كتاب : طيب المذاق من ثمرات الأوراق
المؤلف : تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله التقي الحموي المعروف بابن
حجة
طيب المذاق من ثمرات الأوراق
بسم الله الرحمن الرحيمقال الشيخ الإمام حجة العرب وترجمان الأدب تقي الدين أبو بكر بن حجة الحنفي منشىء دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تغمده الله برحمته .
أما بعد حمداً لله الذي فكهنا بثمار أوراق العلماء والصلاة والسلام على نبيه شجرة العلم التي أصلها ثابت وفرعها في السماء وعلى آله وصحبه الذين هم فروع هذه الشجرة ، وأغصانها التي دنت لهذه الأمة قطوفها المثمرة . فإني وريت بتسمية هذا الكتاب بثمار الأوراق ، علماً أن قطوفه لم تدن لغير ذوي الأذواق[ أبو عثمان المازني والواثق ]
فمن ذلك ما نقلته من درة الغواص لأبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات أن أبا العباس المبرد روى أن بعض أهل الذمة سأل أبا عثمان المازني في قراءة كتاب سيبويه عنه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه فامتنع أبو عثمان من ذلك فقال له المبرد جعلت فداك أترد هذه النفقة مع فاقتك واحتياجك إليها ، فقال أبو عثمان هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة حديث وكذا آية من كتاب الله ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله تعالى وحمية له ،
غناء جارية ولحنها بين يدي الواثق
قال فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق من شعر العرجي :
أظلوم إن مصابكم رجلاً . . . أهدى السلام تحيةً ظلمُ
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا فمنهم من نصبه وجعله اسم إن ومنهم من رفعه على أنه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بإشخاصه قال أبو عثمان فلما مثلت بين يديه قال ممن الرجل ؟ قلت : من مازن يا أمير المؤمنين قال أي الموازن قلت من مازن ربيع فكلمني بكلام قومي وقال بااسمك لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أول الأسماءفكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجه بالمكر فقلت بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجبه مني ذلك ، ثم قال : ما تقول في قول الشاعر :
أظلوم إن مصابكم رجلا . . . أهدى السلام تحية ظلم
أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب يا أمير المؤمنين قال ولم ذلك فقلت إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ الزيدي في معارضتي فقلت هو بمنزلة قولك : إن ضربك زيداً ظلم فالرجل مفعول مصابكم ومنصوب به والدليل عليه ، أن الكلام متعلق إلى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار . قال أبو العباس المبرد فلما عاد أبو عثمان إلى البصرة قال لي كيف رأيت رددنا لله مائة فعوضنا ألفاً .
دواء الخمار
ونقلت من درة الغواص أيضاً أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة ما دواء الخمار وكان قد علق به فأعرض عن كلامه وقال : ما أنا وهذه المسألة ؟ فخجل حامد منه والتفت إلى قاضي القضاة أبي عمر فسأله عن ذلك فتنحنح لإصلاح صوته ثم قال : قال الله تعالى : ' وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ' ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :' استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها ' ، والأعشى وهو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية قال :
وكأس شربتُ على لذةٍ . . . وأخرى تداويتُ منها بها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام فقال :
دع عنك لومي فأن اللومَ إغراءُ . . . وداوني بالتي كانت هي الداءُ
فأسفر حينئذ وجه حامد وقال لابن عيسى ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به مولانا قاضي القضاة ؟ وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله تعالى أولاً ، ثم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً وأدى المعنى وخرج من العهدة فكان خجل ابن عيسى أكثر من خجل حامد لما ابتدأ بالمسألة ، .
إسماح عبيد الله بن الحسن القاضي
ويضارع هذه الحكاية في لين بعض القضاة المتقشفين وإذعانهم مع الزهد والتقشف للمستفتين ، ما نقلته من درة الغواص للحريري أيضاً ، قال : اجتمع قوم على شراب فتغنى مغنيهم بشعر حسان :
إن التي ناولتني فرددتُها . . . قُتِلتْ قتلتَ فهاتها لم تُقتلِ
كلتاهما حلب العصير فعاطني . . . بزجاجةٍ أرخاهما للمفصلِفقال بعضهم امرأتي طالق ، إن لم أسأل الليلة عبيد الله بن الحسن القاضي عن علة هذا الشعر كيف قال إن التي فوحد ثم قال كلتاهما فثنى فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا فيه ومضوا يتخبطون القبائل إلى بني شقرة فوجدوا عبيد الله بن الحسن يصلي فلما فرغ من صلاته قالوا له : قد جئناك في أمر دعتنا إليه الضرورة وشرحوا له الخبر وسألوه الجواب فقال مع زهده وتقشفه : إن التي ناولتني فرددتها عني بها الخمرة الممزوجة بالماء ثم قال كلتاهما حلب العصير يريد الخمرة المتحلبة من العنب والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه بالمعصرات انتهى قال الحريري وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى تفسيره أما قوله إن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت فإنه خاطب به الساقي الذي ناوله كأساً ممزوجة لأنه يقال قتلت الخمرة إذا مزجتها فأراد أن يعلمه أنه فطن لما فعله ثم ما اقتنع بذلك منه حتى دعا عليه بالقتل في مقابلة المزج ثم إنه عقب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم تقتل يعني الصرف التي لم تمزج وقوله أرخاهما للمفصل يعني به اللسان وسمي مفصلاً فالكسر لأنه يفصل بين الحق والباطل قال الحريري وليس على ما اعتمده القاضي عبيد الله من الاستماح وخفض الجناح ما يقدح في نزاهته ويغض من نبله ونباهته والله أعلم .وفود عروة بن أذنية على هشام بن عبد الملك
ونقلت من درة الغواص أن عروة بن أذينة الشاعر وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال له ألست القائل :
لقد علمتُ وما الإسرافُ من خُلقي . . . أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إلهي فيعييني تطلبهُ . . . ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وأراك قد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال له يا أمير المؤمنين زادك الله بسطة في العلم والجسم ولا رد وافدك خائبا والله لقد بالغت في الوعظ وأذكرتني ما أنسانيه الدهر وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعا إلى الحجاز فلما كان في الليل ذكره هشام وهو في فراشه فقال رجل من قريش قال حكمة ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته وهو مع ذلك شاعر لا آمن ما يقول فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه وقال : لا جرم ليعلم أن الرزق سيأتيه ثم دعا مولى له وأعطاه ألفي دينار وقال الحق بهذه ابن أذينة وأعطه إياها قال : فلم أدركه إلا وقد دخل بيته فقرعت الباب عليه فخرج إلي فأعطيته المال فقال أبلغ أمير المؤمنين قولي سعيت فأكديت ورجعت إلى بيتي فأتاني رزقيهدبة بن خالد على مائدة المأمون
ويضارع هذه الحكاية ما حكي عن هدبة بن خالد رحمه الله تعالى قال حضرت مائدة المأمون فلما رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض فنظر إلّي المأمون فقال أما شبعت يا شيخ قلت بلى يا أمير المؤمنين ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التقط ما تحت مائدته أمن من الفقر فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه فأشار إليه فما شعرت أن جاءني ومعه منديل فيه ألف دينار فناولني إياه فقلت يا أمير المؤمنين وهذا من ذاك .واو عمرو
ومن لطائف ما جنيت من ثمرات الأوراق أن رجلا من الحذاق كان يكتب كتاباً وإلى جانبه آخر فانتهى في كتابه إلى اسم عمرو فكتبه بغير واو فقال يا مولانا زدها واواً للفرق بينها وبين عمر فقال : والله لقد تفضل مولانا بزيادة الواو بمعنى تفوضل قلت وبعضهم يرى أن الواو تزاد بعد لا النافية في الجواب إذا قيل هل فعلت كذا وكذ فيقول لا وعافاك الله .
قال أبو الفرج بن الجوزي : روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل عربي أكان كذا وكذا فقال : لا أطال الله بقاءك فقال الإمام عمر رضي الله عنه : قد عُلمتم فلم تتعلموا هلا قلت : لا وعافاك الله .
وحكي عن الصاحب بن عباد أنه قال هذه الواو هنا أحسن من واوات الأصداغ في وجنات الملاح . قلت وهذه الواو أعني واو عمرو نظم فيها الشعراء كثيرا منهم أبو نواس قال يهجو أشجع السلمي .قل لمن يدعي سُليمى سفاهاً . . . لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواوٍ . . . ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو
وقال أبو سعيد الرسمي وأجاد :
أفي الحق أن يُعطى ثلاثون شاعراً . . . ويحرم ما دون الرضا شاعرٌ مثلي
كما سامحوا عمراً بواوٍ مزيدةٍ . . . وضويق بسم الله في ألف الوصل ,
لطائف
ومن لطائف المجتنى ما نقل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قيل إنه قال يوما للقاضي الفاضل لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب فلعله ضعيف ، أمض إليه وتفقد أحواله فلما دخل الفاضل إلى دار العماد وجد أشياء أنكرها في نفسه مثل آثار مجالس أنس ورائحة خمر وآلات طرب فأنشد :
ما ناصحتك خبايا الود من رجلٍ . . . ما لم ينلك بمكروهٍ من العذل
محبتي فيك تأبى عن مسامحتي . . . بأن أراك على شيءٍ من الزلل
فلما قام من عنده نزع العماد عما كان فيه وأقلع ولم يعد إلى شيء من ذلك البتة .ومن اللطائف ما نقل عن الملك الظاهر رحمه الله تعالى ، قيل إنه لما استعرض الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار ليشتريه قال له أنا حر يا مولانا السلطان وأحسن الكتابة فأحضرت له دواة فكتب يقول :
لولا الضرورةُ ما فارقتكم أبداً . . . ولا تنقلت من ناس إلى ناس
فأعجبه الاستشهاد بهذا البيت ورغبه ذلك في مشتراه ويضارعه ما حكي عن الصاحب كمال الدين ابن العديم قيل إن إنسانا رفع قصة إلى الصاحب المشار إليه فأعجبه خطها فأمسكها وقال لرافعها هذا خطك قال لا ولكن حضرت إلى باب مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها إلي فقال عليَّ به فلما حضر وجده مملوكه فقال هذا خطك قال نعم قال فهذه طريقتي من هو الذي أظهرك عليها فقال يا مولانا كنت إذا وقعت لأحد على قصة أخذتها منه وسألته المهلة حتى أكتب عليها سطرين أو ثلاثة فأمره أن يكتب بين يديه ليراه فكتب :
وما تنفع الآدابُ والعلمُ والحجى . . . وصاحبُها عند الكمال يموت
فكان إعجاب الصاحب الاستشهاد أكثر من الخط ورفع منزلته بعد ذلك وأذكرني اتفاق التورية في الكمال هنا ما حكي عن القاضي فخر الدين لقمان والقاضي تاج الدين أحمد بن الأمير رحمهما الله أنهما كانا صحبةالسلطان على تل العجول ولفخر الدين مملوك اسمه الطنبا فاتفق أنه طلب مملوكه المذكور وناداه يا طنبا فقال : له نعم ولم يأته وكانت ليلة ممطرة مظلمة فأخرج فخر الدين ابن لقمان رأسه من الخيمة فقال تقول نعم ولم أرك فقال القاضي تاج الدين :
في ليلة من جمادى ذاتِ أنديةٍ . . . لا يبصرُ الكلبُ في أرجائها الطنبا
ومن اتفاق التورية أيضاً ما كتبه الشيخ شرف الدين بن عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة ملغزا في باب إلى والده :
ما واقفٌ في المخرج . . . يذهب طوراً ويجي
لست أخاف شره . . . ما لم يكن بمرتج
فكتب إليه والده في الجواب ذهاب وإياب وخوف وشر هذا باب خصومة والسلام .
قيل إن الصاحب جمال الدين بن مطروح كتب لبعض الرؤساء رقعة إلى صديق له يشفع فيها عنده . فكتب ذلك الرئيس هذا الأمر عليَّ فيه مشقة فكتب ابن مطروح في جوابه ، لولا المشقة . فلما وقف عليها فهم الإشارة إلى قول المتنبي :
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ . . . ألجودُ يفقر والإقدام قتَّالُ
وقضى الشغل على الفور .قيل إن يوسف الصديق عليه السلام كتب على باب السجن لما خرج منه ، هذا قبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء . وقال الشاعر :
دعوة الإخاء على الرخاءِ كثيرةٌ . . . بل في الشدائد تعرفُ الإخوانِ
والله در يزيد بن المهلب من ذي مروءة وسخاء وتصديق أهل فإن كان في سجن الحجاج يعذب فدخل عليه يزيد بن الحكم وقد حل عليه نجم وكانت نجومه في كل اسبوع ستة عشر الف درهم فقال له :
أصبح في قيدك السماحة وال . . . جودُ وفضلُ السلاح والحسبُ
لا تضجرن إن تتابعت نقمٌ . . . وصارفٌ في البلاء محتسبُ
برزت سبق الجياد في مهلٍ . . . وقصرت دون سعيك العرب
فالتفت يزيد إلى مولى له وقال : أعطه نجم هذا الأسبوع ونصبر على العذاب إلى السبت الآخر .
قال الأصمعي حضرت مجلس الرشيد وفيه مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال له الرشيد ما أحدثت بعدنا يا أبا نواس فقال يا أمير المؤمنين ولو في الخمر فقال : قاتلك الله ولو في الخمر فأنشد :يا شقيق النفسٍ من حكمِ . . . نمتَ عن ليلي ولم أنم
حتى انتهى إلى آخرها فقال :
فتمشت في مفاصلهم . . . كتمشي البرءِ في السَّقمِ فقال أحسنت والله يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم وعشر خلع فأخذها وخرج قال الأصمعي : فلما خرجنا من عنده قال لي مسلم بن الوليد : ألم تر إلى الحسن بن هانىء كيف سرق شعري وأخذ به مالا وخلعا فقلت له وأي معنى سرق لك قال قوله فتمشت في مفاصلهم البيت . فقلت وأي شيء قلت فقال :
كأنَّ قلبي وشاحاها إذا خطرت . . . وقلبها في الصمت والخرس
تجري محبتها في قلب وأمقِها . . . جري السلافة في أعضاء منتكسالمعتزلة
المعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الإنسان وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم وأن الله تعالى غير مرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب مثل الزنا وشرب الخمر كان في منزلة بين منزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن إعجاز القرآن في الصرفة لا أنه في نفسه معجز ولو لم يصرف الله العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن من دخل النار لم يخرج منها وإنما سموا معتزلة لأن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله تعالى عنه فلما ظهر الخلاف وقالت الخوارج بكفر مرتكب الكبائر وقال المجاعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر خرج واصل عن الفريقين وقال إن الفاسق عن الفريقين وقال إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين منزلتين فطرده الحسن رضي الله تعالى عنه عن مجلسه فاعتزل عنه فقيل لأتباعه معتزلة . ولم يزل مذهب الأعتزال ينمو إلى أيام الرشيد فظهر بشر المريسي وأحضر الشافعي مكبلا في الحديد فساله بشر والسؤال ما تقول يا قرشي في القرآن ؟ فقال : إياي تعني ؟ قال : نعم قال : مخلوق فخلى عنه وأحس الشافعيرضي الله عنه بالشر وأنه الفتنة تشتد في إظهار القول بخلق القرآن فهرب من بغداد إلى مصر ولم يقل الرشيد رحمه الله بخلق القرآن فكان الأمر بين أخذ وترك إلى أن ولي المأمون فقال بخلق القرآن وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في الدعوة إلى ذلك ، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها وطلب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، فأخبر في الطريق أنه توفي فبقي الإمام محبوساً بالرقة حتى بويع المعتصم فأحضر إلى بغداد وعقد له مجلس المناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحاق ، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام فلم يقطع في بحث ، وسفه أقوال الجميع فأمر به فضرب بالسياط إلى أن أغمي عليه ورمي على بارية وهو مغشي عليه ثم حمل وصار إلى منزله ولم يقل بخلق القرآن ومكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً ولم يزل يحضر الجمعة ويفتي ويحدث حتى مات المعتصم وولي الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة وقال للامام أحمد لا تجمعن إليك أحداً ولا تساكني في بلد أنا فيه ، فاختفى الإمام أحمد لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها ، حتى مات الواثق وولي المتوكل ، فأحضره وأكرمه وأطلق عليه مالا فلم يقبله وفرقه ، وأجرى على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم ولم تزل جارية إلى أن مات المتوكل ، وفي أيامه ظهرت السنة وكتب إلى الآفاق برفع ما توقع من المحنة وإظهار السنَّة وتكلم في مجلس بالسنة ولم يزالوا أعني المعتزلة في قوة إلى أيام المتوكل ولم يكن في هذه الأمة الإسلامية أهل بدعة أكثر منهم .ومن مشاهيرهم على ما ذكروا من الفضلاء والأعيان الجاحظ وواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار والرماني النحوي وأبو علي الفارسي وأقضى القضاة الماوردي الشافعي وهذا غريب ، ومن المعتزلة أيضاً الصاحب بن عباد وصاحب الكشاف والفراء النحوي والسيرافي وابن جني والله أعلم .
في مجلس أمير
ومن ذلك ما حكي عن بعض المطربين أنه غنى في جماعة عند بعض الأمراء :
إذا أنت أعطيت السعادة لم تُبَل . . . ولو نظرت شزراً إليك القبائل
وإن فوق الأعداء نحوك أسهماً . . . ثنتها على أعقابهن المناصل
فطرب الأمير إلى الغاية ولما زاد طربه قال لبعض مماليكه هات خلعة لهذا المغني ولم يفهم المغني ما يقوله الأمير فقام لقلة حظه إلى بين الخلاء وفي غيبته جاء المملوك بالخلعة فوجد المغني غائباً وقد حصل في المجلس عربدة وأمر الأمير بإخراج الجميع فقيل للمغني بعدما خرج : إن الأمير كان قد أمر لك بخلعة فلما كان بعد أيام حضر المغني عند ذلك الأمير وغنى فقال :إذا أنت أعطيت السعادة لم تَبُلْ . . . ولو نظرت شزراً إليك القبائل
بفتح التاء وضم الباء ، فأنكروا عليه فقال نعم لأني لما بلت في ذلك اليوم فاتتني السعادة من الأمير فأوضحوا له القصة فضحك وأعجبه ذلك وأمر له بخلعة .
حرفة الأدب
ومن المنقول أن عبد الله بن المعتز من خلفاء بني العباس مع كماله وغزارة فضله كان لم يزل منغصا في مدة حياته بويع له بالخلافة وظن أن الحظ قد تنبه له فلم يتم الأمر له إلا يوما واحداً ثم قبض عليه وقتل رحمه الله تعالى على أنه ما وافق على ولاية الآمر حتى اشترط عليهم أن لا يسفكوا في واقعته دما ومحله من الأدب لا يخفى وشمعة فضله كالصبح لا تقط ولا تطفى وقد قيل :
لله درك من ملكٍ بمضيعةٍ . . . ناهيك في العلم والعلياء والحسب
ما فيه لو ولا ليتٌ تنقصُهُ . . . وإنما أدركتهُ حرفةُ الأدب
وقال ابن الساعاتي :
عفتُ القريضَ فلا أسمو له أبداً . . . حتى لقد عفتُ أن أرويه في الكتب
هجرت نظمي له لا من مهانته . . . لكنها خفيةٌ من حرفة الأدبقلت وما برح الزمان مولعا بخمول أهل الأدب وخمود نارهم . كان الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف من كبار أهل الأدب ، وكان حسن السيرة متدينا قل أن عاقب على ذنب وله المناقب الجميلة وكان أكبر إخواته ، ومع كمال صفاته وآدابه التي سارت بها الركبان ما صفاه له الدهر ولا هناه بالملك بعد أبيه السلطان صلاح الدين ، رحمه الله تعالى ، لبث مدة يسيرة بدمشق المحروسة ثم حضر إليه عمه أبو بكر العادل وأخوه الملك العزيز عثمان ، فأخرجهما من ملكه بدمشق إلى صرخد ثم جهزاه إلى سميساط وفي ذلك كتب إلى الإمام الناصر ببغداد :
مولاي إنَّ أبا بكرٍ وصاحبهُ . . . عثمان قد منعا بالسيف حق علي
فأنظر إلى حظ هذا الإسم كيف لقي . . . من الأواخر ما لاقى من الأول
فكتب الناصر الجواب : ولكن الفرق مثل الصبح
وافي كتابُك يا ابن يوسف معلناً . . . بالصدق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياًّ حقّه إذ لم يكن . . . بعد النبي له بيثرب ثائر
فاصبر فإن غداً عليه حسابهمْ . . . وابشر فناصرك الإمام الناصر
ولم ينصره الإمام الناصر بل توفي فجأة بسميساط ، رحمه الله تعالى ، ومن شعره ما ذكره ابن واصل في مفرج الكروب :
يا من يسود شعرهُ بخضابه . . . فعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرةً . . . ولك الأمانُ بأنه لا ينصلقلت ومثله الملك الناصر داود ابن الملك المعظم وكان داود صاحب الكرك ما برح مع كمال فضله منكداً مشتتا في البلاد توجه إلى بغداد ومعه فخر القضاة ابن بصاقة والشيخ شمس الدين الخرشاهي وقد استصحب جواهر نفيسة والتجأ إلى الإمام الناصر وطلب الحضور بين يديه ليشاهده في الملا فما قدر له ذلك ولا وافق الخليفة عليه حتى امتدحه بقصيدته البائية التي مطلعها :
ورانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه . . . وجنح الدجى وحفٌ تجول غياهبه
تقهقه في تلك الربوع رعودُهُ . . . وتبكي على تلك الطلول سحائبه
وقال منها في حكاية حاله مع الخليفة :
أيحسن في شرع المعالي ودينها . . . وأنت الذي تُعزي إليه مذاهبُه
بأني أخوض الدو والدو مقفرٌ . . . سباريته مقفرةٌ وسباسبه
ويأتيك غيري من بلادٍ قريبةٍ . . . له الأمن فيها صاحبٌ لا يجانبه فيلقى دنوا منك لم ألق مثلهُ . . . ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه
وينظر في لألاء قدسك نظرةً . . . فيرجع والنورُ الإمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفسٍ ورتبةٍ . . . وصدق ولاءٍ لست فيه أصاقبه
لكنت أسلي النفس مما ترومُه . . . وكنت أذود العين عما تراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت إنني . . . أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه
الناصر يشير إلى مظفر الدين كوكبوري بن كوجك فإنه قدم إلى الديوان فطلب الحضور ، فأذن له وبرز له الخليفة وشاهد وجهه ،ولما وقفت الخليفة على هذه القصيدة أعجبته غاية الإعجاب ، وهي من النظم البديع في غاية لاتدرك ، فاستدعاه بعد شطر من الليل واجتمع به خلوة ، وما تم له ما ظفر به مظفر الدين المذكور ، وسبب ذلك أن الخليفة راعى عمه المذكور ، والذي ثبت عند أهل التاريخ أن عمه العادل ما فعل ذلك إلا حسدا له على كمال أدواته وبلاغة آدابه وقيل : إنه كتب خطا منسوبا أزرى بالحدائق المدبجة .
من طرائف التصحيف
وحكى صاحب الريحان والريعان قال حضر شاب ذكي بعض مجالس الأدب ، فقال بعضهم : ما تصحيف نصحت فخنتني قال تصحيف حسن فاستغرب إسراعه ، وكان بالمجلس شاعر من أهل بلنسية فاتهم الشاب وقال مختبراً له ما تصحيف بلنسية فأطرق ساعة ، ثم قال أربعة أشهر فجعل البلنسي يقول صدق ظني أنك تدعي وتنتحل ، ما تقول ، والفتى يضحك ثم قال له أشعرت أنت يا شاعر فقال له وأي نسبة بين أربعة أشهر وبين بلنسية فقال له إن لم يكن في اللفظ ، فهو في المعنى ثم قام وهو يقولذلك ، فتنبه بعض الحاضرين ونظر فإذا أربعة أشهر ثلث سنة وهو تصحيف بلنسية فخجل الشاعر المنازع ومضى إلى الشاب معترفا ومعتذراً انتهى . وهذا المعنى في بلنسية نظمه الشيخ بدر الدين الدماميني أحجية فقال :
أيا واحد العصر ما بلدةً . . . محاسنها في الورى تذكر
حجى ما يرادف تصحيفها . . . وحقك أربعةٌ أشهر .
عمارة اليمني
ومن الغريب ما نقل عن الفقيه عمارة اليمني الشاعر أنه مر بمصلوب فقال :
ومدَّ على صليب الصلب منه . . . يميناً لا تطولُ إلى الشمال
ونكس رأسه لعتاب قلبٍ . . . دعاه إلى الغواية والضلال
فلم يمض ثلاثة أيام حتى صلب بين القصرين مع الجماعة الغرماء . وكان الفقيه نجم الدين عمارة أديباً ماهراً فقيهاً شافعي المذهب من أهل السنة قدم في دولة الفاطميين إلى الديار المصرية وصاحبها يومئذ الفائز بن الظافر ووزيره الصالح بن زريك فكان عنده في أكرم محل وأعز جانب واتحد به على ما كان بينهما من الاختلاف في العقيدة ثم رحل إلىاليمن وعاد إلى مصر وأقام بها إلى أن زالت دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ورثى أهل القصر بقصيدته التي أولها :
رميت يا دهر كفَّ المجد بالشللِ . . . ورعته بعد حسن الحلي بالعطلِ
ومنها :
قدمت مصر فأولتني خلائقها . . . من المكارم ما أربى على الأمل
قومٌ عرفتُ بهم كسب الألوف ومن . . . تمامها أنها جاءت ولم أسل
يا لائمي في هوى أبناءِ فاطمةٍ . . . لك الملامةُ إن قصرت في عذل
بالله زر ساحة القصرين وابكِ معي . . . عليهما لا على صفين والجمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلةً . . . بنسلٍ آلِ أمير المؤمنين علي
وهي طويلة في غاية الحسن فلما بلغت السلطان صلاح الدين تغير عليه وقيل إنه استفتى عليه في قوله من قصيدته الميمية :
وكان مبدأ هذا الأمر من رجلٍ . . . سعى فأصبح يُدعى سيدَ الأمم فأفتى الفقهاء بقتله وقالوا إن هذا الكلام رأي الفلاسفة في النبوات وأنها بالتكسب وهي إحدى المسائل التي كفروا بها والصحيح أنه يجتبي من رسله من يشاء ولم يكن أحد من الأنبياء عنده شعور بأنه يكون فيما بعد نبيا والذي يظهر أن هذا مفتعل على الفقيه عمارة نظمه بعض أعدائه على لسانه ودسه في تلك القصيدة وما يبعد أن القاضي الفاضل رحمه الله كان له ميل إلى هلاكه لأنه لما استشاره السلطان صلاح الدين في ضربه قال الكلب يسكت ثم ينبح قال فيسجن قال : يرجى له الخلاص قال فيقتل قالكذا الملوك إذا أرادوا شيئاً فعلوه ونهض فأمر بصلبه مع الغرماء فلما أمسكوه مروا به على باب الفاضل فلما رآه مقبلا قام ودخل إلى بيته وأغلق الباب فقال الفقيه عمارة :
عبد الرحيم قد احتجب . . . إن الخلاص من العجب
من طرائف الأدب
نكتة أدبية قال ابن سناء الملك من أبيات :
صليني وهذا الحسن باقٍ فربما . . . يُعزَّل بيت الحسن منه ويكنس
فوقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذه القصيدة وكتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل ، وما قلت هذه الغاية إلا وتعلمني أنها البداية ولا قلت هذا البيت آية القصيدة ، إلا وتلي ما بعده وما نريهم من آية أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام وتقصير الأنام وإلا فقد لهج الناس بما تحتها ودنوا ما دونها والقصيدة فائقة في حسنها بديعة في فنها ولكن بيت يعزل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة فإن لفظه الكنس غير لائقة بمكانها .فأجاب ابن سناء الملك قائلا قد علم المملوك ما نبه عليه مولانا من أمر البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة وقد كان المملوك مشغوفاً بهذا البيت مستحلياً له معجبا به معتقداً أن قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز حيث يقول :
وقوامي مثل القناة من الخط . . . وخدي من لحيتي مكنوس
والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثر ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر وما مال المملوك إلا إلى طريق من ميله إليه طبعه ولا سار إلا إلى من دله عليه سمعه ورأى المملوك أبا عبادة قد قال :
ويا عاذلي في عبرةٍ قد سفحتها . . . لبينٍ وأخرى قبلها للتحببِ
تحاول مني شيمةً غير شيمتي . . . وتطلبُ مني مذهباً غير مذهبي
وقال :
وما زارني إلاَّ ولهت صبابةً . . . إليه وإلا قلت أهلاً ومرحبا
فعلم المملوك ، أن هذه طريقة لا تسلك ، وعقيلة لا تملك ، وغاية لا ندرك ، ووجد المملوك أبا تمام قد قال :
سلم على الربع من سلمى بذي سلم
ووجدته أيضاً قد قال :
خشنت عليه أخت بني خشين
فاشمأز من هذا اللفظ طبعه ، واقشعر منه فهمه ، ونبا عنه ذوقه ، وكان سمعه يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ووجد هذا المبدع السيد عبد الله بن المعتز قد قال :وقفت بالربع أشكو فقد مشبهه . . . حى بكت بدموعي أعين الزهر
لو لم أعرها دموع العين تفسحها . . . لرحمتي لا ستعارتها من المطر
وقد قال :
قدك غصنٌ لا شوك فيه كما . . . وجهك شمس نهارهُ جسدك
فوجد المملوك طبعه إلى هذا المر مائلا وخاطره في بعض الأحيان عليه سائلا فنسج عن هذا الأسلوب وغلب على خاطره مع علمه أنه المغلوب وحبك الشيء يعمي ويصم فقد أعماه حبه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليداً لابن المعتز قالها وحمل أثقالها وهي زلة تغتفر في جنب حسناته وأما المملوك فهي عورة ظهرت في أبياته فأجابه الفاضل بقوله ولا حجة فيما احتجه بابن المعتز عن الكنس في بيته فإنه غير معصوم من الغلط ولا يقلد إلا في الصواب فقط وقد علم ما ذكره ابن رشيق في العمدة من تهافت طبعه وتباين صنعه ومخالفة وضعه فذكر من محاسنه ما لا يعلق معه كتاب ومن بارده وغثة مالا تلبس عليه الثياب وقد تعصب القاضي السعيد على أبي تمام فنقصه حظه وأما البحتري فأعطاه أكثر من حقه وقال :
ولو كان هذا موضع العتبِ لا شتفي . . . فؤادي ولكن للعتاب مواضع
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي لما وقف على هذا الفصل رأيت ابن سناء الملك استعمل هذه اللفظة في غير هذا الموضوع ولم يتعظ بنهي الفاضل ولا ارعوى ولا ازدجر عما قبحه بل غلب عليه الهوى فقال :وخلصني من يدي عشقه . . . ظلامٌ على خده حندسه
كنست فؤادي من حبه . . . ولحيته كانت المكنسه
قلت ما برح الشيخ صلاح الدين غفر الله له يذوق تقليداً كقوله عن ابن سناء الملك لما استعمل في هذه الصيغة المشتملة على الهجو بشاعة المكنسة ولم يتعظ بنهي الفاضل ولا أرعوى ولا ازدجر عما قبحه بل غلب عليه الهوى أما نقد الفاضل على ابن سناء الملك بوضع المكنسة على وجهة معشوقته التي ليس للعذار بوجنتها شعور فنقد صحيح وأما وضع مكنسة اللحية على وجنة من طلعت لحيته وكان جائراً على عاشقه وسبكها هنا في قالب الهجو فهو نوع من المرقص والمطرب ولو وقف الفاضل على هذه المكنسة لأعدها لأبياته .
ضر قائم وقله حظ
ومن لطائف المنقول ما حكي عن الشيخ مجد الدين ابن دقيق والعيد والد قاضي القضاة تقي الدين تغمدهما الله برحمته ورضوانه وهو أن الشيخ مجد الدين المشار إليه كان كثير الإحسان إلى أصحابه يسعى لهم على قدر استحقاقهم فيمن يصلح للحكم وفيمن يصلح للعدالة فجاءه بعض طلبتهوشكا إليه رقة الحال وكثرة الضرورة فقال له أكتب قصتك وأنا أتحدث مع الوالد فكتب ذلك الطالب المملوك فلان يقبل الأرض وينهي أنه فقير ومظرور بالظاء القائمة وقليل الحض بالضاد وناولها للشيخ فلما قرأها تبسم وقال يا فقير سبحان الله ضرك قائم وحظك ساقط .
عاشق الورد
قيل : إنه رفع إلى المأمون أن حائكاً يعمل السنة كلها لا يتعطل في عيد ولا جمعة ، فإذا ظهر الورد طوى عمله وغرد بصوت عال :
طاب الزمان وجاء الورد فاصطحبوا . . . ما دام للورد أزهارٌ وأنوار
فإذا شرب مع ندمائه على الورد غنى :
إشرب على الورد من حمراءَ صافيةٍ . . . شهراً وعشراً وخمساً بعدها عددا
ولا يزالون في صبوح وغبوق ما بقيت وردة فإنه انقضى الورد عاد إلى عمله وغرد بصوت عال :
فإن يبقني ربيِّ إلى الرود أصطبح . . . وإن مت والهفي على الورد والخمر
سألت إله العرش جلَّ جلاله . . . يواصل قلبي في غبوقٍ إلى الحشرفقال المأمون لقد نظر هذا الرجل إلى الورد بعين جليلة فينبغي أن نعينه على هذه المروءة فأمر أن يدفع له في كل سنة عشر آلاف درهم في زمن الورد .
ومن اللطائف ما حكي عن مجير الدين الخياط الدمشقي قيل : إنه كان يهوى غلاماً من أولاد الجند فشرب مجير الدين في بعض الليالي وسكر فوقع في الطريق فمر الغلام عليه بشمعة وهو راكب فرآه في الليل مطروحا على الطريق فوقع عليه بالشمعة ونزل فأقعده ومسح وجهه فسقط من الشمعة نقطة على وجهه ففتح عينيه فرأى محبوبه على رأسه فاستيقظ وأنشد :
يا محرقاً بالنار وجه محبِّه . . . مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي . . . وأحذر على قلبي فإنك فيه
ومن اللطائف ما حكاه الأصمعي قال : مررت بكناس يكنس كنيفاً وهو يغني ويقول :
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا . . . ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فقلت له أما سداد الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه وأما سداد الكُنُف فمعلوم . قال الأصمعي : وكنت حديث السن فأردت العبث به فأعرض عني مليا ثم أقبل علي وأنشد :
وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها . . . وحقك لم تُكرمْ على أحدٍ بعدي
فقلت وأي كرامة حصلت لها منك وما يكون من الهوان أكثر مما أهنتها به . فقال : بل لا والله من الهوان ما هو أكثر وأعظم مما أنا فيه ، فقلت له : وما هو فقال الحاجة إليك وإلى أمثالك ، فقال : فانصرفت وأنا أخزي الناسذكرت بقول الكناس غريم الأصمعي ما يضارع ذلك أعني قوله :
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا . . . ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
قيل : إنه كان لأبي حنيفة رضي الله عنه جار إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل ، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد :
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا . . . ليوم كريهةٍ وسداد ثغر ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه السكر وينام ، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله ، ويسمع حديثه وإنشاده ففقد صوته بعض الليالي فسأل عنه فقيل : أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال أئذنوا له واقبلوا به راكبا حتى يطأ البساط فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال ما حاجة الإمام فقال لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاثة أيام فتأمر بتخليته فقال نعم وكل من أخذ تلك الليل إلى يومنا هذا ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب الإمام وتبعه جاره الإسكاف فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة أترانا أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن صحبة الجوار ورعايته ولله عليَّ أن لا أشرب بعدها خمرا فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه .وذكرت بهذا الاقتباس الذي خلب القلوب هنا بحسن موقعه اقتباسا خلب قلوب الناس لعظم موقعه وما ذاك إلا أن الحاكم الفاطمي على ما ذكر ، لما بني المسجد الجامع بالقاهرة المعزية المجاور لباب الفتوح قيل إنه فسد حاله في آخر أمره وادعى الألوهية وكتب بسم الله الرحمن الرحيم وجمع الناس إلى الإيمان به وبذل لهم نفائس وكان ذلك في فصل الصيف والذباب يتراكم على الحاكم والخدام تدفعه ولا يندفع فقرأ في ذلك الوقت بعض القراء وكان حسن الصوت يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يسنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز . فاضطربت الأمة لعظم وقوع هذه الآية الشريفة في حكاية الحال ، حتى كأن الله أنزلها تكذيباً للحاكم فيما أدعاه وسقط الحاكم من فوق سريره خوفا من أن يقتل وولى هارباً ، وأخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن اطمأن إليه فجهزه رسولا إلى بعض الجزائر وأمر بإغراقه ورؤي بعد ذلك في المنام فقيل له ما وجدت فقال ما قصر معي صاحب السفينة أرسى بي على باب الجنة ومن الاقتباسات التي وقعت للمتأخرين في أحسن المواقع المتعلقة بحكاية الحال ما سمعت وشهدت حكاية حالة بالجامع الأموي وما ذاك إلا أن قاضيالقضاة علاء الدين أبا البقاء الشافعي ، رحمه الله تعالى ، كان قد عزل من وظيفة قضاء القضاة بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته والبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع على العادة ، ومعه أخوه قاضي القضاة بدر الدين الشافعي بالديار المصرية فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرىء وقرأ قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا إلى آخر الآية فحصل بالجامع الأموي ترنمٌ صفق له النسر بجناحية .
وروى المرزبان بإسناده أن المجنون خرج مع أصحاب له يمتار من وادي القرى فمر بجبلي نعمان فقالوا إن هذين جبلا نعمان وقد كانت ليلى تنزلهما قال فأي ريح تهب من نحو أرضها إلى هذا المكان فقالوا الصبا فقال والله لا أبرح حتى تهب الصبا فأقام في ناحية من الجبل ومضوا فامتاروا له ولهم ثم أتوا فحبسهم حتى هبت الصبا ورحل معهم وفي ذلك يقول :
أيا جبلي نعمان بالله خليا . . . نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارةٌ . . . على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسمت . . . على نفس مهمومٍ تجلت همومها
وضمن البيت الأول الشيخ صفي الدين الحلي في مليح اسمه نعمان
أقول وقد عانقت نعمان ليلةً . . . بنور محياه أنارَ أديمها
وقد أرسلت إلياه نحوي فسوةً . . . يروح كرب المستهام شميمها
أيا جبلي نعمان بالله خليا . . . نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها وكان لابن الجوزي رحمه الله تعالى زوجة أسمها نسيم الصبا فاتفق أنه طلقها فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه فحين رآها عرفها فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عند فأنشد في الحال :أيا جبلي نعمان بالله خليا . . . نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
قلت وعلى ذكر نعمان والكناية عنه فما ألطف ما ذكره الشيخ بدر الدين حسن بن زفر الطبيب الأربلي في كتابه روضة الجليس ونزهة الأنيس وهو أن بعض الرؤساء قال : أخبرني بعض الأصحاب قال : كنت يوما جالسا عند صديق لي بالموصل إذ جاءه كتاب من بغداد من صديق له وفيه تشوق وفيه عتاب بهذا البيت :
تناسيتم العهد القديم كأننا . . . على جبلي نعمان لن نتجمعا
فأخذ يستحسن هذا البيت ويهتز له فقلت بالله عليك أسألك شيئاً لا تخفه قال سل قلت هذه معشوقتك صاحبة هذا الكتاب هل كنت تأتيها من وراء الدار فقال أي والله ومن أين علمت ذلك فقلت من البيت لأنها ذكرتك فيه بجبلي نعمان وهما كناية عند الظرفاء من أهل الأدب عن جانبي الكفل للمليح والمليحة فقال والله ما أدركت ما أدركت ونقلت من اللطائف المسبوكة في قالب التورية أن بعض الكتاب دخل يسلم على بعض فضلاء النحاة وكان من أصحابه فوجده قائما يلوط بأحد الغلمان الملاح من طلبته في قراءة النحو ولم يره الغلام فجلس النحوي في مكانه وبقي الغلام واقفا مبهوتا فقال الكاتب للنحوي مالي أرى هذا الغلام واقفا فقال النحوي وقع عليه الفعل فانتصب .
ومثل ذلك قصة ابن عنين مع الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل لما كتب إليه في مرضه :
أنظر إلي بعين مولى لم يزل . . . يولي الندى وتلافَ قبل تلافي
أنا كالذي احتاج ما يحتاجه . . . فأغنم دعائي والثناء الوافي
فحضر إليه المعظم بنفسه ومعه ثلثمائة دينار وقال له أنت الذي وأنا الغائد وهذه الصلةومثله ما حكي أن بعض الفقراء وقف على باب نحوي فقرعه فقال النحوي من بالباب فقال سائل فقال ينصرف فقال اسمي أحمد فقال النحوي لغلامه أعط سيبويه كسرة .
ومثله قول ابن عنين :
شكا ابن المؤبد من عزله . . . وذم الزمان وأبدى السفه
فقلت له :
لا تذم الزمان . . . فتظلم أيامه المنصفه
ولا تعجبن إذا ما صرفت . . . فلا عدل فيك ولا معرفه
وألطف منه قول القائل :
ورقيعٍ أراد أن يعرف النحو . . . بزي العيار لا المستفتي
قال لي لست تعرف النحو مثلي . . . قلت سلني عنه أجب في الوقت
قال ما المبتدا وما الخبر المجرور . . . أوجز فقلت ذقنك في استي
وأحسن منه وأبدع قول الشيخ زين الدين بن الوردي :
وشادنٍ يسالني . . . ما المبتدا والخبر
مثلهما لي مسرعاً . . . فقلت أنت القمر
ومن النكت المسبوكة في قالب التورية أيضا ما قيل أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم فقال الملك الأشرف ما تقول في سعد الدين الحكيم لشهاب الدين فقال يا مولانا السلطان إذا كان بين يديك فهو سعد الدين ، وعلى السماط سعد بلع ، وفي الخباء عن الضيوف سعد الأخبية ، وعند مرض المسلمين سعد الذابح قال فضحك الملك الأشرف واستسحن اتفاقه البديعي وابدع منه في هذا الباب ما نقل عن الشيخ نظام الدين قيس إنه لقي الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور فسأله الصاحب عن حاله فقال : حالٌ متى علم ابنُ منصورٍ بها . . . جاء الزمان إليّ منها تائبا
قلت إن نظام الدين أحق من أبي الطيب بهذا البيت ومن النكت بالتورية أيضاً قيل إن بعض الماجنات أرادت السفر فلقيها بعض المجان فقال لها خذي معك هذا الكتاب وأشار إلى ذكره فقالت له على الفور إن لم ألق أمك أعطه أختك ومثل ذلك أن الشيخ بدر الدين بن الصاحب لقي شخصاً ومعه مليحان فقال ما اسمك فقال عبد الواحد فقال أخرج منهما فأنا عبد الاثنين . ومثله أن ابن نقيلة المغني مرض وأشرف على الموت فجاء إليه ابن الصاحب يعوده فقال له كيف حال النقيلية فقال ما أخوفني أن تصير مدفونة مثله أن بعض المجان رأى امرأة حاملة سرموجة فقال له متى زوجك حملك تركاشه فقالت له رح لأرميك منه بفردة ومثله أن بعضهم رأى امرأة حاملة فردة سقمان لتخيطه فقال لها : أعتقي هذا الغراب . فقالت له رح لأسيبه ينقرك . ومثله أن الشيخ بد الدين المذكور أولا حضر إلى مجلس قاضي القضاة ناصر الدين المالكي فذكروا محاسن القاضي محب الدين ناظر الجيشين وحسن أخلاقه ثم ذكروا محاسن الشعر فأنشده قاضي القضاة :
فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذوي شرفٍ . . . كما علت برسول الله عدنان
فكل من الجماعة أثنى على هذا البيت فقال الشيخ بد الدين ابن الصاحب والقاضي محب الدين يحب هذا البيت فطربوا له . ومما وقع له بذلك المجلس أنه لما قدم المشروب على العادة كان قد تولى السقيا مملوك له اسمه بكتمر فلما شرب الشيخ بدر الدين قال له قاضي القضاة ما تقول يا شيخ قال رأيت ملك العلماء بكتمر الساقي ومثله أن الصاحب بن سكر أراد قارئا يقرأ بالمدرسة التي أنشأها بالقاهرة فاختاروا له رجلين أحدهما اسمه زيادة والآخر مرتضى فوقع في ظهر القصة مرتضى زيادة وزيادة مرتضى . ومثله أن أبا الحسين الخراز جاء إلى باب الصاحب زين الدين بن الزبير فأذن للناس في الدخول ولم يأذن له فكتب في ورقة :
الناس كلهم كالأير قد دخلوا . . . والعبد مثل الخصي ملقى على الباب
فلما قرأها ابن الزبير قال لحاجبه أخرج إلى الباب وقل يا خصي أدخل فدخل أبو الحسين وهو يقول هذا دليل على السعة ومن التنكيت والحشمة بالتورية أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال أخبرني الشيخ فتح الدين بن سيد الناس بالقاهرة قال قلت للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أن بهاء الدين بن النحاس يرجح أبا تمام على المتنبي فما رأيك أنت فسكت فقلت ثانيا فقال كنت كذا في الأول قال الشيخ صلاح الدين ولما حكيت للشيخ جمال الدين بن نباتة قال أنا على رأي ابن دقيق العيد قال الشيخ صلاح الدين وممن رأيته يعظم أبا تمام شيخنا أثير الدين ويرجحه على المتنبي فعذلناه في ذلك فقال أنا ما أسمع عذلا في حبيب .
ونقلت من خط الصاحب فخر الدين ابن الكانس رحمه الله قال سافرت سنة إحدى وستين وسبعمائة مع الصاحب فخر الدين ابن قزوينية إلى دمشق المحروسة وقد ولي نظر مملكتها ووالدي رحمه الله افتاءها وكان له دوادار يسمى صبيحاً وهو من عتقاء جده الوزير أمين الدين بن الغنام وكان لطيفا كثير النوادر فاتفق أن جمال الدين بن الرهاوي موقع دست الوزارة ركب يوما فتقنطر به الفرس وداس على رأس أحليله فحمل إلى داره وأقام أياما إلى أن عوفي وحضر مجلس الوزارة وهو غاص بالناس فقال الصاحب ما سبب تأخرك فقال تقنطر بي الفرس وداس رأس احليلي فكدت أموت والآن فقد لطف الله تعالى وحصل البرء والشفاء فقال له صبيح : الحمد لله على سلامة الخصي فانقلب المجلس ضحكا وخجل ابن الرهاوي وانصرف . وحكي أن بعض الرؤساء كان له خادم وعبد فدخل يوما فوجد العبد فوق الخادم فضربه وخرج فرأى بعض أصدقائه فساله عن غيظه فقال هذا العبد النحس فعل بالخويدم الصغير فقال بل مولانا السيد الكبير فخجل منه وأبرزها في قالب المجون .
وأنشد ابن الجوزي في بعض مجالس وعظه :
أصبحت ألطف من مر النسيم على . . . زهر الرياض يكادُ الوهم يؤلمني
من كل معنىً لطيفٍ أجتلي قدحاً . . . وكل ناطقةٍ في الكون تطربني
فقام إليه إنسان فقال يا سيدي الناطق حمارٌ فقال أقول له يا حمار اسكتبديهة أبي العلاء
نقل الحافظ اليعمري أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب فأنشد كل واحد منهم من شعره ما تيسر فأنشده أبو نصر :
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ . . . سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا . . . حنو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً . . . ألذَّ من المدامة للنديم
يصدُّ الشمس أني واجهتنا . . . فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى . . . فتلمس جانب العقد النظيم
فقال أبو العلاء أنت أشعر من بالشام .
ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً فأنشد كل واحد ما حضره من شعره حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد :
لقد عرض الحمام لنا بسجعِ . . . إذا أصغى له ركبٌ تلاحى
شجى قلب الخلي فقيل غنى . . . وبرح بالشجيِّ فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صبٍّ . . . إذا اندملت أجدَّ لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى . . . وسكران الفؤاد وإن تصاحى
بذاك بنو الهوى سكرى صحاةً . . . كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء ومن بالعراق عطفا على قوله من بالشام .نادرة لطيفة
حكي أن السراج الوراق جهز غلاما له يوما ليبتاع له زيتا طيبا ليأكل به لفتا فأحضره وقلبه على اللفت فوجده زيتا حاراً فأنكر على الغلام ذلك فأخذه وجاء إلى البياع وقال له لم تفعل مثل هذا فقال له والله يا سيدي مالي ذنب لأنه قال أعطني زيتا للسراج .
إسناد ضعيف
اجتمع محدث ونصراني في سفينة فصب النصراني من ركوة كانت معه في مشربة وشرب وصب وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداك هذا خمر فقال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من خمار يهودي وحلف أنها خمر عتيق فشربها بالعجلة وقال للنصراني أنت أحمق نحن أصحاب الحديث نروي عن الصحابة والتابعين أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد .الشعراء يتبعهم الغاوون
نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم في دعوة ذاهبون إلى وليمة فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته لم يبق إلى الطفيلي وهو جالس ساكت فقال له أنشد شعرك فقال لست بشاعر قيل فمن أنت قال من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم ' والشعراء يتبعهم الغاوون ' فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء .
أبو حنيفة والمريض البخيل
وحكى الهيثم بن عدي قال ماشيت الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة وكان المريض بخيلا وتواصينا على أن نعرض بالغداء فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال بعضنا آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال فتمطى المريض وقال ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال قوموا فما لكم هنا من فرج .ملاحظة طبيب
ومن غرائب المنقول أن يحيى بن إسحاق كان طبيباً حاذقاً صانعاً بيده وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين الله واستوزروه نقل عنه من حذقه أنه أتى إليه بدوي على حمار وهو يصيح على باب داره أدركوني وكلموا الوزير بخبري فلما دخل عليه قال ما بالك قال ورم باحليلي منعني النوم منذ أيام وأنا في الموت فقال له اكشف عنه فأذا هو وارم فقال لرجل جاء معه أحضر لي حجراً أملس فطلبه فوجده فقال له ضع عليه الأحليل فلما تمكن أحليل الرجل من الحجر جمع الوزير يده وضرب الأحليل ضربة غشي على الرجل منها ثم اندفع الصديد يجري فلما انقطع جريان الصديد فتح الرجل عينيه ثم بال في أثر ذلك فقال له أذهب فقد برأت علتك وأنت رجل عابث واقعت بهيمة في دبرها فصادفت شعيرة من علفها ولجت في عين الاحليل فورم لها وقد خرجت في الصديد فقال له الرجل قد فعلت ذلك وهذا يدل على الحذق المفرط .ذكاء ابن جميع
ومثله أن ابن جميع الاسرائيلي كان من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين خدم سلطان مصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة نافذ الأمر . ومما نقل عنه في حذقه أنه كان جالسا في دكان وقد مرت عليه جنازة فملا نظر إليها صاح يا أهل الميت إن صاحبك لم يمت ولا يحل أن تدفنوه حيا فقال بعضهم لبعض هذا الذي يقوله لا يضرنا ويتعين أن فمتحنه فإن كان حيا فهو المراد وإن لم يكن حيا فما يتغير علينا شيء فاستدعوه إليهم وقالوا بين لنا ما قلت فأمرهم بالعود إلى البيت وأن ينزعوا أكفانه فلما فرغوا من ذلك أدخله الحمام وسكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه نطله فظهر فيه أدنى حسن وتحرك حركة خفيفة فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصحا فكان ذلك مبدأ اشتهاره بشدة الحذق والعلم ثم إنه سئل بعد ذلك ومن أين علمت أن في ذلك الميت بقية روح وهو في الأكفان محمود فقال نظرت إلى قديمه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى منبسة فحدست أنه حي وكان حدسي صائبا .نوادر لطيفة
قيل إن المنصور ابن أبي عامر الأندلسي كان إذا قصد غزاة عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسر إلى الغزاة إلا من الجامع فاتفق أنه في بعض حركاته للغزاة توجه إلى الجامع لعقد اللواء فاجتمع عنده القضاة والعلماء وارباب الدولة فرفع حامل اللواء اللواء فصادف ثريا من قناديل الجامع فانكسرت على اللواء وتبدد عليه الزيت فتطير الحاضرون من ذلك وتغير وجه المنصور فقال رجل أبشر يا أمير المؤمنين بغزاة هينة وغنيمة سارة فقد بلغت أعلامك الثريا وسقاها الله من شجرة مباركة فأستحسن المنصور ذلك واستبشر به وكانت العزوة من أبرك الغزوات . ومثل هذا لما خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأولياء وواجه الحصن سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء فمسحه وقال :
فألقت عصاها واستقر بها النوى . . . كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال لم ما قلت فألقى موسى عصاه فقال يا أمير المؤمنين العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين فكان الأمر على ما ذكره وأخذ الحصن وحصل الظفر بأبي يزيد .
حكي أن الشيخ شهاب الدين ابن محمود قال عدت قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في دمشق بالمدرسة النجيبية سنة إحدى وثمانين وستمائة فأنشدني لبعض أهل الأدب في نقيب الأشراف بالمدائن رثاء خلب قلبي وهو يقول :
قد قلت للرجل المولى غسله . . . هلا أطاع وكنت من نصائحه
جنبه ماءك ثم غسله بما . . . أذرت عيون المجد عند بكائه
وأزل أفاويه الحنوط ونحها . . . عنه وحنطه بطيب ثنائه
ومر الملائكة الكرام بنقله . . . شرفاً ألست تراهمُ بإزائهلا توهِ أعناقَ الرجال بحمله . . . يكفي الذي حملوه من نعمائه
قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعى نفسه فمات في ذلك الأسبوع برد الله مضجعه .
نكتة لطيفة قيل إنه لما رجع الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله من الشام إلى بغداد وجلس على عادته أخذ يقلل أحوال الناس ويهضم جانب الرجال ويقول إنه ما بقي من يجاري وقد خلت الدنيا وأنشد :
ما في الصحاب أخو وجدٍ نطارحه . . . حديث نجدٍ ولا خلٌّ نجاريه فصاح من أطراف المجلس رجل عليه قباء وكلوتة فقال يا شيخ كم تنتقص بالقوم والله إن فيهم من لم يرض أن يجاريك وقصاراك أن تفهم ما يقول هلا قلت :
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم . . . إلا محبٌّ له في الركب محبوب
كأنما يوسفٌ في كلٍّ راحلةٍ . . . والحيّ في كلِّ بيتٍ منه يعقوب
فصاح السهروردي ونزل عن الكرسي وطلب الشاب فلم يجده .ابن المطرزي والشريف الرضي
عن ابن المطرزي الشاعر أنه مر وفي رجله نعل بالية بالشريف الرضي فأمر بإحضاره وقال أنشدني أبياتك التي تقول فيها :
إذا لم تبلغني إليك ركائبي . . . فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا
فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار إلى نعله البالية وقال هذه كانت ركائبك فأطرق ابن المطرزي ساعة ثم قال لما عادت هبات مولانا الشريف إلى مثل قوله :
وخذ النوم من جفوني فإني . . . قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل فخجل الشريف وقابله بما يليق من الإكرام . . .
ومن غرائب المنقول
ما حكى إسحق النديم عن أبيه قال : استأذن الرشيد أن يهب لي يوما من الجمعة لأنبعث فيه بجواري وإخواني فأذن لي في يوم السبت وقال هو يوم أستثقله فاله فيه بما شئت قال : فاقمتيوم السبت بمنزلي وتقدمت لإصلاح طعامي وشرابي ، وأمرت بوابي بإغلاق الباب وأن لا يأذن لأحد من الناس ، فبينما أنا في مجلسي ، والحرم قد حففن بي إذا أنا بشيخ عليه هيبة وجمال وعلى رأسه قلنسوة وبيده عكازة مفعمة بالفضة وروائح الطيب تفوح منه فداخلني لدخوله علي مع ما قدمت من الوصية غيظ عظيم ، وهممت بطرد بوابي ومن يحجبني لأجله ، فسلم علّي أحسن سلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس فجلس وأخذ في حديث الناس وأيام العرب وإشعارها حتى سكن ما بي فظننت أن غلماني قصدوا مسرتي بإدخاله علي لظرفه وأدبه فقلت له هل في الطعام فقال لا حاجة لي به فقلت هل لك في الشراب فقال ذاك إليك قال فشربت رطلا وسقيته مثله فقال يا أبا إسحق هل لك في أن تغني ونسمع منك ما فقت به على العام والخاص ، قال فغاظني منه ذلك ثم سهلت الأمر على نفسي ، أخذت العود وضربت وغنيت فقال : أحسنت يا إبراهيم فازددت غيظا وقلت ما رضي بما فعله حتى سماني باسمي ولم يحسن مخاطبتي ، ثم قال : هل لك في أن تزيدنا ونكافئك فقال فتذممت وأخذت العود فغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته قياما تاما فطرب وقال أحسنت يا سيدي ثم قال أتأذن لعبدك في الغناء فقلت شانك . واستضعفت عقله كيف سولت له نفسه أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني فأخذ العود وجسه فوالله لقد خلته ينطق بلسان عربي ، واندفع يغني :
ولي كبد مقروحة من يبيعني . . . . بها كبدا ليست بذات قروح
أباها علي الناس لا يشترونها ذا علة بصحيحفقال إبراهيم : فوالله لقد ظننت أن الحيطان والأبواب ، وكل من في البيت يجييبه ويغني معه ، وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الحركة ، لما خلالط قلبي : ثم غنى : ألا يا حمامات اللوى . . . الأبيات فكاد يذهب عقلي طربا ، ثم قال : يا إبراهيم خذ هذا الغناء وانح نحوه في غنائك ، وعلمه جواريك . فسألته أن يعيد ما غناه ، فقال : لم تحتج إلة شيء من ذلك . ثم غاب من بين عيني ، فارتعت وقمت إلى السيف فجردته ، ثم غدوت نحو الأبواب ، وقلت للجواري : أي شيء سمعتن ؟ فقلن سمعنا أحسن غناء . فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا ، فسألت البواب عن الشيخ فقال : أي شيخ ؟ والله ما دخل إليك اليوم أحد من الناس . فرجعت لأتأمل أمري ، فإذا به قد هتف من بعض جوانب الدار . فقال : لا بأس عليك أبا إسحاق ، أنا إبليس ، وقد اخترت منادمتك في هذا اليوم فلا ترع .
فركبت على الفور إلى الرشيد ، وأتحفته بهذه الطرفة . فقال : ويحك اعتبر الأصوات التي أخذتها العود ، فإذا هي راسخة في صدري ، فطرب الرشيد ، وأمري لي بصلة . وقال : ليته أمتعنا يوما واحدا كما أمتعك .
قال أبو الفرج الأصبهاني : هكذا حدثنا ابن أبي الأزهر وما أدري ما أقول فيه ؟إبليس وابن دريد
ويضارع هذا ما أورد ابن خلكان في ترجمة ابن دريد : قال أبو بكر محمد ابن الحسن بن دريد : سقطت من منزلي بفارس فانكسر بعض أعضائي ، فسهرت ليلتي ، فلما كان آخر الليل ضت عيني ، فرأيت رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا ، دخل علي وأخذ بعضادتي الباب ، وقال : أنشدني أحسن ما قلت في الخمر ، فقلت : ما ترك أبو نواس لأحد شيئا في هذا الباب ، فقال : أنا أشعر منه ، فقلت : ومن أنت ؟ قاغل : أنا ناجية من أهل الشام ، وأنشدني :
وحمراء قبل المزج صفراء بعده . . . بدت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا . . . عليها مزاجا فاكتست لون عاشق . فقلت له أسأت قال ولم : قلت لأنك قلت حمراء قدمت الحمرة ثم قلت نرجس وشقائق فقدمت الصفرة فقال ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض وأبو ناجية من كني إبليس . قال قاضي القضاة شمس الدين محمد بن خلكان في تاريخه وفي رواية أخرى أن الشيخ أبا علي الفارسي قال أنشدني ابن دريد هذين البيتين وقال جاءني إبليس في المنام ثم ذكر بقية الكلام .سرعة بديهة
ونقل ابن خلكان وغيره أن أبا بكر فريعة قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد كان من عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالأجوبة عن جميع ما يسال عنه في أفصح لفظ وأملح سجع وكان مختصا بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي ومنقطعا إليه وله مسائل وأجوبة مدونة في أيدي الناس وكان رؤساء ذلك العصر والعلماء والفضلاء يداعبونه ويكتبون له المسائل الغريبة الغريبة المضحكة فيكتب الأجوبة من غير توقف ولا يكتب إلا مطابقاً لما سألوه وكان الوزير المذكور يغري به جماعة يصنعون له المسائل الهزلية من معان شتى من النوادر فمن ذلك ما كتب إليه بعض الفضلاء على سبيل الامتحان ما يقول القاضي أيده الله تعالى في رجل سمّى والده مداما وكناه أبا الندامى وسمى ابنته الراح وكناها أم الأفراح وسمى عبده الشراب وكناه أبا الإطراب وسمى وليدته القهوة وكناها أم النشوة أينهى عن بطالته أم يؤدب على خلاعته فكتب تحت السؤال لو نعت هذا لأبي حنيفة لأقعده خليفة وعقد له راية وقاتل تحتها من خالف رأيه ولو علمنا مكانه لقلبنا أركانه فإن أتبع هذه الأسماء أفعالا وهذه الكنى استعمالا علمنا أنه أحيا دولة المجون وأقام لواء ابن الزرجونفبايعناه وشايعناه وإن تكن أسماء سماها ما له بها من سلطان خلعنا طاعته وفرقنا جماعته فنحن إلى إمام فعال أحوج منا إلى إمام قوال وكتب إليه العباس الكاتب ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنا بنصرانية فولدت له ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما فكتب تحت سؤاله بديها هذا من أكبر الشهود على الملاعين اليهود فإنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أمورهم وأرى أن يناط رأس اليهودي برأس العجل ويصلب على عنق النصرانية ألساق مع الرجل ، ويسحبان على الأرض وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض والسلام .
غدر المنصور
ولما خرج أبو جعفر المنصور يريد الحج بالناس قال لعيسى بن موسى الهادي : أنت تعلم أن الخلافة صائرة إليك وأريد أن أسلم لك عمي وعمك عبد الله بن علي فخذه وأقتله وإياك أن تجبن في أمره ثم مضى المنصور إلى الحج وكتب إليه من الطريق يستحثه على ذلك فكتب إليه قد أنفذت أمر أمير المؤمنين وكان الأمر بخلاف ذلك فلم يشك أبو جعفر أنه قتلهودعا عيسى بن موسى كاتبه يونس فقال له إن المنصور دفع إلي عمه وأمرني بقتله فقال له يريد أن يقتلك به فإنه أمرك بذلك سراً ويدعي به عليك علانية والرأي أن تستره في منزلك ولا تطلع عليه أحداً فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية ولا تدفعه إليه سراً أبداً ففعل ذلك وقدم المنصور فدس على عمومته من يحركهم أن يسألوا المنصور أن يهب لهم أخاهم عبد الله ففعلوا ذلك وكلموه فأجاب وقال نعم علي بعيسى بن موسى فأتاه فقال : يا عيسى كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله قبل خروجي إلى الحج وأمرتك أن يكون في منزلك مكرما قال قد فعلت ذلك قال قد كلمني فيه عمومتك فرأيت الصفح عنه فأتني به قال يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله قال لا بل أمرتك بحبسه عندك ثم قال المنصور لعمومته إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم وأدعى أني أمرته بذلك وقد كذب قالوا فدعه إليه نقتله قال شأنك فأخرجوه إلى صحن الدار واجتمع الناس واشتهر الأمر فقام أحدهم وشهر سيفه وتقدم إلى عيسى ليضربه فقال عيسى لا تعجلوا فإن عمي حي ردوني إلى أمير المؤمنين فردوه إليه فقال يا أمير المؤمنين إنما أردت بقتله قتلي هذا عمك حيا إن أمرتني بدفعه إليهم دفعته قال ائتنا به فأتى به فجعله في بيت فسقط عليه فمات وكان المنصور قد وضع في أساس البيت ملحاً لما شرع في عمارته وأعده لهذا المعنى ولما جلس فيه عمه أجرى الماء في أساس البيت سرا بحيث لا يشعر به أحد فذاب المليح وسقط البيتوركب المنصور بعد موت عمه وفي خدمته عباس ابن المتوفي وكان يباسطه في كل وقت فقال له المنصور وهو يحادثه هل تعرف ثلاثة في أول أسمائهم عين قال لا أعرف إلا ما تقول العامة يا أمير المؤمنين إن عليا قتل عثمان وكذبوا والله وعبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير وسقط البيت على عم أمير المؤمنين قال فضحك المنصور وقال إذا سقط البيت على عمي فما ذنبي قال قلت ما لك ذنب يا أمير المؤمنين وقتل عبد الله كان بسبب البيعة التي تقدمت له مع السفاح وشرحها يطول انتهى .
ابن الدقاق البلنسي وزيت أبيه
ونقلت من خط قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان ما صورته نقلت من خط القاضي كمال الدين بن العديم من مسودة تاريخه أن ابن الدقاق البلنسي الشاعر المشهور كان يسهر الليل ويشتغل بالأدب وكان أبوه حداداً فقيراً فلامه وقال يا ولدي نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه فاتفق أنه برع في العلم والأدب وقال الشعر وعمل في أبي بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة مطربة أولها :
يا شمس خدرٍ ما لها مغرب . . . وبدر تمٍّ قطّ لا يحجبوقال منها :
ناشدتك الله نسيم الصبا . . . أين استقرت بعدنا زينب
لم تسر إلا بشذا عرفها . . . أولا فماذا النفس الطيب
فأطلق له ثلثمائة دينار فجاء إلى أبيه وهو جالس في حانوته فوضعها في حجره وقال خذ هذه وابتع بها زيتاً انتهى .
ابن سريج ورفيقاه
حكي عن عبد العزيز بن الفضل قال خرج القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن شريح وأبو بكر بن داود وأبو عبد الله نفطوية إلى وليمة فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق فأراد كل منهم تقديم صاحبه عليه فقال ابن شريح ضيق الطريق يورث سوء الأدب فقال ابن داود لكنه تعرف به مقادير الرجال فقال نفطويه إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف .بثينة وعزة والخليفة
ومن لطائف المنقول أن بثينة وعزة دخلتا على عبد الملك بن مروان فانحرف إلى عزة وقال أنت عزة كثير قالت لست لكثير بعزة لكنني أم بكر قال أتروين قول كثير . . .
وقد زعمت أني تغيرت بعدها . . . ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيرُ
قالت لست أروي هذا ولكنني أروي قوله :
كأني أنادي أو أكلم صخرةً . . . من الصم لو تمشي بها العصم زلت
ثم انحرف إلى بثينة فقال أنت بثية جميل قالت نعم يا أمير المؤمنين قال ما الذي رأى فيك جميل حتى لهج بذكرك من بين نساء العالمين قالت الذي رأى الناس فيك فجعلوك خليفتهم قال فضحك حتى بدا له ضرس أسود ولم ير قبل ذلك وفضل بثينة على عزة في الجائزة ثم أمرهما أن يدخلا على عاتكة فدخلتا عليها فقالت : لعزة أخبريني عن قول كثير
قضي كل ذي دينٍ فوفىّ غريمه . . . وعزة ممطولٌ معنى غريمهاما كان دينه وما كنت وعدته
قالت كنت وعدته قبلة ثم تأثمت منها قالت عاتكة وددت أنك فعلت وأنا كنت تحملت أثمها عنك ثم ندمت عاتكة واستغفرت الله تعالى وأعتقت عن هذه الكلمة أربعين رقبة انتهى .
ويعجبني قول أسامة بن منقذ في ابن طليب المصري وقد احترقت داره .
أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا . . . قسراً إلى الإقرار بالأقدار
ما أوقد ابن طليبَ قطّ بداره . . . ناراً وكان حريقها بالنار
قلت ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه بن صورة المصري دلال الكتب بمصر كان له دار موصوفة بالحسن فاحترقت فعمل فيها نشو الملك المعروف بابن المنجم
أقول وقد عاينت دار ابن صورةٍ . . . وللنار فيها مارجٌ يتضرم
كذا كل مالٍ أصله من نهاوشٍ . . . فعماّ قليلِ في نهارٍ يعدم
وما هو إلا كافرٌ طال عمره . . . فجاءته لما استبطأته جهنَّم قلت وهذه اللطائف تضارع قصة أبي الحسين الجزار مع بعض أهل الأدب بمصر وكان شيخنا قد ظهر عليه جرب فالتطخ بالكبريت فلما سمع أبو الحسين الجزار بذلك كتب إليه :
أيها السيد الأديب دعاءٌ . . . من محبٍّ خالٍ عن التنكيتأنت شيخٌ وقد قربت من النا . . . ر فكيف ادهنت بالكبريت
قيل إن أبا القاسم الزعفراني مدح الصاحب ابن عباد بقصيدة نونية وانتهى إلى قوله منها :
وحاشية الدار يمشون في . . . صنوفٍ من الخزٍّ إلاّ أنا
فقال الصاحب قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية ثم قال لو علمت أن الله سبحانه وتعالى خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس ولو علمنا لباس من الخز لأعطيناكه . وبلغ حديث معن المذكور للعلاء بن أيوب فقال رحم الله أبن زائدة لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر به ولكنه كان عربيا خالصا لم يدنس بقاذورات الأعاجم انتهى .بيوت الشعر
قيل إن بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء ونسيب وكان جرير أفحل شعراء الإسلام في الأربعة فالفخر قوله :
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ . . . حسبت الناس كلَّهُم غضاباً
والمديح قوله
ألستم خير من ركب المطايا . . . وأندى العالمين بطون راح
والهجاء قوله
فغض الطرف إنك من نميرٍ . . . فلا كعباً بلغت ولا كلابا
والنسيب قوله
إن العيون التي في طرفها حورٌ . . . قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبَّ حتى لا حراك به . . . وهن أضعفُ خلق الله إنسانا
وقال أبو عبيدة التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير :
فإنك لاقٍ بالمنازل من منى . . . فخاراً فأخبرني بما أنت فاخر
فقال له جرير بلبيك اللهم لبيك قال أبو عبيدة أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون منه .خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء
قيل لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفد الشعراء إليه وأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم فبينما هم كذلك إذ مر بهم رجاء بن حيوة وكان جليس عمر فلما رآه جرير داخلا قام إليه وأنشده :
يا أيها الرجل المرخي عمامته . . . هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل عليه ولم يذكر له شيئا من أمرهم ثم مر بهم عدي بن أرطاة فقال جرير أبياتا آخرها قوله :
لا تنس حاجتنا لُقِّيتَ مغفرةً . . . قد طال مكثي عن أهلي وأوطاني
قال فدخل عدي على عمر فقال يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة قال ويحك يا عدي مالي وللشعراء قال أعز الله أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى ولك في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة قال كيف : قال : امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة فقطع بها لسانه قال أو تروي من قوله شيئاً قال نعم قوله :
رأيتك يا خير البرية كلها . . . نشرت كتاباً جاء بالحقِّ معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا . . . عن الحقّ لما أصبح الحقِّ مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدلساً . . . وأطفأت بالاسلام ناراً تضرما
فمن مبلغٍ عنِّي النبي محمداً . . . وكل امرىء يجزي بما كان قدّماأقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه . . . وكان قديماً ركنه قد تهدّما
فقال عمر ويلك يا عدي من بالباب منهم قال عمر بن أبي ربيعة قال أليس هو الذي يقول :
ثم نبهتها فمدت كعاباً . . . طفلةٌ ما تبين رجع الكلام
ساعةٌ ثم إنها بعد قالت . . . ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه لكان استر له لا يدخل والله عليَّ أبدا فمن بالباب سواه قال الفرزدق قال أوليس الذي يقول :
هما دلياني من ثمانين قامةٍ . . . كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا . . . أحيٌّ فيرجى أم قتيلٌ نحاذره
لا يدخل علي والله فمن بالباب سواه . قال الأخطل قال يا عدي هو الذي يقول : ولست بصائمٍ رمضان طوعاً . . . ولست بآكلٍ لحمَ الأضاحي
ولست بزاجر عيساً بكوراً . . . إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائرٍ بيتاً عتيقاً . . . بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائمٍ بالليل أدعو . . . قبيل الصبح حيَّ على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً . . . وأسجد عند مبتلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبداً فمن بالباب سوى من ذكرت قال الأحوص قال اليس الذي يقول :
الله بيني وبين سيدها . . . يفرُّ مني بها وأتبعهفما هو بدون من ذكرت فمن هنا أيضا قال جميل بن معمر قال أليس هو الذي يقول :
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن أمت . . . يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فلو كان عدو الله تمنى لق . . . اءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحها
لكان أصلح والله لا يدخل علي أبداً فهل سوى من ذكرت أحد قال جرير قال أما هو الذي يقول :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا . . . وقت الزيارة فأرجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل فلما مثل بين يديه قال يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقا فأنشده قصيدته الرائية المشهورة التي منها :
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا . . . من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة أو كانت له قدراً . . . كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها . . . فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا . . . بوركت يا عمرَ الخيراتِ من عمر
فقال يا جرير ما أرى ذلك فيما ههنا حقا قال بلى يا أمير المؤمنين إني ابن سبيل ومنقطع فقال له ويحك يا جرير قد ولينا هذا الأمر ولا نملك إلا ثلثمائة درهم فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقيةقال فأخذها جرير وقال والله لهي أحب مال اكتسبته ثم خرج فقال له الشعراء ما وراءك فقال ما يسوءكم خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عليه لراض وأنشد :
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه . . . وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا
حكاية غريبة
. ومن لطائف المنقول ما حكي عن أبي معشر البلخي المنجم الإمام المصنف صاحب التصانيف المفيدة في علم النجوم قيل إنه كان متصلا بخدمة بعض الملوك وإن ذاك الملك طلب رجلا من أتباعه وأكابر دولته ليعاقبه بسبب جريمة صدرت منه فاستخفى وعلم أن أبا معشر يدل عليه بالطريقة التي يستخرج بها الخبايا والأشياء الكامنة فأراد أن يعمل شيئا حتى لا يهتدي إليه ويبعد عنه حديثه فأخذ طستا وجعل فيه دما وجعل في الدم هاون ذهب وقعد على الهاون أياما وتطلبه الملك وبالغ في الطلب فلما عجز عنه أحضر أبا معشر وطلب إظهاره فعمل المسألة التي يستخرج بها وسكت زمانا حائرا فقال له الملك ما سبب سكوتك وحيرتك فقال أرى شيئا عجيبا فقال وما هو قال أرى الرجل المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم ولا أعلم في العالم موضعا على هذه الصفة فقال إلا أعد نظرك ففعل ثم قال ما أرى له إلا ما ذكرت هذا شيء ما وقع لي مثله فلما أيس الملك من تحصيله نادى في البلد بالأمان للرجل ولمن أخفاه فلما اطمأن الرجلظهر وحضر بين يدي الملك فسأله عن الموضع الذي كان فيه فأخبره بما اعتمد عليه فأعجبه حسن احتياله في إخفاء نفسه
الغم يذيب الشحم
قال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان ومما يناسب هذا من فطن المتطببين ما رواه الحسين بن إدريس الحلواني قال سمعت الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن قيل له ولم ذلك قال لأنه لا يعدو العاقل إحدى خلتين إما أن يهتم لآخرته ومعاده أو لدنياه ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد ثم قال وكان بعض ملوك الأرض قديما كثير الشحم لا ينتفع بنفسه فجمع الحكماء وقال احتالوا لي بحيلة يخف عني لحمي هذا قليلا قال فما قدروا له على شيء فجاءه رجل عاقل لبيب متطبب فقال عالجني ولك الغنى قال أصلح الله الملك أنا طبيب منجم دعني حتى أنظر الليلة في طالعك لأرى أي دواء يوافقه فلما أصبح قال أيها الملك الأمان فلما أمنه قال رأيت طالعك يدل على أنه لم يبق من عمرك غير شهر واحد فإن اخترت عالجتك وإن أردت بيان ذلك فاحبسني عندك فإن كان لقولي حقيقة فخل عني وإلا فاقتص مني قال فحبسه ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مغتما فكلما انسلخ يوم ازداد هما وغما حتى هزل وخف لحمه ومضىلذلك ثمان وعشرون يوما فبعث إليه وأخرجه فقال ما ترى فقال أعز الله الملك أنا أهون على الله من أن أعلم الغيب والله إني لم أعلم عمري فكيف أعلم عمرك ولكن لم يكن عندي دواء إلا الغم فلم أقدر أن أجلب إليك الغم إلا بهذه الحيلة فإن الغم يذيب الشحم فأجازه على ذلك وأحسن إليه غاية الإحسان وذاق حلاوة الفرح بعد مرارة الغم . قلت ويعجبني قول جعفر بن شمس الخلافة في هذا المعنى :
هي شدة يأتي الرخاء عقيبها . . . وأسىً يُبشِّرُ بالسرور العاجل
وإذا نظرت فإن بؤساً عاجلاً . . . للمرء خيرٌ من نعيمٍ زائل
ويعجبني قوله وإن كان في غير ما نحن فيه :
مدحتك ألسنة الأنام مخافةً . . . وتشاهدت لك بالثناء الأحسنِ
أتُرى الزمان مؤخِّراً في مدَّتي . . . حتى أعيش إلى انطلاق الألسن
حياتك ذنب
نقل عن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في تاريخه أن الجنيد قال ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها قيل له وما هي قال مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار وتقول هذه الأبيات :
إذا قلتُ اهدى الهجرُ لي حُلَلَ الأسى . . . تقولين لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ
وإن قلتُ ما أذنبتُ قلتُ مجيبةً . . . حياتُكِ ذنبٌ لا يقاسُ به ذنب
فصعقت وصحت فبينما أنا كذلك إذ خرج صاحب الدار فقال ما هذا يا سيدي فقلت له مما سمعت فقال إنها هبة مني إليك فقلت قد قبلت وهي حرة لوجه الله تعالى ثم دفعها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت منه ولدا نبيلا حج على قدميه ثلاثين حجة .
لمحة لغوية
وذكر قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في ترجمة أبي علي الفارسي أنه كان يوما يساير عضد الدولة بن بويه في ميدان سيران فقال له لم انتصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيدا فقال الشيخ بفعل مقدر تقديره استثنى زيدا فقال له عضد الدولة هل رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد فانقطع وقال هذا الجواب ميداني ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاما حسنا وحمل إليه فاستحسنهعقاب الشيب
وحكى أبو القاسم أحمد الأندلسي قال جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر فقال إني لأغبطكم على قول الشعر فإن خاطري لا يوافقني إلى ذلك مع تحقيق العلوم التي هي من معادنه فقال له رجل فما قلت قط شيئا منه قال ما أعلم أن لي شعرا غير ثلاثة أبيات في الشيب وهو قولي :
خضبتُ الشيبَ لما كان عيباً . . . وخَضْبُ الشيب أولى أن يُعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلٍّ . . . ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن المشيب بدا ذميماً . . . فصيّرت الخضاب له عقابا
حال تبدل
وحكي أن أبا محمد الوزير المهلبي كان في غاية من الأدب والمحبة لأهله وكان قبل اتصاله بمعز الدولة بن بويه في شدة عظيمة من الضرورة والمضايقة وسافر وهو على تلك الحالة ولقي في سفره شدة عظيمة فاشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالا :إلا موتٌ يباع فأشتريه . . . فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي . . . يخُلِّصني من العيش الكريه
إذا أبصرتُ قبراً من بعيدٍ . . . وددت لو أنني فيما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ . . . تصدّق بالوفاة على أخيه
كان له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي وقيل أبو الحسن العسقلاني فلما سمع الأبيات اشترى له لحما بدرهم وطبخه وأطعمه وتفارقا وتنقلب الأحوال وولي الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور وضاق الحال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه :
ألا قل للوزير فدتْهُ نفسي . . . مقال مذكّرٍ ما قد نسيه
أتذكرُ إذ تقولُ لضيق عيشٍ . . . ألا موتٌ يُباعُ فاشتريه
فلما وقف عليها تذكر الحال وهزته أريحية الكرام فأمر له بسبعمائة درهم ووقع له في رقعته مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملا يرتفق منه .حماد الراوية وهشام بن عبد الملك
وذكر الحريري صاحب المقامات في كتابه المسمى بدرة الغواص ما مثاله قال حماد الراوية كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته وكان أخوه هشام يجفوني لذلك فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من اخواني سرا فلما لم أسمع أحدا ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرصافة فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي وكان واليا على العراق فقلت في نفسي من هذا كنت أخاف ثم قلت لهما تدعني حتى آتي أهلي وأودعهم ثم أسير معكما فقالا ما إلى ذلك من سبيل فاستسلمت في أيديهما ثم صرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي بكتاب فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملا مهريا يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشقفأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير أحمر وقد ضمخ بالمسك فسلمت عليه فرد علي السلام واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر أحسن منهما قط فقال كيف أنت وكيف حالك فقلت بخير يا أمير المؤمنين فقال أتدري فيما بعثت إليك فقلت لا ، قال : بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله قلت وما هو يا أمير المؤمنين :
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت . . . قينةٌ قي يمينها إبريق
فقلت يقوله عدي بن يزيد العبادي في قصيدة قال : أنشدنيها فأنشدته :
بكر العاذلون في وضح الصب . . . ح يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الله . . . والقلب عندكم موثوق
لَسْتُ أدري لكثرة العذل فيها . . . أعذولٌ يلومني أم صديق
قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت . . . قينةٌ في يمينها إبريق
قدّمته على عقارٍ كعين ال . . . ديك صفّى سلافها الراووق
مُرَّةٌ قبل مزجها فإذا ما . . . مزجت لذَّ طعمها من يذوق
قال فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد سل حاجتك قلت إحدى الجاريتين قال هما جميعا لك بما عليهما ومالهما فأقام عنده ثم وصله بمائة ألف درهم .مع خالد الكاتب : لؤية باذنجانية
قال ثعلب ما أحد من الشعراء تكلم في الليل الطويل إلا قارب ولكن خالد الكاتب أبدع فيه فقال :
رَقَدْت فلم ترثِ للساهر . . . وليلُ المحبِّ بلا آخر
ولم تدرِ بعدَ ذهاب الرُّقا . . . دِ ما صنع الدمعُ بالناظر
وقال بعض من كان يحضر مجلس المبرد كنا نختلف إليه فإذا كان آخر المجلس أملى علينا من طرف الأخبار وملح الأشعار ما نرتاح إلى حفظه فأنشدنا يوما مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب التي منها :
فإذا مررتَ بقبرهِ فاغفر له . . . كرمَ الهِجانِ وكلَّ طرفٍ سانحِ
وانضح جوانب قبره بدمائها . . . فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
قال فخرجت من عنده وأنا أديرها في لساني لأحفظها فإذا بشيخ قد خرج من خربة وفي يده حجر فهم أن يرميني به فتترست بالمحبرة والدفتر فقال ماذا تقول أتشتمني فقلت اللهم لا ولكني كنت عند أستاذنا أبي العباس المبرد فأنشدنا مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب فقال له إيه إيه أنشدني ما أنشدكم باردكم لا مبردكم فأنشدته فقال والله ما أجاد الراثي ولا أنصف المرثي ولا أحسن الراوي قلت فما عساه أن يقول قال كان يقول :إحملاني إن لم يكن لكما عق . . . رٌ إلى جنب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كا . . . ن دمي من نداه لو تعلمان
قال فقلت هل رأيت أحدا واسى أحدا بنفسه قال نعم هذا الفتى الفتح بن خاقان طرح نفسه على المتوكل حتى خلط لحمه بلحمه ودمه بدمه ثم تركني وتولى فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال أتعرفه قلت لا قال ذلك خالد الكاتب تأخذه السوداء أيام الباذنجان .
كيف اكون باردا
قيل كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده وقوي به الوسواس ورؤي ببغداد والصبيان يتبعونه فأسند ظهره إلى قصر المعتصم والصبيان يصيحون به يا بارد فقال كيف أكون باردا وأنا الذي أقول :
بكى عاذلي من رحمتي فرحمتُهُ . . . وكم مثلهُ من مسعدٍ ومعينِ
ورقَّت دموعُ العين حتى كأنَّها . . . دموعُ دموعي لا دموع جفونيعلى قدر هريستك
وحدث أبو الحسن علي ابن مقلة قال حدثني أبي عن عمه قال اجتاز أبو خالد الكاتب وأنا على باب داري بسر من رأى والصبيان حوله يعبثون به فجاءني لما رآني وسألني صرفهم عنه فصرفتهم وأدخلته داري وقلت له ما تشتهي تأكل قال الهريسة فتقدمت بإصلاحها له فلما أكل قلت أي شيء تحب بعد هذا قال رطب فأمرت بإحضاره فأكل فلما فرغ من أكله قلت له أنشدني من شعرك فأنشدني :
تناسيتَ ما أوعيتُ سمعك يا سمعي . . . كأنَّك بعد الضرِّ خالٍ من النفع
فإن كنت مطبوعاً على الصدِّ والجفا . . . فمن أين لي صبرٌ فأجعلهُ طبعي
لئن كان أضحى فوق خديكَ روضةً . . . فإنّ على خدّي غديراً من الدَّمع
فقلت زدني فقال لا يساوي تهريسك ورطبك غير هذا
تصحيح شعري
ومن المروي عنه قال بعض طلبة المبرد خرجت من مجلس المبرد فلقيت خالد الكاتب فقال من أين قلت من مجلس المبرد قال بل البارد ثم قال ما الذي أنشدكم اليوم قلت انشدني :أعار الغيث نائلُهُ . . . إذا ما ماؤه نفدا
وإن أسدُ شكا جبناً . . . أعار فؤاده الأسدا
فقال أخطأ قائل هذا الشعر قلت كيف قال ألا تعلم أنه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قلت فكيف كان يقول فأنشد :
علم الغيثُ الندى من يده . . . مذ دعاهُ علَّم البأسَ الأسد
فإذا الغيث مقرٌّ بالنَّدى . . . وإذا الليثُ مقرٌّ بالجلد
قال فكتبتهما وانصرفت .
دهاء أبي دلامة
دخل أبو دلامة على المهدي فأنشده قصيدة فقال سل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين هب لي كلبا قال فغضب وقال أقول لك سل حاجتك تقول هب لي كلبا فقال يا أمير المؤمنين الحاجة لي أو لك فقال بل لك فقال إني أسألك أن تهب لي كلب صيد فأمر له بكلب فقال يا أمير المؤمني هبني خرجت للصيد أعدو على رجلي فأمر له بدابة فقال له يا أمير المؤمنين فمن يقوم عليها فأمر بغلام فقال يا أمير المؤمنين هبني صدت صيدا وأتيت به المنزل فمن يطبخه فأمر له بجارية فقال يا أمير المؤمنين فهؤلاء أين يبيتون فأمر له بدار فقال يا أمير المؤمنين قد صيرت فيعنقي عيالا فمن أين لي ما يقوت هؤلاء قال المهدي اعطوه جريب نحل ثم قال هل بقيت لك حاجة قال نعم فأذن لي أن أقبل يدك .
واعظ هشام بن عبد الملك
قدم هشام بن عبد الملك قد حاجا إلى بيت الله الحرام فلما دخل الحرم قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا قال فمن التابعين فاني بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم بأمير المؤمنين ولم يكنه وجلس إلى جانبه بغير إذنه وقال كيف أنت يا هشام فغضب من ذلك غضبا شديدا حتى هم بقتله فقيل له : أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك فقال يا طاوس ما حملك على ما صنعت قال وما صنعت قال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تسلم بيا أمير المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت يا هشام كيف أنت فقال له طاوس ما خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة في كل يوم خمس مرات ولا يعاتبني ولا يغضب علي وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل المؤمنين راضيا بإمرتك فخفت أن أكون كاذبا وأما قولك لم تكنني فإن الله عز وجل سمى أنبياءه فقال يا داود يا يحيىويا عيسى وكنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فأنظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام فقال له عظني فقال له إني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إن في جهنم حيات وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته ثم قام فخرج .
أدب الشعبي
هذه نادرة لطيفة مروية عن أبي عامر الشعبي ولكن يتعين أن نبدأ بشيء من ترجمته قال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والحسن البصري بالبصرة ومكحول بالشام والشعبي بالكوفة ويقال أنه أدرك خمسمائة من الصحابة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنادرة الموعود بذكرها هي ما حكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك ابن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل لا يسالني عن شيء إلا أجبته وكانت الرسل لا تطيل الإقامة فحبسني عنده أياما كثيرة فلما أردت أردت الانصراف قال أمن بيت المملكة أنت فقلت لا ولكني من العرب فدفع إلي رقعة وقال إذا أديت الرسائل إلى صاحبك أوصل إليه هذهالرقعة قال فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأنسيت الرقعة فلما وصلت الباب أريد الخروج تذكرت الرقعة فرجعت . فأوصلتها إليه فقال لي هل قال لك شيئا قبل أن يدفعها إليك قلت نعم قال لي أنت من أهل بيت المملكة قلت لا لكني رجل من العرب في الحملة ثم خرجت من عند عبد الملك فلما بلغت الباب طلبني فرددت فلما مثلت بين يديه قال أتدري ما في الرقعة قلت لا قال اقرأها فقرأتها فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره قلت يا أمير المؤمنين لو علمت ما فيها ما حملتها وإنما قال هذا لأنه لم يرك قال أتدري لم كتبها قلت لا قال حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك انتهى .
وقيل كان الشعبي ضئيلاً نحيلا فقيل له في ذلك فقال زوحمت في الرحم وكان قد ولد هو وأخ آخر وأقام في البطن سنتين ذكره صاحب كتاب المعارف . ويقال إن الحجاج قال له يوما كم عطاك في السنة فقال ألفين فقال له ويحك كما عطاؤك قال ألفان فقال ويحك كيف لحنت أولا فقال لحن الأمير فلحنت فلما أعرب أعربت وما يحسن أن يلحن الأمير وأعرب فاستحسن ذلك منه وأجازه .ذكاء كاتب ودهاء أمير
نادرة بديعة غريبة منقولة عن سديد الملك أبي الحسن علي بن منقذ صاحب قلعة شيراز وكان سديد المذكور مقصودا من البلاد ممدوحا مدحه جماعة من الشعراء كابن الخياط والخفاجي وغيرهما وله شعر جيد أيضا ومنه قوله وقد غضب على مملوكه فضربه .
أسطوا عليه وقلبي لو تمكن من . . . كفيَّ غلهما غيظاً إلى عنقي
وأستعين إذا عاقبته حنقاً . . . وأين ذلُّ الهوى من عزة الحنق
وكان موصوفا بقوة الفطنة ويحكى عنه في ذلك حكاية عجيبة وهي أنه كان يتردد على حلب قبل تملكه قلعة شيراز وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس فجرى أمر خاف سديد الملك منهن على نفسه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده فتقدم محمود صاحب حلب إلى كاتبه أبي نصر محمد بن الحسين بن علي النحاس الحلبي أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوقه فيه ويستعطفه ويستدعيه إلى حلب ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً إذا جاء إليه وكان الكاتب صديقا إلى سديد الملك فكتب الكاتب كما أمره مخدومه إلى أن بلغ إلى آخره وهو إن شاء الله فسدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنواعبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني ارى ما لا ترون في الكتاب ثم أجاب عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة فصول الكتاب أنا الخادم المقر بالأنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه سر بما فيه وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى عن مثله وقد اجاب بما طيب قلبي عليه وكان الكاتب قد قصد قوله تعالى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأجاب سديد الملك بقوله إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها وكانت هذه الحكاية معدودة من شدة تيقظه وفهمه انتهى .
نبل الوزير ابن الفرات
وحكى الصابيء في كتاب الأعيان والأمثال أن رجلا اتصلت عطلته وانقطعت مادته فزور كتابا من الوزير أبي الحسن علي بن الفرات وزير المقتدر بالله العباسي إلى ابن زيتون المارداني عامل مصر يتضمن المبالغة في الوصايا وزيادة الإكرام وعمل المصالح فلما دخل مصر اجتمع بابن زيتون ودفع إليه الكتاب فلما قرأ ابن زيتون الكتاب ارتاب في أمره لتغير لفظ الخطاب عما جرت به العاة وكون الدعاء أكثر مما يقتضيه محله فراعاه مراعاة قريبة ووصله صلة قليلة وحبسه عنده على وعدٍ وعده به ثم كتب إلى أبي الحسن بن الفرات يذكر الكتاب الذي ورد عليه وأنفذه بعينه إليهفلما وقف عليه ابن الفرات عرف الرجل وذكر ما كان عليه من الحرمة وما له من الحقوق القديمة عليه فعرضه على كتابه وعرفهم الصورة وعجب إليهم منها وقال لهم ما الرأي في مثل هذا الرجل فقال بعضهم تأديبه وقال بعضهم قطع إبهامه وقال اجملهم محضرا يكشف لابن زيتون أمره ويرسم له بطرده وحرمانه فقال ابن الفرات ما أبعدكم من الخير رجل توسل بنا وحمل المشقة إلى مصر وأمل الخير بجاهنا والانتساب إلينا يكون حاله عند أحسنكم نظرا تكذيب ظنه وتخييب سعيه والله لا كان هذا أبداً ثم أخذ القلم ووقع على الكتاب المزور هذا كتابي ولست أعلم لم أنكرت أمره واعترضتك فيه شبهة وليس كل ما يخدمنا نعرفه وهذا رجل خدمني أيام نكبته فأحسن تفقده ورفده وصرفه فيما يعود نفعه عليه ثم رد الكتاب إلى ابن زيتون من يومه ومضت على ذلك مدة طويلة إذ دخل على ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة جميلة فاقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي ويقبل يديه والأرض فقال له ابن الفرات من أنت بارك الله فيك قال صاحب الكتاب المزور إلى ابن زيتون الذي صححه كرم الوزير بفضله فضحك ابن الفرات وقال كم وصل إليك منه قال أوصل إلي من ماله ومن قسط قسطه على عماله عشرين ألف دينار فقال الحمد لله على صلاح حالك ثم أختبره فوجده كاتبا سديداً فاستخدمه . .مصارع العشاق
ذكر الحصري في كتابه المسمى بالدر المصون في سر الهوى المكنون أن الجاحظ ذكر للواثق لتأديب بعض أولاده فلما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه قال الجاحظ فخرجت من عنده فرأيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام فعرض عليّ الانحدار معه فانحدرت ونصبت ستارة وأمر بالغناء فاندفعت عوادة تغني .
كل يومٍ قطيعةٌ وعتابٌ . . . ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا . . . دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
ثم سكتت فأمر طنبورية فغنت :
وارحمتا للعاشقينا . . . ما إن أرى لهمُ معينا
كم يهجرون ويصرمون . . . ويقطعون فيصبرونا
كم يهجرون ويصرمون . . . ويقطعون فيصبرونا
فقالت لها العوادة فيصنعون ماذا قالت يصنعون هكذا وضربت بيدها على الستارة وبدت كأنها فلقة بدر ثم رمت بنفسها في الماء قال وكان على رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وفي يده مذبة فألقى المذبة من يده لما رأى ما صنعت الجارية ثم أتى إلى موضع سقوطها ونظر إليها وأنشد :
أنت التي غرقتني . . . بعد القضا لو تعلميناوزج بنفسه في أثرها فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما متعانقين ثم غاصا فهال ذلك محمداً واستعظمه وقال يا عمرو إن لم تحدثني حديثا يسليني عنهما ألحقتك بهما قال الجاحظ فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد يوما للمظالم وعرضت عليه القصص فمرت قصة فيها مكتوب إن رأى أمير المؤمنين أعزه الله ان يخرج جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة اصوات فعل ان شاء الله تعالى فأغتاظ سليمان لذلك وأمر من يأتيه براسه ثم أردفه رسولا آخر أن يدخل به إليه فلما دخل قال ما حملك على ما صنعت قال الثقة بحلمك والاتكال على عفوك فأمره بالقعود حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عود فقال لها غني ما يقول لك فقال الفتى غني :
تألق البرق نجدياً فقلت له . . . يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته فقال له سليمان أتأمر لي برطل فأتي به فشربه ثم قال لها غني :
حبذا رجعها إلينا يداها . . . في يدي درعها تحل الأزارا
فغنته فقال لسليمان أتأمر لي برطل فأتي به فشربه ثم قال غني : أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل . . . وإن كنت قد أزمعت صرمي فاجملي
فغنته قال لسليمان أتأمر لي برطل فما استتم شربه حتى صعد على الفور على قبة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فمات فقال سليمان إنالله وإنا إليه راجعون أتراه الأحمق ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيد هذه الجارية وانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عليه فلما انطلقوا بها نظرت إلى حفيرة في دار سليمان اتخذت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم ثم قالت :
من مات عشقاً فليمت هكذا . . . لا خير في عشقٍ بلا موت
فرمت بنفسها في الحفيرة فماتت فسري عن محمد وأحسن صلتي انتهى .
بديع الجناس
وكتب أبو منصور افتكين التركي متولي دمشق إلى عضد الدولة بن بويه كتابا مضمونه إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال في مستقرهم فكتب إليه عضد الدولة في جوابه هذه الكلمات وهي متشابهة في الخط لا تعرف إلا بعد النقط والضبط وهي غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك فأخش فاحش فعلك فعلك تهدأ بهذا قال القاضي شمس الدين ابن خلكان تغمده الله برحمته لقد أبدع غاية الإبداع . قلت وأبدع منه قول السلامي فيه من قصيدته التي منها :إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ . . . قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي . . . ثلاثة أشياءٍ كما اجتمع النشر
وبشرت آمالي بملكٍ هو الورى . . . ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر
قال ابن خلكان هذا على الحقيقة هو السحر الحلال كما يقال . وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر الأرجاني فقال :
يا سائلي عنه لما جئت أمدحه . . . هذا هو الرجل العاري من النار
لقيته فرأيتُ الناس في رجلٍ . . . والدهر في ساعةٍ والأرض في دار
ولكن أين الثريا من الثرى وألم أبو الطيب المتنبي أيضا بهذا المعنى لكنه ما استوفى بقوله :
هو الغرض الأقصى ورؤيتك المنى . . . ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
ولكن ليس لأحد منهما طلاوة بيت السلامي .
بين كافور وابن جابار
كان أبو بكر المحلي يتولى نفقات أبي المسك كافور والأخشيدي وكان له في كل عيد أضحى عادة وهو أن يسلم إلى أبي بكر المذكور بغلا محملا ذهبا وجريدة تتضمن أسماء قوم من حد القرافة إلى الجبانة وما بينهماقال أبو بكر المذكور وكان يمشي معي صاحب الشرطة ونقيب يعرف المنازل وأطوف من بعد العشاء الأخيرة إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك إلى من تضمنت اسمه الجريدة فأطرق منزل كل إنسان ما بين رجل وامرأة وأقول الأستاذ أبو المسك كافور الأخشيدي يهنئك بالعيد ويقول لك أصرف هذا في منفعتك فارفع إليه ما جعل له وفي آخر وقت زاد في الجريدة الشيخ أبا عبد الله ابن جابار وجعل له في ذلك العيد مائة دينار فطفت في تلك الليلة وأنفقت المال في أربابه ولم يبق إلا الصرة فجعلتها في كمي وسرت مع المغيب حتى أتينا منزله بظاهر القرافة فطرقت الباب فنزل إلينا الشيخ وعليه اثر السهر فسلمت عليه فلم يرد علي وقال ما حاجتك قلت الأستاذ أبو المسك كافور يخص الشيخ بالسلام فقال والي بلدنا قلت نعم قال حفظه الله الله يعلم أني أدعو له في الخلوات وادبار الصلوات بما الله سامعه ومستجيبه قلت وقد أنفذ معي نفقة وهي هذه الصرة ويسالك قبولها لتصرف في مؤنة هذا العيد المبارك فقال نحن رعيته ونحبه في الله تعالى وما نفسد هذه المحبة بعلة فراجعته القول فتبين لي الضجر في وجهه واستحيت من الله أن أقطعه عما هو عليه فتركته وانصرفت قال فجئت فوجدت الأمير قد تهيأ للركوب وهو ينتظرني فلما رآني قال إيه يا أبا بكر قلت أرجو الله أن يستجيب فيك كل دعوة صالحة دعيت لك في هذه الليلة وفي هذا اليوم الشريف فقال الحمد لله الذي جعلني لإيصال الراحة إلى عبادة ثم أخبرته بامتناع ابن جابار فقال نعم هو جديد لمتجر بيننا وبينه معاملة قبل هذا اليوم ثم قال لي عد إليه واركب دابة من دواب النوبة واطرق بابه فإذا نزل إليك فإنه سيقول لك ألم تكن عندنا فلا ترد عليه جوابا ثم استفتح واقرأ بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلي الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى يا ابن جابار الأستاذ كافور يقول لك ومن كافور العبد الأسود ومن هو مولاه ومن الخلق ليس لأحد مع الله ملك ولا شركة تلاشى الناس كلهم ههنا أتدري من هو معطيك وعلى من رددت أنت ما سألت وإنما هو أرسل لك يا بن جابار أنت ما تفرق بين السبب والمسبب . قال أبو بكر فركبت وسرت فطرقت منزله فنزل إلي فقال لي مثل لفظ كافور فأضربت عن الجواب وقرأت طه ثم قلت له ما قال لي كافور فبكى وقال لي أين ما حملت فأخرجت الصرة فأخذها وقال علمنا الأستاذ كيف التصوف قلت له أحسن الله جزاءك ثم عدت إليه فأخبرته بذلك فسر وسجد شكراً لله وقال الحمد لله على ذلك .
ونقل ابن خلكان في تاريخه أن أبا عبد الله محمد بن الأعرابي كان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئا وكان يقول جائز في كلام العرب أن يعاقب بين الضاد والظاء فلا يخطىء من يجعل هذا في موضع هذا وينشد :إلى الله أشكو من خليل أوده . . . ثلاثَ خصالٍ كلها لي غائضُ
ويقول هكذا سمعته بالضاد .
ومن النوادر اللطيفة
ورد أبو نصر الفارابي إلى دمشق على سيف الدولة بن حمدان وهو إذ ذاك سلطانها قيل إنه لما دخل عليه وهو بزي الأتراك وكان ذلك زيه دائماً وقف فقال له سيف الدولة أجلس فقال حيث أنا أو حيث أنت فقال حيث أنت فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يساورهم به فقال لهم بذلك اللسان إن هذا الشيخ قد أساء الأدب وإني سائله عن أشياء إن لم يعرفها أخرجوا به فقال له أبو نصر بذلك اللسان أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها فعجب سيف الدولة منه وعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء والحاضرين في كل فن فلم يزل كلامه يعلوا وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده ثم أخذوا يكتبون ما يقوله فصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال له هل لك في أن تأكل قال لا قال فهل لك أن تشرب قال لا فقال هل تسمع قال نعمفأمر سيف الدولة بإحضار القيان فحضر كل ماهر في الصنعة بأنواع الملاهي فخطأ الجميع فقال له سيف الدولة هل تحسن هذه الصنعة قال نعم ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها فأخرج منها عيدانا وركبها ثم لعب بها فضحك كل من في المجلس ثم فكها وركبها تركيباً آخر فبكى كل من في المجلس ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب فتركهم نياما وخرج . وهو الذي وضع القانون وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس وكان مدة إقامته بدمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع المياه أو مشتبك الرياض وهناك يؤلف كتبه وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مسكن ولا مكسب وسأله سيف الدولة في مرتب من بيت المال فقال يكفيني أربعة دراهم ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق وصلى عليه سيف الدولة وأربعة من خواصه وقد ناهز ثمانين سنة ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير .
ومن المنقول من خط القاضي الفاضل أن نور الدين الشيهد كتب إلى راشد الدين سنان صاحب القلاع الاسماعيلية كتابا يهدده فيه فشق ذلك على سنان فكتب إليه بما هو فوق الوصف بحكاية الحال وهو :
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا . . . لاقام مصرع قلبٍ كنت تصرعه
قال الحمام إلى البازي يهدده . . . واستصرخت بأسود الغاب أضبُعهأضحى يسدُّ فم الأفعى باصبعه . . . يكفيه ماذا تلاقي منه أصبعه
وقفنا على تفصيله وجمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن الفيل وبعوضة تعد في التماثيل ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم فما كان لهم من ناصرين أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وأما ما صدر من قولك فتلك أماني كاذبة وخيالات غير صائبة فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ما أوذي نبي ما أوذيت ولقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته والحال ما حال والأمر ما زال ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون ومغصوبون لا غاصبون وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رجالنا وما يتمنونه من الفوت ويستقربون به إلى حياض الموت قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين وفي أمثال العامة أو للبط تهددون بالشط فهيىء للبلاء جلبابا وتدرع للرزايا أثوابا وإنك لكالباحث عن حتفه بظلفه أو الجادع أنفه بكفه وما ذلك على الله بعزيز .قالوا عشقتَ وأنت أعمى . . . ظبياً كحيل الطرف المى
وحلاء ما عاينتها . . . وتقول قد شغفتك وهما
وخياله بك في المنا . . . م فما أطاف ولا ألماَّ
من أين أرسل للفؤا . . . د وأنت لم تنظره سهما
ومتى رأيت جماله . . . حتى كساك هواه سقما
وبأي جارحةٍوصلت لوصفه نثراً ونظما
فأجبت إني موسو . . . ي العشق إنصاتاً وفهما
أهوى بجارحة السما . . . ع ولا أرى ذات المسمى
ويعجبني أيضاً قول ضرير آخر :
وغادةٍ قالت لأترابها . . . يا قوم ما أعجبَ هذا الضرير
أيعشق الإنسان ما لا يرى . . . فقلت والدمع بعيني غزير
إن لم تكن عيني رأت شخصها . . . فإنها قد مثلت في الضمير
ومثل هذا قول المهذب عمر ابن الشحنة :
وإني امرؤٌ أحببتكم لمحاسنٍ . . . سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وتقدمه بشار بقوله :
يا قوم أذني لبعض القوم عاشقةٌ . . . والأذن تعشق قبل العين أحياناحاتم الطائي
ونقل الشيخ جمال الدين بن نباتة في كتابه المسمى بسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون عن علي بن أبي طالب أنه قال سبحان الله ما أزهد كثير من الناس في الخير عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم حاجة فلا يرى نفسه أهلا للخير ولا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا وكان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبل النجاح فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم لما أتي بسبايا طيىء وقعت جارية بها جميلة لما رأيتها أعجبت بها فلما تكلمت نسيت جمالها بفصاحتها فقالت يا محمد إن رأيت أن تخلي سبيلي ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويفشي السلام ولا يرد طالب حاجة قط أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه صفات المؤمنين خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والمنقول عن حاتم في زيادة الكرم كثير .
من ذلك ما حكاه المدائني قال أقبل ركب من بني أسد وبني أسد وبني قيس يريدون النعمان فلقوا حاتما فقالوا تركنا قومنا يثنون عليك وقد أرسلوا إليك رسالة قال وما هي فأنشد الأسديون شعراً للنابغة فيه فلما أنشدوه قالوا إن نستحي أن نسألك شيئا وإن لناحاجة قال وما هي قالوا صاحب لنا قد أرجل يعني فقدت راجلته فقال حاتم خذوا فرسي هذه فاحملوه عليها فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فأفلت يتبع أمه فتتبعته الجارية لترده فصاح حاتم ما تبعكم فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية .
وقيل أجود العرب في الجاهلية ثلاثة حاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب ابن مامة وحاتم كان أشهرهم بالكرم ذكر أنه أدرك مولد النبي صلى الله عليه وسلم .
أجواد العرب في الإسلام
وحكى الهيثم بن عدي قال تمارى ثلاثة من أجواد الإسلام فقال رجل أسخى الناس في عصرنا هذا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقال آخر أسخى الناس عرابة الأوسي وقال آخر بل قيس ابن سعد بن عبادة وأكثروا الجدال في ذلك وكثر ضجيجهم وهم بفناء الكعبة فقال لهم رجل قد أكثرتم الجدال في ذلك وكثر ضجيجهم وهم بفناء الكعبة فقال لهم رجل قد أكثرتم الجدال في ذلك فما عليكم أن يمضي كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه ونحكم على العيان فقام صاحب عبد الله إليه فصادفه قد وضع رجله في غرز ناقته يريد ضيعة له فقال يا ابن عم رسول الله قال قل ما تشاء قال ابن سبيل ومنقطع به قال فأخرج رجل من غرز الناقة وقال له ضع رجلك واستو علىالراحلة وخذ ما في الحقيبة واحتفظ بسيفك فإنه من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار وأعظمها وأجلها السيف ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة فصادفه نائماً فقالت الجارية هو نائم فما حاجتك إليه قال ابن سبيل ومنقطع به قالت حاجتك أهون من إيقاظه هذا كيس فيه سبعمائة دينار والله يعلم أن ما في دار قيس غيره خذه وامض إلى معاطن الإبل إلى أموال لنا بعلامتنا فخذ راحلة من رواحله وما يصلحها وعبدا وامض لشأنك فقيل إن قيسا لما انتبه من رقدته أخبرته بما صنعت فاعتقها ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يمشي على عبدين وقد كف بصره فقال يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به قال فخلى العبدين وصفق بيمناه على يسراه وقال أواه أواه ما تركت الحقوق لعرابة مالا ولكن خذهما يعني العبدين قال ما كنت بالذين أقص جناحيك قال إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت تأخذ وإن شئت تعتق وأقبل يلتمس الحائط بيده راجعا إلى منزله قال فأخذهما وجاء بهما فثبت أنهم أجود عصرهم إلا أنهم حكموا لعرابة لأنه أعطى جهده .بديهة شاعر
حضر يعقوب بن إسحاق الكندي المسمى بوقته فيلسوف الإسلام مجلس أحمد بن المعتصم وقد دخل عليه أبو تمام فأنشد قصيدته السينية المشهورة فلما بلغ إلى قوله :
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ . . . في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال له الكندي ما صنعت شيئا فقال كيف : قال ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب وأيضا فإن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف .
رجل أبرّ على شجاعة عامرٍ . . . بأساً وغبّر في محيّا حاتم
فأطرق أبو تمام ثم أنشأ يقول :
لا تنكروا ضربي له من دونه . . . مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره . . . مثلاً من المشكاة والنبراس
ولم يكن هذا في القصيدة فتزايد العجب منه ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل فاستصغر عن ذلك فقال الكندي ولوه لأنه قصير العمر لأن ذهنه ينحت من قلبه فكان كما قال وقد تكون ظهرت له دلائل من شخصه في ذلك الوقت على قرب أجله انتهى .
وسمع الكندي إنسانا ينشد :وفي أربعٍ منيّ حلت منك أربعُ . . . فما أنا أدري أيُّها هاج لي كربي
خيالك في عيني أم الذكر في فمي . . . أم النطق في سمعي أم الحبُّ في قلبي
فقال لقد قسمتها تقسيما فلسفيا . انتهى .
أوتار العود
ونقل الشيخ جمال الدين ابن نباتة في كتابه المسمى بسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون أن واضع العود بعض حكماء الفرس ولما فرغ منه سماه البربط وتفسيره باب النجاة ومعناه أنه مأخوذ من صرير باب الجنة وجعلت أوتاره أربعة بإزاء الطبائع الأربع فالزير بإزاء السوداء والبم بإزاء الصفراء والمثنى بإزاء الدم والمثلث بإزاء البلغم فإذا اعتدلت أوتاره المرتبة على ما يجب جانست الطبائع وأنتجت الطرب وهو رجوع النفس إلى الحالة الطبيعية دفعة واحدة وبدىء هذا العلم ببطليموس وختم باسحق ابن إبراهيم الموصلي .فائدة غريبة
روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا القرآن ينزل بحزن فإذا قرأتموه فأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به من لم يتغن بالقرآن فليس منا رواه ابن ماجه .
نادرة لطيفة
قال عبد الملك بن أبي زيد مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فإذا رجل رث الهيئة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس منا من لم يتغن بالقرآن قال فقلت لابن أبي مليكة يا أبا محمد أرأيت إن لم يكن حسن الصوت قال يحسنه ما استطاع رواه أبو داود .
خفي حنين تتضمن المثل السائر في قولهم عن الخائب رجع بخفي حنينالمنقول عن حنين أنه كان إسكافا من أهل الحيرة ساومه أعرابي بخفين ولم يشتر منه شيئا وغاظه ذلك فخرج إلى الطريق التي لا بد للأعرابي من المرور منها فعلق الفردة الواحدة منهما في شجرة على طريقه وتقدم قليلا فطرح الفردة الثانية واختفى فجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فوق الشجرة فقال ما أشبهه بخف حنين لو كان معه آخر لتكلفت أخذه وتقدم فرأى الخف الآخر مطروحا فنزل وعقل بعيره وأخذه ورجع ليأخذ الأول فخرج حنين من الكمين فأخذ بعيره وذهب ورجع الأعرابي إلى ناحية بعيره فلم يجده فرجع بخفي حنين فصارت مثلا .
التقسيم
قيل إن بعض وفود العرب قدموا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان فيهم شاب فقام وتقدم وقال يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم وسنة أذابت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لنا فعلام تمنعونها عنا وإن كانت لله ففرقوها على عباد الله وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا إن الله يجزي المتصدقين فقال عمر بن عبد العزيز ما ترك الإعرابي لنا عذرا في واحدة .ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال رحم الله من تصدق من فضل أو واسى من كفاف أو آثر من قوت فقال الحسن البصري ما ترك الأعرابي أحدا منكم حتى عمه بالسؤال قلت هذا النوع سماه البديعيون بالتقسيم .
نادرة أدبية بديعة حكى ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر بعدما أورد لغزا في الخلخال :
ومضروبٍ بلا جُرْمٍ . . . مليح اللون معشوق
له شكل الهلال على . . . رشيق القدِّ ممشوق
وأكثر ما يُرى أبداً . . . على الأمشاط في السّوق
قال بلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات فقال : دخلت السوق فلم أرى على الأمشاط شيئا .
ملوك حماة
ومن المنقول المشهور أن الأدب وأهله كان عند أصحاب حماه في الذروة العالية ولكن قصة زكي الدين بن عبد الرحمن العوفي مع الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك تقي الدين عمر بن شهنشاه كانت على غير المعهود منه ومن سلفه الطاهر وما ذاك إلا أن زكي الدين المذكور أنشد الملك المظفر محموداً قبل أن يتملك حماه :متى أراك ومن تهوى وأنت كما . . . تهوى على رغمهم روحين في بدن
هناك أنشد والأمال حاضرة . . . هنئت بالملك والأحباب والوطن
فوعده إن تملك حماه أن يعطيه ألف دينار فلما ملكها أنشد :
مولاي هذا الملك قد نلته . . . برغم مخلوقٍ من الخالق
والدهر منقادٌ لما شئته . . . فذا أوان الموعد الصادق
فدفع له ألف دينار وأقام معه مدة ولزمته أسفار أنفق فيها المال الذي أعطاه ولم يحصل بيده زيادة عليه فقال : إن الذي أعطوه لي جملةً . . . قد استردوه قليلاً قليل
فليت لم يعطوا ولم يأخذوا . . . وحسبنا الله ونعم الوكيل
فبلغ ذلك الملك المظفر فأخرجه من دار كان قد أنزله بها فقال :
أتخرجني من كسر بيتٍ مهدّمٍ . . . ولي فيك من حسن الثناء بيوت
فإن عشت لم أعدم مكاناً يضمني . . . وأنت فتدري ذكر من سيموت
فحبسه المظفر فقال ما ذنبي إليك فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وأمر بخنقه فلما أحسن بذلك قال :
أعطيتني الألف تعظيماً وتكرمةً . . . يا ليت شعري أم أعطيتني ديني
قلت كان والد الملك المظفر أليق بهذا المقام الذي لم يقصد به زكي الدين العوفي غير ترويج الأدب في اختلاف المعاني والمداعبة به والتوصل بذلك إلى بسط الملك المظفر ولكن حال الزكي كقول الشاعر :وكنت كالمتمني أن يرى فلقاً . . . من الصباح فلما أن رآه عمي
قلت وكان والد السلطان الملك المظفر المنصور من كبار أهل الأدب وكان أحب الناس لأهله وله كتاب طبقات الشعراء عشر مجلدات وسمع الحديث من الحافظ السلفي بالإسكندرية وكان مغرما بحب الأدباء والعلماء وجمع تاريخا على السنين في عشر مجلدات ومن مصنفاته كتابه المسمى بمظاهر الحقائق وسر الخلائق وهو كبير نفيس يدل على فضله وجمع عنده من الكتب ما لا مزيد عليه وكان في خدمته ما يناهز مائتي متعمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمشتغلين بالحكمة والمنجمين والكتاب وأقامت دولته ثلاثين سنة وتوفي سنة عشر وستمائة ومن شعره :
أربي راحٌ وريحا . . . نٌ ومحبوبٌ وشادي
والذي ساق لي المل . . . ك له دفع الأعادي
قلت وقد تقدم القول وقد تقرر أن جميع ملوك حماة المحروسة من بني أيوب وكان لهم المام بالأدب وأهله وقد تعين أن نذكر هنا ترجمة ومؤيدهم فإنه كان بدر كمالهم ومسك ختامهم وهو الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن الملك الأفضل ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور بن الملك المظفر صاحب حماة المحروسة كان أميراً بدمشق المحروسة فخدم الملك الناصر لما كان بالكرك وبالغ في خدمته فوعده بحماة ووفى له بذلك وجعله بها سلطانا يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره ليس لأحد من الدولة المصرية معه حديث وأركبه فيالقاهرة بشعار المملكة وأبهة السلطنة ومشى الأمراء في خدمته حتى الأمير سيف الدين ابن أرغون النائب وقام له القاضي كريم الدين بكل ما يحتاج إليه في ذلك المهم من التشاريف والانعامات على وجوه الدولة ولقبوه بالملك الصالح ثم بعد ذلك بقليل لقب بالمؤيد وتقدم أمر السلطان الملك الناصر إلى نوابه أن يكتبوا إليه يقبل الأرض والمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي وفي العنوان صاحب حماه وكان الملك الناصر يكتب إليه أخوه محمد بن قلاوون أعز الله المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي المولوي . وكان الملك المؤيد من علماء الفقه والأدب والطب والحكمة والهيئة ونظم الحاوي وله تاريخ بديع وكتاب الكنائس وكتاب تقويم البلدان هذبه وجدوله وأجاد فيه ما شاء وله كتاب الموازين . وكان قد رتب للشيخ جمال الدين بن نباتة في كل شهر ألف درهم غير ما يتحفه وهو مقيم بدمشق وتوجه الملك المؤيد في بعض السنين إلى الديار المصرية ومعه ابنه الملك الأفضل محمد ولده فجهز إليه السلطان الحكيم جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء فكان يجيء إليه بكرة وعشيا فيراه ويبحث معه في مرضه ويقدر له الأدوية ويطبخ له الشراب بيده في دست فضة فقال له ابن المغربي يا مولانا السلطان أنت والله ما تحتاج إلى المملوك وما أجيء به إلا امتثالا للأوامر الشريفة ولما عوفي أعطاه بغلة بسرج ذهب ولجام وكنبوش مزركش وعشرة آلاف درهم والدست الفضةوقال يا رئيس أعذرني فإني لما خرجت من حماة ما حسبت مرض هذا الولد ومدحه شعراء زمانه وأجازهم وبنى بظاهر حماة المحروسة جامعاً حسناً وسماه جامع الدهيشة وأوقف عليه كتباً قيل إنها ما أجتمعت لغيره من سائر الفنون فإنه اجتهد في جمعها من سائر البلاد شرقا وغربا وتوفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ومن شعره :
كم من دمٍ حلت وما ندمت . . . تفعل ما تشتهي فلا عدمت سمت فلو تبلغ الشموس إلى . . . لثم مواطىء أقدامها لثمت
أبو دلف العجلي
والمنقول عن القاسم المكنى بأبي دلف أنه جمع بين طرفي الكرم والشجاعة ولي دمشق في خلافة المعتصم فأما شجاعته فإنه لحق قوما من الأكراد قطعوا الطريق فطعن فارساً طعنة فنفذت الطعنة إلى فارس آخر رديفه فقتلهما فقال بكر بن النطاح :
قالوا وينظم فارسين بطعنةٍ . . . يوم الهياج ولا تراه كليلا
لا تعجبوا فلو أن طول قناته . . . ميلٌ إذاً نظم الفوارس ميلا
وفيه يقول ابن أبي فنن :تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها . . . فكيف أمشي إليها بارز الكتفِ
ظننت أن نزال القرن من خلقي . . . وأن قلبي من جنبيّ أبي دلف
وأما شهرته في الكرم فهو الذي قال فيه أبو تمام :
يا طالباً للكيمياء وعلمها . . . مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم
لو لم يكن في الأرض إلاّ درهمٌ . . . ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ودخل عليه بعض الشعراء فأنشد :
أبو دلفٍ إن المكارم لم تزل . . . مغلغلةً تشكو إلى الله حلها
فبشرها منه بميلاد قاسمٍ . . . فأرسل جبريلاً إليها فحلها
فأمر له بمال فقال الخازن لم يكن هذا القدر ببيت المال فأمر له بضعفه فقال هذا غير ممكن فأمر له بضعفه فلما حمل إليه المال قال أبو دلف :
أتعجب إن رأيت عليَّ ديناً . . . وإن ذهب الطريف مع التلاد
وما وجبت عليّ زكاة مالٍ . . . وهل تجب الزكاة على جواد .
وقال آخر :
إن سار سار المجد أو حلّ وَقَفْ . . . أنظر بعينيك إلى أسنى الشرف
هل ناله بقدرةٍ أو بكلف . . . خلقٌ من الناس سوى أبي دلف
فأعطاه خمسين ألف درهم وفيه يقول العكوك بن علي بن أبي جبلة :
إنما الدنيا أبو دلفٍ . . . بين باديه ومحتضرهفإذا ولى أبو دلفٍ . . . ولّت الدنيا على أثره
كلُّ من في الأرض من عربٍ . . . بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمةً . . . يكتسبها يوم مفتخره
فأعطاه أبو دلف مائة ألف درهم . ولما بلغت المأمون غضب غضباً شديداً على العكوك فطلب فهرب فاجتهدوا إلى أن جاءوا به مقيداً فلما صار بين يديه قال له يا ابن اللخناء أنت القائل في مدحك لأبي دلف كل من في الأرض من عرب البيتين جعلتنا ممن يستعير المكارم منه ويفتخر بها فقال يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاسم بكم لأن الله تعالى اختصكم لنفسه على عباده وآتاكم الكتاب والحكم وإنما ذهبت في شعري لأقران وإشكال أبي دلف فقال والله ما أبقيت من أحد ولقد أدخلتنا في الكل ، وما أستحل دمك بهذا ، ولكن بكفرك حيث قلت في عبد ذليل مهين :
أنت الذي تنزل الآياتِ منزلها . . . وتنقل الدهر من حالٍ إلى حال
وما نظرت مدى طرفٍ إلى أحدٍ . . . إلا قضيت بأرزاقٍ وآجال ذاك هو الله يا كافر أخرجوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات . ومن مصنفاته كتاب البزاة والصيد وكتاب السلاح وكتاب النزه وكتاب سياسة الملوك وكانت له اليد الطولى في الغناء وهو مترجم بذلك في كتاب الأغانيالنضر بن شميل
وذكر أبو عبيدة في كتاب مثالب أهل البصرة أن النضر بن شميل النحوي البصري كان عالما بفنون من العلم صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام العرب ورواية الحديث وهو من أصحاب الخليل بن أحمد فاتفق أن ضاقت به المعيشة ورق حاله فخرج يريد خراسان فشيعه من أهل البصرة ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو عروضي أو لغوي أو إخباري أو فقيه فلما بعدوا عن المدينة جلس فقال يا أهل البصرة يعز عليّ فراقكم والله لو وجدت كل يوم أكلة باقلاء ما فارقتكم قال فلم يكن أحد فيهم يتكلف له ذلك القدر اليسير وسار حتى وصل إلى خراسان فاستفاد بها مالا عظيما فمن ذلك أنه أخذ على حرف ثمانين ألف درهم وهذه القصة نقلها الحريري صاحب المقامات في كتابه المسمى بدرة الغواص في أوهام الخواص قال حكي عن محمد بن ناصح الأهوازي قال حدثني النضر بن شميل المازني قال كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلة وعليَّ قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت يا أمير المؤمنين أنا رجل كبير وضعيف وحرُّ مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان قال لا ولكنك تتقشف ثم أجرينا الحديث فأجرى ذكر النساء فقالحدثني هشام عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لجمالها ودينها كانت سداداً من عوز بفتح السين من سداد فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشام حدثنا عوف عن ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كانت سدادا من عوز بكسر السين قال وكان أمير المؤمنين متكئاً فاستوى جالساً وقال يا نضر كيف قلت سداداً قلت نعم يا أمير المؤمنيت لأن سدادا بالفتح هنا لحن قال أو تلحنني قلت إنما لحن هشام وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه قال فما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسداد بالكسر البالغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد قال أو تعرف العرب ذلك قلت نعم هذا العرجي يقول :
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا . . . ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون قبح الله من لا أدب له وأطرق مليا ثم قال ما مالك يا نضر قلت أريضة لي بمرو قال أفلا نفيدك معها مالا قلت إني إلى ذلك لمحتاج قال فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال كيف تقول إذا أمرت أن يترب قلت أتربه قال فهو ماذا قلت مترب قال فمن الطين قالطنه قال فهو ماذا قلت مطين قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه ثم صلى بنا العشاء ثم قال لغلامه تبلغ النضر إلى الفضل بن سهل قال فلما قرأ الفضل الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه شيئا فقال ألحنت أمير المؤمنين قلت كلا إنما لحن هشام وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحد انتهى .
وحكي أن النضر ابن شميل مرض فدخل عليه قوم يعودونه فقال له رجل منهم يكنى أبا صالح مسح الله ما بك فقال لا تقل مسح بالسين ولكن قل مصح الله بالصاد أي أذهبه وفرقه أما سمعت قول الأعشى :
وإذا ما الخمر فيها أزبدت . . . أفل الإزباد فيها ومصح
فقال له الرجل أن السين قد تبدل بالصاد كما يقال الصراط والسراط وصقر وسقر فقال له النضر فأنت إذا أبو سالح .
قلت ويشبه هذه النادرة ما حكي أن بعض الأدباء جوز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات أن تقام السين مقام الصاد في كل موضع فقال الوزيرأتقول جنات عدن بدخلونها ومن صلح من آبائهم أم سلح فخجل الرجل وانقطع والذي ذكره أرباب اللغة في جواز إبدال الصاد من السين أنه في كل كلمة كان فيها سين وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة وهي الطاء والخاء والغين والقاف فتقول الصراط والسراط وفي سخَّر لكم صخر لكم وفي مسغبة مصغبة وفي سيقل صيقل وقس على هذا .
خير المدائح
ونقل قاضي القضاء شمس الدين ابن خلكان في تاريخه أن أبا جعفر أحمد بن عيسى البلادري المؤرخ قال كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال لست أقبل إلا من يقول مثل قول البحتري في المتوكل :
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما . . . في وسعه لسعى إليك المنبر
قال البلاذري فرجعت إلى داري وأتيته وقلت قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري قال هاته فأنشدته :
ولو أن بُرد المصطفى إذ لبسته . . . يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته ولبسته . . . نعم هذه أعطافه ومناكبهفقال أرجع إلى منزلك وأفعل ما آمرك به فرجعت فبعث إلي سبعة آلاف دينار وقال ادخر هذه للحوادث من بعدي ولك الجراية والكفاية ما دمت حياً .
ويعجبني من المدائح الرافلة في حلل الحشمة قول عبد الله الأسطرلابي :
أهدي لمجلسه الكريم وإنما . . . أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما لَهُ . . . فضلٌ عليه لأنه من مائه
ومثله قول القاضي الفاضل وقد كتبت به إلى وزير بغداد :
يا أيها المولى الوزير ومن له . . . مننٌ حللن من الزمان وثاقي
من شاكرٌ عني نداك فإنني . . . من عظمِ ما أوليت صاق نطاقي
مننٌ تخفُّ على يديك وإنما . . . ثقلت مؤنتها على الأعناق
ذكاء إياس وفطنة القاسم
. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فولِّ القضاء أفقههما فجمع بينهما فقال له إياس أيها الرجل سل عني وعنه فقيهي المصر الحسن وابن سيرين وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما ففهم القاسم إن سألهما عنه أشارا به فقال له لاتسل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم مني بالقضاء فإن كنت كاذبا فلما عليك أن تولني وأنا كاذب وإن كنت صادقا فينبغي أن تقبل قولي فقال له إياس إنك جئت برجل وقفت به على شفير جهنم فنجنى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله تعالى منها وينجو مما يخاف فقال له عدي أما إذ فهمتها فأنت لها أهل فاستقضاه .
نادرة لطيفة نقل ابن عبد ربه في العقد أن أبا سفيان زار معاوية في الشام فلما رجع من عنده دخل على الإمام عمر رضي الله عنه فقال له الإمام أجدنا قال ما أصبنا شيئا فنجديك فأخذ الإمام عمر خاتمه فبعث به إلى هند وقال للرسول قال لها يقول لك أبو سفيان أنظري الخرجين اللذين جئت بهما من عند معاوية فأحضريهما فلم يلبث عمر أن أتى بالخرجين فيهما عشرة آلاف درهم فألقاها عمر في بيت المال فلما وليَ عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد ردها إليه قال ما كنت لآخذ مالاً عابه مر علي والله إن لنا إليه حاجة ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك . استنجاز المواعيد قلت وما ظنك بشيء قد جعله الله في كتابه العزيز مدحة وفخرا لأنبيائه فقال وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون لكفى قال عمر بن الحرث كانوا يقولون ويفعلون فصاروا يقولون ولا يفعلون ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون فهم ضنوا بالكذب فضلا عن الصدق . ويعجبني قول العباس بن الأحنف :
ما ضرَّ من شغل الفؤاد ببخله . . . لو كان عللني بوعدٍ كاذب
صبراً عليك فما أرى لي حيلةً . . . إلاّ التمسُّك بالرجاء الخائب
سأموت من مطلٍ وتبقى حاجتي . . . فيما لديك وما لها من طالب
وذكر حيان بن سليمان عامر ابن الطفيل فقال والله كان إذا وعد الخير وفى . وإذا وعد الشر أخلف وهو القائل :ولا يرهبُ ابنُ العمِّ ماعشت صولتي . . . ويأمنُ منيّ صولة المتهدِّد
وإني وإن أوعدته أو وعدته . . . لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال ابن حازم :
إذا قلت عن شيء نعم فأتمَّهُ . . . فإنَّ نعم دينٌ على الحرِّ واجبُ
وإلا فقل لا ، تسترح وترح بها . . . لئلا يظنُّ الناس أنك كاذب
ويعجبني قول عبد الصمد الرقاشي في خالد بن ديسم عامل الري وقد أبطأ عليه بوعد :
أخالد إن الريَّ قد أجحفت بنا . . . وضاق علينا رسمُها ومعاشها
وقد أطعمتنا منك يوماً سحابةٌ . . . أضاءت لنا برقاً وأبطا رشاشها
فلا غيمها يصحو فيرجع طامعاً . . . ولا ودقها يهمي فتروي عطاشها
قلت ومن البلاغة المرقصة في هذا الباب خطاب كوثر بن زفر وقد وعده يزيد بن المهلب وأبطأ بوعده وهو . . . أصلح الله الأمير أنت أعظم من أن يستعان بك أو يستعان عليك ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت تكبر عنه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل . قيل أن يزيد بن المهلب لما سمع هذا الخطاب البليغ مال سكرا وطربا وقال له سل حاجتك قال حملت من عشير عشر ديات قال قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها .
ويعجبني قول بعضهم أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن وعدها سالما من حوايج المطل والسلام .حكمة
قال الحكماء : لطيف الاستمتاح قال الحكماء لطيف الاستمناح سبب النجاح والنفس ربما انطلقت وانشرحت للطيف السؤال وامتنعت وانقبضت بجفاء السائل ولله در القائل :
إن الكريم أخو المودة والنُّهى . . . من ليس في حاجاته بمثقِّل
دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال له أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة فقال بالخلافة والعامة فقال يا أمير المؤمنين يداك بالعطية أطلق من لساني ، فأجزل عطيته .
بلاغة امرأة
وقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت أشكو إليك قلة الجرذان فقال ما أحسن هذه الكناية املأوا لها بيتها لحما وخبزا وسمنا .طمع أزهر
كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل متكتماً وكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث فلما أفضت إليه الخلافة قدم أزهر عليه فرحب به وقربه وقال ما حاجتك يا أزهر فقال يا أمير المؤمنين داري متهدمة وعلي أربعة آلاف درهم وأريد أزوج ابني محمدا فوصله بأثني عشر ألف درهم وقال قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا بعد هذا طالبا فأخذها وارتحل فلما كان بعد سنة أتاه فقال له أبو جعفر : ما حاجتك يا أزهر ؟ قال : جئت مسلما فقال : لا والله بل جئت طالبا وقد أمرنا لك بأثني عشر ألفا فلا تأتنا طالبا ولا مسلما فأخذها ومضى فلما كان بعد سنة أتاه فقال ما حاجتك يا أزهر قال : أتيت عائدا فقال : لا والله بل جئت طالبا وقد أمرنا لك بأثني عشر ألفا فأذهب ولا تأتنا بعد طالبا ولا مسلما ولا عائدا فأخذها وانصرف فلما مضت السنة أقبل فقال له : ما حاجتك يا أزهر قال : يا أمير المؤمنين دعاء كنت أسمعك تدعو به جئت لأكتبه فضحك أبو جعفر وقالالدعاء الذي تطلبه غير مستجاب فإني دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك بأثني عشر ألف وتعال إذا شئت فقد أعيتنا الحيلة فيك .
مدح بليغ
ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده :
سألت الندى هل أنت حرٌّ فقال لا . . . ولكنني عبدٌ ليحيى بنِ خالد فقلت شراءً قال لا بل وراثةً . . . توارثني من والدٍ بعد والد
فأمر له بعشرة آلاف درهم .أهل الجود والكرم في الإسلام والجاهلية
أجواد الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود كما أسلفنا - ثلاثة نفر حاتم بن عدي الطائي وهرم بن سنان المازني وكعب بن مامة الإيادي ولكن المضروب به المثل حاتم وحده وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أوقد نارا في بقاع الأرض لينظر إليها المار ليلا فيبادر إليها وهو القائل لغلامه يسار :
أوقد فإن الليل ليلٌ قرّ . . . والريح يا موقد ريحٌ صرُّ
حتى يرى نارك من يمرّ . . . إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ
وأما هرم ابن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه :
تراه إذا ما جئته متهلّلاً . . . كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأما كعب بن مامة الإيادي فلم يأت له إلا ما ذكر عنه من إيثاره رفيقه السعدي بالماء حتى مات عطشا ونجا السعدي وناهيك بهذا الكرم الذي ما سبق إليه .
وأما أجواد الإسلام فأحد عشر رجلا في عصر واحد بعضهم قريب من بعض ولم يكن في زمنهم ولا بعدهم مثلهموأما أجواد الحجاز فثلاثة في عصر واحد وهم عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد ابن العاص .
وأجواد أهل البصرة خمسة في عصر واحد وهم عبد الله ابن عامر وعبد الله بن أبي بكر مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسالم بن زياد وعبد الله بن معمر القرشي التيمي وطلحة الطلحات وهو طلحة ابن خالد الخزاعي .
وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد وهم عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة وعكرمة الفياض . فمن جود عبيد الله أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطريق ومن جوده أن أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه وقال يا ابن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه فقال له ما يدك عندنا قال له رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يملأ من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت فقال أجل إني لأذكر لك ذلك ثم قال لغلامه ما عندك قال مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا فقال له الرجل والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك كفاية فكيف وقد ولد سيد المرسلين ثم شفع بك وبأبيك .
ومن جوده أيضا أن معاوية حبس عن الحسين بن علي رضي الله عنه صلاته حتى ضاقت عليه الحال فقيل له لو وجهت إلى عمك عبيد الله بن العباس لكفاك وقد قدم بألف ألف قال الحسين فما مقدارها عنده والله إنه لأجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر ثم وجه إليه رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف فلماقرأ عبيد الله كتابه وكان أرق الناس قلبا وألينهم عطفا انهملت عيناه ثم قال ويلك يا معاوية تكون لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضعف الحال وكثرة العيال ثم قال لقهرمانه أحمل إلى الحسين نصف ما نملكه من ذهب وفضة ودابة وأخبره أني شاطرته فإن أقنعه ذلك وإلا فأرجع وأحمل إليه النصف الآخر قال فلما وصل الرسول إلى الحسين قال أنا لله ثقلت والله على عمي وما ظننت أنه يتسع بهذا كله فأخذ الشطر من ماله وهو أول من فعل هذا في الإسلام .
ومن جوده أيضا أن معاوية أهدى إليه وهو عنده في شهر من هدايا النوروز حللاً كثيرة ومسكنا وآنية من ذهب وفضة ووجهها إليه مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو يطيل النظر فيها فقال : هل في نفسك منها شيء قال نعم والله أن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف فضحك عبيد الله فقال فشأنك بها فهي لك قال جعلت فداءك أنا أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيغضب لذلك قال فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن وهو يحملها إليك ليلا فقال الحاجب والله إن هذه الحيلة في الكرماء أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية فظن عبيد الله أنها مكيدة منه فقال دع هذا الكلام إنا من قوم نفي بما عقدنا ولا ننقض ما أكدنا وقال له رجل من الأنصار جعلت فداءك والله لو سبقت حاتما بيوم ما ذكرته العرب وأنا أشهد أن عفو جودك أكثر من وابله .ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الله بن أبي عمارة دخل على نخاس يعرض قيانا للبيع فشغفه حب واحدة منهن ولم يكن له جدة يتوصل بها إلى المشتري فشبب بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يعذلونه في ذلك فكان جوابه أن قال :
يلومني فيك أقوامٌ أجالسهم . . . فما أبالي أطار اللوم أم وقفا فانتهى خبره إلى عبد الله ابن جعفر فلم يكن له هم غيره فحج وبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه فقال ما لا أرى ابن عمارة زائرا فأخبر بذلك فأتى مسلما فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال ما فعل بك حب فلانة قال حبها في اللحم والدم والمخ والعصب قال اتعرفها إن رأيتها قال لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمرها عبد الله أن تخرج إليه وقال له إنما اشتريتها لك ووالله ما دنوت منها فشأنك بها بارك الله لك فيها فلما وليَّ قال يا غلام احمل إليه مائة ألف درهم قال فبكى عبد الله وقال يا أهل البيت لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحدا من صلب آدم فهناكم الله بهذه النعمة وبارك لكم فيها .
ولقد تقرر أن أجواد الإسلام أحد عشر جواداً ذكرت من جود بعضهم ما تيسر وقال صاحب العقد أنه جاء بعدهم طبقة أخرى وهي الطبقة الثانية .
فمنهم الحكم ابن أحطب قيل : سأله أعرابي فأعطاه خمسمائة دينار فبكىالأعرابي فقال له لعلك استقللت ما أعطيناك فقال لا والله ، ولكني أبكي لما تأكل الأرض منك ثم أنشد :
فكأن آدم حين حان وفاته . . . أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم . . . وكفيت آدم عيلة الأبناء
وحكي عن العتبي أنه قال : حدثني رجل قال : قدم علينا الحكم ابن أحطب وهو مملق فأغنانا فقلت وكيف أغناكم وهو مملق فقال علمنا المكارم فجاد غنينا على فقيرنا .
معن بن زائدة
ومنهم معن بن زائدة يقال فيه حدث عن البحر ولا حرج وحدث عن معن ولا حرج وأتاه رجل يستحمله فقال يا غلام أعطه فرسا وبرذونا وبغلا وعيراً وبعيراً وجارية ولو عرفت مركوبا غير هذا لأعطيتك .
يزيد بن المهلب
ومنهم يزيد بن المهلب قيل كان هشام بن حسان إذا ذكره قال : كانت السفن تجري في بحر جوده .
حكى الأصمعي أنه قدم على يزيد قوم من قضاعة فقال رجل منهم :
والله ما ندري إذا ما فاتنا . . . طلبٌ إليك من الذي نتطلبُ
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد . . . أحدٌ سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتك التي عودتنا . . . أو ، لا فأرشدنا إلى من نذهب
فأمرنا له بألف دينار .ومنهم يزيد بن حاتم
قيل إن ربيعة الرأي قدم مصر فأتى يزيد السلمي فلم يعطه شيئاً ثم عطف على يزيد بن حاتم فشغل عنه لأمر ضروري فخرج وهو يقول :
اراني ولا كُفران لله راجعاً . . . بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فلما فرغ يزيد من ضرورته سأل عنه فأخبر عنه أنه خرج وهو يقول كذا وأنشد البيت فأرسل من يجد في طلبه فأتى به فقال كيف قلت فأنشد البيت فقال : شغلناك عنك وعجلت علينا ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئا مالا وقال ارجع بهما بدلا من خفي حنين .
ومنهم
أبو دلف
وأسمه القاسم وفيه يقول ابن أبي جبلة :
إنما الدنيا أبو دلفٍ . . . بين باديهِ ومحتضره
فإذا وليّ أبو دلفٍ . . . ولَّت الدنيا على أثره
وقال :
إن سار سار المجد أو حلّ وقف . . . أنظر بعينيك إلى أعلى الشرف
هل ناله بقدرةٍ أو بكلف . . . خلقٌ من الناس سوى أبي دلف
فأعطاه خمسين ألف درهم .
ومنهم
خالد بن عبد الله القسري
قيل إنه كان جالسا في مظلة إذ نظر إلى اعرابي يخبُّ على بعيره مقبلا نحوه فقال لحاجبه إذا قدم لا تحجبه فلما قدم أدخله فسلم فقال :
أصلحك الله قلّ ما بيدي . . . فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهرٌ رمى بكلكله . . . فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال خالد إذا أرسلوك إلي وانتظروا والله لتعودن إليهم بما يسرهم فأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة .
ومنهم
عدي بن حاتم
حكى صاحب العقد قال : دخل أبو دارة على عدي بن حاتم فقال إني مدحتك قال أمسك حتى آتيك بمال فإني أكرهألا أعطيك ثمن ما تقول هذه ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبد وثلاثة أماء وفرسي هذا حبس في سبيل الله فامدحني على حسب ما أجزتك . . .
تذكر بعد نسيان
ومن غريب المنقول ما نقل عن المنصور وهو أنه وعد الهذلي بجائزة ونسي فحجا معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة فقال الهذلي يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص :
يا دار عاتكة التي أتغزل
فأنكر عليه أمير المؤمنين المنصور ذلك لأنه تكلم من غير أن يسئل فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى آخرها ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها :
واراك تفعل ما تقول وبعضهم . . . مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فعلم المنصور أنه أشار إلى هذا البيت فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان .ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب لأبي الطيب المتنبي فحضر يوما مجلس المرتضى فجرى ذكر أبي الطيب فهضم من جانبه المرتضى فقال أبو العلاء لو لم يكن لأبي الطيب من الشعر إلا قوله : لك يا منازلُ في القلوب منازل لكفاه . فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج وبعد اخراجه قال المرتضى هل تعلمون ما أراد بذكر البيت قالوا لا قال عنى به قول أبي الطيب في القصيدة :
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ . . . فهي الشهادة لي بأني كامل
ومثله قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا فان السري الرفاء كان من مداح سيف الدولة وجرى في مجلسه يوما ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه فقال له السري أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها ويتحقق الأمير بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدته التي مطلعها :
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي . . . وللحب ما لم يبق مني وما بقي
قال السري فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رايته يقول في آخرها عن ممدوحه :
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ . . . أراه غباري ثم قال له الحقفقلت والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت . ومثله ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأذكياء وهو من الغرائب في هذا الباب أن رجلا من طلبة العلم قعد على جسر بغداد يتنزه فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة رحم الله أبا العلاء المعري وما وقفا بل سار مشرقا ومغربا قال الرجل فتبعت المرأة وقلت والله إن لم تقولي لي ما أراد بابن الجهم فضحكت ، قالت : أراد به قوله :
عيون المها بين الرصافة والجسر . . . جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وعنيت أنا بأبي العلاء قوله :
فيا دارها بالخيف إن مزارها . . . قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالنوادر الأذكياء
قلت وبالنسبة إلى هذا الذكاء المفرط الصادر من هؤلاء القوم يتعين أن نورد هنا نبذة من كتاب الأذكياء لابن الجوزي . فمن ذلك ما روي عن منصور بن العباس وهو أنه جلس يوما في إحدى قباب المدينة فرأى رجلا ملهوفا يجول في الطرقات فأرسل إليه من أتاه به فسأله عن حاله فأخبره أنه خرج في تجارة فأفاد فيها مالا كثيراً وأنه رجع بها إلى زوجته ودفع المال إليها فذكرت المرأة أن المال سرق من المنزل ولم ير نقبا ولا مسلقا فقال له المنصور منذ كم تزوجتها قال منذ سنة قال تزوجتها بكرا أم ثيبا قال ثيبا قال شابة أم مسة قال شابة فدعا له المنصور بقارورة طيب وقال تطيب بهذا فإنه يذهب همك فأخذها وانقلب إلى أهله فقال المنصور لجماعة من نقبائه اقعدوا على أبواب المدينة فمن مر بكم وشممتم فيه روائح الطيب فأتوني به ومضى الرجل بالطيب إلى بيته فدفعه إلى المرأة وقال هذا من طيب أمير المؤمنين فلما شمته أعجبها إلى الغاية فبعثت به إلى رجل كانت تحبه وهو الذي دفعت المال إليه فقالت له تطيب بهذا الطيب فتطيب به ومر مجتازا ببعض الأبواب ففاحت منه روائح الطيب فأخذ وأتى به إلى المنصور فقال له من أين استفدت هذا الطيب فتلجلج في كلامه فسلمه إلى صاحب شرطته وقال له : إن أحضر كذا وكذا من الدنانير فخذ منه وإلا فاضربه ألف سوط فما هو إلا أن جرد وهدد حتى أذعن بردالدنانير وأحضرها كهيئتها ثم أعلم المنصور بذلك فدعا صاحب الدنانير وقال له أرأيتك أن رددت إليك الدنانير أتحكمني في امرأتك قال نعم يا أمير المؤمنين قال ها هي دنانيرك وقد طلقت امرأتك وقص عليه الخبر .
المهدي والقاضي شريك
ومن ذلك ما روي عن المهدي وهو أن شريك بن عبد الله القاضي دخل عليه يوما فأراد المهدي أن يبخره فقال للخادم أحضر للقاضي عودا فذهب الخادم فجاء بالعود الذي يلهى به فوضعه في حجر شريك فاضطرب شريك من ذلك وقال ما هذا يا أمير المؤمنين قال عود أخذه صاحب العسس البارحة فأحببنا أن يكون كسره على يد القاضي فقال شريك جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين ثم أفاضوا في الحديث حتى نسي الأمر فقال المهدي لشريك ما تقول في رجل أمر وكيلا له أن يأتي بشيء بعينه فجاء بغيره فتلف ذلك الشيء فقال للخادم اضمن ما أتلفت .
التاجر الذي أنكر العقد
ومن ذلك أنه حكي أنه قدم رجل إلى بغداد ومعه عقد يساوي ألف دينار فأراد بيعه فلم يتفق فجاء إلى عطار موصوف بالخير والديانة فأودع العقد عنده وحج وأتى بهدية للعطار وسلم عليه فقال من أنت ومن يعرفك فقال أنا صاحب العقد فلما كلمه رفسه وألقاه عن دكانه فاجتمع الناس وقالوا ويلك هذا رجل صالح فما وجدت من تكذب عليه إلا هذا فتحير الحاج وتردد إليه فما زاده إلا شتما وضربا فقيل له لو ذهبت إلى عضد الدولة لحصل لك من فراسته خير فكتب قصته وجعلها على قصبة ورفعها إليهفقال ما شأنك فقص عليه القصة فقال اذهب غدا واجلس في دكان العطار ثلاثة أيام حتى أمر عليك في اليوم الرابع فأوقف وأسلم عليك فلا ترد علي إلا السلام فإذا انصرفت أعد عليه ذكر العقد ثم أعلمني بما يقول لك ففعل الحاج ذلك فلما كان في اليوم الرابع جاء عضد الدولة في موكبه العظيم فلما رأى الحاج وقف وقال السلام عليكم فقال الحاج وعليكم السلام ولم يتحرك فقال يا أخي تقدم من العراق ولا تأتينا ولا تعرض علينا حوائجك فقال له : اتفق هذا ولم يزده على ذلك شيئا هذا والعسكر واقف بكماله فانذهل العطار وأيقن بالموت فلما أنصرف عضد الدولة التفت العطار إلى الحاج وقال له : يا أخي متى أودعتني هذا العقد وفي أي شيء هو ملفوف فذكرني لعلي أتذكر فقال من صفته كذا وكذا فقام وفتش ثم فتح جرابا وأخرج منه العقد وقال : الله أعلم أنني كنت ناسيا ولو لم تذكرني ما تذكرت فأخذ الحاج العقد ومضى إلى عضد الدولة فأعلمه فعلقه في عنق العطار وصلبه على باب دكانه ونودي عليه هذا جزاء من استودع ثم جحد ثم أخذ الحاج العقد ومضى إلى بلاده .
ذكاء إياس ومثله ما نقل عن ذكاء اياس الذي سارت به الركبان قيل أن رجلا استودع أمين اياس مالا وخرج المودع إلى الحجاز فلما رجع طلبه فجحده فأتى اياسا فأخبره فقال له اياس أعلمته أنك أتيتني قال لا قال افنازعته عند غيري قال لا قال : فانصرف واكتم سرك ثم عد إلي بعد يومين فمضىالرجل ودعا إياس أمينه فقال قد حضر عندنا مال كثير أريد أن أسلمه إليك أفحصين منزلك ؟ قال نعم قال فأعد موضعا للمال وقوما يحملونه وعاد الرجل إلى أياس فقال انطلق إلى صاحبك فإن جحد فقل له إني أخبر القاضي بالقصة فأتى الرجل صاحبه فقال : تعطيني الوديعة أو أشكوك إلى القاضي وأخبره بالحال فدفع إليه المال فرجع الرجل وأخبر اياسا وقال أعطاني الوديعة وجاء الأمين إلى اياس ليأخذ المال الموعود به فزجره وقال له لا تقربني بعد هذا يا خائن .
ذكاء في القضاء
ومثله أنه ولِّي القضاء رجل مشهور الدين والذكاء المفرط فجاءه رجل استودع بعض الشهود كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف دينار فلما حصل الكيس عند الشاهد وطالت غيبة ظن أنه قد مات فهم بانفاق المال وخشي من مجيء صاحبه ففتق الكيس من اسفله وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم وأعاد الخياطة كما كانت فقدر أن الرجل حضر إلى واسط وطالب الشاهد بوديعته فأعطاه الكيس بختمه فلما حصل في منزله فض ختمه فإذا في الكيس دراهم فرجع إلى الشاهد وقال له أردد علي مالي فإني أودعتك دنانير والذي وجدت دراهم فأنكر فاستدعى عليه إلى القاضي المتقدم ذكره فلما حضرا بين يديه قال الحاكم للمستودع منذ كم أودعك الكيس قال منذ خمس عشرة سنة فقال القاضي لصاحب الكيس أحضر لي الدراهم فأحضرها فقال القاضي للشهود اعتبرواتواريخ الدراهم فقرأوا سككها فإذا منها ما له سنتان وثلاث سنين ونحو ذلك فأمره أن يدفع له الدنانير فدفعها وعزله القاضي وأطاف به البلد واسقطه .
ومثله بل أغرب منه أن رجلا استودع رجلا مالا ثم طلبه فجحده فخاصمه إلى إياس وقال المدعي أني أطالبه بمال أودعته إياه وقدره كذا وكذا فقال له إياس ومن حضرك قال كان رب العزة حاضرا قال دفعته إليه في أي مكان قال في موضع كذا قال فاي شيء تعهده من ذلك الموضع قال شجرة عظيمة قال فانطلق إلى الموضع وانظر إلى الشجرة لعل الله يظهر لك علامة يتبين بها حقك أو لعلك دفنت مالك تحت الشجرة فنسيت فتذكره إذا رأيت الشجرة فمضى الرجل مسرعا فقال إياس للرجل المدعى عليه اقعد حتى يرجع خصمك فجلس وإياس يقضي بين الناس ونظر إليه بعد ذلك ثم قال له يا هذا أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكرها قال لا فقال له والله يا عدو الله أنك لخائن فقال أقلني أقالك الله يا أمير المؤمنين فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل فقال إياس قد أقر بحقك فخذه .
ومن لطائف المنقول من كتاب الأذكياء أن
يحيى بن أكثم القاضي
ولِّي القضاء بالبصرة وسنه عشرون سنة فاستصغره أهل البصرة فقال أحدهم كمسن القاضي فعلم يحيى أ ، ه استصغره فقال أنا أكبر من عتاب بن أسيد حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل مكة يوم الفتح وأنا أكبر من معاذ بن جبل حين وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل اليمن وأنا أكبر من كعب بن سور حين ولاه عمر بن الخطاب قاضيا على أهل البصرة قال فعظم في أعين أهل البصرة وهابوه .
فتوى أبي حنيفة
ومن المنقول من كتاب الأذكياء أن بعض اللصوص دخل بيتا ومعه جماعة تحت أمره ونهيه في القتل والسرقة فظفروا بصاحب البيت وأوقفوه للقتل فتدخل عليهم في إبقاء مهجته وأخذ ما في البيت بكماله فقال كبيرهم حلفوه بالطلاق الثلاث وعلى المصحف أنه لا يعلم بهم أحدا فاصبح الرجل يرى اللصوص يبيعون متاعه ولا يقدر أن يتكلم لأجل اليمين فجاء إلى أبي حنيفة وأعلمه بحاله فقال له احضر أكابر حيك وأدين جيرانك وإمام جماعتك فلما حضروا قال لهم أبو حنيفة هل تحبون أن يرد الله على هذا الرجل متاعه قالوا نعم فقال اجمعوا داعريكم فادخلوهم الجامع ثم أخرجوهم واحدا واحدا وكلما خرج منهم واحد قولوا هذا لصك فإن كان ليس بلصه قال لا وإن كان لصه فليسكت فإذا سكت فاقبضوا عليه ففعلوا ذلك فرد الله عليه جميع ما سرق له .ومنه أن الربيع صاحب المنصور كان يعادي أبا حنيفة فحضر يوما عند أمير المؤمنين فقال الربيع يا أمير المؤمنين إن أبا حنيفة يخالف جدك ابن عباس وكان جدك يقول إذا حلف الرجل على شيء ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو بيومين كان ذلك جائزا وأبو حنيفة لا يجوز ذلك إلا متصلا باليمين فقال أبو حنيفة يا أمير المؤمنين إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك عهد قال كيف ذلك قال يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم فضحك المنصور وقال يا ربيع لا تتعرض لأبي حنيفة .
ومنه أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه قال دخلت البادية فاحتجت إلى الماء فجاءني أعرابي ومعه قربة ملآنة فآبى أن يبيعها إلا بخمسة دراهم فدفعتها له ثم أخذت القربة فقلت ما رأيك يا أعرابي في السويق فقال هات فأعطيته سويقا ملتوتا بزيت فجعل يأكل حتى أمتلأ ثم عطش فقال علّي بشربة فقلت بخمسة دراهم على قدح من ماء فاسترددت الخمسة وبقي الماء .
ومنه أنه استودع رجل بالكوفة رجلا مالا وحج ورجع فطلبه فجحده وجعل يحلف له فانطلق الرجل إلى أبي حنيفة فخلا به وأخبره بذلك فقال له الإمام لا تكلم أحدا بجحوده وكان الرجل يجالس أبا حنيفة فقال له وقد خلا لهم المكان إن هؤلاء بعثوا يستشيرونني في رجل يصلح للقضاء وقد اخترتك فأنصرف من عند الإمام فجاء صاحب الوديعة فقال له الإمام أرجع إلى صاحبك وذكره لاحتمال أن يكون ناسيا فذهب إليه وسأله فلم يحتج معهإلى علامة بل دفع إليه متاعه وتوجه بعد ذلك إلى أبي حنيفة فقال له أبو حنيفة إني نظرت في أمرك فأردت أن أرفع قدرك ولا أسميك حتى يحضر ما هو أنفس من هذا .
ومنه أنه كان بجوار أبي حنيفة شاب يغشى مجلسه فقال له يوما من الأيام يا إمام أريد التزويج إلى فلانة من أهل الكوفة وقد خطبتها من وليها فطلب مني من المهر فوق وسعي وطاقتي فقال أبو حنيفة : فاستخر الله تعالى وأعطهم ما طلبوه فلما عقدوا النكاح جاء إلى أبي حنيفة فقال إني سألتهم أن يأخذوا مني البعض ويدعوا البعض عند الدخول فأبوا فما ترى قال احتل واقترض حتى تدخل بأهلك فإن الأمر يكون أسهل عليك من تعقيدهم ففعل ذلك فلما زفت إليه دخل بها قال له أبو حنيفة ما عليك أن تظهر الخروج بأهلك عن هذا البلد إلى موضع بعيد فاكترى الرجل جملين وأحضر آلة السفر وما يحتاج إليه وأظهر أنه يريد الخروج من البلد في طلب المعاش وأن يصحب أهله معه فأشتد ذلك على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يستشيرونه فقال لهم أبو حنيفة له أن يخرجها إلى حيث شاء فقالوا لم نصبر على ذلك فقال أرضوه بأن تردوا عليه ما أخذتم منه فأجابوه إلى ذلك فقال أبو حنيفة للفتى إن القوم قد سمعوا وأجابوا إلى أن يردوا عليك ما أخذوا منك من المهر ويبروك فقال الفتى لا بد من زيادة آخذها منهم فقال أبو حنيفة أيما أحب إليك أن ترضى بما بذلوا لك وإلا أقرت المرأة لرجل بدين عليها ولا يمكنك حملها ولاالسفر بها حتى يقضى ما عليها من الدين قال فقال الفتى الله الله يا إمام لا يسمع أحد منهم بذلك ثم أجاب وأخذ ما بذلوه من المهر .
ومنه أن رجلا جاء إلى أبي حنيفة وقال يا إمام دفنت مالا مدة طويلة ونسيت الموضع الذي دفنته فيه فقال الإمام ليس في هذا فقه فأحتال لك ولكن أذهب فصل الليلة إلى الغداة فإنك ستذكره إن شاء الله تعالى ففعل . فلم يمض إلا أقلب من ربع الليل حتى ذكر الموضع الذي دفن فيه فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره فقال قد علمت أن الشيطان لا يدعك تصلي الليل كله فهلا أتممت ليلتك كلها شكراً لله .
ومنه أن بعضهم كانت له زوجة جميلة وكان يحبها حباً شديداً وتبغضه بغضاً شديداً ولم تزل المنافرة بينهما البتة وأضجره ذلك وطالت مدة تجرؤها عليه في الكلام فقال لها يوما أنت طالق ثلاث بتاتاً إن خاطبتني بشيء ولم أخاطبك بشيء مثله فقالت له في الحال أنت طالق ثلاثاً بتاتاً فابلس الرجل ولم يدر ما يجيب وخاف في جوابها من وقوع الطلاق وارسل إلى أبي جعفر الطبري فأخبره بما جرى فقال له إذا طالبتك بالجواب فقل لها أنت طالب ثلاثاً بتاتاً إن أنا طلقتك فتكون قد خاطبتها ووفيت بيمينك .ومن ذلك ما هو منقول عن الإفراط في ذكاء العرب
قيل سار مضر وربيعة وإياد وإنمار أولاد نزار ابن معد إلى أرض نجران فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلأً قد رعى فقال البعير الذي رعى هذا أعور فقال ربيعة وهو أزور وقال إياد وهو أبتر وقال إنمار وهو شرود فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجل على راحلة فسألهم عن البعير فقال مضر أهو أعور قال نعم قال ربيعة أو أزور قال نعم قال إياد أهو أبتر قال نعم قال إنمار أهو شرود قال نعم والله هذه صفات بعيري دلوني عليه فحلفوا أنهم ما رأوه فلزمهم وقال فكيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته فساروا حتى قربوا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي فنادى صاحب البعير هؤلاء القوم وصفوا لي بعيري بصفته ثم أنكروه فقال الجرهمي كيف وصفتموه ولم تروه فقال مضر رايته يرعى جانبا ويترك جانبا فعلمت أنه أعور وقال ربيعة رأيت أحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها بشدة وطئه لأزواره وقال إياد عرفت بتره بأجتماع بعره ولو كان زيالا لتفرق وقال إنمار عرفت أنه شرود لأنه كان يرعى في المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث فقال الأفعى ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه ثم سألهم من هم فأخبروه فرحب بهم وأضافهم وبالغ في إكرامهم .
ومنه أن عقبة الأسدي كان مشهوراً بمعالجة الجن وصدق العزائم فأتوه بجارية قد جنت في ليلة عرسها فعزم عليها فإذا هي قد سقطت فقال لأهلهااخلوني بها فأجابوه فلما خلا بها قال لها أصدقيني عن نفسك وعليّ خلاصك فقالت إنه كان لي صديق وأنا في بيت أهلي وأنهم أرادوا أن يدخلوني على زوجي ولست ببكر فخفت الفضيحة فهل عندك حيلة في أمري قال نعم ثم خرج إلى أهلها فقال أن الجني أجابني إلى الخروج منها فاختاروا من أي عضو واعلموا أن العضو الذي يخرج منه الجني لا بد أن يهلك ويفسد فإن خرج من عينها عميت وإن خرج من أذنها صمت وإن خرج من يدها شلت وإن خرج من رجلها زمنت وإن خرج من فرجها ذهبت بكارتها فقال أهلها أنا لم نجد شيئا أهون من ذهاب عذرتها فأخرج الشيطان منه فأوهمهم أنه فعل ذلك وأدخلت المرأة على زوجها .
ومن ذلك أن الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً على عملٍ فبلغه أنه قال :
اسقني شربةً أُلذّ عليها . . . واسق بالله مثلها ابن هشام
قال فاشخصه وعلم الرجل بالحال فضم إليه بيتا آخر فلما قدم على الإمام قال ألست القائل :
اسقني شربة أُلذّ عليها . . . واسق الله مثلها ابن هشام
قال نعم يا أمير المؤمنين أن لهذا ثانيا وهو :
عسلاً بارداً بماء سحابٍ . . . إنني لا أحبّ شرب المدامِ
فقال الإمام الله الله إرجع إلى عملك .
ومن لطائف هزليات الأذكياء أن الرشيد خرج متنزها فأنفرد عن العسكر ومعه الفضل بن الربيع فإذا هو بشيخ قد ركب حماراً ضعيفا وهو رطب العينين فغمز الفضل عليه فقال له الفضل أين تريد يا شيخ ، فقال حائطا لي قال هل أدلك على شيء تداوي به عينيك فتذهب هذه الرطوبة فقال ما أحوجني إلى ذلك قال فخذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكمأة فصير الجميع في قشر جوزة واكتحل من العشر فإنه يذهب رطوبة عينيك فاتكأ الشيخ على ظهر حماره وضرط ضرطة طويلة ثم قال خذ هذه الضرطة أجرة وصفك فإن نفعتنا زدناك فضحك الرشيد يكاد يسقط عن ظهر دابته . ومن الجد المفحم أن رجلا من اليهود قال للإمام علي رضي الله عنه ما دفنتم نبيكم حتى قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير فقال الإمام أنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .
ومنه أن المتوكل قال يوما لجلسائه نقم المسلمون على عثمان أشياء منها أن الإمام أبا بكر رضي الله عنه لما تسنم المنبر هبط عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمرقاة ثم قام عمردون مقام أبي بكر وصعد عثمان ذروة المنبر فقال عباد : ما أحدٌ أعظم منه عليك من عثمان يا أمير المؤمنين قال وكيف ويلك قال لأنه صعد ذروة المنبر ولو أنه كلما قام خليفة نزل مرقاة ونزل عثمان كمن تقدمه كنت أنت تخطبنا من بئر فضحك المتوكل ومن حوله .
ذكاء طبيب
ومن المنقول عن أذكياء الأطباء أن جارية من جواري الرشيد تمطت فلما أرادت أن تمد يدها لم تطق وحصل فيها الورم فصاحت وآلمها فشق على الرشيد وعجز الأطباء عن علاجها فقال له طبيب حاذق يا أمير المؤمنين لا دواء لها إلا أن يدخل إليها رجل أجنبي غريب فيخلو بها ويمرخها بدهن نعرفه فأجابه الخليفة إلى ذلك رغبة في عافيتها فأحضر الطبيب الرجل والدهن وقال أريد من أمير المؤمنين أن يأمر بتعريتها حتى يمرخ جميع أعضائها بهذا الدهن فشق ذلك على الخليفة وأمره أن يفعل وأضمر في نفسه قتل الرجل وقال للخادم خذه وأدخله عليها بعد أن تعريها فعريت الجارية وأقيمت فلما دخل عليها وقرب منها وسعى إليها وأومأ بيده إلى فرجها ليمسه غطت الجارية فرجها بيدها التي قد كانت عطلت حركتها ولشدة ما داخلها من الحياء والجزع حمي جسمها بانتشار الحرارة الغريزية فأعانها على ما أرادت من تغطية فرجها واستعمال يدها في فرجها فلما غطت فرجها قال لها الرجل الحمد لله على العافية فأخذه الخادم وجاء به إلى الرشيد وأعلمه بالحال وما اتفق فقال الرشيد للرجل فكيف نعمل في رجل نظر إلى حرمنا فمد الطبيب يده إلى لحية الرجل فانتزعها فإذا هي ملصقة وإذاالشخص جارية وقال يا أمير المؤمنين ما كنت لأبذل حرمك للرجل ولكن خشية أن أكشف لك الخبر فيتصل بالجارية فتبطل الحيلة ولا يفيد العلاج لأني أردت أن أدخل على قلبها فزعا شديداً ليحمي طبعها ويقودها إلى تحريك يدها وتمشي الحرارة الغريزية في سائر أعضائها بهذه الواسطة فسرى على الرشيد ما كان وقر في صدره من الرجل وأجزل عطيته .
ذكاء متطفل
ومن المنقول عن أذكياء المتطفلين قال أبو عمرو الجهضمي كان لي جار طفيلي وكان من أحسن الناس منظرا وأعذبهم منطقا وأطيبهم رائحة فكان من شأنه إذا دعيت إلى وليمة يتبعني فيكرمه الناس من أجلي ويظنون صحبتي له فاتفق أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن أولاده فقلت في نفسي كأني برسول الأمير قد جاءني وكأني بالطفيلي قد تبعني والله لئن فعل لأفضحنه فأنا على ذلك إذا جاءني رسول الأمير يدعوني فما زدت على أن لبست ثيابي وخرجت فإذا أنا بالطفيلي واقف على باب داره وقد سبقني بالتأهب فتقدمت وتبعني فلما حضرت الموائد كان معي على المائدة فلما مدَّ يده ليأكل قلت حدثني درسة بن زياد عن أبان ابن طارق عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار قوم بغير إذنهم فأكل طعامهم دخل سارقا وخرج مغيراً فلما سمع الطفيلي ذلك قال أنفت لك والله يا أبا عمرو من هذا الكلام على مائدة سيد من أطعم الطعام فإنه ما من أحد من الجماعة إلا وهو يظن أنك تعرض به دون صاحبه وقد بخلت بطعام غيرك علىمن سواك ثم ما استحييت حتى حدثت عن درسة بن زياد وهو ضعيف وعن أبان بن طارق وهو متروك الحديث والمسلمون على خلاف ما ذكرت فإن حكم السارق القطع وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الإمام وأين أنت من حديث حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام الواحد يكفي الأثنين وطعام الأثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية وهو إسناد صحيح ومتن صحيح متفق عليه قال أبو عمرو والله لقد أفحمني ولم يحضرني جواب فلما خرجنا فارقني من جانب الطريق إلى الجانب الآخر بعد أن كان يمشي ورائي وسمعته يقول :
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب . . . بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
ذكاء متلصص ومن المنقول عن أذكياء المتلصصين أن بعض التجار قال احتال علي رجل بحوالة فكان يأتيني كل يوم ويأخذ قدر نفقته إلى أن نفدت وصار بيننا معرفة وألف الجلوس عندي وكان يراني أخرج من صندوق لي فأعطيه فقال لي يوما إنَّ قِفْلَ الرجل صاحبه في سفره وأمينه في حضره وخليفته على حفظ ماله وإن لم يكن وثيقا تطرقت الحيل إليه وأرى قفلك هذا وثيقا فقل لي ممن ابتعته لابتاع مثله لنفسي فقلت منفلان الإقفالي قال فما شعرت يوما وقد جئت إلى دكاني وتقدمت إلى الصندوق لأخرج منه شيئاً من الدراهم ففتحته فإذا ليس فيه شيء فقلت لغلامي وهو عندي أمير غير متهم هل أنكرت شيئا من أحوال الدكان قال لا قلت ففتش هل ترى نقبا أم في السقف حيلة قال لا قلت فاعلم أن الذي كان في الصندوق قد ذهب فقلق الغلام فأمسكته وقمت مفكرا وتأخر الرجل عني فتيقظت له وذكرت سؤاله عن القفل وقلت للغلام أخبرني كيف تفتح دكاني وتقفله فقال أحمل الدراريب دفعتين وثلاثة حتى أضعها في محلها وهكذا أصنع في غلقها قلت فمن تدع عند الدكان إذا نقلت الدراريب قال : أتركه خاليا قلت فمن ههنا ذهبت فمضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل وقلت له : أجاءك إنسان منذ أيام واشترى منك مثل هذا القفل قال نعم رجل من صفته كذا وكذا وأعطاني صفة صاحبي فعلمت أنه احتال على الغلام وقت المساء ودخل الدكان واختبأ ومعه مفتاح القفل وأخذ المال ومكثر طول الليل إلى الصباح فلما فتح الغلام وحمل الدراريب ليضعها ي محلها خرج وأنه ما فعل ذلك غلا وقد خرج من المدينة فخرجت من البصرة ومعي قفلي ومفتاحي فقلت ابتدىء بواسط فلما صعدت طلبت خانا أنزله فلما دخلت الخان وجدت قفلا مثل قفلي على باب بيت فقلت لقيم الخان هذا البيت من ينزله قال رجل قدم أمس من البصرة فقلت ما صفته فوصف لي صاحبي فما شككت أنه هو وأن الدراهم في بيته فاكتريت بيتا إلى جانبه ورصدته حتى انصرف قيمالخان ففتحت القفل ودخلت البيت فوجدت كيسي بعينه فأخذته وخرجت ووضعت قفله على بابه ونزلت على الفور في السفينة وانحدرت إلى البصرة ولم أقم بواسط غير ساعة من نهار فرجعت إلى منزلي بمالي كله .
ذكاء صبي
ومن المنقول عن أذكياء الصبيان أنه وقف إياس بن معاوية وهو صبي على قاضي دمشق ومعه شيخ فقال أصلح الله القاضي هذا الشيخ ظلمني وأكل مالي فقال القاضي ارفق بالشيخ ولا تستقبله بمثل هذا الكلام فقال إياس إن الحق أكبر مني ومنه ومنك قال اسكت قال وإن سكت فمن يقوم بحجتي قال تتكلم فوالله لا تتكلم بخير فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبلغ ذلك الخليفة فعزل القاضي وولى إياساً مكانه .
من أذكياء النساء
ومن المنقول عن أذكياء النساء حكى المدائني قال خرج ابن زياد في فوارس فلقوا رجلاً ومعه جارية لم ير مثلها في الحسن فصاحوا به خل عنها وكان معه قوس فرمى أحدهم فهابوا الإقدام عليه فعاد ليرمي فانقطع الوتر فهجموا عليه وأخذوا الجارية فهرب واشتغلوا عنه بالجارية ومد بعضهم يده إلى أذنها وفيها قرط وفي القرط درة يتيمة لها قيمة عظيمة فقالت وما قدر هذه الدرة إنكم لو رأيتم ما في قلنسوته من الدر لاستحقرتم هذه فتركوها واتبعوه وقالوا له ألق ما في قلنسوتك وكان فيها وتر قدأعده فنسيه من الدهش فلما ذكره ركبه في القوس ورجع إلى القوم فولى القوم هاربين وخلوا الجارية .
ذكاء الحيوان
وحكى ابن الجوزي في كتاب الأذكياء نبذة عن الحيوان الذي كان بذكائه شبه ذكاء الآدميين . فمن ذلك أن بعض الكتاب مر بمقبرة فإذا قبر عليه قبة مكتوب عليها هذا قبر الكلب فمن أحب أن يعلم خبره فليمض إلى قرية كذا وكذا فإن فيها من يخبره فسال الرجل عن القرية فدلوه عليها فقصدها فقيل له ما يعلم ذلك إلا شيخ هنا قد جاوز المائة فسأله فقال كان هنا ملك عظيم الشأن وكانيحب التنزه والصيد وكان له كلب قد رباه لا يفارقه فخرج يوما إلى بعض متنزهاته وقال لبعض غلمانه قل للطباخ يصلح لنا ثريدة بلبن فجاءوا باللبن إلى الطباخ ونسي أن يغطيه بشيء واشتغل بالطبخ فخرجت من بعض الشوق أفعى فكرعت في ذلك اللبن ومجته في الثريدة والكلب رابض يرى ذلك ولم يجد له حيلة يصل بها إلى الأفعى وكان هناك جارية زمنة خرساء قد رأت ما صنعت الأفعى ووافى الملك من الصيد في آخر النهار فقال يا غلمان ادركوني بالثريدة فلما وضعت بين يديه أومأت الخرساء فلم يفهم ما تقول ونبح الكلب وصاح فلم يلتفت إليه ولجّ في الصياح فلم يعلم مراده فقال للغلمان نحوه عني ومد يده إلىاللبن بعد ما رمى إلى الكلب ما كان يرمي إليه فلم يلتفت الكلب إلى شيء من ذلك ولم يلتفت إلى يغر الملك فلما رآه يريد أن يضع اللقمة من اللبن في فيه وثب إلى وسط المائدة وأدخل فمه وكرع في اللبن فسقط ميتها وتناثر لحمه وبقي الملك متعجبا من الكلب وفعله فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها وما صنع الكلب فقال الملك لحاشيته هذا الكلب فداني بنفسه وقد وجب أن أكافئه وما يحمله ويدفنه غيري فدفنه وبنى عليه القبة التي رأيتها .
من أخبار الحمقى
قلت قد أوردنا نبذة لطيفة من كتاب الأذكياء لابن الجوزي مختلفة الأنواع وقد تعين أن نورد له هنا نبذة لطيفة من كتاب الحمقى والمغفلين لأنه قال في كتاب الحمقى : ما وضعت ذلك إلا لأن النفس قد تمل من ملازمة الجد وترتاح إلى بعض المباح من اللهو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الحنظلة ساعة وساعة . وعن علي رضي الله عنه أنه قال روحوا القلوب بطرائف الحكم فإنها تمل كما تمل الأبدان .
وكان رجل يجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثهم فإذا أكثروا وثقل عليه الحديث قال ان الأذن بحاجة وإن القلوب خمصة هاتوا من أشعاركم وحديثكموقال أبو الدرداء رضي الله عنه إني لاستجم نفسي بشيء من الباطل كراهة أن أحملها من الحق ما يملها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث أصحابه ساعة ثم يقول حمضونا فيأخذ في أحاديث العرب وأشعارهم ومثله عن الزهري ومالك بن دينار . وكان شعبة يحدث فإذا رأى أبا زيد قال له إيه أبا زيد .
إستعجمت دارُ نُعمٍ ما تكلِّمُنا . . . والدارُ إن كلمتنا ذاتُ أخبار
ووصف رجل عند ابن عائشة فقيل هو جدّ كله فقال ابن عائشة لقد أعان على نفسه وقصر لها طول المدى ولو فكهها بالانتقال من حال إن حال نفس عنها ضيق العقد ورجع إلى الجد بنشاط . وقال الرشيد : النوادر تستحدّ الأذهان وتفتق الآذان . وقال آخر لا يحب الملح إلا ذكران الرجال ولا يكرهها إلا مؤنثوهم وقال الشاعر :
أروح القلب ببعضِ الهزلِ . . . تجاهلاً منيّ بغير جهل
أمزحُ فيه مزحَ أهلِ الفضل . . . والمزحُ أحياناً جلاءُ العقلنوادر الحمقى
قال ابن الجوزي في كتاب الحمقى أن الأحنف بن قيس قال إذا رأيتم الرجل طويل القامة عظيم اللحية فأحكموا عليه بالحمق . وقال معاوية لرجل كفى أن نشهد عليك بالحمق ما نراه من طول لحيتك . وقال آخر وتلطف ما شاء : من طالت لحيته تكوسج عقله . وقال أصحاب الفراسة : من طالت قامته ولحيته وجبت تعزيته في عقله . وقالوا إذا كان الرجل طويلا طويل اللحية وأضيف إلى ذلك أن يكون صغير الرأس فأحكم عليه بالحمق . وقال زياد ما زادت لحية الرجل على قبضة إلا كان نقصانا من عقله وقال الشاعر :
إذا عرُضت للفتى لحيةٌ . . . وطالت وصارت إلى سرّته
فقد ضاق عقل الفتى عندنا . . . بمقدار ما زاد من لحيته
وقال ابن الرومي :
إن تطل لحيةٌ عليك وتعرُض . . . فالمخالي مخلوقةٌ للحمير
علّق الله في عذاريك مخلا . . . ةً ولكنّها بغير شعيروقال بعضهم : صارم الأحمق فليس له خير من الهجران . وقيل مكتوب في التوراة من اصطنع إلى أحمق معروفا فهي كخطيئة مكتوبة عليه . وقال سفيان الثوري هجران الأحمق قربة إلى الله تعالى . فمن ضرب المثل بحمقه وتغفله هبنقة واسمه يزيد وكان قد جعل في عنقه قلادة عظام وودع وقال أخشى أن أضيع من نفسي ففعلت ذلك لأعرفها فحولت أمه القلادة إلى عنق أخيه فلما أصبح ورآها قال يا أخي أنا أنت وضل له بعير فجعل يقول من وجده فهو له فقيل له فلم تنشده قال : لحلاوة الظفر . واختصمت بنو طفاوة وبنو راسب في رجل ادعى كل من الفريقين أنه منهم فقال هبنقة حكمه أن يلقى في الماء فإن طفا فهو من طفاوة وإن رسب فهو من راسب فقال الرجل إن كان الحكم هكذا فقد زهدت في الطائفتين .
ومنهم
أبو عيشان
وهو رجل من خزاعة كان يلي سدانة البيت فاجتمع مع قصي بن كلاب بالطائف على الشراب فلما سكر اشترى منه قصي ولاية سدانة البيت بزق من خمر وأخذ منه مفاتيحه وسار بها إلى مكة وقال يامعاشر قريش هذه مفاتيح أبيكم إسماعيل ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم وأفاق أبو غيشان فندم غاية الندم فقيل أحمق من أبي غيشان وقال شاعرهم :
باعتْ خزاعةُ بيتَ الله إذ سكرتْ . . . بزقّ خمرٍ فبئستْ صنعة البادي
باعت سدانتها بالخمر وانقرضتْ . . . عن المقام وظلّ البيت والنادي
ومنهم
ربيعة البكاء
سمي البكاء لأنه دخل على أمه وهي تحت زوجها فبكى وصاح أتقتل أمي فقالوا أهون مقتول أمٌ تحت زوج فذهبت مثلا .
ومنهم
حمزة بن بيض
قال يوما لغلامه أي يوم صلينا الجمعة بالرصافة فافتكر الغلام ساعة ثم قال يوم الثلاثاء . ومنهم حجى قال بعضهم كان من أذكياء الناس وإما كان بينه وبين قوم عداوة فوضعوا عليه حكايات سارت بها الركبان وقيل كان من كبار الحمقى والمغفلين . قيل إنه دخل الحمام وخرج منه فضربته ريح باردة فمست خصيتيه فإذا إحداهما قد تقلصت فرجع إلى الحكمام وجعل يفتش الناس فقالوا له مالك فقال سرقت إحدى بيضتي ثم إنه دفئفي الحمام وحمي فرجعت البيضة فلما وجدها سجد شكراً لله وقال كل شيء لا تسرقه اليد لا يفقد . واشترى يوما دقيقا وحمله على حمال فلما دخل الحمال في الزحام هرب فرآه حجى بعد أيام فاستتر منه لئلا يطالبه بالأجرة . وكان لهم جارية تسمى عميرة فضربتها ذات يوم أمه فصاحت الجارية فاجتمع الناس على الباب فخرج إليه فقال ما لكم عافاكم الله إنما هي أمي تجلد عميرة . ومنهم
ابن الجصاص قيل إنه كان يقصد التباله خيفة من الوزير ابن الفرات . فمن المنقول من حمقه أنه كان مع الوزير في مركب ومعه بطيخة فأراد أن يعطيها للوزير ويبصق في البحر فبصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في البحر هذا من المنقول عما ظهر عنه من التباله وإلا فقد روي عنه أنه قال لما ولي ابن الفرات الوزارة قصدني قصدا قبيحاً وأنفذ العمال إلى ضياعي وبسط لسانه بثلبي ونقصني في مجلسه فدخلت يوما داره فسمعت حاجبه وقد وليت يقول : هذا بيت مال يمشي على وجه الأرض ليس له من يأخذه فقلت هذا من كلام صاحبه وقد كان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار عيناً سوى الجواهر والذخائر وغير ذلك فسهرت في ليلتي أفكر في أمري معه فوقع في نفسي في الثلث الأخير من الليل أن ركبت إلى داره على الفورفوجدت الأبواب مغلقة فطرقتها فقال البواب من هذا قلت ابن الجصاص فقال ليس هذا وقت وصول الوزير نائم فقلت عرف الحجاب أني حضرت في مهم فعرفهم فخرج إلي أحدهم فقلت الأمر أهم من ذلك فأيقظه وعرفه عني ما قلت لك فدخل وأبطأ ساعة ثم خرج وأدخلني فارتاع لدخولي وظن أني جئته برسالة من الخليفة أو حدثت حادثة وهو متوقع لما أورده عليه فنظر إلي وقال ما الذي جاء بك في هذا الوقت قلت خير ما حدثت حادثة ولا معي رسالة ولا جئت إلا في أمر يخصني ويخص الوزير ولم تصلح مفاوضته إلا على خلوة فسكن روعه وقال لمن حوله انصرفوا فمضوا فقال هات فقلت أيها الوزير إنك قصدتني بأقبح قصد وشرعت في هلاكي وإزالة نعمتي وفي إزالتها خروج نفسي وليس عن النفس عوض وقد جعلت هذا الكلام عذرا بيني وبينك فإن نزلت تحت حكمي في الصلح وإلا قصدت الخليفة في هذه الساعة وحولت إليه ألف دينار وأنت تعلم قدرتي عليها وأقول له : خذ هذا المال وسلم إلي ابن الفرات وأسلمك لمن أختاره للوزارة ويقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده ممن له وجه مقبول ولسان عذب وخط حسن ولا أعتمد إلا على بعض كتابك فإنه لا يفرق بينك وبينه إذا رأى المال حاضرا فيسلمك في الحال إليه ويفرغ عليك العذاب بحضوري ويأخذ منك المال المعين وأنت تعلم أن حالك تفي بها ولكنك تفتقر بعدها ويرجع المالإلي وأكون أهلكت عدوي وشفيت غيظي وزاد محلي بتقليدي وزيراً فلما سمع هذا الكلام سقط ي يده وقال يا عدو الله أو تستحل ذلك فقلت بل عدو الله من استحل مني هذا فقال وما تريد فقلت تحلف الساعة بما استحلفك من الأيمان المغلظة أن تكون معي لا علي في صغير أمري وكبيره و لاتنقص لي رسما ولا تضع مني ، بل تبالغ في رفعتي ولا تبطن علي فقال وتحلف أنت أيضاً لي بمثل هذا اليمني على جميل النية وحسن الطاعة فقلت أفعل فقال : لعنك الله والله لقد سحرتني واستدعى بدواة فعملنا نسخة يمين وحلف كل منا عليها فلما أردت القيام قال لي يا أباع عبد الله لقد عظمت في نفسي والله ما كان المقتدر يفرق بيني وبين أحسن كتابي إذا رأى المال فليكن ما جرى بيننا مطويا فقلت سبحان الله فقال إذا كان غدا فسر إلى المجلس فترى ما أعاملك به فقمت فأمر الغلمان أن يسيروا في خدمتي بأجمعهم إلى داري ولما أصبحت جئته فبالغ في الإكرام والتعظيم وأمر بانشاء الكتب إلى النواحي بإعزاز وكلائي وحماية أملاكي فشكرته وقمت فأمر الغلمان أيضا بالمشي بين يدي والحجاب والناس يتعجبون من ذلك ولم يعلم أحد ما السبب وما حدثت بهذا الحديث إلا بعد القبض عليه .وذكر ابن الجوزي في الباب السابع من كتاب الحمقى والمغفلين أن جماعة من العقلاء صدر عنهم أفعال الحمقى وأصروا على ذلك مستصوبين لها فصاروا بذلك الاصرار حمقى ومغفلين . فأول القوم ابليس لعنه الله تعالى فإنه صوّب نفسه وخطأ حكمة الله تعالى ورمى عن قوس الاعتراض في عدم السجود لآدم عليه السلام ثم قال أنظرني إلى يوم يبعثون فصارت لذته في أيقاع العاصي في الذنب كأنه يغبط ونسي عقابه الدائم فلا حمق كحمقه ولا عفلة كغفلته ولله در القائل في ابليس :
عجبتُ من ابليس في غفلته . . . وخبثِ ما أظهر من نيَّته
تاهَ على آدم في سجدةٍ . . . وصار قواداً لذريته الثاني فرعون في دعواه الربوبية وافتخاره بقوله أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي فافتخر بساقية لا هو أجراها ولا يعرف مبدأها ولا منتهاها ونسي أمثالها مما ليس تحت قدرته وليس في الحمق أعظم من ادعائه الألوهية وقد ضربت الحكماء بذلك مثلا فقالوا دخل أبليس على فرعون فقال له من أنت قال ابليس قال ما جاء بك قال جئت متعجبا من جنونك قال كيف قال أنا عاديت مخلوقا مثلي فامتنعت من السجود له فطردت ولعنت وأنت تدعي أنّك إله ، هذا والله هو الحمق والجنون البارد .ومن عجيب الحمق والتغفل اتخاذ الاصنام باليد والاقبال على عبادته والإله ينبغي أن يفعل ولا يُفعل . وكذلك نمروذ في بنائه الصرح ثم رميه بنشابة يريد أن يقتل أله السموات والأرض . وكذلك بنو اسرائيل حين جاوزوا البحر وقد أنجاهم الله تعالى من تلك الأهوال واستنقذهم من فرعون قالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . وكذلك قول النصارى إن عيسى إله وابن إله ثم يقرون أن اليهود صلبوه وهذا غاية البله والعفلة . وكذلك ارافضة يعلمون إقرار علي ببيعة أبي بكر وعمر واستيلاده الحنفية من سبي أبي بكر وتزويجه أم كلثوم ابنته من مر وكل ذلك دليل على رضاه ببيعتهما ثم في الرافضة من يسبهما وفيهم من يكفرهما وكل ذلك يطلبون به حب علي بزعمهم وقد تركوا حبّهم وراء ظهورهم .
وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال لو جاءني رجل فقال إنيّ حلفت بالطلاق أن لا أكلم في هذا اليوم من هو أحمق وكلم رافضيا أو نصرانيا لقلت له حنثت فقال له ابن الديناري أعزك الله ولم صارا أحمقين قال لأنهما خالفا الصادقين .
أما الصادق الأول فعيسى عليه السلام قال للنصارى إني عبد الله وقال أن اعبدوا الله فقالوا لا وعبدوه جهلا وحمقا . والصادقالثاني الإمام علي رضي الله عنه فإنه قال عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن أبي بكر وعمر هذان سيدا كهول أهل الجنة والرافضة يسبونهما .
ومن المنقول عن حمق النساء أن الأمين لما حوصر قال لجاريته غني فغنت :
أبكى فراقهُمُ عيني فأرّقها . . . إن التفرّق للأحباب نكباء
فقال لعنك الله أما تعرفين غير هذا فغنَّت :
وما اختلف الليل والنهار ولا . . . دارت نجوم السماء في فلك
إلا لينتقل السلطان من ملكٍ . . . قد غيب تحت الثرى إلى ملك
فقال لها قومي فقامت فعثرت بقدح بلور فكسرته فقال قائل قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ولما قتله المأمون دخل على زبيدة ليعزيها به فقالت إن أردت أن تسليني فتغدّ عندي فتغدى عندها فأخرجت له من جواري الأمين من تغنيه فغنت :
هم قتلوه كي يكونوا مكانه . . . كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
فوثب المأمون مغضبا فقالت له زبيدة أحرمني الله أجره إن كنت دسسته إليها أو لقنتها فصدقها وإنصرف .ومن ذلك أن المعتصم لما فرغ من بناء قصر له أدخل الناس عليه فاستأذن إسحاق بن إبراهيم في الإنشاد فأذن له فأنشد :
يا دار غيَّرك البلى ومحاك . . . يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم وجميع من حضر المجلس وتعجبوا كيف يصدر من مثل إسحاق هذا التغفل المفرط ولم يجتمع بعد ذلك بالدار اثنان .
ومن لطائف المنقول عن الحمقى والمغفلين أن عيسى بن صالح تولى قنسرين والعواصم للرشيد وكان من الحمق على جانب عظيم قال بعضهم أتاني رسوله بالليل فأمرني بالحضور فتوهمت أن كتابا جاءه من أمير المؤمنين في مهم احتاج فيه إلى حضور مثلي فركبت إلى داره فلما دخلت سألت الحجاب هل ورد كتاب من الخليفة أو حدث أمر فقالوا لا فامضيت إلى الخدم فسألتهم فقالوا مثل مقالة الحجاب فصرت إلى الموضع الذي هو فيه فقال لي أدخل ليس عندي أحد فدخلت فوجدته على فراشه فقال : أعلم أني سهرت الليلة مفكراً في أمر إلى ساعتي هذه فقلت وما هو الأمر أصلح الله الأمير قال اشتهيت أن يصيرني الله حورية في الجنة ويجعل زوجي يوسف الصديق فطال لذلك فكري فقلت له هلا اشتهيت محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكون زوجك فإنه سيد الأنبياء عليهم السلام فقال لا تظن أني لم أفكر في هذا قد فكرت فيه ولني كرهت أن أغيظ عائشة رضي الله عنها .ومن لطائف المنقول عن المغفلين من الأعراب قيل صلى إعرابي خلف بعض الأئمة في الصف الأول وكان اسم الأعرابي مجرما فقرأ الإمام والمرسلات عرفاً فلما بلغ إلى قوله تعالى ألم نهلك الأولين تأخر الأعرابي إلى الصف الأخير فقال ثم نتبعهم الآخرين فرجع إلى الصف الأوسط فقال كذلك نفعل بالمجرمين فولى هاربا وهو يقول والله ما المطلوب غيري .
ومثله صلى أعرابي خلف أمام صلاة الصبح فقرأ الإمام سورة البقرة وكان الأعرابي مستعجلا ففاته مقصوده فلما كان من الغد بكر إلى المسجد فابتدأ فقرأ سورة الفيل فقطع الأعرابي الصلاة وولى هارباً وهو يقول أمس قرأت سورة البقرة فلم تفرغ منها إلى نصف النهار واليوم تقرأ سورة الفيل ما أظنك تفرغ منها إلى الليل . ومنه كان أعرابي قائما يصلي فأخذ قوم يصفونه بالصلاح وهو يسمع فقطع الصلاة وقال وأنا مع هذا صائم . ومنه دخل خالد بن صفوان الحمام وفي الحمام رجل ومعه ابنه فأراد الرجل أن يعرف خالداً ما عنده من البيان والنحو فقال يا بني ابدأ بيداك ورجلاك ثم التفت إلى خالد فقال له يا أبا صفوان هذاكلام قد ذهب أهله فقال خالد هذا كلام ما خلق الله له أهلا .ومن لطائف المنقول عن المغفلين من الشعراء أن بعضهم دخل مسجد الكوفة يوم الجمعة وقد نما خبر المهدي أنه مات وهم يتوقعون قراءة الكتاب عليهم بذلك فقال رافعا صوته :
مات الخليفة أيُّها الثقلانِ
فقالوا هذا أشعر الناس فإنه نعى الخليفة إلى النس والجن في نصف بيت ومدت الناس أبصارهم وأسماعهم إليه فقال :
فكأنني أفطرتُ في رمضان
قال فضحك الناس وصار شهرة في الحمق .
ومثله أن سيف الدولة بن حمدان أنصرف من الحرب وقد نصر على عدوه فدخل عليه الشعراء فأنشدوه فدخل معهم رجل شامي فأنشده :
وكانوا كفأرٍ وسوسوا خلف حائطٍ . . . وكنت كسنَّورٍ عليهم تسقَّفا
فأمر بإخراجه فقام على الباب يبكي فأخبر سيف الدولة ببكائه فرق له وأمر برده وقال له مالك تبكي قال قصدت مولانا بكل ما أقدر عليه أطلب منه بعض ما يقدر عليه فلما خاب أملي بكيت فقال سيف الدولة ويلك فمن يكون له مثل هذا النسل يكون له ذلك النظم كم كنت أملت قال خمسمائة درهم فأمر له بألف درهم فأخذها وانصرف .ومن المنقول عن المغفلين على الإطلاق قال بعضهم دخلت مسجد دمشق فإذا أنا بجماعة عليهم سمة العلم فجلست إليهم وهم ينقصون من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقمت من عندهم مغضبا فرأيت شيخاً جميلا يصلي فظننت به الخير فجلست إليه فقلت له يا عبد الله أما ترى هؤلاء القوم يشتمون علي بن أبي طالب وينقصونه وهو زوج فاطمة الزهراء وابن عم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي يا عبد الله لو نجا أحد من الناس لنجا منهم أبو محمد رحمه الله تعالى قال فقلت ومن أبو محمد قال الحجاج بن يوسف وجعل يبكي فقمت من عنده وخلفت لا أقيم بها .
ومن ذلك أن رجلاً سأل بعضهم وكان من الحمق على الجانب عظيم فقال إيما أفضل عندك معاوية أو عيسى بن مريم فقال ما رأيت سائلا أجهل منك ولا سمعت بمن قاس كاتب الوحي إلى نبي النصارى ، ومن ذلك أن لصا تسور روزنة وكان اللص مغفلا فنظر من خلال الروزنة فوجد رجلا وزوجته وهي تقول له يا رجل من أين اكتسبت هذا المال العظيم فقال لها كنت لصا وكنت إذا تسورت روزنة بيت صبرت إلى أن يطلع القمر فإذا طلع اعتنقت الضوء الذي في الروزنة وتدليت بلا حبل وقلت شولم شولم فنزلت فآخذ جميع ما في البيت ولا تبقى ذخيرة من ذخائر البيت إلا ظهرت لي ثم أقول شولم شولم وأصعد في الضوء ولا ينتبه أحد من أهل البيت وأذهب بلا تعب ولا كلفة فسمع اللص ذلك فصبر إلى أن طلع القمر ونام أهل البيت فتعلق في ضوء الروزنة فوقع وتكسرتأضلاعه فقام إليه صاحب البيت وقبض عليه وأسلمه إلى صاحب الشرطة . ومنهم
يسوق الحمير ويعدها
من كان يسوق عشرة حمير فركب واحداً منها وعدها فإذا هي تسعة حمير فنزل وعدها فإذا هي عشرة فقال أمشي وأربح حمارا خير من أن أركب وأخسر حماراً فمشى حتى كاد يتلف إلى أن بلغ قريته . ومنهم من مات بعض أقاربه فقيل له لم لا تبعث جنازته فقال هذا الكلام ما يقوله عاقل أكون منسيا فأذكر بنفسي ومن ذلك أن بعض المغفلين سمع رجلا ينشد :
وكان بنو عمّي يقولون مرحباً . . . فلما رأوني معدما مات مرحبُ فقال : كذب الشاعر مرحب قتله علي بن أبي طالب لم يمت إلا قتيلا ، ومنه من باع داراً وكان يؤذن بباب مسجد بالقرب منها فأنسى أنه باعها فصلى ورجل إليها ودخل من الباب فصاحت النسوة وقلن له يا رجل اتق الله فينا فقال اعذروني فإني ولدت في هذا الدار ولم أذكر البيع . ومنهم
أخبار وطرف
من رأى جاريته تحت رجل يجامعها فقال لها يا جارية ما حملك على هذا فقالت له يما مولاي حلفني بحياة رأسك وأنت تعلم صدق محبتي لك فسكت . ومنهم من سمع أن صوم يوم عرفة يعدل صوم سنة فصام إلى الظهر وقال يكفيني ستة أشهر .ومنهم من جاء إلى الجب ونظر فيه فرأى خيال وجهه فذهب إلى أمه وقال يا أمي في الجبّ لص فجاءت الأم فتطلعت فيه فرأت خيال وجهها فقالت صدقت ومعه قحبة . ومنهم من دعا فقال اللهم اغفر لي ولأمي ولأختي ولامرأتي فقيل له لم تركت ذكر أبيك قال لأنه مات وأنا صبي لم أدركه ، وقال رجل لرجل كم يوم في هذا الشهر فنظر وقال والله لست من أهل هذه المدينة ، ومن ذلك أن هشام ابن عبد الملك عرض الجند فتقدم رجل حمصي بفرس كلما قدمه يتأخر ، فقال له هشام ما هذا ، قال : يا سيدي فارِه ولكنّه شبّهك ببيطار كان يعالجه فنفر . ومنهم من قيل له عندك مال جزيل وليس لك إلا والدة عجوز وإن مت ورثتك فأفسدت مالك فقال إنها لا ترثني قيل وكيف : قال : لأن أبي طلقها قبل أن يموت . ومنهم من جاء إليه جماعة يسألونه في كفن لجار له مات فقال ما عندي الآن شيء ولكن عودوني في وقت آخر قالوا أفنُملِّحه إلى أن يتيسر عندك شيء . ومنهم من تقدم يصلي المغرب بجماعة فأطال القيم فلما فرغ من الصلاة سجد سجدتي السهو ولم يكن سها فقيل نحن أنكرنا عليك طول القراءةفما الجواب عن سجدتي السهو ولم تكن سهوت فقال ذكرت أني صليت بكم على غير وضوء فسجدت للسهو .
ومن ذلك أن عبداً كان بين أثنين في الشركة فجعل أحدهما يضربه فلامه شريكه فقال إنما ضربت حصتي . ومنهم من قيل له كيف صنعتم في رمضان فقال اجتمعنا ثلاثين فأنفذناه في يوم واحد واسترحنا منه . قال الأصمعي خرج جماعة من بني غفار ومعهم رجل مغفل فأصابتهم ريح في البحر أيسوا معها من الحياة فأعتق كل واحد منهم مملوكا أو مملوكة فقال ذلك الرجل اللهم إنك تعلم أني ليس لي مملوك ولا مملوكة ولكن امرأتي طالق طلقة واحدة لوجهك الكريم .
معلمي الصبيان
قال ابن الجوزي في آخر كتاب الحمقى والمغفلين أن المعلمين للصبيان صناعتهم تكاد أن تكون اكسيراً لقلة العقل وإبرازاً للحماقة . وقال عدَلَ عقل امرأة سبعين حائكا وعدل عقل حائك سبعين معلما وسبب قلة عقل المعلم أنه مع الصبيان بالنهار ومع النساء بالليل . وكان يحيى بن أكثم لا يقبل شهادة المعلم .وقيل لصبي ما لنا نراك كثير الحمق فقال لو لم أكن كذلك لكنت ولد زنا . وقيل لمعلم مالك تضرب ذا الصبي ولم يذنب قال إنما ضربته قبل أن يذنب لئلا يذنب . وقال الجاحظ مررت بمعلم وهو يقرىء صبيا ، وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك عن إخوتك فيكيدوا لك كيدا فقلت له ويحك قد أدخلت سورة في سورة . فقال نعم عافاك الله إذا كان أبوه يدخل شهراً في شهر فأنا أيضا أدخل سورة في سورة ولا آخذ شيئا ولا ابنه يتعلم شيئا انتهى . ما تخيرته من كتاب الأذكياء والحمقى والمغفلين .
سمير الوليد بن يزيد
ومما تخيرته من سلوان المطاع لابن ظفر أن الوليد ابن يزيد لما بلغه أن ابن عمه يزيد ابن الوليد بن عبد الملك قد شرد عنه القلوب واستجاش عليه أهل اليمن ونازعه في ملكه احتجب عن سمّاره ودعا في بعض الليالي خادما فقال له انطلق متنكرا حتى تقف ببعض الطرق وتأمل من يمر بك من الناس فإذا رأيت كهلا رث الهيئة يمشي مشياً هويناً وهو مطرق فسلّم عليه وقل له في أذنه : أمير المؤمنين يدعوك فأن أسرع في الإجابتة فائتني به وإناستراب فدعه واطلب غيره حتى تجد رجلا على الشرط الذي ذكرت لك فانطلق الخادم فأتاه برجل على الشرط فلما دخل الرجل على الوليد حياه بتحية الخلافة فأمره الوليد بالجلوس والدنو منه وصبر إلى أن ذهب روعه وسكن جأشه ثم اقبل عليه فقال له أتحسن المسامرة للخلفاء فقال نعم يا أمير المؤمنين فقال الوليد إن كنت تحسنها فأخبرنا ما هي فقال يا أمير المؤمنين المسامرة أخبار لمنصت وأنصات لمخبر ومفاوضة فيما يعجب ويليق فقال له الوليد أحسنت لا أزيدك امتحانا فقل أسمع لقولك فقال الكهل نعم يا أمير المؤنين ولكن المسامرة صنفان لا ثالث لهما أحدهما الإخبار بما يوافق خبرا مسموعا والثاني الإخبار بما يوافق غرضاً من أغراض صاحب المجلس وإني لم أسمع بحضرة أمير المؤمنين طريقة فأنحو نحوها وألزم أسلوبها فقال الوليد صدقت وها نحن نقترح لك ما تقتفيه قد بلغنا أن رجلا من رعيتنا سعى في ضرر ملكنا فأثر سعيه وشق ذلك علينا فهل سمعت بذلك فقال الكهل نعم يا أمير المؤمنين فقال له الوليد قل الآن على حسب ما سمعت وعلى ما ترى من التدبير فقال يا أمير الممنين بلغني عن أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان أنه لما ندب الناس لقتال ابن الزبير وخرج بهم متوجها إلى مكة حرسها الله تعالى استصحب عمرو بن سعيد بن العاص وكان عمرو قد انطوى على فساد نية وخبث طويّة وطماعية في نيل الخلافة وكان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد فطن لذلك إلا أنه كان يحترمه ولما أبعد أمير المؤمنين عن دمشق تمارض عمرو بن سعيد فاستأذنأمير المؤمنين في العود إلى دمشق فأذن له فلما دخل عمرو دمشق صعد المنبر فخطب الناس خطبة نال فيها من الخليفة واستولى على دمشق ودعا الناس إلى خلع عبد الملك فأجابوه إلى ذلك وبايعوه وحصّن بعد ذلك سور دمشق وحمى حوزتها فبلغ ذلك عبد الملك وهو متوجه إلى ابن الزبير وبلغه مع ذلك أن والي حمص قد نزع يده من الطاعة وأن أهل الثغور قد تشوفوا للخلاف فأحضر وزراءه فأطلعهم على ما بلغه وقال لهم دمشق ملكنا قد استولى عليها عمر بن سعيد وهذا عبد الله ابن الزبير قد استولى على الحجاز والعراق واليمن ومصر وخراسان وهذا النعمان بن بشير أمير حمص وزفر بن الحرث أمير فلسطين قد خرجا عن الطاعة وبايعا الناس لابن الزبير وهذه المضرية بسيوفها تطالبنا بقتلى المرج فلما سمع وزراؤه مقالته ذهلت عقولهم فقال لهم عبد الملك مالكم لا تنطقون هذا وقت الحاجة إليكم فقال أفضلهم وددت أن أكون طيراً على عود من أعواد تهامة حتى تنقضي هذه الفتن فلما سمع عبد الملك مقالة صاحبه قام أمرهم بلزوم موضعهم وركب منفردا وأمر جماعة من شجعانه أن يتبعوه متباعدين ففعلوا وسار عبد الملك حتى انتهى إلى شيخ ضعيف البدن سيىء الحال وهو يجمع سمّاقا فسلم عليه عبد الملك وآنسه بحديثه ثم قال له أيها الشيخ ألك علم بنزول هذا العسكر فقال الشيخ وما سؤالك عنه فقال عبد الملك أني أردت الانتظام في سلكه فقال له أني أرى عليك سمة الرياسة فينبغي لك أن تصرف نفسك عن هذا الرأيفإن الأمير الذي أنت قاصده قد انحلّت عرا ملكه والسلطان في اضطراب أموره كالبحر إذا هاج فقال عبد الملك أيها الشيخ قد قوي عليّ جذب نفسي إلى صحبة هذا الأمير فهل لك أن ترشدني إلى رأي أتفق به عنده فلعله يكون سبب قربي منه فقال الشيخ أن هذه النازلة التي نزلت بهذا الأمير من النوازل التي لا تنفذ فيها العقول وإني لأكره أن أرد مسألتك بالخيبة فقال له عبد الله قبل جزاك الله خيراً فقال الشيخ إن هذا الخليفة خرج إلى قتال عدوه والإرادة غير قابلة لمراده والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يرد من قصده من محاربة ابن الزبير ووثوب عمرو بن سعيد على منبره واستيلائه على بيوت أمواله وسرير خلافته فإذا قصدت هذا الأمير وانتظمت في سلكه أنظر في أمره فإن رأيته قد أصر على قصده ابن الزبير فأعلم أنه مخذول فأجنبه وإن رأيته قد رجع من حيث جاء وترك قصده الأول فأرج له النصر والسلامة . فقال عبد الملك يا شيخ وهل رجوعه إلى دمشق إلا كمسيره إلى ابن الزبير فقال الشيخ إن الذي أشكل عليك لواضح وها أنا أزيل عنك اللبس وهو أن عبد الملك إذا قصد ابن الزبير كان في صورة ظالم لأن ابن الزبير لم يطعه طاعة قط ولا وثب له على ملكة فإذا قصد ابن سعيد كان في صورة مظلوم لأنه نكث بيعته وخان أمانته ووثب على دار ملك لم تكن له ولا لأبيهمن قبله بل كانت لعبد الملك ولأبيه من قبله وعمرو عليها متعد ، ومن الأمثال سمين الغضب مهزول وولي الغدر معزول وسأضرب لك مثلا يشفي النفس ويزيل اللبس . زعموا أن ثعلبا كان يسمّى ظالما وكان له جحر يأوي إليه وكان مغتبطاً به فخرج يوما يبتغي ما يأكل ثم رجل فوجد فيه حية فانتظر خروجها فلم تخرج فعلم أنها استوطنته وذلك أن الحية لا تتخذ جحراً بل إذا أعجبها جحر اغتصبته وطردت من به من الحيوان ولهذا قيل فلان أظلم من حية فهذا ظلمها ولما رأى ظالم أن الحية قد استوطنت جحره ولم يمكنه السكنى معها ذهب يطلب لنفسه مأوى فانتهى به السير إلى جحر حسن الظاهر في أرض منيعة ذات أشجار ملفتة وماء معين فأعجبه وسأل عنه فقالوا هذا الحجر يملكه ثعلب اسمه مفوض وأنه ورثه عن أبيه فناداه ظالم فخرج إليه ورحب به وأدخله إلى جحره وسأله عن حاله فقص عليه خبره مع الحية فرق له مفوض وقال له الموت في طلب الثأر خير من الحياة في العار والرأي عندي أن تنطلق معي إلى مأواك الذي أخذ منك غصبا حتى أنظر إليه فلعلي أهتدي إلى مكيدة تخلص بها مأواك فانطلقا معا إلى ذلك الجحر فتأمله مفوض وقال لظالم اذهب معي فبت الليلة عندي لأنظر ليلتي هذه فيما يسنح من الرأي والمكيدة ففعلا ذلك وبات مفوض مفكرا وجعل ظالم يتأمل مسكن مفوض فرأى من سعته وطيب هوائه وحصانته ما اشتد به حرصه عليه وطفق يدبر في حيلة اغتصابه ونفي مفوض عنهفلما أصبحا قال مفوض لظالم أني رأيت ذلك الجحر بعيدا من الشجر والماء فأصرف نفسك عنه وهلم أعينك على احتفار جحر في هذا المكان المشتهى فقال ظالم هذا غير ممكن لأن لي نفسا تهلك لبعد الوطن حنينا فلما سمع مفوض ما قاله ظالم وما تظاهر به من الرغبة في وطنه قال له أني أرى أن نذهب يومنا هذا فنحتطب حطبا ونربط منه حزمتين فإذا جاء الليل انطلقنا إلى بعض هذه الخيام فأخذنا قبس نار واحتملنا الحطب والقبس إلى مسكنك فنجعل الحزمتين في بابه نضرم النار فإن خرجت الحية احترقت وإن لزمت الجحر قتلها الدخان فقال له ظالم هذا نعم الرأي فذهبا واحتطبا حزمتين ولما جاء الليل انطلق مفوض إلى ظاهر تلك الخيام فأخذ قبسا فعمد ظالم إلى إحدى الزمتين فأزالها إلى موضع غيبها فيه ثم جر الحزمة الآخرة إلى باب مسكن مفوض فسده بها سدا محكما وقدر في نفسه أن مفوضا إذا أتى الجحر لم يمكنه الدخول إليه لحصانته فإذا يئس منه ذهب فنظر لنفسه مأوى وكان ظالم قد رأى في منزل مفوض طعاماً أدخره لنفسه فعول ظالم على أنه يقتات به إن حاصره مفوض وهو من داخل وأذهله الشره والحرص عن فساد هذا الرأي ثم إن مفوضا جاء بالقبس فلم يجد ظالما ولا وجد الحطب فظن أن ظالما قد حمل الحزمتين تخفيفا عنه وأنه سبقه إلى مسكنه الذي فيه الحية اشفاقا على مفوض فشق ذلك عليه وظهر له من الرأي أن يبادر إليه ويلحقه ليحمل معه الحطب فوضع القبس بالقرب من الحطب ولم يشعر أن الباب مسدود به لشدة الظلمة فما بعد عن الباب إلا وضوء النار وشدة الدخان قد لحقا به فعادوتأمل الباب فرأى الحطب قد صار ناراً فعلم مكيدة ظالم ورآه قد احترق ن داخل الجحر وحاق به مكره فقال هذا الباحث على حتفه بظلفه ثم إن مفوضا صبر حتى انطفأت النار فدخل جحره فأخرج جثة ظالم فألقاها واستوطن جحره آمنا فهذا المثل ضربته لك لأنه ملائم لفعل عمرو بن سعيد في بغيه ومخادعته عبد الملك وحيلته في أخذ دار ملكه وتحصينها منه وهذا كفعل ظالم مع مفوض والله أعلم فلما سمع عبد الملك حكمة الشيخ في ضرب أمثاله سر بذلك سروراً عظيما ثم أقبل عليه فقال جزيت عني خيراً وأني أريد أن تجعل بيني وبينك موعداً وتعرفني مكانك لألقاك به بعد يومي هذا فقال الشيخ وما تريد بذلك فقال له عبد الملك إني أريد مكافأتك على ما كان منك فقال له الشيخ إني أعطيت الله عهداً أن لا أقبل منة لبخيل فقال عبد الملك ومن أين علمت أني بخيل فقال لأنك أخرت صلتي مع القدرة فما عليك لو وصلتني ببعض ما عليك فقال عبد الملك أقسم بالله لقد ذهلت ثم نزع سيفه وقال له أقبل مني هذا واحرص عليه فقيمته عشرون ألف درهم فقال الشيخ إني لا أقبل صلة ذاهل فدعني وربي الذي لا يذهل ولا يبخل فهو حسبي فلما سمع عبد الملك كلام الشيخ عظم في عينه وعلم فضله في دينه فقال له أنا عبد الملك فأرفع حوائجك إلي فقال الشيخ وأنا عبد الملك فهلم نرفع حوائجنا إلى من أنا وأنت له عبدانفانطلق عبد الملك وعمل برأي الشيخ فأنجح الله قصده وانتصر على أعدائه فلما سمع الوليد ما أخبره به الكهل استرجح عقله واستظرف أدبه واستحسن محاضرته وسأله عن نفسه فتسمى له وانتسب فلم يعرفه الوليد فاستحى منه وقال له : من جهل مثلك في رعيته ضاع . فقال له الكهل : يا أمير المؤمنين إن الملوك لا تعرف إلا من تعرف إليها ولزم أبوابها فقال له الوليد صدقت ثم أمر له بصدقة معجلة وعهد إليه في ملازمته فكان يتمتع بأدبه وحكمته إلى أن كان من أمر الوليد ما هو مشهورخبر سابور بن هرمز وقيصر
ومما تخيرته من عجائب سلوان المطاع قيل لما عزم سابور ابن هرمز على الدخول إلى بلاد الروم متنكراً نهاه نصحاؤه وعقلاء وزرائه وحذروه من ذلك فعصاهم وكان يقال أوزر الناس وزراء الأحداث من الملوك وعشاق الفتيان من المشايخ ثم إن سابور توجه نحو بلاد الروم واستصحب وزيرا كان له ولأبيه من قبله وكان من أدهى الناس في الحزم وسداد الرأي واختلاف الأديان ولغاتها وكان من المتبحرين في العلوم والمبرزين بالمكايد فسلم إليه في سفره وأمر أن لا يتجاوزه في السير ولا يبعد عنه بحيث يراعي جميع أحواله في ليله ونهاره فتوجها نحو الشام ولبس ذلك الوزير زي الرهبان وتكلم بلسانهم وتحرف بصناعة الطب الجرائحي وكان معه الدهن الصيني الذي إذا دهنت به الجراحات ختمت بسرعة واندملت فكان ذلك الوزير في مسيره نحو بلاد الروم يداوي الجراحات بأدوية يضيف إليها يسيراً من ذلك الدهن فتبرأ بسرعة وإذا عني بأحد من ذوي الأقدار داواه بذلك صرفا فيبرأ على الفور ولا يأخذ على ذلك أجرة فانتشر ذكره في بلاد الروم وعقدت عليه الخناصر وأقبل عليه الناس وكان مع إنفراده عن سابور يراعي جميع أحواله فلم يزالا كذلك حتى طافا جميع الشام وقصدا القسطنطينية فقدماها فذهب الوزير إلى البطريرك وتفسير هذا الأسم أبو الآباء فاستأذن عليه فأذن له وسأله عن قصده فأخبره أنه هاجر إليه ليتشرف بخدمته ويدخلفي أتباعه ثم أهدى إليه هدية نفيسة حسن موقعها من البطرك فقربه وأكرمه وأحسن نزله وألحقه ببطانته وأختبره فوجده عالما بدينهم بل مبرزا فأعجب به غاية الإعجاب وجعل الوزير يتأمل أحوال البطرك ليصحبه بما يلائمه وينفق عنده فوجده مائلاً إلى الفكاهات معجبا بنوادر الأخبار وكان الوزير في ذلك غاية فأخذ يتحفه بكل نادرة غريبة وملحة عجيبة فصار البطرك لم يطق عن الوزير صبرا لأنه حلا لعينه وحل بقلبه وجعل الوزير مع ذلك يعالج الجراحات ولا يأخذ على ذلك عوضا فعظم قدره في الناس هذا وهو يتعاهد أحوال سابور في كل وقت إلى أن صنع قيصر وليمة وحضر الناس إليها على طبقاتهم فأراد سابور حضورها ليطلع على أحوال قيصر وعلى رتبته في قصره وعظم وليمته فنهاه وزيره عن ذلك فعصاه وتزيا بزي ظن أنه يتستر به ودخل دار قيصر مع من حضر الوليمة وكان قيصر من شدة احتراسه من سابور وخيفته من أن يطرق بلاده وتحسن له همته العالية وحدَّة الشبيبة ذلك ، صوّر سابور في مجلسه وعلى ستور بيته وعلى فرشه وفي آلات أكله وشربه ، ولما دخل سابور يوم الوليمة واستقر في مجلسه وأكل مع من حضر أتوا بالشراب في كؤوس البلور والذهب والفضة والزجاج المحكم وكان في المجلس رجل من حكماء الروم ودهاتهم فلما وقعت عينه على سابور أنكره وجعل يتأمل شخص فرأى عليه مخايل الرياسة ولمازاد في تأمله وصل إليه دور الكاس فتأمل الصورة التي على الكأس وراجع النظر في سابور فما شك أنالصورة التي على الكأس وضعت على مثاله وغلب على ظنه أنه سابور فأمسك الكأس في يده إمساكا طويلاً ثم قال رافعا صوته إن هذه الصورة التي على هذا الكأس تخبرني أخباراً عجيباً فقيل له وما الذي تخبرك فقال تخبرني أنّ الذي هي مثال له معنا في مجلسنا هذا ثم نظر إلى سابور وقد تغير لونه حين سمع مقالته فحقق ظنه فبلغ ذلك قيصر فادناه وقربه وسأله فأخبره أن سابور معه في مجلسه وأشار إليه فأمر قيصر بالقبض عليه وقرب من قيصر فسأله عن نفسه فتعلل بضروب من العلل لم تقبل فقال ذلك المتفرس أيها الملك لا تقبل قوله فإنه سابور لا محالة فهدده قيصر بالقتل فاعترف أنه سابور فحبسه قيصر مكرما وأمر أن يعمل له من جلود البقر صورة بقرة وتطبق عليه الجلود سبع طبقات ويتخذ لها باب وتجعل لها كوة لأجل المبال ويستقر سابور بها وتجمع يداه إلى عنقه بجامعة من الذهب ذات سلسلة يمكنه معها تناول ما يعمل له من طعام وشراب وغير ذلك فلما دخل سابور جوف تلك الصورة جمع قيصر جنوده واستعد لغزو بلاد فارس ووكل بسابور وهو داخل البقرة مائة رجل من ذوي البأس والشدة يحملونها وصرف أمره إلى المطران وهو خليفة البطرك فكانت تلك الصورة تحمل بين يديه فإذا نزل العسكر نزلت الصورة التي فيها سابور وسط العسكر وضربت عليها قبة وتضرب للمطران قبة مجاورة لقبة سابور وسار قيصر محتفلا بجنوده وعساكره وقد عزم على خراب فارس ولما جد السير قال وزير سابور للبطرك أيها الأب إنما استفدت بخدمتك الرغبة في مصالح الأعمال ولا عمل أصلح من تنفيس كربة عنمجهود وجر منفعة إلى مضطر وقد علمت اجتهادي في مداواة الجرحى وإن نفسي تنازعني إلى صحبة الملك قيصر في سفره هذا لا غير فلعل الله تعالى يستنقذ بي نفسا صالحة أو يشوقني إلى مداواة جريح من العسكر ليتقدم قلبي بهذه المثوبات ، فكره البطرك ذلك وقال له قد علمت أنني لا أستطيع فراقك فكيف تطالبني بالسفر البعيد قال فلم يزل وزير سابور يتضرع إلى البطرك إلى أن استحى منه وسمح له بذلك وزوده وكتب معه إلى المطران يخبره برتبته عنده وأن يحله في أعلى المراتب ويستضيء برأيه إذا أشكل عليه أمر فقدم وزير سابور على المطران فعرف له حقه وأنزله في قبته وجعل زمام أمره ونهيه بيده وصار الوزير يستميله بما يميل إليه ويطرفه في كل ليلة بطرف الأخبار رافعا بها صوته ليسمع سابور حديثه فيتسلى بذلك ويدس في أحاديثه ما يريد أن يعلمه به ويبطنه من الأسرار فكان سابور يجد بذلك راحة عظيمة وكان الوزير قد أعد لخلاص سابور أنواعا من المكايد رتبها عندما قدم على المطران منها أنه امتنع عن مؤاكلة المطران وأخبره أنه لا يخلط بطعام البطرك غيره لأجل بركته فكان إذا حضر طعام المطران أخرج هو ذلك الزاد الذي معه وأنفرد بالأكل وحده فلم يزل قيصر سائرا بجنوده حتى بلغ أرض فارس فأكثر فيها القتل والسبي وتغوير المياه وقطع الأشجار وخراب القرى والحصون وهو مع ذلك يواصل السير ليستولي على دار ملك سابور قبل أن يشعروا فيملكوا عليهم رجلا منهمولم يكن للفرس هم إلا الفرار من بين يديه والاعتصام بالمعاقل والحصون فلم يزل قيصر على تلك الحال حتى بلغ مدينة سابور وقرار ملكه فأحاط بها ونصب عليها آلات الحصار ولم يكن عندها قوة ولا منعة في دفعه أكثر من ضبط الأسوار والقتال عليها وكل ذلك فهمه سابور من كنايات الوزير في محاضراته للمطران ولكن لم يسمع له كلمة من حين سجنه قيصر في تلك الصورة فلما علم سابور أن قيصر قد ثقلت وطأته وأشرف على فتح البلد عيل صبره وساء ظنه ويئس من الحياة فلما جاء الموكل بطعامه قال له إن هذه الجامعة قد نالت مني منالا ضعفت قوتي عن احتماله فإن كنتم تريدون بقاء نفسي فنفسوا عني منها واجعلوا بينها وبين يدي وعنقي خرقا من الحرير فجاء الموكل بالطعام إلى المطران وأعلمه بالذي قاله سابور فسمعه الوزير وعلم أن سابور قد جزع وساء ظنه وفطن لما أراد سابور فلما جنَّ الليل وجلس لمسامرة المطران قال له ذكرت الليلة حديثا عجيبا ما ذكرته منذ كذا وكذا وددت أنني كنت حدثت به البطرك قبل سفري فقال له المطران إني أرغب إليك أن تحدثني الليلة أيها الراهب الحكيم فقال الوزير حبا وكرامة ثم اندفع يحدثه رافعا صوته ليسمع سابور ويفهم الغرض ويستأنس فقال اعلم أيها المطران أنه كان ببلادنا فتى وفتاة ليس في زمانهما أحسن منهما اسم الفتى عين أهله واسم الفتاة سيدة الناس وكانا زوجين مؤتلفين ولا يبتغي أحدهما بالآخر بدلا ثم أن عين أهله جلس يوما مع أصحابه فتذاكروا النساء إلى أن ذكر أحدهم امرأة أطنب في وصفهاوبالغ ، وذكر أن اسمها سيدة الذهب فوقع في قلب عين أهله حبها فسأل الواصف عن منزلها فذكر أنها ببلد بالقرب من بلده ففكر عين أهله في أمرها وخامره حبها فانطلق إلى البلد التي هي ساكنة بها وسأل عن منزلها فعرفه ولم يزل يتردد إلى بابها حتى رآها فرأى منظرا حسناً ولكن لم تكن بأحسن من امرأته بل ضرورات النفس حب التنقل في الأحوال ولازم عين أهله المعاودة إلى منزل سيدة الذهب حتى فطن له بعلها وكان جافيا غليظ الطبع شديد البطش يسمى الذئب فرصد عين أهله حتى مر به فلما رآه وثب عليه وقتل فرسه ومزق ثيابه واستعان بجماعته عليه فاحتملوه إلى داخل دار الذئب وربطوه إلى سارية في الدار ووكل به عجوزاً مقطوعة اليد جدعاء عوراء شوهاء فلما جن عليه الليل أوقدت تلك العجوز النار بالقرب منه وجعلت تصطلي فذكر عين أهله ما كان فيه من السلامة والعافية والرفاهية والعز فبكى بكاء شديداً فأقبلت عليه العجوز وقالت له ما ذنبك الذي أوجب هذا فقال عين أهله ما علمت لي ذنباً فقالت العجوز هكذا قال الفرس للخنزير . وكذب فقال عين أهله للعجوز وما الذي كذب فيه الفرس عند الخنزير فقالت له العجوز ذكروا أن فرساً كان لأحد الشجعان فكان يبالغ في إكرامه ويحسن إليه ويعده لمهماته ولا يصبر عنه ساعة وكان يخرج به في صحبته كل يوم فيزيل لجامعه وسرجه ويطيل رسنه فيتمرغ ويرعى في كل مرج مخصب حتى يرتفع النهار فيرده وهو على يدهثم أنه خرج يوماً إلى المرج راكباً ونزل عنه فلما استقرت قدماه على الأرض نفر الفرس وجمح ومر يعدو بسرجه ولجامه فطلبه الفارس يومه كله فأعجزه وغاب عن عينه عند غروب الشمس فرجع الفارس إلى أهله وقد يئس من الفرس ولما انقطع الطلب عن الفرس وأظلم عليه الليل جاع وطلب أن يرعى فمنعه اللجام ورام أن يتمرغ فمنعه السرج ورام أن يضطجع فمنعه الركاب فبات بشر فلما أصبح ذهب يبتغي فرجا مما هو فيه فاعترضه نهر فدخله ليقطعه إلى جهته الأخرى فإذا هو بعيد القعر فسبح فيه كان حزامه ولببه من جلد ما اتقن في دبغه فلما خرج أصابت الشمس الحزام واللبب فيبسا واشتد عليه فورم موضع اللبب والمحزم واشتد به الضرر وقوي به الجوع ومضت عليه أيام فتزايد ضعفه وعجز عن المشيء فمر به خنزير فهم بقتله فرآه ضعيفا جداً فسأله عن حاله فأخبره بما هو فيه من أضرام اللجام واللبب والحزام وسأله أن يصنع معه معروفاً ويخلصه مما هو فيه فسأله الخنزير عن الذنب الذي أوقعه في تلك العقوبة فزعم الفرس أن لا ذنب له فقال له الخنزير كذبت ولو صدقت خلصتك مما أنت فيه ، ومن جهل ذنوبه وأصرّ عليها لم يرج فلاحه فحدثني يا فرس عن ابتداء أمرك فيما نزل بك وعن حالك قبل ذلك فصدقه الفرس وأخبره بجميع أمره وكيف كان عند فارسه مكرما وكيف فارقه وما لقي في طريقه إلى حين اجتماعه بالخنزيرفقال الخنزير قاتلك الله لقد كفرت النعم وأكثر الذنوب ، منها خلافك لفارسك الذي بالغ في الإحسان إليك وأعدك لمهماته ومنها كفرك إحسانه ومنها تعديك على ما ليس لك وهو السرج واللجام ومنها اساءتك لنفسك بتعاطيك التوحش الذي لست من أهله ولا لك عليه مقدرة ومنها إصرارك على ذنبك وكنت قادراً على العود إلى فارسك قبل أن يوهنك اللجام والجوع والحزام واللبب بالألم فقال الفرس للخنزير قد عرفت ذنبي فانطلق عني ودعني فإني أستحق أضعاف ما أنا فيه فقال الخنزير بعد أن عرفت وعدت على نفسك باللوم واخترت لها العقوبة على جهلها تعين الشروع في خلاصك ثم إن الخنزير قطع عذرا اللجام فسقط وقطع الحزام فنفس عن الفرس قال فلما سمع عين أهله ما خاطبته به العجوز قال لها صدقت فيما نطقت قد أدبتيني فتأدبت ثم أعلمها بخبره ثم رغبها في أن تمنَّ عليه بالخلاص كما فعل الخنزير بالفرس فقالت العجوز الذي سألتني لا يمكنني فعله الآن ولعلي أجد لك فرجا ومخرجا عن قريب فعليك بالصبر وأمسكت العجوز عن مخاطبته قال فلما انتهى الوزير في حديثه إلى هذه الغاية أقبل على المطران وقال إني أحس في أعضائي فتوراً وفي رأسي صداعا ولم أقدر الليلة على إتمام الحديث ولعلي أكون الليلة القابلة نشيطا إلى ذلك فنهض إلى مضجعه فجعل سابور يتأمل حديث الوزير ويتأمل الأمثال التي ضربها له ودسها في المسامرة ففهم أنالوزير كنَّى عن سابور بعين أهله وكنَّى عن مملكته بسيدة الناس وكنَّى عن بلاد الروم بسيدة الذهب وكنَّى عن قيصر بالذئب الذي ذكر أنه بعل سيدة الذهب وكنَّى عن طموح نفس سابور إلى مملكة الروم بطموح نفس عين أهله إلى رؤية سيدة الذهب وكنَّى عن أخذ قيصر له بقبض الذئب على عين أهله وكنَّى عن نفسه وحاله وعجزه بالعجوز وأنه ساع في خلاصه فاستروح سابور ريح الفرج فسكنت نفسه ووثق بوزيره فلما كانت الليلة القابلة وتعشى المطران وأخذ مقعده للمسامرة قال الوزير أيها الحكيم الراهب أخبرني عن ما كان من أمر عين أهله وهل خلصته العجوز من وثاق الذئب أم لا فقال الوزير سمعا وطاعة فشرع في حديثه وقال إن عين أهله أقام على حالته عدة أيام وكل يوم يدخل عليه الذئب ويهدده بالقتل ويزيده قيداً ثم إن العجوز جاءته في بعض الليالي وأضرمت لها بالقرب منه ناراً وجلست تصطلي ثم أقبلت على عين أهله وقالت له ساعدني على خلاصك بالصبر فقال لها عين أهله وهان على الطليق ما لقي الأسير فقالت العجوز حداثة سنك قصرت فهمك عن إدراك الحقائق أفتسمع حديثاً لك فيه سلوة قال نعم فقالت العجوز ذكروا أن بعض التجار كان له ولد وكان مشغوفا به فأتحفه بعض معارفه بخشف غزال فعلق قلب الصبي بذلك الخشف الصغير فكان لا يفارقه وجعلوا في جيده حليا نفيساً وربطوا له شاة ترضعه حتىاشتد ونجم قرناه فأعجبه بريقهما وسوادهما وقال لأهله ما هذا الذي ظهر في رأس الخشف قالوا قرناه وقالوا له إنهما سيكبران ويطولان فقال الغلام لأبيه إني أحب أن أرى غزالا كبيرا له قرنان كاملان فأمر أبوه بعض الصيادين أن يصيد له غزالا كبيرا فأحضر له غزالا قد استكمل قوة ونموا فأعجب الغلام وحلى جيده أيضا فتأنس الغزال الكبير بالخشف الصغير للمجانسة الطبيعية فقال الخشف للغزال ما كنت أظن لي في الأرض شكلا قبل أن أراك فقال له الغزال إن أشكالك كثيرة فقال الخشف وأين هي فأخبره الغزال بتوحشها وانفرادها في فلوات الأرض وتناسلها فارتاح الخشف لذلك وتمنى أن يراها فقال له الغزال هذه أمنية لا خير لك فيها لأنك نشأت في رفاهية من العيش ولو تحصلت على ما تمنيت لندمت فقال الخشف للغزال لابد من اللحاق بأشكالي فلما رأى الغزال أن الخشف غير راجع لم يجد بدا من قضاء اربه لحرمة الألفة فرصدا وقتا وخرجا معا حتى لحقا بالصحراء فلما عاينها الخشف فرح ومرح ومر يعدو ولا يلتفت إلى ما وراءه فسقط في اخدود ضيق قد قطعه السيل فانتظر أن يأتيه الغزال فيخلصه فلم يأته وأما ولد التاجر فإنه تنكد لفقد الخشف والغزال وأشفق أبوه فاستدعى كل من يعاني الصيد فعرفهم القصة وكلفهم طلب الخشف والغزال ووعدهم بالمكافأة على ذلك وركب التاجر معهم وفرق أتباعه على أبواب المدينة ينتظرون من يأتي من الصيادين وانطلق هو وعبيده حتى دخلوا الصحراء فرأوا على بعد رجلا منكبا على شيء بين يديه فأسرعوا نحوه فرأوا صيادا قد أوثق غزالا كبيرا وقد عزم على ذبحهفتأمله التاجر فإذا هو الغزال الكبير الذي لولده فخلصه من الصياد وأمر عبيده ففتشوه فوجدوا معه الحلي الذي كان على الغزال فسأله كيف ظفر به وأين وجده فقال إني بت في هذه الصحراء ونصبت شركا ومكثت قريبا منه فلما أصبحت مر عليَّ الغزال ومعه خشف يعدو ويمرح في جهة غير جهة الشرك وجاء هذا الغزال يمشي حتى حصل فيه فقنصته وقصدت به المدينة فلما بلغت هذا الموضع ظهر لي أني مخطىء في إدخال هذا الظبي إلى المدينة حيا لعلمي أنه إذا رؤي حيا طولبت بما كان عليه من الحلي فرأيت أن أذبحه وأدخل به لحما فهذا خبري فقال له التاجر لقد جنى عليك طمعك الخيبة فماذا عليك لو اطلقته وخلصت ما كان عليه من الحلي ثم إن التاجر أرسل الغزال إلى ولده مع أحد عبيده وقال للصياد ارجع معي فارني الجهة التي رأيت الخشف سعى نحوها فرجع به إلى تلك الجهة فسمع من قريب صوته فصاح به التاجر فعرف الخشف صوته فصرَّت فسمع التاجر الصوت فأدركه فإذا هو في ذلك الأخدود ملقى فأخذوه ووهب التاجر للصياد ما رضي به وصرفه ورجع التاجر بالخشف إلى ولده فكملت مسرة الغلام لذلك وجهد أهله بكل حيلة أن يجمعوا بين الخشف والغزال فلم يقدروا على ذلك فبينما الخشف نائم في كناسه إذ دخل عليه الغزال فايقظه وعاتبه على نفاره منه فقال الخشف أما أنت الذي غدرت وقد علمت احتياجي في غربتي إلى معاونتك فقال له والله ما أخرني عن ذلك إلاوقوعي في شرك الصياد وقص عليه القصة فقبل عذره وعادا إلى الألفة كما كانا فلما سمع عين أهله خطاب العجوز فهم كنايتها عن عجزها في تخليصه أمسك عن خطابها قيل فلما انتهى وزير سابور من حديثه إلى هذا الحديث سكت فقال له المطران أيها الحكيم الراهب ما هذا السكوت فقال الوزير قد عاودني ذلك الفتور الذي أجده في أعضائي فقال المطران لا تفعل فإن ذلك يشق علي فقال الوزير نعم أفعل ذلك طلبا لمرضاتك ثم اندفع يحدثه قال وبات عين أهله تلك الليلة في أضيق الأحوال ولما اصبح دخل عليه الذئب فنال منه وهدده بالقتل وخرج من عنده فجعل يعلل نفسه بقية نهاره ويمنيها بالفرج فلما أقبل في تلك الليلة فأقبل على البكاء حتى مضى جانب من الليل ثم قال للعجوز لم أحظ في هذه الليلة بمؤانستك فقالت له قد جرحت قلبي لقولك لي هان على الطليق ما لقي الأسير لو اعتبرت باطن حالي لعلمت أن أسري اشد من أسرك فاستمع لي أحدثك . واعلم أيها الفتى أني كنت زوجة لبعض الفرسان وكان لي محبا فكنت معه في ارغد عيش وولدت له أولادا كثيرة فغضب الملك على زوجي لأمر كان منه فقتله وقتل أولادي الذكور وباعني أنا وبناتي فاشتراني هذا الفارس الذي عدا عليك واحتملني إلى هذه البلدة وأساء إلى وكلفني من العمل ما لاأطيق ولي معه على هذه الحالة سبع سنين ثم فررت منه فظفر بي فقطع يديد وعود عسفي ومضرتي وقد عزمت على تخليصك الليلة وما أشك أنه يقتلني وجل قصدي ذلك لأجل الراحة مما أنا فيه ولأجل ذلك أنا أكثر الدخول والخروج إليك وأنا في غاية الحيرة من الفزع والجزع ثم أنها فتحت قيود عين أهله وقطعت وثاقه وتناولت سكينا لتقتل نفسها فقال لها عين أهله وإن تركتك تقتلين نفسك فقد شاركتك في دمك وانتزع السكين من يدها وقال لها قومي اذهبي معي لكي ننجو معا أو نعطب معا فقالت إن كبر سني وضعف بصري يمنعاني من اتباعك فقال لها عين أهله إن الليل متسع والموضع الذي أنا فيه قريب ولي قوة على حملك فقالت له العجوز إذا عزمت على هذا فإني لا أحوجك إلى حملي وخرجا معا فلم ينقض الليل حتى بلغا حيث أمنا فجزاها عين أهله خيرا على ما صنعت واتخذها أمّا ، فهذا ما بلغني من ذلك فقال المطران ما أعجب أحاديثك أيها الحكيم ولقد وددت أني لا أفارقك أبدا ونهض كل واحد منهما إلى مضجعه وبات سابور يتصفح حديث وزيره ويتأمل أمثاله ففهم أن الخشف مثل سابور وأن الغزال الكبير مثل الوزير وأن خروج الخشف مع الغزال إلى الصحراء وحصول الخشف في الأخدود مثل لصحبة سابور بوزيره لتأخره عن استنقاذه وتحقق أن الوزير قد عزم على خلاصه والخروج به إلى المدينة ليلا وأن المدينة قريبة منهما وأنه يحمله إن عجز عن المشي فأيقن سابور بالفرجولما كانت الليلة القابلة تلطف وزير سابور حتى دخل الخيمة التي يطبخ بها الطعام للمطران وبها الموكلون بقبة سابور نائمون ينتظرون الطعام فتحيل إلى أن ألقى في الطعام مرقدا قوي الفعل ولما حضر طعام المطران انفرد الوزير بأكل زاده على ما جرت به العادة فلم تكن إلا ساعة حتى صرع القوم فبادر الوزير إلى فتح باب البقرة واستخرج سيده وأزال الجامعة عن عنقه ويديه وتلطف حتى أخرجه من عسكر قيصر وقصد به المدينة فانتهيا معا إلى سورها فصرخ بهم الموكلون فتقدم الوزير إليهم وأمرهم بخفض أصواتهم وأعلمهم بسلامة الملك سابور ثم عرفهم نفسه فابتدروا لهما وأدخلوهما المدينة فقويت نفوس أهلها وأمرهم سابور بالاجتماع وفرق فيهم السلاح وأمرهم أن يأخذوا أهبتهم فإذا ضربت نواقيس النصارى الضرب الأول يخرجون من المدينة ويفترقون على عسكر الروم فإذا ضربت النواقيس الضرب الثاني يحملون بأجمعهم فامتثلوا أمره ثم أن سابور انتخب كتيبة عظيمة فيها شجعان أساورته ووقف معهم ما يلي الجهة التي فيها أخبية قيصر فلما ضربت النواقيس الضرب الثاني حملوا من كل جهة وقصد سابور أخبية قيصر ولم يكن الروم متأهبين لعلمهم بضعف الفرس عن مقاومتهم وسد أبوابهم فما شعروا حتى دهموهم وأخذ سابور قيصر أسيرا وغنم جميع ما في عسكره واحتوى على جميع خزائنه ولم ينج من جنوده إلا اليسير ثم عاد سابور إلى مدينته ودار مملكته فقسم الغنائم بين أهل عسكره وأحسن إلى حفظة ملكه وفوض جميع أموره إلى الوزيرثم أنه أحضر قيصر فلاطفه وأكرمه وقال له إني مبق عليك كما أبقيت علي وغير مجاز لك على التضييق ولكن آخذك بإصلاح ما أفسدت من جميع ملكي فتبني ما هدمت وتغرس جميع ما قلعت وتطلق كل ما عندك ما أسارى الفرس . فضمن له جميع ذلك ووفى به فلما أتم سابور ما أراد من ذلك كله أحسن إلى قيصر وأطرفه وجهزه إلى دار ملكه واستمر قيصر على مهادنته والانقياد إلى طاعته
عفاف ومروءة
. . ومن غرائب المنقول وعجائبه عن الأمير بدر الدين أبي المحاسن يوسف المهمندار المعروف بمهمندار العرب أنه قال حكى الأمير شجاع الدين محمد الشيرازي متولي القاهرة في الأيام الكاملية سنة ثلاث وستمائة قال بتنا عند رجل ببعض بلاد الصعيد فأكرمنا وكان الرجل شديد السمرة وهو شيخ كبير فحضر له أولاد بيض الوجوه حسان الأشكال فقلنا له هؤلاء أولادك فقال نعم وكأني بكم وقد أنكرتم بياضهم فقلنا له نعم : قال هؤلاء أمهم إفرنجية أختها في أيام الملك الناصر صرح الدين وأنا شاب فقلنا وكيف أخذتها قال حديثي بها عجيب قلنا أتحفنا به قال : زرعت كتانا في هذه البلدة وقلعته ونفضته فانصرف عليه خمسمائةدينار ولم يبلغ الثمن إلى أكثر من ذلك فحملته إلى القاهرة فلم يصل إلى أكثر من ذلك فأشير علي بحمله إلى الشام فحملته فما زاد على تلك القيمة شيئا فوصلت به إلى عكا فبعت بعضه بالأجل والبعض تركته عندي واكتريت حانوتا أبيع فيه على مهلي إلى حيث انقضاء المدة فينما أنا أبيع إذ مرت بي امرأة إفرنجية ونساء الأفرنج يمشون في الأسواق بلا نقاب فأتت تشتري مني كتانا فرأيت من جمالها ما بهرني فبعتها وسامحتها ثم انصرفت وعادت إلي بعد أيام فبعتها وسامحتها أكثر من الكرَّة الأولى فتكررت إلي وعلمت أني أحبها فقلت للعجوز التي معها أنني قد تلفت بحبها وأريد منك الحيلة فقالت لها ذلك فقالت تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأ ، ت وهو فقلت لها : قد سمحت بروحي في حبها واتفق الحال على أن أدفع خمسين دينارا صورته فوزنتها وسلمتها للعجوز فقالت نحن الليلة عندك فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول ومشروب وشمع وحلواء فجاءت الإفرنجية فأكلنا وشربنا وجن الليل ولم يبق غير النوم فقلت في نفسي أما تستحي من الله وأنت غريب تعصي الله مع نصرانية اللهم أني قد عففت عنها في هذه الليلة حياء منك وخوفا من عقابك ثم نمت إلى الصبح فنامت إلى الصبح وقامت في السحر وهي غضبى ومضت ومضيت أنا إلى حانوتي فجلست فيه وإذا هي قد عبرت علي هي والعجوز وهي مغضبة وكأنها القمر فهلكت فقلت في نفسي من هو أنت حتى تترك هذه البارعة في حسنها ثم لحقت العجوز وقلت ارجعي فقالت وحق المسيح ما أرجع إليك إلا بمائة دينار فقلت نعم رضيت فوزنت مائة دينار فلما حضرت الجارية عندي لحقتني الفكرة الأولى وعففت عنها وتركتها حياءمن الله تعالى ثم مضت ومضيت إلى موضعي ثم عبرت بعد ذلك علي وكانت مستغربة فقالت وحق المسيح ما بقيت تفرح بي عندك إلا بخمسمائة دينار أو تموت كمداً فارتعدت لذلك وعزمت أنني اصرف عليها ثمن الكتان جميعه فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي معاشر المسلمين إن الهدنة التي بيننا وبينكم قد انقضت وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعة فانقضت عني وأخذت أنا في تحصيل ثمن الكتان الذي لي والمصالحة على ما بقي منه وأخذت معي بضاعة حسنة وخرجت من عكا وفي قلبي من الإفرنجية ما فيه فوصلت إلى دمشق وبعت البضاعة بأوفى ثمن بسبب فراغ الهدنة ومنّ الله بكسب وافر وأخذت أتجر في الجواري عسى أن يذهب ما بقلبي من الإفرنجية فمضت ثلاث سنين وجرى للسلطان الملك الناصر ما جرى من وقعة حطين وأخذه جميع الملوك وفتحه بلاد الساحل بإذن الله تعالى فطلب مني جارية للملك الناصر فأحضرت جارية حسناء فاشتريت له ني بمائة دينار فأوصلوا إلى تسعين دينارا وبقيت لي عشرة دنانير فلم يلتقوها في الخزانة ذلك اليوم لأنه أنفق جميع الأموال فشاوروه على ذلك فقال امضوا به إلى الخزانة التي فيها السبي من نساء الإفرنج فخيروه في واحدة منهن يأخذها بالعشرة الدنانير التي له فأتيت الخيمة فعرفت غريمتي الإفرنجية فقلت أعطوني هاتيك فأخذتها ومضيت إلى خيمتي وخلوت بها وقلت لها أتعرفينني قالت لا فقلت أنا صاحبك التاجر الذي جرى لي معك ما جرى وأخذت مني الذهب وقلت ما بقيت تبصرني إلا بخمسمائة دينار وقد أخذتك ملكا بعشرة دنانيرفقالت مد يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأسلمت وحسن إسلامها فقلت والله لا وصلت غليها إلا بأمر القاضي فرحت إلى ابن شداد وحكيت له ما جرى فعجب وعقد لي عليها وباتت تلك الليلة عندي فحملت مني ثم رحل العسكر وأتينا دمشق وبعد مدة يسيرة أتى رسول الملك يطلب الأسارى والسبايا باتفاق وقع بين الملوك فردوا من كان أسيراً من الرجال والنساء ولم يبق إلا التي عندي فسألوا عنها واتضح الخبر أنها عندي وطلبت مني فحضرت وقد تغير لوني وأحضرتها معي بين يدي مولانا السلطان الناصر والرسول حاضر فقال لها الملك الناصر بحضرة الرسول ترجعين إلى بلادك أو إلى زوجك فقد فككنا أسرك وأسر غيرك فقالت يا مولانا السلطان أنا قد أسلمت وحبلت وهابطني كما ترونه وما بقيت الإفرنج تنتفع بي فقال لها الرسول أيما أحب إليك هذا المسلم أو زوجك الإفرنجي فلان فأعادت عبارتها الأولى فقال الرسول لمن معه من الإفرنج اسمعوا كلامها ثم قال لي الرسول خذ زوجتك فوليت بها فطلبني ثانيا وقال إن أمها أرسلت معي وديعة وقالت إن ابنتي أسيرة واشتهي أن توصل لها هذه الكسوة فتسلمت الكسوة ومضيت إلى الدار وفتحت القماش فإذا هو قماشها بعينه قد سيّرته لها أمها ووجدت الصرتين الذهب الخمسين دينار والمائة دينار كما هما بربطتي لم يتغيرا وهؤلاء الأولاد منها وهي التي صنعت لكم هذا الطعام .إبراهيم بن المهدي والمأمون
ومن لطائف المنقول من المستجاد قال الواقدي كان إبراهيم بن المهدي قد ادعى الخلافة لنفسه بالريّ وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما وله أخبار كثيرة أحسنها عندي ما حكاه لي ، قال : لّما دخل المأمون الري في طلبي وجعل لمن أتاه بي مائة ألف درهم خفت على نفسي وتحيرت في أمري فخرجت من داري وقت الظهر وكان يوما صائفا وما أدري أين أتوجه فوقفت في شارع غير نافذ وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون إن عدت على أثري يرتاب في أمري فرأيت في صدر الشارع عبدا أسود قائما على باب دار فتقدمت إليه وقلت هل عندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار نعم وفتح الباب فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصر وبسط ووسائد جلود إلا أنها نظيفة ثم أغلق الباب علي ومضى فتوهمته قد سمع الجعالة فيَّ وأنه خرج ليدل عليّ ، فبقيت على مثل النار فبينما أنا كذلك إذ أقبل حمال عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم وقدر جديدة وجرة نظيفة وكيزان جدد فحط عن الحمال ثم التفتإلي وقال جعلني الله فداك أنا رجل حجَّام وأنا أعلم أنك تتقرف مني لما أتولاه من معيشتي فشأنك بما لم تقع عليه يد وكان بي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قِدْراً ما أذكر أني أكلت مثلها فلما قضيت أربي من الطعام قال هل لك في شراب فإنه يسلي الهم فقلت ما أكره ذلك رغبة في مؤانسته فأتى بقطرميز جديد لم تمسه يد وجاءني بدست شراب مطينة وقال لي روق لنفسك فروقت شرابا في غاية الجودة وأحضر لي قدحا جديدا وفاكهة وأبقالا مختلفة في طسوت فخار جدد ثم قال بعد ذلك أتأذن لي جعلت فداءك أن اقعد ناحية وآتي بشرابي فاشربه سرورا بك فقلت به افعل فشربت وشرب ثم دخل إلى خزانة له فأخرج عودا مصفحا ثم قال يا سيدي ليس من قدري أن أسألك في الغناء ولكن قد وجبت على مروءتك حرمتي فإن رأيت أن تشرف عبدك فلك علو الرأي فقلت ومن أين لك أني أحسن الغناء فقال يا سبحان الله مولانا اشهر من ذلك أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم فلما قال ذلك عظم في عيني وثبتت مروءته عندي فتناولت العود وأصلحته وغنيت وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي :
وعسى الذي أهدى ليوسفَ أهله . . . وأعزَّه في السجن وهو أسيرُ
أن يستجيب لنا فيجمعَ شملنا . . . والله ربُّ العالمين قديرُفاستولى عليه الطرب المفرط وطاب عيشه كثيراً ومن شدة طربه وسروره قال لي يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح بخاطري وإن كنت من غير أهل هذه الصناعة فقلت هذا زيادة في أدبك ومروءتك فأخذ العود وغنى :
شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا . . . فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم . . . سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضرُّ بذي الهوى . . . جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنَّهم كانوا يلاقون مثل ما نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فو الله أحسست بالبيت قد سار بي وذهب عني كل ما كان بي من الهلع وسألته أن يغني فغنى :
تعِّيرنا أنّا قليلٌ عديدنا . . . فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرّنا إنّا قليلٌ وجارنا . . . عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل
وإنّا لقومٌ لا نرى القتل سُبَّةً . . . إذا ما رأته عامرٌ وسلول
يقرِّبُ حبُّ آجالَنا لنا . . . وتكرهه آجالهم فتطول
فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر فلم أستيقظ إلا بعد المغرب فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام وحسن أدبه وظرفه فقمت وغسلت وجهي وأيقظته وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة فرميت بها إليه وقلت له استودعتك الله فإنني ماض من عندك وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك ولك عندي المزيد أن أمنت من خوفي فاعادها علي منكَّداً وقال : يا سيدي أن الصعاليك منا لا قدر لهمعندكم أآخذ على ما وهبنيه الزمان من قربك وحلولك عندي ثمنا والله لئن راجعتني في ذلك لأقتلنَّ نفسي فاعدت الخريطة إلى كمّي وقد أثقلني حملها فلما انتهيت إلى باب داره قال لي يا سيدي إن هذا المكان أخفى لك من غيره وليس في مؤنتك عليّ ثقل فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك فرجعت وسألته أن ينفق من تلك الخريطة ولم يفعل فأقمت عنده أياما على تلك الحالة في الذ عيش فتذممت من الإقامة في مؤنته واحتشمت من التثقيل عليه فتركته وقد مضى يجدد لنا حالا وقمت فتزييت بزي النساء بالخف والنقاب وخرجت فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف أمر شديد وجئت لأعبر الجسر فإذا أنا بموضع مرشوش بماء فبصر بي جندي ممن كان يخدمني فعرفني فقال هذه حاجة المأمون فتعلق بي فمن حلاوة الروح دفعته هو وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق فصار عبرة وتبادر الناس إليه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر ودخلت شارعا فوجدت باب دار وامرأة واقفة في دهليز فقلت يا سيدة النساء أحقني دمي فإني رجل خائف فقالت على الرحب وأطلعتني إلى غرفة مفروشة وقدمت لي طعاما وقالت ليهدأ روعك فما علم بك مخلوق وإذا بالباب يدق دقا عنيفا فخرجت وفتحت الباب وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدوخ الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرس فقالت يا هذا ما دهاك فقال ظفرت بالمغنِّي وأنفلت عنّي ، فأخبرها بالحال فأخرجت خرقا وعصبته بها وفرشت له ونام عليلا وطلعت إلى وقالت أظنك صاحب القصة فقلت نعم قالت لابأس عليك ثم جددت لي الكرامةوأقمت عندها ثلاثا ثم قالت إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع عليك فينّم بك فانج لنفسك فسالتها المهلة إلى الليل ففعلت فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لنا فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله على سلامتي وخرجت كأنها تريد السوق للاهتمام بالضيافة فظننت خيرا فما شعرت إلا إبراهيم الموصلي بنفسه في خيله ورجله والمولاة معه حتى سلمتني إليه فرأيت الموت عيانا وحملت بالزي الذي أنا فيه إلى المأمون فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه فلما مثلت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال لا سلم الله عليك ولا حياك ولا رعاك فقلت له على رسلك يا أمير المؤمنين ، إن وليَّ الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى وقد جعلك الله فوق كل عفو كما جعل ذنبي فوق كل ذنب فإن تأخذ فبحقك وإن تعف فبفضلك ثم أنشدت :
ذنبي إليك عظيمٌ . . . وأنت أعظَمُ منه
فخذ بحقّك أولا . . . فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي . . . من الكرام فكنه
فرفع إلي رأسه فبدرته وقلت :
أتيت ذنباً عظيماً . . . وأنت للعفو أهل فأن عفوت فمنٌّ . . . وإن جزيت فعدل
فرق المأمون واستروحت روائح الرحمة من شمائله ثم أقبل على ابنه العباس وأخيره أبي إسحاق وجميع من حضر خاصته فقال ما ترون فيأمره فكلّهمُ أشار بقتلي إلا أنهم اختلفوا في القتلة كيف تكون فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد ما تقول يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين : إن تقتله وجدنا مثلك قتل مثله وإن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله فنكس المأمون رأسه وجعل ينكت في الأرض وأنشد متمثلا :
قومي همُ قتلوا أميمَ أخي . . . فإذا رميت يصيبني سهمي
فكشفت المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة وقلت عفا والله عني أمير المؤمنين فقال المأمون لا بأس عليك يا عم فقلت ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوه معه بعذر وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر ولكن أقول :
إن الذي خلق المكارم حازها في صُلب آدم للإمام السابع
مُلئتْ قلوبُ الناس منك مهابةً . . . وتظلُّ تكلؤهم بقلبٍ خاشع
ما إن عصيتك والغواة تمدّني . . . أسبابها إلاَّ بنيّة طائع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله . . . عفوٌ ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا . . . وحنين والدةٍ بلبٍّ جازع
فقال المأمون لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك ورددت عليك مالك وضياعك فقلت :
رددت مالي ولم تبخل عليَّ به . . . وقبل ردِّك مالي قد حقنت دمي
فلو بذلتُ دمي أبغي رضاك به . . . والمالَ حتى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريةٍ رجعت . . . إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
فإن جحدتك ما أوليتَ من كرمٍ . . . إني إلى اللؤم أولى منك بالكرمفقال المأمون : إن من الكلام دراً وهذا منه : وخلع عليه وقال يا عم إن أبا إسحق والعباس أشارا بقتلك فقلت إنهما نصحاك يا أمير المؤمنين ولكن أتيت بما أنت أهله ودفعت ما خفت بما رجوت فقال المأمون يا عم أمنت حقدي بحياة عذرك وقد عفوت عنك ولم أجرعك مرارة امتنان الشافعين ثم سجد المأمون طويلا ورفع رأسه وقال يا عم أتدري لم سجدت قلت شكراً لله تعالى الذي أظفرك بعدو دولتك فقال ما أردت هذا ولكن شكراً لله الذي ألهمني العفو عنك فحدثني الآن حديثك فشرحت له صورتة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمرأة والمولاة التي نَّمت عليَّ فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة فقال لها ما حملك على ما فعلت مع سيدك فقالت الرغبة في المال فقال لها هل لك ولد أو زوج قالت لا فأمر بضربها مائتي سوط وخلد سجنها ثم قال أحضروا الجندي وامرأته والحجام فاحضروا فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل فقال الرغبة في المال فقال المأمون أنت يجب أن تكون حجّاما ووكل به ما يلزمه الجلوس في دكان الحجام لتعلم الحجامة وأكرم زوجه وأدخلها إلى القصر وقال هذه امرأة عاقلة تصلح للمهمات ثم قال للحجام لقد ظهر من مروؤتك ما يوجب المبالغة في إكرامك وسلم إليه دار الجندي بما فيها وخلع عليه وأنعم عليه برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل في تلك النعمة إلى أن مات .منتهى الكرم
ومما يضارع ذلك أنه لما أفضت الخلفة إلى بني العباس اختفت رجال بني أمية ومهم إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك وكان إبراهيم رجلاً عالماً عاملاً أديباً كاملاً وهو في سن الشبيبة فأخذوا له أماناً من السفاح فقال له يوما حدثني عما مر بك في اختفائك قال كنت يا أمير المؤمنين مختفياً بالحيرة في منزل بشارع على الصحراء فبينما أنا على ظهر البيت إذ نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة فتخيلت أنها تريدني فخرجت من الدار متنكرا حتى أتيت الكوفة ولا أعرف أحدا أختفي عند فبقيت في حيرة فإذا أنا بباب كبير رحبته واسعة فدخلت فيها فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه فقال من أنت وما حاجتك فقلت رجل خائف على دمه وقد استجار بمنزلك فأدخلني منزله ثم صيرني في حجرة تلي حرمه وكنت عنده في ذلك على ما أحبه من مطعم ومشرب وملبس لا يسألني عن شيء من حالي إلا أنه يركب في كل يوم ركبة فقلت له يوما أراك تدمن الركوب ففيم ذلك قال إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا وقد بلغني أنه مختف فأنا أطلبه لأدرك منه ثأري فكثر والله تعجبي وقلت القدر ساقني إلى حتفي في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياةفسألت الرجل عن أسمه واسم أبيه فأخبرني فعلمت أن الخبر صحيح وأنا الذي قتلت أباه فقلت له يا هذا وجب عليّ حقك ومن حقك أن أدلك على خصمك وأقرب إليك الخطوة قال وما ذاك قلت أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك فقال إني أحسبك رجلا قد مضّه الاختفاؤ فأحببت الموت فقلت لا والله ولكن أقول لك الحق يوم كذا وذا بسبب كذا وكذا فلما علم صدقي تغيّر لونه واحمرت عيناه واطرق مليا ثم قال : أمّا أنت فستلقى أبي عند حكم عدل فيأخذ بثأره وأمّا أنا فغير مخفر ذمتي فأخرج عني فلست آمن عليك من نفسي وأعطاني ألف دينار فلم آخذها منه وانصرفت عنه فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين .
جابر عثرات الكرام
ومن لطائف ما نقلته من المستجاد حدث أبو الحسن بن صالح البلخي بمصر قال أخبرني بعض عمال شيوخنا عن شيبة بن محمد الدمشقي قال كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة ابن بشر من بني أسد مشهور بالمروءة والكرم والمواساة وكانت نعمته وافرة فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى أخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضل عليهم فواسوهحينا ثم ملوه فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها يا بنت العم قد رأيت من اخواني تغيُّرا وقد عزت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت ثم أغلق بابه عليه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائرا في حاله فكان عكرمة الفياض واليا على الجزيرة فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جري ذكر خزيمة ابن بشر فقال عكرمة ما حاله فقالوا صار في أسوأ الأحوال وقد أغلق بابه ولزم بيته فقال عكرمة الفياض وما سمي الفياض إلا للافراط في الكرم فما وجد خزيمة بن بشر مواسيا ولا مكافئا فأمسك عن ذلك فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر باسراج دابته وخرج سراً من أهله فركب ومعه غلام واحد يحمل المال ثم سار حتى وقف باب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه فخرج خزيمة فقال له أصلح بهذا شأنك فتناوله فرآه ثقيلا فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له من أنت جعلت فداك قال له ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني قال خزيمة فما أقبله أو تخبرني من أنت قال أنا جابر عثرات الكرام قال زدني قال لا : ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها أبشري فقد أتى الله بالفرج فلو كان في هذا فلوس كانت كثيرة قومي فاسرجي قالت لا سبيل إلى السراج فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير ولا يصدق