كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى اله وصحبه وسلم قال شيخنا وسيدنا الامام العلامة القدوة الزاهد العابد الورع الكامل شيخ الاسلام مفتي الفرق ناصر السنة قامع البدعة سيد الفقهاء والحفاظ تقي الدين ابو العباس احمد بن شيخنا الامام العلامة مفتي المسلمين شهاب الدين ابي المحاسن عبد الحليم بن الامام العلامة شيخ الاسلام مجد الدين ابي البركات عبد السلام بن عبد الله بن ابي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني جزاه الله عن نصر دينه ونصر سنة نبيه عليه السلام خيرا الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين امنو لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لايخلف الميعاد واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد واشهد ان محمدا عبده ورسوله افضل المرسلين واكرم العباد ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره اهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره الا ذكر معه كما في الاذان والتشهد والخطب والمجامع والاعياد وكبت محاده واهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الاحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والاخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على اخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى اله افضل الصلوات واعلاها واكملها وانماها كما يحب سبحانه ان يصلى عليه وكما امر وكما ينبغي ان يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته افضل تحية واحسنها واولاها وابركها واطيبها وازكاها صلاة وسلاما دائمين الى يوم التناد باقيين بعد ذلك ابدا رزقا من الله ما له من نفاد اما بعد فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد واخرجنا به من الظلمات الى النور واتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والاخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والالسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع الى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث ادنى ماله من الحق علينا بله ما اوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وايثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وان كان الله قد اغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الاعمال كما سبق في ام الكتاب ان اذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الاقاويل وارداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب ان يكون عليه التعويل فاما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وانما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الائمة والامة القيام بما امكن منه والله هو الهادي الى سواء السبيل وقد رتبته على اربع مسائل المسالة الاولى في ان الساب يقتل سواء كان مسلما او كافرا المسالة الثانية انه يتعين قتله وان كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته المسالة الثالثة في حكمه اذا تاب المسالة الرابعة في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر المسألة الاولى ان من سب النبي من مسلم او كافر فانه يجب قتله
هذا مذهب عليه عامة أهل العلم قال ابن المنذر : [ أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل ] و ممن قاله مالك و الليث و أحمد و إسحاق و هو مذهب الشافعي قال : و حكي عن النعمان لا يقتل يعني الذي هم عليه من الشرك : أعظم
و قد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد و هذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة و التابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يجب قتله إذا كان مسلما و كذلك قيده القاضي عياض فقال : أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه و كذلك حكي عن غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره
و قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام : [ أجمع المسلمون على أن من سب رسوله الله صلى الله عليه و سلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز و جل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز و جل : أنه كافر بذلك و إن مقرا بكل ما أنزل الله
قال الخطابي : [ لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله ]
و قال محمد بن سحنون : [ أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم و المتنقص له كافر و الوعيد جار عليه بعذاب الله له و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ]
و تحرير القول فيه : إن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر و يقتل بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه و غيره و إن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك و أهل المدينة و سيأتي حكاية ألفاظهم و هو مذهب أحمد و فقهاء الحديث
و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافراـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ] قال : و سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة و كذلك قال أبو الصفراء : سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم ماذا عليه ؟ قال : إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم مسلما كان أو كافرا ] رواهما الخلال
و قال في رواية عبد الله و أبي طالب و قد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال :
يقتل قيل له : فيه أحاديث ؟ قال : نعم أحاديث منها : حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و حديث حصين أن ابن عمر قال : [ من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ] و كان عمر بن عبد العزيز يقول : يقتل و ذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه و سلم فهو مرتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه و سلم زاد عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم يستتاب ؟ قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه رواهما أبو بكر في [ الشافي ] و في رواية أبي طالب : سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل قد نقض العهد
و قال حرب : سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه و سلم رواهما الخلال و قد نص على هذا في غير هذه الجوابات
فأقواله كلها نص في وجوب قتله و في أنه قد نقض العهد و ليس عنه في هذا اختلاف
و كذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم و متأخرهم لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها و فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال و هي :
الإعانة على قتال المسلمين و قتل المسلم أو المسلمة و قطع الطريق عليهم و أن يؤوي للمشركين جاسوسا و أن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين و أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح و أن يفتن مسلما عن دينه
قال : فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده و ذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنا بالمسلمة و في التجسس للمشركين و قتل المسلم و إن كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف قال : فتخرج المسألة على روايتين ثم قال : [ و في معنى هذه الأشياء ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ] فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن أتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن و كذلك قال في [ الخلاف ] بعد ما ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال و الأقوال
قال : [ و فيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية و جري أحكامنا عليهم ]
ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال : [ فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه ]
و تبع القاضي جماعة من أصحابه و من بعدهم ـ مثل الشريف أبي جعفر و آبن عقيل و أبي الخطاب و الحلواني ـ فذكروا أنه لا خلاف في أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية و التزام أحكام الملة انتقض عهدهم و ذكروا في جميع هذه الأفعال و الأقوال التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول و ما مثله روايتين أحداهما : ينتقض العهد بذلك و الأخرى : لا ينتقض عهده و تقام في حدود ذلك مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك
ثم إن القاضي و الأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف
و أما أبو الخطاب و من تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في افتقاد العهد بالقذف روايتين :
ثم إن هؤلاء كلهم و سائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه و سلم في موضع آخر و ذكروا أن سابه يقتل و إن كاب ذميا و أن عهده ينتقض و ذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن الحلواني قال : [ و يحتمل أن لا يقتل من سب الله و رسوله إذا كان ذميا ]
و سلك القاضي أبو الحسين في نواقص العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال : [ أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في مال أو نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين ] و أما ما فيه إدخال غضاضة و نقص على الإسلام ـ و هي ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ـ فإنه ينقض العهد نص عليه و لم يخرج في هذه رواية أخرى كما ذكرها أولئك في أحد الموضعين و هذا أقرب من تلك الطريقة و على الرواية التي تقول [ لا ينقض العهد بذلك ] فإنما [ ذلك ] إذا لم يكن مشروطا عليه في العقد فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان أحدهما : ينتقض قاله الخرقي
و قال أبو الحسن الأمدي : [ و هو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه ]
صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم و الثاني : لا ينتقض قاله القاضي و غيره صرح أبو الحسن بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم و خالفوا هيئتهم من غير إضرار كإظهار الأصوات بكتابهم و التشبه بالمسلمين مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها بخوصها
و هاتان الطريقتان ضعيفتان و الذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا و من تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها فقد نص في مسائل سب الله و رسوله على انتقاض العهد في غير موضع و على أنه يقتل و كذلك فيمن جس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده و قتله في غير موضع و كذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما و قطع الطريق أولى و قد نص أحمد على أن قذف المسلم و سحره لا يكون نقضا لعهد في غير موضع هذا هو الواجب لأن تخريج حكم المسألتين إلى الأخرى و جعل المسألتين على روايتين ـ مع و جود الفرق بينهما نصا و استدلالا أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق ـ غير جائز و هذا كذلك
و كذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة لم يوافقوا على الإنتقاض ببعض هذه الأمور
و أما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه و سلم و أنه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر و الخطابي و غيرهما
و المنصوص عنه في [ الأم ] أنه قال : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي عليه الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما تحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنا أو آسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورة المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم ] أ ه
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فبها و إن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ]
ثم قال : [ و أيهم فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذاك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد ]
و إن فعل مما و صفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم و لكنه قال : [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يقول فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : [ فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول : [ أسلم أو أعطي جزية ] قتل و أخذ ماله فيئا ]
و نص في [ الأم ] أيضا أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق و لا بقتل المسلم و لا بالزنا بالمسلمة و لا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد و يعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة و لا يقتل إلا أن يجب عليه القتل
قال : [ و لا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار و الامتناع بذلك ]
قال : و لو قال : [ أؤدي الجزية و لا أقر بحكم ] نبذ إليه و لم يقاتل على ذلك مكانه و قيل : قد تقدم لك أمان بأدائك للجزية و إقرارك بها و قد أجلناك في أن تخرج من بلاد الإسلام ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قتل إن قدر عليه
فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام و بين الضرر بالفعل أو يقال : يقتل الذمي بسبه و إن لم ينقض عهده كما سيأتي إن شاء الله تعالى
و أما أصحابه فذكروا ـ فيما إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء ـ وجهين : أحدهما : ينقض عهده بذلك سواء شرط عليهم تركه أو لم يشرط بمنزلة ما إذا قاتلوا المسلمين و امتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا و هذه طريقة أبي إسحاق المروزي
و منهم من خص سب رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده أنه يوجب القتل
و الثاني : أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم و الزنا بالمسلمة و الجس و ما ذكر معه و ذكروا في تلك الأمور وجهين : أحدهما : أنه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان و الثاني : لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا
و منهم من حكى هذه الوجوه أقوالا و هي أقوال مشار إليها فيجوز أن تسمى أقوالا و وجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بأن المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحابنا
و أما الخراسانيون فقالوا : المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها قالوا : لأن الترك موجب لنفس العقد و لذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجه أحدها : ينتقض بفعلها و الثاني : لا ينتقض و الثالث : إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض و إلا فلا
و منهم من قال : إن شرط نقض وجها واحدا و إن لم يشرط فوجهان و حسبوا أن مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم : إن لم يجر شرط لم ينتقض العهد و إن جرى فوجهان و يلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنه إن لم يجر شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها وجها واحدا و إن صرح بشرط تركها انتقض و هذا غلط عليهم و الذي نصروه في كتب الخلاف أن سب النبي صلى الله عليه و سلم ينقض العهد و يوجب القتل كما ذكرناه عن الشافعي نفسه
و أما أبو حنيفة و أصحابه فقالوا : لا ينتقض العهد بالسب و لا يقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من إظهار أصواتهم بكتابهم و نحو ذلك و حكاه الطحاوي عن الثوري و من أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل و الجماع في غير القبل إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله و كذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك و يحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك و يسمونه القتل سياسة و كان حاصله أن له أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار و شرع القتل في جنسها و لهذا أفتى أكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و إن أسلم بعد أخذه و قالوا : يقتل سياسة و هذا متوجه على أصولهم
و الدلائل على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله و وجوب قتله و قتل المسلم إذا أتى ذلك : الكتاب و السنة و إجماع الصحابة و التابعين و الاعتبار
أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع :
أحدها : قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } [ التوبة : 29 ]
فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية و هم صاغرون و لا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية و معلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها و التزامها إلى حين تسليمها و إقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء و وجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا و امتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد و إذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا و شتم ربنا على رؤوس الملأ منا و طعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير و هذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا و الإهانة
قال أهل اللغة : الصغار الذل و الضيم يقال : صغر الرجل ـ بالكسر ـ يصغر ـ بالفتح ـ صغرا و صغرا و الصاغر : الراضي بالضيم و لا يخفى على المتأمل أن إظهار السب و الشتم لدين الأمة التي اكتسبت شرف الدنيا و الآخرة ليس فعل راض بالذل و الهوان و هذا ظاهر لا خفاء به
و إذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين و ليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به و كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه
و أيضا فإنا لو كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها و لو عقد لهم عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة
و لا يقال فيهم : فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان و شبهة الأمان كحقيقته فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا و إن لم يقصده المسلم
لأنا نقول : لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا و سب نبينا و هم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا ـ مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة ـ دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها
و أيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمر و قد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه
و أيضا فإنا سنذكر شروط عمر و أنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه و ماله
الموضع الثاني : قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ]
نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما و معلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة و الوقيعة في ربنا و نبينا و كتابنا و ديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا و أموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا و لا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله و رسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما ؟
يوضح ذلك قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة } [ التوبة : 8 ] أي كيف يكون لهم عهد و لو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم و بينهم و لا العهد الذي بينكم و بينهم ؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا و بينه من العهد لم يكن له عهد و من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا و بينه فإنه إذا كان مع وجود العهد و الذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة و القدرة ؟ و هذا بخلاف من لم يظهره لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر
و هذه الآية و إن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى
الموضع الثالث : قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] و هذه الآية تدل من وجوه
أحدها : أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة و إنما ذكر الطعن في الدين و أفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر و بيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال و لهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح و بيان سبب القتال فإن الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا و أما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة و حمية و رياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و بقوله تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم } [ التوبة : 13 ـ 14 ]
فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن و يعاهد و أما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله و هذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله و رسوله و طعن في الدين و إن أمسك عن غيره و إذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال و إن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة و إلا كان ذكره ضائعا
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
قلنا : لا ريب أنه لا بد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم و إلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال : [ من زنى و أكل جلد ] ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال : يقتل هذا لأنه مرتد زان و قد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع و لكل وصف تأثير في البعض كما قال : { و الذين لا يدعون مع الله ألها آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية و قد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا و بيانا للموجب كما يقال : كفروا بالله و برسوله و عصى الله و رسوله و قد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال : { إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] الآية و هذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال إن نقض العهد هو المبيح للقتال و الطعن في الدين مؤكد له و موجب له
فنقول : إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا و بينه عهد و يوجبه فأن يوجب قتال من بيننا و بينه ذمة و هو ملتزم للصغار أولى و سيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا و الذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل و إن لم يؤذنا فحاله أشد و أهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك
الوجه الثاني : أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه و طعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك و يؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته و إذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده و طعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية و هذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا و بينه
لكن نقول : ليس إظهار كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر و الخنزير و نحو ذلك فنقول : قد وجد منه شيئان : ما منعه منه العهد و طعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط و القرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده و طعن في الدين و لا يمكن أن يقال [ لم ينكث ] لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل و هو نقض قواه و نكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى لكن قد بقي من قواه ما يستمسك الحبل به و قد يهن بالكلية
و هذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا و قد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن بعض الشروط في البيع و النكاح و نحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا و قد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن و الضمين هذا عند من يفرق في المخالفة و أما من قال [ ينتقض العهد بجميع المخالفات ] فلأمر ظاهر على قوله و على التقديرين قد اقتضى العقد : أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا و أنهم متى أظهروه فقد نكثوا و طعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا و معنى و مثل هذا العموم يبلغ درجة النص
الوجه الثالث : أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين و أوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله { أئمة الكفر } إما أن يعني به الذين نكثوا أو أطعنوا أو بعضهم و الثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذ العلة يجب طردها إلا لمانع و لا مانع و لأنه علل ذلك ثانيا بأنهم بلا أيمان لهم و ذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين و لأن النكث و الطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال و قد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه و ذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فليزم أن الجميع أئمة كفر و إمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه و إنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك و هو مناسب لأن الطعن في الدين [ لأن ] يعيبه و يذمه و يدعو إلى خلاف و هذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر
فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتاله لقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و لا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين و خالف و اليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون و هو كذلك فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية و إنما عاقدهم عقدا و نسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم و هذا لأن اليمين يقال : إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منها يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا و يقال سميت يمينا لأن اليمين هي القوة و الشدة كما قال الله تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد و بين ربه و إن كان نذرا و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ النذر حلفة ] و قوله : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] و قول جماعة من الصحابة للذي نذر اللجاج و الغضب :
كفر يمينك و للعهد الذي بين المخلوقين و منه قوله تعالى : { و لا تنفضوا الأيمان بعد توكيده } [ النحل : 91 ] و النهي عن نقض العهود و إن لم يكن فيها قسم و قال تعالى : { و من أوفى بما عاهد عليه الله } [ الفتح : 10 ] و إنما لفظ العهد [ بايعناك على أن لا نفر ] و ليس فيه قسم و قد سماهم معاهدين لله و قال تعالى : { و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام } [ النساء : 1 ] قالوا : معناه يتعاهدون و يتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله و كفالته و شهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له و فيجب قتله بنص الآية و بهذا يظهر الفرق بينه و بين الناكث الذي ليس بإمام و هو من خالف شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين
الوجه الرابع : أنه قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بداوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فجعل همهم بإخراج الرسول الله صلى الله عليه و سلم من المحضضات على قتالهم و ما ذاك إلا لما فيه من الأذى و سبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه و سلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه و لم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده و فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأ بالأذى فيجب قتاله
الوجه الخامس : قوله تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم و يتوب الله على من يشاء و الله عليم حكيم } [ التوبة : 14 ـ 15 ]
أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين و ضمن لنا ـ إن فعلنا ذلك ـ أن يعذبهم بأيدينا و يخزيهم و ينصرنا عليهم و يشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم و طعنهم و أن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالنا ترتيب الجزاء على الشرط و التقدير : إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله و إلا فالكفار يدالون علينا المرة و ندال عليهم الآخرى و إن كانت العاقبة للمتقين و هذا تصديق ما جاء في الحديث [ ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو ] و التعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل و الساب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل و إنما ذكر سبحانه النصر عليهم و أنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى فيه { يعذبه الله و يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } على أن قوله { من يشاء } يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه و إنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك و عند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر و لا يلزم من التوبة على الرده التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء و لم يهدر دم الذين سمعوه و أهدر دم بني بكر و لم يهدر الذين أعاروهم السلاح
الوجه السادس : أن قوله تعالى : { و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث و الطعن و ذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول و أن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع : [ عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم و الغم ]
لا ريب أن من أظهر الرسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و شتمه فإنه يغيظ المؤمنين و يؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم و أخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله و الحمية له و لرسوله و هذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا الله و الشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين و ذهاب غيظ قلوبهم و هذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه :
أحدها : أن تعزيزه و تأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم و هذا باطل
الثاني : أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فإن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب [ أولى و أحرى ]
الثالث : أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء و الأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل و القتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا
الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتحت مكة و أراد أن يشفي صدور خزاعة ـ و هم القوم المؤمنون ـ من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانة لسائر الناس فلو كان الشفاء صدورهم و ذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا و طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس
الموضع الرابع : قوله سبحانه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم } [ التوبة : 62 ] فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه و سلم محاددة لله و لرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } الآية [ التوبة : 61 ] ثم قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأن يمكن حينئذ أن يقال : قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا و إنما آذوا فلا يكون في الآية و عيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون و عيد المحاد و عيدا له و يلتئم الكلام
و يدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في ظل حجرة من حجره و عنده نفر من المسلمين فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفوا له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] ثم قال بعد ذلك : { إن الذين يحادون الله و رسوله } فعلم أن هذا داخل في المحادة
و في رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله { يحلفون لكم لترضوا عنهم } [ التوبة : 96 ]
و قد قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] ثم قال عقبه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فثبت أن هؤلاء الشاتمين محادون و سيأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة في ذلك
و إذا كان الأذى محادة لله و رسوله فقد قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز } [ المجادلة : 21 ] و الأذل : أبلغ من الذليل و لا يكون أذل حتى يخاف على نفسه و ماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه و ماله معصما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد و حبل لا ذلة عليه و إن كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة و قد جعل المخادعين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية و هذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره و منعه بأذل فثبت أن المحاد لله و لرسوله لا يكون له عهد يعصمه و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه و هو المقصود
و أيضا فإنه قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و الكبت : إذلال و الخزي و الصرع قال الخليل : الكبت هو الصرع على الوجه و قال النضر بن شميل و ابن قتيبة : هو الغيظ و الحزن و هو في الأشقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ و الحزن أصاب كبده كما يقال : أحرق الحزن و العداوة كبده و قال أهل التفسير : كتبوا أهلكوا و أخزوا و حزنوا فثبت أن المحادة أن مكبوت مخزى ممتل غيظا و حزنا هالك و هذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحاداة أن يقتل و إلا فمن أمكنه إظهار المحادة و هو آمن على دمه و ماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان و لأنه قال : { كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } و الذين من قبلهم ممن حاد الرسل و حاد رسول الله إنما كتبه الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين و الكبت و إن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه : { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم } [ آل عمران : 127 ] لكن قوله تعالى : { كما كبت الذين الذين من قبلهم } يعني محادي الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى بيبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك
و أيضا فقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } [ المجادلة 21 ] عقب قوله : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } دليل على أن
المحادة مغالبة و معاداة
حتى يكون أحد المتحادين غالبا و الآخر مغلوبا و إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد ليس بمسالم و الغلبة للرسل بالحجة و القهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه و من لم يؤمر بالحرب ملك عدوه و هذا أحسن من قول من قال : [ إن الغلبة للمحارب بالنصر و لغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون ]و أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد و الفصل و البينونة و كذلك المشاقة من الشق و هو لهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة و المفاصلة و لهذا يقال : إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المحادين و المتشاقين في حد و شق من الآخر و ذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله و لرسوله
و أيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال : { فاضربوا فوق الأعناق و اضربوا منهم كل بنان و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله و رسوله فإن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 13 ] فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم و محادتهم فكل من حاد و شاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة
و أيضا فإنه تعالى قال : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الحشر : 4 ] و التعذيب هنا ـ و الله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء و أخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى و رسوله و من أظهر المحادة فقد شاق الله و رسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد و لا مشاق
و هذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال : هو محاد و إن لم يكن مشاقا و لهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكتوبا كما كبت من قبله و أن يكون في الأذلين و جعل جزاء المشاق القتل و التعذيب في الدنيا و لن يكونا مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم و لهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] إنها نزلت فيمن قتل [ من ] المسلمين أقاربه في الجهاد و فيمن أراد أن يقتل [ من ] تعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق و غيره
و يدل على ذلك أنه قال سبحانه : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم } الآيات إلى قوله { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } و إنما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم و كان أولئك اليهود أهل عهد من النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن الله سبحانه بين أن المؤمنين لا يوادون من حاد الله و رسوله و لا بد أن يدخل في ذلك عدم المودة لليهود و إن كانوا أهل ذمة لأنه سبب النزول و ذلك يقتضي أن أهل الكتاب محادون لله و رسوله و إن كانوا معاهدين و يدل على ذلك أن الله قطع الموالاة بين المسلم و الكافر و إن كان له عهد و ذمة و على هذا التقدير يقال : عوهدوا على أن يظهروا المحادة و لا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم و كما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة و هؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل و نحوه و عذاب الآخرة
فإن قيل : إذا كان كل يهودي محادا لله و رسوله فمن المعلوم أن العهد يثبت لهم مع التهود و ذلك ينفض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له
قيل : من سلك هذه الطريقة قال : المحاد لا عهد له مع إظهار المحادة فأما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد أعطيناه العهد و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] يقتضي أن الذلة تلزمه فلا تزول إلا بحبل من الله و حبل من الناس و حبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالإتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون أذل فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك : الذلة لازمة لهم كل حال كما أطلقت في سورة البقرة و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله } يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم أنهم أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا إلا بحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة و إنما يرفع بعض موجباتها و هو القتل فإن من كان لا يعصم دمه إلا بعهد فهو ذليل و إن عصم دمه بالعهد لكن هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحدة و الطريقة الأولى أجود كما تقدم و في زيادة تقريرها طول
الموضع الخامس : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } [ الأحزاب : 57 ] و هذه الآية توجب قتل من آذى الله و رسوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره و العهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله و رسوله
و يوضح ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لأجل أنه آذى الله و رسوله فدل ذلك على أنه لا يوصف كل ذمي بأنه يؤذي الله و رسوله و إلا لم يكن فرق بينه و بين غيره و لا غيره و لا يصح أن يقال : اليهود ملعونون في الدنيا و الآخرة مع إقرارهم على ما يوجب ذلك لأنا لم نقرهم على إظهار أذى الله و رسوله و إنما أقررناهم على أن يفعلوا بينهم كما هو من دينهم
و أما الآيات الدالات على كفر الشاتم و قتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا و إن كان مظهرا للإسلام ـ فكثيرة مع أن هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد
منها قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل : أذن خير لكم } إلى قوله : { و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ التوبة : 61 ] إلى قوله : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله و لرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلا فيه و لولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا إذ أمكن أن يقال : إنه ليس بمحاد و دل ذلك على أن الإيذاء و المحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالدا فيها و لم يقل [ هي جزاؤه ] و بين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة و المشاقة و ذلك كفر و محاربة فهو أغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه و سلم كافرا عدوا لله و رسوله محاربا لله و رسوله لأن المحادة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل واحد منهما في حد كما قيل [ المشاقة : أن يصير كل منهما في شق و المعاداة : أن يصير كل منهما في عداوة ]
[ إذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ]
و في الحديث أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ] و هذا ظاهر قد تقدم تقريره و حينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } [ المجادلة : 20 ] و لو كان مؤمنا معصوما لم يكن أذل لقوله تعالى : { و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] و قوله تعالى : { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و المؤمن لا يكبت كما كبت مكذبوا الرسل قط و لأنه قد قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ؟ و قد قيل : إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه و سلم فأراد الصديق قتله
أو أن ابن أبي تنقص النبي صلى الله عليه و سلم فستأذن ابنه النبي صلى الله عليه و سلم في قتله لذلك فثبت أن المحاد كافر حلال الدم
و أيضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين و بين المحادين لله و رسوله و المعادين لله و رسوله فقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم } الآية [ المجادلة : 22 ] و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] فعلم أنهم ليسوا من المؤمنين
و أيضا فإنه قال سبحانه : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب } [ الحشر : 4 ] فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا و لعذاب النار في الآخرة مشاقة الله و رسوله و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم مشاق لله و رسوله كما تقدم و العذاب هنا هو الإهلاك بعذاب من عنده أو بأيدينا و إلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال و فراق الأوطان
و قال سبحانه : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فأضربوا فوق الأعناق و آضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الأنفال : 12 ، 13 ] فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم و الأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله و رسوله فكل من شاق الله و رسوله يستوجب ذلك
قال مجاهد : [ هو أذن ] يقولون : سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا
و قال الوالبي عن ابن عباس : [ يعني أنه يسمع من كل أحد ]
قال بعض أهل التفسير : [ كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة ] فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ]
و قال ابن اسحاق : كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه : [ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ] ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا عليه فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ]
و قولهم [ أذن ] قالوا : ليتبينوا أن كلامهم مقبول عنده فأخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين و إنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم
قال سفيان بن عيينة : [ أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخبر و من القول و لا يؤاخذكم بما في قلوبكم و يدع سرائركم إلى الله تعالى و ربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء و استخفاف ] فإن قيل : فقد روى نعيم بن حماد [ قال ] [ حدثنا محمد بن ثورعن يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم لا تجعل لفاجر و لفاسق عندي يدا و لا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } ]
قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو أحمد العسكري و ظاهر هذا أن كل فاسق لا يبغي مودته فهو محاد لله و رسوله مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم
قيل : المؤمن الذي يحب الله و رسوله ليس على الإطلاق بكافر و لا منافق و إن كانت له ذنوب كثيرة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لنعمان و قد جلد في الخمر غير مرة [ إنه يحب الله و رسوله ] لأن مطلق المجادة يقتضي مطلق المقاطعة و المصارمة و المعاداة و المؤمن ليس كذلك لكن قد يقع اسم النفاق على من أتى بشعبة من شعبه و لهذا قالوا : [ كفر دون كفر ] و [ ظلم دون ظلم ] و [ فسق دون فسق ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ كفر بالله تبرؤ من نسب و إن دق ] و [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] و [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد خلف و إذا آئتمن خان ]
قال ابن أبي ملكية : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كلهم يخاف النفاق على نفسه
فوجه هذا الحديث أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم عنى بالفاجر المنافق فلا ينقض الاستدلال
أو يكون عنى كل فاجر لأن الفجور مظنة النفاق فما من فاجر إلا يخاف فجوره صادرا عن مرض في القلب أو موجبا له فإن المعاصي بريد الكفر فإذا أحب الفاسق فقد يكون محبا لمنافق فحقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر أن لا يواد من أظهر من الأفعال ما يخاف معها أن يكون محادا لله و رسوله فلا ينقض الاستدلال أيضا
أو أن تكون الكبائر من شعب المحادة لله و رسوله فيكون مرتكبها محادا من وجه و إن كان مواليا لله و رسوله من وجه آخر و يناله من الذلة و الكبت بقدر قسطه من المحادة كما قال الحسن : [ و إن طقطقت بهم البغال و هملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي رقابهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه ] فالعاصي يناله من الذلة و الكبت بحسب معصيته و إن كان له من عزة الإيمان بحسب إيمانه كما يناله من الذم و العقوبة
و حقيقة الإيمان أن لا يواد المؤمن من حاد الله بوجه من وجوه المودة المطلقة و قد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها و بغض من أساء إليها فإذا اصطنع الفاجر إليه يدا أحبه المحبة التي جبلت القلوب عليها فيصير موادا له مع أن حقيقة الإيمان توجب عدم مودته من ذلك الوجه و إن كان معه من أصل الإيمان ما يستوجب به أصل المودة التي تستوجب أن يحض بها دون الكافر و المنافق و على هذا فلا ينتقض الاستدلال أيضا لأن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه أظهر حقيقة المحادة و رأسها الذي يوجب جميع أنواع المحادة فاستوجب الجزاء المطلق و هو جزاء الكافرين كما أن من أظهر النفاق و رأسه استوجب ذلك و إن لم يستوجبه من أظهر شعبة من شعبه و الله سبحانه أعلم
الدليل الثاني : قوله سبحانه : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل : استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون و لئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض و نلعب قل : أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم طائفة بأنهم كانوا مجرمين } [ التوبة : 64 ـ 66 ] و هذا نص في أن الاسهتزاء بالله و بآياته و برسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادا أو هازلا فقد كفر
و قد روي عن رجال من العلم ـ منهم ابن عمر و محمد بن كعب و زيد بن أسلم و قتادة ـ دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا و لا أكذب ألسنا و لا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه القراء فقال له عوف بن مالك : كذبت و لكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد ارتحل و ركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نلعب و نتحدث حديث الركب نقطع به عنا [ ء ] الطريق قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن الحجارة لتنكب رجليه و هو يقول : إنما كنا نخوض و نلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون } ما يلتفت إليه و لا يزيده عليه و قال مجاهد : قال رجل من المنافقين : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا و كذا و ما يدريه ما الغيب فأنزل الله عز و جل هذه الآية
و قال معمر عن قتادة : بينا النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك و ركب من المنافقينيسيون بين يديه فقالوا : أيظن هذا أن يفتح قصور الروم و حصونها ؟ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قالوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ علي بهؤلاء النفر ] فدعا بهم فقال : أقلتم كذا و كذا ؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض و نلعب و قال معمر : قال الكلبي : كان رجل منهم لم يماثلهم في الحديث يسير عائبا لهم فنزلت : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فسمي طائفة و هو واحد
فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه و سلم حيث عابوه و العلماء من أصحابه و استهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك و إن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك ؟ و إنما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بأن يدع أذاهم و لأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه و آذاه
الدليل الثالث : قوله سبحانه : { و منهم من يلزمك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] و اللمز : العيب و الطعن قال مجاهد : يتهمك [ و ] يزريك و قال عطاء : يغتابك و قال تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي } الآية [ التوبة : 61 ] و ذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن [ الذين ] و [ من ] اسمان موصولان و هما من صيغ العموم و الآية و إن كانت نزلت بسبب لمز قوم و إيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب و ليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه و من كان حاله كحاله و لكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل : إنه يقتصر على سببه و الذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل بوجوب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه
و أيضا فإن كونه منهم حكم متعلق بلفظ مشتق من اللمز و الأذى و هو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده
و أيضا فإن الله سبحانه و إن كان قد علم منهم النفاق قيل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [ التوبة : 101 ] ثم إنه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين و المنافقين كما قال سبحانه : { و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين } [ العنكبوت : 11 ] و قال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } [ آل عمران : 179 ]
و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلزمون النبي صلى الله عليه و سلم و الذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق و فرع له و معلوم أنه إذا حصل فرع الشيء و دليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه و سلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعيانهم و إن لم يكن دليلا من غيرهم ؟
قلنا : إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه و سلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى و أحرى
و أيضا لو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول و لا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه و إن كانت أمرا مباحا كما لو قيل : من المنافقين صاحب الجمل الأحمر و صاحب الثوب الأسود و نحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول و الوعيد لصاحبه علم أنه لم تقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين
و أيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق : فإن لمز النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا و أنه أولى به من نفسه و أنه لا يقول إلا الحق و لا يحكم إلا بالعدل و أن طاعته لله و أنه يجب على جميع الخلق تعزيره و توقيره و إذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق
و أيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا و الأول باطل لأن الله يسبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني و القاذف و السارق و المطفف و الخائن و لم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين و لا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك و إلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لابد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق و كل ما كان كذلك فهو كفر
و أيضا فإن الله كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين و هو قوله تعالى : { ائذن لي و لا تفتني } قال في عقب ذلك { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر } إلى قوله : { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } [ التوبة : 45 ] فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان و على الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد استنفاره و إظهار من القاعد أنه معذور بالقعود و حاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه و أذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له و هذا محاربة له و هذا ظاهر
و إذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه و سلم أو آذاه منهم فالضمير عائد إلى المنافقين و الكافرين لأنه سبحانه لما قال : { انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة : 41 ] قال : { لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك و لكن بعدت عليهم الشقة و سيحلفون بالله } [ التوبة : 42 ] و هذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور و هم الذين حلفوا { لو استطعنا لخرجنا معكم } و هؤلاء هم المنافقون بلا ريب و لا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله } [ التوبة : 54 ] فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله و رسوله و قد جعل منهم من يلمز و منهم من يؤذي و كذلك قوله : { و ما هم منكم } إخراج لهم عن الإيمان
و قد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع و جعلهم أسوأ حالا من الكافرين و أنهم في الدرك الأسفل من النار و أنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا : { انظرونا نقتبس من نوركم } الآية إلى قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا } [ الحديد : 15 ] و أمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحد منهم و أخبر أنه لن يغفر لهم و أمره بجهادهم و الإغلاظ عليهم و أخبر أنه إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع
الدليل الرابع على ذلك أيضا : قوله سبحانه و تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما } [ النساء : 65 ] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا و باطنا و قال ذلك : { الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله و إلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا و قال سبحانه : { و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون و إن يكن لهم الحق ياتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله ؟ بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا } [ النور : 47 ـ 51 ] فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول و أعرض عن حكمه فهو من المنافقين و ليس بمؤمن و أن المؤمن هو الذي يقول : سمعنا و أطعنا فإذا كان النفاق يثبت و يزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول و إرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض و قد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقص و السب و نحوه ؟
و يؤيد ذلك ما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن دحيم في تفسيره حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه : لا أرضى فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي عليه فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم فأبى صاحبه أن يرضى و قال : نأتي عمر بن الخطاب فأتياه فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال : أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم فأبى أن يرضى فسأله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج و السيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله فأنزل الله تبارك و تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ـ الأية } [ النساء : 65 ]
و هذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار
قال ابن دحيم : [ حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان فقضي لأحدهما فقال الذي قضي عليه : ردنا إلى عمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم انطلقوا إلى عمر ] فانطلقا فلما اتيا عمر قال الذي قضي له : يا ابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى لي و إن هذا قال : ردنا إلى عمر : فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : أكذلك ؟ للذي قضي عليه قال : نعم فقال عمر : مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال [ ردنا إلى عمر ] فقتله و أدبر الأخر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قتل عمر صاحبي و لولا ما أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كنت أظن أن عمر يجتريء على قتل مؤمن ] فأنزل الله تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فبرأالله عمر من قتله
و قد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل : ما أكتب حديث ابن لهيعة إلا للاعتبار و الاستدلال و قد كتبت حديث هذا الرجل بهذاغ المعنى كأني أستدل به مع غيره يشده لا أنه حجة إذا انفرد
الدليل الخامس مما استدل به العلماء على ذلك : قوله سبحانه تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الأخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] و دلالتها من وجوه :
أحدها : أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته فمن ىذاه فقد آذى الله تعالى و قد جاء ذلك منصوصا عنه و من آذى الله فهو كافر حلال الدم يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله و رسوله و إرضاء الله و رسوله و طاعة الله و رسوله شيئا واحدا فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله } الآية [ التوبة : 24 ] و قال تعالى : { و أطيعوا الله و الرسول } [ آل عمران : 132 ] في مواضع متعددة و قال تعالى : { و الله و رسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] فوحد الضمير و قال أيضا : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] و قال أيضا : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول } [ الأنفال : ! ]
و جعل شقاق الله و رسوله و محادة الله و رسوله و أذى الله و رسوله و معصية الله و رسوله شيئا واحدا فقال : { ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاقق الله و رسوله } [ الأنفال : 13 ] و قال { إن الذين يحادون الله و رسوله } [ المجادلة : 20 ] و قال تعالى : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } [ التوبة : 63 ] و قال : { و من يعص الله و رسوله } الآية [ النساء : 14 ]
و في هذا و غيره بيان لتلازم الحقين و أن جهة حرمة الله تعالى و رسوله جهة واحدة فمن آذى الرسول فقد آذى الله و من أطاعه فقد أطاع الله لأن الأمة لا يصلون ما بينهم و بين ربهم إلا بواسطة الرسول ليس لأحد منهم طريق غيره و لا سبب سواه و قد أقامه الله مقام نفسه في أمره و نهيه و إخباره و بيانه فلا يجوز أن يفرق بين الله و رسوله في شيء من هذه الأمور
و ثانيها : أنه فرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين و المؤمنات فجعل على هذا أنه احتمل { بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] وجعل على ذلك اللعنة في الدينا و الآخرة و أعد له العذاب المهين و معلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم و فيه الجلد و ليس فوق ذلك إلا الكفر و القتل
الثالث : أنه ذكر لعنهم في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و اللعن : الإبعاد عن الرحمة و من طرده عن رحمته في الدنيا و الآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات و لا يكون مباح الدم لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه
و يؤيد ذلك قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجارونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ] فإن أخذهم و تقتيلهم و الله أعلم بيان صفة لعنهم و ذكر لحكمه فلا موضع له من الإعراب و ليس بحال ثانية لأنهم إذا جاوروه ملعونين و لم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك و عيد لهم بل تلك اللعنة ثابتة قبل هذا الوعيد و بعده فلا بد أن يكون هذا الأخذ و التقتيل من آثار اللعنة التي وعدوها فيثبت في حق من لعنة الله في الدنيا و الآخرة
ويؤيده قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لعن المؤمن كقتله ] متفق عليه فإذا كان الله قد لعن هذا في الدنيا و الآخرة فهو كقتله فعلم أن قتله مباح
قيل : و اللعن إنما يستوجبه من هو كافر لكن هذا جيدا على الإطلاق
و يؤيده قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] و لو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نصره و لكان له نصير
يوضح ذلك أنه قد نزل في شأن ابن الأشرف و كان من لعنته أن قتل لأنه كان يؤذي الله و رسوله
و اعلم أنه لا يرد على هذا أنه قد لعن من لا يجوز قتله لوجوه :
أحدها : أن هذا قيل فيه [ لعنة الله في الدنيا و الآخرة ] فبين أنه سبحانه أقصاه عن رحمته في الدارين و سائر الملعونين إنما قيل فيهم [ لعنة الله ] أو [ عليه لعنة الله ] و ذلك يحصل بإقصائه عن الرحمة في وقت من الأوقات و فرق بين من لعنه الله أو عليه لعنة مؤبدة عامة و من لعنه لعنا مطلقا
الثاني : أن سائرالذين لعنهم الله في كتابه ـ مثل الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و مثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و مثل من يقتل مؤمنا متعمدا ـ إما كافر أو مباح الدم بخلاف بعض من لعن في السنة
الثالث : أن هذه الصيغة خبر عن لعنة الله و لهذا عطف عليه { و أعد لهم عذابا مهينا } و عامة الملعونين الذين لا يقتلون أو لا يكفرون إنما لعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من غير منار الأرض ] و [ و لعن الله السارق ] و [ لعن الله آكل الربا و مأكله ] و نحو ذلك
لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } [ النور : 23 ] فإن هذه الآية ذكر لعنتهم في الدنيا و الآخرة مع أن مجرد القذف ليس بكفر و لا يبيح الدم
و الجواب عن هذه الآية من طريقين مجمل و مفصل
أما المجمل فهو أن قذف المؤمن المجرد هو نوع من أذاه و إذا كان كذبا فهو بهتان عظيم كما قال سبحانه : { و لولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا تسبحانك هذا بهتان عظيم } [ النور : 16 ]
و القرآن قد نص على الفرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] فلا يجوز أن يكون مجرد أذى المؤمنين بغير حق موجبا للعنة الله في الدنيا و الآخرة و للعذاب المهين إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين و لم يخصص مؤذي الله و رسوله باللعنة المذكورة و يجعل جراء مؤذي المؤمنين أنه احتمل بهتانا و إثما مبينا كما قال في موضع آخر : { و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا } [ النساء : 112 ] كيف و العليم الحكيم إذا توعد على الخطيئة زاجرا عنها فلا بد أن يذكر أقصى ما يخاف على صاحبها فإذا ذكر خطيئتين إحداهما أكبر من الأخرى متوعدا عليهما زاجرا عنهما ثم ذكر في إحداهما جزاء عنها و ذكر في الأخرى ما هو دون ذلك ثم ذكر هذه الخطيئة في موضع آخر متوعدا عليها بالعذاب الأدنى بعينه علم أن جزاء الكبرى لا يستوجب بتلك التي هي أدنى منها
فهذا دليل يبين لك أن لعنة الله في الدنيا و الآخرة و إعداده العذاب المهين لا يستوجبه مجرد القذف الذي ليس فيه أذى الله و رسوله و هذا كاف في اطراد الدلالة و سلامتها عن النقص
و أما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة في قول كثير من أهل العلم
فروى هشيم عن العوام بن خوشب حدثنا شيخ من بني كاهل قال : فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } إلى آخر الآية [ النور : 23 ] قال : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة و هي مبهمة ليس فيها توبة و من قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و اصلحوا } [ النور : 5 ] فجعل لهؤلاء توبة و لم يجعل لأولئك توبة قال : فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر
و قال أبو سعيد الأشج : حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات } نزلت في عائشة رضي الله عنها خاصة و اللعنة في المنافقين عامة
فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة و أمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و عيبته فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة و إظهار لفساد فراشه فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيما و لهذا جوز له الشارع أمن يقذفها إذا زنت و درأ الحد عنه باللعان و لم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال و لعل ما يلحق بعض الناس و الخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف و لهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة و الذمية و لها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها و زوجها المحصنين
و الرواية الأخرى عنه ـ و هو قول الأكثرين ـ إنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما و الحد التام إنما يجب بالقذف و في جانب النبي صلى الله عليه و سلم أذاه كقذفه و من يقصد عيب النبي صلى الله عليه و سلم بعيب أزواجه فهو منافق و هذا معنى قول ابن عباس [ اللعنة في المنافقين عامة ]
و قد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام أحمد و الأشج عن خصيف قال : سألت سعيد بن خبير فقلت : الزنا أشد أو قذف المحصنة ؟ قال : لا بل الزنا قال : قلت : و إن الله تعالى يقول : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة } [ النور : 23 ] فقال : إنما كان هذا في عائشة خاصة
و روى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة } [ النور : 23 ] قال : هذه لأمهات المؤمنين خاصة
و روى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال : هن نساء النبي صلى الله عليه و سلم
و قال معمر عن الكلبي : إنما عني بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال تعالى أو يتوب و وجه هذا ما تقدم من أن لعنة الله في الدنيا و الآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله : { المحصنات الغافلات المؤمنات } لتعريف المعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لأن الكلام في قصة الإفك و وقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو تقصير اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك
و يؤيد هذا القول أن الله سبحانه و تعالى رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات و قال في أول السورة : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية [ النور : 4 ] فرتب الجلد و رد الشهادة و الفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات و ذلك ـ و الله أعلم ـ لأن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين و هن أزواج نبيه في الدنيا و الآخرة و عوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان و لأن الله سبحانه قال في قصة عائشة : { و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } [ النور : 11 ] فتخصصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم و قال : { و لولا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف و إنما يمس متولي كبره فقط و قال هنا : { و لهم عذاب عظيم } فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين و يعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و تولى كبر الإفك و هذه صفة المنافق ابن أبي
و اعلم أنه علي هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه و سلم فلعن صاحبه في الدنيا و الآخرة و لهذا قال ابن عباس : [ ليس فيها توبة ] لأن مؤذي النبي صلى الله عليه و سلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا و على هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه و سلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما لعنت امرأة نبي قط
و مما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه و سلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن المسلول قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و هو على المنبر : يل معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما يدخل على أهلي إلا معي ] فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة ـ و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير ـ و هو ابن عم سعد بن معاذ ـ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت : فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت
و في رواية أخرى صحيحة قالت لما ذكر من شأني الذي ذكر و ما علمت به قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في خطيبا و ما علمت به فتشهد و حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي و أيم الله ما علمت على أهلي سوءا قط و أبنوهم بمن و الله ما علمت عليه من سوء قط و لا دخل بيتي قط إلا و أنا حاضر و لا كنت في سفر إلا غاب معي فقام سعد ابن معاذ فقال : يا رسول الله مرني أن أضرب أعناقهم
فقوله [ من يعذرني ] أي : من ينصفني و يقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي و الله لهم فثبت أنه صلى الله عليه و سلم قد تأذى بذلك تأذيا استعذر منه و قال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية : [ مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم ] و لم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم و قوله : إنك معذور إذا فعلت ذلك
بقي أن يقال : فقد كان من أهل الإفك مسطح و حسان و حمنة و لم يرموا بنفاق و لم يقتل النبي صلى الله عليه و سلم أحدا بذلك السبب بل قد اختلف في جلدهم
و جوابه : أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبي صلى الله عليه و سلم و لم يظهر منهم دليل على أذاه بخلاف ابن أبي الذي إنما كان قصده أذاه لم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هن أزواج له في الآخرة و كان وقوع ذلك من أزواجه ممكنا في العقل و لذلك توقف النبي صلى الله عليه و سلم في القصة حتى استشار عليا و زيدا و حتى سأل بريرة فلم يحكم بنفاق من لم يقصد أذى النبي صلى الله عليه و سلم لإمكان أن يطلق المرأة المقذوفة فأما بعد أن ثبت أنهن أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين فقذفهن أذى له بكل حال و لا يجوز ـ مع ذلك ـ أن تقع منهن فاحشة لأن في ذلك جواز أن يقيم الرسول مع امرأة بغي و أن تكون أم المؤمنين موسومة بذلك و هذا باطل و لهذا قال سبحانه : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } [ النور : 17 ] و سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه و أنه معدود من أذاه
الوجه الثاني : أن الآية عامة قال الضحاك : قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } [ النور : 23 ] يعني به أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة و يقول آخرون : يعني أزواج المؤمنين عامة
و قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ : { إن الذين يرمون المحصنات } الآية [ النور : 23 ] و عن عمرو بن قيس قال : قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواهما الأشج و هذا قول كثير من الناس و وجه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه و ليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم داخل في العموم و ليس هو من السبب و لأنه لفظ جمع و السبب في واحدة و لأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك و علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه و الفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد و رد الشهادة و التفسيق و هنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه و هي اللعنة في الدارين و العذاب العظيم
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه و عن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر و في لفظ في الصحيح [ قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ] و كان بعضهم يتأول على ذلك قوله : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات }
ثم اختلف هؤلاء :
فقال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم و بين رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة و قالوا : إنما خرجت تفجر فعلى هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان و يقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف و على هذا فمن فعل ذلك فهو كافر و هو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه و سلم
و قوله : [ إنها نزلت زمن العهد ] يعني ـ و الله أعلم ـ أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين و إلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك و كان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق و الهدنة كانت بعد ذلك بسنتين
و منهم من أجراها على ظاهرها و عمومها لأن سبب نزولها قذف عائشة و كان فيمن قذفها مؤمن و منافق و سبب النزول لابد أن يندرج في العموم و لأنه لا موجب لتخصيصها
و الجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا : { لعنوا في الدنيا ة الآخرة } [ النور : 23 ] على بناء الفعل للمفعول و لم يسم اللاعن و قال هناك : { لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } [ الأحزاب : 57 ] و إذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة و الناس و جاز أن يلعنهم الله في وقت و يلعنهم بعض خلقه و جاز أت يتولى الله لعنه بعضهم و هو من كان قذفه طعنا في الدين و يتولى خلقه لعنه الآخرين و إذا كان اللاعن مخلوقا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم و قد تكون بمعنى أنهم يبعدون عن رحمة الله
و يؤيد هذا أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا و قال الزوج في الخامسة : [ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ] فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله رسوله أن يباهل من حاجة في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يلعن به القاذف و مما يلعن به أن يجلد و أن ترد شهادته و يفسق فإنه عقوبة له و إقصاء له عن مواطن الأمن و القبول و هي من رحمة الله و هذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا و الآخرة فإن الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه و بعده عن أسباب الرحمة في الدارين ز
و مما يؤيد الفرق أنه قال هنا : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] و لم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله تعالى : { الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل و يكتمون ما آتاهم الله من فضله و اعتدنا للكافرين عذابا مهينا } [ النساء : 37 ] و قوله : { فباؤا بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 90 ] و قوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين } [ آل عمران : 178 ] و قوله : { و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } [ الحج : 57 ] و قوله : { و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } [ الجاثية : 9 ] و قوله : { اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } [ المجادلة : 16 ] و أما قوله تعالى : { و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين } [ النساء : 14 ] فهي و الله أعلم فيمن جحد الفرائض و استخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له
و أما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } [ الأنفال : 68 ] و قوله : { و لولا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا الآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] و في المحارب : { ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] و في القاتل : { و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما } [ النساء : 93 ] و قوله : { و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتنزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله و لكم عذاب عظيم } [ النحل : 94 ] و قد قال سبحانه : { و من يهن الله فما له من مكرم } [ الحج : 18 ] و ذلك لأن الإهانة إذلال و تحقير و خزي و ذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم و لا يهان
فلما قال في هذه الأية : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار و المنافقين و لما قال هنالك : { و لهم عذاب عظيم } [ البقرة : 7 ] جاز أن تكون من جنس العذاب في قوله : { لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ]
و مما يبين الفرق أيضا أنه سبحانه و تعالى قال هنا : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] و العذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها و ما هم منها بمخرجين و أهل الكبائر من الؤمنين يجوز أن لا يدخلوها إذا غفر الله لهم و إذا دخلوها فغنهم يخرجون منها و لو بعد حين
قال سبحانه : { و اتقوا النار التي أعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا و أن يتقوا الله و أن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا و فعلوا المعاصي مع أنها معدة للكفار لا لهم و كذلك جاء في الحديث [ أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون ] [ و أما أقوام لهم ذنوب يصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها ] و هذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء و الضراء و إن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم و يدخلها قوم بالشفاعة و قوم بالرحمة و ينشىء الله فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها و ذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه و يستحقه و لمن هو أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التتبع أو لسبب آخر
الدليل السادس : قوله سبحانه : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون } [ الحجرات : 2 ] أي : حذر أن تحبط أعمالكم أو خشية أن تحبط أعمالكم أو كراهة أن تحبط أو منع أن تحبط هذا تقدير البصريين و تقدير الكوفيين لئلا تحبط
فوجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته و عن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع و الجهر قد يفضي إلى حبوط العمل و صاحبه لا يشعر فإنه علل نهيهم عن الجهر و تركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط و بين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل و انعقاد سبب ذلك و ما يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب و العمل يحبط بالكفر قال سبحانه : { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فألئك حبطت أعمالهم } [ البقرة : 217 ] و قال تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [ المائدة : 5 ] و قال : { و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] و قال : { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] و قال : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } [ محمد : 9 ] و قال : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } [ محمد : 28 ] كما أن الكفر إذا قارنه عمل لم يقبل لقوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } [ المائدة : 27 ] و قوله : { الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] و قوله : { و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله } [ التوبة : 54 ] و هذا ظاهر و لا يحبط الأعمال غير الكفر لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة و يخرج من النار إن دخلها و لو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط و لأن الأعمال غنما يحبطها ما ينافيها و لا ينافي الأعمال مطلقا إلا الكفر و هذا معروف من أصول أهل السنة نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى } [ البقرة : 264 ] و لهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر
فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي و الجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه و هو لا يشعر و يحبط عمله بذلك و أنه مظنة لذلك و سبب فيه فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزيز و التوقير و التشريف و التعظيم و الإكرام و الإجلال و لما رفع الصوت قد يشتمل على أذى له و استخفاف به و إن لم يقصد الرافع ذلك فإذا كان الأذى و الاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفرا فالأذى و الاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى
الدليل السابع على ذلك : قوله سبحانه : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63 ] أمر من خالف أمره أن يحذر الفتنة و الفتنة : الردة و الكفر قال سبحانه : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ البقرة : 193 ] و قال : { و الفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ] و قال : { و لو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها } [ الأحزاب : 14 ] و قال : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ النحل : 110 ]
قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد : نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم في ثلاثة و ثلاثين موضعا ثم جعل يتلو : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } الآية [ النور : 63 ] و جعل يكررها و يقول : و ما الفتنة ؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه و جعل يتلو هذه الآية : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ]
و قال أبو طالب المشكاني و قيل له : إن قوما يدعون الحديث و يذهبون إلى رأي سفيان ـ فقال : [ أعجب لقوم سمعوا الحديث و عرفوا الإسناد و صحته يدعونه و يذهبون إلى رأي سفيان و غيره ! قال الله : { فاليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63 ] و تدري ما الفتنة ؟ الكفر قال الله تعالى : { و الفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ] فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و تغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ] فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر و الشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر أو العذاب الأليم و معلوم أن إقضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن [ به ] من استخفاف بحق الأمر كما فعل إبليس فكيف لما هو أغلظ من ذلك كالسب و الانتقاص و نحوه ؟
و هذا باب واسع مع أنه بحمد الله مجمع عليه لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب و عظم عقوبته و ظهر أن ترك الاحترام للرسول و سوء الأدب معه مما يخاف الكفر المحبط كان ذلك أبلغ فيما قصدنا له
و مما ينبغي أن يتفطن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره و ضعف أثره من الشر و المكروه ذكره الخطابي و غيره و هو كما قال و استقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قوله : { و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } [ البقرة : 222 ]
و فبما يؤثر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القر بؤس و الحر أذى ] و قيل لبعض النسوة العربيات : القر أشد أم الحر ؟ فقالت : من يجعل البؤس كالأذى ؟ و البؤس خلاف النعيم و هو ما يشقي البدن و يضره بخلاف الأذى فإنه لا يبلغ ذلك و لهذا قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ]
و قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ] و قال : [ ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا و شريكا و هو يعافيهم و يرزقهم ]
و قد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله : [ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ] و قال سبحانه في كتابه : { و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا } [ آل عمران : 176 ] فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم و لكن يؤذونه تبارك و تعالى إذا سبوا مقلب الأمور و جعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا و آذوا رسله و عباده المؤمنين ثم إن الأذى لا يضر المؤذي إذا تعلق بحق الرسول فقد رأيت عظم موقعه و بيانه أن صاحبه من أعظم الناس كفرا و أشدهم عقوبة فتبين بذلك أن قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه و يحل دمه
و لا يرد على هذا قوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي ـ إلى قوله ـ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم } [ الأحزاب : 53 ] فإن المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل و استئناسهم للحديث لا أنهم آذوا النبي صلى الله عليه و سلم
و الفعل إذا آذى النبي من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه و لم يقصد صاحبه أذاه فإنه ينهى عنه و يكون معصية كرفع الصوت فوق صوته فأما إذا قصد أذاه و كان مما يؤذيه و صاحبه يعلم أنه يؤذيه و أقدم عليه مع استحضار هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر و حبوط العمل و الله سبحانه أعلم
الدليل الثامن على ذلك : أن الله سبحانه قال : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما } [ الأحزاب : 53 ] فحرم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه و جعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته و قد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس : [ لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوجت عائشة ] ثم إن من نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته فالشاتم له أولى
و الدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه [ عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي : [ اذهب فاضرب عنقه ] ] فأتاه علي فإذا هو ركي يتبرد فقال له علي : اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر
فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه و سلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته و لم يأمر بإقامة حد الزنا لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة بل إن كان محصنا رجم و إن كان غير محصن جلد و لا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر فلما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته و لعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رأياه يباشر هذه المرأة أو شهدا بنحو ذلك فأمر بقتله فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه أو أنه بعث عليا ليرى القصة فإن كان ما بلغه عنه حقا قتله و لهذا قال في هذه القصة او غيرها :
[ أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ]
و يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث و مات قبل أن يدخل بها و قبل أن تقدم عليه و قيل : إنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب و تحرم على المؤمنين و بين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح قالوا : فلما مات النبي صلى الله عليه و سلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر فقال : لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما فقال عمر : ما هي من أمهات المؤمنين و لا دخل بها و لا ضرب عليها الحجاب و قيل : إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بارتدادها
فوجه الدلالة أن الصديق رضي الله عنه عزم على تحريقها و تحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنها لذلك فعلم أنهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و لا يقال : إن ذلك حد الزنا لأنها كانت محرمة عليه و من تزوج ذات محرم حد الزنا أو قتل لوجهين :
أحدهما : أن حد الزنا الرجم
الثاني : أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطء ببينة أو إقرار فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غشيها علم أن ذلك عقوبة ما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما السنة فأحاديث :
الحديث الأول : ما رواه الشعبي عن علي أن اليهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأظل رسول الله صلى الله عليه و سلم دمها
هكذا رواه أبو داود في سننه و ابن بطة في سننه
و هو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله و قال : ثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : [ كان رجل من المسلمين ـ أعني أعمى ـ يأوي إلى امرأة يهودية فكانت تطعمه و تحسن إليه فكانت لا تزال تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تؤذيه فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فنشد الناس في أمرها فقام الأعمى فذكر أمرها فأطل النبي صلى الله عليه و سلم دمها
و هذا الحديث جيد فإن الشعبي رأى عليا و روى عنه حديث شراحة الهمدانية و كان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة و هو كوفي فقد ثبت لقاؤه فيكون الحديث متصلا ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلا إلا صحيحا ثم هو من أعلم الناس بحديث علي و أعلمهم بثقات أصحابه
و له شاهد حديث ابن عباس الذي يأتي : فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون المعنى واحدا و قد عمل به عوام أهل العلم و جاء ما يوافقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و مثل هذا المرسل لم يتردد الفقهاء في الاحتجاج به
و هذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم و دليل على قتل الرجل الذمي و قتل المسلم و المسلمة إذا سبا بطريق الأولى لأن هذه المرأة كانت موادعة مهادنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة و لم يضرب عليهم جزية و هذا مشروع عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي : [ لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل المدينة وادع اليهود كافة على غير جزية ] و هو كما قال الشافعي
و ذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود و هم بنو قينقاع و بنو النضير و بنو قريظة
و كان بنو قينقاع و النضير حلفاء الخزرج و كانت قريظة حلفاء الأوس فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم هادنهم و وادعهم مع إقراره لهم و لمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم و عهدهم الذي كانوا عليه حتى إنه عاهد اليهود على إذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة
قال محمد بن إسحاق يعني في أول ما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة [ و كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا بين المهاجرين و الأنصار وادع فيه يهود و عاهدهم و أقرهم على دينهم و أموالهم و اشترط عليهم و شرط لهم
قال ابن إسحاق : حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق قال أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال كتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمدالنبي بين المسلمين و المؤمنين من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المؤمنين و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى و كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين ثم ذكر لبطون الأنصار بني الحارث و بني ساعدة و بني جشم و بني عمرو بن عوف و بني الأوس و بني النبيت مثل هذا الشرط
ثم قال : و إن المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل و لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه إلى أن قال : و إن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم فإن المؤمنين بعضهم مولى بعض دون الناس و إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر و الأسوة غير مظلومين و لا متناصر [ ين ] عليهم و إن سلم المؤمنين واحدة إلى أن قال : و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين و إن ليهود بني عوف ذمة من المؤمنين لليهود دينهم و للمسلمين دينهم مواليهم و أنفسهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته و إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته و إن لحقه بطن من ثعلبة مثله و إن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف و إن موالي ثعلبة كأنفسهم و إن بطانة يهود كأنفسهم ثم يقول فيها : و إن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم و إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله و إلى محمد صلى الله عليه و سلم و إن يهود الأوس و مواليهم و أنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة و فيها أشياء أخر و هذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : [ كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتوالى رجل مسلم بغير إذنه ]
و قد بين فيها أن كل من تبع المسلمين من اليهود فإنه له النصر و معنى الاتباع مسالمته و ترك محاربته لا الاتباع في الدين كما بينه في أثناء الصحيفة فكل من أقام بالمدينة و مخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا
ثم بين أن ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين و لم يكن بالمدينة أحد من اليهود إلا و له حلف إما مع الأوس أو مع بعض بطون الخزرج و كان بنو قينقاع ـ و هم المجاورون بالمدينة و هم رهط عبد الله بن سلام ـ حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي رهم البطن الذين بدىء بهم في هذه الصحيفة
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و حاربوا فيما بين بدر واحد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا على حكمه فقام عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أرسلني ] و غضب حتى إن لوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ظلالا و قال : [ ويحك أرسلني ] فقال : و الله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر و ثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر و الأسود تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني و الله لامرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هم لك ]
و أما النضير و قريظة فكانوا خارجا من المدينة و عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أشهر من أن يخفى على عالم
و هذه المقتولة ـ و الله أعلم ـ كانت من قينقاع لأن ظاهر القصة أنها كانت بالمدينة و سواء كانت منهم أو من غيرهم فإنها كانت ذمية لأنه لم يكن بالمدينة من اليهود إلا ذمي فإن اليهود كانوا ثلاثة أصناف و كلهم مهاهد
و قال الواقدي : حدثني عبد الله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وادعته يهود كلها فكتب بينه و بينها كتابا و ألحق رسول الله صلى الله عليه و سلم كل قوم بحلفائهم و جعل بينه و بينهم أمانا و شرط عليهم شروطا فكان فيما شرط أن لا يظاهروا عليه عدوا فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحاب بدر و قدم المدينة بغت يهود و قطعت ما كان بينها و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فجمهعم ثم قال : [ يا معشر يهود أسلموا فو الله إنكم لتعلمون أني رسول الله قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش ] فقالوا : يا محمد لا يغرنك من لقيت إنك لقيت أقواما أغمارا وإنا و الله أصحاب الحرب و لئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا
ثم ذكر حصارهم و إجلاءهم إلى أذرعات و هم بنو قينقاع الذين كانوا بالمدينة
فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة و بين أنه عاهد جميع اليهود و هذا مما لا نعلم فيه ترددا بين أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه و سلم و من تأمل الأحاديث المأثورة و السيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة
و إنما ذكرنا هذا لأن بعض المصنفين في الخلاف قال : [ يحتمل أن هذه المرأة ما كانت ذمية ]
و قائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم و إنما يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم إنه أبطل هذا الاحتمال فقال : [ لو لم تكن ذمية لم يكن للإهدار معنى فإذا نقل السب و الإهدار تعلق الجم بالزنا و القطع بالسرقة ] و هذا صحيح و ذلك أن في نفس الحديث ما يبين أنها كانت ذمية من وجهين :
أحدهما أنه قال : إن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فخنقها رجل فأبطل دمها فرتب علي رضي الله عنه إبطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم أنه هو الموجب لإبطال دمها لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية و إن كان ذلك في اللفظ الصحابي كما لو قال : [ زنا ماعز فرجم ] و نحو ذلك إذ لا فرق فيما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم من أمر و نهي و حكم و تعليل في الاحتجاج به أن يحكي لفظ النبي صلى الله عليه و سلم أو يحكى بلفظه معنى [ كلام ] النبي صلى الله عليه و سلم فإذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهانا عن كذا أو حكم بكذا أو فعل كذا لأجل كذا كان حجة لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد أن يعلم الذي يجوز له معه أن ينقله و تطرق الخطأ إلى مثل ذلك لا يلتفت إليه كتطرق النسيان و السهو في الرواية و هذا يقرر في موضعه
و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر له أنها قتلت نشذ الناس في أمرها فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها و هو صلى الله عليه و سلم إذا حكم بأمر عقب حكاية حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لأنه حكم حادث فلا بد له من سبب حادث و لا سبب إلا ما حكي له و هو مناسب فتجب الإضافة إليه
الوجه الثاني : أن نشد النبي صلى الله عليه و سلم الناس في أمرها ثم إبطال دليل دمها على أنها كانت معصومة و أن دمها كان قد انعقد سبب ضمانه و كان مضمونا لو لم يبطله النبي صلى الله عليه و سلم لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها و لم يحتج أن يبطل دمها و يهدره لأن الإبطال و الإهدار لا يكون إلا لدم قد انعقد له سبب الضمان ألا ترى أنه لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه أنكر قتلها و نهى عن قتل النساء و لم يهدره فإنه إذا كان في نفسه باطلا هدرا و المسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لإبطاله و إهداره وجه و هذا و لله الحمد ظاهر
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم إنه أهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية و الزموا أحكام العلة لأجل ذلك أولى و أحرى و لو لم يكن قتلها جائزا ليبين للرجل قبح ما فعل فإنه قد قال صلى الله عليه و سلم : [ من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة ] و لأوجب ضمانها أو الكفارة [ كفارة قتل المعصوم ] فلما أهدر دمها علم أنه كان مباحا
الحديث الثاني : ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها و اتكأ عليها فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجمع الناس فقال : [ أنشد رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ] قال : فقام الأعمى يتخطى الناس و هو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك و تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي و أزجرها فلا تنزجر و لي منها ابنان مثل اللؤلؤتين و كانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك و تقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها و اتكأت عليه حتى قتلها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا اشهدوا أن دمها هدر ] رواه أبو داود النسائي
و المغول ـ بالغين المعجمة ـ قال الخطابي : شبيه المشمل نصلة دقيق ماض و كذلك قال غيره : هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط و المشمل : السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه و اشتقاق المغول من غاله الشيء و اغتياله إذا أخذه من حيث لم يدر و هذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد و في رواية عبد الله قال : حدثنا روح حدثنا عثمان الشحام حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها فسأله عنها فقال : يل رسول الله إنها كانت تشتمك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن دم فلانة هدر ]
فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى و يدل عليه كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سب أحاديث ؟ قال : نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين و يكون قد خنقها و بعج بطنها بالمغول : أو يكون كيفية القتل غير محفوظ في إحدى الروايتين
و يؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه و تكرر الشتم و كلاهما قتلها وحدة و كلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها الناس بعيد في العادة و على هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية و هذا قول القاضي أبي يعلى و غيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي و نقضه العهد و جعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة
و يمكن أن تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي : [ فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل و ذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ارتداد عن الدين و هذا دليل على أنه أعتقد أنها مسلمة و ليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر أنها كافرة و كان العهد لها بملك المسلم إياها فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة و هم أشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الإ عن ردة و اختيار دين غير الإسلام و لو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياما طويلة و لم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما إن كان يطوها فإن وطء المرتدة لا يجوز و الأصل عدم تغير حالها و أنها كانت باقية على دينها و مع ذلك إن الرجل لم يقل كفرت و لا ارتدت و إنما ذكر مجرد السب و الشتم فعلم أنه لم يصدر منها قدر زائد على السب و الشتم من انتقال من دين أو نحو ذلك
و هذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة له و على التقديرين فلو لم يكن قتلها حائزا لبين النبي صلى الله عليه و سلم له أن قتلها كان محرما و أن دمها كان معصوما و لأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم و الدية إن لم تكن مملوكة له فلما قال : [ اشهدوا أن دمها هدر ] ـ و الهدر الذي لا يضمن بقود و لا دية و لا كفارة ـ علم أنه كان مباحا مع كونها ذمية فعلم أن السب أباح دمها لا سيما و النبي صلى الله عليه و سلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب فعلم أنه الموجب لذلك و القصة ظاهرة الدلالة في ذلك
الحديث الثالث : ما احتج به الشافعي : على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و برئت منه الذمة و هو قصة كعب بن الأشرف اليهودي
قال الخطابي : قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر ابن الأشرف و قال الشافعي في الأم : [ لم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم و لا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب إلا يهود أهل المدينة و كانوا حلفاء الأنصار و لم تكن الأنصار أجمعت أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إسلاما فوادعت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر و لا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته و التحريض عليه فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم ]
و القصة مشهورة مسفيضة و قد رواها عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فإذن لي أن أقول شيئا قال : قل قال : فأتاه و ذكره ما بينهم قال : إن هذا الرجل قد أراد الصدفة و عنانا فلما سمعه قال : و أيضا و الله لتملنه قال : إنا قد تبعناه الآن و نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال : و قد أردت أن تسلفني سلفا قال : فما ترهنوني ؟ نساءكم قال : أنت أجمل العرب ؟ أنرهنك نساءنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهنت في و سقين من تمر و لمن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال : نعم و واعده أن يأتيه بالحرب و أتى أبا عبس بن جبر و عباد بن بشر فجاؤا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان : قال غير عمرو : قالت له امرأته : إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال : إنما هذا محمد و رضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل نزل و هو متوشح قالوا : نجد منك ريح الطيب قال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال : أفتأذن لي أن أشم منه ؟ قال : نعم فشم ثم قال : أتأذن لي أن أدعو ؟ قال : فاستمكن منه ثم قال : دونكم فقتلوه متفق عليه
و روى ابن أبي أويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يعين عليه و لا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادة النبي صلى الله عليه و سلم فكان أول ما خزع خزع عنه قوله :
( أذاهب أنت لم تحلل بمرفثة ... و تارك أنت أم الفضل بالحرم ؟ )
في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قتله و هذا محفوظ عن أبي أويس رواه الخطابي و غيره و قال : قوله [ خزع ] معناه قطع عهده و في رواية غير الخطابي [ فخزع منه هجاؤه له بقتله ] و الخزع : القطع يقال : خزع فلان عن أصحابه يخزع خزعا أي انقطع و تخلف و منه سميت خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم و أقاموا بمكة فعلى اللفظ الأول يكون التقدير أن قوله خزعة عن النبي صلى الله عليه و سلم أي أول غضاضة عنه بنقض العهد و على الثاني قيل : معناه قطع هجاء للنبي صلى الله عليه و سلم منه بمعنى أنه نقض عهده و ذمته و قيل : معناه خزع من النبي صلى الله عليه و سلم هجاء : أي نال منه و شعث منه و وضع منه
و ذكر أهل المغازي و التفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه و سلم في جملة من وادعه من يهود المدينة و كان عربيا من بني طي و كانت أمه من بني النضير قالوا : فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه و ذهب إلى مكة و رثاهم لقريش و فضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
ثم رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و شبب بنساء المسلمين حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله و رسوله ؟ ] و ذكر قصة مبسوطة
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر و ذكر القصة إلى قتله قال : ففزعت يهود و من معها من المشركين فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا الليلة و هو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم و لا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود و خافت و ذلت من يوم قتل ابن الأشرف
و الاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين :
أحدهما : أنه كان معاهدا مهادنا و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي و السير و هم عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة
و مما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود : بني قينقاع و النضير و قريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف من بني النضير و أمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه و سلم و إنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري و كان ذلك بعد مقتل كعب ابن الأشرف و قد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدا للنبي صلى الله عليه و سلم ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم جعله ناقضا للعهد بهجائه و أذاه بلسانه خاصة
و الدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فعلل ندب الناس له بأذاه و الأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا } [ آل عمران : 186 ] و قال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قال : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] و قال : { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } الآية [ الأحزاب : 69 ] و قال : { و لا مستأذنين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } إلى قوله : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } الآية [ الأحزاب : 53 ] ثم ذكر الصلاة عليه و التسليم خبرا و أمرا و ذلك من أعمال اللسان ثم قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } إلى قوله : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات } [ الأحزاب : 58 ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تبارك و تعالى : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر ] و هذا كثير
و قد تقدم أن الآذى اسم لقليل الشر و خفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذي في الحقيقة
و أيضا فإنه جعل مطلق أذى الله تعالى و رسوله موجبا لقتل رجل معاهد و معلوم أن سب الله و سب رسوله أذى لله و لرسوله و إذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم و لا سيما إذا كان مناسبا و ذلك يدل على أن الله و رسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين و هذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله و رسوله و السب من أذى الله و رسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى
و أيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ ندب إلى قتله و هذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة
و ما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك و يؤيده و إن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي و استعلام كثير من تفاصيلها من جهته و لم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره
فقوله : [ لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء و نحوه و أن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف و حديث لجابر المسند من الطريقين يوافق هذا و عليه العمدة في الاحتجاج و أيضا فإنه لما ذهب إلى مكة و رجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله و الحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء و الأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده و لقتله و إذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن الذي يعطي الجزية و يلتزم أحكام الملة ؟
فإن قيل : إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب و الهجاء
فروى الإمام أحمد قال : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب ابن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا و نحن أهل الحجيج و أهل السدانة و أهل السقاية قال : أنتم خير قال : فنزلت فيهم : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] قال : و أنزلت فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } إلى قوله { نصيرا } [ النساء : 52 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه و سلم و أمرهم أن يغزوه و قال لهم إنا معكم فقالوا : إنكم أهل كتاب و هو صاحب كتاب و لا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل ثم قالوا له : أنحن أهدى أم محمد ؟ نحن نصل الرحم و نقري الضيف و نطوف بالبيت و ننحر الكوماء و نسقي اللبن على الماء و محمد قطع رحمه و خرج من بلده قال بل أنتم خير و أهدى قال : فنزلت فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم : ديننا خير أم دين محمد ؟ قال : اعرضوا علي دينكم قالوا : نعمر بيت ربنا و ننحر الكوماء و نسقي الحاج الماء و نصل الرحم و نقري الضيف قال : دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية
قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الأشرف اليهودي ـ و هو أحد بني النضير أو هو فيهم ـ قد آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجاء و ركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد و أصحابه ؟ و أينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء و نسقي اللبن على الماء و نطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لنا من ابن الأشرف ؟ قد استعلن بعداوتنا و هجائنا و قد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا و قد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين ما أنزل فيه و إن كان لذلك و الله أعلم قال الله عز و جل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله { سبيلا } [ النساء : 51 ] و آيات معها فيه و في قريش
و ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت ] فقال له محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله أقتله و ذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال : فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله و رسوله و هجائه إياه و تأليبه عليه قريشا و إعلانه بذلك
و قال محمد بن إسحاق : كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر و قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة و عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى و قتل من قتل من المشركين
كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري و عبد الله بن أبي بكر و عاصم بن عمر بن قتادة و صالح بن أبي أمامة بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا : كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان و كانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه : أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان ؟ ـ يعني زيدا و عبد الله بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس و الله لئن كان محمد أصحاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة و نزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي و عنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته و أكرمته و جعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر و ذكر شعرا و ما رد عليه حسان و غيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ كما [ حدثني عبد الله بن أبي المغيث ـ : من لي بابن الأشرف ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله و ذكر القصة
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا : ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الخلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا فكان المشركون و اليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه و المسلمين بالصبر على ذلك و العفو عنهم و فيهم أنزل : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] و فيهم أنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } الآية [ البقرة : 109 ] فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و إيذاء المسلمين و قد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين و أسر من أسر منهم و رأى الأسرى مقرنين كبت و ذل ثم قال لقومه : ويلكم ! و الله لبطن الأرض خير لكم اليوم هؤلاء سراة قد قتلوا و أسروا فما عندكم ؟ قالوا : عداوته ما حيينا قال : و ما أنتم و قد وطئ قومه و أصابهم ؟ و لكني أخرج إلى قريش فأخصها و أبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة و وضع رحله عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي و تحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا و ذكر ما رثاهم به من الشعر و ما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين نزل فيهم قال : فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله و قالت : ما لنا و لهذا اليهودي ؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان ؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حسان فقال : ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم قدوم ابن الأشرف قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في اعلانه الشر و قوله الأشعار ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لي من ابن الأشرف فقد آذاني ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا به يا رسول الله و أنا أقتله قال : فافعل و ذكر الحديث
فقد جمع لابن الأشرف ذنوب : أنه رثى قتلى قريش و خصهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم و واطأهم على ذلك و أعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه ز هجا النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين
قلنا : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة و قال ما قال هناك و إنما ندب إلى قتله لما قدم و هجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله : [ ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه و سلم ] ثم أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع و أن النبي صلى الله عليه و سلم حينئذ ندب إلى قتله
و كذلك في حديث موسى بن عقبة [ من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا و هجائنا ؟ ]
و يؤيد ذلك شيئان :
أحدهما : أن سفيان بن عتبة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : [ جاء حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا : أنتم أهل الكتاب و أهل العلم فأخبرونا عنا و عن محمد فقالوا : ما أنتم و ما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام و ننحر الكوماء و نسقي الماء على اللبن و نفك العناة و نسقي الحجيج و محمد صنبور قطع أرحامنا و اتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : بل أنتم خير و أهدى سبيلا فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } لإلى قوله : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ]
و كذلك قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف و حيي ابن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون : نحن أهدى أم محمد و أصحابه ؟ فإنا أهل السدانة و أهل السقاية و أهل الحرم فقالا : أنتم أهدى من محمد و أصحابه و هما يعلمان أنهما كاذبان إنما حملهما على ذلك حسد محمد و أصحابه فأنزل الله تعالى فيهم : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] فلما رجعا إلى قومهما : إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا و كذا قالا : صدق و الله ما حملنا على ذلك إلا حسده و بغضه
و هذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة و قالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه و سلم إلى قتل ابن الأشرف و أمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه و سلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف و إنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء و نحوه و إن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضدا لكن مجرد الأذى لله و رسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] و كما بينه جابر في حديثه
الوجه الثاني : أن ابن أبي أويس قال : حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه و سلم و بني قريظة [ كذا فيه : و أحسبه بني قينقاع ] اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان منها : و قال : و لا أعين عليه و لا أقاتله فقيل له بمكة أديننا خير أم دين محمد و أصحابه ؟ قال : دينكم خير و أقدم من دين محمد و دين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته
الجواب الثاني : أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين و تحضيضه و سبه و هجاءه و طعنه في دين الإسلام و تفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان و لم يعمل عملا فيه محاربة و من نازعنا في سب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه فهو في تفضيل دين الكفار و حضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب و أخبرهم بعورات المسلمين و دعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندما ينتقض عهد الساب و من قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول : [ لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار و مطالعتهم بأخبار المسلمين ] بطريق الأولى عندهم و هو مذهب أبي حنيفة و الثوري و الشافعي على خلاف بين أصحابه و ابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل
و نحن نقول : إن ذلك كله نقض للعهد
الجواب الثالث : أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه و سلم بلا ريب فإن كون الشيء مفصولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى و أما مرثيته للقتلى و حضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة و قريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم عقب بدر و أرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته و تفضيله مما زادهم غيظا و محاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه و سلم و هجاؤه له و لدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة و يغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام و أبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى و لهذا قتل النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه و يهجونه مع عفوه عمن كانت تعين عليه و تحض على قتاله
الجواب الرابع : أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر و ذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } [ النساء : 51 ] نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش و قد أخبر الله سبحانه أنه لعنه و أن من لعنه فلن تجد له نصيرا و ذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب أنتقاض عهده و عدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم و سب ؟ و إنما لم يجعله النبي صلى الله عليه و سلم و الله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام و لم يجهر به و إنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم في الأحاديث و لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليأخذ أحدا من المسلمين و المعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة و أعلن الهجاء و العداوة استحق أن يقتل لظهور اذاه و ثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى يظهر المحاربة و يثبت عليه
فإن قيل : كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه و سلم بالهجاء و الشعر كلام موزون يحفظ و يروى و ينشد بالأصوات و الألحان و يشتهر بين الناس و ذلك له من التأثير في الأذى و الصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور و لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر حسان أن يهجوهم و يقول : [ لهو أنكى فيهم من النبل ] فيؤثر هجاؤه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر
و أيضا فإن كعب بن الأشرف و أم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه و كثر و الشيء إذا كثر و استمر صار له حال اخرى ليست له إذا انفرد و قد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة و إن لم يجيزوا قتل من لم يتكررمنه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به
قلنا أولا : إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده و يبقى الكلام في الناقض للعهد : هل هو نوع خاص من السب ـ و هو ما كثر أو غلظ ـ أو مطلق السب ؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من الكلام الذمي و أذاه لا يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد
و قلنا ثانيا : لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أوصفة و قدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح و لا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين و ليست الجناية في الأوقات و الأماكن و الأحوال المشرفة كالحرم و الإحرام و الشهر الحرام كالجناية في غير ذلك و كذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب و قال النبي صلى الله عليه و سلم ـ و قد قيل له : أي الذنب أعظم ؟ ـ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ ثم أن تزاني حليلة جارك ] و لا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة و سفك دماء خلق من المسلمين و كثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة و لا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث أن تكون إقامة الحد عليه أوكد و الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم أوجب و 'ن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك
لكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله و رسوله و مطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده و إن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا و ذلك من وجوه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله و رسوله و أذى الله و رسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع و لا بقدر فيجب أن يكون أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي و غيره و قليل السب و كثيره و منظومه و منثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم و هو أمر الله و رسوله بقتله و لو لم يرد هذا المعنى لقال : من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى و رسوله أو قد أكثر من أذى الله و رسوله أو قد داوم على أذى الله و رسوله و هو صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم و هو الذي لا ينطق عن الهوى و لم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه و سلم إلا حق في غضبه و رضاه و كذلك قوله في الحديث الأخر : [ إنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و لم يقيده بالكثرة
الثاني : أنه آذاه بهجائه المنظوم و اليهودية بكلام منثور و كلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم و الوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزءا من العلة و لا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذاك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل و الزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة و الأخص عديم التأثير
الوجه الثالث : أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله و كثيره و غليظه و خفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة و الزنا و المحاربة و نحو ذلك و هذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر و لا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول و ليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه و لا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل و ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل و الفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب و الكلام في الجميع واحد
ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه و قال في الذي يعمل عمل قوم لوط [ اقتلوا الفاعل و المفعول به ] و لم يعتبر التكرر و كذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر
و إذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة و المرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل و لا نظير له بل على خلاف الأصول الكلية و ذلك غير جائز
يوضح ذلك : أن ما ينقص الإمان من الأقوال يستوي فيه واحده و كثيره و إن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما [ لو ] صرح بتكذيب الرسول
و كذلك ما ينقض الإمان من الأقوال لو صرح به و قال : [ قد نقضت العهد و برئت من ذمتك ] انتقض عهده بذلك ويكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب و الطعن في الدين و نحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير
الوجه الرابع : أنه إذا أكثر من هذه الأقوال و الأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم ؟ و ليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات و الثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه و لا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار و لا الأيمان و إنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل و إنما الإقرار و الأيمان حجة و دليل على ثبوت ذلك و نحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة و إنما قلنا : إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع و إنما الحكم معلق بجنسه
الوجه الخامس : أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيرا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه و لا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم و إن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه و العمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ]
تدل على ذلك أيضا
الوجه الثاني من الاستدلال به : أن النفر الخمسة الذين من المسلمين : محمد بن مسلمة و أبا نائلة و عباد بن بشر و الحارث بن أوس و أبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتالوه و يخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوا و وافقوه ثم يقتلوه و من المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه و كلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق [ من أمن رجلا على دمه و ماله ثم قتله فأنا منه بريء و إن كان المقتول كافرا ] رواه الإمام أحمد و ابن ماجه
و عن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمنك الرجل على دمه فلا تقتله ] رواه ابن ماجه
و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن ] رواه أبو داود و غيره
و قد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان و نقض العهد قبل هذا و زعم مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات و الإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا و أدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان و مثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم الحربي و يصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه و إنما قتلوه لأجل هجائه و أذاه لله و رسوله و من حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان و لا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق و محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام و نحو ذلك و لا يجوز له أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود و ليس قتله لمجرد كونه كافرا كما سيأتي و أما الإغارة و البيات فليس هناك قول و لا فعل صاروا به آمنين و لا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله و رسوله بالهجاء و نحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فإن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة و الهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر و يعقده كل مسلم و لا يشرط على المستأمن شيء من الشروط و الذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه و لا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة : من التزام الصغار و نحوه و قد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان و ذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك
روى ابن وهب : أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان ابن سعيد الثوري إن أبيه عن عباية قال : ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين : كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة : يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لا تنكر ؟ و الله لا يظلني و إياك سقف بيت أبدا و لا يخلو لي دم هذا إلا قتله
و قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال : قال مروان بن الحكم و هو على المدينة و عنده ابن يامين النضري : كيف كان قتل ابن الأشرف ؟ قال ابن يامين : كان غدرا و محمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال : [ يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندك ؟ و الله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لا يؤويني و إياك سقف بيت إلا المسجد ] و أما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت و قدرت عليك و في يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر و إلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة و ابن يامين في البقيع فرأى محمدا نعشا عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ما تصنع ؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل يضربه جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه و رأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله و لا طباخ به ثم قال : و الله لو قدرت على السيف لضربتك به
فإن قيل : [ فإذا كان هو و بنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال : [ حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فأقتلوه ] فوثب محصية ابن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه و يقول : أي عدو الله قتله ؟ أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله فو الله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة : فقلت له : و الله لقد أمرني بقتله من أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة : و الله إن دينا بلغ منك هذا لمعجب
و قال الواقدي بالأسانيد المتقدمة قالوا : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم و لم ينطلقوا و خافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف و ذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال : و فزعت يهود و من معها من المشركين و ساق القصة كما تقدم عنه
فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين و إلا لما أمر بقتل من صودف منهم و يدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف و حينئذ فلا يكون الأشرف معاهدا ]
قلنا : إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل من ظفر منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم و قد تقدم أنه قال : ما عندكم ؟ يعني في النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : عداوته ما حيينا و كانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله و كان مما يهيجهم على المحاربة و إظهار نقض العهد انتصارهم للمقتول و ذبهم عنه و اما من قر مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة و لهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك و أما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده
و قد ذكر هو أيضا أن قتل ابن الأشرف في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث و أن غزوة بني قينقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر
و ذكر [ أن الكتاب الذي وادع فيه النبي صلى الله عليه و سلم اليهود كلها كان لما قدم المدينة قبل بدر و على هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه و بينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه و بين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة
و قد تقدم أن ابن الأشرف كان معاهدا و تقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أوائل الأمر و القصة تدل على ذلك و إلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم و شكوا إليه قتل صاحبهم و لو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله و كلهم ذكر أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر و أن معاهدة النبي صلى الله عليه و سلم كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي
قال ابن إسحاق : [ و كان فيما بين ذلك من غزو النبي صلى الله عليه و سلم أمر بني قينقاع ]
يعني فيما بين بدر و غزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى و قد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب و نقض العهد
الحديث الرابع : ما روي [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] رواه أبو محمد الخلال و أبو القاسم الأزرجي و رواه أبو ذر الهروي و لفظه [ من سب نبيا فاقتلوه و من سب أصحابي فاجلدوه ]
و هذا الحديث قد رواه عبد العزيز بن الحسن بن زبالة قال : حدثنا عبد الله ابن موسى عن جعفر عن غلي بن موسى عن أبيه عن جده عن محمد بن علي ابن الحسين عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه و في القلب منه حزازة فإن هذا الإسناد الشريف قد ركب عليه متون بكرة و المحدث به عن أهل البيت ضعيف فإن كان محفوظا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيا من الأنبياء و ظاهره يدل على أنه يقتل من غير استتابة و أن القتل حد له
الحديث الخامس : ما روى عبد الله بن قدامة عن أبي برزة قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق فقلت : أقتله ؟ فانتهرني و قال : ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه النسائي من حديث شعبة عن توبة العنبري عنه و في رواية لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه عن أبي برزة [ أن رجلا شتم أبا بكر فقلت : يا خليفة رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : ويحك ـ أو ويلك ـ ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و رواه أبو داود في سنه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال : [ كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت : ائذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال : فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال : ما الذي قلت انفا ؟ قلت : ائذن لي أضرب عنقه قال : أكنت فاعلا لو أمرتك ؟ قلت : نعم قال : لا و الله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال أبو داود في مسائله : سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث أبي بكر [ ما كنت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فقال : لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى ثلاث ـ و في رواية : بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ [ كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان و قتل نفس بغير نفس و النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتل ]
و قد استذل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من العلماء منهم أبو داود و إسماعيل بن إسحاق القاضي و أبو بكر عبد العزيز و القاضي أبو يعلى و غيرهم من العلماء و ذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر و أغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله بذلك و أخبره أنه لو أمره لقتله فقال أبو بكر : [ ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم ]
فعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتل من سبه و من أغلظ له و أن له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه و على الناس أن يطيعوه في ذلك لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به و لا يأمر بمعصية الله قط بل من أطاعه فقد أطاع الله
فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
إحداهما : أنه يطاع في كل من أمر بقتله
و الثانية : أن له أن يقتل من شتمه و أغلظ له
و هذا المعنى الثاني الذي كان له باق في حقه بعد موته فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزا بل ذلك بعد موته أوكد و أوكد لأن حرمته بعد موته أكمل و التساهل في عرضه بعد موته غير ممكن
و هذا الحديث يفيد أن سبه في الجملة يبيح القتل و يستدل بعمومه على قتل الكافر و المسلم
الحديث السادس : قصة العصماء بنت مروان ما روى عن ابن عباس قال : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ من لي بها ؟ ] فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا ينتطح فيها عنزان ]
و قد ذكر بعض أصحاب المغازي و غيرهم قصتها مبسوطة
قال الواقدي : حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه أن عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد كانت تحت يزيد بن يزيد بن حصن الخطمي و كانت تؤذي النبي صلى الله عليه و سلم و تعيب الإسلام و تحرض على النبي صلى الله عليه و سلم و قالت :
( فباست بني مالك و النبيت ... و عوف و باست بني الخزرج )
( أطعتم أتاوي من غيركم ... فلا من مراد و لا مذحج )
( ترجونه بعد قتل الرؤوس ... كما ترتجى مرق المنضج )
و قال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها و تحريضها : اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها و رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر جاء عمير بن عدي في الليل حتى دخل عليها في بيتها و حولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فحسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنجاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما انصرف النبي صلى الله عليه و سلم نظر إلى عمير فقال : أقتلت بنت مروان ؟ قال : نعم بأبي أنت يا رسول الله و خشي عمير أن يكون أفتات على رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلها فقال : هل علي في ذلك شيء يا رسول الله ؟ قال : [ لا ينتطح فيها عنزان ] فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمير : فالتفت النبي صلى الله عليه و سلم إلى من حوله فقال : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي ] فقال عمر بن الخطاب : انظروا إلى هذا الأعمى الذي تسرى في طاعة الله فقال : [ لا تقل الأعمى و لكنه البصير ] فلما رجع عمير من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وجد بنيها في جماعة يدفنونها فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلا من المدينة فقالوا : يا عمير أنت قتلتها ؟ فقال : نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون و الذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة و كان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفا من قومهم فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي قال الواقدي : أنشدنا عبد الله بن الحارث :
( بني وائل و بني واقف ... و خطمة دون بني الخزرج )
( متى ما ادعت أختكم ويحها ... بعولتها و المنايا تجي )
( فهزت فتى ماجدا عرقه ... كريم المداخل و المخرج )
( فضرجها من نجيع الدما ... قبيل الصباح و لم تخرج )
( فأورده الله برد الجنا ... ن جدلان في نعمة المولج )
قال عبد الله بن الحارث عن أبيه و كان قتلها بخمس ليال بقين من رمضان مرجع النبي صلى الله عليه و سلم من بدر
و روى هذه القصة أخصر من هذا أبو أحمد العسكري ثم قال : [ كانت هذه المرأة تهجو النبي صلى الله عليه و سلم و تؤذيه ]
و إنما خص النبي صلى الله عليه و سلم العنز لأن العنز تشام العنز ثم تفارقها و ليس كنطاح الكباش و غيرها
و ذكر هذه القصة مختصرة محمد بن سعد في الطبقات
و قال أبو عبيد في الأموال : و كذلك كانت قصة عصماء اليهودية إنما قتلت لشتمها النبي صلى الله عليه و سلم
و هذه المرأة ليست هي التي قتلها سيدها الأعمى و لا اليهودية التي قتلت لأن هذه المرأة من بني أمية بن زيد أحد بطون الأنصار و لها زوج من بني خطمة و لهذا ـ و الله أعلم ـ نسبت في حديث ابن عباس إلى بني خطمة و القاتل لها غير زوجها و كان لها بنون كبار و صغار نعم كان القاتل من قبيلة زوجها كما في الحديث
و قال محمد بن إسحاق : أقام مصعب بن عمير عند أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا و فيها رجال و نساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد و خطمة و وائل و واقف و تلك أوس الله و هم من الأوس بن حارثة و ذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت كان شاعرهم يسمعون منه و يعظمونه
فهذا الذي ذكره ابن إسحاق يصدق ما رواه الواقدي من تأخر ظهور الإسلام ببني خطمة و الشعر المأثور عن حسان يوافق ذلك
و إنما سقنا القصة من رواية أهل المغازي ـ مع ما في الواقدي من الضعف ـ لشهرة هذه القصة عندهم مع أنه لا يختلف اثنان أن الواقدي من أعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي و أخبرهم بأحوالها و قد كان الشافعي و أحمد و غيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه نعم هذا الباب يدخله خلط الروايات بعضها ببعض حتى يظهر أنه سمع مجموع القصة من شيوخه و إنما سمع من كل واحد بعضها و لم يميزه و يدخله أخذ ذلك من الحديث المرسل و المقطوع و ربما حدس الراوي بعض الأمور لقرائن استفادها من عدة جهات و يكثر من ذلك إكثار ينسب لأجله إلى المجازفة في الرواية و عدم الضبط فلم يمكن الاحتجاج بما ينفرد به فأما الاستشهاد بحديثه و الاعتضاد به فمما لا يمكن المنازعة فيه لا سيما في قصة تامة يخبر فيها باسم القاتل و المقتول و صورة الحال فإن الرجل و أمثاله أفضل ممن ارتفعوا في مثل هذا في كذب و وضع على أنا لم نثبت قتل الساب بمجرد هذا الحديث و إنما ذكرناه للتقوية و التوكيد و هذا مما يحصل ممن هو دون الواقدي
و وجه الدلالة أن هذه المرأة لم تقتل إلا لمجرد أذى النبي صلى الله عليه و سلم و هجوه و هذا بين في قول ابن عباس : [ هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من لي بها ] فعلم أنما ندب إليها لأجل هجوها و كذلك في الحديث الآخر [ فقال عمير حين بلغه قولها و تحريضها : اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها ] و في الحديث لما قال له قومه : [ أنت قتلتها ؟ ] فقال : [ نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون فو الذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم ] فهذه مقدمة
و مقدمة أخرى أن شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي صلى الله عليه و سلم حتى يقال : التحريض على القتال قتال و إنما فيه نحريض على ترك دينه و ذم له و لمن اتبعه و أقصى غاية ذلك أن لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل أو أن يخرج عنه من دخل فيه و هذا شأن كل ساب
يبين ذلك أنها هجته بالمدينة و قد أسلم أكثر قبائلها و صار المسلم بها أعز من الكافر و معلوم أن الساب في مثل هذه الحال لا يقصد أن يقاتل الرسول و أصحابه و إنما يقصد إغاظتهم و أن لا يتابعوا
و أيضا فإنها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن جميع قبائل الأوس و الخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي صلى الله عليه و سلم بيد و لا لسان و لا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك و إنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن أتباعه أو أن يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة و نحو ذلك مما فيه تخذيل عنه و حض على الكفر به لا على قتاله على أن الهجاء إن كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به و يقتل به الذمي فإنه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد و ليس بعد القتال غاية في نكث العهد
إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه صلى عليه و سلم لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس و الخزرج فإنه كان يسالمهم و يتألفهم بكل وجه ن و كان الناس إذ قدمها على طبقات : منهم المؤمن و هم الأكثرون و منهم الباقي على دينه و هو متروك لا يحارب و لا يحارب و هو و المؤمنون من قبيلته و حلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي صلى الله عليه و سلم على حلفهم
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و ليس فيها دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين إلا بني خطمة و بني واقف و بني وائل كانوا آخر الأنصار إسلاما و حول المدينة حلفاء الأنصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين من عادى الإسلام
و كذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان و ابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة كعب بن الأشرف قال : فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا : [ إن ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره ] و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين قدم المدينة ـ استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا و المعلوم أن قبائل الأوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أقرهم كانت هذه المرأة من المعاهدين و كان فيهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ما ليس في قلبه و كان الإسلام و الإيمان يفشو في بطون الأنصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا إما مؤمنا أو منافقا و كان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادعا مهادنا أو هو أحسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه و أن يهوى هواهم و لا يرى أن يخرج عن جماعتهم و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعاملهم ـ من الكف عنهم و احتمال أذاهم ـ بأكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم و يخاف من تغير قلوب من أظهر الإسلام من قبائلهم لو أوقع بهم و هو في ذلك متبع قوله تعالى : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين اشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ]
ثم إنه مع هذا ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته و قال فيمن قتلها : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى هذا ] فثبت بذلك أن هجاءه و ذمه موجب للقتل غير الكفر و ثبت أن الساب يجب قتله و إن كان من الحلفاء و المعاهدين و يقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب و لا سيما و لو لم تكن معاهدة فقتل المرأة لا يجوز إلا أن تقاتل لأنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة في بعض مغازيه مقتولة فقال : [ ما كانت هذه لتقتاتل ] و نهى عن قتل النساء و الصبيان ثم إنه أمر يقتل هذه المرأة و لم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لأن قتل المرأة لمجرد الكفر لا يجوز و لا نعلم قتل المرأة الكافرة الممسكة عن القتال أبيح في وقت من الأوقات بل القرآن و ترتيب نزوله على أنه لم يبح قط لأن أول آية نزلت في القتال : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم } الآية [ الحج : 40 ] فأباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم و عقوبة لمن أخرجهم من ديارهم و منعهم من توحيد الله و عبادته و ليس للنساء في ذلك حظ
ثم إنه كتب عليهم القتال مطلقا و فسره بقوله : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } الآية [ البقرة : 190 ] فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله و النساء لسن من أهل القتال فإذا كان قد أمر بقتل هذه المرأة فإما أن يقال [ هجاؤها قتال ] فهذا يفيدنا أن هجاء الذمي قتال فينقض العهد و يبيح الدم أو يقال [ ليس بقتال ] و هو الأظهر لما قدمناه من أنه لم يكن فيه تحريض على القتال و لا كان لها رأي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم و نحو ذلك يفيد أن السب موجب للقتل بوجوه :
أحدها : أنه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المرأة و إن كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد و لا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجة للقتل و هذا ما أحسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل
الثاني : أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالا من غير المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت و لما جاز قتلها و لهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ينتطح فيها عنزان ] مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام فبين صلى الله عليه و سلم أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن و لا كثير رحمة من الله بالمؤمنين و نصرا لرسوله و دينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا
الثالث : أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء و أن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا و أنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه و إن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر و ذلك في المسلم ظاهر و أما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كقتال أو أسوأ حالا من القتال
الرابع : أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة و في أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال و كان قتل الكفار حينئذ محرما و هو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } إلى قوله { فلما كتب عليهم القتال } [ البقرة : 246 ] و لهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة لقوله : { أذن للذين يقاتلون } و هذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخفى على أحد منهم أنه صلى الل عليه و سلم كان قبل الهجرة و بعيدها ممنوعا عن الابتداء بالقتل و القتال و لهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى [ إنه لم يؤذن لي في القتال ] و ذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح و هود و صالح و إبراهيم و عيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل
ثم إنه لم يقاتل أحدا من أهل المدينة و لم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر و لا من غيرهم و الآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم و قاتلوهم و نحو ذلك و ظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فإن دوام إمساكه عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه و هو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا و المغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فيبقى على الوجوب المتقدم مع فعله صلى الله عليه و سلم
قال موسى بن عقبة عن الزهري : كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدوه قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله و من كف يده و عاهده كف عنه قال الله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [ النساء : 90 ]
و كان القرآن ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها و عمل بالتي أنزلت و بلغت الأولى منتهى العمل بها و كان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة و إذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجت و لم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين على أن السب موجب للقتل و إن كان هناك ما يمنع القتال لولا السب كالعهد و الأنوثة و منع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته
و هذا وجه حسن دقيق فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق و ليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع و لا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع و لا العقول و كان دم الكافرين في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية و بمنع الله المؤمنين من قتله و دماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى و كدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك و قد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا و الآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا و لم يكن عمدا محضا
فظاهر سيرة نبينا و ظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المرأة التي هجت من هؤلاء و ليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل امرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة و أولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب و على أن تكون صاغرة و تلك لم نعاهدها على شيء
الحديث السابع :
قصة أبي عفك اليهودي
ذكرها أهل المغازي و السير قال الواقدي : حدثنا سعيد بن محمد عن عمارة بن غزية و حدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه قالا : إن شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك ـ و كان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين و مائة سنة حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم كان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم و لم يدخل في الإسلام فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده و بغى فقال و ذكر قصيدة تتضمن هجو النبي صلى الله عليه و سلم و ذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله :( فسلبهم أمرهم راكب ... حراما حلالا لشتى معا )
قال سالم بن عمير : علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فأمهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش و صاح عدو الله فثاب إليه أناس ممن هم على قوله فأدخلوه منزله و قبروه و قالوا : من قتله ؟ و الله لو نعلم من قتله لقتلناه
و به ذكر [ محمدبن سعد ] أنه كان يهوديا و قد ذكرنا أن يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا ثم إنه لما هجا و أظهر الذم قتل
قال الواقدي عن ابن رقش : [ قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهرا ] و هذا قديم قبل ابن الأشرف و هذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينقض عهده و يقتل غيلة لكن هو من رواية أهل المغازي و هو يصلح أن يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد
الحديث الثامن : حديث أنس بن زنيم الديلي و هو مشهور عند أهل السيرة ذكره ابن إسحاق و الواقدي و غيرهما
قال الواقدي : حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال : كان آخر ما كان بين خزاعة و بين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم و ما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها
قال الواقدي : حدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي عن أبيه قال : و خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يخبرونه بالذي أصابهم و ذكر قصة فيها إنشاد القصيدة التي أولها :
( لا هم إني ناشد محمدا )
قال : فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه فبلغ ذلك أنس بن زنيم الديلي فقدم معتذرا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مما بلغه عنه فقال : و ذكر قصيدة فيها مدح لرسول الله صلى الله عليه و سلم أولها :
( أنت الذي تهدى معد بأمره ... بل الله يهديها و قال لك : اشهد )
( فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر و أوفى ذمة من محمد )
( تعلم رسول الله أنك مدركي ... و أن وعيدا منك كالأخذ باليد )
( تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل سكن من تهام و منجد )
( و نبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي )
( سوى أنني قد قلت : يا ويح فتية ... أصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد )
و يقول فيها :
( فإني لا عرضا خرقت و لا دما ... هرقت ففكر عالم الحق و اقصد )
قال الواقدي : أنشدنيها حزام و بلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم قصيدته هذه و اعتذاره و كلمة نوفل بن معاوية الديلي فقال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و لم يؤذك ؟ و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بك من المهلك و قد كذب عليه الركب و أكثروا عندك فقال : دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب و لا بعيد كان أبر من خزاعة فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد عفوت عنه قال نوفل : فداك أبي و أمي
و قال ابن إسحاق : و قال أنس بن زنيم يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم حين قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم يستنصره و يذكر أنهم قد نالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنشد تلك القصيدة و فيها :
( و تعلم أن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كل موعد )
فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قد صالح قريشا و هادنهم عام الحديبية عشر سنين و دخلت خزاعة في عقده و كان أكثرهم مسلمين و كانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه و سلم مسلمهم و كافرهم و دخلت بنو بكر في عهد قريش فصار هؤلاء كلهم معاهدين و هذا مما تواتر به النقل و لم يختلف فيه أهل العلم
ثم إن هذا الرجل المعاهد هجا النبي صلى الله عليه و سلم على ما قيل عنه فشجه بعض خزاعة ثم أخبروا النبي صلى الله عليه و سلم أنه هجاه يقصدون بذلك إغراءه ببني بكر فندر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه أي أهدره و لم يندر دم غيره فلولا أنهم علموا أن هجاء النبي صلى الله عليه و سلم من المعاهد مما يوجب الانتقام منه لم يفعلوا ذلك
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم نذر دمه لذلك مع أن هجاءه كان حال العهد و هذا نص في أن المعاهد الهاجي يباح دمه
ثم إنه لما قدم أسلم في شعره و لهذا عدوه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و قوله [ تعلم رسول الله ] [ و نبي رسول الله ] دليل على أنه أسلم قبل ذلك أو هذا وحده إسلام منه فإن الوثني إذا قال : [ محمد رسول الله ] حكم بإسلامه و مع هذا فقد أنكر أن يكون هجا النبي صلى الله عليه و سلم و رد شهادة أولئك بأنهم أعداء له لما بين القبيلتين من الدماء و الحرب فلو لم يكن ما فعله مبيحا لدمه لما احتاج إلى شيء من ذلك
ثم إنه ـ بعد إسلامه و اعتذاره و تكذيب المخبرين و مدحه لرسول الله صلى الله عليه و سلم ـ إنما طلب العفو من النبي صلى الله عليه و سلم عن إهدار دمه و العفو إنما يكون مع جواز العقوبة على الذنب فعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يعاقبه بعد مجيئه مسلما معتذرا و إنما عفا عنه حلما كرما
ثم إن في الحديث أن نوفل بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكر عامة أهل السير أن نوفلا هذا هو رأس البكريين الذين عدوا على خزاعة و قتلوهم و أعانتهم قريش على ذلك و بسبب ذلك انتقض عهد قريش و بني بكر ثم إنه أسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هجا النبي صلى الله عليه و سلم فعلم أن الهجاء أغلظ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قوم العهد بالقتال و آخر هجا ثم أسلما عصم دم الذي قاتل و جاز الانتقام من الهاجي و لهذا قرن هذا الرجل خرق العرض بسفك الدم فعلم أن كليهما موجب للقتل و أن خرق عرضه كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين و المعاهدين
و مما يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يهدر دم أحد من بني بكر الناقضين للعهد بعينه و إنما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار و أهدر دم هذا بعينه حتى أسلم و اعتذر هذا مع أن العهد كان عهد هدنة و موادعة و لم يكن عهد جزية و ذمة و المهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من منكرات الأقوال و الأفعال المتعلقة بدينه و دنياه و لا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب فعلم أن الهجاء من جنس الحرب و أغلظ منه و أن الهاجي لا ذمة له
الحديث التاسع :
قصة ابن أبي سرح
و هي مما اتفق عليه أهل العلم و استفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك و ذلك أثبت و أقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها :عن مصعب بن سعد عن سعيد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : [ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك قال : إنه لا ينبغي لنبي له خائنة الأعين ] رواه أبو داود باسناد صحيح
و رواه النسائي كذلك أبسط من هذا عن سعد قال : لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر و قال : اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن خطل و مقيس بن صبابة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح
فأما عبد الله بن خطل فأدرك و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد ابن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا و كان أشب الرجلين فقتله و أما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه
و أما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا فقال عكرمة : و الله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك علي عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده و لأجدنه عفوا كريما فجاء و أسلم
و أما عبد الله بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود
و عن عبد الله بن عباس قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأذله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود
و روى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح و فرتنى و ابن الزبعرى و ابن خطل فأتاه أبو برزة و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه و كان رجل من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله فجاء عثمان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فشفع له إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه و سلم متى يومئ إليه أن يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للأنصاري [ هلا وفيت بنذرك فقال يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى توميء فأقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس لنبي أن يومئ ]
و قال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه : قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين دخل مكة و فرق جيوشه ـ أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ] عبد الله ابن خطل و عبد الله بن أبي سرح [ ] و إنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فرجع مشركا و لحق بمكة فكان يقول : إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له : أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول [ عليم حليم ] فيقول له : أو أكتب [ عزيز حكيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ]
قال ابن إسحاق : حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فر إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم طويلا و هو واقف عليه ثم قال : [ نعم ] فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله ] فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ألا أو مأت إلي فاقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن النبي لا يقتل بالإشارة ]
و قال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه : حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال : و الله لو أشاء لقلت كما يقول محمد و جئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء و أصرفه إلى الشيء فيقول : أصبت ففيه أنزل الله تعالى : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله
و قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال : كان رسول الله عهد إلى أمرائه من المسلمين ـ حين أمرهم أن يدخلوا مكة ـ ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و إنما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله لأنه كان أسلم و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال : و الله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم ] أو [ حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ]
و روينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر أصحابه بالكف و قال : [ كفوا السلاح ] إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فامن الناس كلهم إلا أربعة : ابن أبي سرح و ابن خطل و مقيس الكناني و امراة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لم أحرم مكة و لكن الله حرمها و إنها لم تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة و إنما أحلها الله لي ساعة من نهار ] قال : ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال : بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد أغرضت عنه و إني لأظن بعضكم سيقتله ] فقال رجل من الأنصار : فهلا أومضت إلي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن النبي لا يومض ] فكأنه رآه غدرا
و في مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و مقيس بن صبابة أحد بني ليث و أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و يقال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل النفر و أن يقتل عبد الله بن أبي سرح و كان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد و لم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهم : لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال : [ إن النبي لا يفعل ذلك ] و يقال : أجاره عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها
و ذكر محمد بن عائذ في مغازيه هذه القصة مثل ذلك
و ذكر الواقدي عن أشياخه قالوا : و كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سميع عليم ] فيكتب [ عليم حكيم ] فيقرأه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول : كذاك قال الله و يقرأه فافتتن و قال : ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلى كما يوحى إلى محمد و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فقال : يا أخي إني و الله أستجير بك فاحبسني هاهنا و اذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رأني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا فقال عثمان : بل اذهب معي قال عبد الله : و الله لئن رآني ليضربن عنقي و لا ينظرني فقد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان : انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح و اقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه و كانت تلطفني و تتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام و إنما أعرض النبي صلى الله عليه و سلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد و عثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل رأسه و هو يقول : يا رسول الله بايعه فداك أبي و أمي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال : ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله ] أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر : ألا أومأت إلي يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه و يقال : قال هذا أبو السير و يقال : عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لا أقتل بالإشارة ]
و قائل يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال يومئذ : [ إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ]
فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه و سلم : بأبي و أمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ ألم أبايعه و أومنه ؟ ] قال : بلى أي رسول الله يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [
الإسلام يجب ما قبله
] فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يتمم له الوحي و يكتب له ما يريد فيوافقه عليه و أنه يصرفه حيث شاء و يغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك و زعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على كتابه و الافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به و الردة في الدين و هو من أنواع السب
كذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله و عاقبه عقوبة خارجة عن العادة لكل أحد افترى إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل : كاتبه أعلم الناس بباطنه و بحقيقته أمره و قد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية تبين بها أنه مفتر
روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : كان رجل نصراني فأسلم و قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فعاد نصرانيا فكان يقول : لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح و قد لفظته الأرض فقالوا : هذا فعل محمد و أصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه
و رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال : فرفعوه و قالوا : هذا كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه و سلم انه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله و فضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا و هذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله و أنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا و أن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون و لا يصيبهم مثل هذا و أن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه و سبه و مظهر لدينه و لكذب الكاذب إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد
و نظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه و الخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون و المدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا : كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر و هو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه و تيسر و لم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة و يكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا : حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا بما قالوه فيه
و هكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك و من سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده و تارة بأيدي عباده المؤمنين
و كذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه و سلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة و افترى عليه الكذب نمع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه و حاربوه أشد المحاربة و مع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا
و سنذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ثم دعوا إلى التوبة و عرضت عليهم حتى تابوا فقبلت توبتهم
و في ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول الله صلى الله عليه و سلم الساب له أعظم من جرم المرتد
ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه و سلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما و قوله : [ هلا قتلتموه ] ثم عفوه عنه بعد ذلك ـ دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتله و أن يعفو عنه و يعصم دمه و هو دليل على أن له صلى الله عليه و سلم أن يقتل من سبه و إن تاب و عاد إلي الإسلام
يوضح ذلك أشياء :
منها : أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه و سلم بها و قد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه و سلم : إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا و توبة المرتد إسلامه
ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بعد الفتح و هدوء الناس و بعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ و تربص زمانا ينتظر فيه قتله و يظن أن بعضهم سيقتله و هذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه
و كذلك لما قال له عثمان : إنه يفر منك كلما رآك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن خوف القتل سقط بالبيعة و الأمان و أن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام وجب الإسلام إثم السب و بقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا
و سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيها لمجرد الردة و إذا كان موجبا للقتل استوى فيه المسلم و الذمي و لأن كل ما يوجب القتل ـ سوى الردة ـ يستوي فيه المسلم و الذمي
و في كتمان الصحابة لابن أبي سرح و لإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب قتلهم و إنما أباحه مع جواز عفوه عنهم و في ذلك دليل على إنه كان مخيرا بين القتل و العفو و هذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه و سلم
و أعلم أن افتراء ابن أبي سرح و الكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر
و كذلك قوله : [ إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله و لا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه و لا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله
و كذلك قوله : [ إني لأكتب ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد و إن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يكتبه ما شاء و لا كان يوحى إليه شيء
و كذلك قول النصراني : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] من هذا القبيل و على هذا الافتراء حاق به العذاب و استوجب العقاب
ثم اختلف أهل العلم : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه و سلم بإكتابه ؟ و هل قال له شيئا ؟ على قولين :
أحدهما : أن النصراني و ابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك كله و أنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابه غير ما قاله أصلا و إنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس و يكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة و ذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول له : هذا الذي قتله ـ أو كتبته ـ صواب و إنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك و هو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك
يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني يقول : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه و سلم و يغيره و يزيده و ينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه و سلم على كتابه مع ما فيه من التبديل و لم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و أنه لا يغسله الماء و أن الله حافظ له و أن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه و نسخ تلاوته و أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن كل عام و أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه آية اقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم و أكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه [ سميعا عليما ] فيكتب هو [ عليما حكيما ] و إذا قال : [ عليما حكيما ] كتب [ غفورا رحيما ] و أشباه ذلك و لم يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا
قالوا : و إذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية و الكذب حتى أظهر الله على كذبه آية بينة و الروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقد علم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له شيئا
قالوا : و ما روى في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فهو منقطع أو معلل و لعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك و مثل هذا يلتبس الأمر فيه حتى اشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ما قيل إنه قال رد على هذا القول فلا سؤال
القول الثاني : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد و غيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أملى عليه [ سميعاعليما ] يقول : كتبت [ سميعا بصيرا ] قال : دعه و إذا أملى عليه [ عليما حكيما ] كتب [ عليما حكيما ] قال حماد نحو ذا قال : و كان قد قرأ البقرة و آل عمران و كان من قرأهما فقد قرأ قرأنا كثيرا فذهب فتنصر و قال : لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول : [ دعه ] فمات فدفن فنبذنه الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة : فلقد رأيته فوق الأرض رواه الأمام أحمد
وحدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قرأ البقرة و لآل عمران و كان الرجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يملي عليه [ غفورا رحيما ] فيكتب [ عليما حكيما ] فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم
: أكتب كذا و كذا اكتب كيف شئت و يملي عليه [ عليما حكيما ] فيكتب [ سميعا بصيرا ] فيقول : اكتب كيف شئت فأرتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين و قال : أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيف شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول صلى الله عليه و سلم [ إن الأرض لم تقبله ] قال أنس : فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة : ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا : [ قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض ] فهذا إسناد صحيح
وقد قال من ذهب إلى القول الأول : أعل البزار حديث ثابت عن انس قال : رواه عنه و لم يتابع عليه و رواه حميد عن أنس و أظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا : ثم أن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم أو شهده يقول ذلك و لعله حكى ما سمع
و في هذا الكلام تكلف ظاهر و الذي ذكرناه في حديث أبن إسحاق و الواقدي و غيرهما موافق لظاهر هذه الرواية و كذلك ذكر طائفة من أهل التفسير و قد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق و ذلك أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ عليم حكيم ] فيقول : [ أو أكتب عزيز حكيم ] فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعم كلاهما سواء ] و في الرواية الأخرى : و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم أو حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ]
ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل و أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأهما و يقول له : [ أكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب ] و قد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : [ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة ] و في حرف جماعة من الصحابة { إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم } و الأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن يختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القاريء في القراءة بأنها شاء و كان النبي صلى الله عليه و سلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه و سلم بحرف من الحروف فيقول له : [ أو أكتب كذا و كذا ] لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم
يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ] لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه و سلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا و ختم الآي بمثل [ سميع عليم ] و [ عليم حليم ] و [ غفور رحيم ] أو بمثل [ سميع بصير ] أو [ عليم حليم ] أو [ حكيم حليم ] كثير في القرآن و كان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن في كل رمضان و كانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان و الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس و لهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ و المنسوخ و كذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه في [ الناسخ و المنسوخ ] لتضمنها نسخ بعض الحروف
وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في [ الناسخ و المنسوخ ] : حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال : و سمعت خلفا يقول : كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه و سلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن خواتم الآي [ يعمون ] و [ يفعلون ] و نحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكتب أي ذلك شئت ] قال : فيوقفه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا : يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن ؟ قال : أكتبه كيف شئت قال : فأنزل الله في ذلك { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] الآية كلها
قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : [ من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما و جده و إن كان متعلقا بأستار الكعبة ]
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن حرفين جائزين فيقول له : [ أكتب أي ذلك شئت ] فيوقفه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله و كان كلاها منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا و كان هذا التخيير من النبي صلى الله علي و سلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله و علما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل و ليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه و ضمن أنه لا يأته الباطل من بين يديه و لا من خلفه
و ذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه و سلم فيقول : [ كذلك أنزلت ] كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة و إن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال : عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأحايين فإذا أملى عليه [ عزيز حكيم ] كتب [ غفور رحيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا أو ذاك سواء ] فلما نزلت : { و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : { خلقا آخر } عجب عبد الله بن سعد فقال : تبارك الله أحسن الخالقين [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كذا أنزلت علي فاكتبها ] فشك حينئذ و قال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلى كما أوحى إليه و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية [ الأنعام : 93 ]
و مما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب
و من الناس من قال قولا آخر قال الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و سلم ما كتبه بعد ما كتبه فيملي عليه [ سميعا عليما ] فيقول : قد كتبت [ سميعا بصيرا ] فيقول : [ دعه ] أو [ أكتب كيف شئت ] و كذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول : [ كذالك أنزل الله ] و يقره
قالوا : و كان النبي صلى الله عليه و سلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة و عدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الحي العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد و كان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه و سلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد الكاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه و لا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره و أن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه و سلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابها تعويلا على المحفوظ عنده و في قلبه كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر و ما يخفى } [ الأعلى : 7 ]
و الأشبه و الله أعلم هو الوجه الأول و أن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الآحاديث و القراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة و هو العرضة الآخرة و أن الحروف السبعة خارجة عن هذا المصحف و أن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف و لا متضاد
الحديث العاشر : حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم و مولاة بني هاشم و ذلك مشهور مستفيض عند أهل السير و قد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه و سلم [ أمر بقتل فرتنى ]
و قال موسى بن عقبة في مغازيه [ عن الزهري : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمر بقتل أربعة نفر قال : أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها ]
و كذلك ذكر محمد بن عائذ القرشي في مغازيه و قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار ابن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل مكة و فرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة : عبد الله بن الخطل ] ثم قال : و إنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا و بعث معه رجلا من الأنصار و كان معه مولى له يخدمه و كان مسلما فنزل منزلا و أمر المولى يذبح له تيسا و يصنع له طعاما فنام و استيقظ و لم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا و كانت له فينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم فأمر بقتلهام معه قال : و مقيس بن صبابة الأنصاري الذي قتل أخاه و سارة مولاة لبي عبد المطلب و كانت ممن يؤذيه بمكة
و قال الأموي : حدثني أبي قال : و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر و نسوة و قال [ إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم ] و سماهم بأسمائهم ستة : ابن أبي سرح و ابن خطل و الحويرث بن نفيذ و مقيس بن صبابة و رجل من بني تيم بن غالب
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو عبيدة بن محمند بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين و أخبرني بأربعة قال : و النسوة قينتا ابن خطل و سارة مولاة لبني عبد المطلب ثم قال : و القينتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها
و قال الواقدي عن أشياخه : و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القتال و أمر بقتل ستة نفر و أربع نسوة ثم عددهم و قال : ابن خطل و سارة مولاة عمرو بن هاشم و قينتين لابن خطل : فرتني و قريبة و يقال : فرتني و أرنب
ثم قال : و كان جرم ابن خطل أنه أسلم و هاجر إلى المدينة و بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعيا و بعث معه رجلا من خزاعة و كان يصنع طعامه و يخدمه فنزل في جمع فأمره أن يصنع له طعاما و نام نصف النهار فاستيقظ و الخزاعي نائم و لم يصنع له فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال : و الله ليقتلني محمد به إن جئته فارتد عن الإسلام و ساق ما أخذ من الصدقة و هرب إلى مكة فقال له أهل مكة : ما ردك إلينا ؟ قال : لم أجد ديمنا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان و كانتا فاسقتين و كان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمرهما تغنيان به فيدخل عليه و على قنيتيه المشركون فيشربون الخمر و تغني القينتان بذلك الهجاء و كانت سارة مولاة عمرو بن هاشم نواحة بمكة فيلقي عليها هجاء النبي صلى الله عليه و سلم فتغنى به و كانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم تطلب أن يصلها و شكت الحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كان لك في غنائك و نياحتك ما يكفيك ؟ ] فقالت : يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش و هي على دينها فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذ و أما القينتان فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلهما فقتلت إحداهما أرنب أو قريبة و أما فرتنى فاستؤمن لها حتى آمنت و عاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضى فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية آلاف درهم ديتها و ألفين تغليظا للحرم
و حدثت القينتين مما اتفق عليه علماء السير و استفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد و حديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي و من له مزيد خبره و اطلاع و بعضهم لم يذكره
فوجه الدلالة أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع و قد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : و جدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان
و في حديث آخر أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتلها و قال : [ ما كانت هذه لتقاتل ] ثم قال لأحدهم : [ الحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية و لا عسيفا ] رواه أبو داود و غيره
و قد روى الإمام أحمد في المسند [ عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر و نهى عن قتل النساء و الصبيان و هذا مشهور عند أهل السير ]
و في الحديث من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك : ثم صعدوا إليه في علية فقرعوا عليه الباب فخرجت امرأته فقالت : من أنتم ؟ فقالوا : حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت : ذاك الرجل عندكم في البيت فغلقنا علينا و عليها باب الحجرة و نوهت بنا فصاحت و قد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بعثنا عن قتل النساء و الوالدان فجعل الرجل منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء فيمسك يده فلولا ذلك فرغنا مناه بليل و ذكر الحديث و كذلك روى يونس بن بكيرعن عبد الله بن كعب بن مالك قال : حدثني عبد الله بن أنيس قال في الحديث : فقامت ففتحت فقلت لعبد الله بن عتيك : دونك فشهر عليها السيف فذهبت امرأته فشهرت عليها السيف و أذكر قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ناهنا عن قتل النساء و الصبيان فأكف
و كذلك رواه غير واحد عن ابن أنيس قال : فصاحت امرأته فهم بعضنا أن نخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهانا عن قتل النساء
و هذه القصة كانت قبل فتح مكة بل قبل فتح خيبر أيضا بلا خلاف بين أهل العهلم و ذكر الواقدي أنها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق و ذكر ابن إسحاق أنها كانت عقب الخندق و هما جميعا يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس و أما موسى بن عقبة فقال : [ في شوال سنة أربع ] و حديث ابن عمر يدل عليه و كان فتح مكة في رمضان سنة ثمان
و إنما ذكرنا هذا رفعا لو هم من قد يظن أن قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرم بعد ذلك و إلا فلا ريب عند أهل العلم أن قتل النساء لم يكن مباحا قط بأن آيات القتال و ترتيبب نزولها كلها دليل على أن قتل النساء لم يكن جائزا هذا مع أن أولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحقيق إذ ذاك لم يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل فتحها بمدة مع أن المرأة قد صاحت و خافوا الشر بصوتها ثم أمسكوا عن قتلها لرجائهم أن ينكف شرها بالتهويل عليها
نعم المحرم إنما هو قصد قتلهن فأما إذا قصدنا قصد الرجال بالإغارة أو نرمي بمنجنيق أو فتح شق
أو لقاء نار فتلف بذلك نساء أو صبيان لم نأثم بذلك لحديث الصعب بن جثلامة أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب الذرية فقال [ هم منهم ] متفق عليه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق مع أنه قد يصيب المرأة و الصبي و بكل حال فالمرأة الحربية غير مضمونة يقود و لا دية و لا كفارة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر من قتل المرأة في مغازية بشيء من ذلك فهذا ما تفارق به المرأة الذمية و إذا قاتلت المرأة الحربية جاز قتلها بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه و سلم علل المنع من قتل المرأة بأنها لم تكن تقاتل فإذا قاتلت وجد المقتضي لقتلها و ارتفع المانع
لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل فلا يقصد قتلها بل دفعها فإذا قدر عليها لم يجز قتلها و عند غيره إذا قاتلت صارت بمنزلة الرجل المحارب
إذا تقرر هذا فنقول : هؤلاء النسوة كن معصومات بأنوثة ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه و هن في دار حرب فعلم أن من هجاه و سبه جاز قتله بكل حال
و مما يؤكد ذلك و جوه :
أحدهما : أن الهجاء و السب إما أن يكون من باب القتال باللسان فيكون كالقتال باليد و تكون المرأة الهاجية كالمرأة التي يستعان برأيها على حرب المسلمين كالملكة و نحوها مثل ما كانت هند بنت عتبة أو تكون بنفسها موجبة للقتل لما فيه من أذى الله و رسوله و المؤمنين و إن كان من جنس المحاربة أو لا يكون شيئا من ذلك فإن كان من القسم الأول و الثاني جاز قتل المرأة الذمية إذا سبت لأنها حينئذ تكون قد حاربت أو ارتكبت ما يوجب القتل فالذمية إذا فعلت ذلك انتقض عهدها و قتلت و لا يجوز أن تخرج عن هذين القسمين لأنه يلزم منه قتل المرأة من أهل الحرب من غير أن تقاتل بيد و لا لسان و لا أن ترتكب ما هو بنفسه موجب للقتل و قتل مثل هذه المرأة حرام بالسنة و الإجماع
الوجه الثاني : أن هؤلاء النسوة كن من أهل الحرب و قد آذين النبي صلى الله عليه و سلم في دار الحرب ثم قتلن بمجرد السب كما نطقت به الأحاديث فقتل المرأة الذمية بذلك أولى و أحرى المسلمة لأن الذمية بيننا و بينها من العهد ما يكفها عن إظهار السب و يوجب عليها التزام الذل و الصغار و لهذا تؤخذ بما تصيبه للمسلم من دم أو مال أو عرض و الحربية لا تؤخذ بشيء من ذلك
فإذا جاز قتل المرأة لأنها سبت الرسول و هي حربية تستبيح ذلك من غير مانع فقتل الذمية الممنوعة من ذلك بالعهد أولى
و لا يقال : عصمة الذمي أوكد لأنه مضمون و الحربي غير مضمون
لأنا نقول : الذمي أيضا ضامن لدم المسلم و الحربي غير ضامن فهو ضامن مضمون لأن العهد الذي بيننا اقتضى ذلك و أما الحربية فلا عهد بيننا و بينها يقتضي ذلك فليس كون الذمي مضمونا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول بل ذلك أغلظ لجرمه و أولى بأن يؤاخذ بما يؤذينا به و لا نعلم شيئا تقتل به المرأة الحربية قصدا إلا و قتل الذمية به أولى
الوجه الثالث : أن هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح بل كن متذللات مستسلمات و الهجاء إن كان من جنس القتال فقد كان موجودا قبل ذلك و المرأة الحربية لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك فعلم أن السب بنفسه هو المبيح لدمائهن لا كونهن قاتلن
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن جميع أهل مكة إلا أن يقاتلوا مع كونهم قد حاربوه و قتلوا أصحابه و نقضوا العهد الذي بينهم و بينه ثم إنه أهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه و إن لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه فثبت أن جرم المؤذي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالسب و نحوه أغلظ من جرم القتال و غيره و أنه يقتل في الحال التي نهى فيها عن قتال من قتل و قاتل
الوجه الخامس : أن القينتين كانتا أمتين مأمورتين بالهجاء و قتل الأمة أبعد من قتل الحرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل العسيف و كونها مأمورة بالهجاء أخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء ثم مع هذا أمر بقتلهما فعلم أن السب أغلظ الموجبات للقتل
الوجه السادس : أن هؤلاء النسوة إما أن يكن قتلن بالهجاء لأنهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه و سلم و بين أهل مكة فيكون من جنس هجاء الذمي أو قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فإذا جاز أن تقتل السابة التي لا عهد بيننا و بينها يمنعها فقتل الممنوعة بالعهد أولى لأن مجرد كفر المرأة و كونها من أهل الحرب لا يبيح دمها بالاتفاق على ما تقدم لا سيما و السب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم
فإن قيل : ما وجه الترديد و أهل مكة قد نقضوا العهد و صاروا كلهم محاربين ؟
قيل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستبيح أخذ الأموال و سبي الذرية و النساء بذلك النقض العام : إما لأنه عفا عن ذلك كما عن قتل من لم يقاتل أو لأن النقض الذي وجد من بعض الرجال بمعاونة بني بكر و من بعضهم بإقرارهم على ذلك لم يسر حكمه إلى الذرية
و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن الناس إلا بني بكر من خزاعة و إلا النفر المسمين إما عشرة أو أقل من عشرة أو أكثر لأن بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد و قتلوا خزاعة فعلم أنه فرق بين من نقض العهد و فعل ما يبيح الدم و بين من لم يفعل شيئا غير الموافقة على نقض العهد فبكل حال لم يقتل هؤلاء النسوة للحرب العام و النقض العام بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله سواء ضم إليه كونه من ذي عهد أو لم يضم و اعلم أن ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سببن رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل اليهودية و أم الولد و عصماء لو لم يثبت أنهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزا فإن كل ما جاز أن تقتل به المرأة التي ليست مسلمة و لا معاهدة من فعلها و قولها فأن تقتل به المرأة المعاهدة أولى و أحرى فإن موجبات القتل في حق الذمية أوسع من موجباته في حق التي ليست ذمية
و مما يدل على مثل هذه الدلالة ما روى أن امرأة كانت تسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها
لحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل و في الصحيحين من حديث الزهري [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح و على رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : [ اقتلوه ] و هذا مما استفاض نقله بين أهل العلم و اتفقوا عليه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره و أنه قتل ]
و قد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه
و كذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال : في نزلت هذه الآية { لا أقسم بهذا البلد و أنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] أخرجت عبد الله بن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن و المقام
و ذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فرأى خيل المسلمين و رأى القتال و دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه و طرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره
و قد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمله على الصدقة و أصحبه رجلا يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعته فقتله ثم خاف أن يقتل فارتد و استاق إبل الصدقة و أنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمر جاريته أن تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم : قتل النفس و الردة و الهجاء
فمن احتج بقصته يقول : لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قودا و المقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا أن يسلم إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوا أو يعفوا يأخذوا الدية و لم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب و إذا استنظر أنظر و هذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان به تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى نظر في أمره و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بعد علمه بذلك كله أن يقتل و ليس هذا سنة من يقتل من مجرد الردة فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب و الهجاء و إن الساب و إن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة و لا يؤخر قتله و ذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة
و قد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يقتل و إن أسلم حدا
و اعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك و صوابه انه كان مرتدا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير و حتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلما منقادا قد ألقى السلم كالأسير فعلم أن من ارتد و سب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط
يؤيده أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة و كان ممن أهدر دمه دون غيره فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر و الحراب
السنة الثانية عشرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل جماعة لأجل سبه و قتل جماعة لأجل ذلك مع كفه و إمساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرا حربيا فمن ذلك ما قدمناه [ عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر يوم الفتح بقتل ابن الزبعرى ] و سعيد بن المسيب هو الغاية في جودة المراسيل و لا يضره أن لا يذكره بعض أهل المغازي فإنهم مختلفون في عدد من استثنى من الأمان و كل أخبر بما علم و من أثبت الشيء و ذكره حجة على من لم يثبته
و قد ذكر ابن إسحاق قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه و أن من بقي من شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ففي هذا بيان أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من كان يهجوه و يؤذيه بمكة من الشعراء مثل ابن الزبعرى و غيره
و مما لا خفاء فيه أن ابن الزبعرى إنما ذنبه أنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بلسانه فإنه كان من أشعر الناس و كان يهاجي شعراء الإسلام مثل حسان و كعب ابن مالك و ما سوى ذلك من الذنوب قد شركه فيه و أربى عليه عدد كثير من قريش
ثم إن ابن الزبعرى فر إلى نجران ثم قدم على النبي صلى الله عليه و سلم مسلما و له أشعار حسنة في التوبة و الاعتذار فأهدر دمه للسب مع أمانه لجميع أهل مكة إلا من كان له جرم مثل جرمه و نحو ذلك
و من ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب : قصته في هجائه النبي صلى الله عليه و سلم و في إعراض النبي صلى الله عليه و سلم عنه لما جاءه مسلما مشهورة مستفيضة
و قد ذكر الواقدي قال : حدثني سعيد بن مسلم بن قماذين عن عبد الرحمن ابن سابط و غيره قال : كان أبو سفيان بن الحارث أخا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة أرضعته حليمة أياما و كان يألف رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان له تربا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عاداه عداوة لم يعادها أحدا قط و لم يكن دخل الشعب و هجا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هجا أصحابه و ذكر الحديث إلى أن قال : ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام قال أبو سفيان : فقلت : من أصحب ؟ و مع من أكون ؟ قد ضرب الإسلام بجرانه فجئت زوجتي و ولدي فقلت : تهيئوا للخروج فقد أقبل قدوم محمد قالوا : قد آن لك أن تنصر محمدا إن العرب و العجم قد تبعت محمدا و أنت توضع في عداوته و كنت أولى الناس بنصرته فقلت لغلامي مذكور : عجل بأبعرتي و فرسي قال : ثم سرنا حتى نزلنا بالأبواء و قد نزلت مقدمته الأبواء فتنكرت و خفت أن أقتل و كان قد أهدر دمي فخرجت واحد ابني جعفر على قدمي نحوا من ميل في الغداة التي صبح رسول الله صلى الله عليه و سلم الأبواء فأقبل الناس رسلا رسلا ـ أي قطيعا قطيعا ـ فتنحيت فرقا من أصحابه فلما طلع في موكبه تصديت له تلقاء وجهه فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى فأعرض عني مرارا فأخذني ما قرب و ما بعد و قلت : أنا مقتول قبل أن أصل إليه و أتذكر به و رحمه و قرابتي فيمسك ذلك مني و قد كنت لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه سيفرحون بإسلامي فرحا شديدا لقرابتي برسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله صلى الله عليه و سلم عني أعرضوا عني جميعا فلقيني ابن أبي قحافة معرضا عني و نظرت إلى عمر يغري بي رجلا من الأنصار فألز بي رجل يقول : يا عدو الله أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و تؤذي أصحابه ؟ قد بلغت مشارق الأرض و مغاربها في عداوته فرددت بعض الرد عن نفسي فاستطال علي و رفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي قال : فدخلت على عمي العباس فقلت : يا عباس قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامي لقرابتي و شرفي و قد كان منه ما رأيت فكلمه ليرضى قال : لا و الله لا أكلمه كلمة فيك أبدا بعد الذي رأيت منه ما رأيت إلا أن أرى وجها إني أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهابه فقلت ياعم إلى من تكلني ؟ قال : هو ذاك فلقيت عليا فكلمته فقال لي مثل ذلك و ذكر الحديث إلى أن قال : فخرجت فجلست على منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى راح إلى الجحفة و هو لا يكلمني و لا أحد من المسلمين و جعلت لا ينزل منزلا إلا أنا على بابه و معي ابني جعفر قائم فلا يراني إلا أعرض عني على هذا الحال حتى شهدت معه فتح مكة و أنا في خيله التي تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح فنزل ألي نظرا هو الين من ذلك النظر قد رجوت أن يبتسم و دخل عليه نساء بني عبد المطلب و دخلت معهن زوجتي فرققته علي و خرج إلى المسجد و أنا بين يديه لا أفارقه على حال حتى خرج إلى هوازن فخرجت معه و ذكر قصته بهوازن و هي مشهورة
قال الواقدي : و قد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث بوجه آخر قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بنيق العقاب و ذكر الحديث نحوا مما ذكره ابن إسحاق
قال ابن إسحاق : [ و كان أبو سفيان بن الحارث : و عبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه و سلم بثنية فيما بين مكة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت : يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك فقال : لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي و أما ابن عمتي و صهري فهو الذي قال بمكة ما قال ] [ قال ] فلما خرج الخبر إليهما بذلك ـ و مع أبي سفيان بن الحارث ابن له ـ فقال : و الله ليأذنن لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم رق لهما فدخلا عليه فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه و اعتذاره مما كان مضى منه فقال :
( لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد )
( لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى و أهتدي )
( هداني هاد نفسي و دلني ... على الله من طردت كل مطرد )
و ذكر باقي الأبيات
و في رواية الواقدي قال : فطلبا الدخول على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبى أن يدخلهما عليه فكلمته أم سلمة زوجته فقالت : يا رسول الله صهرك و ابن عمتك و ابن عمك و أخوك من الرضاعة و قد جاء الله بهما مسلمين لا يكونا أشقى الناس بك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حاجة لي بهما أما أخوك فالقائل لي بمكة ما قال : لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء فقالت يا رسول الله إنما هو من قومك و كل قريش قد تكلم و نزل القرآن فيه بعينه و قد عفوت عمن هو أعظم جرما منه و ابن عمك قرابتك به قريبة و أنت أحق الناس عفا عن جرمه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو الذي هتك عرضي فلا حاجة لي بهما ] فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث و معه ابنه : ليقبلن مني أو لآخذن بيد ابني فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشا و جوعا و أنت أحلم الناس و أكرم الناس مع رحمي بك فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالته فرق له و قال عبد الله ابن أبي أمية : إنما جئت لأصدقك ولي من القرابة مثل مالي من الصهر بك و جعلت أم سلمة تكلمه فيهما فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم لهما فأذن لهما و دخلا فأسلما و كانا جميعا حسنى الإسلام قتل عبد الله بن أبي أمية بالطائف و مات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه لم يغمص عليه في شيء و لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دمه قبل أن يلقاه
فوجه الدلالة : أنه أهدر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد المشركين الذين كانوا أشد تأثيرا في الجهاد باليد و المال و هو قادم إلى مكة لا يريد أن يسفك دماء أهلها بل يستعطفهم على الإسلام و لم يكن لذلك سبب يختص بأبي سفيان إلا الهجاء ثم جاء مسلما و هو يعرض عنه هذا الإعراض و كان من شأنه أن يتألف الأباعد على الإسلام فكيف بعشيرته الأقربين ؟ كل ذلك بسبب هتكه عرضه كما هو مفسر في الحديث
و من ذلك أنه أمر يوم الفتح بقتل الحويرث بن نقيذ و هو معروف عند أهل السير قال موسى بن عقبة في مغازية عن الزهري ـ و هي من أصح المغازي كان مالك يقول : من أحب أن يكتب المغازي فعليه بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة ـ قال : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة نفر : منهم الحويرث بن نقيذ
و قال سعد بن يحيى الأموي في مغازية : حدثني أبي قال : و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر و نسوة و قال : إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم و سماهم بأسمائهم ستة و هم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح و عبد الله بن خطل و الحويرث بن نقيذ و مقيس بن صبابة و رجل من بني تيم بن غالب
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين و أخبرني بأربعة و زعم أن عكرمة بن أبي جهل أحدهم
قال : و أما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب
و كذلك ذكر ابن إسحاق في رواية ابن بكير و غيره عنه من النفر الذين استثناهم النبي صلى الله عليه و سلم و قال [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ] : الحويرث بن نقيذ و كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال الواقدي عن أشياخه : إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن القتال و أمر بقتل ستة نفر و أربع نسوة : عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود و ابن أبي سرح و مقيس بن صبابة و الحويرث بن نقيذ و ابن خطل
قال : و أما الحويرث بن نقيذ فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه و سلم فأهدر دمه فبينا هو في منزله يوم الفتح قد أغلق عليه و أقبل علي رضي الله عنه يسأل عنه فقيل هو في البادية فأخبر الحويرث أنه يطلب و تنحى علي عن بابه فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي و فضرب عنقه
و مثل هذا مما يشتهر عند هؤلاء مثل الزهري و ابن عقبة و ابن إسحاق و الواقدي و الأموي و غيرهم و أكثرهم ما فيه أنه مرسل و المرسل إذا روي من جهات مختلفة و لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر و يتبع له و كان كالمسند بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي و يستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد و لا يوهنه أنه لم يذكر في الحديث المأثور عن سعد و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لأن المثبت مقدم على النافي و من أخبر أنه أمر بقتله فمنعه زيادة علم و لعل النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بقتله ثم أمر بقتله و ذلك أنه يمكن أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أصحابه أن يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفر الأربعة ثم أمرهم أن يقتلوا هذا و غيره و مجرد نهيه عن القتال لا يوجب عصمة المكفوف عنهم لكنه بعد ذلك آمنهم الأمان العاصم للدم و هذا الرجل قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتله لمجرد أذاه له مع أنه قد آمن أهل البلد الذين قاتلوه و أصحابه و فعلوا بهم الأفاعيل
و من ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لما قفل من بدر راجعا إلى المدينة قتل
النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط
و لم يقتل من أسارى بدر غيرهما و قصتهما معروفةقال ابن إسحاق : و كان في الأساري عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث فلما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما أخبرت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان [ بعرق الظبية ] قتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت
و قال موسى بن عقبة عن الزهري : و لم يقتل من الأساري صبرا غير عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الأفلح و لما أبصره عقبة مقبلا إليه استغاث بقريش فقال يامعشر قريش علام أقتل من بين من هاهنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ على عداوتك لله و رسوله ] و كذلك ذكر محمد بن عائذ في مغازية
و هذا و الله أعلم لأن النضر قتل بالصفراء عند بدر فلم يعد من الأسرى عند هذا القائل لقتله قريبا من مصارع قريش و إلا فلا خلاف علمناه أن النضر و عقبة قتلا بعد الأسر
و قد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ بكفرك و افترائك على رسول الله ]
و قال الواقدي : كان النضر بن الحارث أسره المقداد بن الأسود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر فكان بالأثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر ابن الحارث فأبده النظر فقال لرجل إلى جنبه : محمد و الله قاتلي لقد نظر إلي بعينين فيهما آثار الموت فقال الذي إلى جنبه [ و الله ما هذا منك إلا رعب ] فقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب أنت أقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي هو و الله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا و كذا و كنت تقول في نبيه كذا و كذا قال يا مصعب و يجعلني كأحد أصحابي : إن قتلوا قتلت و إن من عليهم من علي قال مصعب : إنك كنت تعذب أصحابه و ذكر الحديث إلى أن قال : فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالسيف
قال الواقدي : و أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأسرى حتى إذا كانوا [ بعرق الظبية ] أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح أن يضرب عنق عقبة ابن أبي معيط فجعل عقبة يقول : ياويلي علام أقتل يا قريش من بين من هاهنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعداوتك لله و رسوله ] قال محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلهم قتلتني و إن مننت عليهم مننت علي و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ النار قدمه يا عاصم فأضرب عنقه ] فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بئس الرجل كنت ـ و الله ـ ما علمت كافرا بالله و بكتابه و برسوله مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي هو قتلك و أقر عيني منك ]
ففي هذا بيان أن السبب الذي أوجب قتل هذين الرجلين من بين سائر الأسرى أذاهم لله و رسوله بالقول و الفعل فإن الآيات التي نزلت في النضر معروفة و أذى ابن أبي معيط له مشهور بلسانه و يده حين خنقه ـ بأبي هو و أمي ـ بردائه خنقا شديدا يريد قتله حين ألقى السلى على ظهره و هو ساجد و غير ذلك
و من ذلك أنه أمر بقتل من كان يهجوه بعد فتح مكة من قريش و سائر العرب مثل كعب بن زهير و غيره
قال الأموي : حدثني أبي قال : قال ابن إسحاق و ذكره يونس بن بكير و البكائي و غيرهما عن ابن إسحاق قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة منصرفا من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في قتل رجال بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه
و لفظ يونس و البكائي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه و أن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى [ و هبيرة بن أبي وهب ] قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا و إن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض و كان كعب قد قال أبياتا نال فيها من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رويت و عرفت و كان الذي قال :
( ألا أبلغا عني بحيرا رسالة ...
فهل لك فيما قلت و يحك هل لكا )
( لتخبرني إن كنت لست بفاعل
... على أي شيء غير ذلك دلكا )
( على خلق لم تلق يوما أبا له
... عليه و لم تعرف عليه أبا لكا )
( فإن أنت لم تفعل فلست بفاعل
... و لا قائل إما عثرت لعا لكا )
( سقاك بها المأمون كأسا روية
... فأنهلك المأمون منها و علكا )
و إنما قال كعب [ المأمون ] لقول قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ الأمين ] الذي كانت تقوله له
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض و أشفق على نفسه و أرجف به من كان حاضره من عدوه فقالوا : هو مقتول فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و يذكر فيها خوفه و إرجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه و بينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به على رسول الله صلى الله عليه و سلم حين صلى الصبح فلما صلى مع الناس أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هذا هو رسول الله فقم إليه فذكر لنا أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضع يده في يده و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعرفه فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير استأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم ] قال : أنا يا رسول الله كعب ابن زهير
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر أنه وثب عليه من الأنصار فقال : يا رسول الله دعني و عدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعه عنك قد جاء تائبا نازعا ] قال : فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم و ذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أنشد ابن إسحاق قصيدته المشهورة : [ بانت سعاد ] و فيها :
( أنبئت أن رسول الله أوعدني
... و العفو عند رسول الله مأمول )
( مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ...
فرقان فيه مواعيظ و تفصيل )
( لا تأخذي بأقوال الوشاة و لم
... أذنب و لو كثرت في الأقاويل )
و في حديث آخر : و ذلك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ندر دمه بقول بلغه عنه فقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم مسلما و دخل مسجده و أنشد القصيدة فقد أخبر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في قتل رجال بمكة لأجل هجائهم و أذاهم حتى فر من فر منهم إلى نجران ثم رجع ابن الزبعري تائبا مسلما و أقام هبيرة بنجرلان حتى مات مشركا ثم إنه أهدر دم كعب لما قاله مع أنه ليس من بليغ الهجاء لكونه طعن في دين الإسلام و عابه و عاب ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إنه تاب قبل القدرة عليه و جاء مسلما و كان حربيا و مع هذا فهو يلتمس العفو و يقول :
( لا تأخذني بأقوال ... الوشاة و لم أذنب )
و من ذلك : ما نقل أنه كان يتوجه صلى الله عليه و سلم إلى قتل من يهجوه و يقول : [ من يكفيني عدوي ؟ ]
قال الأموي سعيد بن يحيى بن سعيد في مغازية : حدثنا أبي قال : أخبرني عبد الملك بن جريج عن عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رجلا من المشركين شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فقام الزبير بن العوام فقال : أنا فبارزه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم سلبه و لا أحسبه إلا في خيبر حين قتل ياسر و رواه عبد الرزاق أيضا
و روى أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فقال خالد : أنا فبعثه النبي صلى الله عليه و سلم إليه فقتله
و من ذلك : أن أصحابه كانوا إذا سمعوا من سبه و يؤذيه صلى الله عليه و سلم قتلوه و إن كان قريبا فيقرهم على ذلك و يرضاه و ربما سمى من يفعل ذلك ناصرا لله و رسوله
فروى أبو إسحاق الفزاري في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني لقيت أبي في المشركين فسمعت منه مقاله قبيحة لك فما صبرت أن طعنته بالرمح فقتلته فما شق ذلك عليه قال : و جاءه فقال : إني لقيت أبي في المشركين فصفحت عنه فما شق ذلك عليه
و قد رواه الأموي و غيره من هذا الطريق
و روى أبو إسحاق الفزاري أيضا في كتابه عن الأوازعي عن حسان بن عطية قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة و جابر فلما صافوا المشركين أقبل رجل منهم يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام رجل من المسلمين فقال : أنا فلان ابن فلان و أمي فلانة فسبني و سب أمي و كف عن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزده ذلك إلا إغراء فأعاد مثل ذلك و عاد الرجل مثل ذلك فقال في الثالثة : لئن عدت لأرحلنك بسيفي فعاد فحمل عليه الرجل فولى مدبرا فاتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه و أحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعجبتم من رجل نصر الله و رسوله ؟ ] ثم إن الرجل برئ من جراحته فأسلم فكان يسمى الرحيل رواه الأموي في مغازية من هذا الوجه
و قد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال حين بلغه أذى بنت مروان للنبي صلى الله عليه و سلم ـ : اللهم إن علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها فقتلها بدون إذن النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي ]
و كذلك حديث اليهودية و أم الولد فأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر دمها لما قتلت لأجل سبه
و قد تقدم أيضا حديث الرجل الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي صلى الله عليه و سلم و أن النبي صلى الله عليه و سلم أمسك عن مبايعته ليقوم إليه ذلك الرجل فيقتله و يفي بنذره
و قد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة و قبل الأذان في القتال لها و للأنس فيقرها على ذلك و يشكر ذلك لها
قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازية : حدثني محمد بن سعيد ـ يعني عمه ـ قال : قال محمد بن المنكدر : إنه ذكر له عن ابن عباس أنه قال : هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس فقال :
( قبح الله رأيكم آل فهر
... ما أدق العقول و الأحلام )
( حين تغضى لمن يعيب عليها
... دين آبائها الحماة الكرام )
( حالف الجن جن بصرى عليكم
... و رجال النخيل و الآطام )
( يوشك الخيل أن تروها نهارا
... تقتل القوم في حرام تهام )
( هل كريم منكم له نفس حر
... ماجد الجدتين و الأعمام )
( ضاربا ضربة تكون نكالا
... و رواحا من كربة و اغتنام )
قال ابن عباس : فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له مسعر و الله مخزيه فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول :
( نحن قتلنا في ثلاث مسعرا
... إذ سفه الحق و سن المنكرا )
( قنعته سيفا حساما مبترا
... بشتمه نبينا المطهرا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا عفريت من الجن اسمه سمحج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه منذ ثلاثة أيام ] فقال علي : جزاه الله خيرا يا رسول الله
و ممن ذكر أنه قتل لأجل أذى النبي صلى الله عليه و سلم أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي و قصته معروفة مستفيضة عند العلماء فنذكر منها موضع الدلالة
عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار و أمر عليهم عبد الله بن عتيك و كان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يعين عليه و كان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه ـ و قد غربت الشمس و راح الناس لسرحهم ـ قال عبد الله لأصحابه : أجلسوا مكانكم فإني منطلق و متلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته و قد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فآدخل فإني أريد أن أغلق الباب قال : فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد قال : فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب و كان أبو رافع يسمر عنده و كان في علية له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت : إن القوم إن نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت : أبا رافع قال من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف و أنا دهش فما أغنيت شيئا و صاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم رجعت إليه فقلت : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال : لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال : فأضربه ضربة بالسيف أثخنته و لم أقتله ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي و أنا أرى أن قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت : لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتله فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته فقال : [ أبسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط ] رواه البخاري في صحيحه
و قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه و سلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس و الخزرج كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لا يصنع أحدهما شيئا إلا صنع الآخر مثله يقولون : لا يعدون ذلك فضلا علينا في الإسلام و عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قتل الأوس كعب بن الأشراف تذكرت الخزرج رجلا هو في العدواة لرسول الله صلى الله عليه و سلم مثله فتذاكروا ابن أبي الحقيق بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتله فأذن لهم و ذكر الحديث إلى أن قال : ثم صعدوا إليه في علية له فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم امرأته فقالت : من أنتم ؟ فقالوا : حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فألقت : ذا كم الرجل عندكم في البيت و ذكر تمام الحديث في قتله
فقد تبين في حديث الباء و ابن كعب إنما تسرى المسلمون لقتله بإذن النبي صلى الله عليه و سلم لأذاه النبي صلى الله عليه و سلم و معداته له و أنه كان نظير ابن الأشراف و لكن ابن الأشراف كان معاهدا فآذى الله و رسوله فندب المسلمين إلى قتله و هذا لم يكن معاهدا
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم و يؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله و يحض عليه لأجل ذلك و كذلك أصحابه بأمره يفعلون ذلك [ مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافرا غير معاهد بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه و بينهم ثم من هؤلاء من قتل و منهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة أسباب
أحدها : أنه جاء تائبا قبل القدرة عليه و المسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى
الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من خلفه أن يعفو عنهم
الثالث : أن الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله و لا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] رواه مسلم و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ] متفق عليه و لهذا أسلم خلق كثير و قد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحد منهم بقود و لا دية و لا كفارة
أسلم وحشي قاتل حمزة و ابن العاص قاتل ابن قوقل و عقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي و من لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم و قد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه و سلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه و سلم : [ يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم و يقتل في سبيل الله و يدخل الجنة ] متفق عليه
و كذلك أيضا لم يضمن النبي صلى الله عليه و سلم أحدا منهم مالا أتلفه للمسلمين و لا أقام على أحد حد زنا أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر و هذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافا لا في رواية و لا في الفتوى به
بل لو أسلم الحربي و بيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الأغتنام و نحوه ـ مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام ـ كان له ملكا و لم يرده إلى المسلم الذي كان عند جماهير العلماء من التابعين و من بعدهم و هو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين و هو مذهب أبي حنيفة و مالك و منصوص قول أحمد و قول جماهير من أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله و وجب أجره على الله و آخذه هذا صار مستحلا له و قد غفر الله له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين و أموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس و الأموال و لا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا و غيره
و من العلماء من قال : يرده على مالكه المسلم و هو قول الشافعي و أبي الخطاب من الحنبلية بناء أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب و لأنه لو أخذه المسلم منهم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغتنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه و سلم و هو ما اتفق الناس فيما نعلمه عليه و لو كانوا قد ملكوه لملكه الغانم منهم و لم يرده
و الأول أصح لأن المشركين كانوا يغتنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع و السلاح و غير ذلك و قد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي صلى الله عليه و سلم من أحد منهم مالا مع أن بعض تلك الأموال لابد أن يكون باقيا
و يكفي في ذلك أن الله سبحانه قال : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا } [ الحشر : 8 ] و قال تعالى : { أذن للذين يقاتلون } إلى قوله : { و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه } [ البقرة : 217 ] و قال تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم } [ الممتحنة : 9 ]
فبين الله سبحانه أن المسلمين أخرجوا من ديارهم و أموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء
ثم إن المشركين استولوا على تلك الديار و الأموال و كانت باقية إلى حين الفتح و قد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم يرد النبي صلى الله عليه و سلم على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح و الإسلام دارا و لا مالا بل قيل للنبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح : ألا تنزل في دارك ؟ فقال : [ و هل ترك لنا عقيل من دار ؟ ]
و سأله المهاجرون أن يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهل مكة فأبى ذلك صلى الله عليه و سلم و أقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه