حديث (3850). وأحمد (6/171، 182، 183، 208، 258) كلهم من طرق صحيحة، إلى كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة - رضي الله عنها -. وأحمد والحاكم (1/530)، كتاب الدعاء عن أبي النضر، ثنا الأشجعي عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عند أحمد (6/258) وعند الحاكم عن سليمان بن بريدة عن عائشة.
وعند أحمد وحده عن يزيد وعن علي بن عاصم كليهما عن الجريري عن عبد الله بن بريدة، فالحديث صحيح.

المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول: يادليل الحيارى دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.
284 - وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب، ولهذا يقال في الدعاء: يا رب يا رب كما قال آدم (7: 23): {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، وقال نوح (11: 47): {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقال إبراهيم (14: 37): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ...} وكذلك سائر الأنبياء.
285 - وقد كره مالك وابن أبي عمران من أصحاب أبي حنيفة وغيرهما أن يقول الداعي يا سيدي يا سيدي(1) وقالوا: قل كما قالت الأنبياء، رب رب.
286 - واسمه الحي القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إذا اجتهد في الدعاء(2).
__________
(1) في ز، ب: "يا سيدي" مرة واحدة.
(2) يشير إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم".
أخرجه الترمذي (5/495 - 496) 49 - كتاب الدعوات 40 - باب ما يقول عند الكرب، حديث (3436) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وفيه نظر؛ فإن في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي قال فيه الذهبي: ضعفوه. الكاشف (1/89). وقال الحافظ: متروك. التقريب (1/41). =

287 - فإذا سئل المسئول بشيء - والباء للسبب - سئل بسبب يقتضي وجود المسئول، فإذا قال: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض(1)، كان كونه محموداً مناناً بديع السموات والأرض يقتضي أن يمن على عبده السائل، وكونه محموداً هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه.
288 - ولهذا أمر المصلي أن يقول "سمع الله لمن حمده" أي استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن / دعاء لا يسمع"(2) أي لا يستجاب.
__________
لكن يشهد له حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
رواه الترمذي (5/539)، 49 - كتاب الدعوات، حديث (3524). وفي إسناده يزيد ابن أبان الرقاشي ضعيف.
كما يشهد له حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل به هم أو غم، قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
أخرجه الحاكم (1/509) كتاب الدعاء، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بأن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. والصحيح أن عبد الرحمن قد ثبت سماعه من أبيه قال بذلك جماعة من الأئمة. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وانظر: تهذيب التهذيب (6/213 - 214) فالحديث بمجموع طرقه حسن لغيره والله أعلم. ولا ينقصه عن هذه المرتبة وجود من لا يحتج به في إسناد حديث ابن مسعود، فإن كونهم لا يحتج بهم لا يمنع الاستشهاد والتقوية بهم.
(1) تقدم تخريجه ص 96 رقم (3).
(2) صحيح. أخرجه مسلم (4/2088)، 48 - كتاب الذكر، 18 - باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، حديث (73). والنسائي (2/228). وأبو داود (2/192)، كتاب الصلاة، 367، باب في الاستعاذة، كلاهما من حديث زيد بن أرقم، حديث (1548). =

289 - ومنه قول الخليل في آخر دعائه (34: 39): {إن ربي لسميع الدعاء}، ومنه قوله تعالى (9: 47): {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، وقوله (5: 41): {وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي يقبلون الكذب ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك(1) أي لم يأتك أولئك الأقوام، ولهذا أمر المصلي أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه.
290 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلي ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال: "عَجِلَ هذا" ثم دعاه فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليدع بعد بما شاء" أخرجه أبو داود(2) والترمذي(3) وصححه.
__________
= وابن ماجه (2/1261) 34 - كتاب الدعاء، حديث (3837). وأحمد (2/340، 365، 451).
والنسائي (8/231)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من نفس لا تشبع، كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
والنسائي (8/223)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، والترمذي (5/519) حديث (3482) وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
وأحمد (2/167، 198) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. وأحمد أيضاً - (3/192، 255، 283) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(1) انظر ص 101 حاشية (1)
(2) سقط من: ز، ب من قوله: "أي يقبلون" إلى "لم يأتوك".
(3) أبو داود (2/162)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء حديث (1481). والترمذي (5/517)، 49 - كتاب الدعوات، باب 65، حديث (7477). والنسائي (3/38) كتاب السهو، باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأحمد (6/18) كلهم من حديث فضالة بن عبيد. ورجاله ثقات إلا حميد بن هانئ قال فيه الذهبي: ثقة. وقال الحافظ: لا بأس به. فهو صحيح أو من أعلى درجات الحسن.

291 - وقال عبد الله بن مسعود: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَلْ تُعْطَه" رواه الترمذي(1) وحسنه.
292 - فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك، ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم. قال تعالى (8: 23): {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاَسْمَعَهُمْ} ثم قال: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} على هذه الحال التي هم عليها لم يقبلوا الحق ثم {لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن ولو فهموه لم يعملوا به.
293 - وإذا قال السائل لغيره: أسألك بالله. فإنما سأله بإيمانه بالله وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كف الظلم، فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضياً لمسببه من أمر الله تعالى.
294 - وقد جاء فيه حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه،
__________
(1) (2/488)، أبواب الصلاة، 416 - باب ما ذكر في الثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، حديث (593) من طريق عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام كما في التقريب، ففي حديثه ضعف يسير، لكن يشهد له ويقويه حديث فضالة بن عبيد عند الترمذي، 49 - كتاب الدعوات، حديث (3476) وفي إسناده رشدين بن سعد فيه ضعف. وعند النسائي (3/38) وهو جزء من الحديث السابق، بلفظ: "وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع تجب وسل تعط".

عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: "وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك"(1) فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم.
295 - كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سبباً لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى (42: 26): {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.
296 - وكما يُسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين (3: 193): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلأيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} وقوله (23: 109 - 110): {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}.
297 - ويشبه هذا مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني"(2).
__________
(1) سيأتي ص (214 - 215).
(2) أخرجه مسلم (3/1383 - 1384)، 32 - كتاب الجهاد والسير، 16 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لانورث ما تركناه صدقة". حديث (58). الترمذي (5/269)، 48 - كتاب تفسير القرآن، باب 9 سورة الأنفال، حديث (3079). أحمد (1/30، 32). =

298 - وكذلك ما في التوراة أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم.
299 - ومن السؤال بالأعمال الصالحة سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله، لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه محبة تقتضي إجابة صاحبه: هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه(1).
300 - وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر: "اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سَحَر فاغفر لي"(2).
301 - ومنه حديث ابن عمر أنه كان يقول على الصفا: "اللهم إنك قلت، وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم}، وإنك لا تخلف الميعاد" ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر أنه كان يقول على الصفا(3).
__________
= كلهم من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حديث طويل يروي فيه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناشدته له يوم بدر.
(1) حديث الثلاثة في البخاري 605 - كتاب أحاديث الأنبياء 53 - باب حديث الغار، حديث (3465)، و78 - كتاب الأدب 5 - باب إجابة دعاء من بر والديه، حديث (5974).
ومسلم (4/2099)، 48 - كتاب الذكر، 27 - باب قصة أصحاب الغار، حديث (100) من حديث طويل عن ابن عمر - رضي الله عنه - وهو حديث معروف.
(2) تفسير ابن جرير الطبري (3/208).
(3) قال النووي - رحمه الله - في الأذكار (ص 273):
"وروينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول على الصفا: "اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك صلى الله عليه وسلم وجنبنا حدودك..." وفيه طول، ولم يعزه إلى مصدر. =

302 - فقد تبين أن قول القائل: أسألك بكذا. نوعان:
فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب. فقد تكون /قسماً به على الله، وقد تكون سؤالاً بسببه.
فأما الأول فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق؟.
وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم(1) كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه(2) أنه لا يجوز. ومن الناس من يجوّز(3) ذلك.
303 - فنقول: قول السائل لله: أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان. يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح، فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال (2: 255): {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَ بِإِذْنِهِ}.
304 - ويقتضي أيضاً أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه كان
__________
= وراجعت مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة فلم أجده.
(1) في خ، ز، ب: "المعظم" ولعل الصواب "بالمعظم".
(2) ص (88).
(3) سقط من: ز، ب، قوله: "ومن الناس من يجوّز".

سعيداً، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيداً، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم ما(1) يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضاً إذا دعوا له وشفعوا فيه.
305 - فأما إذا لم يكن [منهم] دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضي الإجابة، لم يكن مستشفعاً بجاههم ولم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له عند الله، بل يكون قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سبباً لنفعه.
306 - ولو قال الرجل لمطاع كبير: أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذي أوجبته طاعته لك. [لكان] قد سأله بأمر أجنبي لا تعلق له به، فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين ومحبته لهم وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه ليس في ذلك مايوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب.
307 - نعم لو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحبته له وطاعته له واتباعه له لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضي إجابة الدعاء بل هذا أعظم الأسباب والوسائل.
308 - والنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن شفاعته في الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهي مستحقة لمن دعا له بالوسيلة، كما في الصحيح أنه قال:
__________
(1) كذا في خ وسائر النسخ ولعل الصواب مما.

309 - "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة"(1).
310 - وفي الصحيح أن أبا هريرة قال له: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"(2).
311 - فبين صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً، لأن التوحيد جماع الدين والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفع محمد صلى الله عليه وسلم حدَّ له ربه حداً فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب مايقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان.
312 - وذكر صلى الله عليه وسلم أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان، وبالدعاء الذي سن لنا أن ندعو له به.
313 - وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين:
أحدهما: ما له من الحق عند الله.
والثاني: هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة!.
__________
(1) تقدم تخريجه في ص (73) رقم (1).
(2) تقدم تخريجه في ص (17) رقم (2).

314 - أَمَّا الأول فمن الناس من يقول: للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل. وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم(1).
315 - ومن الناس من يقول: لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره. كما يقول ذلك من يقول من أتباع/ جهم والأشعري وغيرهما ممن ينتسب إلى السنة.
316 - ومنهم من يقول: بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقاً لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يجب ذلك مخلوق عليه ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم.
317 - كما قال في الحديث الصحيح الإلهي:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"(2).
وقال تعالى (6: 54): {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى (30: 47): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
__________
(1) راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار وشرحه لأبي هاشم الجبائي (ص493 - 505). فإنه بحث فيها عن الأعواض المستحقة على الله ورد فيه على مخالفيه في زعمه.
(2) أخرجه مسلم (4/1994)، 45 - كتاب البر، 15 - باب تحريم الظلم، حديث (55). وأحمد (5/160) عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وهو حديث طويل وعظيم، وشرحه شيخ الإسلام شرحاً خاصاً.

318 - وفي الصحيحين(1) عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم".
319 - فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين، عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره.
320 - وعلى الثاني يستحقون ما أخبر بوقوعه وإن لم يكن ثم سبب يقتضيه.
321 - فمن قال ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به، كما روي أن الله تعالى قال لداود: وأي حق لآبائك علي؟ [فهو] صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه، كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العبّاد من أن لهم على الله(2) سبحانه حقاً بعبادتهم.
322 - وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته
__________
(1) أخرجه البخاري في 56 - كتاب الجهاد، 46 - باب اسم الفرس والحمار، حديث (2856) فتح (6/58)، و 97 - كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد (7373).
ومسلم، 1 - كتاب الإيمان، باب (10)، حديث (48 - 49). وابن ماجه، 37 - كتاب الزهد، 35 - باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة، حديث (4296)، (2/1435). وأحمد (3/260). والترمذي (5/26) 41 - الإيمان، حديث (2643).
(2) لفظ الجلالة سقط من: ز.

وعلمه يصير له على الله حق من جنس مايصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم أفعل كذا! يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه.
323 - وتخيلُ مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه، ولهذا بين سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه وأن الله غني عن الخلق، كما في قوله تعالى (17: 7): {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، وقوله تعالى (41: 46): مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ}، وقوله تعالى (39: 7): {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، وقوله تعالى (27: 40): {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، وقال تعالى (14: 7 - 8) في قصة موسى عليه السلام: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وقال تعالى (3: 176): {وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}، وقال تعالى (3: 97): {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}.
324 - وقد بين سبحانه وتعالى أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى (49: 17): {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى (49:

7 - 8): {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
325 - وفي الحديث الصحيح الإلهي "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني وإنكم(1) لن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"(2).
326 - وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة:
327 - منها أن الرب تعالى غنيّ بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقراً إلى غيره بوجه من / الوجوه، والملوك وسادة العبيد
__________
(1) كلمة "إنكم" سقطت من: ز، ب.
(2) هذا الحديث بقية حديث أبي ذر الذي تقدم تخريجه قريباً ص (109) ورقم (1).

محتاجون إلى غيرهم(1) حاجة ضرورية.
328 - ومنها أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين، فهو الذي يخلق ذلك وييسره، فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته.
329 وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان، بخلاف القدرية. والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.
330 - ومنها أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به(2) لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلاً عليه.
331 - وهذا أيضاً ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم. بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
332 - ومنها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواسّ وغير ذلك مما به يحصل العلم
__________
(1) في ز: "غيره".
(2) سقطت "به" من: ز.

والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به. ولهذا قال أهل الجنة (7 - 42: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.
333 - ومنها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قٌدِّر أن العبادة جزاء النعمة، لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه(1) أيضاً.
334 - ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله سيئات(2) يحتاج فيها إلى مغفرة الله(3) لها (35: 45): {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
335 - وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" لا يناقض قوله تعالى (32: 17، 46: 14، 65: 24): {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ فإن المنفي نُفي بباء المقابلة والمعاوضة(4) كما يقال: بعت هذا بهذا. وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سبباً للجزاء، ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه، وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه فهو ضال.
__________
(1) في ز، ب: "نعمته".
(2) في ز، ب: "ذنوب".
(3) لفظ الجلالة ساقط من: ز.
(4) في ز، ب: "المعارضة" وهو خطأ. والصواب المعاوضة كما في نسخة الفتاوى ج1/217.

336 - كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل"(1) وروي "بمغفرته"(2). ومن هذا أيضاً الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لو عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم"(3) الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري، 75 - كتاب المرضى 19 - باب تمني المريض الموت، (5673) فتح (10/127). ومسلم (4/2170)، 50 - كتاب صفات المنافقين، 17 - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، حديث (71 - 76). وابن ماجه (2/1405)، 37 - كتاب الزهد، 20 - باب التوقي على العمل، حديث، (4201). وأحمد (235، 256، 264، 319) كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
والبخاري، 81 - كتاب الرقاق، حديث (6467). ومسلم 50 - كتاب صفة المنافقين، حديث 78. وأحمد (6/125)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
ومسلم، 50 - كتاب صفة المنافقين، حديث (77). وأحمد (3/337)، والدارمي (2/215)، حديث (2736) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما -.
وأحمد (3/52) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(2) في المسند (2/335) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(3) حسن، أبو داود (5/75)، 34 - كتاب السنة، 17 - باب في القدر، حديث (4699). وابن ماجه (1/29 - 30) المقدمة 10 - باب في القدر، حديث (77). وأحمد (5/182، 183، 185، 189)، كلهم من طريق أبي سنان سعيد بن سنان، ثنا وهب بن خالد عن ابن الديلمي، عن أبي بن كعب وابن مسعود، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وزيد وحده يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي إسناده سعيد بن سنان وثقه ابن معين والعجلي وأبو حاتم وأبو داود والنسائي وابن حبان ويعقوب بن سفيان والدارقطني، وقال أحمد: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: سيء الخلق، وقال ابن عدي: له غرائب وإفرادات، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب ولعله إنما يهم في الشيء بعد الشيء". راجع تهذيب التهذيب (4/46)، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام. =

337 - ومن قال: بل للمخلوق على الله حق. فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته.
338 - وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به فسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو سأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات(1) كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب.
339 - وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو(2) سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
340 - وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به. فقول المنازع: لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حقَّ للمخلوق على الخالق ممنوع.
341 - فإنه قد ثبت في الصحيحين حديث معاذ الذي تقدم(3)
__________
= أقول: إن الحافظ قد تشدد في حق ابن سنان؛ فإنه كثيراً ما يوثق مثله، وعلى كل حال فحديثه لا يهبطه عن درجة الحسن في نظري. والله أعلم.
أَمَّا معنى الحديث فقد بينه شيخ الإسلام - بالإضافة إلى ما ذكره هنا - في موضع آخر فقال: "والحديث الذي في السنن "لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم" يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب". مجموع الفتاوى (18/143 - 144).
(1) في خ "المسات" وفي ز، ب: "المشيئات" وعلق في ب: "لعله المسببات" وهو الظاهر. وقد جاء الصواب في نسخة الفتاوى (1/218).
(2) كلمة "لو" سقطت من: ز، ب.
(3) تقدم تخريجه في ص (109) رقم (2).

إيراده، وقال تعالى (6: 54): {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، (30: 47): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
342 - فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين:
أحدهما: في حق العباد على الله.
والثاني: في سؤاله بذلك الحق.
343 - أَمَّا الأول فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى (4: 122): {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً}، (30: 6): {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، (14: 47): {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}.
فهذا مما يجب وقوعه/ بحكم الوعد باتفاق المسلمين.
344 - وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال - كما تقدم -.
قيل: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك.
وقيل: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده.
وقيل: هو أوجبَ على نفسه وحرَّم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه كما ثبت في الصحيح

أقسام الكتاب
1 2 3