كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني
فمَنْ مُسعِدٌ لي بالبكاء وزاجرٌ ... له في خلافِ العاشقينَ عَزِيمُ
فريقانِ أَمّا من أخافُ فراحلٌ ... مُجِدٌّ وَأَمّا ذو الهوى فمقيمُ
فلمّا تَبيَّنّا الدِّيارَ كأنّها ... مَهارقُ من طول البِلى ورُسومُ
عَرَفْت برَبْع العامريَة معهداً ... وعهدي به لولا الغرامْ قديمُ
فأذكرني دهراً مضى لي بقُربه ... سَقِيٌّ ولم يُحْزَنْ عليه سَليمُ
لياليَ غُصني ناضرٌ ومؤَنَبي ... عَذِيرٌ وعيشي في الشَّباب نعيمُ
وسَلْمَى إذا ناديتُ سَلْمَى مجيبةٌ ... ولو غارَ ذو قُرْبَى لها وحَميمُ
وما روضةٌ باتت وللطَّلّ فوقَها ... عيونٌ لها بينَ الكِمامِ سُجومُ
وأضحت وأنوارُ الأَقاحِ كأَنّها ... قَسِيمةُ تَجْرٍ بالعِراق تسومُ
بأحسنَ من سَلْمَى إذا ما نظرتُها ... وقد حانَ من شمس النَّهار وُجُومُ
وَأطْيَبَ منها نفحةً إِذْ تحرَّكَتْ ... فيأتيك بالمسك الفَتِيق نسيمُ
وما نُطفةٌ من ماء مُزْن ترقرقت ... على قُنَّةٍ تصفو بها وتدومُ
قَرَعتُ بها صَهْباءَ جوَّدَ عَصْرَها ... وتعتيقَها جَوْفَ الدِّنانِ حليمُ
أتت دونَها الأَيّامُ أَما نِجارُها ... فباقٍ وَأمّا جسمُها فرَمِيمُ
ومازَجَها ماذِيُّ مسكٍ حبا له ... من الصَّحْر عَسَالُ اليدينِ عليمُ
ترى من طِعان الدَّنِّ وَهْوَ مُصَمِّم ... إليها على كِلْتا يَدَيْه كُلومُ
بأعذبَ من أَنْياب سلمى إذا بدت ... إلى الغَوْرِ أَعقابَ النُّجوم تعومُ
وإنّي وسلمى بعدَ ما طالَ هجرهُا ... وشطَّتْ بها بُزْلٌ لهنّ رَسِيمُ
كذي ظمأٍ يبدو له لَمْعُ بارقٍ ... بقيظٍ فيرجو وَدْقَهُ ويَشِيمُ
فيا قلبُ كان الجهلُ والشَّعرُ فاحمٌ ... يَطيب وأفراخُ الشَّبابِ جُثومُ
فأَما وقد شاب العِذارُ وأصبحت ... لِداتي على ما استحسنته تلومُ
فخَلِّ الهوى وارجِعْ حميداً عن الخَنا ... فإِنَّ التَّصابي بالشيُّوخ ذَميمُ
وفي الدَّهر لي عن لذَة اللهو شاغلٌ ... ومن مَضْجَع الأمرِ الوطيءِ مُقيمُ
ومن مدحها:
هُمامٌ ترى أفعالُه البِيضُ غُرّةً ... تلوحُ بوجه الدّهرِ وَهْوَ بَهِيمْ
يَرُبُّ عُلَى موروثِهِ عن جدوده ... وكم من عُلىً ليست لهن أَرُومُ
إذا ضَنَّ بالبِشر المُنِيلُ فبِشرُهُ ... بنيل العلى للمعتفينَ زعيمْ
وأنشدني له الأديب علي العبدي بالبصرة قال: سمعته ينشد في الوداع:
أُوَدّعُ منك بدرَ عُلىً منيراً ... وبحرَ نَدىً يَطُمُّ على البُحورِ
وأرحَلُ عن جَنابك لا مَلالاً ... ولا أَنّي طرِبْتُ إلى المَسِيرِ
ولكنّ الشُّقورَ بحيثُ أَمضى ... دعَتْ فأجَبتُ داعية الشُّقورِ
الأمير شهاب الملك
أبو المرجى بن الدقوقاني البصري
من ربيعة.شاعر مجيد وفاضل مفيد، جياش الخاطر فياض القريحة، حسن الأسلوب.
لقيته لما كنت بالبصرة في النيابة الوزيرية، في صفر سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، وهو كهل لكل فضيلة أهل. وشعره ممتنع سهل. وتنشأت بيني وبينه مودة. وقطع الزيارة أياماً بسبب ما تخيله من مطالبتي إياه بخراج عليه في ملاك في معاملة الوزير فخذفته عنه. ثم مدحني بقصيدة وكتب بها إلي. ثم حضر بعد ذلك وأنشدنيها:
سَلْ بِالغُوَيْرِ عن الخَلِيطِ المُنْجِدِ ... وخُذِ الحديثَ عن الغزالِ الأَغْيَدِ
واسمَحْ بدمعِك في مواطئ عِيسِهم ... كسَماح عُرْوَةَ بالدّموع وعدَدِ
واشْجُ الدِيارَ كما شَجَتْك ونُحْ بها ... نوحَ الحمامِ على الأرَاكِ بِثَهْمَدِ
راحت بهم خُوصُ الرِكاب لَواغباً ... من كلّ قَوْداءٍ وبَكْسرٍ أَقوَدِ
ما رُحْنَ إلا بالبدورِ مضيئةً ... وظِباءِ شعبةَ والغصونِ المُيَّدِ
فظَلِلْتُ بعدَهُمُ أَسير صَبابة ... حيرانَ بينَ عزيمةٍ وتجلُّدِ
متجرِّعاً غُصَصَ الكآبةِ والِهاً ... أشكو الشَّجا متشبِّثاً بالعُوَّد
لا أستلذُّ كَرىً إذا وَقَبَ الدُّجىَ ... وخَبَتْ على الهَضَابِ نارُ المَوْقِدِ
متطِلَباً سهلَ الخليقةِ ماجداً ... ثَبْتَ الدِّعامةِ كالهِزَبْرِ الأَلْبَدِ
حتّى أتاحَ لي الإلهُ بلطفه ... لُقْيا العِمادِ محمّدٍ بْنِ محمَدِ
العالمُ الحَبْرُ النَّقِيُّ من الخَنا ... الأَرْيَحِيُّ السَّيّدَ ابْنُ السَّيِّدِ
مُفتي الزَّمانِ أخو النَّدَى وخَدِينُه ... متيقَظُ الأفكار عَذْبُ الموردِ
تتكسّبُ الأعناقُ منه إفادةً ... يومَ الجِدالِ إذا احتبى في مشهدِ
كشّافُ أغطيةِ الأمورِ بحكمة ... مأخوذةٍ عن واحدٍ عن أوحدِ
متردِّدٌ في المجد مندمجُ القُوَى ... وارِي الزِّنادِ قديمُ عهدِ السُّؤددِ
نافثتُهُ فرأيتُ طوداً شامخاً ... في العلم متَّصلاً ببحر مُزبدٍ
رَيّان من ماء العلوم كأنّه ... غُصنٌ على ممطورة لم تُحصِدِ
من معشر نصَرُوا النَّبيِّ وجاهدوا ... فيه بكلّ مُثَقَّف ومُهَنَّدِ
نسبٌ إلى المجد الأَثيل رُجُوعُه ... أمسى وأعلامُ الهدى في قُعْدُدِ
بأنامِلٍ لو جَلْمَدا عَبِثَتْ به ... لَتَبَجَّسَتْ منه مِياهُ الجَلْمَدِ
يرمي بسهم العث عن عَزَماته ... غَرَضَ الخطوب السُّود غيرَ مُفَنَّدِ
ويَسُلُّ من آرائه فيما عرا ... شُعَلاً كمثل الكوكب المتوقَدِ
سمَحَ الزَّمانُ بأن أراه وذادَني ... عن أَنْ أَلُوذَ به لِياذَ المعتدي
أصبحتُ من نكَد الحوادث مطلقاً ... في حال معتقَلٍ وزِيِّ مُقَيَّدِ
لا آمناً حَتْفاً ولا متخوِّفاً ... كالوحش آنَسَ هيأةَ المتصِيّدِ
بين الغِنى طمعاً وبين خَصاصةٍ ... ومسرَّةٍ بالوعد ضِمْنَ تَوعُّدِ
هذا الَّذي قطَع الزِّيارةَ رغبةً ... جُهْدَ المُقِلِّ مع الثَّناءِ الجيّدِ
لكِنْ أواصِلُ بالدُّعاء ديانةً ... جُهْدَ المُقِلِّ مع الثَّناءِ الجيّدِ
فاسْلَمْ لتدبير الأمورِ ودُمْ لمن ... يرجوك للدُّنيا دوَامَ الفَرْقَدِ
تُهدي لك الدُّنيا جميلَ فَعالِها ... وتُجِدُّه أبداً برُغْمِ الحُسَّدِ
وأنشدني من قصيدة أولها، ونقلته من خط الوزير عون الدين، نفذها إلى بغداد، فأعيدت إلى البصرة، ورسم لي تأملها:
هل للخليطِ أَ،ْ يَفِيءَ آئبا ... وأَنْ تهُزَّ الأَيْنُقُ المراكبا
وهل يَدُ القربِ على شحط النَّوَى ... برُغْمِ دهرٍ لم يَزَلْ مُحاربا
يا نوقُ ما حَمَلْتِ يومَ بَيْنِهم ... إِلا بدوراً جانَستْ أَعارِبا
ضَمَّت بأجراعِ النَّقا قِبابُهم ... جَآذِراً واكتنفتْ رَبارِبا
كلُّ مَهاةٍ يسجُدُ البدرُ لها ... يَفْتَرُّ عمّا يَفْضَحُ الكواكبا
أفاضتِ الليلَ على مَفْرِقها ... وأرسلتْ من جُنِحْهِ ذَوائبا
تَميسُ كالبانِ أمالَتْهُ الصَّبا ... ظَلَّ له حِقْفُ النَّقا مُجاذِبا
سَفَرْنَ إصباحاً وأرسلن على ... أكتافهنَ في الضُّحى غَياهِبا
ومنها:
وا عَجَبا مَنْ ذا رأى جَآذِراً ... تكتنسُ الْفازاتِ والمَضارِبا
إذا خَشِينَ واشياً مُكاشحاً ... أو خِفْنَ في حكم الهوى مُراقبا
وإن ضَرَبْنَ موعداً لوامقٍ ... لَزِمْنَ بالأَنامِلِ التَّرائبا
أُلِينُ لفظي للحِسانِ رقّةً ... ويَنْبَرِينَ في الهوى عقاربا
ساعَدْنَ أيّامي عليَّ فانبرت ... تَسُومُني خَسْفاً وهَمّاً ناصِبا
ومن مديحها:
أسيافُهُ للحادثاتِ قُطَّعٌ ... تقُدُّ من صَرْف الرِّدَى مُضارِبا
قد جَعَلَتْ عمودَها مَشارِفاً ... تطلُعُ منها والطُّلَى مَضارِبا
أُحصي إِذا شئتُ رمالَ عالِجٍ ... عَدّاً ولا أُحصي لهم مَناقِبا
ومنها:
يا صارماً يَبْتِكُ غَرْبُ حِدّه ... حوادثَ الأزمانِ والنَّوائبا
متى أرى دهري وقد أوعدته ... قد جاءَ مرتاعاً إليَّ تائبا
ومنها:
دَعِ العِدا على مَساوِيها فقد ... أرسلت بالنُّعْمى عليَّ حاصِبا
وحِصّلِ الدُّنيا بكلّ ممكن ... فَهْيَ لِمَنْ أصبحَ فيها غالبا
ولا تُذِقْ ضِدَّك عفواً صادقاً ... فإِنّه يُظهِر وُداً كاذبا
الصارم الدكيشي
من عبد القيس، من بني مرة منها.أبو علي الحسن بن علي الملقب بالدكيشي. من أهل المشان.
كان شاعراً حادَّ الخاطر، متقد القريحة.
أنشدني علي بن إسماعيل العبدي البصري، في سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الدكيشي لنفسه من قصيدة كتبها إلى صديق له، شرب في جماعة من أصدقائه، فعربد بعضهم عند السكر، وجرى بينهم جراح. منها:
لا تبذُلَنَّ الخمرَ للأحمقِ ... فتُظهِرَ الحمقَ به إِن سُقِي
لا يحِلُ الخمرَ وسَطْواتِها ... إلا غلامٌ شائبُ المَفْرِقِ
مُكَبْرَكُ الذَّقْنِ عريضُ القَفا ... ذو هامةٍ صلعاءَ كالمِطْرَقِ
ابنُ ثمانيَ فما فوقَها ... مُحَنَّكٌ لا يشتكي ما لَقِي
إذا رأى الكفَّ تواطا لها ... تَواطِيّ البَرِّ الزَّكيِّ النَّقي
وإن تعامِلْه فنِعْمَ امْرُؤٌ ... تَصُكُّ منه صلعةَ المُشْفِقِ
لا تَذْرِفُ العينُ له دمعةً ... كمثل فعلِ الدَّرِدِ الأحمقِ
قال: وهي طويلة مضحكة، فيها وصايا وأمثال.
قال العبدي: رأيته يلعب مع بعض أشراف اليمامة، يقال له عين الشرف الخلوقي بالشطرنج، فنظم فيه بديهاً:
سمِعنا وذا خبرٌ صادقٌ ... بأنّ الخلوقيِّ عين الشَّرَفْ
ومخرجُهُ من بني هاشمٍ ... كما الأَنْفِ يخرُجُ منه النَّغَفْ
قال: وكان له زرع فقام يجمع السَّماد بنفسه فمر به الحسن بن سدي متقدم نهر عمران، فلامه على ذلك وعنفه، فأنشد ارتجالاً:
كَسادُ الدُّرَ من لفظي كساني ... ثيابَ الذُّلِّ من نَسْجِ المحيفِ
وسوءُ الحظِّ أحوجني وفقري ... وحِرْماني إلى كَنْسِ الكنيفِ
الشيخ الأديب أبو القاسم عبد الواحد بن طلحة بن محمد بن رمضان
المقرئ الشيباني
وصفه لي الأديب علي العبدي، وذكر: أنه توفي في فتنة البدو بالبصرة سنة إحدى وأربعين وخمس مئة.وكان إمام مسجد الأخوين.
وكان محدِّثاً ثقة صالحاً حسن الخلق.
وتوفي وهو شخ مسن.
يقرأ فاتحة الكتاب في الصلوات في أربعة أنفاس مجتهداً.
قال: سمعته ينشد وما كنت أعلم أنها له، حتى رأيتها بخطه بعد موته منسوبة إليه، في الغزل:
يا عاذِلي أنت غيرُ مأمونِ ... ما فيك من رحمةٍ فتُولِيني
أصبحتَ تَلْحَى ولو عَلِمْتَ بما ... يلقَى فؤادي لكنتَ تبكيني
بَرَّحَ بي حبُّ شادِنٍ غَنِجٍ ... كأنَّهُ جُؤْذَرٌ من العِينِ
سقيمُ طَرْفٍ يُدني السَّقامَ إلى ... مُهْجَة صَبٍّ بالمُرْدِ مفتونِ
أما ترى الخالَ فوقَ حاجبِهِ ... كأنّه نقطةٌ على نُونِ
قال: وله من قصيدة، يمدح أثير الملك بن إسماعيل الوزير بالبصرة أولها:
سبيلُ الهوى صعبٌ عسيرٌ ركوبُهُ ... وحبُّ المَها داءٌ عزيزٌ طببهُ
ومنها:
عجِبت لها لمّا رمتني وبينَها ... وبينيّ أَنقاءُ الحِمى وكَثيبهُ
بغُنْجِ لحاظٍ كُنَّ أُسَّ بليَّتي ... ونَبْلِ جفونٍ ما عداني مُصيبهُ
وزَهرِ غصونٍ في رياضٍ أَنيقةٍ ... ووردِ خدودٍ ما يَجِفّ رطيبهُ
ومنها:
عليَّ لذاك الرَّبْعِ نَذْرٌ مقرَّرٌ ... إذا ما دعاني الشوقُ فيه أُجِيبهُ
ويَهْمي به غَرْبُ الجُفونِ صَبابةً ... إلى ساكنيهِ حينَ خَفَّ عَرِيبهُ
هو الرَّبْعُ فاسْتَسْقِ له كلَّ واكفٍ ... يجودُ عليه قَطْرُهُ وعُبوبهُ
فجادت على ذاك المحلِّ سحائبٌ ... ثِقالٌ توالي برقُهنَّ سَكْوبُهُ
فقد كان للشَّمْل المُشَتَّتِ جامعاً ... يُجابُ مُناديه ويُؤْوَى غَريبهُ
وله:
هجوتُ بوّابك إِذْ رَدَّني ... والرَّدُّ عن مثلِك نقصانُ
يبيّن البوّابُ ما بعدَه ... كما علا الرُّفعةَ عُنوانُ
فعُدتُ كالمغبون في بيعه ... إِذَّ مَسَّهُ في البيع خُسرانُ
لو أَنَّني الأَكَارُ وافَى وفي ... صُحبتِه مَوْزٌ ورُمّان
مارَدَّني لكِنَّني شاعرٌ ... أَغرى به في الشِّعر شيطانُ
لا أصلح اللهُ لهذا الورى ... شناً فقد هانُوا وقد شانُوا
ذَبُّوا عن المال بأَعراضهم ... فكلُّهم للمال خَزّان
كم عُدْتُ في مدحِهمُ جاهلاً ... فعادَني منعٌ وحِرمانُ
قال: وله في صفات الإنسان قصيدة طويلة:
أَبى العاجزُ أَنْ يُخْبِ ... رَ مَنْ يسألُ عن علمِ
ومَنْ يكتُمُ ما يعلَ ... مُ منسوبٌ إلى الظُّلْمِ
فما الأَحْوَصُ والأَخْوَ ... صُ إن كنتَ أخافهم
وما الأَسْجَرُ والأَشْتَ ... رُ تِبياناً بلا وَهْمِ
وما الأَشْوَسُ والأَجْهَ ... رُ والأَغْصَفْ في الحكم
وما المخْطَمُ والعَرثَ ... مُ والمَرْغَمُ ذو الرَّغْم
وما الأَذْلَفُ والأَخْنَ ... سُ والأَخْشَمُ ذو الخَشْم
وما الأَرْفَشُ والأَصْمَ ... عُ من عُرْب ومن عُجْمِ
وما الأَجْلَغُ والأَبْلَ ... مُ والأَشْرَمُ ذو الجَزْمِ
وما الأَخْرَبُ والأَهْرَ ... تُ والأَثْلَمُ ذو الثَّلْمِ
وما الأَثْعَلُ والأَدْرَ ... دَ والأَهْتَمْ ذو الهَتْمِ
وما الأَشْغَى وما الأَفْلَ ... حُ والأَقْصَمُ ذو القَصْمِ
وما الأَرْجَلُ والأَبْجَ ... رُ ما في القولِ من إِثْمِ
وما الأَنْقَدُ والوَكْوَا ... كُ فاسمَعْ قولَ ذي فهمِ
وما الأَقْعَسُ والرَّضْرا ... ضُ والوكواكُ ذو العظمِ
وما الشَّوْقَبُ والصَّيْهَ ... بُ والشَّوْذَبُ ذو الاِسمِ
وما النُّعْنُعُ والأَتْلَ ... عُ والشَّعْشَعُ ذو الجسمِ
وما المحبر والمُهْتَ ... رُ والضّمضم إذْ يرمي
وما الحَوْقَلْ والحَوْكَ ... لُ والهركلُ إِذْ تُسْمِي
وما الفُلْفُلُ والخِنْذِي ... ذُ ذو الأضلاعِ واللحمِ
وما الرَّسْبُ إِذا فُسِّ ... رَ ذو الشَّفْرَةِ والخَذْمِ
وما الهَيْضَلُ إِن كنتَ ... من الهِرْماسِ في هَمِّ
وما العَسْعاسُ والأَطْلَ ... حُ ذو الوثبةِ والنَّهْمِ
وما الغَيْلَمُ والعَثْوا ... ءُ يَنْصاعانِ من حزم
جماعة من البصرة
كتبوا إلى المقرئ الشيباني وكتب إليهم
جوهر معلم الأيتام بالبصرة
كان شيخاً بهي الوجه أديباً شاعراً من الموالي.أنشدني الأديب أبو الحسن علي العبدي بالبصرة، وقال: ذكر الشيخ عبد الواحد بن طلحة الشيباني أنه كتب إليه جوهر معلم الأيتام يسأله في أبيات، في اللغز، منها:
ما اسمٌ تراه مُصَحَّفا ... ومُقَلَّباً ومؤلَّفا
وتراه بينَهما يَلُو ... حُ مُعَلَّماً ومُعَرَّفا
يا مَنْ يُجِدُّ قَريضَه ... دَعْ عنك قِدماً ما عفا
وَأبِنْ حروفَ اسمِ الّذي ... أَلِفَ القَطيعةَ والجفا
فأجاب:
ما في مقالك من خَفا ... فلقد خَلا ما قد عَفا
أخفيتَ ما أضمرتَهُ ... فعَرَفْتُه بعدَ الخَفا
وتراه هاروتَ الّذي ... قلَبت منه الأَحْرُفا
أو لا فبينَهما هِشا ... مُ جعَلْتَ ذاك مؤلَّفا
لا شكَّ فيما قلته ... فأَبِنْ وكُنْ لي مُنصِفا
اسم الّذي ترَكَ الفؤا ... دَ من الصَّبابةِ مشغفا
كالبدر إلا أَنَّه ... يَحكي القَضيبَ تعطُّفا
فله من الرِّئم اللحا ... ظُ ونم مَلاحته الصَّفا
يَبْرِي لقلبك طَرْفُهُ ... باللَحْظِ سيفاً مُرْهَفا
وبدا يعرِّضُ بالوِصا ... ل ومالَ يُعْرِضُ بالجَفا
فعَلامَ يعذُلُني الحسو ... دُ وما بحالي من خَفا
الطَّرْفُ منّي للسُّها ... دِ ووَددت أن لا يَطْرِفا
والقلبُ منّي للهوى ... أمسى أسيراً مُدْنَفا
وحروفُه معروفةٌ ... فيها تراه مُعَرَّفا
ظَهَرتْ فمَنْ هذا الَّذي ... ترَكَ الفؤادَ على شَفا
وللشيخ جوهر إليه، يعني حضر موت:
يا صاحِ ما اسمُ مدينةٍ ... تفسيرُ أوّلِها حرام
وبقيَّةُ الاِسمِ الَّذي ... تُسْمَى به فهو الحِمام
أبو منصور بن المدهوني
ذكر الأديب علي العبدي البصري: أنه كتب أبو منصور بن المدهوني إلى الشيخ أبي القاسم عبد الواحد، بن المقرئ في جواب شيء، على روي التاء، وأول الأبيات تاء كذلك:تِهْ في الجمالِ فطَرْفي فيك مبهوتُ ... والقلبُ في سَوْرَة الهِجران مفتوتُ
تأمَّلِ الدَّمْعَ من جَفْنَيَّ منسكباً ... كأنَّه فَصْلُ مَرْجانٍ وياقوتُ
تُميتُني بجْفونٍ منك فاترةٍ ... أحلَّها السِّحرَ هارَوتٌ ومارُوتُ
تنامُ عن ساهر الأجفان ذي مِقَةٍ ... خَلَّفْتَه وهو بالإِبعاد مبتوتُ
تباعُدٌ أشمتَ الواشي فُدِيتَ ولو ... أحييتَ بالوصل أضحى وَهْوَ مكبوتُ
تُدْني العَذُولَ وتُقصيني لتقتُلَني ... هل يستوي لك محبوبٌ وممقوتُ
تظُنُّني لا أُطيقُ الصَّبرَ عنك ولي ... حُسنى أبي القاسمِ العَّلامِ تثبيتُ
تَلَذُّه منه أبياتٌ تضمَّنَها ... ذكرُ المُهَلَّب في الأبيات مثبوتُ
تبيّنِ الشِّعرَ يا مَنْ لا ينافِسُهُ ... في النَّثْر والنَّظْم إسحاقٌ وسِكَيتُ
ترى بها مُضْمَراً من أربعٍ عَزَبَتْ ... عنّي وتعرِفُها الجنُّ العفاريتُ
فأجاب:
تَمَّتْ محاسنُها والصَّوتُ والصِّيتُ ... فالحُسنُ من وجهها بالحُسن مبهوتُ
تكاملت في معانيها وزَيَّنها ... قَدٌّ بحُسنِ قَوامِ البانِ منعوتُ
تاهت بدَلّ وثَغْرٍ زانه شَنَبٌ ... رُضَابُه الخمرُ بالهِنديّ ملتوتُ
تشاركت مُقْلَتا رِئْمٍ ومُقْلَتُها ... لَحْظاً فمنها رَهِينُ الشَّوْقِ مكبوتُ
تنام عنّي وعيني ما تذوقُ كَرىً ... فقد تبايَنَ سهرانٌ ومسبوتُ
تُبدي الصُّدودَ وأُبدي الوصلَ مجتهداً ... ضِدّانِ في الحكم محبوبٌ وممقوتُ
تسابقت من كِلا الجَفْنَيْن واكفةً ... على الخدود فَسبّاقٌ وسُكَّيْتُ
تواصلَ الدَّمعُ من عيني يُواصِلُني ... من بعدِها فله رِفقٌ وتثبيتُ
تفاؤُلٌ في غَداةِ البَيْنِ خَبَّرَني ... بالطّير حيثُ لها نَوْحٌ وتصويتُ
تبيّنَتْ لي حروفُ اسمٍ ذكرتَ لنا ... وجعفرٌ هو فيما قلتُ مثبوتُ
س فيه اسم أنت تخرجه ... اسم تحاذُرُهُ الجِنُّ العفاريتُ
أبو الحسن علي بن محمد القمائحي
قال الأديب علي العبدي البصري:رأيت بخط الشيخ أبي القاسم عبد الواحد بن طلحة المقرئ: كان الشيخ أبو الحسن علي بن محمد القمائحي ابتدأنا، ثم قاطعنا، فبدأناه إلى المعاودة بهذه الأبيات:
تُذاكِرُ أم تُراسِلُ أم تُحاجي ... ففي هذا وهذا بعضُ حاجي
لقد غضِبتْ لك الآدابُ لمّا ... تركتَ الشّعر مختلطَ المِزاجِ
فَتَحْتَ عليك منه رِتاجَ بيتٍ ... فلما أَنْ بدا ضوءُ السِّراج
تركتَ به قلائدَ مُثْمَناتٍ ... لِنَحْرِ خرائدٍ ولِسِحْرِ ساجِ
لغيرك نافعات مطربات ... وتصلُحُ للرُّواة وللمُحاجِي
فَعُدْ كيما تَقَمَّمَ ما تبَقَّى ... ودَعْ ما لا يُفيدُك من لَجاجِ
فما أُنثى لغيرِ أبٍ وأُمٍّ ... تُعِيرُك جسمَها والليلُ داجِ
لها ولدٌ يعودُ لها جَنِيناً ... له طَرْفٌ بغُنْجٍ وابتهاجِ
وليست من ذوات الرِّيح تسعى ... ولا هيَ من نُحاسٍ أو زُجاجِ
لها وجهٌ وفوقَ الوجهِ رأسٌ ... تُرَى فيه الأَهِلَّةَ في الدَّياجي
قال: ورأيت بخطه للقمائحي غليه، عقيب نثر أبياتاً أولها وآخرها جيم:
جِدالُك في القَريض أفادَ فضلاً ... فهيَّجَ مه بَلْبالي مُهِيجُ
جَلَيْتَ ليَ البراعةَ بعدَ هُزْءِ ... فجاءت بعدَ ما امتنعتْ تموجُ
جمالُ الفضل فيها غيرُ خافٍ ... بديعُ الحسنِ رائقُهُ بَهِيجُ
جعلت بها لك المِنَنَ اللواتي ... تَرادَفُ كلَّما حَجَّ الحَجِيجُ
جُمانات بها نُظِمَتْ عقودٌ ... تُقِرُّ لها الثَّواقبُ والبُروجُ
جَفَيْتَ عَرارَها جهلاً فقلبي ... جَريحٌ حيثُما دامت ضَرِيجُ
جهِلت بتركها فأفَدْتَنِيها ... بقِيتَ ودُمْتَ ما حَدِبَتْ حُدوجُ
جميعُ النّاسِ قد عَلِموُا بأَنِّي ... جَنَحْتُ بها إِذِ اتَّسَع الخَليجُ
جَبُنْت وأنت إِذْ تسطو هِزَبْرٌ ... به تزهو المَذاكِي والسُّرُوجُ
جَحيمُك في البَسالة ليس يُطْفَا ... وتنتصرُ الظُّبَا بك والوَشِيجُ
تمت الجيمية.
الشيخ الأديب أبو العز
محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن المظفر بن أبي الدنيا القرشي الصوفي
قال علي العبدي: إنه كان محدثاً عدلاً أديباً يسكن المشان. وهو بصري. كان أبوه محتسب البصرة، وهو من عدول القضاة بالمشان. شاعر أديب حسن الشعر.توفي في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.
قال: وأنشدني لنفسه من قصيدة طويلة:
ما بالُ قلبي زائداً عُرامُهُ ... ودمعُ عيني هاطِلاً سِجامُهُ
وذلك الجمرُ الَّذي خَلَّفْتُمُ ... على الحشا ما ينطفي ضِرامُهُ
يا ناعِمينَ بالرُّقادِ عِيشةً ... عنديَ طَرْفٌ خانَهُ مَنامُهُ
ما أطيبَ الليلَ الطَّويلَ واللِقا ... لولا انفجارُ الصُّبحِ وابتسامُهُ
إِنّ الكَرى بشَّرَني بوصلكم ... نِعْمَ الكَرى لو صَدَقَتْ أحلامُهُ
ولست أدري والَّذي سَنَّ الهوى ... سِهامُكم أقتَلُ أم سِهامُهُ
جنون البصري
كان شاعراً مجيداً.وله قصيدة طويلة سائرة، يهجو فيها جماعة. منها، ما أنشدني نجيب الدين منصور العباسي وغير واحد من أهل البصرة عنه، فمن ذلك في بغاء وهو أحسن ما سمع:
يأتي ويُؤْتَى فَهْوَ عَلْقٌ لائطٌ ... ذَكَرٌ وأُنثى صارِمٌ وقِرابُهُ
بينا تراهُ طاعناً بقَناتِهِ ... حتّى تراه والقَنا تنتابُهُ
أَبَداً بإِصْبَعِيه يُعَوْقِس ... ... ومتى رأى ... يسيلُ لْعابُهُ
وله في بعض العدول:
هو شاهدٌ قد غاب عنه رُشدُهُ ... تَيْسٌ وطالِبُ رِفْدِهِ جَلابُهُ
وبني ثوابٍ لو صَفَعْتَ كبيرَهُمْ ... بالنَّعْل أَلفاً لم يَنَلْكَ عِقابُهُ
المفرج بن روح
من البصرة.قرأت في مذيل السمعاني:
أنشدني عبد الوهاب الأنصاري البصري قال: أنشدني أبو روح المفرج المقرئ بالبصرة لنفسه:
وكنتُ إِذا حُدِّثتُ يوماً بفُرقة ... تغصَّصْتُ بالماء الّذي أنا شاربُهْ
فما بالُني أقوى على البُعدِ والنَّوىَ ... يُحارِبُني وَسْواسُهُ وُأحاربُهْ
قال: وأنشد له أيضاً:
إذا اختلجت عيني رأتْ من تُحِبُّهُ ... فدامَ لعيني ما حَيِيتُ اختلاجُها
وإن خَرَجتْ نفسٌ لتوديع إِلْفِها ... فتلك به يومَ اللقاءِ ابتهاجُها
قال: وأنشدني لنفسه أيضاً:
وحُرمةِ ما حُمِّلْتُ من ثِقْلِ حِبّكم ... وأشرفُ محلوفٍ به حُرمةً الحُبِّ
لأَنتم وإِنْ ضَنَّ الزَّمان بقربكم ... أَحَبُّ إلى قلبي من البارد العَذْبِ
جماعة من البصرة قصدوني بمدح الفضل بن حمد بن سلمان
وزير فلك الدين بدر بن معقل الأسدي
هو الفضل حقيقة اسماً ومُسمى.رأيته بالزكية مع معقل بن بدر بن معقل وله بها أملاك.
وناب عن الوالي بالبصرة.
فضله وافر، وبحر خاطره زاخر، ورياض فضائله بنوارها مؤنقة، وشموس مناقبه بأنوارها مشرقة.
شيخ بهي المنظر، حسن المخبر، شهي المفاكهة، ظريف المحاضرة، أمين المشاورة، كهل الرأي، شاب الروية، متطرف من الآداب، شاعر مع الشعراء كاتب مع الكتاب.
لما وردت البصرة في نيابة الوزير في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وخمس مئة، كتب إلي:
بقُربك أيُّها النَّدْبُ الجَوادُ ... أضاءَت بعدَ ظُلمتِها البِلادُ
في أبيات منها:
جمعتَ حِجا وفضلَ نُهىًورأياًبه في الخَطْب يُسْتَوْرَى الزِّنادُ
رعاك اللهُ من والٍ مُطاعٍ ... أمين الجيبِ يقدُمُه الرَّشادُ
كرمُ الخِيمِ محمودُ السَّجايا ... له في كلِّ صالحةٍ مَعادُ
بَلا منه الوزيرُ على التَّداني ... صفاءً لا يكدِّرُه البِعادُ
ونصحاً في الأمور وصدقَ عزم ... ورأياً بات يعضُدُه السَّدادُ
وكتب إلي أيضاً في أبيات يسأل إجراء رسمه في أملاكه، ويشكو بعض عمالهم:
يا ماجداً أحسنتُ ظنّي به ... فلم يَخِبْ ظنّي ولا زَعْمي
مقتفياً آثارَ آبائهِ ... والفرعُ قد يَنْمي إلى الجِذْمِ
إِنَّ عزيزَ الدّينِ من معشر ... تعلو مَعاليهِمْ إلى النَّجْمِ
مَقاوِلٌ يقصُرُ عن وصفهم ... قولي ولا يبلُغُه نظمي
ومنها:
لولاك أَضحى مالُ ديوانِها ... وجُودُه يُفضي إلى عُدْمِ
وفعلُك الخيرَ دليلٌ على ... أَنَّك خيرُ العُرْبِ والعُجْمِ
ومنها:
إِنّ ابْنَ إِسماعيلَ هذا الَّذي ... أسرفَ في العُدوانِ والإِثمِ
لم يَتَّقِ اللهَ ولم يَخْشَهُ ... ولم يَخَفْ عاقبةَ الجُرْمِ
كم كبِدٍ حَرَّى تشكَى الظَّما ... ومُقلةٍ عَبْرَى من الغَشْمِ
وكم ضعيفِ الحالِ ذي عَيْلَةٍ ... في القُرّ يعدو عاريَ الجسمِ
يَخالُ مَنْ أبصره أَنَّهُ ... خِلالةٌ من شِدَّة السُّقْمِ
ومنها:
فانْعَمْ بما تَهْوَى وَأنْعِمْ بِتَوْ ... قِيعٍ بإِجرائي على الرَّسْمِ
وليس توقيعك ذا عائداً ... بنقصِ مالٍ لا ولا ثَلْمِ
والمالُ قد أَصبحَ في ذِمَّةٍ ... وأنت أهلُ الحمدِ لا الذَّمِّ
يَعني: في ذِمة ضامن المعاملة.
وكنت بالزكية، فانحدرت في الشبارة، فصدمتها نخلة في الماء فانقلبت وانكسرت، ومن الله بالسلامة من الغرق، في أواخر محرم سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، فكتب إلي:
ألا إِنّ دجلةَ لمّا رأت ... نَدَى كفِّك الغَمْرَ ما تفعَلُ
تطاوَلَ حتّى طغى ماؤُها ... وطَوْلُك من سَيْبِهِ أطولُ
وهمَّتْ بتقبيلِ كفٍّ بها ... تُنالُ السَّعادةُ لو تُقْبِلُ
وأعجلَها شوقُها والحَنِي ... نُ والشَّوقُ أسبابُه تُعْجَلُ
ففاضتْ إلى أَنْ دنت من نداك ... وأخجلَها فانثنتْ تَرْفُلُ
وغاضتْ حياءً من العائبينَ ... وممَّنْ يُفَنِّدُ أو يعذُلُ
ولا غَرْوَ إن كان مركوبُهُ ... يغُوصُ وراكبُه جَدْوَلُ
ومِن تحتِه زاخرٌ مائرٌ ... ومِن فوقهِ عارضٌ مُسْبِلُ
بل البحرُ والبحرُ من جوده ... وفيض السَّحاب إذا يَهْطِلُ
كبا كِبْوَةَ الطِّرْفِ في سيرِه ... فأنقذَهُ جَدُّك المُقبِلُ
لَعَمْرُك إِنّك يا ابنَ الصَّفِ ... يِّ لَغيثٌ يَلْوذُ به المُرْمِلُ
وبحرُ نَدىً وِرْدُهُ سائغٌ ... فُراتٌ إذا كدِّرَ المَنْهَلُ
فلا زالَ جَدُّك يعلو الجُدو ... دَ سعداً وجَدُّ العِدا يسفُلُ
وكتب إلي وقد حبسه الغيث عن زيارتي:
لقد حَبَس الغيثُ عن ماجد ... يَقِرُّ بمنظره النّاظرُ
يُميتُ الغُمومَ ويُحيي السُّرورَ ... ويَنْعَمُ في قربه الخاطرُ
كريمُ الخِلال جميلُ الفِعَا ... لِ إحسانُه للورى غامرُ
ومنها:
وما روضةٌ جادَها واكفٌ ... سرى مثلها جادَنِي باكرُ
بها النُّوْرُ يحكي نجومَ السَّما ... ءِ والنَّجْمُ فيْ أفْقِه زاهرُ
يَضُوعُ كما ضاعَ نَشْرُ العبيرِ ... سُحَيْراً إِذا فَضَّهُ التَاجِرُ
وجاءت بِرَيّاهُ ريحُ الصَّبا ... ولم يَطْوِ منشورَها ناشرُ
بأطيبَ عَرْفاً ولا نفحةً ... إذا رامَ ذِكرَكُمُ ذاكرُ
رأيتُ العزيزَ أعزَّ الأَنا ... مِ جاراً إِذا أقسطَ الجائرُ
وأطولَهم مفخراً في العلى ... يقصِّرُ عن شَأْوِه الفاخرُ
وينقُصُ أموالَه المُعْتَفُو ... نَ والعِرضُ من كرمٍ وافرُ
يَمِينُ الملوكِ ومَنْ وجهُهُ ... لِساري الدُّجَى قمرٌ زاهرُ
وَأنواءُ راحتِه نُجْعَةٌ ... إذا أخلفَ الشَائمَ الماطرُ
فكتبت جوابه، من أبيات:
لَئِنْ مَنَع الغيثُ عن زورة ... فغيثُ فضائلِه زائرُ
وما غابَ مَنْ شخصُ آلائِه ... إذا غابَ عنه منظري حاضرُ
بِدُرِّك فُزْتُ وهل فائزٌ ... بِدُرِّك في صفقةٍ خاسرُ
ومنها:
وما روضةٌ أنفٌ نَوْرُها ... لناظر ذي طربٍ ناضرُ
بَنَفْسَجُها عارضٌ مُغْزِرٌ ... ونَرْجِسُها ناظرٌ ساحرُ
فثغرُ الأَقاحي بها باسِمٌ ... ووجهُ الأماني لها ناشرُ
كأنَّ سَقِيطَ النَّدَى بينَها ... لآليءُ ينثُرُها ناثرُ
بأحسنَ من روضِ أشعارِه ... وقد جادَها فضلُه الماطرُ
تَقِرُّ بقُربِك لا بل يَقِرًّ ... بِرؤيتِك القلبُ والنّاظرُ
وكتب إلي وقد تأخر جواب بعض رقاعه:
جوابُ الكتاب كردّ السّلا ... مِ حَقٌّ ففيمَ مَنَعْتَ الجوابا
وأنت فَتىً ماجدٌ مُفْضِلٌ ... يُنيلُ الأَماني ويُدْني الطِّلابا
ويُحسِنُ إمّا أَساءَ الرِّجا ... لُ صُنعاً وإِنْ يُدْعَ يوماً أَجابا
وإِنْ عدَّدَ القومُ أحسابَهم ... وَجَدْناه أكرمَ قومٍ نِصابا
وأوفاهُمُ ذِمَّةً في الورى ... وأعلاهُمُ مَفْخَراً وانتسابا
وأنشدني لنفسه:
لك جودٌ به يَصِحُّ المريضُ الْ ... جِسمِ لا تَمْرَضُ الجُسومُ الصِّحاحُ
ولَئِنْ أخلفتْ ظنوني الليالي ... وتعَدَّى فسادَ أمري الصَّلاحُ
فلَكَمْ واردٍ يَغَصُّ بما يَهْ ... وَى من الماء وهو عَذْبٌ قَراحُ
وله من قصيدة كتبها إلي يلتمس شيئاً من شعري:
لقد رَحَلَ القلبُ فيمن رَحَلْ ... وغادرَ جسمي رَهِينَ الخَبَلْ
وكان خَلِيّاً من الإِكتئابِ ... فأضحى له بهَواهُمْ شُغُلْ
ولو عِلمَ الرَّكْبُ ماذا جَنَوْا ... عليه عَشِيَةَ شَدُّوا الرّحلْ
أقاموا قليلاً ولم يُزْمِعُوا ... رحيلاً له يومَ سارُ واعَجَلْ
وما أنا صَبٌّ برسم الدِّيا ... رِ أندُبُ أَرْبُعَها والطَّلَلْ
أَسائِلُها بعدَ سُكّانِها ... وقد خَبَرَتنا وإِنْ لم تَسَلْ
وأُطْلِقُ فيها عِقالَ الدّموعِ ... وَأحبِسُ في دِمْنَتَيْها الإِبلْ
ومُذْ عرَضَ البِيضُ في مَفرِقي ... نأى البِيضُ عنّي وبانَ الغَزَلْ
وعِفْتُ الغَرامَ وشُربَ المُدامِ ... وعَلِّي بكاساتها والنَّهَلْ
وما كنتُ لولا يَمينُ الملو ... كِ مجدُ الكُفاةِ عزيزُ الدُّوَلْ
أَحِنُّ إلى شاحطٍ أو أَهِيمُ ... بمُنْتَزِحِ الدّارِ نائي المَحَلّْ
يهونُ المَلامُ على حبّه ... ويصغُرُ فيه كبيرُ العَذَلْ
أقولُ فأثنِي على فضله ... وإِنّي لَمُثْنٍ وإِنْ لم أَقُلْ
صحائفُ نظمِك ذاك الَّذي ... كَنَوْرِ الرِّياض ووَشْيِ الحُلَلْ
ونظمِ العقودِ ووَشْيِ البُرودِ ... ووَرْدِ الخدودِ وسحرِ المُقَلْ
كلامُك سحرٌ ولكِنَّهُ ... حلالٌ وما كلُّ سحرٍ يَحِلّْ
وكم عاطلٍ قلَّدَتهُ يداك ... أَياديَ زَيَّنَّ ذاك العَطَلْ
وكم لك من بنتِ فكرٍ تُصانُ ... عن النّاظِرِين فلا تُبْتَذَلْ
وأخفيتها خوفَ عين الحسودِ ... إذا ذاقَ معنى جمالٍ وَجِلْ
إِذا بَرَزَتْ نَفَثتْ في العُقُو ... دِ سحراً بعَقْد الرُّقَى لا يُحَلّْ
وسارت كما سارَ في الخافِقَيْ ... نِ فضلُك في سهلها والجبَلْ
من العاقلاتِ عقولَ الرِّجا ... لِ والنّاشطاتِ عِقالَ الجَذَلْ
فتلك الّتي هام فكري بها ... وقلبي بها أبداً مشتِغلْ
وكم ليلةٍ بِتُّها ساهراً ... أُراعي بها النَّجمَ حتى أفَلْ
وقد طال ليليَ شوقاً إليك ... ولولا الهوى والنَّوى لم يَطُلْ
أُسَوِّفُ.
///الأديب الغزي أبو إسحق إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي ثم الأشهبي المعروف ب
الغزي.
مولده غزة الشام، وانتقل إلى العراق وإلى خراسان وأصفهان وكرمان وفارس وخوزستان، وطال عمره، وراج سعر شعره، وماج بحر فكره، وأتى بكل معنى مخترع، ونظم مبتدع، وحكمة محكمة النسج، وفقرة واضحة النهج، وكلام أحلى من منطق الحسناء، وأعلى من منطقة الجوزاء. فكم له من قصائد كالفرائد، وقلائد كعقود الخرائد، وغرر حسان، ودرر وجمان.وله في خطبة ألف بيت جمعها من شعره يصف بها حاله نثراً، ويذكر فضيلة الشعر، ويقول: إن الشعر زبدة الأدب وميدان العرب، كانوا في جاهليتهم يعظمونه تعظيم الشرائع، ويعدونه من أعلى الذرائع. وجاء الإسلام فأجراه على الرسم المعهود في قطع لسان قائله بالجود. وإذا طالعت الأخبار، وصح عندك ما فاض من إحسان النبي صلى الله عليه وسلم على حسان، وثابت بن قيس، وخلعه البردة على كعب بن زهير، واهتزازه للشعر الفصيح، وقوله: إن من الشعر لحكماً علمت أن إكرام الشعراء سنة ألغاها الناس لعمى البصائر، وتركيب الشح في الطباع. وقد كنت في عنفوان الصبا، ألم بخزامى الربا، وأنظمه في غرض يستدعيه، لأذن تعيه، فلما دفعت إلى مضايق الغربة جعلته وسيلة تستحلب أخلاف الشيم، وتستخرج درر الأفعال من أصداف الهمم، حتى إذا خلا من راغب في منقبه تحمد، ومأثرة تخلد، وثبت من الانزواء على فريسة لا يزاحمني فيها أسد، ولا يرضى بها أحد. على أن من سالمه الزمان، أجناه ثمر الإحسان، ومن ساعدته الأيام، أعثرته على الكرام..
هذا يقوله الغزي وفي الكرام بقية، والأعراض من اللؤم نقية، وقد ظفر بحاجته من الممدوحين: كعمي العزيز بأصفهان، والصاحب مكرم بكرمان، والقاضي عماد الدين طاهر بشيراز، الذي أمن بجوده طارق الإعواز، وكانت جائزته للغزي وللقاضي الأرجاني وللسيد أبي الرضا وأمثالهم المعتبرين، لكل واحد ألف دينار أحمر على قصيدة واحدة. فما أقول أناف ي زماننا هذا، وقد عدمنا فيه من يفهم، فضلاً عمن ينعم. ولقد صدق الغزي في قوله:
قالوا: هجرتَ الشعر، قلتُ: ضرورةً ... باب الدواعي والبواعث مُغْلَقُ
خَلَتِ الديار فلا كريمٌ يُرتَجى ... منه النوال، ولا مليح يُعْشَق
ومن العجائب أنه لا يُشترى ... ويُخان فيه، مع الكساد، ويُسرق
الغزي حسن المغزى، وما يعز من المعاني الغر معنى إلا يعزى، يعنى بالمعنى ويحكم منه المبنى، ويودعه اللفظ إيداع الدر الصدف، والبدر السدف. فمن أفراد أبياته التي علت بها راياته، وبهرت آياته، ولم تملل منها غاياته، قوله:
مدحتُ الورى قبله كاذباً ... وما صدق الصبح حتى كَذَب
وقوله:
إذا قلّ عقل المرء قَلَّتْ همومه ... ومن لم يكن ذا مُقلةٍ كيف يرمَد
وقوله:
فقد تُصْقَل الضَّبّاتُ وهي كليلةٌ ... ويصدأ حَدُّ السيف وهو مُهَنَّد
وقوله:
تسمَّى بأسماء الشهور، فكَفُّه ... جُمادى، وما ضمّت عليه المحرّم
وردده في معرض أحسن منه، فقال:
أنت جُمادى إذا سُئلت ندىً ... ويوم تُدْعى إلى العلى رجبُ
وقوله:
لعلّ هدوءاً في التقلقل كامنٌ ... لأجل سكون الطفل حُرّكَ مَهْده
أعاد هذا المعنى في قصيدة أخرى:
سُكونٌ بِهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سكَّن الأطفالَ هزُّ مُهودها
وقوله:
والناسُ أهدى في القبيح من القَطا ... وأضلُّ في الحُسنى من الغِربان
وهذه وأمثالها كثيرة في شعره، منيرة في تباشير فجره.
وقوله أيضاً في الشمع:
إني لأشكو خطوباً لا أُعيّنها ... ليبرأَ الناس من لومي ومن عَذَلي
كالشمع يبكي ولا يُدْرى أَعبرتُه ... من صحبة النار أم من فُرقة العسل
روى بعضهم من حُرقة النار أو من فرقة العسل محافظة على التجنيس اللفظي، وأنا أرويه صحبة النار للتطبيق المعنوي. وسمعت أكثر أشعاره من جماعة من الفضلاء كابن كاهويه وابن فضلويه وسيدنا عبد الرحيم بن الأخوة وغيرهم.
ومن جملة قصائده قصيدته التي أجاز بها المعري في كلمته:
هاتِ الحديث عن الزَّوْراء أوْ هِيتا ... وموقِدِ النار لا تكرى بِتَكْريتا
وقصيدة الغزي:
أَمِطْ عن الدُّرَرِ الزُّهر اليواقيتا ... واجعلْ لحجّ تلاقينا مواقيتا
فثغرُك اللؤلؤ المبيضّ لا الحجر ال ... مُسْودّ، لاثمه يطوي السَّباريتا
واللثم يُجْحف بالملثوم كرّته ... حاشا ثناياك من وَصْمٍ وَحُوشيتا
قابلتَ بالشَّنَب الأجفانَ مُبتسماً ... فطاح عن ناظريْك السحرُ منكوتا
فكان فوك اليدَ البيضاء جآء بها ... موسى، وجفناك هاروتاً وماروتا
جمعتَ ضدَّين كان الجمع بينهما ... لكلّ جمعٍ من الألباب تَشْتيتا
جسماً من الماء مشروباً بأعيننا ... يَضُمُّ قلباً من الأصلاد منحوتا
مِسْكاً حسبتُ فؤاداً صار فيك دماً ... فلا يغادَر مَسْحوقاً ومَفْتوتا
لو كان كلُّ دمٍ مِسْكاً لصاك بنا ... ما يخضِب السمرَ والبيض المصاليتا
كِباءُ ذكرك أذكى الطيبِ رائحةً ... سنا مُحَيّاكَ ردّ البدر مبهوتا
فَضَحْت بالجَيَدِ الغِزلان مُلْتفِتاً ... ولم تكن عن صِيال الأُسد مَلْفوتا
فهُنّ ينفِرن من خوف ومن وَجَلٍ ... لبعضهن ويسكنّ الأماريتا
عَذَرْتُ طيفك في هجري وقلتُ له ... لو اهتديت سبيلاً في الكرى جيتا
أنّى، ودونك من سمر القنا أَجَمٌ ... مَرَّ الشجاع بها فانصاع مسؤوتا
ومنها في وصف الترك وما سُبق إلى هذا المعنى:
وفتيةٍ من كُماة الترك ما تركت ... للرعد كبّاتهم صَوْتاً ولا صِيتا
قومٌ إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
مُدّت إلى النهب أيديهم وأعينهم ... فزادهم قلق الأحداق تثبيتا
بدار قارون لو مرّوا على عجلٍ ... لبات من فاقةٍ لا يملك القوتا
بالحرص فَوَّتني دهري فوائده ... وكلما زدت حرصاً زاد تفويتا
حبلُ المنى مثل حبل الشمس، متصلاً ... يُرى، وإن كان عند اللمس مبتوتا
فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدني ... فإنّ في لَيْتَ أَوْماً يقطع اللِيتا
وشاوِرِ السيف فيما أنت مُزْمعُه ... فالله نبّت منه العز تنبيتا
واحرّ قلباه من قوم سواسية ... لما دَعَوْني سُكَيْتاً ظِلْتُ سِكّيتا
والجهل لو كان عوداً يجتني ثمراً ... للعندليب لأمسى فوقه حوتا
دنيا اللئيم يدٌ في كفها بَرَصٌ ... وكل من لمسته صار ممقوتا
كُفْرٌ رجاؤك مَنْ لا فهمَ يَصْحَبُه ... كان الغبيّ لمن يرجوه طاغوتا
ما سامعٌ بيتَ شعرٍ ليس يفهمه ... إلا كطارق بَيْتٍ ما حوى بيتا
لا تفخرنّ بما جاد الزمان به ... ما كلّ من جاب مَرْتاً كان خِرّيتا
كم من بكور إلى إحراز مَنْقَبَةْ ... جَعَلْتَه لعُطاسِ الفجر تسميتا
بعزمة لو غدا كيوان حاسدها ... لبات في الفلك العلوي مكبوتا
يا خاطراً موته بالأمس أخرسني ... أُنْطِقْتَ بالحاجب الكافي وأُحييتا
أغناك عن كل مِنطيق، ولا عجب ... وُرُودُك البحرَ ينسيك الهراميتا
سلمان، سُلِّم، من عَزّت مطالبه ... بُعداً فخاف من الأعداء تبكيتا
مَنْ زيّن الوزراء الشُّمَّ مجتبياً ... وشرّف الرؤساء الغرّ منعوتا
في العلم والجسم لا تخفى زيادته ... فهل أعادت لنا الأيامُ طالوتا
أقلامه الشَمَع المرغوب فيه ضُحىً ... ما صافحتْ نارُه زَنْداً وكبريتا
أما ترى أن قطّ الرأس أصلحها ... فزاد جِرْمُ سناها بعد ما ليتا
وحسبها من ضياء نسجُها حُلَلاً ... من منطق لم يكن بالهُجْر مسحوتا
عبارة كزَليخا بهجةً، لقيت ... خطَّا كيوسف إذ قالت له هِيتا
كن يا أبا الفتح مفتاح النجاح لنا ... وصارماً في خطوب الدهر إصليتا
يا مَنْ هو البحر جوداً والأَضا نسباً ... جُدْلي بما شئت قد أدركت ما شيتا
وله من قصيدة في مدح الصاحب مكرم بكرمان وقد قصد التجنيس في أوله:
وُرود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشَمُّ تراب الربع يَشْفي الترائبا
إذا شِمتَ من برق العقيق عقيقةً ... فلا تنتجع دون الجفون سحائبا
منازل أُنسٍ من رَبائب مازنٍ ... ألثَّ رَبابُ المزن فيهنّ ساكبا
ومرّتْ عليها البيضً والسود برهةً ... فَبّدَّلْنَها بالبيض أسودَ ناعبا
تفرّد واجتاب السواد فخلتُه ... من الزُّهد فيما يجمع الشمل، راهبا
حملنا من الأيام ما لا نُطيقه ... كما حمل العظمُ الكسيرُ العصائبا
وليلٍ رجونا أن يَدِبَّ عِذارُه ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
فلا تحمَدِ الأيام فيما تفيده ... فما كان منها كاسياً كان سالبا
ومنها في صفة العيس:
وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريمٍ ... إذا قتل الفَجُّ العميق المطالبا
يُرَقِّصهنَّ الآلُ إمّا طوافياً ... تراهُنَّ في آذيَهٍ أو رواسبا
سوابح كالنينان تحسب أنني ... مسخت المطايا إذ مسحت السباسبا
تَنَسَّمْن من كِرمان عَرْفاً عَرَفْنَه ... فهنّ يلاعِبْن المِراح لواغبا
ومنها:
إلى ماجدٍ لم يقبل المجدَ وارثاً ... ولكن سعى حتّى حوى المجد كاسبا
كأنَا بضوء البِشْر فوق جبينه ... نَرى دونه من حاجب الشمس حاجبا
تُصيخُ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتبا
ولم أر ليثاً خادراً قبل مُكرَم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا
ولو لم يكن لَيْثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا
فكم قَطَّ رأساً ذا ذوائب، قَطُّهُ ... لهنّ رؤوساً ما حملن ذوائبا
إذا زانَ قوماً بالمناقب واصفٌ ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا
له الشِّيَمُ الشُمُّ التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا
ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظةٍ منه، كاعبا
تناول أُولاها وما مدَ ساعداً ... وأحرز أُخراها وما قام واثبا
وما دافِعُ القوسِ الشديدةِ مَنْزعاً ... برامٍ، ولكن مُخْرِجُ السهم صائبا
غزير الندى، لولا ينابيع سَيبِه ... لأصبح ماء الفضل في الناس ناضبا
عَريتُ من الآمال عِزاً وثروةً ... وكنتُ إلى ثوب المطامع ثائبا
بكفٍ ترى فيْض الندى من بنانها ... على كلِّ مَنْ تحت السماوات واجبا
عوارف من إحسان مذ عرفتها ... نوائب عني يوم أخشى النوائب
ومن حسنات الواردِ البحر أنه ... يرى مُذْنِباً من لا يَعاف المَذَانبا
ومنها:
طلعتَ طُلوع الفجر، والليلُ غُيْهَبٌ ... فحلّيتَ بل جَلَّيْتَ تلك الغَياهبا
وَرُقْتَ كتاباً يوم رُعْتَ كتيبةً ... فواقَعْتَ، مِتلافاً، وَوَقَّعْتَ، واهبا
تَدقّ كعوب الرمح في كلّ دارعٍ ... وتقتضّ أبكار المعالي كواعبا
وكم حَذِرَتْ منك المنيةُ حتفَها ... وقام القنا لما تنمرت هائبا
ومنها يصف وقوعه بالخوارج:
ويوم العُمانيّين، ماجُوا وفوقهم ... سماء قِسِيٍّ ترسل النبل حاصبا
قلوبُهم اسودَّتْ، وصارمُك اشتكى ... مَشيباً، فلم تُعْدِمْهُ منهن خاضبا
فأصبح جسمُ الجامد القلب منهم ... بقلب الحديد الجامد الجسم ذائبا
وَهُمْ ذنبٌ بَتَّ المهلَّبُ رأسه ... فكنت لما أَبْقى المهلب هالبا
رأَوْك ولم تحضر، ومن كان فضله ... محيطاً فما يُسْمى، وإن غاب، غائبا
أشرتَ من التدبير، والبحر بينكم ... بنجمٍ رآه الجيشُ في البرّ ثاقبا
ومِن قبلك الفاروق جاء بمثلها ... وكان على عود المدينة خاطبا
دنت، يوم أَوْمى، من نهاوند، يثربٌ ... فنادى: ألا ميلوا عن الطود جانبا
بدا بك وجه الدين أبيضَ مشرقاً ... ووجه عدوّ الدين أسودَ شاحبا
شفى وصبَ الهيجاء سيفُكَ فلْيدُمْ ... لك العزّ، ما كرّ الجديدان، واصبا
ومن قصيدة له في مدحه أيضاً:
نُسِخَتْ برِفدكَ آيةُ الحرمان ... وعَلَتْ لوفدك رايةُ الإحسان
يا ناصر الدين الذي أمطاه ظ ... هرَ المجد مظْهِرُه على الأديان
يُمناك غيث ما استهلّ غَمامُهُ ... إلاّ غرقتُ بأيسر التَّهْتان
وصِفات مجدِك لا تكلّف عندها ... ألفاظ من وصف الكرام معان
خُلِقت مساعيك الشريفة في العلى ... بمثابة الأرواح في الأبدان
وانقضّ عزمُك فوق كلّ مُلمَةٍ ... كالشهب أو كثواقب الشهبان
أيَّدتَ فضلك بالتفضّل، والعلى ... شطران: خطُّ يدٍ وخطُّ لسان
وأهنتَ ضدّك بالدليل، ومُكْرَمٌ ... ما ضدّه في اللفظ غير مُهان
ولقيتَ وفدَكَ والرّكابَ، بطلعةٍ ... تُسْلي عن الأوطان والأعطان
ومنها:
معنى العُلى لك والدعاوى للورى ... سُؤْر الهِزَبْر وليمةُ السِرحان
ولقد سَرَيْتُ وللكواكب في الدَجى ... سَبْحُ الغريق ومِشيةُ النَّشْوان
والبرق ألمعُ من حُسامٍ هزّه ... بطلٌ، وأخفقُ من فؤادِ جبان
حتى إذا نثر التبلّجُ وردَه ... متدارِكاً فطفا على الريحان
حَيّيتُ أصحابي وقلت لَيَهْنِكمْ ... وَضَحَ الصباحُ لمن له عينان
كَوُضوح فضل الصاحب، الغمر الندى ... لازال صاحب دولة وقِران
مَسحَتْ قذى عينِ الزمانِ خلالُه ... فرأته وهي نقية الأجفان
ومنها:
إنّ استواءَ الدهرِ مِنْ تَثْقيفِه ... لا من نزول الشمس في الميزان
ولذاك يزدحم الورى في بابه ... شَرْوى ازدحامِ الحَبّ في الرُمّان
لا يترك الدينارُ ساحةَ كَفَّهِ ... حتى ينادى أنتَ رزٌ فلان
وكأنه في كيسه عرض فما ... يبقى زماناً فيه بعد زمان
ومنها:
المجد كَفٌّ والسماح بنانها ... لا خير في كفٍّ بغير بنَانِ
ومنها:
أنا غَرْس نعمتك الشريفة فاسقني ... واجنِ المناقب من ِجنان جَناني
من شكّ في أدبي فلستُ أَلومُه ... ما أجهلَ الإنسان بالإنسان
ومنه:
يا ابن الأُلى لمّا غدَوا وَصِاتهم ... كصَلاتهم، شمخوا على الأقران
صِيدٌ إذا ركبوا لِصَيْدٍ شرّدوا ... بالأُسد لا بنوافر الغِزلان
أبوابُهم قِبَلُ الملوك تَحُلُّها ... يومَ السلام جواهر التيجان
ومنها:
إني أراك بناظري فأَعُدُّه ... مِلكاً سُرادِقه من الأجفان
وعليك أعقِد خِنْصَري ليصحّ لي ... عددي، فأعرف أولاً من ثان
فاسلم فإنّ مَصون عرضك سالم ... وعُلاكَ باقيةٌ ومالُكَ فان
وله من قصيدة في شكوى الزمان
مَتى ينجلي ليلُ الظُنون الكواذب ... ويَبْدو صباح الصدق من جَدّ قاضب
ومنها:
وحَتّامَ أرجو دولَةٌ، وزراؤها ... يَردّون، إن حَيَّيْتَهم، بالحواجب
مصيبون في تخجيلهم كلّ مادح ... وعين صواب الرأي تخجيل كاذب
سَواءٌ لديهم ما حوى سِلك ناظِمٍ ... وما ضمّه في ظُلمةٍ حبلُ حاطِب
شَرَوْا سفهاً بالثعلب الليثَ، واشتَرَوْا ... بصَرْصَرة البازي صَريرَ الجنادي
ومنها:
قَضَتْ عُنّة التمييز والفهم في الورى ... بتعنيس أبكار العلوم الكواعب
شَوادر شعري يُفْتَرَعْنَ إغارةً ... ويُمْلَكْن سبياً كالإماء الجلائب
ومنها:
وإني لتُغنيني عن السيف عزمتي ... فهل فيه ما يُغْنيه عن كفّ ضارب
وآنفُ من نومٍ يُقلِّد مِنَّةً ... بوصلِ خيالٍ من حبيبٍ مُجانِب
ومنها:
هو الفقر من كَسْرِ الفَقار اشتقاقه ... نِقابٌ به تخفى وجوهُ المَناقب
ومنها:
ولي أدبٌ زان الزمانَ اصطحابُه ... وقربُ التلاقي غيرُ قُربِ التناسب
وفي صُحبة الضدّ الشريفِ تَزيّنٌ ... وما الليلُ من جنس النُّجوم الثواقب
ومنها:
عسى بين أحشاء الليالي عجيبةٌ ... حُبالى الليالي أُمهات العجائب
ومنها:
وبيدٍ تُبيد الصَّبر، أحسنتُ طيَّها ... فأُبْتُ، وما كانت تجود بآيب
تمنَّيتُ مآء السيف فيها من الصَّدى ... ومأكل ما سميت مآءً بذائب
ومنها:
يضيق الفضاءُ الرَّحب في عين خائفٍ ... ويعظُم قدْرُ الفَلْس في قلب خائب
وتهتزُّ بالقطر البحارُ وإنها ... لمستغنياتٌ عن نَوال السحائب
وله من قصيدة في هجو شروانشاه
قُمْ نفترعْها كأَنّها الذهبُ ... بِكْراً، أَبوها وأُمّها العِنَبُ
أَرقّ من عَبرةِ اليتيم ومِنْ ... عبارةِ الصبّ قلْبُه وَصِبُ
مُدامة تصقُل القلوب إِذا ... رانتْ عليها الهُمومُ والرِيَبُ
كؤوسُها أَنجمٌ نَضِلّ بها ... لا يهتدي من تُضِلّه الشُهُبُ
لا فَدْم فينا ولا فِدام لها ... عروسُ دَنّ عقودها الحَبَبُ
مِنْ كفّ مَنْ كَفَّ حُسْنُه صِفَتي ... فما إِلى وصف حسنه سبب
أَغيدُ، للعين حين ترمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطب
تبسّم السّحرُ في لواحظه ... لمّا بكى الناسُ منه وانْتحبوا
واخْضَرّ في وجنتيه خَطُّهما ... بحافة الماءِ ينبتُ العُشُبُ
يدير منها كخدِّه قدحاً ... يجتمع الماءُ فيه واللَّهب
منتهزاً فرصة السرور بها ... فَمَقدَم الحادثات مُرْتقَب
هذا البيت يعود إلى البيت الأول كأنه يقول: قم نفترعها منتهزاً لذة السرور بها.
ومنها في هجو شروانشاه:
رأَيتُ لؤماً مُصَوّراً جَسَداً ... مُهْجته الاحتيال والكذبُ
على سريرٍ كالنعش، لا رَهَبٌ ... يَعْلوه من هيبةٍ ولا رغب
وهو عبوس كالفهد مجتمعٌ ... يكاد من خُنْزُوانةٍ يثب
إِنْ لم تكن همّةٌ فإِنّ له ... هَمْهَمَةٌ في خلالها صَخَب
يَجْبَه بالهُجْر من يخاطِبُه ... بين السَّعالي وبينه نَسَب
يَفْرقُه الناس للسّفاهةِ، وال ... عَقْرب يُخْشى وخدّه تَرِب
مُحْتَجِباً لا يزالُ وهو إِذا ... رأَيتَه بالصُّدودِ مُحْتَجِب
وإِنْ بدا سافراً لناظره ... فوجهه بالصّدودِ منتَقِب
للجمع والمنع قائمٌ أبداً ... كالفيل لا تَنْثَني له رُكَب
ومنها:
يفرحُ ما صامَ ضيْفُه وبِشَمِّ الخُبْزِ، قبل الذواقِ، يكتئب
يلتهب القلْبُ منه بالجُوع، والياقوت في التاج منه يلتهب
ومن هذه القصيدة:
أَنت جُمادى إِذا سُئلتَ ندىً ... ويومَ تُدْعى إِلى العُلى رجب
ما لك عِرْضٌ تخاف وصْمتَه ... أَيُّ طلاق يخافه عَزَب
وله من قصيدة:
من عزّ بزّ وعِزُّ الحُرّ في ظَلَفِهْ ... وإِنما يَسْغَبْ الهِرْماس من أَنَفِهْ
أَسِّسْ على العلم ما ترجو تثبُّته ... فالجهل ينقُض ما يُبْنى على جُرُفه
ومنها في المدح:
خِرْقٌ سَمَتْ كَفُّه أَن يُسْتعار لها ... وَصْفُ الغمام، جَلِيُّ القَدّ من هَيَفه
فَبِتُّ أَنْظِم في فكري مناقبه ... متى سَمِعْتَ بنظم الدرّ في صَدفه
ومنها في أن المستقيم لا يفوز بالغنى والحظ في الدنيا للمعوج:
واسم الغِنى لا يفوزُ المستقيم به ... كذلك الخطّ لا عَجْمٌ على أَلِفه
مُثَقّفُ الأَسَلِ الظمآن تُرْجعُه ... دِرْعُ الكَمِيِّ حَطيماً دون مُرْتَشَفه
والسَّيْلُ من أَجل أَنَّ الرَّعن منتصبٌ ... أضاه في منحنى الوادي ومُنْعَطفه
لأَياً تبيّن لي لما تقلّبت الأَيّ ... ام أَنّ بقاء المال في تَلَفه
أَين الذي ملك الدّنيا وضّن بها ... مضى وما حملَ الدُّنْيا على كَتِفِه
ومنها:
بالشيب فارقني ذهني، ولا ثمرٌ ... في العود بعد اشتعال النار في طرفه
وله من قصيدة في التسلية:
خُذْ ما صفا لك فالحياةُ غُرورُ ... والدّهرُ يَعْدِل تارةً ويجور
لا تَعْتِبَنَّ على الزمان، فإِنّه ... فَلَكٌ على قُطْبِ اللّجاجِ يدور
أَبداً يُوَلِّدُ ترحةً من فرحةٍ ... ويصبّ غماً منتهاه سرور
هو مُذْنبٍ وعُلاك من حسناته ... كالنار مُحْرِقةٌ ومنها النور
تعفو السّطور إِذا تقادَمَ عَهْدُها ... والخلق في رِقّ الحياة سُطُور
كلٌّ يَفِرّ من الرَّدى ليفوتَهُ ... وله إِلى ما فرّ منه مصير
ومنها:
فانظر لِنفسِكَ فالسلامة نُهْزَةٌ ... وزمانها ضافي الجناح يطير
مرآةُ عَيْشِكَ بالشَّباب صَقيلةٌ ... وجَناحُ عُمرك بالمشيب كسير
والحاضرون بلا حُضُورِك غُيَّبٌ ... والغائبون إِذا حضرت حُضور
بادر فإن الوقت سيف قاطع ... والعمر جيش والشباب أمير
وعوائق الأَيّام آيةُ بُخْلِها ... أَنْ يستريح بِنَفْثَةٍ مَصْدور
ومنها:
مَلِكٌ أقام وما أَقام ثناؤه ... ويَسيرُ ما فعل الملوكُ يَسيرُ
أَعطى الكثير من القليلِ تَفَرُّداً ... مُعطي القليل من الكثير كثير
ومنها:
ومن العجائب أَن وَفْرَك قطرةٌ ... وَيَفيضُ منه على العُفاةِ بحور
ومنها:
كم وقعةٍ أَخمدتَ موقع بأْسها ... والأرضُ تَرْجُف والسماءُ تمور
والموتُ جارٍ والقناة قناتهُ ... ولها بأَسماعِ الكُماةِ خرير
ومنها:
السّاترين من الحيآء وُجوهَهم ... والكاشِفوها والعَجاجُ سُتور
غُرٌّ إِذا ركبوا الجِيادَ حَسِبْتَها ... شُهْبان رجم فَوقهنّ بُدور
يَتزاحَمون على الحِمام كأَنَّه ... فَرْضٌ يُفَوِّتُ نَيْلَهُ التأْخير
ومنها في وصف فرس طلبه:
إِنْ شاء هَمْلَجَ بي جَوادٌ سابِقٌ ... كالنجم يَطْلُع ثاقباً ويغور
قَلِقُ العِنان كأَنَّ فوق تَليله ... نَمْلٌ، وبين سَمِيعَتَيْهِ صفير
هو جَنَّةٌ للناظرين إِذا مشى ... أَمّا إِذا ما جاش فهو سعير
لو قيل ثِبْ، وثبيرُ مُعْتَرِضٌ له ... لِيَتِمَّ حُضْرك ما ثَناهُ ثَبير
سَبَق الجِيادَ مَدىً، وواهبُه الأَنا ... مَ ندىً، فما للسابِقَيْن نظير
وأعطاني سديد الدولة ابن الأنباري درجاً فيه هذه القصيدة في مدحه بخط الغزي وشعره فلا أرويها إلا عنه، عن الغزي:
سَرَتْ أُمّ أَوْفى عاطلاً من فريدِها ... فوزَّعْتُ دمعي بين خَدّي وجِيدِها
فباتَتْ تَحَلّى مِنْ فرائد عَبْرتي ... وتحسِب جِسْمي سِلْك بعض عقودها
مُبَرْقَعَةٌ نَمَّ القِيام بقَدِّها ... فلم تُخْلِه من بُرْقُعٍ من قعودها
ألَمَّتْ بنا ترنو بأَلحاظِ جُؤْذُرٍ ... مَناصِلُها في القَطْع دون غمودها
وتَرْفُل في وشْيٍ إِذا اشتاق لمسَها ... تظلَّمَ من أَرْدافها ونُهودِها
فبتْنا نَشاوى من مُدامةٍ وصًلِها ... وبات الكرى الساقي برغم صدودها
فيا عجبا من رُؤيةٍ مستحيلة ... يحقّقها تغميضُ عَيْنَيْ مريدها
خَليلَيّ يحْكين فِعْلَ عُيونِها ... وأَرماحُها يسْرِقْنَ وصف قدودها
ذَراني وأَوهامَ المطامِعِ فالمُنى ... تقوم نَساياها مقام نُقودها
ولا تَكْرَها لَيّان لُبْنى فإِنني ... رأَيت اخضِرار العيش بين وُعودها
ولو حصل الإِنجاز لم يَبْقَ مَطْمَعٌ ... وَجودُ اشتعال النار داعي خُمودِها
وكنتُ امْرءاً دُنياه دون اهتمامِه ... فما ذيُّها في ذوقه كَهَبيدِها
متى جئتُ موماةً تفرَّدتُ واثقاً ... بصُحبة عَسّالَيْن: رمحي وسيْدِها
طُمأْنينتي في أَن أَكونَ مُشَرَّداً ... طريدَ خُطوبٍ عزّ مأْوى طريدها
سُكونٌ بهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سَكَّن الأَطفالَ هزُّ مُهودها
وَخَيْرُ مياهِ الوجْهِ ما كان راكداً ... وإِنْ أَفسدَ الأَمواهَ طولُ رُكودها
أَرى كلَّ رَسْمٍ للمكارِمِ دارساً ... سلامٌ على أَيّامِها وعُهودها
وكلّ من اسْتَشْرى بقوة حدّه ... تجاوَزَ في دَعْواه أَقصى حُدودها
لقد ماتَت النُّعْمى التي ظفروا بها ... وفي المَيْتة الملقاة حَظٌّ لِدُودِها
يقولون ما سَيَّرْتَ ما يُتَّقى به ... مَغانِيك غاباتٌ خَلَتْ من أُسودها
وهل سالِبُ العُزْيان إِلاّ منبّهٌ ... على عَدمِ الأَشياءِ قبْلَ وجودها
وقالوا هجرتَ الكُتْب، والعلمُ وجْهُهُ ... يزيد بياضاً مِنْ تَصَفُّحِ سُودِها
وما الحفظُ إلاّ كالثّمار قطفتُها ... وعَلَّقْتُها بالخيط في غير عُودها
طريق البلاغات التصرفُ زادها ... وفَخْرُ كُفاة العصر خِرّيتُ بيدها
أَفادُ العُلى عبدُ الكريم محمّداً ... ولم نره يُعْزى إِلى مستفيدها
فلم يَرْضَ حتّى نالها باْكتسابه ... طَريفُ العلى أَوْلى بها من تليدها
كسا رؤساءَ العصر دام رئيسُهم ... مفاخِرَ يجتابُون أَسْنى برودها
فتىً لا تَبُلُّ النَعلَ طشَّةُ حاله ... وجَدْواه قد عام الورى في مُدودها
فصيحٌ، إِذا مدّ المِداد حِبالَهُ ... لِمَلْمومَةٍ لم يُعْيه صَيْدُ صِيْدها
أَدِمْ ذِكره وانْسَ الأَوائل جُملةً ... مكارِمُه نَقْضٌ لبيتِ لَبيدها
ولو لم تكن تُصْمي به الدولةُ العِدى ... سَما قدرُه عن نَعْته بسَديدها
نشرتَ أَبا عبدِ الإِله مناقباً ... أُميتَتْ فَلاحتْ منك شُهْب سُعُودها
وَجُدْتَ ارتجالاً، والغمامة طالما ... تكرّر يحدُوها ضجيج رُعودها
فما يَقْتضي جَدْواك مُورِدُ مِدْحَةٍ ... لأَسلافِك الأَثمان قبل وُرودها
وما زلتُ في بغداد بالذكر خادماً ... وخِدمةُ مثلي يُكْتَفى بزهيدها
ولو سَمَحَتْ أرض العراق بمُسكةٍ ... تَرَفَّهْتُ عن جَيْ وأَكلِ قديدها
وما أَنا إِلاّ الطيفُ يُنْسى فلا يُرى ... ومثلُك مَنْ جاء العُلى من وَصيدها
أَطال اختراعي للمعاني تأَخّري ... وقُدِّمَ أَقوامُ بسَلْخ جُلودها
ويكْفيكَ مجداً أَنّ نفْسَ مَطالبي ... بك اعتصمتْ مِنْ قطع حَبْلِ وريدها
وأَنّ خيام الاهتمام بنُصُرتي ... يَلوحُ عَمودُ الفجْر تحتَ عمودها
لِيَهْنِ أَميرَ المؤمنين سعادةٌ ... تَفيضُ بها الأَعراض بعد جُمُودها
فلوْ لم يَصُلْ إِلاّ بيمناك وحدَها ... لأَمكنَ فتح الخافِقَيْن بجودها
وله وكتبها إلى سديد الدولة ابن الأنباريّ وقد نقلتها من خطه أيضاً يهنئه فيها بخلعة:
رئيسَ الفضْلِ والرؤساء إِني ... كتبت إِليك ما أَمْلى ضميري
ولي فِكرٌ يوزِّعه التفاتي ... بصحّتِه إِلى أَملٍ كسير
وليس تأَلُّمي من فَوْتِ رزقٍ ... ولا عجباً لإعراض الوزير
ولكن من صُلود زِنادِ عزْمٍ ... تردَّدَ في الإِقامة والمسير
هُمومي لا تفي هضباتُ رَضْوى ... بهنّ ولا تقوم ذُرى ثَبير
لِيَفْدِكَ مَعْشَرٌ مُدِحُوا فسَنّوا ... نِكاحَ الشاردات بلا مهور
متى تجري الخواطرُ في مديحٍ ... وإِيغارُ الصُّدورِ من الصدور
سديدَ الدولة الأَمواهُ تُثْني ... على كرمِ المنابعِ بالخرير
ومُدْمِنُ سَبْكِ عِقْيانِ المعاني ... بصيرٌ، والتأَمُّلُ للبصير
كسوْت المُلكَ ثوباً من حروفٍ ... فقابِلْهُ بثوبٍ من حرير
وَوَشْيُ الحِبْر في القِرطاس أَبْقى ... على الأَيّامِ من وَشْي الحبير
وفي الخِلع الجمالُ ولست أَحْدو ... بتهْنِئةٍ بهنّ إِليك عِيْري
وكيف وكانت الهالاتُ أَحْرى ... وأَجدرَ أَنْ تُهَنَّأَ بالبدور
محبّتُكَ الأَفاضل في زماني ... شُعاعُ الشمسِ في الزمن المطير
فَمَهِّدْ عُذرَ من أَمسى نزيفاً ... بترك الكأْسِ في كفّ المدير
وَدُمْ ما أَطربَتْكَ صَبا صَباحٍ ... بخدشِ نسيمها وجهَ الغدير
منابِتُك السفيرُ إِلى مُرادي ... وإِسفار المَطالب بالسفير
وكانت بين الغزّي والأستاذ أبي الطغراني مكاتبات مفيدة وبينهما لنسب الفضل المودة الوكيدة. وكان في زمانه الغزي والأبيوردي والأرجاني كأنهم مع الأستاذ أربعة أركان الفضل، ولم يسمح الزمان لهم بالمثل؛ ولا يجتمع في قرن واحد أمثالهم، وقد عم الزمان فضلهم وإفضالهم، لكن الأستاذ كان من الصدور الكبار. فمن مكاتبات الغزي إلى مؤيد الدين أبي إسمعيل الطغراني اعتذاراً عن أمر نسب إليه وهو يستميحه:
عليك مؤيّدَ الدين اعتمادي ... فلا تجنَحْ إِلى كَذِب الأَعادي
تمادى المَطْلُ، والآمالُ زرعٌ ... وطولُ الانتظار من الجراد
وقد أَزِفَ الرحيلُ وأَنت كهفي ... ومن جَدْواك راحلتي وزادي
محلُّكُ في السماء فأَيُّ شَيْءٍ ... أمُتُّ به إلى السبعِ الشِداد
وجدتُ جميع ما في الأَرض منها ... وليس المستعاد بمستفاد
لسان الحسود، أدام الله أيام المجلس السامي دام سامياً، ولبيضة المجد حامياً؛ إذا علق بعرض الكرام كان كالنار في المندلي، يبوح بسرطيه الخفي. وهذا الخادم لم يزل في الثناء على الفضل المؤيدي أفصح من الوائلي. فإن وقع من السفهاء إفك فداعيته ما ظهر لهم من انتمائه، وانتساب مزنته إلى سمائه. والمجلس السامي جدير بأن يمج المحال سمعه، ولا يقبل التمويه طبعه، ورأيه في التأمل الصادق أسمى.
وله:
متى جاوَزَ الشوقُ حدّ النزاعِ ... وكان اللقاءُ عديم الدواعي
جَعَلْتُ الصفاح بكفّ الضمير ... وشكْوى الهوى بلسان اليراع
الحامل على تشعيث الخاطر الكريم، وتصديع المجلس السامي؛ لا زال سامياً، ولذمار العلم حامياً؛ ما فغم الأنف، وشغل الأذن عن الشنف، من أنباء ما اختص بملكه، وانخرط في سلكه، من وفور المجد، وبدار مقاطف ثمر الحمد، على أن التقاط الكواكب، ومباراة السحائب غير بدع ممن اجتمع له الكرم الطبيعي، والمجد المنيعي، والأدب السافر، والصيت المسافر، واعتمد على الهمة التي تجذب حديد الثناء بالجود، والشيمة التي ينسب إليها أرج العود. ولولا ما سدك بإحدى قدمي من وجع في الرجل، قام مقام الحجل، لكنت إلى خدمته أخف من الرجل وإن كنت منذ وطئت هذه البلاد أجوس غمارها ساكتاً كالحوت، أو كالتمثال المنحوت، لعلمي بكساد سوق الكلام، واعتلال الأفهام، وإن قوة البخت، تكسر العبل بالشخت، والمنشود، بعد القيام تحت راية رأيه المنصورة، وما أشبه فيه من كشف الصورة، تمهيد العذر في التأخر عن الاستسعاد باللقاء الحميد، والشفاء المفيد؛ ورأيه في اعتبار ذلك وتحقيقه موفق إن شاء الله.
وسمعت للغزي في غلام سراج بيتين، لم أسمع بأظرف من معناهما. والبيت الأول منهما دخل في شفاعة الثاني:
أَلاَ قُولوا لِذا السّراج إِني ... أَراكَ تجيء بالعجب العجيب
إِذا ما كنتَ لا تُعطي قِياداً ... ففيم عَمِلت أَسباب الركوب
قال مؤلف الكتاب: وسألني بعض أصدقائي ببغداد أن أعمل في معناه شيئاً فقلت بديهاً:
وسَرّاجٍ سرى في القلب مني ... هواه، وحلّ مِنْ طرفي السَّوادا
يُسَهّلُ للركوب لنا طريقاً ... بصنعته ولا يثعطي القِيادا
وما يَفْري بشفرته أَديماً ... كما يفري بمُقْلَتِه الفؤادا
وقلت أيضاً في غلام سراج:
فَدَيْتُ سرّاجاً إِذا لم يَرُج ... للعِشْق عندي حَسَنٌ، راجَ هو
يَقول لي اركبني ولا تُفْشِه ... يريد إِلجامي وإِسراجه
وهذه نظمتها بديها. وفي إثباتها ها هنا التكشف لجهابذة الكلام، والتصدي للقرائح الصافية بقريحتي المشوبة. وما أوردتها لجودتها، على أنها ما تقصر عن دون الغاية، بل لمناسبتها وكونها لائقة بهذا الموضع.
وللغزي في التجنيس:
وصُدورٍ لا يَشْرحون صدوراً ... شغلتهم عنّا صُدور الدجاج
وللأديب الغزي في مدح نور الهدى أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي أخي طراد قصيدة أوردها أبو سعد السمعاني في المذيل وذكر أنه قرأها بخطه. فمنها:
جفونٌ يَصِحّ السُقْمُ فيها فَيُسْقِمُ ... ولَحْظٌ يناجيه الضمير فَيُفْهَمُ
مَعاني جَمالٍ في عِبارات خِلْقةٍ ... لها تُرْجُمان صامِتٌ مُتَكَلِّم
تَأَلَّفْن في عينيْ غَزَالٍ مُشَنَّفٍ ... بِفَتْواهما في مذهب الحبِّ يُحْكَم
تَضاعَفَ بالشكوى أَذى الصَبّ، والهوى ... تَخَرَّصَ فيه الظالمُ المتظلم
محا اللهُ نوناتِ الحواجب لم تزلْ ... قِسِيّاً، لها دُعْجُ النَّواظِرِ أَسْهُمُ
وأَطْفاَ نيران الخُدود فقلّ من ... رأَى قبلها ناراً يُقبّلها فم
سقاك الكرى من مَوْرِدٍ عزَّ ماؤه ... عليه القُلوبُ الهِيمُ كالطيرِ حُوَّمُ
أَصادَك غِزلان الحِجاز، وطالما ... تَمَنَّى تَقِيٌّ صيدَها وهو مُحْرِم
طَرَقْن ووجْهُ الأَرضِ في بُرْقُع الدُّجى ... وعُدْنَ، وكُمّ الليل بالفجر مُعْلَم
ومنها:
كفى بمُلوكِ الأَرضِ سُقماً حِذارهم ... وإِنْ ملكوا، أن يُسْلَب المُلكُ مِنْهم
وَهَبْ جعلوا ما في المعادن جُمْلةً ... رهائن أَكْياسٍ تُشَدّ وتُخْتَم
فلم يَبْقَ دينارٌ سوى الشمس لم يُنَل ... ولم يبق غيرُ البدر في الناس درهم
أَليس أَخو الطّمريْن في العيشِ فوقهم ... إِذا بات لا يَخْشى ولا يَتَوَهَّم
أَرى كلَّ من مدَّت بِضَبْعَيْه دولةٌ ... تعلَّم منها كيف في الماء يَرْقُم
تحلّى بأَسماءِ الشهورِ فكفُّه ... جُمادى وما ضمت عليه المحرَّم
من استحسن التقريظ واسْتقبح اللُّهى ... تَسَمّى بأَلْمى وهو أَفْلَحُ أَعْلَمُ
سَرى الجَدّ حتّى في الحرُوف مُؤَثِّراً ... فمنهن في القرطاس غُفْل ومُعْجَم
ولو قَدّمَ الإِحسانُ والفضلُ لم يَلِقْ ... بغير الحُسَيْن الزَّيْنَبِيّ التقدُّمُ
إِمامٌ غدا بالعلم في العصر غُرّةً ... برغم العِدى والعَصْر بالجهل أَدهم
بنُور الهُدى قد صحّ مَعنى خِطابه ... وكلّ بعيدٍ من سَنا النُّور مُظْلم
وطالعت كتاب أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني الموسوم بالمذيل لتاريخ مدينة السلام وقد أورد ذكر الغزي وأثنى عليه وقال: شيخ كبير مسن قد ناطح التسعين وكان أحد فضلاء الدهر ومن يضرب به المثل في صنعة الشعر. وكان ضنيناً بشعره ما كان يملي منه إلا القليل.
ورد عليها مرو وكان نازلاً في المدرسة النظامية إلى أن اتفق له الخروج من مرو إلى بلخ فباع قريباً من عشرة أرطال من مسودات شعره بخطه من بعض القلانسيين ليفسدها، فحضر بعض أصدقائي وزاد على ما اشتراه شيئاً وحملها في الحال إلي، فطالعتها فرأيت شعراً دهشت من حسنه وجودة صنعته، فبيضت من شعره أكثر من خمسة آلاف بيت وبقي منه شيء كثير. وبقية شعره الذي كان معه اشتراه بعض اليمنيين واحترق ببلخ مع كتيبات له.
وقال سمعت أبا نصر عبد الرحمن بن محمد الخطيبي الخرجردي يقول مذاكرة: ولد إبراهيم الغزي في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. قال: وسمعت أبا نصر الخرجردي يقول بمرو: إنا الأديب الغزي مات في سنة أربع وعشرين وخمسمائة في الطريق وحمل إلى بلخ ودفن بها. وكان يقول: أرجو أن الله تعالى يعفو عني ويرحمني لأني شيخ مسن جاوزت التسعين ولأني من بلد الإمام المطلبي الشافعي، يعني محمد بن إدريس.
قال السمعاني في تاريخه: أنشدنا أبو علي الآدمي بأصفهان، أنشدنا عبد الواحد الحافظ الأصفهاني أنشدنا إبراهيم الغزي لنفسه في الأدب:
الفضلُ فَضْلان: طبعيٌّ ومُكْتَسَب ... وقلّما اجتمعا في المرء واصْطحبا
مَنْ لمْ يكنْ أَدبُ الأَخلاقِ يصْحَبه ... فلا تعدَّنَّه من جُملة الأُدَبا
قال: وأنشدني أبو طاهر أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الكلبي ثم أشهبي لنفسه من قصيدة:
يا عاذلي في عبرتي ... والصبّ في أُذنيْه وَقْرُ
أَنا في كَرى وَلَهي، ودَمْعي في الكَرى فَرَحٌ يَسُرّ
والغَيْم غَيْمٌ كشْفُه ... في أَن يَبُلَّكَ مِنْه قَطْرُ
وسنورد من هذه القصيدة أبياتاً أخر.
قال: وأنشدني أبو طاهر الثقفي بأصفهما، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه من قصيدة طويلة:
أَغْيَد، للعين حين تَرْمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطَبُ
واْخضَرَّ في وَجْنَتَيْه خَطُّهما ... بحافَةِ الماءِ ينبتُ العُشُب
يُديرُ فينا بخدّه قدحاً ... يجتمعُ الماء فيه واللهب
مُنْتهِزاً فُرصة السرورِ به ... فَمَقْدَمُ الحادثات مُرْتَقب
وله يعاتب بعض الوزراء:
نَمى لك ودّي منذ قَلَّمتَ رأْسَه ... قياساً على الأَقلام والشَمْع والظُفْرِ
وقدَّمْتُ شكراً ما اقتضته صنيعةٌ ... وأَقبحُ ما يُهجى المقصِّر بالشكر
قال: وأنشدني ابن عمي أبو منصور محمد بن الحسن بن منصور السمعاني بمرو، أنشدني الغزي لنفسه:
طولُ حياةٍ ما لها طائلُ ... نَغّص عندي كلَّ ما يُشْتهى
أَصبحتُ مثلَ الطّفل في ضعفه ... تَشابه المَبْدأُ والمُنْتَهى
فلا تَلُمْ سَمْعي إِذا خانني ... إِنّ الثمانين وبُلّغتها
قوله: إن الثمانين وبلغتها تضمين، من قول عوف بن محلم الشيباني، كان بين يدي عبد الله بن طاهر، وقد أسن فكلمه بشيء فلم يفهمه، فقال الحاجب له لما خرج: إن الأمير كلمك بشيء فلم تفهمه، فرجع ووقف بين يدي عبد الله، وأنشأ يقول:
يا ابن الذي دان له المشرقانْ ... وأُلبس العدلَ به المغربانْ
إِنّ الثمانين، وبُلِّغتَها، ... قد أَحوجتْ سمعي إِلى تُرْجُمانْ
وقاربتْ مني خُطىً لم تكن ... مقارَبات، وثنتْ من عِنانْ
وما بقى فيّ لمُسْتَمْتِع ... إِلا لساني، وبحسبي لِسانْ
أَدعو به الله وأُثْني به ... على الأَمير المُصْعَبيّ الهِجان
وهي أكثر من هذه، وإنما أوردت هذه الأبيات اختصاراً.
قال السمعاني: ... أبو بكر محمد بن علي بن الحسن الكرجي ببغداد، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني الحافظ بسمرقند، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الغزي لنفسه بهراة:
إِنّما هذه الحياةُ مَتاعٌ ... والسّفيه الغَوِيّ من يَصْطفيها
ما مضى فات والمُؤَمّل صَعْب ... ولك الساعةُ التي أَنت فيها
قال: وأنشدني أبو الفضل عبد الرحيم بن أبي العباس بن الأخوة، أنشدنا أبو إسحاق الغزي:
أَفدي الذي ضَمّني، والبَيْنُ يحْفِزهُ ... ولم يَرُعْه انحِناء الظَّهْر والشَظَفُ
إِذا تعانق منآد ومُعْتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والألف
قال: وقرأت في جملة أشعاره بخطه:
وقالوا بِعْ فؤادك حين تهوى ... لعلّك تشتري قلباً جليدا
إِذا كان القديم هو المُصافي ... وخان، فكيف آتمن الجديدا
قال: أنشدني أبو بكر محمد بن علي بن ياسر بمسرقند، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه بهراة:
وَخْزُ الأَسنَّة والخُضوعُ لناقصٍ ... أَمران، في ذوق النُهى، مُرّان
والحَزْمُ أضن تختار فيما دونه المران وخز أَسِنّة المُرّان
قال: أنشدنا أبو الفتح بن مسعود بن محمد بن أبي نصر، الخطيب، بكشميهن، أنشدني الغزي لنفسه في بعض الوزراء:
مِنْ آلة الدستِ لمْ يُعْطَ الوزير سِوى ... تحريكِ لحيته في حالِ إِيماء
إِنَّ الوزير بلا أَزْرٍ يُشَدّ به ... مثلُ العروض لَهُ بحرٌ بلا ماء
قال: وفيما قرأت بخط إبراهيم بن عثمان الغزي بكرمان من غرر قصائده في مكرم بن العلاء الوزير بكرمان:
بالجَدّ لا بالكَدّ تنتظم المُنى ... نرجو الغِنى والفقر في طلب الغنى
كلٌّ يعوذ بربّه من فِتنةٍ ... إِلاّ الحريص فسؤلُه أَن يُفْتَنا
يا قلْبُ أَنت مُعَذَّلٌ ومعذّبٌ ... لِمَ لا تزال أَخا الجَوى وأَبا الضنا
أَفرغْ عليك دِلاء صبرك وانتصر ... إِنّ السلاح لِدفع ضيمٍ يُقْتَنى
صبراً، وإِن لم تستطع صبراً فذُبْ ... مَنْ فَرّ مما لا يُطاق فما ونى
ليت الذي بالعشق دونك خصّني ... يا ظالمي قسم المحَبَّة بيننا
أَنا في الهوى مثلُ الخِلال مُثَقَّفٌ ... ولقد أَضرّتْ بي مناسبة القنا
أَلقى الهزبرَ فلا أَخاف نُيوبَه ... ويَروعُني نَظَرُ الغَزال إِذا رنا
وكذاكَ في طلب المعيشةِ شِيمَتي ... بخلاف من شاهدْت من أَهْلِ الدُّنا
لو نِلتُ منزِلةَ السِّماك مشارِكاً ... فيها، لأُبدلت العزاء من الهَنا
لا تقنَعَنَّ من الأُمور بِمَنْسِمٍ ... إِنّ السَنام بحذف آخره سَنا
النَّقْعُ شُبّه بالسماء لأّن علا ... والغيمُ منْ جنس الدُّخان إِذا دنا
والنّخل ما ثمراتُه بقريبةٍ ... ويكون أَعذبَ كلّ عودٍ مُجْتَنى
أَعْرِب جمالك بالمُجاملة التي ... هي نجوةٌ ودَع اللِّسان ليَلْحَنا
فاليومَ نِمْتُ عن النوائب وانْبرتْ ... هِمم الوزير تنُوبُ لي فيما عنا
وقنِعْت باسم مُؤَمَّلٍ جاوَرْتُه ... أَدعو لدولته مُسِرّاً مُعْلِنا
مَلِك يُشير بكفّه لا سيفه ... فَيَرُدّ بالخمس الخميسِ الأَرْعنا
ومن العجائِب أَنّ صُلْبَ نواله ... مُتَحَمِّلٌ ثِقل الرجاء وما انْحَنى
يَثْني خُطُوب الدّهْر عن إقليمه ... قَلَمٌ جرى يومَ الهِبات فما انثنى
مُتردّدٌ يسعى لحاجة غيره ... مُتَحَمِّلٌ عن قلب حامله العنا
ذو الدُّرِّ مُفْتَقِرٌ إِلى سُبُحاتِه ... وعن الجُمان بها لحامله غنى
يا مَنْ أَعار السيفَ شِدّةَ بأْسه ... وأَطاعه الفَلَكُ المُدار وأَذْعَنا
أَنا من يفضله القبول على الورى ... أَمّا إِذا وَقع الصُّدود فمن أَنا
ما بِعْتُ فيك الخلْق حتى زُرْتُهم ... فعلمتُ أضنك فوقهم متيقنا
وَمَخافتي أضنْ لا يكون لرغْبتي ... أَثَرٌ فأَبقى لا هُناكَ ولا هُنا
قد أَرْجف الحُسّاد أَنّي غَلْطَةٌ ... كُتِبت فأَصْبح كَشْطُها مُتَعَيِّنا
والفضل يأْنف أَن تُصيخَ لناقصٍ ... حاشا لسمعك أَن يُشافَه بالخَنا
لا ترْمِني رميَ القُلامة وارْمِ بي ... في مطلبٍ رَمْي الجمار إِلى مِنى
إِني أَعوذُ بما حَوَيْتَ من العُلى ... مِنْ أنْ يُخَرَّب فيَّ رأْيُك ما بنى
أَيروعني نَقَدٌ وأَنت جعلتني ... أَسداً، وأَنْبَتَ لي رجاؤك بُرْثنا
أَعْرَضتَ، والغزّي أَنتَ غرسته ... فَعَلامَ تُعْرِض عن جَناه وما جنى
جاءت مديتُه نِكاحاً جائزاً ... وأَتَتْ مودّتُه بلا مَهْرٍ، زِنا
يا آل مُكْرَمٍ، المَكارِمُ لم تزلْ ... مُشتقةَ الأسماءِ منكم والكُنى
نحن النّباتُ وأَنتمُ السحب التي ... تهْتَزّ تحتَ قِطارها أرض المُنى
فصِفاتُنا في المدح لائقةٌ بكم ... وصِلاتُكم في الجود لائقةٌ بنا
لمّا صفا أَدبي تبيّن مجدُكم ... لون المُدامة في الزجاج تبيّنا
يا ابن العَلاءِ وما العلاء مُسَلَّماً ... لِسواك، زِدْ بالشارِدات تَيَمُّنا
حِرْباء رتبتك الحَسُودُ، فَوجهُه ... أَبداً يُقابل شَمْسَها مُتَلَوّنا
أقْسَمتُ بالمُتَسَرْبلين من السُّرى ... حُلَلَ الدُّجى فهُمُ العُراةُ مِن الونى
والباكياتِ من الفِراق بأَعينٍ ... يُجْرين منها في خُدودٍ أَعْينا
وعهودٍ لذات الشباب، وإِنها ... ليَرى الخَليعُ قبيحَها مُسْتَحْسَنا
أَيّامَ خَلْع عِذاره لا نعله ... يوطيه جانِبَ مُشْتهاه الأَيْمَنا
إنّ الوزير المُكْرَميّ لَمَوْرِدٌ ... لِظِماءِ هذا الخلْق، مطروقُ الفِنا
لا زال بالمنظوم من أَوصافه ... دون الممالك والغنى مُتزيّنا
وله في القاضي زين الإسلام أبي سعد الهروي:
تباً لإِسلامٍ غدا ... والأَعورُ الهَرَويّ زَيْنُه
أَيُزَيّن الإِسلامَ مَنْ ... عَمِيَتْ بصيرَتُه وَعَيْنُه
وله من قصيدة يمدح ابن مكرم:
قُلوبُ الوَرى أَشْراكُهُنّ الشَمائلُ ... وشُهْبُ العُلى أَفْلاكُهُنّ الفَضائِلُ
إِليكُمْ تُضافُ المَكْرُماتُ، ابنَ مُكْرَمٍ ... كأَنَّكُمُ الأَفْلاكُ وهي المنازل
ومنها:
صَقَلْتَ العُلى بالمَكْرُماتِ وإِنّما ... تَنِمّ بأَسرار السّيوفِ الصَّياقِلُ
سَماحُك والتَّقريطُ زَندٌ وقادِحٌ ... وعَزْمُك والتوفيق فحلٌ وشائل
ومنها:
تقدَّمْتَ فضْلاً إن تأَخّرتَ مُدّةً ... هَوادي الحَيا طَلٌّ وعُقْباه وابِل
وقد جاء وِترٌ في الصلاة مؤَخَّراً ... به خُتِمَتْ تِلك الشُفوع الأَوائل
ومنها:
وما أَنت إِلاّ النّصْلُ، والدّهْرُ غِمْدُهُ ... وما قيمةُ الأَغْماد لولا المَناصِلُ
ولِمْ لا تَرى نَبْتَ المدائح نامياً ... وكَفُّكَ غَيْثٌ والرّياض الأَفاضل
ومنها:
ويلزَمَني لِمْ أَنت في الفضل طاعِنٌ ... وما أَنت جسّاس والفضْلُ وائل
خُطوبُك نارٌ، والكريم وَذِيلَةٌ ... وتحت لهيب النّار تصفو الوذائلُ
ويا همّتي لا تُنْكِري شَيْب لِمّتي ... فذا النّورُ بين الجهْل والحِلْم فاصل
ومنها في المديح:
هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فديح:
هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فإِنّه ... بها باخِلٌ، والسّمْحُ بالمجدِ باخلُ
إِذا زُرْتَه فاستغْن عن باب غيره ... فَساقِطَةٌ بالواجباتِ النّوافِل
وَقِفْ تحت رأْيٍ منه أَو تحت رايةٍ ... فلا الحدّ مَفْلولٌ ولا الرأْيُ فائل
إِليه مَرَدُّ الأَمْر، والأَمْرُ مُشْكِلٌ ... وفيه مَجالُ الفِكْر، والفكر ذاهل
ومنها في صفة القلم:
له ترجُمانٌ من بني الماء نَبَّهَتْ ... على فَضْلِها بالقُرْب منه الأَناملُ
يَزينُ، وإِن لم يشك شيباً، قذالَه ... خِضابٌ، بمَسْح الرأْسِ في الحال ناصل
وظمآن يَرْوى بعد شَقِّ لسانه ... ولو صحّ لم تَنْقَعْ صَداه المَناهِلُ
تَوَهَّمَ أَنّ السِّفر بَحْرٌ فما له ... سوى موضع العُنْوان والختم ساحل
إِذا سُقِيَتْ منه القراطيسُ أَحدقت ... وأَثمر عود المُبْتَغى وهو ذابل
وأَلطفُ ما في صُنْعِه أَنّ رَمْزَه ... بمصر إِلى مَنْ بالعِراقَيْن واصِلُ
وأَنّ الذي يسقيه حين يَمُجُّهُ ... لِجانٍ وعافٍ منهُ حَتْفٌ ونائل
كَذا ثمراتُ الأَرْض، والماءُ واحد ... به اختلفتْ أَلوانها والمآكل
ومنها في وصف الكتابة:
كأَنّ المعاني في مَحاريبِ كُتْبِه ... قَناديلُ ليلٍ والسُّطورُ سَلاسلُ
كَواكب عَجْمٍ في أَهِلّةِ أَحْرُفٍ ... بُدورُ المعاني بينهنّ كَوامِل
ومنها:
ولي عادةُ التخفيف، والوصلُ في الهوى ... لِكثرتِه يُقْلى الحبيبُ المُواصِل
وقد تكْثُر الأَلفاظ من ذي فَهاهَةٍ ... وما تَحتها إِلاّ المعاني القلائل
قَنا المجدِ ما ثَقَّفْتَ بالحمد والنُّهى ... أَسِنَّتَه، والمَكْرُماتُ العَوامِل
ومنها:
بَقيتَ بقاءَ الدَّهرِ يا كَهْفَ أَهلِه ... وهذا دُعاءٌ للبريّةِ شامل
وله من قصيدة أولها:
أَمامَكَ المُصْمِياتُ السُّمْرُ والحَدَقُ ... فَقَيِّدِ القَلْبَ إِنّ الظَّعْن مُنْطَلِقُ
ومنها:
جيرانَ سِقْطِ اللِّوى شَطَّتْ منازِلكم ... فليس يُدْركها وَخْدٌ ولا عَنَق
هلاّ سَأَلتمْ على بُعدٍ بذي سَقَمٍ ... أَراق ماء الكرى مِنْ جفنه الأَرق
ومنها في الشيب:
ما اسودّ عيشي، وذهني والنُّهى كَمُلا ... حتى تَشَعْشَعَ هذا الأَبيضُ اليَقِقُ
ومنها في المدح:
تَبْدُو مناقِبُه من حَيْثُ يستُرها ... والمِسكُ من حُقّة الداريّ مُنْتَشَق
حِدْ عن مُباراتِه واخْطُب مَبَرَّتَه ... فَعَزمُه البحر فيه الغُنْمُ والغرق
تُمْسي خزائنه من جُودِ راحتِه ... بيداءَ، لا ذَهبٌ فيها ولا وَرِقُ
وتحسبُ الوَفْرَ غُنْماً والعُلى أُفقاً ... إِذا انجلى الغَيْم أَبدى حَلْيَهُ الأُفُق
أَمَا تَراني به استعصمْتُ من زمنٍ ... ثوب التَجَمُّلِ في أَحْداثِه خَلَق
ومَن أَكابِرَ، عَنْ تَشْييدِ مَنْقَبَةٍ ... أَلهتهم الخيلُ والغِلمان والسَرَق
وكُلُّهم يشتكي جوعاً ويَفْدَحُه ... خَرْجٌ وليس له رِفْدٌ ولا طَبَق
فلستُ واللهِ أَدري بدر مكسبهم ... في أَيّ بُرْجٍ من الإنْفاق يَمَّحق
من صاحبٍ، ربّ دست جدّ مُحتجبٍ ... وحاجبٍ عندها الإِمْلاق والمَلَق
أَيدي سبا، غير أَنّ المنعَ يجمعهم ... كما تداخل في المسرودةِ الحَلَق
ومنها:
عجبت من جَهْلهم ما وافقوك، وإِن ... كان التخلّقُ لا يُنْسى به الخُلقُ
وكيف قربُك لم يصْقُل خلائقهم ... وقد يُضيء بقُربِ الكوكبِ الغَسَق
وله من أخرى:
لولا مُزاحَمةُ الصَّباحِ، وإِنْ هدى ... كان الكرى، يا طَيْفُ، قد أَسْدى يدا
فَرَسَيْ رِهانٍ كُنتما يَعْلوكما ... رَهَجٌ فما واجَهْتني حتّى بَدا
والغَرْبُ مثلُ الغِمْد مُنْتَطِم الحُلى ... والشَّرق مثل النَّصْل مُنْتَثِر الصَدا
والصُّبحُ مَلْكٌ والنّجومُ رعيّةٌ ... بَصُرت بغُرَّتِه فَخَرَّتْ سُجَّدا
متأَلِّقٌ قابلتُه فكأَنّما ... قابلتُ تاج الحضرتين محمّدا
صدراً أَراح المُعْتَفين رجاؤُه ... رَوْح العُفاةِ يَزيدُ في تَعَبِ العِدا
أَغْنَتْهُ عن خِلَعِ الملوك سَجِيَّةٌ ... خَلَعَتْ عليه من الصّفاتِ السُؤْدُدا
ومنها:
مَنْ يكتَحِلْ بضياء وجهكَ لم يخفْ ... رَمَداً، وإِنْ عَدِم الجَلا والإِثْمِدا
ومنها:
وافي زمانُكَ آخِراً، وتقدَّمَتْ ... بكَ هِمَّةٌ، في كفِّها قَصَبُ المَدى
فَغَدَوْتَ كالعُنوان يُكْتَب خاتِماً ... وبذاك في حالِ القراءة يُبْتَدى
ومنها:
لا أَقْتَضيكَ بما سماحُك فوقه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا
السّيفُ لولا أَنْ تُجَرِّدَه يدٌ ... أَكَلَ القِرابَ بحدّه فتَجَرّدا
والبدْرُ لو لم أَلقه مُسْتَسْعِفاً ... مِن نوره لَلَقيتُه مُسْتَسْعِدا
ومن قصيدة:
وما الفضْلُ إِلاّ مُزنَةٌ أَنت ماؤها ... وإِن كان فيها للفصيح رعودُ
وليس يفي لحن الهَزار وإِن شدا ... بصَرْصَرة البازي غداة يَسيدُ
وكم قائلٍ أَلزمتَ نفسَك مذهباً ... يَشُقُّ، وحَمْلُ الفادِحات يؤود
إِذا كنتَ صَبّاً لم تَصِفْ قمر الدُّجى ... ولم تكْتَرِثْ بالخُوطِ وهو يَميدُ
فقُلتُ له ذَرْني أُفَضِّلُ كاملاً ... إِذا لمْ يكُن فوقَ الكمال مَزيد
فما للغُصونِ المُسْتقيماتِ أَوْجُهٌ ... ولا للبُدورِ المُشْرِقات قُدود
ولا لكريمِ المُلْكِ في أَهلِ عَصْره ... نظيرٌ ولا في السُّحْب يومَ تَجُود
فَتىً، حَظُّهُ في ناظر الملك إِثْمِدٌ ... ومَسْعاهُ في جِيد الزّمان عُقودُ
وله من قصيدة في التهنئة بعيد الفطر:
صَوْمٌ أَغار عليه فِطْرُ ... كالنّجمِ بزَّ سَناه فَجْرُ
بِنْ يا صيامُ فلمْ تزلْ ... فَرْعاً له الإِفطار نَجْر
وله الشّهورُ وإِنما ... لك من جميع الحَوْل شهرُ
ما كنتَ أَوَّلَ راحلٍ ... ودّعْتَ والزّفراتُ جَمْر
ومنها:
بدأوا بأَخذ قلوبنا ... زاداً وقالوا نحن سَفْر
ومَضوْا وما لِقبابهم ... إِلاّ عَجاجُ الخَيْل سِتْر
حذراً على بيضٍ وسُمْر دونها بيضٌ وسُمْر
هذا مأخوذ، بل مسلوخ، من قول ابن صربعر البغدادي:
بيضٌ وسُمْرٌ في قِبابهمُ ... ممنوعةٌ بالبيض والسُّمْرِ
ومنها في المخلص:
غُمْرٌ من انْتَجع الحيا ... وندى بهاء الدين غَمْر
ومنها في المدح:
صَدْرٌ يجود، وعزمُه ... قلبٌ له التوفيق صَدْرُ
كتب الكواكبُ مدحَهُ ... فعلى المجرّة منه سطر
يَلْقى المؤمِّلَ باسماً ... كرماً تهافت عنه كِبر
والحبّ مَوْقوفٌ على ... بَشَر يقابل منه بِشْرُ
في خَطّه دُرَرٌ يَجُو ... دُ بِهنّ يُمْناه بَحْر
ولِكُلّ عافٍ عندَه ... معنىً من الإِحسان بِكْر
نال العُلى كَسْباً وليس لوارث العلياء فخر
كاللَّيْثِ علَّمه السُّطى ... نابٌ يصولُ به وظُفْر
فسمَتْ به وسَما بها ... فكِلاهما عِقْدٌ ونَحْر
فكأَنّه والمجد حين تمازجا ماءٌ وخمر
ومنها في التهنئة والشكر:
فاسعَد بعيدٍ رسمُه ... من جُود كفِّك مُسْتَمِرُّ
منْ نُور وجهك يَسْتَمِدّ فأَنت شمسٌ وهو بدر
قد جاءَتِ الصّلةُ التي ... تفصيلها خِلَعٌ وتِبْر
فجمعتُ شكري كلَّه ... ووَسَمْته بك وهو كُثْر
وأَخافُ أَن تُسدي يداً ... أُخرى وليس لديّ شُكْر
يا مَنْ لنا مِنْ فتح با ... ب رجائه فتحٌ ونصر
نظمُ المدائح دَيْدني ... والجُودُ مالك عنه صبر
ومتى يقوم بحقّ من ... سَبقَتْ لُهاه الشِّعْرَ، شِعْر
وله من قصيدة:
أَين دَعواكَ والمَغاني مَغنِ ... والمعاني كاللفظ حاز المعاني
ونواك الشَّطونُ إِزْماعُكَ الرّحْلةَ مِنْ غزّةٍ إِلى عَسْقلان
ومنها:
إنما كانت الحياةُ حياةً ... في ليالي وصْلِ الحِسانِ، الحسان
يا خليليّ لو ملكتُ فؤادي ... جاز أَن يملك الصوابُ عِناني
ظالمي من أَراد إِنصافَ نفسي ... مِنْ هَواها، وآمري مَنْ نهاني
قد تورَّطْتُ في تعسُّفِ شَوْقي ... حيثُ لا يعرِفُ السُّلُوُّ مكاني
ومنها:
ربّ ليلٍ أَباحَ سفكَ دمِ الدّنِّ بضَرْبٍ تأْثيره في المثاني
فُوِّقَتْ للسُّرورِ فيه سِهامٌ ... وقَعتْ في مَقاتِل الأَحْزانِ
بين بيضٍ تجُودُ بالمُهَج الحُمْر، وصُفْرٍ تجود بالأبْدان
وغزالٍ تَعَلَّم الناسُ من عينيه حِفظَ النُّصول بالأَجفان
شفَع الضعف بالسُّطى، كالحُميَّا ... مَن مجيري في القَتُول الواني
كَبِدي منه خِلْبها في مخاليبِ عُقاب الصُّدودِ والهِجران
كُرةً صار كلُّ قلبٍ لصُدغٍ ... صار لمّا لواه كالصَّوْلجان
وعجيبٌ من خدّه كيفَ يَبْقى ... ماؤه بين جَمْرةٍ ودُخان
دعْ حديثَ الهوى فقد وثب العَقْلُ على الجهلِ وِثبة السِّرحان
وسلِ الله أَن يَزيدَ بهاء الدين عزّاً حضيضُه الفَرْقَدانِ
فهو من يحسب المَكارمَ ديناً ... ويَعُدُّ المديح عَقْد ضَمان
ومنها:
كلَّ يومٍ تعاقب المالَ يُمنا ... ه بِسَوطِ النّدى وليس بجانِ
لاقياً من جوارها ما يُلاقي ... طَرَفُ الرمح من جِوار السِّنان
ليس يختصّ مدحُه بلساني ... مَدْحُ شمسِ الضُّحى بكلِّ لِسان
ومنها:
ما دعوناه من بني الدّهر إلاّ ... أَهَّلَ الدّهرُ نفسه للتهاني
جُمِعَ الأُسْد والكواكب والأَبْحر والنّاسُ منه في إنسان
واستجابت له مناقبُ شَتَّى ... لم تَجُلْ في خواطر الإِمكان
هيبةٌ في طلاقةٍ، واهتزازٌ ... في ثباتٍ، وموجَزٌ في بيان
شِيَمٌ رَوّتِ القواضبَ والسُّمْر، ظِماءً، في كلّ حربٍ عوان
ومنها:
يا أَبا جعفر، أَبو الجعفر البحرُ، وقد صحّ ما ادّعاه الكاني
كيف يبقى ما أَثْبتته السجايا ... ولِكفَّيْك في النَّدى آيتان
ثمرٌ لا يَقِلّ، والعودُ ذاوٍ ... وربيعٌ، والشمسُ في الميزان
مالُكَن الدَّهْرَ، قِسْمَةٌ بعدَ وُفّا ... دِكَ بين الخُوان والإِخوان
لا كمن عَزّ خُبزُه أَن ترى العينُ مُحَيّاه في سوى رمضان
وله من قصيدة في وزير بعد سمل عينيه ويذكر ما جرى له في القلعة:
اللهُ جارُك والنبيُّ الهادي ... يا من يُوالي فيهما ويُعادي
كِلْ ما يَهولُ من الأُمورِ إِلى الذي ... عَلِمَ السَريرةَ فهو بالمِرْصادِ
كم سَرّ آخرُ عارضٍ من بعد ما ... ساءتك منه طلائع وهوادي
في كُلّ حُكْمٍ حِكمةٌ مدفونةٌ ... كشرارةٍ عطَّيْتَها برَماد
ما النّاسُ إِلاّ جازِعٌ أَو طامعٌ ... خُلِقُوا عبيدَ السيف والإِرفاد
لو كان يُنْجي الاعتزالُ نجا به ... مما دهاه، الحارثُ بن عَباد
ومنها:
تَبَّتْ يدُ الأَيام إنَّ صروفها ... سَقَمُ الكِرام وصِحَّةُ الأَوْغادِ
لو أَنصَفْتك لكنتَ أَشرفَ رائحٍ ... في تاجِ مملكةٍ وأَكرمَ غادِ
لكنْ خُلِقْنا في زمانٍ جاهلٍ ... بمواضع الإًصلاح والإفساد
يصف عمى الممدوح:
لِلهِ في إِبقاء عِزّك باذِخاً ... سِرٌّ حَداه من المشيئةِ حادِ
مِنْ بعدِ ما ظنّ السَوادُ من الوَرى ... أَنّ العُلى في مُقلةٍ وسواد
هيهاتَ خاطرُكَ المنير تخاله ... كالشَّمس أَو كالكوكب الوقّاد
وعَمى العُيون، إذا البصائر أَبصرتْ ... كفٌّ عن النظر الطَّموحِ العادي
أَصبحت كالفِردوس ليس ضياؤها ... بالنَّيِّرين ولا بقَدْحِ زِناد
ومنها يصف القلعة:
كم رام حربك من خميسٍ، قَلْبُه ... كاليمِّ، في التَّمويجِ والإِزباد
سدّ البسيطة نازلاً من قُلّة الجبلِ الأَشَمِّ إِلى قرارِ الوادي
حتّى غَدا الحَصن المُبارك خِنْصراً ... في خاتَمٍ من بُهْمَةٍ وجواد
واشتدّ غيظ بني السخائم واغتدَوْا ... زُرّاع ما طمعوا له بحصاد
قَصَموا الصّوارم حين يُكْرَه لَمْسُها ... من غيظهم وتَسَعُّرِ الأَكباد
فكأَنّما كان الوَباءُ كمينَهُم ... بعثوه واتّفقوا على ميعاد
ومنها:
بارزتَهُمْ بكُماة رأْيٍ كَهْلُها ... وغُلامها من حيّ مَحْض سَداد
ومنها:
إِنّ الحصون تَحَصَّنَتْ برجالها ... همْ كالمناصِل وهي كالأَغْماد
والفتحُ من ربّ السماءِ منالُه ... بالنصر لا بِتَكاثُر الأَجْناد
أَخذ الفوارسَ فارسٌ، فلْيمتنع ... بأَبي الفوارس مُقْبِلُ الأَولاد
ومنها:
إِن كان من أَهل الزمان، وجُلُّهُمْ ... للذَّمِّ، وهو يُخَصَّ بالإِجمادِ
فمن الحدائد، وهي أَصلٌ واحدٌ، ... سيفُ الكَمِيّ ومِبْضَع الفَصّاد
يا واحداً في أُمةٍ قد ساسها ... أُممُ الأَنام تُساس بالآحاد
ومنها في الشعر والشعراء:
أَما القصيدةُ فهي عِلْقٌ بِعْتُه ... في يومِ مَسْغَبَةٍ وسُوقِ كَساد
ما كثرةُ الشعراءِ إِلا عِلَّةٌ ... مُشْتقّةٌ من قِلّة النّقادِ
كُلٌّ يُهدِّد بالقريض وسيفِه ... والنَّصْلُ نَصْلي والنِّجاد نجادي
فلكُ البلاغة والفصاحة خاطري ... أَهدى لمجدِكَ كلَّ نجمٍ هادِ
ومنها في الشعر:
إِني سُئلتُ عن المكارم والعُلى ... فأَجبتُ بالإِنشاء والإِنشاد
نِعم الجوابُ لسائلٍ، جوّابةٌ ... كالرّيح في الإغْوار والإِنْجاد
تَصْطادُ من صاد الأُسود وتمسح الدنيا وتَنْقَع من غليل الصادي
وله من قصيدة في الوزير أبي المعالي ابن المطلب:
تَجودُ الأَخيليَّةُ بالخيال ... وعِقْد الجوّ مُنْتَطِم اللآلي
فيطرقنا فريداً من فريد ... وكم من عاطلٍ في حُسْنِ حال
إِذا عِفْتَ الحليّ وخِفْتَ جِرْساً ... فكيف أَمِنْتََ رائحة الغوالي
أَلم تعلم بأَنّ الريح إِلبٌ ... على سِرّ المَلاب بكلّ حال
فَمُرْ مهما سريتَ اللُّوحَ يعقِدْ ... بأَزْرارِ الجَنوب عُرى الشّمال
ومنها:
عجبتُ لحبِّ أَفئدةٍ مصونٍ ... نُبدّده لنَمْل هوىً مُذال
ومنها وقد أبدع في هذا المعنى:
تبدّلني النوى لوناً بلونٍ ... فيُظْلِم خاطري بسَنا قَذالي
كذاك المسك أَحمرَ كان قِدْماً ... ولكن سوّدته نَوى الغَزال
وما خُلِق الفَراشُ وطار إِلاّ ... ليعلم كيف يَهْوى النارَ صالِ
ومنها:
أَمٍنْتُ حوادث الأَيّام لمّا ... غسَلت يَديَّ من جاهٍ ومال
ملِلْتُ العيش حتّى كدتُ أَشكو ... جِنايات المَلال إِلى الملال
وما اعتاص المَرام عليّ إِلاّ ... وجدت التَرْك يُرْخِص كلَّ غال
تَحُلّ بي النوائب ثم تمضي ... وما نحتت خِلالاً من خِلالي
وأَحملها كَحَمْل بَنانٍ كَفّي ... أُلوفاً في الحِساب ولا أُبالي
وله من قصيدة في مدح الوزير أحمد ابن نظام الملك ويصف فتح البلاد المزيدية وقتل صدقة بن منصور:
جَلا لكَ وَجْهَهُ الفتحُ المبينُ ... وَمَدّ بضَبْعِك السَبَبُ المتين
وكان الخطب في التقدير صعباً ... فهانَ، وأَيّ صعبٍ لا يهُون
ومنها:
إِذا استغنيتَ عن جَدٍ بِجَدٍّ ... فكلُ يدٍ تصول بها يَمين
صَوابُ الحال مَبْدا الأمرِ يَخْفى ... ولكنْ عند مَقْطَعه يَبينُ
وقد تَدْنُو المَقاصد والمَباغي ... فتَعْتَرِض الحوادثُ والمنون
وما اللَّجِب اللُّهام بذي امتناعٍ ... غداة يقوده الضَرَعُ المَهِين
ومنها في الأمير صدقة:
أَقام بأَرضِ بابلَ مُسْتَبِدّاً ... يُراسِلُه الإِمام فما يَدين
ويُوسِعُه غياث الدّين حلماً ... وغَيْرُ مُثَقَّفٍ ما لا يلين
يَتيهُ بِثرْوَةٍ وطنين صِيتٍ ... وأَجنحةُ البَعوض لها طنين
ولمّا لم تَعِظْهُ من اللَّيالي ... قرائنُ، بعد ما خَلَتِ القُرون
سَرى ورَمى الفُراتَ وراءَ ظهرٍ ... فُنوناً جمة كان الجُنون
فأَقبل وهو لاسم أَبيه ضِدّ ... وأَدبر والبَوار له قرين
حمى اللَّيْثُ العرينَ، وآلُ عوفٍ ... ليوثٌ كان يَحْميها العرين
فلمّا أَصحروا صاروا نِقاداً ... ومن شَرّ الحَماسة ما يخون
في الفرار:
كأَنَّ الأَعوجيَّة يوم فَرّوا ... مُقَيَّدةُ القوائِم أَو صُفون
ومنها:
دُعاء الخَلْق للسّلطان فرضٌ ... لأَن الشَّرْع ماءٌ وهو نون
كأَنّ ركابه الأَفلاك تجري ... ومِنْ حركاتها حَصَل السّكون
ومنها:
خَلَتْ أَرض العِراق فلا هِجانٌ ... يَرُوق له الثَّناء ولا هَجين
وَجَفّ النّاسُ حتى لو بَكَيْنا ... تعذّر ما تُبَلُّ به الجفون
فما يَنْدى لممدوح بَنان ... ولا يندى لمَهْجُوٍّ جبين
ولو أَطلقْتَني لهَربتُ مِنها ... أسيراً من جَوامِعه الدّيُون
ومنها:
فلا تُغْفِل ملاحظتي، فجاهي ... بما اكْتسبته آمالي رَهين
وظنّي كان ضامنَ ما أُرجّي ... فإِنْ أَخّرْته أُخِذَ الضمين
وله من قصيدة في الشيب في مدح القاضي ابن الخطيبي وأحسن في تشبيهه بالغبار:
مَسَحَتْ عارضي وما ذاك إِلاّ ... أَنها ظنَّتِ القَتير غُبارا
وأنا شبهته بالغبار في موضع آخر، وأظن أني ابتكرت المعنى، وهو من قصيدة طويلة:
وما مشيب المَرءِ إِلا غُبْرَةٌ ... تعلقت من ركض عُمْرٍ قد غَبَر
وذكرت المعنى في كلمة أخرى طويلة منها:
ليْلُ الشّبابِ تَوَلّى ... والشّيْبُ صبحٌ تأَلّقْ
ما الشَّيْب إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْض عمري تَعَلَّقْ
ما الشَّيْبُ إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْضِ عمري تَعَلَّقْ
ركبتُ لمّا تكهَّلْتُ بعدَ أَدهَمَ أَبْلَق
وضاع مفتاحُ وصل الحسان فالبابُ مُغْلَق
ولا حِزامي وثيق ... ولا عِنانيَ مُطْلق
وشبّهت الشيب بتتريب الكتاب مبتكراً المعنى في قولي من كلمة طويلة:
أَصُدوداً ولم يَصِدُّ التَّصابي ... ونِفاراً ولم يَرُعْك المشيب
وكتابُ الشّبابِ لم يَطْوِه الشيْبُ ولا مَسّ نَقْشَه التَتْريبُ
رجعنا إلى الغزي ومن قصيدة الغزي:
يا شُموس الحِجالِ كان الشّبابُ الجَوْن ليْلاً يستصحب الأقمارا
طَلَع الفجر فاطّلعن علينا ... إِنّما تَطْلُع الشموس نهارا
ومنها:
وسهَوْنا عن قَصٍّ أَجنحة العمر بما يُصْلِحُ المَعادَ فطارا
ومنها في المدح:
وَغَدا يُعتِق العبيد زماناً ... ثم أمسى يستعبد الأحرارا
ومنها:
يُفْحِم النّاطقين بالحرف، والكو ... كبُ مهما تَبَلَّجَ الصُّبْحُ غارا
ومتى حَلَّ مُشْكِلاتِ الخَفايا ... حلّ عن جيد فهمك الأَزرارا
ومنها في القلم:
وله المزبر الذي ينظِمُ الأَحْرُف زَغْفاً، يثني بها الأَقدارا
قلمٌ خِلْته لكثرة ما يأ ... سو كُلومَ الورى به مِسْبارا
لو كتبنا إِليه عُونَ المعاني ... أصبحت في مديحه أَبكارا
ومنها:
دُمْتَ في وجنة الرياسة توريداً وفي ناظر العُلوم احوِرارا
وإِذا كان دونَك اللهُ دِرعاً ... جَعَلَ الأَيديَ الطِوال قِصارا
ومنها:
ليس هذا بِمدْحَةٍ إِنَّما نكتُب أَمثال ذا إِليه اعتذارا
وله من قصيدة في ظهير الدين ابن الفقيه صاحب المخزن بعد خلاصه من حبس السلطان محمد بن ملكشاه:
كم ذا التَّجانُف، والصُّدود فِراقُ ... أَأَمِنْت أَنْ تَتَذَمَّمَ العُشاقُ
أَطلقْتَهم باليأْس من صَفَدِ المُنى ... يأْسُ المُقَيَّدِ بالمُنى إِطْلاق
للحُسن أَمواهٌ تروق بروضةٍ ... وعلى مواردها الدّماء تُراق
سَكْرى الفِراق وإِن صَحَوْا مَرْضى الهوى ... والحبُّ ما لمريضه إِفراق
نطقوا بأَعينهم وأَفصحُ صامتٍ ... دمعٌ يفُضُّ ختامَه الأَشواق
ومنها:
ما كان صفو العيش إِلا مَنْصِباً ... لمُخالف الأَيام فيه وفاقُ
فعُزِلْتُ عنه، وللرجال بعزلها ... مثلُ الغواني، عِدّةٌ وطلاق
أَنفقتُ من كيس الشباب على الهوى ... يبقى الغِنى ما أَمكن الإنفاق
ومنها:
صبراً فإِن الصبر فيه مشقةٌ ... فيها لِمعراج المُراد بُراقُ
وإِذا رنا طرْفُ النوائب فابتهج ... فمن الرُنوُّ تَوَلَّدَ الإِطراق
ولقد صَحِبت الليل يسحبُ مِسْحَه ... والجوّ خَصْرٌ والنّجوم نِطاق
ومنها:
بخلاص خالصة الخلافة بعدما ... يئست قلوبٌ أَن يُحَلَّ خِناق
إِحماد عاقبة العناء عِنايةٌ ... والمجد فيه السمّ والدّرْياق
ومنها أيضاً:
ثقُلت مغارمُه فزاد نوالُه ... كالعود ضاعف طيبَه الإِحراق
ومنها:
لا تَعْتِبنّ على الخطوب، فربّما ... خَفِي الصوابُ فأَخطأ الحُذّاق
شُربُ الدواء المرّ يُعْقِب صحةً ... تحلو، وإِن لم يحلُ منه مَذاق
ومنها:
خِلَعُ الإِمام، ولم تزل أَهلاً لها، ... شرفٌ يُمَدّ له عليك رِواق
وأَجلّ منها ذكره لك في النوى ... والاشتمال عليك والإِشفاق
ما تنسج الأَيدي يبيد، وإِنما ... يبقى لنا ما تنسج الأَخلاق
وله من قصيدة في الأستاذ أبي إسمعيل:
لا تحسبوا فَيْض عبرتي عَجَباً ... لو قُيِّد الدمع بعدهم وَثَبا
إِنّ المُغذّين بالدُّمى تَخِذوا ... خاورق الحجب دونها حُجُبا
ومنها:
وربّ خطبٍ حللتُ عُقدته ... بمنزلٍ لا تُحَلّ فيه حُبا
ومَلِكٍ جُبتُ نحوه ظُلَماً ... فزرته مُشرق المنى، شَحِبا
جاد بما يملأُ الحقائب لي ... وجُدتُ بالشعر يملأُ الحُقُبا
وكم تصيَّدتُ والصِّبا شركي ... سِرْبَ ظِباء لحاظُهن ظُبا
يصف الغدير:
على غديرٍ برَوْضَةٍ نظمَتْ ... نُوّارُها حول بدره شُهُبا
يدقّ فيه الغمامُ أَسهمه ... فيكتسي من نصالها حَبَبا
ويَعْجُم الطلّ ما يَخُطّ على ... صفحته مَرُّ شَمْأَلٍ وصَبا
بُرود نقشٍ كأَنما خلع الأَيْم عليهن بُرْدَهُ طربا
لو كنّ يَبْقَيْن ظنَّهُن صفيُّ الدولةَ الأَحرف التي كتبا
عاقلة الفضل وابن بجدته ... وقلب جسم الزمان، لا وَجَبا
وله من قصيدة:
بَيني وبين رضاهم مَهْمَةٌ قُذُفُ ... وعند بطء التلاقي يسرع التلفُ
ومنها:
أَفدي الذي ضمّني والبين يَحْفِزُه ... ولم يَرُعْه انحناءُ الظهر والشظفُ
إِذا تعانق مُنادٌ ومعتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والأَلِف
والحظّ من جوهر الأَشياء سَلْه ولا ... تسأَل من الله قَدّاً زانه الهَيَفُ
فالقوس، في قبضة الرامي، لعزّتِها ... والسّهم، من هُونه، يُرْمى به الهدف
لم يُبْقِ لي زمني شيئاً أُسَرُّ به ... فالحمد للهِ لا فَوْزٌ ولا أَسَفُ
عَرّى أَاكبِرَه من ثَوْبِ مَحْمَدةٍ ... فالقومُ في السّابغات اللُّبَّسُ الكُشُفُ
لم يقنعوا بحجاب البخل فاحتجبوا ... كما غلا بعد سوء الكِيلَة الحَشَفُ
وإِن جرى غلطٌ منهم بمكرُمةٍ ... فَبَيْضَةُ العُقْر لا يُرْجى لها خَلَف
أَعجِبْ بهم قطُّ في الآراء ما اتّفقوا ... على صَوابٍ، وفي التقصير ما اختلفوا
ومنها:
حمى أَبو طالب طُلاّبَ نائِلهِ ... عن بِذلةٍ، للعلى من مثلها أَنَفُ
ومنها:
إِني لأَطمعُ في أَني بلمحتهِ ... يوم النّدى من صروف الدهر أَنتصف
في فقر الممدوح وضيق يده عن الممنوح:
لا عيْبَ فيه سوى ظلم الزمان له ... والدهرُ معتذرٌ يوماً ومُقْتَرِفُ
وإِنما رام بالإِنفاض وَقفتهُ ... عن هزّة الجود، والأَفلاك لا تقف
عَلياه تحت عَجاج الحالِ واضحةٌ ... كطلعة البدر ما أَزرى بها الكَلَف
وربّما حال دون الجود ضيقُ يدٍ ... والغيثُ أَحواله في الجود تختلف
ومنها:
قد فلَّ غَرْب القوافي جهلُ سامعها ... ونالت المَهْرَ، دون الكاعب، النَّصَفُ
وضاعت الأَرض بالأَحرار واتصلت ... نوائبُ الدهر حتى مالها طرف
ومنها:
لك الفصاحة ميدانٌ شأَوتَ به ... وكلنا بقصورٍ عنك نعترف
فمهّدِ العُذر في نظمٍ بعثتُ به ... مَنْ عنده الدُّرُّ لا يُهدى له الصَّدف
وللغزي:
لا يَفْرَحَنّ بما أَتاه مُعَجَّلاً ... فلكلِّ تشبيبٍ طويلٍ مَخْلَصُ
ولعلّ دولته جَناحا نملةٍ ... كم عاثرٍ بذُيولِ ما يتقمَّصُ
وله من كلمة سبق ذكرها:
فأَنت إِذا نطقت أَبو المعاني ... وأَنت إِذا كتبت أَبو المعالي
صَلاة مكارم الأَخلاق فرض ... وما غيرُ الأَذان على بِلال
وقد جاءتك مُحكمةٌ شَرودٌ ... تَمُتّ بنفثةِ السحر الحَلال
لو امتلأَت بها أُذنُ ابنِ حُجرٍ ... لعلّقها مع السبع الطِوال
وله:
أَبو جعفرٍ في كفه أَلف جعفر ... يفيض، ويغنيينا عن الوشل البَرْضِ
له الخُلُق المبنيّ في الجود لم يزل ... وما دونه للرفع والنصب والخفض
يَهِشّ بمن يلقاه والدهرُ عابسٌ ... ويبسُط كفّ الجود في موضع القبض
وله:
جبانٌ عن الإِنفاق، والمال وافرٌ ... وربّ سلاحٍ عند من لا يقاتلُ
وما الرزق إِلاّ طائرٌ أَعجب الورى ... ومُدَّتْ له في كل فنّ حبائلُ
وله:
كنتَ كالدرّة اليتيمة في العِقد ... وإِن كان كلُّه من لآلي
وله من قصيدة:
قومٌ كأَن ظهور الخيل تُنبتهم ... وما سمعتُ بإِنباتٍ بلا مطر
لا يجسُر الطيفُ يسري في منازلهم ... مهابة خَيَّمت في مَطْمَحِ الفِكر
ومنها:
هذي الوزارة لا ما كنتُ أَعهده ... أَين اعتكار الدُّجى من بَلْجة السَّحَر
ولستُ أَطعن في القوم الذين مَضَوْا ... ولا أُبرقع وجهَ الصدق بالطَّحَر
أَبدى لنا عصرُهم من عوده وَرَقاً ... فالشهب، لولا ثبات القطب، لم تَدُر
إِن كنتَ فرداً فضوء الصبح أَين بدا ... فردٌ يفيض على بادٍ ومُسْتَتِر
وربّ وطفاء لم تُشْفَع بثانيةٍ ... تَهْمي فتُنْبِت أنواعاً من الزَّهَر
فاسلم ودُم ليصير الملك ذا خطرٍ ... وقيمةٍ، قيمةُ الأَصداف بالدُّرر
وله:
يُشاركني في سيبه كلُّ ناطقٍ ... أَلا إِنما شِرْكُ المكارم توحيدُ
كأنَّ محيّا الصُّبح قابلَ فضله ... ففي خدّه من خجلة النقص توريدُ
يَزيدُ سماحاً والخطوب تُمِضُّه ... كما زاد طيباً، وهو يحترق، العود
فَضَلْتَ الورى طُرّاً وإِن كنت بعضهم ... كما فضل الأَيامَ في السنةِ العيدُ
وله:
ولما دخلتُ الريّ قلت لرفقتي ... خذوا حِذركم من داغر وخؤون
ففيها لصوصٌ في الدُّجى بخناجر ... وفيها لصوص في الضحى بعيون
وله:
لبستُ السّرورَ فأَبليته ... وبعدَ السّرور سيَبْلى الحَزَنْ
وبُدِّلْتُ من سَبَجٍ لؤلؤاً ... فأَبغضتُ كلَّ نفيس الثمن
سَنا الشيب رَحْضٌ يفيد البيا ... ضَ على أَنه لا يُزيل الدَّرن
وله:
إِن عاق فكري عن التجويد ضيقُ يدي ... فالشَّوكُ يُقْصِر خَطْوَ الراجل الحافي
أَو قصّرتْ خدمتي فالجودُ أَفضلُه ... تجاوُزُ المرتجى عن هفوة الهافي
وله:
كن في زمانك جاهلاً لا عالماً ... إِنْ كنتَ تطمع في حصول مقاصدِ
فالنار أَحرقت النضيج لأَخذه ... منها، وتُنْضج كلَّ نِيّ بارد
ومنها:
لعلوّه يدنو، وأَقرب ما تُرى ... شمسُ الضحى من أَوجها المتباعد
إِن عدّ من صِيْدِ الملوك فما خلا ... أَسلافه من عالم أَو زاهد
والعودُ يُعْرب فرعُه عن أَصله ... ويجيء من ثمراته بفوائد
وله:
لا أقتضيك بما سماحُك فوقَه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا
السيفُ لولا أَن تجرِّدَه يدٌ ... أَكل القِرابَ بحدّه فتجرَّدا
وله:
يا مَنْ ذنوبي عنده الفضل الذي ... لولا مَزِيَّتُه لكان مُسالمي
ومطلع القصيدة:
أَنا ظالمي إِن عِفتُ سَطْوة ظالمي ... بل لائمي إِن خفتُ جَفْوَةَ لائمي
ومنها:
ومُحجّبٍ جاد الوداع بضمّهِ ... فحلبت غُنْمي من ضُرع مغارمي
وظفرتُ من تقبيله متلثّماً ... بجَنى أَقاحٍ في بُطون كمائمِ
يُسْقى القضيبُ إِذا ذوى، أَما إِذا ... أَبْدى الثمار فكم له من راجم
خُفِض المنافس في انتصابك للنّدى ... فارفع دعائِمه بأَمرٍ حازم
ما في كريم المُلْك دام جمالُه ... عيبٌ سوى كرم الطّباع الدائم
شِمٌ كروْضات الرُّبى أَرَجاً إِذا ... لَطَم النَّسيمُ وجوهَها بلطائِم
وشمائلٌ أَنطقْنني من بعد ما ... كان السكوت عليّ ضربةَ لازم
ومتى اشتملتَ على العلوم وأَهلها ... أَيَّدتَ خافية العُلى بقوادم
ما الملك إِلاّ صارمٌ تُحمى به ... الدنيا، وأَنت فِرَنْدُ ذاك الصارم
جذبتْ بِضَبْعي بين قوم، فخرُهم ... في جرّ أَذيالٍ ولَوْث عمائِم
قيِّدْ عدوَّكَ بين شَرْي مَخافةٍ ... من عزمك الماضي وأَرْي مكارم
كلُّ القَنا حسنٌ ولا سِيَما إِذا ... خَلّيتَ أَطراف القنا بلَهاذِم
وله:
أَبو جعفر في كفّه أَلفُ جعفر ... من الجود ما فيهن للعَذْل مَوْرِدُ
كريمٌ كأَنّ المال خالَف أَمره ... فعاقبه بالبذل، والشَّهم يحقِد
حمى عن حروف النفي غَرْبَ لسانه ... مخافة لا، فالقول بالفعل يُنْجَد
وإِن قالها عند الصّلاة فإنها ... لإِثبات وحدانيةٍ يتشهَّدُ
وله:
ولربّما ستر الحياءُ فضيلةً ... في المرء فانكشفت بهمزة ثالب
كيتيمة الدُّرّ التي لم تنخرط ... في سلكها إِلاّ بطعنة ثاقب
وله:
لو لم أَمُتْ بهواك قال العُذَّل ... ما قيمةُ السيف الذي لا يَقْتُلُ
ومنها:
مُتَبَدِّلون لِوى العقيق من الحِمى ... إِنّ التبدّل للمصول تَبَذُّل
حَتّامَ أَنتظر الوصال وماله ... سببٌ، وهل تلِد التي لا تَحبل
ويَزيدني أَلم القطيعة رغبةً ... فيكم، ويُنْقِضُ مَنْكِبَيَّ وأَحْمِلُ
والعاجزان الغالبان: مُعاقبٌ لا ينتهي ومعاتب لا يخجل
وتغيُّرُ المعتاد يَحْسُنُ بَعْضُه ... لِلْوَرْدِ خدٌّ بالأُلوف مُقَبَّل
ومنها في المدح:
صَدْرٌ يُعير الشمسَ ضوءَ جبينه ... ودُوَيْن أَخْمَصِه السّماك الأَعزل
يبغي ببذل المال إِحرازَ العُلى ... والعَرْف يبقى يوم يَفْنى المَنْدل
إِن كان يستر بالتواضع مجده ... فالقلب تحت شَغافه لا يُجْهل
والنّصر ليس يَبينُ حقَّ بيانه ... إِلاّ إِذا ستر الخميسَ القَسْطَل
يا واحداً هو في المكارم أُمّةٌ ... وبجوده حسد الأَخيرَ الأَوَّلُ
لمُساجليك من المعالي لفظُها ... ولك المعانين والمعاني أَفْضلُ
فاسلم لهذا الملك فهو مفازةٌ ... جَدْواك للصادين فيها مَنْهَل
وأنشدني بأصفهان الشاب أبو المحاسن بن فضلويه، وكان الغزي في داره عند كونه بها، قال أنشدني لنفسه في الكوفي الذي كان يحبه:
ولما رأَيتُ الحُسْنَ عزّ مَرامُه ... عليّ وكان الاشتراك شنيعا
عشقتُ قبيحاً كي أَفوز بوحدةٍ ... فشاركني فيه الأَنامُ جميعا
وأنشدني أيضاً فيه:
يقولون ماءُ الحسن تحت عِذاره ... على الحالة الأولى، فقُلتُ غرور
أَلسنا نعاف الماء من أَجل شَعْرةٍ ... تُخالط عَذْب الماء وهو نمير
وأنشدني له فيه وكان فقيهاً:
سأَلت الكويفي في قُبْلةٍ ... فنام على وجهه وانبطحْ
وقال فهمتُ دليل الخطاب ... ومن عَشِقَ الدَّنَّ باس القدح
وفائدة الفقه أَن تهتدي ... إلى صورة الغَرض المقترح
المهذب أبو الحسين
أحمد بن منير الطرابلسي
كان شاعراً مجيداً مكثراً هجاء معارضاً للقيسراني في زمانه، وهما كفرسي رها، وجوادي ميدان. وكان القيسراني سنياً متورعاً، وابن منير مغالياً متشيعاً، وتوفي بعد سنة خمسين.سمعت الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ في دمشق سنة إحدى وسبعين، وهو يذكره، وجرى حديث شعر ابن مكنسة المصري وقوله:
لا تخدعنَّك وَجْنَةٌ مُحمرّة ... رَقّتْ، ففي الياقوت طَبْعُ الجَلْمَدِ
فقال من هذا أخذ ابن منير، حيث يقول من قصيدة له:
خِدْعُ الخدود يلوح تحت صفائها ... فحَذارِها إن موّهت بحيائها
تلك الحبائلُ للنفوس، وإنما ... قطع الصّوارم تحت رَوْنق مائها
فقلت له: هذا شعر جيد، وأنت لأهل الفضل سيد. فاحكم لنا كيف كان في الشعر، وهل كان قادراً على المعنى البكر. فقال: كان مغواراً على القصائد يأخذها، ويعول في الذب عنها على ذمة للناقد أو للجاحد.
وسمعت زين الدين الواعظ ابن نجا الدمشقي يذكره ويفضله، ويقرظه ويبجله ويقول: ما كان أسمح بديهته، وأوضح طريقته، وأبدع بلاغته، وأبلغ براعته. ورأيته يستجيد نثره، ويستطيب ذكره، ويحفظ منه رسائل مطبوعة، ويتبع له في الإحسان طرائق متبوعة، ويقول: كانت الجمهرة على حفظه، وجمة المعاني تتوارد من لفظه. ويصف ترفعه على ابن القيسراني واستنكافه من الوقوع في معارضته، والرتوع في مرعى مناقضته.
ولقد كان قيماً بدمشق، إلى أن أحفظ أكابرها، وكدر بهجوه مواردها ومصادرها، فآوى إلى شيزر وأقام بها، وروسل مراراً بالعود إلى دمشق فضرب الرد وجه طلبها، وكتب رسائل في ذم أهلها، وبين عذره في تنكب سبلها.
واتصل في آخر عمره بخدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، ووافى إلى جلق رسولاً من جانبه قبل استيلائه عليها وتملكه لها، وارتدى عنده من الوجاهة والكرامة حللها.
ومحاسن أبي الحسين بن منير منيرة، وفضائله كثيرة، وقد أوردت منها ما قلب في قالب الظرف وظرفه، وانصرف قلب الارتياح إلى مزج صرفه، ولم ينحرف مزاج الاعتدال باعتلال حرفه. ولم يتفق لي ديوانه لأختار مختاره، وأمتار مشتاره، وأجني من روض حسنه ورده وبهاره، ورنده وعراره، وإنما التقطت أعلاقه من أفواه المنشدين، واستفتحت أغلاقه من أيدي الموردين. وسأثبت إن ظفرت بديوان شعره، كل ما يصدع به فجر فخره، ويطلع منه بدر قدره، ويدل على سمو مناره، ونمو أنواره، وعلو ناره، ورقة نسيم أسحاره، ودقة سر سحره في معاني أشعاره، وأخفر الخريدة من سخيفها، وأوفر لها الحظ من وافر رائقها ولطيفها، وأجلو لناظرها طرف طريفها، وأغني عن ثقيلها بذكر خفيفها.
وذكره مجد العرب العامري بأصفهان، لما سألته عن شعراء الشام، فقال: ابن منير، ذو خاطر منير، وله شعر جيد لطيف، لولا أنه يمزجه بالهجو السخيف. قال: وأنشدني يوماً قصيدة له فما عقدت خنصري منها إلا على هذا البيت:
أنا حزبٌ، والدهرُ والناسُ حزبٌ ... فمتى أغلِب الفريقَيْن وحدي
شعره ككنيته حسن، ونظمه كلقبه مهذب، أرق من الماء الزلال، وأدق من السحر الحلال، وأطيب من نيل الأمنية، وأعذب من الأمان من المنية. وقع القيسراني في مباراته ومعارضته، ومجاراته في مضمار القريض ومناقضته، فكأنهما جرير العصر وفرزدقه، وهما مطلع النظم ومشرقه، وشى بالشام عرفهما، ونشا عرقهما، وكثر رياشهما، وتوفر معاشهما، وعاشا في غبطة، ورفعة وبسطة. وكنت أنا بالعراق أسمع أخبارهما، ثم اتفق انحداري إلى واسط سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فانحدر بعض الوعاظ الشاميين إليها، منتجعاً جدوى أعيانها، راغباً في إحسانها، فسألته عنهما فأخبر بغروب النجمين، وأفول الفرقدين، في أقرب مدة من سنتين. وكانت وفاة القيسراني قبله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
أنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني الشيخ المهذب أبو الحسين بن منير لنفسه من قصيدة:
لا وحُبَّيْكَ لا عبدتُك سِرّا ... ليلُ صُدغَيْك صيّر اللّيل ظُهرا
وَضَح الأَمر واستوى الناس فيه ... وافتضحنا فالحمد لله شكرا
أَيّها الصاحيان من كأْس عَيْنٍ ... غازلْتني حتى تطفّحتُ سُكرا
أعُذراً إِن أَردتما أَو فَلُوما ... في بديعٍ، حسبي عِذاراه عُذْرا
واطلبا للجُحود غيري فإِني ... لست ممن يحبّ في الحبّ سَتْرا
أَنا مِنْ أَجل خدّه دِنتُ للنا ... ر، وفي خاله عبدت الشِّعْرى
فَضَلالي بَعْدَ الهدى في هواه ... هو عندي خيرٌ وأَعظم أَجرا
وحكى الفقيه عبد الوهاب، أنه كان مولعاً يعرف بابن العفريت وفي خده خال، وأكثر أشعاره في الخال، وقد ردد المعنى فيها، فأحسن ما أنشدني له في هذا المعنى:
أَنكرت مقلتُه سَفْكَ دمي ... وعلا وَجْنَتَه فاعترفتْ
لا تخالوا خالَه في خدّهِ ... نقطةً من صبغ جفن نطفتْ
تلك من نار فؤادي جذوةٌ ... فيه ساخت وانطفتْ ثم طفَتْ
وأَبدع المعنى في هذه الأبيات وأغرب:
عَطفوه فتمادى ولَها ... عَنْ حشاً أَسْعر الوَلَها
رَقَدَتْ مُقلتُه عن مقلةٍ ... أَمَر الدمعُ عليها ونها
قمرٌ ما طلَعت طلعتُه ... قطُّ إِلاّ سجد البدرُ لها
لهبيّ السُّخْط، مائيّ الرِّضى ... فهو المعشوق كيف اتّجها
نقش الحُسْن على وجنته ... شامةً، أَمتَ حُسّادي بها
كان قد أَعوزها بستانه ... ثم لما أَشرقت فيه انتهى
وأنشدني له من مقطوع مطبوع، بالرقة مشفوع، أطيب نظم في عصرنا مسموع، وأثبت شعر أثبت في مجموع، وهو:
يا بأَبي من وَصَلا ... وملّ ممّا مطَلا
زار وقد خاط الدُّجى ... على حُلاه حُلَلا
فكدتُ، إِجلالاً له ... أُدمي يديْه قُبَلا
فقلتُ: مولايَ أَلاَ ... غير اليدين؟ قال: لا
ودار ماءُ الحسن فوْ ... ق وَجْنتيْه خَجَلا
حتى إِذا سرّى سرى ... وحين أَحيا قتلا
كما حلا طيف الخيا ... ل نفساً ثم انجلا
يا حبَّذا ذاك الغزا ... لُ لو شفاني غَزَلا
فديتُ من أَبيت منه وعليه وَجِلا
بدرٌ إِذا البدر سرى ... فيه المحاق كَمُلا
شمسٌ إِذا الشمس خبت ... تحت الكسوف اشتعلا
إذا تلطفتُ قسا ... وإن سأَلتُ بخِلا
ليت اعتدال قدّه ... عَطفَهُ فعدَلا
بل ليت صَحْن خدّه ... من ذلك الخال خلا
فهو الذي قلّب قلبي في قَواليب البلا
يا سائلي عن الهوى ... وطعمِه سَلْ من سلا
أَسكرني الحب فما ... أَدري أَمرّ أَم حلا
ومن قطعة رقيقة، غريبة المعنى دقيقة، بالثناء عليها حقيقة، لا مجازاً بل عن حقيقة، وهي:
أَترى يَثْنيه عن قسوته ... خدُّه الذائب من رقّتِه
أَفأَستنجده وهو الذي ... لوّن الدّمعَ على صبغتِه
أَوَ ما حاجبُهُ حاجبَهُ ... إِن تجافى عن مدى جفوتهِ
فلهذا قَوْسُه موتَرةٌ ... تستمدّ النَّبلَ من مقلته
قمرٌ، لا فخر للبدر سوى ... أَنّه صيغ على صورتِه
صُدْغه كرْمةُ خمرٍ قسّمت ... بين خدّيه إِلى نكهتِه
فتَّرتْ جفنيْه منها نشوةٌ ... تُوقِظ العاذل من سَكرتِه
أَتخال الخال يعلو خدَّه ... نقطَ مِسكٍ ذاب من طُرّتِه
ذاك قلبي سُلبتْ حبّته ... واستوتْ خالاً على وجنتِه
ومن أخرى في هذا المعنى، أرق من الشكوى، وآنق من زخارف الدنيا، وأحسن من الحسنى:
عاتبته فاستطالا ... وصدّ عنّي دَلالا
وهكذا مَنْ تعالى ... في حسنه يتغالى
مولايَ قد ذُبتُ صبراً ... وكم تذيب مِطالا
ما كان عهدك إِلاّ ... مثل السلوّ محالا
بل كان زُور خضابٍ ... نما، وفي الحال حالا
سلبتَ حبة قلبي ... وصُغتها لك خالا
فقد كستني نُحولاً ... كما كستكَ جمالا
يا كاملاً وجهه علّم البدور الكمالا
يا أَحسنَ الناسِ وَجهاً ... صِلْ أَسوَأَ الناسِ حالا
حاشا جمالك من أَنْ ... يستقبح الإِجْمالا
لم أَحظ منك بسُؤلٍ ... وقد فنيت سُؤالا
أَما تعلّمتَ شيئاً ... من الكلام سوى لا
ومن أبيات في وصف العذار، أخلع من خلع العذار، وأزهر من الأزهار، وأنور من النوار، وأعقر للألباب من العقار، وأنضر في النواظر من النضار، بيتان هما:
سقاني العَسجَدِيَّةَ ذو عِذارٍ ... يُنمنمُ عَنبراً في صَحْن عَسجَدْ
وحيذا باللآلئ في صِدافٍ ... من الياقوت طُرّز بالزَّبَرْجَدْ
قد وصف الشارب والشفة والمبسم في هذا البيت المفرد، وأحسن نظمه والجمع بين اللؤلؤ والياقوت والزبرجد.
وقد ألم بوصف الخط، في أبيات كاللآلئ في السمط، يصف فيها الخط والخد والوجنة، والصدغ والمقبل والنكهة، سماعها يذكر إليك الجنة، ويحدث لك إلى حورها الصبوة، ويحل لديك من هواك السلوة، وهي:
روحي الفِداءُ لمن إِذا آلمتُهُ ... عتْباً تفضّض خدُّه وتذهّبا
وتوقَّدَتْ في الروض من وَجَناته ... نارُ الحياء يَشُبّها ماء الصِّبا
خطّت سَوالِفُه عليها رُقْيَةً ... لمّا تَثَعْبن صُدغه وتعقربا
عَذْبُ المُقَبَّل، إِن تحدث أَسكرتْ ... أَلفاظهُ وإِذا تنفّس أَطربا
متغضِّبٌ دَلاًّ، فلستُ بمدركٍ ... منه الرّضا إِلاّ بأَن أَتغضّبا
ومن أبيات خفيفة، على القلب لطيفة، طريفة في المعنى ظريفة:
أَين مني الصبر عن وجهك أَيْنْ ... بين قلبي وسلوّي عنك بَيْنْ
واهن العزم إِذا استنجدته ... فتَّرته فتراتُ المقلتينْ
صار من أَعوان عينيك، كذا ... كلُّ قلب في الهوى عوناً لِعَيْن
أَيُّها الراقد عندي سهرٌ ... يُكْمِد الواشي ويُبكي العاذليْن
متُّ سُكراً، أَفمِن كأْسِ طِلا ... راق لي ريقك أضم من شفتين
أَنا لا أَصبر عمّن وجهُهُ ... فَلَقٌ مُبتسمٌ في غَسَقيْن
تَطْلُعُ الشمس لنا من شَفَقٍ ... وهو يبدو طالعاً من شفَقيْن
قلت للكاهن حين اختلست ... عينه عيني فجرّ الحين حَيْن
قمرَ العقرب خوّفتَ، فمَن ... منقذي من قمر في عقربيْن
وأنشدني الفقيه له، وجماعة من الشاميين أيضاً، ثلاثة أبيات كمثلثة الند في الطيب، في إعراض الحبيب:
ويلي من المُعْرِض الغضبان إِذ نقل الواشي إِليه حديثاً كلُّه زورُ
مقصّر الصُّدغِ، مسبول ذؤابته ... لي منه وَجدان: ممدود ومقصورُ
سلّمتُ فازورّ يَزْوي قوس حاجبه ... كأَنني كأْسُ خمر وهو مخمورُ
وله فيمن مل المطال في وعوده، وعطف إلى الوصال بعد صدوده:
بأَبي مَنْ صدّ عنّي وصدَفْ ... ثمّ لمّا ملّ من هجري عطَفْ
قلت: مولايَ أَحقٌّ ما أَرى ... بعد ما حكَّمت في روحي التَّلَفْ
قال: مِنْ أَحْمَدِ شيءٍ في الهوى ... عُقَبُ الصبر وتأَميل الخلفْ
نحن نُحيي مَنْ أَمتْنا، كرماً ... وعفا الله لنا عمّا سَلَفْ
وله في المعنى من أول قصيدة مهذبة، أبيات منتخبة، غزلة طيبة، وهي:
أَلِف الصدودَ وحين أَسرف أَسعفا ... فازْورّ عَتْباً ثم زار تَعَطفا
لبِس الدُّجى في ليلةٍ هو بدرها ... والبدر أَشهر ما يكون إِذا اختفى
طلَع الهلال وقد بدا مُتَلثّماً ... حتى إِذا حسر اللثام تنصّفا
يا طرفه، مالي أَراك خلقت لي ... داءً فهلاّ كنتَ لي منه شفا
واهي مَناط الخصر، سُنّةُ عينِه ... تُقْتَصُّ في قتل النفوس وتُقْتَفى
يبدو فتقرأُ في صحيفة خدّهِ ... من مشق أَقلام الملاحة أَحرفا
ذو وَجْنةٍ نُقشت بنقطة خاله ... ونبات عارضه فخِيلَتْ مُصْحفا
وله، أنشدنيها زين الدين الواعظ:
قِفْ قليلاً لأَسْأَلَكْ ... مَنْ مِنَ الأُفْقِ أَنزلَكْ
صِرتَ في الأَرض ماشياً ... بعد ما كنت في الفلَكْ
أَيُّها البدر، بالذي ... لمُحاقي قد أكمَلَكْ
أَيُّ شرع أَباح طر ... فك إِتلاف ما ملَكْ
وله:
فَنائي فيك أَعذبُ من بقائِي ... ودائي منك أَنفعُ من دوائِي
وذُلّي في هوان هواك عِزٌ ... وإِنْ طاحت عهودك في الهواءِ
بنفسي من يحلّل عَقْد صبري ... إذا ما ماس في عُقَد القَباءِ
ومَن يوهي قِواي بعطف صُدغ ... كما انعطف الظلام على الضياءِ
أَقول وقد بدا ينهالُ ليناً ... كما ارتجَّ اللِّوى تحت اللواءِ
أَتمثالٌ من الكافور طابت ... مَراشِفُ فيه، أَم تمثال ماءِ
فقال بل الهلال، فقلت حقَّاً ... ولكن لِمْ نَزَلت من السَّماءِ
وأنشدني له في اسم معمى وهو سر خاب:
لي سيّدٌ بعض اسمه جَنّةٌ ... وبعضُه نارُ مُحبِيهِ
مَنْ زاره كان كنصف اسمهِ ... أَو صدَّه كان كباقيهِ
تقلّص العقرب من صُدغه ... عن خدّه خوفَ تلظّيهِ
وكم له في كبدي لسعةٌ ... بَرودها الدرياق من فيهِ
وأنشدني مجد العرب العامري بأصفهان في سلخ شعبان سنة ست وأربعين، قال أنشدني ابن منير لنفسه من قصيدة:
سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدَمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لَهُمُ
ومنها:
وقال للماء قِفْ بوَجنته ... فمازج النّار وهي تضطرمُ
ولمحت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي في التجنيس، هذا البيت النادر النفيس:
أَقول وقد بدا ينهال لينا ... كما ارتجّ اللّوى تحت اللواءِ
وأنشدت له:
لامُ عِذارٍ بدا ... عرّض بي للرَّدى
أَسودَ كالكفر في ... أَبيضَ مثل الهدى
يا فرقد اللّيل لِمْ ... أَرعيتني الفرقدا
اليومَ تجفو فهل ... تجفو التَّجافي غدا
حميلةٌ سيفها قد ... سُقيَ المُرْقِدا
فالحَيفُ والحَتْف إِن ... أُغمد أَو جُرّدا
وأنشدني المهذب علي بن هداب العلثي ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي:
أَخلى فصدَّ عن الحميم وما اختلى ... ورَأَى الحِمام يغصُّه فتوسَّلا
ما كان واديه بأَوَّل مرتعٍ ... ذعَرَتْ طَلاوتُه طَلاهُ فأَجفَلا
وإِذا الكريم رأَى الخمول نزيله ... في بلدة، فالحزم أَن يترحّلا
ساهمتَ عيسَك مُرَّ عيشك قاعداً ... أَفلا فَلَيْتَ بهنّ ناصية الفَلا
لا ترض من دنياك ما أَدناكَ من ... طمعٍ وكن طيفاً حلا ثم انجلا
فارِق تَرُق، كالسّيف سُلَّ فبان في ... مَتنيْهِ ما أَخفى القِراب وأَخملا
وَصِلِ الهجيرَ بهجر قوم كلّما ... أَمطرتهم عسلاً جَنَوْا لك حنظلا
وأنشدني بمصر الشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الدمشقي سنة اثنتين وسبعين، قال: أنشدني أبو الحسن بن منير لنفسه:
عذِّبوني بهجركم عذبوني ... واطرُدوا طارق الكرى عن جفوني
أَو هَبوني دمعاً لعلّ مَعين الدّمع يوماً على هواكم مُعيني
لم يَدَعْ مِنّي الضّنا غير شيء ... ستر الشكُّ فيه وجهَ اليقينِ
كان وجدي بكم قضاءً قديماً ... أَفأَمحو ما خُطَّ فوق جبيني
وله من قصيدة كتبت أولاً منها بيتين وهي:
أَحلى الهوى ما تحلّه التهمُ ... باح به العاشقون أَو كتموا
أَغرى المحبين بالمحبة بالعَذْ ... لُ كِلام أَسماؤها كَلِمُ
سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لهمُ
ضرُّوا بِهجراننا وما انتفعوا ... وصدّعوا شملنا وما التأَموا
بالله يا هاجري بلا سببٍ ... إِلا لقال الوشاةُ أَو زعموا
بحقِّ مَنْ زان بالدّجى فلق الصّبح على الرمح إِنه قسمُ
وقال للماءِ قِفْ بوجنته ... فمازَج النار وهي تضطرمُ
هل قلتَ للطيف لا يعاودني ... بعدك، أَم قد وفى لك الحلمُ؟
فيك معانٍ لو أَنها جُمعت ... في الشمس لم يغش نورَها الظُّلَمُ
تمشي فتُردي القضيب من أَسفٍ ... وتكسِف البدر حين تبتسمُ
وتُخجِل الراحَ منك أَربعةٌ ... خدٌّ وثغرٌ ومُقلةٌ وفمُ
يا ربّ خُذْ لي من الوشاة إِذا ... قاموا وقمنا لديك نحتكمُ
واتفق انتزاح ابن منير من دمشق بسبب خوفه من رئيسها ابن الصوفي، ومقامه بشيزر عند بني منقذ. ووصل زين الدين ابن حليم إلى شيزر، فلقيه بها ورغبه في العود وخدمة معين الدين آتر الذي كان في الجود والحلم هامي الجود، سامي الطود. فلما فارقه كتب إلى ابن منير كتاباً يستنهضه إلى الرجوع ويستدعيه، ويذكر له مصلحته فيه، ويقول له لعلي أكون في إحضارك كآصف في إحضار عرش بلقيس، ويعدد له في الأوبة أسباب التأنيس، فكتب إليه ابن منير في جوابه كتاباً أملاه علي زين الدين ابن نجا الواعظ الدمشقي بمصر من حفظه وهو:
وَرَدَ الكتاب، فداه أَسود ناظرٍ ... عكفت ذخائِره عليه تبدّدُ
ليل من الأَلفاظ يشرق تحته ... فلق المعاني، فهو أَبيض أَسودُ
يفترّ عن دُرَرٍ تكاد عقودها ... من لين أَعطاف تحلّ وتعقدُ
سلام عرقوب عليك يا أشعب، وأن أعيا جوابك وأتعب، وحياك الله أيها المعصب، أنضيتنا جداً وأنت إلى السبق تلعب، أقسم بمفاتح الغيب، إنك مكبر شعيب، بلا ريب، أبن يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، غالت دون ما تدعونا إليه غول، أنا والله أيها الصدر إلى ما تدعوني إليه من خدمة هذا المولى أحرص، وإلى اقتناء تلك اليتيمة أميل وعليها أغوص، وإن عز لقاؤها وأعوص، وما بعد العهد بعد مما كنت ألقيت إليك من أطراف الأعذار للتقلص عن خدمته، والتقمص للعزلة عن ناحيته، وإن جراحي إلى الآن لم تذق حلاوة الاندمال، وقروحها تزداد قرحاً مع الحل والترحال، وبين الجوانح من الأين، لما لقيت بدمشق من العين، ما لا يحله إلا عقد الكفن، ولا يرفعه حدثه إلا التيمم بصعيد المدفن. وسوى ذلك تصعد بسعادتك وتعاين، ما كان من أمر وما هو كائن، ويلقاك فلان وفقيهه ومهنان وتيهه، وزيزان ونبيهه، من كل ذي خلق ذميم، وخلق دميم، وأصل لئيم، وفرع زنيم، ووجه لطيم، وقفا كليم، وهلم جرا من عذاب أليم، وصراط في الود غير مستقيم، ومكاشر مجرمز للوثبة، ومعاشر متوقع للنكبة، ومضافر لكن للدهر عليك، ومدان لكن للشر إليك، وها وها والخطب أفدح، والسهب أفسح:
قُلتُ لقوم كووا بنارهمُ ... مثلي وصاروا طرائقاً قِددا
طيروا معي تسْعَدوا ولا تقعوا ... قوموا فإِنّ الشقيّ من قَعَدا
قالوا عَجِزنا عن أَن نفارقهم ... قلتُ فلن تفلحوا إِذاً أبدا
فحياتي يا حياتي إذا عاينت فخبرت، وباطنت فسبرت، وعرفت تأويل هذه الرؤيا، وجنيت زهرة هذه الريا، تصلي على الواصف الذي اقتصر ولم يجنف، وتترحم على من حرمه أولئك الأوغاد، ورود ذلك المراد، الذي هو أقصى المراد، وغاية المرتاد:
فإِنّ عظيمات الأُمور مَنوطةٌ ... بمُستودَعات في بُطون الأَساودِ
ومن جملة ما أحكيه، لتحفظه عني وترويه، أن عطا عط الله فاه، كما عط بالدرة قفاه، وعن قليل يعيش فتراه، أفرط في ذمي، بعد أن ولغ أمس في دمي، وأخذ يفاضل بيني وبين كلب لو عقرني لأنفت أن أزجره، ولو عبدني لتعاليت أن أذكره، ولم يرض المأبون أن نتساوى عنده في المنزلة، حتى علي فضله، ولا شك أنه كشف عن شاقوله فشقله، ونسفه بعد ذلك وكربله، ثم إذا شاء أدخله، وبلغني فعل هذا المولى، وقطعه لسان من هو بما قال في أولى، وكنت على نية قصده إما للزيارة والإلمام، وإما للإتيان والمقام، فأذكرني أشياء كنت نسيتها، من هذا الفن بل تناسيتها، ورأيت مقامي حيث رأيت أني خالي البال، من ملامة هؤلاء الأنذال، محروس الجانب، من كل عات عاتب، ومعيب عائب، مقيماً بين أشكال.
لا أزيدك شيئاً عما وقع عليه العيان، فأنت تدعوني إلى شوك، وأنا اليوم في سمك بلا شوك، كلا وحاشا لا ألبس هذا الحوك، إلا أن أكون ذلك الجاهل المائق، المستحق للمثل السابق، الفائز باللعنتين، الملسوع من جحر مرتين، فلعن الله أبا الحسين، إن عاد إلى لبس خفي حنين، بيد أن يجري القدر بإذهاب الجفا، وتقذيذ ما في العين من قذا، فهنالك ترى الثقيل من الرجال خفيفاً، والكثير من العوائق طفيفاً، وتغص دار الهجرة بما تقدم وتلا، ويغسل ما مر من العيش بما طاب وحلا، وأما على هذه الحال فلا.
وبعد هذا، أستدعى لماذا، أنا في العر أسلح، وللكتابة لا أصلح، وبالدعابة لا أعذب، ولا أملح. وهبني كنت في زمن الشبيبة، لا أحرم أجر الغيبة، وأنفق على الحبيب والحبيبة، وأقنع بالطيبة، أنا اليوم شيخ خرف، وعود قرف، وعود أنف، وعبد كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، ليس إلا الالتحاف بالجدار، والرضا بالإقتار، والتشبه بالأخيار، والوطء لأقدام الأبرار. أليس الزرع قد ناهز الستين، وحسبك به قاطعاً للوتين؟ إلام ألعب والشيب يجد، وعلام أخلق والدهر يجد، أما أنظر المصارع في سواي، والمقصود به شواي.
وأعجب من هذه المواعظ، مخرقتي بها على واعظ. إنما أوجب هذه الفنون، وفتح عيون هذه الألفاظ العون، ما جرى من ذكر أشعب في كتابه الكريم، والسجدة بعد لربك العظيم.
وبعد فأنا يقطينة، إن قلت إنك شيرازي الطينة، أو بغدادي المدينة، بل عفريت سليمان، ألقادر على إحضار الإيوان، وعبدك غرس إبليس، لا عرش بلقيس، ودق شبراً ودمسيس، لا دق تنيس. فإن ضمنت لي السلامة من اغتيال عدو دون خدمة المولى، شمرت إلى خدمته وذيلت، وحططت رحالي بفنائه وقيلت. فما غيري بلبس قميص الدعة مني أحرى. والسلام.
الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير
القيسراني العكاوي
ولد بعكا، بلدة على ساحل بحر الروم، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونشأ بقيسارية فنسب إليها، ثم انتقل عنها بعد استيلاء الأفرنج على بلاد الساحل.صاحب التطبيق والتجنيس، وناظم الدر النفيس، ملك القبول من القلوب والرغبة من النفوس، وأحب اللحاق بابن حيوس. سار شعره، وسافر إلينا ذكره، وغلا في سوق الأدب دره، ونفقت في متجر الرغائب غرائبه، واتسعت في مضمار القريض مذاهبه، وجادت بالبلاغة السحبانية سحائبه.
ذكره مجد العرب العامري وأثنى عليه وعلى ابن منير، وقال إنه أخذ من كل علم طرفا، فنظم من الأبيات الأفراد طرفا. فمن ذلك بيت أنشدنيه، ألم ببيت المعري فيه، الذي شبه كلف البدر بأثر اللطم وهو:
ألست ترى في وجهه أثر اللطم
فأخذه القيسراني وشبهه بأثر الترب، في قوله وقد أحسن في النعة والمعنى، وهو:
وأَهوى الذي يَهوِي له البدرُ ساجداً ... أَلست ترى في وجهه أَثر التُّرْبِ
وأنشدني الفقيه علي الخيمي الواسطي بها، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني القيسراني لنفسه بحلب بيتاً من قصيدة استدللت به على معرفته بالمنطق وكلام الأوائل، وقد أعجز وأعجب، وأبدع وأغرب، وهو:
إِذا كانت الأَحداق ضَرْباً من الظُّبى ... فلا شكّ أَنّ اللحْظَ ضربٌ من الضَّرْبِ
قوله: ضرب من الضرب، ضرب من الضرب، بل أحلى منه عند أهل الأدب، ونوع من محدثات الطرب، والقاضيات بالعجب، وما أحسن وقوع هذا التجنيس موقعه، ووضع المعنى فيه موضعه، حتى قلت في هذا البيت ما أصنعه.
وأنشدني له الفقيه ابن الخيمي قطعة مجنسة في لطافة الهواء، مالكة رق الأهواء، خلصت من كلفة التكلف، وصفا مشربها عن قذى التعسف. فالأشعار المتكلفة المصنوعة، قلما يتفق فيها الأبيات المطبوعة، إلا أن يخص الله من يشاء بالخاطر العاطر، والفكر الحاضر، والقريحة الصافية، والآداب الوافرة الوافية، وربما يندر للناظم مقطعات يرزق فيها القبول، كهذه القطعة للقيسراني التي تسلب العقول، وهي:
لا يَغُرَّنَّكَ بالسّيف المَضاءُ ... فالظُّبا ما نظرت منه الظِّباءُ
حَدَقٌ صِحّتها عِلّتها ... ربّما كان من الدّاءِ الدّواءُ
مُرْهَفاتُ الحَدّ أَمهاها المها ... وقضاها للمحبّين القضاءُ
خَلِّ ما بينَ دُماها ودَمي ... فعلى تلك الدُّمى تجري الدِّماءُ
بَزَّني مَن في يدي ما في يَدي ... يا لَقَوْمي أَسرتني الأُسَراءُ
في لِقاء البيض والسُّمْر مُنىً ... دُونها للبيض والسُّمر لِقاءُ
دلوِ أَنفاسي بأَنفاسِ الصَّبا ... فلتعليل الهوى اعتلَّ الهواءُ
كيف تُشْفى كبدٌ ما برِحَتْ ... أَبداً تأْوي إِليها البُرَحاءُ
يا نديميَّ وكأْسي وَجْنَةٌ ... ضرَّجتها باللِّحاظ الرُّقباء
لا تَظُنّ الوردَ ما يَسْقي الحَيا ... إِنما الوَردُ الذي يسقي الحياءُ
وأنشدني له أخرى مطبوعة مصنوعة:
أَترى فَوَّق سهماً من حُسامِ ... يا لَهُ مِنْ ضاربٍ باللحظ رامِ
لحظات بِتُّ منها طافحاً ... أَيُّ سُكرٍ دام من أَيِّ مُدامِ
وبأَكناف المُصَلّى جِيرَةٌ ... لا يُجيرون مُحِبّاً من غَرامِ
شَغَلوا كلَّ فُؤادٍ بهوى ... وأَمالوا كلَّ سَمْعٍ عن مَلامِ
وأَباتوا كلَّ قَلْبٍ شاردٍ ... مِنْ هَواهم في عِقال وزِمامِ
ما عليهم لو أَباحوا في الهوى ... ما عليهم من صِفات المُستَهامِ
مِنْ خصورٍ وَشَّحوها بالضَّنا ... وعُيونٍ كحلوها بالسِّقامِ
وحكى الفقيه عبد الوهاب الدمشقي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: دخل القيسراني سنة أربعين وخمسمائة بلد أنطاكية لحاجة عرضت له فنظم مقطعات، يشبب فيها بأفرنجيات. فمنها قوله في أفرنجية يصفها بزرقة العين:
لقد فَتَنَتْني فرنجيّة ... نسيمُ العبير بها يَعْبَقُ
ففي ثوبها غُصُن ناعمٌ ... وفي تاجها قمرٌ مُشْرِقُ
وإِن تك في عينها زُرْقة ... فإِنّ سِنان القنا أَزرق
ومنها يصف أنطاكية:
واحَرَبا في الثُّغور من بلدٍ ... يضحك حُسْناً كأَنه ثَغَرُ
ترى قصوراً كأَنها بِيَعٌ ... ناطقة في خِلالها الصُّورُ
هالات طاقاتِهن آهلةٌ ... يَبْسِم في كلّ هالةٍ قمرُ
سَوافرٌ كلّما شَعَرْنَ بنا ... بَرْقَعهنّ الحَياءُ والخَفَرُ
مِن كلّ وجهٍ كأَنّ صورتَه ... بدرٌ، ولكنّ ليلَه شَعَرُ
فهو إِذا ما السُلُوّ حاربَهُ ... كان لتلك الضفائِر الظَفَرُ
فيا عَذولي فيهن، دعْ كَلَفي ... وانظر إِلى الشمس هل لها طُررُ
وكُنْ مُعيني على ذوي خُدَعٍ ... إِن سالم القلبُ حارب النظرُ
سِرْتُ وخَلَّفْتُ في ديارهُمُ ... قلباً تمنّيت أَنَّهُ بصرُ
ولم أَزل أَغْبَطُ المُقيمَ بها ... للقرب، حتى غَبِطَت مَن أُسِروا
ومن ذلك في كنيسة السيدة، وهي قبة شاهقة للنصارى بأنطاكية:
متى عُجتَ يا صاح بالسَّيِّدَهُ ... فَسَلْ عن فؤاديَ في الأَفئِدهْ
وقلبك حذّره عن أَن يصاد ... فإِنّ بها للهوى مَصْيَدَهْ
وجوهٌ تُباهي قناديلَها ... ببهجةِ نيرانها الموقدَهْ
ترى كلَّ مُستضعَفٍ خصرُه ... إِذا ما دعا طرفَه أَنجَدَهْ
وذات روادِف عند القيا ... م تحسَبها أَنها مُقْعَدَه
وبدر، من الشَّعْر في غاسق ... يضاحك أَبيضهُ أَسودهْ
قيا ليَ من ذلك الزَّبْرِقا ... ن إِذا زَرْفَنَ الليلَ أَو جعَّدَهْ
محلّ خَيالٍ إِذا ما رأَيت أَمردَه، قلت: ما أَمردَهْ
به كل نَشوانةٍ لحظُها ... يطرق بين يَديْ عربَدَهْ
صوارمُ قاطعةٌ في الجفو ... ن فهي مُجرّدةٌ مُغمدَهْ
فها أَنا مَن في سبيل الغرا ... م أَورده الحبُّ ما أَوردَهْ
فهل لِدَمٍ فات من طالبٍ ... وهيهات أَعجز يومٌ غَدَهْ
وكيف يُجازى بقتل النفو ... س من لم يمدّ إِليها يَدَهْ
ومن ذلك في جارية حسناء اسمها ماريا تغني بالدف، خفيفة الروح في نهاية اللطف، ومن أصواتها التي تغايظ بها النصارى وتستميل بها قلوب المسلمين:
علِقتُ بحبلٍ من حبال مُحمَّدٍ ... أَمِنتُ به من طارق الحَدَثانِ
فقال فيها بعد البعد عنها:
أَلا يا غزال الثَّغرِ هل أَنت منشدي ... علقتُ بحبلٍ من حِبال مُحمّدِ
ويا هَلْ لِذاك اليوم في الدّهر ليلةٌ ... تعودُ ولو عادت عقيماً بلا غدِ
فأَلقاك فيها هادي الكأْس حادياً ... وحسبك من ساع بها ومُغَرِّدِ
أَلا حَبّذا عاري المحاسن عاطلٌ ... مُحَلّى بأَثواب الملاحة مرتدِ
إِذا ما الأَماني ماطلتني بوَعْدها ... ذكرتُ له وصلاً على غير موعدِ
وعهدي بماريّا سقى الله عهدها ... بما عندها من حاجة الهائِم الصَّدي
وفي ذلك الزُنّار تمثالُ فضّةٍ ... تُنَقِّطُ خدَّيْه العيونُ بعَسْجَدِ
وقد غلب المصباحُ فيه على الدُّجى ... سنا قميرٍ في جُنح ليلٍ مجعّدِ
وكنت إِذا عِفْتُ الزجاجةَ مَوْرداً ... سقتْني رُضاباً في إِناءٍ مورَّدِ
فيا ليَ من وجهٍ كقنديل هيكلٍ ... عليه من الصُّدغين مِحْرابُ مَسجِد
لقد أَسرتني حيث لا أَبتغي الفدا ... فقلْ في أَسيرٍ لا يُسَرّ بمفتدي
وقد قصد بقصائده، ووفد بفوائده، واسترفد بفرائده، ووصل إلى الموصل، لجتداء الجواد المفضل، منبع الجود، ومقصد الوفود، والبحر المورود، ومعدن الإفضال، وقبلة الإقبال، وكعبة الآمال، وكهف الملهوفين، وموئل المعتفين، وثمال المستضعفين، الذي لم يسمع له بقرن في القرون الماضية، ولم يسمح الزمان له بمثل في العصور الخالية، ذي الآلاء المتلألئة المتوالية، مستعبد الأحرار بإحسانه الغمر، ومطوق الأعناق أطواق البر، الجامع بين كسب الحمد والأجر، الصدر الكبير، الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، فنظم قصائد راغباً في جميل الجمال، وأم بها فناءه في جملة بني الآمال، ولم يزل يفد إليه ببضائعه، ويستفيد من صنائعه، ويستكثر من مدحه، ويستمطر مزن منحه، فتنجح مقاصده عنده بقصائده فيه. وقد أثبت منها ما عقدت عليه خنصر الاختيار، وثنيت إليه عنان الانتقاد، فذاك أجود ما سمعت من منظومه في الأفاضل، وأذعت من مكتومه في الفضائل. فمن جملته ما أنشدنيه الواعظ الرحبي في مدحته له، وذكر أنه أنشده بالموصل:
ليت القُلوب على نظام واحدِ ... لِيذوقَ حَرّ الوجد غيرُ الواجدِ
فإِلامَ يَهْوى القلْبُ غيرَ مُساعِفٍ ... بِهَوىً، ويَلْقى الصبُّ غيرَ مساعِدِ
نِمْتُمْ عن الشّكوى وأَرَّقني الجَوى ... يا بُعدَ غايةِ ساهرٍ من هاجدِ
أَضللتُ قلباً ظلّ يَنْشُد لُبّهُ ... مَنْ لي بِوجدان الفقيد الفاقدِ
ونهت مدامعي الوشاةُ فرابَهُم ... شاكٍ صبابَتَه بطرفٍ جامدِ
ولو أنهم سمعوا أَلِيَّةَ عَبرتي ... في الحبّ لاتَّهَمُوا يمين الشاهدِ
أَشكو إِليك فهل عليك غضاضة ... يا مُمْرِضي صَدّاً لو أنك عائدي
يا مَنْ إِذا نمتُ أَوقع بي الكرى ... غَضَباً لِطَيْفِ خياله المتعاهِدِ
أَمّا الرُّقاد فلو يكون بصحةٍ ... ما كان ناظرك السقيم براقدِ
أَهوى الغصون وإِنما أَضنى الصَّبا ... شوقُ النسيم إِلى القضيب المائِد
ويَهيجني برق الثغور وإِن سما ... في ناظريّ خلال غيث ساهدِ
بَكَرتْ على بالي الشّبابِ تلومُهُ ... عَدّي الملامةَ عن حَنين الفاقدِ
ما زال صَرْفُ الدَّهْرِ يَقْصِر هِمَّتي ... حتّى صرفتُ إِلى الكرام مَقاصدي
وإِذا الوفود إِلى الملوك تبادرتْ ... فعلى جمال الدين وفدُ محامدي
فَلْتَعْلَمَنْ ظُلَمُ الحوادث أَنني ... يمَّمتُ أَزهرَ كالشِّهاب الواقدِ
يُمْضي العزائمَ وهي غيرُ قواطعٍ ... ما السّيف إِلاّ قوةٌ في الساعدِ
باقٍ على حكِّ الزّمان ونقدهِ ... ومن الصحيح على امتحان الناقدِ
يلقاكَ في شرف العُلى مُتواضعاً ... حتى تَرى المقصودَ مثلَ القاصد
وإِذا دنت يمناه من مُسْترفِدٍ ... لم تَدْرِ أَيُّهما يمينُ الرّافدِ
أُمْنِيَّةٌ للمُعتَفي، وَمَنِيَّةٌ ... للمعتَدي، وشريعةٌ للواردِ
وَلِعٌ بأَسهُم فكره، فإِذا رمى ... أَصْمى بها غرض المدى المتباعدِ
يتصرف المتَصرّفون بأَمرِه ... عن حُكْم أَمرٍ نافذٍ لا نافدِ
لا تحسَبوا أَني انفردتُ بحَمْدِه ... هيهاتَ، كم لمحمَّدٍ مِنْ حامدِ
يا مُسْتَرِقَ الماجدين بفضلِه ... والفخرُ كلُّ الفخر رِقّ الماجدِ
أَقلامُكَ القدَرُ المُتاحُ فما جرى ... إِلاّ جرت بفواقرٍ وفوائدِ
مِنْ كلّ أَرقَشَ مستهِلٍّ، ريقُه ... أَفواه بيضٍ أَو ثغور أَساودِ
تُزْجي كتائبُه الكتائبَ تلتظي ... لَهَباً أَمام مُسالِم لمُعانِدِ
كم مِنْ وَلِيٍّ قَلَّدَتْهُ ولايةً ... عقد اللِّواءَ لها ثناءُ العاقدِ
حتّى إِذا سَلَك العَدُوُّ سبيلَها ... فعلى طريق مَكامِنٍ ومكائدِ
تستام أَمثالَ الكلامِ شوارداً ... فتبيتُ عندك في حِباله صائدِ
تلك البلاغة ما تُمُلِّك عفوُها ... بِيديْك إِلاّ بَذّ جهدَ الجاهدِ
ولقد لَحَظْتَ الملكَ مَنْهوب الحِمى ... مِنْ جانبيْه فكنتَ أَوّلَ ذائدِ
ربَّيتَ بَيْت المالِ تربيةَ امرئٍ ... يحنو عليه بها حُنُوَّ الوالدِ
أَشعرتَ نفسَك مِنْهُ يأْسَ نَزاهةٍ ... ومنحت هَمَّك منه بأْس مُجاهدِ
فَممالِكُ السّلْطان ساكنةُ الحَشا ... مِنْ بعدِ ما كانتْ فريسةَ طاردِ
عطفتْ على يدك المساعي رَغْبةً ... نظرت إلى الدّنيا بعين الزاهدِ
وثنتْ أَعِنَّتها إِليك مناقِبٌ ... يا طالما كانت نشيدةَ ناشِدِ
مَجْدٌ على عرشِ السِّماكِ وهمَّةٌ ... ترقى السُّها بجَناح جَدٍّ صاعدِ
وعُلىً يجوز بها المدى حَسَدُ العِدى ... إِن العُلى مَنصورةٌ بالحاسدِ
يا حبّذا همٌّ إِليك أَصارني ... وعزيمة تقفو رياضةَ قائدِ
أَنا روضة تُزْهى بكل غريبةٍ ... أَفرائدي من لم يفرز بفرائدي؟
إِن ساقني طلب الغنى، أَو شاقني ... حُبُّ العُلى، فلقدْ ورَدْتُ مواردي
ومتى عَددتُ إِلى نَدك وسائلي ... أَعْدَدْتُ قصدي من أَجلّ مقاصدي
حتى أَعودَ من امتداحك حالياً ... وكأَنني قُلِّدتُ بعض قلائدي
ما كانت الآمال تكذِبُ موعدي ... أَبداً، وحُسْنُ الظنّ عندك رائدي
ومن جمالياته الفائقة، الرائعة الرائقة:
لِمَنِ القَوام السَّمْهَرِيُّ، سِنانُه ... ما أَرهفتْ من لحظِها أَجفانُهُ
إِن كان نازَعَك الهوى إنكارُهُ ... فَمِنَ الذي بعث الهوى عِرفانُهُ
ظَبْيٌ، صوارمُ مُقلتيْه أَسِنّةٌ ... فبناظريْه ضرابُه وطِعانُهُ
لَهِجٌ بكأس جُفونه، وقَوامُه ... أَبداً نزيفُ رحيقها سكْرانُهُ
كَفَلَتْ سُلافةُ خدّه من صُدغِه ... أَنْ لا يُفارق وَرْدَهات ريْحانُهُ
وبنفسيَ الرَّشأُ المُتَرْجِمُ طَرْفُهُ ... عن بابل هاروتُها إِنسانُهُ
لا وَصْلَ إِلاّ ما تَجود به النوى ... من طيفِه، فوِصاله هِجْرانُهُ
حكَّمْتُه فقضى عليّ قضاؤه ... وهَوى الأَحبّةِ جائرٌ سُلطانُهُ
أَدمى جُفونَ الصَّبِّ صَبُّ دموعهِ ... سَعةً، وضاق بسرّه كتمانُهُ
ضمِن الفريق فراق أَغصان اللِّوى ... أَفبَيْنُهُ ضمن الجوى أَمْ بانُهُ
يا فضلُ، ما للفضل هيض جناحهُ ... فَبَدَتْ زَمانته وضاع زمانُهُ
قَعَد السّماحُ به، وكم من ناهضٍ ... ضاقت لُبانتُه فضاق لَبانُهُ
ومخلَّفٍ، ما كان يبلغُ شَأْوَهُ ... لو لم يكن بيد القضاءِ عِنانُهُ
ومروَّعٍ سكنتْ خوافقُ أَمنِهِ ... لولا جمالُ الدين عزَّ أَمانُهُ
مَنْ نال قاصيةَ المطالب جودُهُ ... والغيث ما ملأَ الرُّبى هَطَلانُهُ
واستوعبت غُرَرَ الكلام فُنونُه ... واستوسقت ثمرَ العلى أَفنانُهُ
أَذكى الأَنامِ إِشارةً وعبارةً ... ما المرءُ إِلاّ قلبُهُ ولسانُهُ
ففروعُه تُنْبيك عن أَعراقه ... وكفاك مِنْ خَبَر النسيبِ عِيانه
وإِذا أَردتَ مَحَلَّه من مجده ... فترقّ حيث سماؤه إِيوانُه
شرفٌ، تفيّأَتِ الملوك ظلالَه ... وعُلىً على هِمّاته بنيانُه
ما أَغمدوا سيفَ ابن ذي يزنٍ به ... إِلاّ تقاصر عندها غُمْدانه
جَدٌّ تمكَّنَ من ذُؤابة مَنْصِبٍ ... لو نالها العَيّوق جُنّ جَنانه
فَلِبَيْتِ مال المُلك مِنْ عَزَماته ... طمّاحُ طَرْفِ كفايةٍ، يقظانُهُ
يغدو عليه ثقيلةً أكمامُه ... ويروح عنه خفيفةً أَردانه
لا تَجْزَع الأَهواءُ ثاقبَ رأْيه ... والرأْيُ مملوكٌ عليه مَكانه
مُسْتَظْهِرٌ بوُلاته: فكُفاتُهُمْ ... نوّابُه، وَثِقاتهم أَعوانه
يعْدوهُمُ تأْنيبهُ، ويَخُصُّهُمْ ... تهذيبُه، ويَعُمُّهُمْ إِحسانهُ
وإِذا انتضوْا أَقلامهم لِمُلِمَّةٍ ... أَبصرتَ مَنْ كُتّابُه فرسانُه
ميثاقهُ حَرَمٌ لخائف بأْسِه ... يُغْنيك عن أَيْمانِهِ إِيمانهُ
وَقَفَ الحسابُ عليهِ رَكْضَ إِصابةٍ ... لا البرقُ يدركها ولا سَرْعانُه
وثنى الخطابَ إِليهِ فضلُ فصاحةٍ ... لا قُسّها منهُ ولا سَحْبانهُ
هذا وإِن تكن اتّصالات العُلى ... تقضي بسعدٍ فالقَران قَرانهُ
أَمحمدُ بنَ عليّ اعتنقَ الأَسى ... فكري فضاق بفارسٍ مَيْدانهُ
ما بالُ حادي المجد مغبرّ المدى ... وأخو الهُوَيْنا روضةٌ أَعطانهُ
هَبْني جنيْتُ على نَداكَ جِنايةً ... تُقضى، فأَين جنونهُ وجَنانهُ
وأَنا الذي لا عَيْبَ فيه لقائلٍ ... ما لم يقُلْ هذا الزمان زمانهُ
فهلِ المحامِدُ ضامِناتٌ عنك لي ... مَعْنىً، على هذا البيانِ بيانهُ
وهي القوافي ما تناظرَ بالنَّدى ... إلاّ وقام بفضلِها برهانهُ
ما كان بيتُ فضيلةٍ في فارسٍ ... إِلاّ ومِنْ عربيَّتي سَلْمانهُ
ومما أنشده بالرقة، قصيدة مزجت الجزالة بالرقة، يهنيه فيها بفتوح مدينة الرها، وذلك سنة وخمسمائة، وهي:
أَما آن أَن يزهَق الباطِلُ ... وأَنْ يُنْجِز العِدَةَ الماطلُ
إِلى كم يُغِبُّ ملوكَ الضلا ... لِ سيفٌ بأَعناقها كافِلُ
فلا تَحْفَلَنَّ بصَوْلِ الذّئاب ... وقد زأَر الأَسدُ الباسِلُ
كذا ما انثنتْ قطّ صُمُّ الرّما ... حِ أَو يَتَثَنّى القنا الذابل
هو السيف إِلاّ تكنْ حامِلاً ... لِبِزَّتِهِ بَزَّك الحامل
وهلْ يمنعُ الدينَ إِلاّ فتىً ... يصولُ انتقاماً فسيتاصل
أَبا جعفر، أَشرقتْ دولةٌ ... أَضاء لها بدرُك الكامِل
فإِما نُصِبتَ لرفعِ اسمها ... فإِنكما الفعلُ والفاعل
بكَ انقادَ جامِحُها المُصْعَبِيُّ ... وأَخصب جانبُها الماحِلُ
لِيَهْنِك ما أَفرج النصر عنه ... وما ناله الملكُ العادل
فُتوح الفتوحاتِ، نظم القنا ... ة أَعلى أَنابيبها العامِلُ
فقلْ للحِقاق الطريقَ الطريقَ ... فقد دلَف المُقْرَم البازِل
وجاهد في الله حقَّ الجِها ... د مُحْتَسِبٌ بالعُلى قافِل
بجيشٍ إِذا َمَّ وِرْدَ الثّغور ... يروّى به الأَسلُ النّاهِلُ
إِذا شمَّرَ البأْس عن ساقه ... مضى وهو في نَقْعه رافل
فيا نعمةً شَمَلَ الشاكرينَ فضلَكَ إِفْضالُها الشاملُ
تَمَخَّضَ عزمٌ لها مُنْجِبٌ ... فيا سَعْدَ ما وَضَعَتْ حامِلُ
غداةَ ولا رُمْحَ دونَ الطِّعا ... نِ إِلاّ وعَقْرَبُه شائلُ
ولا نَصْلَ إِلاّ له بارِقٌ ... دِماء الطُّلى تحته وابل
وقد قلَّدوا السيْفَ تحصينَهم ... ولكنّه الناصِر الخاذِلُ
وهل يُمْنَعُ السُّورُ مِنَ طالعٍ ... يشايعُهُ القدرُ النّازِل
شققتم إِليها بحارَ الحديد مُلْتَطِماً موْجُهُ الهاطِلُ
وخُضتُمْ غِمارَ الرَّدى بالرَّدى ... وعن نَفْسِه يدفَعُ القاتل
فإِنْ يكُ فتحُ الرُّها لُجَّةً ... فساحلُها القُدْسُ والساحل
فهل عَلِمَتْ عِلْمَ تلك الديا ... ر أَنّ المُقيمَ بها راحل
أَرى القَسَّ يأْمُلُ فَوْتَ الرِّماح ... ولا بدَّ أَنْ يُضْرَبَ السابل
يُقوّي مقاعِلَه جاهِداً ... وهل عاقِلٌ بَعْدَها عاقِل
وكيف بِضبطِ بواقي الجِها ... ت مَنْ فات حِسْبَتَه الحاصل
بِرأْيِك في الحرب أَمْ لفظك استفادَ إِصابَتُه النابل
وعن حَدِّ عزمِك في المُشْكِلاتِ ... قضى فَمضى الصّارِم القاصِل
نشرتَ الفضائل بعدَ الخُمولِ ... أَلاَ رُبّما نَبُه الخاملُ
وحُطْتَ البلاد على نأْيها ... كأَنك في كُلّها نازِل
أَتَعْفو الممالكُ مِنْ حافِظٍ ... وصدرُك من حِفْظِها آهل
وَلِمْ لا تُحيطُ بآفاقِها ... وفي يَدِك الصّامِتً القاتلُ
إِذا ما عَلا الخَمْسَ في حَوْمَةٍ ... ففارسُ بُهْمَتها راجِلُ
يُفيضُ على الطِّرس سحرَ البيان ... كأَنَّ بَنانَتُهُ بابِل
متى تُرِكَ الحمدُ والمرْهَفاتِ ... فأَحْمَدُها القاطِع الواصل
بسابقةِ العِلْم فُتَّ الأَنامَ ... وهل يُدرِكُ العالمَ الجاهلُ
إِذا خطب الأَكرمون الثّناء ... فأَكرم أَصهارِك الفاضِلُ
أَعِزَّ الكُفاةِ وتاجَ العراق ... ومَنْ كَفُّهُ بالنَّدى حافِلُ
تأَمَّلْ مطالِعَ هذا الكلامِ ... وإِلاّ فكوْكبُهُ آفِلُ
أَرى القومَ تَلْقَحُ آمالُهم ... وحاليَ مِنْ دُونه حائل
فهل لي على البُعْد من قُرْبَةٍ ... يُديل بها فَضْلُك الدائل
فإِنّ الغَمام بعيدُ المَنالِ ... وفي كلّ فَجٍّ له نائلُ
وأَنتَ الزَّمانُ وأَنتَ الأما ... نُ مِنْ كلّ ما يَفْرَقُ الذّاهِل
وأَنتَ الحُلِيُّ على المَكْرُمات ... فلا وُصِفَتْ أَنها عاطل
وله في مدح الملك الغازي نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قصيدة استحسنتها في فنها، لسلاستها في نظمها ورويها ووزنها، فكأنها عروس أبرزت من كنها، أو ديمة وطفت من مزنها، أو روضة أنف في حسنها، وهي:
أَبْدى السُلُوَّ خديعة للاّئِمِ ... وَحَنا الضّلوعَ على فؤادٍ هائِمِ
ورأَى الرّقيبَ يَحُلُّ ترجمةَ الهوى ... فاستقبلَ الواشي بثغرٍ باسم
ومضى يُناضِل دونَه كتمانه ... ما الحبّ إِلاّ للمحب الكاتم
من فَضَّ خَتْمَ لسانِه عن سِرِّه ... ختمت أَناملَه ثنيّةُ نادِم
ومُهَفْهَفٍ لعِبَ الصِّبا بقَوامِه ... لَعِبَ النُّعامى بالقضيب الناعم
حَرَمَ الوِصالَ وأُرْهِفَتْ أَجفانُهُ ... فأَتاك ينظر صارماً مِنْ صارم
وَلَكَمْ جرى طرْفي يعاتِبُ طَرْفَه ... لو يسمعُ السّاجي حديث السّاجِم
إِني لأرْحَمُ ناظريْه من الضَّنا ... لو أَنّ مرحوماً يَرِقُّ لِراحم
للهِ موقفُنا وقد ضرَب الدُّجى ... سِتراً علينا من جُفون النائِم
وفمي يُقَبّلُ خاتِماً في كفه ... قُبَلاً تغالط عن فمٍ كالخاتم
كيف السّبيلُ إِلى مَراشِفِ ثَغْره ... عينُ الرّقيب قذاةُ عيْن الحائِم
نَلْحى الوُشاةَ وإِنّ بين جُفوننا ... لَمَدامعاً تَسْعى لها بنمائِم
يا أَيُّها المُغْرى بأَخبار الهوى ... لا تُخْدَعَنّ عنا لخبير العالم
إِسْأَل، فَدَيْتُك، بالصبابة لِمَّتي ... واسأَلْ بنُورِ الدين صَدْرَ الصارِم
ومُعَطّفاتٍ ترتمي بأَجنَّةٍ ... ومُثَقَّفاتٍ تهتدي بلَهاذِم
ومُسَوَّمات لست تدري في الوغى ... بقوائِم يُدْرِكْن أَم بقوادمِ
كلُّ ابن سابقةٍ إِذا ابتدر المَدى ... فلغير غُرَّتِه يمينُ اللاطم
يرمي بفارسه أَمامَ طريده ... حتى يُرى المهزومُ خَلْفَ الهازم
يُنْمى إِلى مَلِكٍ إِذا قُسِم النّدى ... والبأْسُ كان المُكتنى بالقاسم
مُتَسَرْبِلٌ بالحزم ساعةَ تَلْتقي ... حَلَقُ البِّطان على جواد الحازم
ما بَيْنَ مُنْقَطَع الرِّقاب وسيْفه ... إِلاّ اتصالُ يمينه بالقائِم
سامَ الشآم ويا لَها مِن صفقةٍ ... لولاه ما أَعْيَتْ على يد سائم
وَلَشَمَّرَتْ عنها الثّغور وأَصبحت ... فيها العواصم وهي غيرُ عواصم
تلك التي جَمَحَتْ على مَنْ راضها ... ودعوْتَ فانقادتْ بغير شكائم
وإِذا سعادتُك احتَبَتْ في دوْلةٍ ... قام الزّمان لها مَقام الخادم
يا ابن الملوك، وحسبُ أَنصار الهدى ... ما عندَ رأْيك من ظُبىً وعزائِم
قومٌ إِذا انتضت السيوفَ أَكفُّهم ... قلتَ الصواعقُ في مُتون غمائِم
من كل منصور البيان بعُجمةٍ ... وهل الأُسود الغُلْبُ غيرُ أعاجم
أَو مُفْصِحٍ يَقْري الصّوارم في الوَغى ... أَسخى هناك بنفسه من حاتِم
حصِّنْ بلادك هيْبةً لا رهبةً ... فالدِّرعُ من عُدَدِ الشجاع الحازم
وارْمِ الأَعادي بالعَوادي إِنها ... كَفلَتْ بفَلّ قديمهم والقادم
أَهلاً بما حملتْ إليك جيادُهم ... ما في ظهور الخيلِ غيرُ غنائِم
واسأَل فوارسَ حاكموك إِلى القنا ... في الحرب، كيف رأَوْا لسان الحاكم
تلك العَواملُ أَيّ أَفعال العدى ... ما سكّنتْ حركاتها بجوازم
هيهاتَ يَطْمَع في محلّك طامعٌ ... طال البناءُ على يمين الهادم
كلّفتَ همتك العُلُوَّ فحلَّقتْ ... فكأَنّما هي دعوةٌ في ظالم
قَطَنَتْ بأَوطان النجوم فكمْ لها ... من ماردٍ قَذَفَت إِليه براجم
أَنشأْتَ في حلب غَمامة رَأْفَةٍ ... أَمددت دِيمتَها بنَوْءٍ دائِم
أَلحقتَ أَهل الفقر فيها بالغِنى ... أَمْنُ المؤمَّلِ ثروةٌ للعادِمِ
وأَظنّ أنّ الناس لمّا لم يرَوْا ... عدلاً كعدلك أَرجفوا بالقائِم
فَتَهَنَّ أَوصاف العُلى منظومةً ... فالدُّرُّ أَنْفَسُه بكفّ الناظم
جاءتك في حُلَلِ النّباهة حاسِراً ... تختال بين فضائل ومكارم
عربية أَنسابُها لو أَنها ... لحقت أُميّةَ لانْتَمَتْ في دارم
وَتَمَلَّ غُرَّةَ كلِّ فِطْرٍ بعدهُ ... مُتَسَرْبِلاً أَسنى ثواب الصائم
لا زامل وجهُك في عقود سُعوده ... بدرَ التَّمام مُقَلّداً بتمائم
وله قصائد في مدح آبق ملك دمشق وجده ممدوح ابن الخياط. ورأيته ببغداد بعد استيلاء نور الدين محمود بن زنكي على ولايته في الأيام الإمامية المقتفوية سقاها الله صوب الغفران، وحياها بحيا الرضوان، وذكر أنه أنشدها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، أثبت منها هذه القصيدة لاقتصادها في الصنعة والنظم، واعتلاقها لسلاستها بالفهم، وهي:
أَقَدَّكَ الغصنُ أَم الذابلُ ... ومُقْلتاك الهندُ أَم بابلُ
سِحْران: هذا طاعنٌ ضاربٌ ... وتلك فيها خَبَلٌ خابل
واكبدي مِنْ فارغٍ لم يزل ... لي من هَواه شُغُلٌ شاغل
ظبْيٌ متى خاتلته قانصاً ... رجعت والمُقْتَنص الخاتل
لِمَّتُه أَم أَرقمٌ هائِجٌ ... ذا سائِف طوراً وذا نابل
يشربُ كأْساً طلَعتْ في يدٍ ... كوكبُها في قمرٍ آفل
كأَنه، والجامُ في كفه ... بدر الدُّجى في شَفَقٍ ناهلُ
غصنُ النَّقا يحمل شمسَ الضحى ... يا حبّذا المحمول والحاملُ
أَسمرُ كالأسمر من لحظه ... له سِنان جيدُه العامِلُ
مَلاحةٌ بالبخل مقرونةٌ ... كلُّ مَليحٍ أَبداً باخلُ
إِذا نأَى مثَّله في الكَرى ... هواه فهو القاطع الواصلُ
أَشكو ضنا جسمي إِلى خصره ... وكيف يشفي الناحلَ الناحلُ
يُنكِرُ ما أَلقاه من صَدِّهِ ... وأَيُّ فعل ما له فاعل
مَنْ لي على البُعد بميعادِه ... وإِنْ لواني دَينِيَ الماطِلُ
وكيف لي بالوَصْل منْ طيفه ... وذو الهوى يُقْنِعه الباطل
أَرى دِماءَ الأُسْد عند الدُّمى ... أُنْظُرْ مَنِ المقتولُ والقاتل
مِنْ كلّ لاهي القلب من ذاهلٍ ... به فسلْ أَيُّهما الذاهلُ
يا صاحِ ما أَحلى مَذاقَ الهوى ... لو كان فيه عاذِلٌ عادِل
ما لِيَ لا أَلحظ عينَ المَها ... إِلاّ دهاني سِرْبها الخاذل
وما لَه ينْفِر من لِمَّتي ... كأَنه من أَسدٍ جافِلُ
ما زال يُنْسي نأْيُه هَجْرهُ ... حتّى لأَنسى عامَه القابل
قضيّة جائِرة ما لها ... غيرُ مُجير الدين مستاصِل
وكيف أَخشى من لطيف الحشا ... ظُلْماً وتاج الدولة الدائل
كثَّرَ حُسّاديَ حتى لقَدْ ... تنبّه الهاجد والغافل
وكاد يُعْطي في نَداه الصِّبا ... لو أَنّ شيْباً بالنّدى ناصل
القائدُ الخيلَ، مغافيرُها ... يزأَرُ فيها الأَسد الباسلُ
مُشَمِّرٌ للبأس عن ساقه ... والجيش في عِثْيره رافلُ
ماضٍ فما أَورد صادي القنا ... إِلاّ تروّى الأَسَلُ النّاهل
يناهز الأَعداء مَنْ عُرْفُهُ ... غازٍ بأَنفال العُلى قافِل
لم ينجُ مِنْ سطوته عاندٌ ... ولم يَخِبْ في ظِلِّه آمل
يُزْجي الندى حتّى إِذا ما اعتدى ... فالدَّمُ من سطوته هاطلُ
ما ساجَلَتْهُ المُزْن إِلاّ انثنى ... مُسْتحيِياً مِنْ طَلِّه، الوابلُ
لا يتناهى فَيْضُ معروفِه ... وأَيُّ بحرٍ ما لَهُ سحلُ
سَما به نابِهُ آبائِه ... حينَ أَسَفّ النسب الخامل
وامتاز بالعلم على أَهله ... وهل يساوي العالمَ الجاهل
يا مُحْييَ العدل ويا مُسْرِف البذل فأَنت الجائر العادل
يا أَنصتَ الناسِ إِلى حكمةٍ ... يقبلها مَنْ سَمْعُه قابِل
عَلا بك الفضلُ ذرى هِمَّةٍ ... عن غُرَّة الشِّعْرى لها كاهل
لولا سنا فضلك يَجْلو الدُّجى ... ما عُرِف المفضولُ والفاضل
ولم يغامر جودَك المعتفي ... ولم يجانب مجدَك العادل
فمن يكن خَصَّ بمعروفه ... فأَنت مَنْ إِحسانُه شاملُ
بوركتَ من غيثٍ إذا ما همى ... روَّض منه الأَمَلُ الماحِل
إِنْ هزَّك العزمُ فيا طالما ... أُرهِف منك الصارمُ القاصِل
سيفٌ متى أَمّ نفوس العِدى ... صمَّم، والنّصر بها كافل
فكنتَ كالشّمس سمَتْ إِذ سَمتْ ... ونورُها في أُفقها ماثل
وَأَيْنَ يَنْأَى من قلوب الورى ... مَن حُبّه في كلِّها نازل
فابْقَ حَياً يُنْبِت رَوْضَ المنى ... وأَيْن مِنْ أَفعالك القائل
ودُمْ فما دُمْتَ منارَ الهُدى ... فللمعالي سَنَنٌ سابل
وأنشدني له بعض أصدقائي من فقهاء الشام، بيتين ألطف من نسيم الصبا، وأطرف من نعيم الصبا، في وصف مغن، وشادن شاد أغن، وهما:
والله لو أَنصف الفتيان أَنفسَهم ... أَعطَوْك ما ادّخروا منها وما صانوا
ما أَنت حين تُغنّي في مجالسهم ... إِلاّ نسيمُ الصَّبا والقومُ أَغصانُ
ما أحسن تشبيهه الشادي بالنسيم للطافته، ورقة أنفاسه، وتقتير ألحاظه، وتكسير ألفاظه، وسلاسة خلقه، ورشاقة خلقه، والسامعين بالأغصان التي يرنحها النسيم لتمايلهم وتساكرهم، واهتزازهم لشدوه، وتطربهم لغنائه.
وله في غانية رومية نصرانية:
كم بالكنائِس مِنْ مُبَتَّلَةٍ ... مثل المَهاةِ يَزينُها الخَفَرُ
مِنْ كلِّ ساجدةٍ لصورتها ... لو أَنصفت سجدتْ لها الصُوَر
قدّيسَةٌ في حبل عاتقها ... طولٌ، وفي زُنّارها قِصَر
غَرَسَ الحياءُ بصحن وَجْنَتِها ... وَرْداً سقى أَغصانه النَّظرُ
وتكلّمت عنها الجُفون فلوْ ... حاورتَها لأَجابك الحَوَر
وحَكَتْ مدارِعُها غدائرَها ... فأَراك ضعفيْ ليلةٍ قمرُ
وأنشدني له الواعظ الرحبي من قصيدة:
في طاعة الحب ما أَنفقتُ من عُمري ... وفي سبيل الهوي ما شابَ من شَعَري
طال الوُقوف على ضَحْضاحِ نائلكم ... وغُلَّة الصّدر بين الوِرد والصَّدرِ
كم قد أَماتَ الهوى شوقي وأَنشره ... عن يأْس منتظِرٍ أضو وعد منتظَر
بمُهْجتي وبصَحْبي كلُّ آنسةٍ ... تبيت نافرةً منّي ومِنْ نَفَري
أَما ترى سُنَّةَ الأَقمار مُشْرقةً ... في لِمَّتي، فبياض الليل للقمر
هَبْني أُخلِّصُ جسمي من مُعَذِّبه ... فمن يخلّص قلبي من يَدَيْ نظري
فيا نسيم الخُزامى هُبَّ لي سَحَراً ... لعلَّ نَشْرك مَطْوِيٌّ على خَبَر
واحذر لسان دُموعي أَنْ تَنِمَّ به ... فإِنَّ سرّيَ من دمعي على خَطَر
وأنشدني له من أخرى:
لله نِسبة أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلى رَيّا الحِمى انتسبا
أَهكذا لم يكن في الناس ذُو شجَنٍ ... إِلاّ صَبَا كلّما هبّت عليه صَبَا
أَحبابنا عاد عيدُ الهمّ بعدَكمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحُبّ واقتربا
ما بالُ سَلْوةِ بالي لا تَسُرُّكُمُ ... حتى كأَنّ لكم في راحتي تعبا
ما خانكم جَلَدي إِلاّ وَفى لكمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى
ومن أخرى مجنسة سلسلة، مختلسة، وللعقول مفترسة:
أَما وكأْسٍ تَشِفُّ عن ثَغَرِ ... يَبْسِمُ عُجْباً بوَرْدَتَيْ خَفَرِ
يحميهما صارمٌ مضاربهُ ... مِنْ كَحَلٍ والفِرَنْدُ مِنْ حَوَرِ
لقد عصيتُ المَلام في رشإٍ ... مَلَّكَه القلبَ طاعةُ البصر
تُنافِسُ الخيزُرانَ قامَتُهُ ... ليناً ولوناً في اللّمس والنظر
دِقّةُ كَشْحٍ، وبَرْدُ مُرْتَشَفٍ ... فوا غرامي بالخَصْر والخَصَرِ
وذي سهام تُصْمي بغير يدٍ ... على قِسِيٍّ ترمي بلا وَتَرِ
وكيف تُخْطى القلوبَ مُرهَفةٌ ... تُراش بين القضاءِ والقَدَرِ
نوافذٌ تُنْهِر الفُتوقَ دماً ... ولا تَرى للجراح مِن أَثرِ
يا مُسْهِري واصِلاً ومُجْتَنِباً ... والصبُّ ما بين ليلتيْ سَهَر
إِذْ لا ترى العين فرقَ بينِهما ... إِلاّ بطُول السُّهادِ والقِصر
لا عَذَلٌ فيك بات لي سَمَراً ... يا حبَّذا العذْلُ فيك من سَمَر
ومن أخرى:
أَما لو كان لحظُك نصلَ غِمْدي ... لَبِتُّ وثأْرُ صَرْفِ الدهر عندي
ولو كان ابتسامُك حدَّ عزمي ... فللتُ نوائبَ الأَيّام وحدي
إِذاً لَلَقيتُ عادِيةَ اللّيالي ... على ثقةٍ وجُنْدُ هواك جُنْدي
ولكن أَنت والأَيّامُ جَيْشٌ ... على مُتخاذِل الأَنصار فَرْد
عَذيري مِنْ هوَى ونوَى رمى بي ... عِنادُهما على وَجْدٍ ووَخْدِ
وأَغْيَدَ بات مُتّشِحاً بثغرٍ ... على نَحْرٍ ومُبْتَسِماً بِعقْد
أَصُدُّ عَذولَه ويصُدُّ عني ... فما أَنفكُّ من غَمَراتِ صَدّ
وأَشكو ما لقيتُ إِلى سَقامٍ ... بِعَيْنيْه فلا يُعدي ويُعدي
متى أَرجو مُسالَمة اللّيالي ... وهذا مَوْقِفي من أَهل ودّي
ولو أَني أُلاقي ما أُلاقي ... بمَجْد الدين صُلْتُ بأَيِّ مَجْدِ
ووجدت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي هذه الأبيات منسوبة إلى القيسراني من قصيدة في التجنيس:
نافرته البيضاء في البيضاء ... وانفصال الشباب فصْلَ القضاءِ
حاكمَتْه إِلى مُعاتبِة الشَّيْب لِتَستمطرَ الحَيا بالحَياءِ
فاستهلّتْ لِبَيْنِها سحبُ عيْنيْهِ، ويومُ النَّوى من الأَنواءِ
يا شباباً لَبِسْتُه ضافيَ الظلُّ، وتبلى مَلابس الأَفياءِ
كان بَرْدُ الدُّجى نسيماً وتهويماً فأَذكته نفْحَةٌ من ذُكاءِ
ومنها في المدح:
مَنْ لهُ طاعةُ الصّوارِمِ في الحر ... ب ولَيُّ الأَعناقِ تحت اللّواءِ
مِنْ مَساعٍ إِذا استغاث به الآ ... مِلُ لَبّى نَداه قبل النِّداءِ
وكأَنَّ القَباء منكَ لما ضَمَّ مِنَ الطُّهْر مَسْجِدٌ بقُباءِ
وكنت أحب أن تحصل لي قصيدته البائية التي أوردت بيتيها في صدر ذكره إلى أن طالعت المذيل للسمعاني، عند ذكره للقيسراني، وفيه: أنشدني محمد بن نصر العكاوي بنواحي حلب لنفسه:
سقى اللهُ بالزَّوْراءِ من جانب الغَرْب ... مَهاً وَرَدَتْ عين الحياةِ من القلبِ
عفائفُ إِلاّ عن مُعاقَرَةِ الهوى ... ضعائف إِلاّ في مُغالبة الصَبّ
عقائلُ تخشاها عُقيلُ بنُ عامرٍ ... كواعبُ لا تُعْطي الذِّمام على كَعْب
إِذا جاذَبَتْهنَّ البوادي مَزِيّةً ... من الحسن شَبَّهْن البراقع بالنَّقْب
تظلَّمْتُ من أَجفانهن إِلى النَّوى ... سفاهاً وهل يُعدي البِعاد على القُرب
ولما دنا التوْديعُ قلتُ لصاحبي ... حنانَيْك، سِرْ بي عن مُلاحظة السِّرب
إِذا كانت الأَحداقُ نوعاً من الظُّبى ... فلا شكّ أَن اللحظ ضَرْبٌ من الضَّرْبِ
هَبُوني تعشَّقْتُ الفِراق ضَلالةً ... فأَصبحت في شِعبٍ وقلبيَ في شِعبِ
فما لي إِذا ناديتُ يا صبرُ مُنْجِداً ... خُذِلتُ، وَلَبَّى إِن دعا حُرقةً لُبّي
تقضّى زماني بَيْنَ بَيْنٍ وهِجْرَةٍ ... فحتّامَ لا يصحو فؤاديَ مِنْ حُبِّ
وأَهوى الذي يهوي له البدرُ ساجداً ... أَلستَ ترى في وجهه أَثر الترب
وأَعجبُ ما في خَمْر عَينيْه أَنها ... تُضاعف سُكْري كلما قلّلتْ شُرْبي
إِذا لم يكن في الحُبّ عندي زيادةٌ ... تُرجّى فما فضل الزيارة عن غَبّ
وما زال عُوّادي يقولون من بهِ ... وأَكتُمهم، حتى سأَلتهمُ من بي
فصِرتُ إِذا ما هزّني الشوق نحوهم ... أَحلت عَذولي في الغرام على صَحْبي
وقرأت في تاريخ السمعاني: أنشدنا أبو عبد الله القيسراني لنفسه بدير الحافر، منزل بين حلب وبالس:
رنا وكأَنّ البابليّ المصفَقا ... ترقرق في جفنيْه صِرْفاً مُعَتَّقا
وردّ يداً عن ذي حَباب مُرَنَّق ... وحيّا به مِنْ وَجنتيْه مُرَوَّقا
وبات، وشمسُ الكأْس في غسق الدجى ... تقابل منه البدرَ في بانة النَّقا
ولي عبرات تستهلُّ صَبابةً ... عليه إِذا برق الغمام تأَلّقا
أَلفت الهوى حتى حلت لي صروفهُ ... وربّ نعيم كان جالبَه شقا
أَلذّ بما أَشكوه من أَلم الجَوى ... وأَفْرَق إِنْ قلبي من الوجد أَفرقا
وأَذهل حتى أَحسب الصَدَّ والنوى ... بمُعْتَرَك الذكرى وِصالاً ومُلْتقى
فها أَنا ذو حالين: أَمّا تلدّدي ... فحيٌّ، وأَمّا سَلوتي فلكَ البقا
ولما وصلت إلى الشام والتسبت بالتخدمة النورية، وجدت موفق الدين خالداً ولد القيسراني صدر مناصبها، وبدر مراتبها، ونجم كواكبها، بل شمس مواكبها. وجمعت بيني وبينه الصحبة، وضمتني إليه الرتبة، وتمهدت المحبة، وكان مستوفي المملكة وأنا منشيها تارة ثم مشرفها. ثم لما سيره نور الدين إلى مصر، قمت بعده بجميع الأمر، وكان نور الدين رفعه واصطنعه، وبلغ منه مبلغاً من الأمر كأنه أشركه في الملك معه، ولقد كان لبيقاً بذلك، حقيقاً به، وما زلنا سفراً وحضراً نتناشد ونتذاكر، ونتجاذب أطراف الحديث ونتحاور، ولعله قد أتى في الإنشاد على معظم شعر والده مذاكرة، وكنت أشاطره زماني في التصافي مشاطرة، وإنه قد بلغ إلى حد خدمه ممدوحو والده وقصدوه، ورجوه واجتدوه، وكأنه أنف من مدح والده لهم، وكره لنفسه كيف قصدهم وأملهم.
ثم نظرت في ديوان القيسراني فألحقت بما سبق، وما وصل إلي من هذا النسق، وجلوت بزهر سوائره الأفق، وحليت بما راق ورق الورق. فمن ذلك قوله:
عن خاطري نبأ الخيالِ الخاطرِ ... فأعجب لزورةِ واصلٍ من هاجرِ
لم يعْدُ أَنْ جعل الرُّقاد وسيلةً ... فأَتى الجوانحَ من سَواد النّاظر
ومنها:
ولقد علمتُ على تباريح الجوى ... أَنّ السُّلُوَّ خرابُ قلبٍ عامر
وإِذا استقلّ عن الفؤاد قطينهُ ... لم يبق منه سوى محلٍ داثر
وله من قصيدة:
دعوا للحُمَيّا ما استباحتْه من عَقْلي ... فإِني رأَيت الحظّ في حيّز الجهل
ومنها:
وما زالت الأَيام يجري نظامُها ... على العكس حتى أُدْرِكَ الجِدُّ بالهزل
وهل في فؤادي فَضلةٌ تَسَعُ الهوى ... وما العِشق إِلاّ شُغْل قلبٍ بلا شغل
إِذا أَنت لم يصحبك إِلاّ مُهذَّبٌ ... فخِلُّكَ من أَمسى وحيداً بلا خِلِّ
فَدَعْ لذوي الأَموال ما اغتبطوا به ... وَصُنْ ثمراتِ الفضل بُخْلاً على الفضل
فإِنّ الفتى من غادرتْه خلالُه ... فريداً وإِنْ أَضحى من الناس في حَفْل
وله من قصيدة:
أَرضى اليسيرَ، وما رِضاكَ يَسيرُ ... أَنا في الهوى غِرٌّ، وأَنت غريرُ
ولو اقتصرت على حُشاشة مُغْرمٍ ... وافاك من مأْسورك الميسور
ما أَذعنتْ لك في فؤادي طاعةٌ ... إِلاّ وأَنتَ على القلوب أَمير
ضمنتْ ثناياك العذابُ مَخافتي ... فهل الثّغور الضاحكات ثُغور
وله من أخرى:
خذوا حديث غرامي عن ضَنا بدني ... أَغنى لسانُ الهوى عن دمعيَ اللَّسِنِ
وخبّرونيَ عن قلبي ومالِكِه ... فربّما أَشكل المعنى على الفَطِن
ومنها:
هذا الذي سلب العشّاقَ نومَهم ... أَما ترى عينَه ملأَى من الوَسَن
أَمسى غرامي بذاك القدّ يوهمني ... أَنّ اعتلال الصَّبا شوقٌ إِلى الغُصُن
ومنها في المدح:
أَرى الوفودَ رباعَ الجودِ عامرةً ... من بعد ما وقفوا منها على دِمَنِ
ومنها:
قومٌ إِذا ناظروا عن سَرْح جارهُمُ ... تكلّمتْ أَلسنُ الخطيّة اللُّدُنِ
وله من قصيدة في مدح وزير أولها:
لو كان سِرُّك للوُشاة مُعَرَّضا ... لم أُغْض من دمعي على جمر الغَضا
ومنها:
وإِذا سقى فمُه الرحيقُ مُقَبَّلا ... حيّا بتُفّاح الخُدود مُعَضَّضا
ما اسودّ في يوم الصُّدود فإِنهُ ... يلقاك في ليل التواصل أَبيضا
هذا وكم جاريت في طَلَق الصِّبا ... سَلِسَ القياد وكان صعباً، ريّضا
عاقرتُ مُبْهَمَ عَتْبه حتى بدت ... غُرر الرضاءِ على خلال أَبي الرضا
هو جلال الدين أبو الرضا بن صدقة وزير المسترشد:
لو لم يكن لِبَنانه شِيَمُ الحيا ... ما أزهر القرطاس منه وروّضا
ما جاش في صدر المُلَطَّف صدرُه ... إِلاّ ظننت الجيش قد ملأَ الفضا
وله من قصيدة:
ما هذه الحَدَقُ الفواتنْ ... إِلاّ سهامٌ في كنائنْ
ومنها:
وأَغنّ غنَى مُحْسِناً ... فعجبت من شادٍ وشادنْ
ما غرَّدتْ حركاتُه ... إِلاّ تراقصتِ السّواكنْ
يا مودِعاً قلبي هوا ... ه توقّ دمعي فهو خائنْ
ومنها:
وحللتَ قلباً خافقاً ... يا ساكناً في غير ساكن
أَترى لمن أَوْليتَه ... حربَ العواذل أَن يُهادن
إِنْ خاف قلبي في هوا ... ك فأَمرُ جاه الحبّ واهن
وإِن استجار فإِنّ جا ... رك يا ضياء الدين آمن
وله من قصيدة في سديد الدولة ابن الأنباري:
مع الركب أَنباءُ الحِمى لو يُعيدُها ... لهيّج مفتوناً بها يستعيدها
خليليّ، هل لي في الرفاق رسالة ... يذكرني العهدَ القديم جديدُها
ومنها:
تَهُبّ صَباكم ليس بين هُبوبها ... وبين رُكودِ النفس إِلاّ رُكودُها
ومنها في المدح:
ويسري هواكم في البُروق، وإِنما ... وَقود الحشا إِمّا استطار وقودها
لِيَهْنِكَ مأثور الوغى عن خلافةٍ ... بك اخضرّ واديها وأَوْرقَ عودُها
وأَنّى تخافُ الضيم دولةُ هاشم ... وآراؤك الأَنجاد فيها جنودها
وكيف يغيب النصر عنكم بوقعةٍ ... ملائكةُ الله الكرامُ شُهودها
إِذا فتنةٌ للحرب أُسعِر نارها ... فإِنّ ضِرام المُرْهَفات خمودُها
ومنها:
بدأتَ بإِحسانٍ فَجُدْ بتمامه ... فمثلك مُبدي مِنّةٍ ومُعيدها
وله من أخرى مطلعها:
يَشيمُ هواكم مُقلتي فتَصُوب ... ويرمي نَواكم مُهجتي فتُصيبُ
ومنها:
تلقَّوْا تحياتي إِليكم عن الصَّبا ... إِذا حان من ذاك النسيم هبوب
ومنها:
وليلةَ بِتْنا والمهاري حواسِرٌ ... يُزَرُّ عليها للظلام جُيوبُ
فبِتْنَ يُبارين الكواكبَ في الدُّجى ... لهنّ طُلوعٌ بالفلا وغروب
نَواصِل من صِبْغ الظلام كما بدا ... لِعينكَ من تحت الخِضاب مَشيب
خوافق في صدر الفضاء كأنها ... وقد وَجَبَتْ منها القلوب، قلوب
سوانح في بحريْ سَرابٍ وسُدْفةٍ ... لهنّ اعتلاءٌ بالضحى ورسوب
فليت ابن أُمّي، والكواكبُ جُنَّحٌ ... يرى أَنني فوق النجيب نجيب
وأَني صرفتُ الهمّ عني بهمّةٍ ... تفرّى دُجىً عن صُبحها وكروب
وأَن سديد الدولة ابنَ سديدها ... جلا ناظري منه أَغرُّ مَهيب
نسيب المعالي، يطرب القومَ مدحه ... كأَنّ الثناء المَحْض فيه نسيب
له خُلُقٌ تُبدي الصَّبا منه غيرةً ... يكاد إِذا هبت عليه يذوب
وثغرٌ إِلى جَهْم المطالب ضاحكٌ ... وصدرٌ على ضيق الزمان رحيب
وله من قصيدة في تهنئة عز الدولة ابن منقذ بالسلامة من جرح ناله:
كلُّ دعوى شجاعةٍ لم تؤيّدْ ... بِكلامِ الكِلامِ دعوى مُحالُ
لا يَرُعْك الصِّقال في السيف حتى ... يَنطِق الفَلّ شاهداً للصِّقال
لو تكون السهام تُحسِنُ قصداً ... عرّجتْ عن مقاصد الآمال
غادر البأْسُ في جبينك منه ... أَثراً لاح في جبين الهلال
لا يجلّي دُجى الحوادث إِلا ... غُررُ الحرب في وجوه الرّجال
في مقاديمها تُصاب المقاديمُ وتُرمى الأَكفال في الأَكفال
وله من أخرى:
لها من الرَّشإِ الوَسْنان عَيْناهُ ... وبي من الوَجْد أَقْصاه وأَدْناهُ
ومنها:
بِنفسيَ القمر المحجوب طلعتُهُ ... عنّي وإِن كان يَهواني وأَهواه
إِذا عزمتُ على السُّلوان خادعني ... بثغره فثنتْ عنّي ثناياه
وَليّ هواهُ على قلبي فَعذّبه ... وحكَّم الحبَّ في جسمي فأَضناه
وله من أخرى في الأمير أبي سلامة مرشد بن منقذ:
إِذا ما تأَملْت القَوام المُهَفْهَفا ... تأَمّلت سيْفاً بين جَفنيْه مُرْهَفا
بُليتُ بقاسي القلب، لا عَطْفَ عنده ... أَما شِيمةٌ للغصن أَن يتعطَّفا
وذِي صلفٍ يُغْريه بالتّيه صَمْتُهُ ... إِذا سُمْته ردَّ السلامِ تَكَلَّفا
وَطَرْفٍ تجلّى عن سَقامي سَقامُه ... فهلاّ شفا مَنْ بات منه على شَفا
أُحِبُّ اقتضاء الوَصْل من كلِّ هاجرٍ ... وإِنْ مَطَلَ الدينَ الغريمُ وسَوّفا
وأَقْنعُ من وعد الحبيب بخُلْفِهِ ... ومِنْ كَلَفي أَن أَسأَلَ الوعد مُخْلِفا
وما زلتُ موقوفَ الغرامِ على هوىً ... يُجدّد لي من عهد ظَمْياء ما عَفا
أَخا كَلَفٍ لا يرهَب الليل زائراً ... إِذا ضلّ نهجَ الحيّ عنه تعسّفا
ومنها:
أُودّعُ لُبّي ذاهلَ القلب مُغْرَماً ... وأُودِع قلبي فاتر الطّرْف أَهْيفا
تَقَضّى الصِّبا إِلاّ تذكُّرَ ما مضى ... وإِلاّ سؤالاً عن زمانٍ تَسَلَّفا
وإِلاّ شباباً فلَّلَ الشيبُ حَدَّهُ ... إِذا ما هفا نحو التّصابي تَلَهَّفا
وعاد عليَّ الدهرُ فيما سخا به ... فنغّص ما أَعطى وكدَّر ما صَفا
ومنها في المخلص:
على أَنني خلّفتُ خَلْفي نوائباً ... كفانيَ مجدُ الدين منهنّ ما كفى
وله من قصيدة:
يا أَهل بابل أَنتمْ أَصْلُ بلبالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْمانيَ البالي
لا، واعتناقِ هواكم بعد فُرْقتكم ... ما كان صَرْفُ النَّوى منكم على بالي
وإِنّما اعترضتْ بيني وبينَكم ... نوائبٌ أَرْخصتْ من دمعيَ الغالي
لولا مكانُ هواكم من مُحافظتي ... لما صرفتُ إِليكم وجه آمالي
سَلوْتُ عن غيركم لمّا عَلِقْتُ بكم ... وَجْداً، أَلا فاعجبوا للعاشق السالي
يا صاحِ إِنّ دموعي حرب زاجرها ... فامنَح هواملَها تركي وإِهمالي
وانظر إِلى عبراتي بَعْدَ بُعْدِهمُ ... إِن أَنت لم ترَ حالي عند تَرْحالي
لو كنتَ شاهدَنا والبينُ يجمعُنا ... على وداعٍ بنيران الهوى صال
رأَيتَ حبّةَ قلبي كيف يسلُبها ... حدٌّ لها، ليس بالخالي من الخال
وقد علاني فُتورٌ عند رؤيتها ... مُقَسَّمٌ بين عَيْنَيْها وأَوصالي
أَقول للصاحب الهادي ملامتَه ... ضَلالةُ القلبِ في أَكناف دي ذال
دعْني أَفُضُّ شُؤوني في معالمها ... فالدَّمعُ دمعيَ والأطلال أَطلالي
وله من أخرى:
أَما عند هذا القَوام الرُّدَيْني ... سجيّةُ عَطْف تقاضاه دضيْني
وأَحسبُ ما طال هذا المِطا ... ل إِلاّ ليلحق حَيْناً بحَيْنِ
ومن عَجَبٍ أَنني أَشتكي ... قساوةَ غُصنٍ من البان لَيْنِ
رماني بسهميْن من ناظريْن عن مَتْنِ قوسيْن من حاجبينِ
وإِنْ أَنكرت مقلتاه دمي ... فسائلْ به حُمرةَ الوَجْنتيْنِ
وَلِمْ لا تُناكرُني عينُه ... وقد علمت كيف إِقرار عيْني
وماليَ خصمٌ سوى ناظري ... فهل حاكم بين عَيْني وبيْني
ومنها في المدح:
أَصَبْتَ عِدىً فملأتَ القلوب ... وصُبْتَ يداً فملأْت اليديْن
كأَنّك لستَ ترى راحةً ... سوى حَثْوِ مالِك بالرّاحَتيْن
فداؤك باكٍ على ماله ... بكاءَ اليتيم على الوالديْن
وله:
خفضي الصوتَ يا حَمامَة مقْرى ... هاج شوقي دعاؤك المرفوعُ
إِنّما تستثير رِقّةٌ شكوا ... كِ دموعي والوجدُ حيثُ الدموع
طَرَّبتْ عند إِلفها، وشَجاني ... فَقْدُ إِلْفي فأَيّنا المفجوع
وله: لا تناظرُ جاهلاً أَسندك الدهرُ إليه
إِنما تُهْدي له علماً يُعادِيكَ عليه
وله من قصيدة يصف إبريق المدام:
ترى الإِبريقَ يحملُه أَخوهُ ... كِلا الظَّبْيَيْن يَلْثِمُهُ ارتِشافا
يَظَلُّ كمُطرِقٍ في القوم يبكي ... دماً أَو ناكسٍ يشكو الرُّعافا
ومنها:
يكفِّ مُهفهَف الكَشْحَيْن يُنْمى ... إِلى الغُصْنِ اعتدالاً وانعطافا
يُدير الكأْس من يده دِهاقاً ... ويَسْقي الرّاحَ من فمه سُلافا
ويُهدي الوردَ لا مِنْ وَجنتيْه ... فَيَأْبى أَخذَه إِلاّ قِطافا
ومنها في وصف المغني:
ومُسْمِعُنا الأَغنُّ إِذا تَغَنّى ... خلعت على مَحبَّته العَفافا
يُضاعِفُ من سرور القلب حتى ... يكاد يشُقّ للطرب الشَّغافا
وله يصف الغدير وقد تدرج ماؤه بالنسيم:
أَوَ ما ترى طرب الغدير إِلى النسيم إِذا تحرّكْ
بل لو رأَيت الماء يلعب في جوانبه لَسَرَّكْ
وإِذا الصَّبا هبّتْ عليه أَتاك في ثوبٍ مُفَرَّكْ
وله من قصيدة:
بما بعطفيك من تيهٍ ومن صَفَفِ ... مَنْ دَلّ ذلك يا هذا على تلفي
ناشدْتُكَ الله في نفسٍ غَدَتْ فِرَقاً ... بين الجَوى والأَسى والبَثِّ والأَسفِ
ومهجةٍ رفع التكليفَ خالقُها ... عنها لشدّة ما تلقى من الكَلَف
أَستشعرُ اليأس في لا، ثمّ يُطمِعُني ... إِشارةٌ في اعتناق اللامِ والأَلِفِ
إِنْ أَنت روَّيْتَ من أَلفاظه أُذُناً ... علمتَ كيفَ مَقَرُّ الدُّرِّ في الصَّدَفِ
وإِن نظرتَ إِلى القِرطاس في يده ... رأَيتَ كيف نباتُ الرُّوْضِ في الصُّحُف
وله من قصيدة:
أَوْطَنَ القلبَ من هواكم فريقُ ... ما لِصَرْفِ النَّوى عليه طريقُ
كلّما امتدّ بيننا أَمَدُ البيْن تَدانى هواكُمُ المَوْموقُ
طولُ عهدي بكم يضاعِفُ وَجْدي ... وكذا يفعلُ الشّرابُ العتيق
حَجَبَ الدّمعُ مقلتي، فعداها ... أَن ترى ما يروقُها ما تُريقُ
وأَرى البُعْدَ في الصَّبابة كالقُرْ ... بِ فقلبي على الزّمان مَشُوقُ
ولآلي دُموعِ عيني طوافٍ ... فلماذا غَوّصُهُنّ غريق
لا يُرَعْ في يد الفِراق زَمانٌ ... مرَّ لي مِنْ وِصالِكم مَسْروق
حيثُ غُصنُ الشبابِ غضٌّ وَرِيقُ ... وتَحايا المُدام عَضٌّ وَرِيقُ
وغَرامي لا يَستدِلُّ به الطيْفُ ولا تهتدي إِليه البُروق
والليالي مثلُ الغواني إِذا أَسفرن لم تدر أَيُّها المعشوق
في زمانٍ تضاعَفَتْ لعميدِ المُلك في ظلّه عليَّ الحقوق
ومنها:
لو شهِدْتُم صَبابتي لعلمتُمْ ... أَنّ قلبي بحبّكم مَعْذوقُ
أَو وقفتم على غُلُوّيَ فيكم ... قام لي عندكم بذلك سوق
رابني بَعْدَكم زماني فلا الأَيامُ بيضٌ ولا الربيعُ أَنيقُ
ورأَيتُ الرَّحيقَ يجلُبُ همّي ... أَفحالت عن السُّرور الرحيق
أَسلمتْني إِلى الأَسى، فهي في الكأْ ... سِ رَحيقٌ، وفي فؤادي حريق
وبَلَوْتُ الورى قياساً إِليكم ... فاستمرت على قياسي فُروق
وتصفَّحْتُ بَعْدَكم شِيَمَ النّا ... سِ وفيها الصَّريحُ والمَمْذُوق
ومنها:
يَعِدُ الدّهر باللّقاء فيُسْليني ويَرْوي أَخبارَكم فَيَشُوق
سانحاتٍ يكاد يتّهم السمعَ عليها قلبٌ عليكم شَفيقُ
ويُعاطينيَ الغرام أَفاويق هواكم فما أَكاد أُفيق
غير أَني أَهيم شوْقاً إِذا هَبَّ نسيمٌ بنَشْركم مَفْتوق
قد ملكتُمْ قلبي وسرَّحتُمُ جسمي فواهاً أَنا الأَسيرُ الطليق
وله من قصيدة:
مَنْ مُنْصفي من حُبِّ ظالمْ ... والحبُّ فيه الخصمُ حاكمْ
ما كنتُ أَدري ما الهوى ... حتى بُليتُ بغير راحم
قاسي الفؤادِ يبيتُ في ... رَغَدِ الكَرى وأَبيتُ هائم
ومن العجائب أَن يرى ... مُتَيَقِّظاً في أَسْر نائم
يا صارمي أَوَ ما كفى ... ما في جُفونك من صوارم
لامُوا عليك وليس لي ... سمعٌ يعنّ على اللوائم
لومَ الحسُود على مُظا ... هرة العميد أَبي الغنائم
وله:
يا معشَرَ الفتيان ما عندَكُمْ ... في حائمٍ ذيدَ عن الوِرْدِ
آلى على الخمرة لا ذاقها ... ما عاش إِلاّ زمن الوَرْدِ
وقد مضى الوَرْدُ فهل رخصةٌ ... في أن يكون الوَردُ من خدِّ
وله:
مَنْ رآني قبَّلْتُ عينَ رسولي ... ظنّ أَنّ الرسولَ جاء بسُولي
إِنّ عَيْناً تأَمَّلَتْ ذلك الوجْه أَحَقُّ العُيونِ بالتّقبيل
وله في غلام يهودي صيرفي:
في بني الأَسباط ظبيٌ ... مالكٌ رِقّ الأسودِ
يأْسِر الناس بقدٍّ ... وبخدٍّ وبجيدِ
تُنْبِتُ الأَبصار في وجنته وَرْد الخُدودِ
مَلِق الوعد متى طالبه اللَّحظُ بجودِ
كفلت زهرةُ عينيه بأثمار الوعود
صيرفيٌّ في غرامي ... في صُروف ونقود
أَنا في الدين حنيفيٌّ وفي الحبّ يهودي
وله من قصيدة في مجير الدين آبق وكان صاحب دمشق:
كلّما غَصَّ هواكم من جفوني ... سكنَ اللَّوْمُ اغتراراً لسكوني
ووراءَ الصَّدر مني لَوْعةٌ ... شانَها رَكْضُ دموعي في شؤوني
يا لَدَمْعٍ حار في أَجفانه ... أَنْ يُسمّى بوفِيٍّ أَو خؤون
فلئن دلّ على وَجْدي بكم ... فلَقد حامى عن السّر المصون
فتأَمَّلْ عَجَباً من ناظرٍ ... خائنٍ يُخبر عن قلبٍ أَمين
في سبيل الحبّ مني مُهجةٌ ... قُتِلتْ بين خدود وعيون
يَئِستُ أَنْ تُفْتدى أَفئِدةٌ ... أُسِرَت بين فتور وفتون
وقلوبٌ مَلَكَتْهنّ المَها ... فاتكاتٍ بالنُّهى، مُلْك اليمين
جيرة ما زال قتلى دِينُها ... واعتصامي بمجير الدين ديني
وله من قصيدة في الشيب:
يا هندُ مَنْ لأخي غرامٍ، ما جرى ... بَرْقُ الثّغور لطرفه إِلاّ جرى
أَبكته شَيْبتُه وهل من عارضٍ ... شِمْتُ البوارقَ فيه إِلاّ أَمطرا
لا تنكري وَضَحاً لَبِسْتُ قتيرَه ... رَكْضُ الزمان أَثار العِثْيَرا
وله من قصيدة فيم جير الدين أيضاً:
أَتراك عن وَتْرٍ وعن وَتَرِ ... ترمي القلوبَ بأَسهم النظرِ
كيف السبيلُ إِلى طِلاب دمي ... والثأْر عند معاقل الحَوَر
هي وَقعة الحَدَق المِراض فمِن ... جُرحٍ جبارٍ أَو دمٍ هَدِر
تمضي العزائِم حيث لا وَزَر ... وَتُفَلُّ دون معاقِد الأُزَُر
يا صاحِ راجعْ نظرةً أَمماً ... فقدِ اتّهمت على المها بصري
بكَرتْ تطاعننا لواحظُها ... فتنوب أَعيننا عن الثُّغَرِ
وتُرِي مباسمها معاصمها ... مَجْلُوَّةً في لؤلؤ الثَّغَرِ
لا لائم العشّاق إِنَّهمُ ... لَيَرَوْن ذنبك غيرَ مُغتفَر
أَوما علمتَ بأَنها صور ... جادتْ بأَنفسها على الصُّور
ومُدامة كالنار مطفِئها ... غرضٌ لها ترميه بالشَّرر
يجري الحَباب على جاجتها ... والتّبرُ خيْرُ مراكبِ الدُّرَر
كالجمر تلفح كف حاملها ... فتظنُّه منها على خطر
والكأْس والساقي إِذا اقترنا ... فانظر إلى المرّيخ والقمر
عَذَلا على طربي بجائرةٍ ... لولا مجير الدين لم تَجُر
وله في مدح مجير الدين من قصيدة:
أَرى الصوارم في الأَلحاظ تُمْتَشَق ... متى استحالت سُيوفاً هذه الحَدَقُ
واويلتا من عيون قلّما رمقتْ ... إِلاّ انثنت عن قتيلٍ ما به رمق
يا صاح دعني وما أنكرتَ من ولهي ... بان الفريقُ فقلبي بعدهم فرق
أما ترى أَيَّ ليثٍ صاده رشأٌ ... وأَيَّ خِرْقٍ دهاه شادنٌ خَرِق
في معركٍ لذوات الدَّلِّ لو شرِقت ... بحرِّه أَنفُسُ العُشّاق ما عشقوا
من كلّ شمسٍ لها من خِدْرها فلَكٌ ... وبدرِ تِمٍّ له من فرعه غَسَق
ومن كثيب تجلّى فوقه قمرٌ ... على قضيبٍ له من حُلَةٍ ورَق
وغادةٍ في وشاحٍ يشتكي عطشاً ... إلى حُجُول بها من رِيِّها شَرَقُ
تبسَّمتْ والنَّوى تبدي الجوى عجباً ... من لوعة تحتها الأحشاء تحترق
وأَنكرت لؤلؤ الأَجفان حين طفا ... منها على لُجَّةٍ غوّاصها غَرِقُ
ومنها:
يا منْ لصبٍّ شجاه ليلُ صَبْوَته ... لمّا تبسّم هذا الأَبيضُ اليَقَقُ
متى نهته النُّهى حنّت عَلاقته ... إِن الكريم بأَيام الصِّبى عَلِقُ
صاحبتُ عمريَ مسروراً ومكتئباً ... كذلك العيش فيه الصَّفو والرنَقُ
وعِشتُ أَفتح أَبواباً وأُغْلِقها ... حتى سمتْ بي عُلاً ما دونها غَلَق
فسِرتُ مُغْتبِق الإدلاج مُعْتنِقاً ... ذرى عزائمَ من تعريسها العَنَق
لا أَرهب الليل حتى شاب مَفْرِقهُ ... وهل يخاف الدُّجى من شمسه أَبق
وله فيه من قصيدة هي آخر ما أنشده في شعبان سنة ثمان وأربعين:
بين فتور المُقلتيْن والكَحَلْ ... هوىً له من كلّ قلبٍ ما انتحلْ
تَوَقَّ من فتكتها لواحظاً ... أَمَا ترى تلك الظُّبا كيف تُسَلْ
يا ويحها نواطِراً سواحِراً ... ما عُقِل العقلُ بها إِلاّ اختبلْ
لو لم تكن بابلُ في أَجفانها ... لما بَرَتْ أَسهمَها من المُقَلْ
يا رامياً مسمومةً نصالُهُ ... عَيناك للقارَةِ، قُلْ لي، أم ثُعَل
وعاذلٍ خوّفني من لحظها ... إِليك عني، سبق السيفُ العَذَل
ذك على سَفْك دمي محبّبٌ ... أَنا القتيل مُغْرَمٌ بمن قتل
لاحظت منه وجنتيْن، ما جرى ... ماءُ الصِّبا بجمرها إِلاّ اشتعل
آه على ظمآنها ضَمانة ... لو كفل الخصر لِوَجْدي بالكَفَل
ومنها:
يا صاح حَلِّلْ من أَناشيط الأَسى ... إِذا حللت بين هاتيك الحِلَلْ
سلْ عن رُقادي بالغضا أَين مضى ... وعن فؤادي بعدها ماذا فعل
وإِن رأَتْ عيناك ربعاً خالياً ... فاسق حَيا طَلِّهما ذاك الطَّللْ
وَعَدِّ عن مَحاجرٍ بحاجرٍ ... نظرتُها أَقربُ عهدٍ بأَجلْ
واجْتَنِ أَثمار الهوى فباللَّوى ... غصنُ نقاً يَحملُ نُقّاحَ الخجل
وإِنْ يغب عنك اهتزازُ قدّه ... فسل به أَترابه من الأَسَل
كلُّ حَلالٍ عنده مُحَرّمٌ ... فليت شعري عن دمي كيف استحل
إِيّاك أن تحمِل قتلي ظالماً ... فما لخصمي بقبيلي من قِبَل
ترى وَليّ الثأْر إِن أَراده ... فهل مُجيرٌ من مُجير الدين هل
وله في غلام صيرفي:
ظَبْيٌ بسوق الصَّرْف، من أَجله ... مَهَرْت في الصَّرف وفي النقد
ما كنتُ في صَيْدي له طامعاً ... لو لم يكن إِبليس من جندي
يقول، والدينار في كفه: ... مَنْ عنده؟ قُلتُ له: عندي
وكلّمتني عينُه بالرِّضا ... وانقد الوعد على الوعد
وقوله في غلام التحى:
يا عارضاً نفسَه، وعارِضُه ... يضرِب دون الوِصال بالحُجُبِ
أَنْبتَّ منه لسُلوَتي سبباً ... يا هاجري قبل ذا بلا سببِ
فالْقَ به قطعَ كلّ ذي صلة ... هذا كُسُوفٌ بِعُقْدَةِ الذَّنب
وله في العذار:
وقالوا لاح عارضُه ... وما وَلّتْ وِلايتُهُ
فقلت عِذارُ مَنْ أَهوى ... أَمارتُه إِمارتُه
وله:
إِلاّ يكنْ قد هَوِيتُه بشراً ... فإِنّه فتنةٌ على البشرِ
واحَرَبا من بياض وَجْنته ... تراكضتْ فيه ظُلْمَةُ الشَّعَرِ
حين تبدّى سَوادُ عارضه ... كما تبدّى الكسوفُ بالقمر
وله من قصيدة في الأمير مؤيد الدولة:
أَين مضاءُ الصّارمِ الباتِر ... من لحظاتِ الفاتن الفاتِر
وأَين ما يُؤْثَر عن بابلٍ ... مِنْ فعلِ هذا الناظر الساحر
ظبْيٌ إِذا لوّح منه الهوى ... بواصلٍ صرّح عن هاجر
يوهمني في قوله باطناً ... والحُكْم محمولٌ على الظاهر
نام وأَغرى الوجدَ بي فانظُروا ... ما أَولعَ النائمَ بالسّاهرِ
ثم اغتدى يقنِصُني نافراً ... يا عَجَباً لِلْقانص النّافر
عاتبتُه في عَبْرتي زاجراً ... خوفاً على الأَسرار زاجر
فاعتذرَتْ عيني إِلى عينِه ... معذرَة الوافي إِلى الغادر
أَضنى الهوى قلبي ليطوي به ... مسافةَ البيْنِ على ضامر
وطار فانقضّ عليه الجوى ... بكاسِر الجفن على كاسر
وقهوةٍ تحسب كاساتِها ... كواكباً في فلك دائِر
رَعَتْ بها لَيْلَ الهوى فانجلى ... عن شمس هذا الزّمن الناضر
وأَبعَدَ الأَخْطارَ تقريبُها ... مؤيَّدَ الدُّوْلةِ من خاطري
وله في سرج:
حملتُ الجِياد فأَكرمْتَني ... ورحتُ وقد حملتني الجياد
فَلِمْ لا أَتيه على العالمين ... وفَوقي جَوادٌ وتحتي جَواد
وله أيضاً من قصيدة في مؤيد الدولة:
كيف قلتُمْ ما عندَ عينيْه ثارُ ... وبخدَّيْه من دمي آثارُ
لو شهدتم إِعْراضَه وخُضوعي ... لم يكنْ في قضيّتي إِنكار
يا لَقومي وكيف تُنْكر قتلي ... لَحَظاتٌ جُحودُها إِقرار
إِن تطلّبتُمُ من الطرْف والوجْنة عُذري ففيهما أَعذار
أضو سأَلتُمْ أَيُّ البديعيْن أَذْكى ... جُلَّ ناري فذلك الجُلَّنار
ما أَراني ليلي بغير نهارٍ ... غيرُ ليلٍ يلوح فيه نهارُ
زاد إِراقُ وجهه بين صُدغيْه وفي الليل تُشْرق الأَقمار
لا تسلْني عن الهوى فهو في الأَجفان ماءٌ وفي الجوانح نار
ويظنّ العذولُ أَنّ مشيبي ... ضاحكٌ عنه لِمَّةٌ وعِذار
لم أَشِب غير أَنّ نار فؤادي ... أُلهبت فاعتلى الدُّخان شرارُ
وله من قصيدة:
فمٌ وثَغْرٌ وشَنَبْ ... كأْسٌ وخمرٌ وحَبَبْ
واحَربَاه مِنْ شادنٍ ... لم يُرْضه مني الحَرَب
مُوَلَّد ليس له ... إِلاّ إِلى الحسن نَسَب
يَضْحك من مُسَدّسا ... ت النحل فيهنّ الضَرَب
ما إِن حماني ثغرَه ... إِلاّ سباني ونَهَب
ولا مشى تهادياً ... إِلا مشى القلبُ خَبَبْ
هل سببٌ إِلى الرِّضا ... يا عاتباً بلا سبب
تُنْكِرني قتلي وفي ... يَديك من قتلي سَبَب
ما ليَ أَبكي قاتلي ... يا لَلرجال لِلْعجب
كأَنّ عينيّ إِذا ... دمي على دمعي انسكب
يدا أَمين الدين تهمي باللُّجَيْن والذَّهَب
وله من قصيدة:
يا غريراً غَرّ الفؤادَ المُدَلَّة ... يا عزيزاً به عَرَفتُ المَذّلَّهْ
بأَبي ذلك المَلاك وإِن أَصبح من قَتلتي على غير مِلَه
كلّما ناظَرَ العواذلُ فيه ... رُحْتُ من دَلِّه قويَّ الأَدِلَّه
أَيّها الشادنُ المحرِّمُ وَصْلي ... كيف أَغفلتَ مُقْلَةً مُسْتَحِلَّه
وإِذا كان لحظها سببَ السُّقْم فلِمْ قيل إِنها مُعْتَلَّه
ومن الوجد في العَلاقة أَني ... لا أَمَلّ الصُّدود حتى تَمَلَّه
حَدِّثوه بعلَّتي وسَقامي ... فعسى أَن يَرِقَّ لي ولَعَلَّه
آه مِمَّنْ إِذا رفعتُ إِليه ... من غرامي أَدقَّه وأضجَلَّه
ردَّ رُزْمامَجَ الشَّكاةِ وقد وقَّع لي فيه: صحَّ والحمدُ لله
نظراً عادلاً كأَنّ عماد الدّين من لفظه عليه أَمَلَّه
أَلمعيّاً هواه عندي على البُعْد مُوَلّىً على فؤادي المُوَلَّه
ذا يدٍ ذائِداً بها نُوَبَ الدَّهْر فكم ردّها بأَبرح غُلَّه
وله من قصيدة:
يذود الظُّبى عنهنّ والحَدَقُ الصِّيدُ ... أَمُرْهَفَةٌ بيضٌ ومُرْهَفةٌ سُودُ
وعلى أَنّ أَوْحاهُنّ فتكاً صوارمٌ ... صياقلُها أَجفانها والمَراويد
فلا جسمَ إِلاّ بالبواتر مُقْصَدٌ ... ولا قلبَ إِلاّ بالنواظر مقصود
وما البارقاتُ الراعدات عواصف ... بهمّيَ لولا المُبْرِقاتُ الرَّعاديد
وليس الهوى ما صدّني عنه غَيْرَةٌ ... ولا ما لواني عنه لَوْمٌ وتَفْنيد
ولكنه الشّكوى إِلى من أُحبّهُ ... وإِن حال صدٌّ دونَها وصناديد
هلِ الرَّوْضُ من تلك المحاسن مُجْتَنىً ... أَمِ الحَوْضُ من ذاك المُقَبَّل مَوْرود
وهلْ ظِلُّ ريعان الشبيبة عائدٌ ... عليّ ولُقيان الأَحِبّة مَرْدود
وِدادٌ بأَكناف الوفاء مُمَنَّعٌ ... وعهدٌ بأَنواءِ الصَّبابة معهود
ومنها:
وإِني لخوّوارُ الشكيمة في الهوى ... وإِنْ بات في خدَّيَّ للدَّمع أُخدود
تَنَكَبُّ خوفاً من دمي البيضُ والقَنا ... وتُلْوى به في لِيِّهِنّ المواعيدُ
ويَنْزِل لي عن ثارها النَّفَرُ العِدى ... وتقتادني في دَلِّها البقرُ الغِيد
ويقطع فيَّ الطَّرْفُ، والطرفُ فاترٌ ... فقلْ في مَضاءِ السيفِ والسيفُ مَغْمود
وله من قصيدة مطلعها في الشيب:
أَمّا الشبابُ فطَيْفٌ زارني ومضى ... لمّا تَبَلَّج صُبْحُ الشَّيْب مُعْترِضا
ما كان أَبيضَ وجهَ الوَصلِ حين دجا ... وما أَشدَّ ظلامَ الهجرِ حين أَضا
وما وجدتُ الصِّبا في طُول صُحبتِه ... إِلاّ كما لَبِس الجفنُ الكَرى ونَضَا
فالآن صَرَّحَ شَيْبُ الرأس عن عَذَلٍ ... محضٍ، ولم يَزْوِ عنك النُّصْحَ مَنْ مَحَضا
فإِن تَبِتْ سُحُبُ الأَجفان هاميةً ... فَعَنْ سَنا بارقٍ في عارِضٍ وَمَضا
ومنها:
ومن عجائبِ وَجْدي أَنه عرضٌ ... لم يُبْقِ منّيَ جسماً يحمِلُ العَرَضا
ولم يدع ليَ مَوْتُ السرِّ من جسديد ... عِرْقاً إِذا جسّه آسي الهوى نَبَضا
فإِن يكن دَلَّ إِعراض الدَّلال على ... غير المَلالِ فسُخْطي في هواك رضا
وله من قصيدة:
إِنّ الأُلى جمعتْهُمْ والنَّوى دارُ ... جارُوا فهل أَنت لي من ظلمهم جارُ
ساروا على أَنهم قرباً كبعدهم ... فما أُبالي أَقام الحيُّ أَم سارُوا
عندي على الوجد فيهم كلُّ لائمةٍ ... وعندهم للهوى العُذرِيِّ أَعذارُ
ففي الصُّدور صَباباتٌ وَمَوْجِدَةٌ ... وفي الخُدور لُباناتٌ وأَوطار
قد أَنكر الناس من دمعي ومن حُرَقي ... هوىً تهادَن فيه الماءُ والنار
إِلامَ اُعلن أَسراري وأَكتمُها ... وآيةُ الشوق إِعلان وإِسرار
دَيْنٌ، على عبراتي أَنْ تُقِرَّ به ... وإِنما غايةُ الإنكار إِقرار
وله من قصيدة في ختان:
وَنَجْلٍ تدرك الأَبصارُ منه ... سنا قمرٍ بتاج المجد حالِ
حَبَتْه سُنّةُ الإِسلام طُهراً ... تكفَّل غَيْرَةَ الماءِ الزُّلال
فيا لكَ من دمٍ يجري سُروراً ... وكَلْمٍ نقْصُه سِمَةُ الكمال
وذي أَلم يلذّ به وجرحٍ ... يكون قصاصهُ جَذَلَ الرجال
وأَيّ جناية تَرْضى المَساعي ... بها، ويُثاب جانيها بمال
وله من قصيدة:
لو أَن قاضي الهوى عليَّ وَلِي ... ما جار في الحكم مَنْ عَليَّ وَلي
وكان ما في الدَّلال من قِبَلِ الحُسْن بما في الغرام من قِبَلي
حسبي وحسبُ الجوى أُغالبه ... فيا عذولي ما لي وللعَذَل
كيف يُداوى الفؤادُ من سَقمٍ ... تاريخُه كان وَقْعَةَ المُقَل
لا تَسْقِيَنّي صريحَ لائِمةٍ ... فَصِحَّتي في سُلافة القُبَل
بي من بني الترك شادِن غَنِجٌ ... يصيد لحظ الغزال بالغزل
أَغْيَدُ يلقاك طرفُه ثَمِلاً ... وليس فيه سَماحةُ الثَّمِل
مُبتسِمٌ والعيونُ باكية ... وفارغٌ والقلوب في شُغُل
لاحظني كالقضيب معتدلاً ... وصدّ والصبرُ غيرُ معتدل
وأَصبحتْ في الوَرى مَحَبَّتُهُ ... كأَنها دَوْلةٌ من الدُّوَلِ
مَلاحةٌ دانت القلوبُ بها ... طَوْعاً كما دانت العُلى لعلي
وله من قصيدة:
ما استأْنفَ القلبُ من أَشواقه أَرَبا ... إِلاّ استفزَّتْه آياتُ الهوى طَرَبا
لله نِسبةُ أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلي رَيّا الحِمى انتسبا
أهكذا لم يكن في الناس ذو شَجَن ... إِلاّ صَبا كلّما هبَّتْ عليه صَبا
ما أَعجبَ الحبَّ، يُدْعى بأْسُه غَزَلاً ... جَهْلاً به، ويُسَمَّى جِدُّه لَعِبا
ويْحَ الحَمام أَما تجتاز بارقةٌ ... إِلاّ بكا في مغاني الدار وانتحبا
كأَنه واجدٌ وَجْدي بجيرتها ... فكلّما خطرت في قلبه وَجَبا
فموضعُ السِرّ مني يستضيء سَناً ... ومنبع الماءِ منه يَلْتظي لَهَبا
ومنها:
أَحبابَنا، عاد عيدُ الهمّ بعدَكُمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحبّ واقتربا
ما بال سَلوةِ بالي لا تسرُّكُمُ ... حتّى كأَنّ لكم في راحتي تعبا
ما خانكم جَلَدي إِلاّ وفى لكُمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى
عَلاقَةٌ غلبتْ صبري فلا عَجبٌ ... إِن الصّبابة خصمٌ طالما غلبا
وله من قصيدة يهنئ فيها أتابك الكبير عماد الدين زنكي بن آق سنقر رحمه الله سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بفتح الرها. أولها:
هو السّيفُ لا يُغنيكَ إِلاّ جِلادُهُ ... وهل طوّق الأَملاكَ إِلاّ نِجادُهُ
ومنها:
فيا ظفراً عمَّ البلادَ صَلاحُه ... بمن كان قد عمّ البلادَ فسادُه
غَداةَ كأَنّ الهامَ في كلِّ قَوْنَسٍ ... كمائمُ نبتٍ بالسُّيوف حَصَادُهُ
فما مُطْلَقٌ إِلاّ وَشُدَّ وَثاقهُ ... ولا مُوثَقٌ إِلا وحُلّ صِفاده
ولا مِنْبَرٌ إِلاّ ترنّح عودُه ... ولا مُصْحَفٌ إِلاّ أنارَ مِدادُه
إِلى أَين يا أَسرى الضَّلالةِ بعدها ... لقد ذَلّ علويكم وعزّ رشادُه
رويدَكُمُ لا مانعٌ من مُظَفَّرٍ ... يعانِدُ أَسبابَ القضاءِ عِنادُه
فَقُلْ لملوك الكُفر تُسْلِم بعدها ... ممالكَها إِنّ البلاد بلادُه
كذا عن طريق الصّبح أَيّتها الدُّجى ... فيا طالما غالَ الظّلامَ امتدادُه
فلو دَرَجُ الأَفلاك عنه تحصّنت ... لأَمْستْ صِعاداً فوقَهنّ صِعادُه
ومن كان أَملاك السموات جُنده ... فأَيّةُ أَرضٍ لم تطأها جيادُه
ومنها:
سمعت قِبلةُ الإِسلام فخراً بطَوْله ... ولم يك يسمو الدين لولا عمادُه
وله وقد اجتاز بعزاز في عهد الفرنج بها، خذلهم الله، وأنشدنيها ولده موفق الدين خالد:
أَين عِزّي من رَوْحتي بعَزازِ ... وجَوازي على الظِّباء الجَوازي
واليعافيرُ ساحبات المغافير علينا كالرَّبْرَب المُجْتاز
بعيونٍ كالمُرْهَفات المواضي ... وقدودٍ مثل القنا الهزّاز
ونحورٍ تقلّدت بثغورٍ ... ريقُها ذَوْبُ سكَّر الأَهواز
ووجوهٍ لها نُبُوَّةُ حُسْنٍ ... غير أَن الإعجاز في الأعجاز
كل خَمْصانةٍ ثَنَتْ طرف الزُّنّار من سُرَّةٍ على هوَّاز
ذات خَصْرٍ يكاد يخفى على الفا ... رس منه مواقعُ المِهْماز
لاحظتني فانقضَّ منها على قلبيَ طرْفٌ له قَوادِمُ باز
وسبتْني لها ذوائبُ شَعرٍ ... عقدتها تاجاً على ابرواز
مَنْ مُعيني على بنات بني الأصفر غزواً فإِنني اليومَ غاز
وله:
إِذا ما خدمتَ كبار الملوك ... فأَولُّ ما تخدُمِ الحاشيه
فكن جاري الماء يسقي الرياض ... فأوَّلُ ما تشرب الساقيه
وله في العذار:
يا مُطْلِعاً بصُدود في لِمَّتي ... ما غاب تحت عِذاره من خدّه
لك عارضٌ أَلقى عليَّ بياضَه ... وأَغار من شعري على مُسْوَدِّه
وأَظنُّ خدَّك مُذْ تخوَّف نَهْبَه ... ضَرَب السّياج على حديقةِ وَرده
وله من قصيدة يهنئ نور الدين رحمه الله باستقرار أمر دمشق وأسر جوسلين وفتح عزاز وقورص والقلاع ويذكر قتل الإبرنس صاحب أنطاكية:
لِيَهْنِ دمشقاً أَن كُرسيّ مُلْكِها ... حُبي منك صَدْراً ضاق عن هَمِّه الصَّدْرُ
وأَنك، نورَ الدين، مُذْ زُرتَ أَرضها ... سمتْ بك حتى انحطّ نَسرها النسر
هي الثَّغْر أَمسى بالكراديس عابساً ... وأَصبح عن باب الفراديس يَفْتَرّ
فإِمّا وقفت الخيل ناقعة الصَّدى ... على بردى من فوقها الوَرَق النَّصْر
فمن بعد ما أَوردتها حَوْمةَ الوغى ... وأَصدرتها، والبيض من عَلَقٍ حُمْر
وجلّلتها نقعاً أَضاع شِياتِها ... فلا شُهْبُها شهب ولا شُقْرها شقر
علا النهرُ لما كاثَرَ القصب القنا ... مكاثرةً في كل نَحْرٍ لها نَحْرُ
وقد شرِقتْ أَجْرافه بدم العِدى ... إِلى أَن جرى العاصي وضحضاحه غَمر
صدعْتَهمُ صَدْعَ الزُّجاجة لا يدٌ ... لجابرها، ما كلُّ كسرٍ له جَبْر
فلا ينتحل من بعدها الفخرَ دائلٌ ... فمن بارز الإِبرنز كان له الفخر
ومَنْ بزّ أَنطاكية مِنْ مليكها ... أَطاعته أَلحاظُ المُؤلّلَةِ الخُزْر
أَتى رأسه ركضاً وغودر شِلْوُهُ ... وليس سوى عافي النسور له قبر
كما أَهدتِ الأَقدارُ للقمص أَسْرَهُ ... وأَسْعَدُ قِرنٍ من حواه لك الأَسْر
فأَلْقتْ بأَيديها إِليك حصونُه ... ولو لم تُجِبْ طوعاً لجاء بها القَسْر
وأَمستْ عَزاز كاسمها بك عِزَّةً ... تشُقّ على النَّسريْن لو أَنها الوَكْر
فسِرْ تملإِ الدُّنيا ضياءً وبَهْجةً ... فبالأُفُق الداجي إِلى ذا السَّنا فَقْر
كأَني بهذا العزم لا فُلّ حَدُّه ... وأَقصاه بالأَقصى وقد قُضِيَ الأَمر
وقد أَصبح البيت المقدَّسُ طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طُهْر
وإِن تتيمَّمْ ساحِل البحر مالكاً ... فلا عجبٌ أَن يملِك الساحلَ البحر
سللتَ سيوفاً أَثكلت كلَّ بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر
ومنها:
إِذا سار نور الدين في عَزَماته ... فقُولا لِلَيْلِ الإِفك قد طلَع الفجر
هُمامٌ متى هَزَّت مواضي سيوفه ... لها ذكراً، زُفّت له قَلْعةٌ بِكْر
ومنها:
خلعتَ على الأَيّام من حُلَلِ العُلى ... ملابِس من أَعلامها الحمد والشكرُ
فلا تفتخر مصرٌ علينا بنيلها ... فيمناكَ نيلٌ كلُّ مِصْرٍ به مِصْرُ
وله من قصيدة في مجير الدين آبق:
بسيفك المُنْتَضى من الكَحَلِ ... ووَرْدِك المُجْتنى من الحجلِ
وكأسك المُشْتَها مُقَبَّلُها ... أَنت لأَجلي خلقت أَمْ أَجَلي
أَهوى لذِكراك كلًّ عاذلة ... حسْبك حبّاً محبّةُ العَذَل
لولاك لم أَستلذّ لائمةً ... فليت مَنْ لامني عليَّ وَلِي
كي لا يكون المَلام منه على ... مُعتدِل القدّ غير معتدِل
مُبتهجٌ والنّفوس ذاهلةٌ ... وآِمنٌ والقلوب في وَجَل
لو بان جسمي لِخصره لَشكا ... ذاك إِلى ذا ظُلامةَ الكَفَل
وله:
وحمائمٍ ناحتْ على فَنَنِ ... فبعثن لي حزناً إِلى حَزَنِ
ناحتْ ونُحتُ، وفي البكا فرج ... فظللت أُسعدها وتسعدني
شتَّى الهوى، والشوقُ يجمعنا ... كلٌّ بكى منّا على شجن
وله:
قل لمن أَطلع شمس الكأْس من أُفْق اليمينِ
إِحبس الكأْس فقد عِفتُ سُلاف الزَّرَجونِ
واسقني من خمر أَلحا ... ظك كأْساً من فتونِ
أَنا لا أَشربها إِلا بكاسات الجُفونِ
لا تلمني، أَين سُكْرُ الخمر من سُكْر العيونِ
وله في العذار، وقد أعجب فيه وأغرب:
يا مُسْكري وجداً بكأْس جفونه ... قل لي: أَتلك لواحظٌ أَم قَرْقَفُ
بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذَوَتْ الملاحةُ أَو أَبلَّ المُدْنَفِ
بواسبق عذارك باعتذارك قبل أَن ... يأْتي بعزل هواك منه مُلَطَّفُ
تشبيه العذار بالملطّف، في هذا المعرض، من نسيم الروض ألطف.
باب في ذكر محاسن جماعة من الشعراء
من أهل عصري الأقرب بدمشق
عرقلة الكلبي
وهو أبو الندى حسان بن نميرمن حاضرة دمشق، من كلب وبرة من الجلاح وهي بطن منها. لقيته بدمشق شيخاً خليعاً ربعة مائلاً إلى القصر، أعور مطبوعاً، حلو المنادمة، لطيف النادرة، معاشراً للأمراء، شاعراً مستطرف الهجاء، لم يزل خصيصاً بالأمراء السادة بني أيوب، ينادمهم ويداعبهم ويطايبهم قبل أن يملكوا مصر، والملك الناصر صلاح الدين يوسف أشعفهم ينكته، وأكلفهم بسماع نتفه، وله فيه مدائح، ولديه منه منائح.
فمن جملة قوله فيه، وكان قد وعده أنه متى ملك مصر يعطيه ألف دينار، فقصده ومدحه بأبيات، منها:
قل للصّلاح مُعيني عند إِعساري ... يا أَلف مولاي أَين الأَلفُ دينار
أَخشى من الأَسْر إِن حاولت أَرضكم ... وما تفي جَنّة الفردوس بالنّار
فجُدْ بها عاضِديّاتٍ مُسطَّرَةً ... مِنْ بعض ما خلف الطاغي أَبو العار
حُمراً كأَسيافكم غُرّاً كخيلكمُ ... عُتْقاً ثِقالاً كأَعدائي وأَطماري
ومن جملة ما قال فيه:
الحمد لله السّميع المجيبْ ... قد هلَك الشِّرْك وضلّ الصّليبْ
يا ساكني أَكناف مصر أَنا ... أَبو نُوَاس والصلاحُ الخصيب
ثم عاد إلى دمشق وهو مسرور محبور، وكان ذلك ختام حياته ودنا أجل وفاته، وذلك بعد سنة خمس وستين بدمشق في سنة ست أو سبع وخمسمائة.
وقد أنشدني كثيراً من شعره. وسمعت من أصدقائي أيضاً. فمن ذلك قوله يشير إلى أنه أعور:
أَقولُ والقلبُ في همٍّ وتعذيبِ ... يا كلَّ يوسفَ إِرحم نصف يعقوبِ
وقوله في محبوب أحول، وهو أعور. وهو من قصيدة في مدح جمال الدين وزير الموصل:
يا لائمي هل رأَيتَ أَعجبَ مِنْ ... ذي عَوَرٍ هائمٍ بذي حَوَلِ
أَقِلُّ في عينه ويكثُرُ في ... عيني، بضدّ القياس والمَثَلِ
ما آفتي غيرُ وَرْدِ وَجنته ... والوردُ لا شكّ آفةُ الجُعَلِ
مهفهفٌ كالقضيب مُعتدلٌ ... وحكمه فيَّ غيرُ معتدل
فلو رأَتْ حسنَه فلاسفةٌ ... لعوّذوه بعِلَّة العِلل
كم قد سقاني مُدامَ فيه على ... غنائه وانتقلتُ بالقُبَلِ
قد ذقتُ منه هجراً أَمرَّ من الصّبر وصلاً أَحلى من العسل
أَهوى تَجَنِّيه والصدودَ كما ... يهوىالمعالي محمدُ بن علي
محمد خاتَمَ الكرام كما ... سميُّه كان خاتم الرُّسُل
وله في غلام يحبه اسمه يعيش:
بأَبي قدُّ يعيش بأَبي ... حين يهتزُّ اهتزازَ القُضُبِ
رشأٌ حاسدُه ضدُّ اسمه ... وإِذا ما عكسوه مَذْهبي
وله في غلام قبله مودعاً:
أَقسمتُ يا لائمي فيمن بُليتُ به ... وَمَنْ تحكَّم في هجري وإِبعادي
لو أَنه كلّما سافرتُ ودّعني ... بقُبلةٍ لم أَزل في الرائح الغادي
وله في المقدحة لغزاً:
ومضروبةٍ من غير جُرْمٍ ولا ذنب ... حوى قلبُها مثلَ الذي قد حوى قلْبي
إِذا ما أَتاها القابسون عَشِيَّةً ... حَكَتْ فلكاً يرمي الشياطين بالشُّهْب
وقوله في طالب الصوري الشاعر ويستطرد بالهيتي الشاعر نصر:
يا طالبُ الصوريُّ إِن لم تتبْ ... عن شعرك المنتَحَل الباردِ
حَلَّ بأَكتافك في جِلِّقَ ... ما حلّ بالهيتيِّ في آمدِ
وقوله في وحيش الشاعر:
لا بارك الرّحمن في وُحَيْشِ ... فإِنه مُكَدِّرٌ للعَيْشِ
كم قال، لا قُلْقِل غيرُ نابِه، ... أَبياتَ شِعْرٍ كبيوت الخَيْش
وقوله من أبيات وقد أعطاه بعضهم شعيراً:
يقولون: لِمْ أَرخصتَ شعرك في الورى؟ ... فقلتُ لهم: إِذ مات أَهلُ المكارمِ
أُجازى على الشعرِ الشعيرَ وإِنهُ ... كثيرٌ إِذا استخلصته من بهائم
وقوله، مما يغنى به:
عندي إليكم من الأَشواق والبُرَحا ... ما صيّر الجسم من فرط الضَّنا شَبَحا
أَحبابَنا لا تظنّوني سلوتُكمُ ... الحالُ ما حالَ والتبريحُ ما برِحا
لو كان يسْبَحُ صَبٌّ في مدامعه ... لكنتُ أَولَ من في دمعه سبحا
أَوْ كنت أَعلم أَن البيْن يقتلني ... ما بِنْتُ عنكم، ولكن فات ما ذُبحا
وقوله:
كتم الهوى فوشتْ عليه دموعُهُ ... مِنْ حرّ جمرٍ تحتويه ضلوعُهُ
صبٌّ، تشاغل بالربيع وزهره ... قومٌ، وفي وجه الحبيب ربيعُه
يا لائمي فيمن تمنَّع وصلُه ... عن صَبِّه، أَحلى الهوى ممنوعه
كيف التخلُّصُ إِن تجنّى أَو جنَى ... والحسنُ شيء ما يُرَدّ شفيعه
شمسٌ، ولكنْ في فؤادي حرُّها ... قمرٌ، ولكن في القَباء طلوعه
قال العواذل: ما الذي استحسنتَه ... منه، وما يَسبيك؟ قلت: جميعُه
وقوله في الشوق والفراق:
كتبتُ إِليكُمُ أَشكو سَقاماً ... برى جسمي من الشوق الشديدِ
وفي البلد القريب عدِمت صبري ... فكيف أَكون في البلد البعيد
نوىً بعد الصدود، وأَيّ شيء ... أَمرُّ من النَّوى بعد الصُّدود
ثم وقع بيدي بعد ذلك ديوان شعره فطالعته، وقصائده قصار وفي النادر أن تزيد قصيدته على خمسة وعشرين بيتاً، ومقطعته على عشرة أبيات، وكلها نوادر وكلام مضحك، فانتخبت منه هذه الأبيات واختصرت حذراً من التطويل: الهمزة فمن ذلك قوله من مقطعة:
وَهَبْ ما قالت الواشون حقّاً ... مَنِ الراقي إِلى بدر السماء؟
لقد أَمسى الذي يبغي حبيباً ... مُحِبّاً طالباً للكيمياء
ومنها:
أَيجمُلُ أَن أُضامَ ودُرُّ نظمي ... أَحبُّ من الغنى عند العناء
أَمالَ العُرْبَ عن شعر التِّهامي ... وأَغنى العُجْمُ عن شعر السَّنائي
وقوله من قصيدة في حسام الدين صاحب ماردين:
هذا الحبيبُ وهذه الصهْباءُ ... عَذْل المُصِرِّ عليهما إِغْراءُ
والأَغْيدُ الأَلْمى يروقُك منظراً ... في سقيها والغادةُ اللَّمياءُ
يا قاتلاً كأسي بكثرة مائِه ... ما الحيّ عندي والقتيلُ سواءُ
بالماء يحيا كلُّ شيءٍ هالكٍ ... إِلاّ الكؤوسَ هلاكُهنَّ الماء
والراح ليس لعاشقيها راحةٌ ... ما لم يساعدهم غِنىً وغِناءُ
ومنها:
وبوَجْنتي وبوجنتيْه إِذا بدا ... من فرط وجْدَيْنا حَياً وحياءُ
كيف الوصولُ إِلى الوصال وبيننا ... بَيءنٌ ودون عِناقه العَنقاء
لله جيراني بجَيْرونٍ، ولي ... بلحاظهم وبهم ظُبىً وظِباءُ
وكأَنهم وكأَنّ حُمرةَ راحهم ... في راحهم، وَهْناً، دُمىً ودِماءُ
وكأَنما سقتِ البلادَ مُلِثَّها ... كفّا حُسام الدين، لا الأَنواءُ
الباء وقوله:
خَرِف الخريفُ وأَنت في شُغُلٍ ... عن بهجة الأَيّامِ والحِقَبِ
أَوراقُه صُفرٌ، وقهوتنا ... صفراءُ مثلُ الشمس في لهب
ياتي بها غير وأَشربُها ... ذهباً على ذهبٍ بلا ذهبِ
وقوله في الحث على السفر:
ذَرِ المقام إِذا ما ساءك الطلبُ ... وسِرْ فعزْمُك فيه الحزم والأَرب
لا تقعدنَّ بأَرضٍ قد عُرِفتَ بها ... فليس تَقْطع في أَغمادها القُضُب
وقوله في مروحة:
ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ ... وفي القُرّ تشكوها أَكفُّ الحبائبِ
إِذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقاً ... أَتت بالهوا الممدود من كل جانب
وله من قطعة:
وكم ليلةٍ قد بِتُّ أُسقى بكفّه ... على وجهه نادمتُ بدراً وكوكبا
حكت فَمَه طعماً وريحاً، وخدَّه ... إِذا مزجوها، رقَّةً وتلهُّبا
ومن أخرى:
ونادبةٍ ناحتْ سُحَيْراً بأَيْكةٍ ... فهيّجتِ الوَسواسَ في قلب نادب
تنوح على غصن أَنوح كمثله ... وهل حاضرٌ يبكي أَسىً مثلُ غائب
وقوله من قصيدة في الصالح بن رزيك بمصر:
لمن الخيلُ كلَّ أَرض تجوبُ ... صَحِبَتْها في كل شِعب شَعوبُ
والجواري التي يضيق بها البحر على أَنّه فسيحٌ رحيب
غير سيف الإِسلام خير فتىً عَزّ به دينُنا وذَلَّ الصليب
مَلِكٌ منه في الخطاب إِذا شا ... ء خطيب وفي النِّزال خطُوب
ومنها:
وكأَني أَبو نُوَاسٍ إِذا ما ... جئتُ مصراً وأَنت فيها الخصيب
ولئن كنتُ مخطئاً في قياسي ... إِنّ عذري ما قال قِدْماً حبيب
ومنها:
لو أَراد الرقيب ينظر جسمي ... ما رآه من النحولِ الرقيبُ
مثل دار الزكيّ كيسي وكأسي ... وهي قَقْرٌ كأَنها مَلْحوب
وقوله في ابن ثريا وكان دباباً:
لا ترقُدنْ وابنَ ثريا معاً ... فإِنه أَطمع من أَشعب
كم دَبَّ كالعقرب سُكراً، وكم ... قد قتلوه قِتلة العقربِ
وقوله في أبي الوحش الشاعر:
أَبا الوحش جَمّلتَ أَهل الأَدبْ ... لأَنك أَطولُ قومي ذنبْ
وكيف تكون صغير المحلّ ... وبيتُك أَكبر ما في الخشب
وله رباعية:
أَقسمتُ بواوِ صُدغ هذا الحاجبْ ... في لام عِذاره ونونِ الحاجبْ
لو عاينه ابنُ مقلةَ والصاحبْ ... قالا عجباً لديه: جَلَّ الكاتب
التاء وله في غلام اسمه ياقوت:
قلتُ: وقد أَقبل ياقوتُ ... في فمه دُرٌّ وياقوتُ
أَسِنّةٌ زُرق بأَجفانه ... أَم جالت البيضُ المصاليتُ
كأَنما أَلحاظُه بابلٌ ... فيهنّ هاروت وماروتُ
الجيم وقوله في الططماج:
أَلا رُبّ طاهٍ جاءنا بعد فترةٍ ... بأَطباق طُطْماج أَشَفَّ من الثَّلْج
وقد غارت السيخات فيها كأَنها ... يغالِقُ ترك في طوارق إفرنج
وقوله في ابن أبي طاهر الطبيب واسمه عباس:
عُجْ على عبّاس تلقَ فتىً ... غير نَكْريشٍ ولا بَذَجِ
فيلسوف ما يُريق دماً ... وبخدَّيْه دمُ المُهَج
لو تَمعْناه السديدُ سلا ... قلبُه عن عشقه البكجي!
قلتُ لما ظلّ مجلسنا ... مُشرقاً من وجهه البَهِج:
إِنّ بيتاص أَنت ساكنُه ... غيرُ مُحتاج إلى السُّرُج
وعليلاً أَنت عائده ... قد أَتاه الله بالفرج
وقوله في مرثية:
لقد حَسُنتْ به اليوم المراثي ... كما حسُنت به أَمسِ الأَهاجي
ولكنْ لجَّ في شتم البرايا ... وكان القتلُ عاقبةَ اللَّجاج
وقوله:
كأَنّ احمرار الخدّ ممّنْ أُحبه ... حديقةُ وردٍ والعِذارُ سياجُها
وقوله في أبي الوحش بن علان لما امتدحه وكلما اقتضاه حرك رأسه:
يا من إِذا جئتُه سؤولاً ... ولستُ بالسائل اللَّجوجِ
حرّك لي مُوعِداً بمَطْلٍ ... حاديَ عَشْرٍ من البُروج
الحاء وقوله:
حتى متى لا يَبْرَح التبريحُ ... وإِلامَ أَكتُم والسَّقام يبوحُ
لا شرحُ كتبِ أَحبّتي يأتي ولا ... صدري بغير حديثهم مشروح
يا برقُ حيِّ الغوطتيْن وسقِّها ... مطراً حكاه دمعي المسفوح
كيف الحياة لمُستهامٍ جسمُه ... في بعلبكَّ وفي دمشق الروح
ظبيٌ بها لم يَرْعَ إِلاّ مُهجتي ... والظبيُ ما مَرْعاه إِلاّ الشّيح
تشتاقه عيني وتبكيه دماً ... والقلبُ وهو بصدّه مجروح
مُتَعطِّف الصُّدْغين وهو مُجَنّبٌ ... مُتَمَرِّض العينين وهو صحيح
لي من ثناياه العِذاب وريقِه ... أَبداً صباحٌ واضحٌ وصَبوح
وَيْحَ العواذل هل يُغشّي نورُه ... أَبصارَهم، أَم كيف يخفى يوح
لاموا وقد نظروا مَلاحةَ وجهه ... واللَّومُ في الوجه المليح قبيح
وقوله في مجير الدين وقد اقترح عليه في ساق يهواه وزن:
شربتُ من دِنانهمْ ... من كلّ دَنّ قدحا
مَنْ لي بساقٍ أَغْيدٍ ... عِذاره قد سَرحا
كأَنه بدرُ دُجَى ... في كفّه شمسُ ضُحا
ما زلتُ من مُدامِه ... مُغْتَبِقاً مُصْطَبِحا
حتى غدوْتُ لا أَرى النّدمان إِلاّ شبحا
وقد عصيْتُ في الهوى ... من لام فيه وَلَحا
يا قلبُ كمْ تذكره ... لا بارحتْك البُرَحا
هذا الذي تعشقُه ... كم قلبِ صَبٍّ جرحا
يا صاح يا صاح اسقني ... من راحَتيْه القَدَحا
واغتنِم العيشَ فما ... تُبْقي الليالي فرحا
كأَنما البدر وقد ... لاح لنا مُتَّضِحا
وجهُ مجير الدين مو ... لانا إِذا ما مُدحا
وقوله في ناصر الدين وفتح الدين ابني أسد الدين شيركوه:
لله شِبلا أَسدٍ خادِرٍ ... ما فيهما جُبْنٌ ولا شُحُّ
ما أَقبلا إِلاّ وقال الورى: ... قد جاء نصر الله والفتحُ
وقوله رباعية:
لا راحةَ لي بغير شُرب الرّاحِ ... من ذي هَيَفٍ يطوف بالأَقداحِ
تبدو كالصّبح وهو كالْمصباحِ ... سكران الطرف ذو فؤادٍ صاح
وقوله في أبي الوحش:
قال وُحَيشٌ ليَ في منزلي ... مكبوبةٌ ظاهرة الملحِ
فقلتُ: ما عندك مكبوبة ... إِن لم تكن أُم أَبي الفتح
الخاء وله:
صفات القويضي فتى مشرقٍ ... يَحار لها العالِمُ الراسخُ
ذكيٌّ، ولكنّه لاذنٌ ... أَسيلٌ، ولكنه كامَخُ
الدال وقوله من قطعة:
قمرٌ يغيب إِذا بَدَأْتُ مَلامَةً ... وأَغيبُ من حذر الوُشاة إِذا بدا
ناديت طُرّتَه وضوء جبينه ... سُبحان من قَرَن الضَّلالة بالهُدى
وقوله في سيف الدين محمد بن بوران:
لِمَنْ حِلّةٌ ما بين بُصرى وصَرْخَدِ ... تروح بها خَيْلُ الجلاح وتغتدي
ونارٌ، بقلبي مثلها، لأُهَيْلها ... تُشَبُّ لضَيْف مُتْهِمٍ ولمُنْجِدِ
وممشوقة رقّت ودقّت شمائِلاً ... إِلى أَن تساوى جِلْدُها وتَجلُّدي
من الخَفِراتِ البيض تُغْني لحاظُها ... عن المُرْهَفات البيض في كلِّ مَشْهَد
حجازيّة الأَجفان والخصر والحشا ... شآمِيَّة الأَردافِ والنهد واليد
إِذا ابتسمت فالدُّرُّ عِقْدٌ مُنَضَّدٌ ... وإِن حدَّثَتْ فالدّرُّ غيرُ مُنضَّد
وأَلْمى كمثل البدر تبدو جُيوبُه ... على مِثْلِ خُوط البانةِ المُتَأَوِّد
له مقلةٌ سَكْرى بغير مُدامَةٍ ... ولي مُقْلةٌ شَكْرى بدَمعٍ مُوَرّد
رعى الله يوماً ظَلَّ في ظِلِّ أَيْكةٍ ... نديمي على زهر الرياض ومُنشدي
وكأْساً سقانيها كقِنْديل بِيعةٍ ... بها وبه في ظلمة الليل نهتدي
معتَّقَةً من قبلِ شيثٍ وآدم ... مُخَلَّلَةً من قبٍلِ عيسى وأحمد
صَفَتْ كدموعي حين صدّ مديرها ... ورقّت كَدِيني حين أَوْفى بمَوْعد
وفي الشيب لي عن لاعجِ الحُبّ شاعلٌ ... وقد كنتُ لولا الشيبُ طلاَّعَ أَنْجُد
رمى شَعَري بعد السَّواد بأَبيضٍ ... وحَظّيَ من بعد البياض بأَسود
فلا وَجْدَ إِلاّ ما وجدتُ من الأَسى ... ولا حمدَ إِلاّ للأَمير محمّد
وقوله في آمد:
في آمِدَ السوداءَ بِيضٌ ما انثَنوْا ... إِلاّ حَكَوْا سُمْرَ الرّماح قُدودا
تَخِذوا من الليل البهيم قلانِساً ... ومن النهار مباسماً وخُدودا
يقال لآمد السوداء لأنها مبنية بحجارة سود، ولميافارقين البيضاء، ولنصيبين الخضراء، وللموصل الحدباء، ولحلب الشهباء، ولبغداد الزوراء، وللبصرة الفيحاء.
وقوله في ذم العذار:
إذا ما الأَمْردُ المصقول جاءت ... عوارضُه فنقْصٌ في ازْدياد
يموت المَوْتَةَ الأُولى فتُمْسي ... على خدَّيْه أَثواب الحِداد
وهل يَستحسِن الإِنسان روضاً ... إِذا ما حلّه شَوْكُ القَتاد
وقوله في الغزل والعذار:
لي حبيبٌ كالبدر حسناً وبُعْدا ... وقضيبِ الأَراك لِيناً وقَدّا
قلت لما بدت له شعَراتٌ ... ليتها للوُشاة لن تتبدّا
جَلَّ مَنْ أَنبت البنفسَج في الور ... د وسمّاها عِذاراً وخَدّا
قمرٌ كلّما تبسّم قابلْتُ عقيقاً حوى من الدُرّ عِقدا
حاك في وجهه الجمال كما أَلحَمَ في جسميَ السَّقام وأَسدى
وقوله من قصيدة:
مَنْ لي بمعسول الثَّنايا عَذْبِها ... لَدْنٍ كخُوط البانة المتأَوِّدِ
أَبداً هواه لي مُقيمٌ مُقعِدٌ ... رُوحي فِداه من مُقيمٍ مُقْعِد
ولقد نعِمْتُ بوَصله في نَيْرَبٍ ... أَلِف الربيع بروضه الغصن النّدي
أَزهارُه من جَوْهرٍ، ونسيمه ... من عنبر، وثمارُه من عَسْجَد
وعلى الغصون من الحمائم قَيْنَةٌ ... تُغْنيك عن شدْوِ الغَريضِ ومَعْبَد
والماءُ في بردى كأَن حَبابَه ... بَرَدٌ حَبَتْهُ الريح غير مُجمَّد
بينا تراه كالسَّجَنْجَل ساكناً ... حتى تراه أَجعداً كالمِبْرد
ومن أخرى:
دمشقُ حُيِّيتِ مِنْ حَيٍّ ومن نادِ ... وحَبَّذا حَبَّذا واديك من وادِ
ليس النَّدامى نَدامى حين تَنْزِله ... يَعُلُّهم شادِن كأساً على شاد
حقّاً وللوُرْق في أَوْراقه طربٌ ... كأَنَّ في كلّ عود أَلْفَ عَوّاد
يا غادياً رائحاً عَرِّج على بردى ... وخلّني من حديث الرائح الغادي
كم قد شربتُ به في ظِلّ داليةٍ ... من ماء داليةٍ تُنْبيك عن عادِ
في جنْبِ ساقيةٍ من كفّ ساقيةٍ ... قامت تَثنّى بِقَدٍّ غير مُنْآد
سَمْراء كالصَّعْدة السّمراء واضحة ... يَشفي لَمى شفتيْها غُلَّةَ الصّادي
لها بعَيْني إِذا ماست عواطفُها ... جمالُ ميّاسةٍ في عيْن مِقْداد
وله من قصيدة في مدح الملك الناصر صلاح الدين قبل ملكه مصر يحثه على قصدها:
إِلامَ أُلامُ فيك وكم أُعادى ... وأَمرض مِن جفاك ولن أُعادَا
لقد أَلِف الضَّنى والسُّقْمَ جسمي ... وعيناي المدامعَ والسُّهادا
وها أَنا قد وهى صبري، وشَوْقي ... إِذا ما قَلّت الأَشواق زادا
بقلبي ذات خَلخالٍ وقُلْب ... تملّك فَوْدُها منّي الفؤادا
مهفهفة كأَنّ قضيب بانٍ ... تثنّى في غلائلها ومادا
بوجهٍ لم يزد إِلاّ بياضاً ... وشَعرٍ لم يزد إِلاّ سوادا
تعجّب عاذلي من حَرّ حبّي ... ومن برد السُّلُوِّ وقد تمادى
ولا عجبٌ إِذا ما آب حَرٌّ ... بآبَ، ومن جَمادٍ من جُمادى
وقد أضنسانيَ الشيبُ الغواني ... فلا سُعْدى أُريد ولا سُعادا
وهل أَخشى من الأَنواء بخلاً ... ويوسُف لي، فتى أَيوب، جادا
فتىً للدّين لم يَبْرَح صلاحاً ... وللأَموال لم يبرح فسادا
هو المعروف بالمعروف حقاً ... جَوادٌ لم يهب إِلاّ جوادا
به الأَشعار قد عاشت نَفاقاً ... وعند سواه قد ماتت كسادا
إِلى كم ذا التواني في دمشقٍ ... وقد جاءَتكم مصرٌ تَهادى
عروسٌ بعلُها أَسدٌ هِزَبرٌ ... يصيد المعتدين ولن يصادا
ومن أخرى في الصالح رزيك ويذكر مذهبه في التشيع:
قف بجَيْرونَ أَو بباب البريدِ ... وتأَمَّل أَعطافَ بان القُدودِ
تَلْق سُمْراً كالسُّمْرِ في اللَّوْن واللين وشِبْهَ الشعور في التجعيد
ومن البيض كالمُهَنَّدةِ البيض وشبه الخدود في التوريد
من بني الصّيد، للمحبّين صادوا ... بعيون الظِبا قلوبَ الأُسود
يا نديميّ غَنِّياني بشِعري ... واسقياني بُنيّة العُنقودِ
عرّجا بي ما بين سَطرى ومَقرى ... لا بأَكناف عالِجٍ وزَرود
سقّياني كأْساً على نهر ثورا ... وذراني أَبولها في يزيد
أَنا من شيعة الإمام حُسَيْنٍ ... لست من سنة الإمام وليدِ
مَذهبي مُذْهَب، ولكّنني في ... بلدة زُخرِفَت لكلّ بليد
غير أَنّ الزمان فيها أَنيقٌ ... تحت ظِلٍّ من الغصون مَديد
ورياضٍ من البَنَفْسَج والنَّرْ ... جِس قد عُطّرت بمسكٍ وعود
كَثَنا الصالح بن رُزِّيك في كلّ قريبٍ من الدُّنى وبعيد
ملك لم تزل ثيابُ عِداه ... من حِدادٍ وثَوْبُه من حديد
وله من قطعة كتبها إلى ابن السديد وقد سافر إلى بغداد يطلب منه شقة:
حاجتي شُقَّةٌ تَشُقُّ عهلى كلّ بغيضٍ من الورى وحَسودِ
ذاتُ لَوْنٍ كمثل عِرْضك لا عر ... ضي وحظّي من القريب البعيد
فابْعَثَنْها صفيقةً مثل مثل وجهي ... جَلَّ من صاغ جلده من حديد
واجْعَلَنْها طويلةً مثل قَرْني ... ولساني لا مثل قَدّي وجيدي
كَيْ أُرى في الشآم شيخاً خليعاً ... في قميصٍ من العراق جديد
وقوله قديماً وقد تولى صلاح الدين الملك الناصر إيالة دمشق:
لصوصَ الشّام، توبوا من ذُنوبٍ ... تُكَفِّرها العقوبةُ والصِّفادُ
لئن كان الفساد لكم صلاحاً ... فمولانا الصّلاحُ لكم فساد
وقوله في شمس الدولة وقد نزل دار عمه أسد الدين:
قلتُ لحسّادك زيدوا في الحسدْ ... قد سكن الدّارَ وقد حاز البلدْ
لا تعجَبوا إِن حَلَّ دارَ عمّهِ ... أَما تَحُلّ الشمسُ في بُرْج الأَسد
وقوله في مرثية بعض المجان:
يا خفيفاً على القلوب لطيفاً ... قد بكاه أَصادقٌ وأَعادي
كنتً من مُهجتي مكانَ السويدا ... ءِ ومن مُقلتي مكان السّوادِ
قد بكاك الرّاووق والكأْس والقَيْنة من لائطٍ إِلى قوّاد
أَيّها الشيخ ما نهتك الثمانو ... ن وذاك البياضُ بعد السّواد
لم تزل تلكمُ العَرامة حتى ... أَلحقتْه بالرّهط من قوم عاد
لا عُوَيْسٌ يبقى وإِلاّ ابن العصيفير ولا ابنُ الصّمان في الأَنداد
شمِتوا حين مات والموت ما تَنْفع فيه شماتةُ الحُسّاد
رحم الله من رأَى مصرح الشيْخ وهيّا من التُّقى خيرَ زاد
وقوله:
شكا إِليّ أَمْرَد ... قد حثّه ضيق اليدِ
فقلت لِمْ ضاقت وقد ... وسَّعت بابَ المقعد
وقوله في شريف:
وحِسْبةٍ نالها شريفٌ ... بلا طَريف ولا تليدِ
ما إِن تأَملته عبوساً ... إِلاّ ترضيتُ عن يزيد
الدال وقوله:
أَصبح الملكُ بعد آل عليٍّ ... مُشْرِقاً بالملوك من آل شاذي
وغدا الشّرقُ يحسُد الغربَ للقو ... م ومصرٌ تزهو على بغداذ
ما حواها إِلاّ بحَزْمٍ وعزم ... من صليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفر عون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخَصيب والأُستاذ
الراء وقوله:
نديمي قُمْ فقد صفتِ العُقارُ ... وقد غنّى على الأَيْك الهَزارُ
إِلى كم ذا التواني في الأَماني ... أَفِقْ ما لعمر إِلاّ مُسْتعار
وخذها من يديْ ظبي غريرٍ ... بِعيْنيه فُتورٌ وانكسار
إِذا ما الليل جَنَّ على النَّدامى ... تَجَلَّى من ثناياه النهار
يقول لي العَذول تسلَّ عنه ... وما عُذْري وقد دَبّ العِذارُ
فَصَبْراً للنّوى بعد التداني ... فلولا الخَمر ما ذُمَّ الخُمار
وقوله من أخرى:
أَمّا دمشقُ فجَنّاتٌ مُعَجَّلةٌ ... للطالبين بها الوِلدانُ والحُورُد
ما صاح فيها على أَوتاره قمرٌ ... إِلاّ وغناه قُمْرِيّ وشُحْرور
يا حبَّذا ودُروع الماءِ تنسِجُها ... أَناملُ الرّيح لولا أَنها زُور
ومنها:
همْ عارضوني على حُبّي لعارضه ... ومن أَحبَّ عِذاراً فهو معذور
ومن أخرى:
وكم ليلةٍ قد لاح من صُدْغه الدُّجى ... ومن كأْسه الجَوْزا ومن فمه الفجرُ
وكم أَخذت أوتاره الثأر من دمي ... سُحَيْراً، فقال النّاس هذا هو السِّحر
يشاركني حِذقاً فَمِنْ عنده الغنا ... إِذا ما تنادمنا ومن عنديَ الشِّعْر
وقوله:
قوموا انظروا واعذِروا يا غافلين إِلى ... بدرٍ تبادر من أَفلاك اَزرار
على قضيبِ أَراكٍ في كثيبٍ نقاً ... تهزُّه خَطَراتٌ ذات أَخطار
ما رامت الروم، والأَتراك ما تركت ... أَدَقَّ من خصره في عَقد زُنّار
الماءُ والنار في خدَّيْه قد جُمِعا ... جَلّ المؤلِّف بين الماء والنار
وقد بدت شَعَراتٌ في عوارضه ... كأَنَّهن ليالٍ فوق أَسحار
وقوله في العذار:
دَبّ العِذار بخدّه فتعذَّرا ... مِن بعد ما قد كان بدراً نيِّرا
وتناقصت أَحواله فكأَنه الحبّال يمشي في المعاش إِلى وَرا
وقوله:
قالوا بدا في خدّه الشَّعْرُ ... وأَنت لا عقلٌ ولا صبرُ
واسودّ خدّاه، فقلت اقصُروا ... لولا الدُّجى ما حَسُن البدر
وقوله:
أَدِرْ يا طلعة البدرِ ... علينا أَنجُم الخمْرِ
وقطِّع ليلنا بالكأْ ... س حتّى مطلَع الفجر
على فتّانة العينين والخدَّيْن والثَّغْر
لنا في وجهها قمرٌ ... ومن نغماتها قُمْري
كذا فلْيشربِ الصهبا ... ءَ مثلي يا ذوي الشعر
كذا في ليلة الجمعة بل في ليلة القَدْر
مع الفتيان في الحانا ... ت بين الطَّبل والزَّمر
بحيث ابن ملكداد ... وحيث ابن أَبي الدر
حَرِيفان حُرافان ... بلا قَدْرٍ ولا قِدْرِ
وله:
نديمي داوِ بالخَمْرِ الخُمارا ... أَدرْ كأْسي يميناً أَو يسارا
مُشَعْشعة إِذا ما صفّقوها ... بماءٍ خِلْتَها نوراً ونارا
لها من مولِدَيْ موسى وعيسى ... شرابٌ لليهود وللنصارى
ومُسْمِعَةٍ إِذا ما شئت غنّتْ ... أَلا حيّ المنازل والديارا
بدتْ بدراً وماجت دِعْصَ رَمْلٍ ... وماسَتْ بانةً وشَدَتْ هَزارا
إِذا غازلْتُها أَو غازلَتْني ... تأَمَّلْت الفَرَزْدَق والنَّوارا
ويومَ غَدَتْ تعيِّرُني بشيْبي ... وقد رأَتِ السَّكينةَ والوَقارا
وما في الشَّيْبِ عند الناس عيبٌ ... إِذا ما عاد ليلُهمُ نهارا
ولكن في الشباب خَزَعْبلاتٌ ... لِمَنْ يهوى العَذارى لا العِذارا
وقوله في مدح بني السلار:
لا تلُمني على الدُّموع الجواري ... فهي عَوْني على فراق الجوارِ
كم لئيمٍ يَلَدُّ بالعيش صفواً ... وكريمٍ يَغُصّ بالأَكدارِ
لا يَفي الوَصلُ بالصُّدود خليليَّ كما الخَمْر لا يفي بالخُمار
فاسقِنيها لعلّها تصرِف الهمّ على طيب نَغْمة الأَوتار
خَنْدَريساً كأَنها في دُجى الليل بأَيدي السُّقاة شمسُ النهار
إِنما العيشُ في رياض دمشقٍ ... بين أَقمارها وبين القَماري
مثلما قد خلعتُ أَثواب مدحي ... باختياري على بني بختيار
مَعْشَر كالغيوث في حَلْبة السّلْم وفي الحرب كاللّيوثِ الضَّواري
بقلوبٍ كأَنها من جمالٍ ... وأَكفٍّ كأَنها من بحار
وكأَنّ الإِلَه، جلّن بَراهُمْ ... من فَخار، والناسَ من فَخّار
وقوله في ملك النحاة وكان يذكر مصر:
قد جُنّ شيْخي أَبو نزارٍ ... بذكر مِصْر وأَين مِصرُ
والله لو حلَّها لقالوا ... قفاه يا زيدُ فهو عمرو
وزيد كان محتسب دمشق فصار بمصر محتسباً.
ومن جملة ما كتبه إلى الملك الناصر من قصيدة:
إِليك صلاحَ الدين مولاي أَشتكي ... زماناً على الحُرِّ الكريم يجورُ
تُرى أُبْصِرُ الأَلف التي كنت واعدي ... بها في يدي قبل الممات تصير
وهيْهاتَ والإِفرنجُ بيني وبينكم ... سِياجٌ، قتيلٌ دونه وأَسيرُ
ومن عجبِ الأَيّام أَنك ذو غِنىً ... بمصر، وأني في دمشق فقير
السين وقوله في التشبيه:
كأَنّ السماء وقد أَزهرت ... كواكبها في دُجى الحِندسِ
رياضُ البنفسَج محميّةً ... يُفتِّح فيها جَنى النَّرجِس
وقوله في ابن رزيك لما غلب على وزارة مصر بعد عباس الذي فتك بأهل القصر وقتلهم:
طاف على النّدْمان بالكاس ... وَخَدُّه من لونها كاسِ
مُهفهفُ القامةِ مَمْشوقها ... يخجل منه غُصنُ الآسِ
كم أَتصدّى لِجَفا صدِّه ... وكم أُقاسي قلبَه القاسي
دِعْصُ نَقاً تحملُه بانةٌ ... شمسُ ضحىً في زِيّ شَمّاس
تحكي ثنا الصالح أَنفاسُه ... وصُدْغُه أَيامَ عباس
وقوله:
ما اجتمع الشِّطرنج في مجلِسٍ ... والنَّرْدُ، إِلاّ بَرَدَ المجلسُ
لا سيّما إِن حضرتْ نَرْجِسٌ ... والبان والمنثور والنَّرْجِسُ
وقوله في مغن اسمه علي:
عليٌّ صوته سَوْطٌ ... علينا لا على الفَرَسِ
وجُملةُ ضربه ضَرْبٌ ... لمدَّرعٍ ومتَّرس
يقول السّامعون له: ... رماه الله بالخرس
وخذ يا ربِّ مُهجتَه ... إِذا غنّى: خُذِي نَفَسي
وقوله في صلاح الدين الملك الناصر بديهاً أوان الورد:
يا حابس الكأء، خيلُ الوَرد قد وَرَدت ... شُهْباً وكثمْتاً، أَدِرْ يا حابس الكاس
أَقسمتُ ما الورد في الأَزهار قاطبةً ... إِلاّ كمثل صلاح الدين في الناس
الوارثِ المجدَ من آبائه أَبداً ... مثل الخلافة في أَولاد عباس
وله رباعية:
ويْلاهُ على المهفهف الميّاسِ ... ما أَحسنَه وهو بقلبٍ قاسِ
يهتزّ كأَنه قضيب الآسِ ... سكران ولم يذق حُمَيّا الكاسِ
الشين وقوله في طغريل السياف وهو جوباشي دمشق:
قالوا يسبُّك طُغْريل وتُهمله ... فقلتُ أَخشى على عِرضي من الواشي
كنّا نحاذِر منه وهو مِرْشَحَةٌ ... فكيف لا نتَّقيه وهو جُوباشي
لي أُسوةٌ بجميع الخلق يشتُمهم ... جُكّا ودلماص والعوذ بن شواش
الصاد وقوله في الملك الناصر وقد بعث لأهل دمشق السلام وله الذهب:
صلاحَ الدين قد أَصلحتَ دنْيا ... شقّيٍ لم يبِتْ إِلاّ حريصا
أَتى منك السّلامُ لنا عُموماً ... وجُودُك جاءني وَحدي خُصوصا
فكنتُ كيوسُفَ الصدّيق لمّا ... تلقّى منه يعقوبُ القميصا
وقوله في التشبيه:
أَما ترى البدر في السماء وقد ... حاول من بعد تِمِّه نقصَهْ
بينا تراه كخُشْكنانكةٍ ... حتى تراه كأَنه قُرصَهْ
الضاد وله في مقلي بيض:
أَأَحداقُ بَيْضٍ أَم حديقةُ نَرْجِسٍ ... أَتت بين مُصفرٍّ ومُبيضِّ
شربنا على التِّبْرِيّ كأْساً كَلوْنه ... وأُخرى على الفضّيّ من ذلك الفضّي
وقوله:
جاءت بوجهٍ مُعْرِضٍ ... وطالما تعرّضا
بيضاء ما أَبصرتُ منها قطُّ يوماً أَبيضا
قالت: قلى؟ قلتُ: نعم ... قلبي على جمر الغضا
العين وقوله في الشوق
تُرى عند من أَحببتُه، لا عدمتُه، ... من الشوق ما عندي وما أَنا صانعُ
جميعي إِذا حَدَّثتُ عن ذاك أَلسُنٌ ... وكلّي إِذا حُدِّثتُ عنه مَسامع
وقوله:
وعِلْقٍ تعلّقته بعد ما ... غدا منه كلُّ جديدٍ خليعا
له ضيْعةٌ كلّما أَمحلتْ ... يعيشُ، وإِن أَخصبت مات جوعا
وقوله:
بكا لي حاسدي مَيْناً، وأَدْري ... بِضَحْك فؤاده بين الضّلوعِ
وأَكذَبُ ما يكون الحُزنُ يوماً ... إِذا كان البكاءُ بلا دموع
وقوله في ابن مالك صاحب قلعة جعبر:
لحا الله مُلْكاً يحتويه ابنُ مالكٍ ... وعاجَلَهُ في ساحة القَلْعة القَلْعُ
فتىً لستَ ترجوه ولستَ تخافه ... كدُود الخلا ما فيه ضرّ ولا نفْعُ
الفاء وقوله:
حبيبٌ لنا واعدٌ مُخْلِفُ ... يجوز علينا وما يُنْصِفُ
بكلّ قَباءٍ له صَعْدَةٌ ... وفي كل جَفْنٍ له مُرْهَلإ
فيذْهَل من بأْسه عنترٌ ... ويخجل من حُسْنه يوسُف
أَما وبروقِ الثنايا التي ... بها الشَّهْدُ والمِسْك والقَرْقَف
لقد حِرْتُ في قمرٍ أَحْورٍ ... لنا ما يغيب ولا يُكْسَف
شربنا على وجهه ليلةً ... عيونُ سحائبها تذرِف
وحَرُّ الكوانين مستعذَبٌ ... ببرد الكوانين مُسْتطرَف
لدى شمعةٍ مثل لون المحِبِّ وريح الحبيب إِذا ترشف
تموت انطفاءً إِذا سولِمَتْ ... وتحيا وهامتُها تُقْطَف
فقلت وقد غاب جيش السَّحاب ... وطرفي عن الحِبّ ما يَطْرِف
كأَنّ الثريّا وبدرَ السماء ... وأَنجمُها طُلّعٌ تَرْجُف
يدٌ قد أَشارت إِلى وردةٍ ... وحولهما نَرْجِسٌ مُضْعَف
وقوله:
أَما آن للغضبان أن يتعطّفا ... لقد زاد ظلماً في القطيعة والجفا
بِعادٌ ولا قُرْبٌ، وسُخْطٌ ولا رِضا ... وهجرٌ ولا وَصْلٌ، وغدرٌ ولا وفا
تكدَّرَ عَيْشي بعد ما كان صافياً ... وقلبُ الذي أَهواه أَقسى من الصَّفا
فيا خدَّه لا زدتَ إِلاّ تَلَهُّباً ... ويا قدَّه لا زدتَ إِلاّ تَهَفْهُفا
ويا رِدْفَه لا زال دِعْصُك مائلاً ... ويا طرفَه لا زال جفنُك مُدْنِفَا
وقوله:
نتفتُ السَّوادَ من العارضيْن عند الشبيبة نتفاً عنيفا
فلما كَبِرْتُ نتفت البياض ... وقد صار بعد الجنى الغضّ ليفا
ولو علم النّاس بالحالَتيْن ... لما لقّبونيَ إِلاّ نتيفا
وقوله:
قولا لطُغْريل ولا تَقْصُرا ... في سَبِّه عنّي وتعنيفِه
قتلْتنا بالصِّرف سَكْرا، فلا ... برحتَ مقتولاً بتصحيفه
وقوله في إنسان وعده بخروف وما وفى:
يا أَبا الفضل بالنجفْ ... إِستمع كلّ ما أَصفْ
لك وجهٌ كأَنه البدر لكن إِذا كُسِفْ
وقَوامٌ كأَنَه الغُصْن لكن إِذا قُصِفْ
وعِذارٌ كأَنه النَّمل لكن إِذا نُتِف
وبَنانٌ كأَنّه البحر لكن إِذا نشِف
وأَبٌ أَكذب الأَنا ... م ولكن إِذا حَلَف
كم جوادٍ وهبته ... حين أَوْدى بلا علَف
وقَباءٍ خلعته ... وهو خارا بلا أَلِف
إِنّ مَنْ يرتجي خَرو ... فَكَ بالشِّعْرِ قَدْ خَرِفْ
وقوله في إنسان يلقب بالعفيف:
عُجْ بالعقيق وعَدِّ عن تَصْحيفه ... لا خير فيه إِذا استقلّ مُصَحَّفا
يا كاتباً بخِلَتْ يداه بأَحرفٍ ... ماذا تجود إِذا منعت الأَحرفا
القاف وقوله:
صَدَّ الحبيبُ وذاك دون فِراقِهِ ... وَمَنِ الذي يَبْقى على ميثاقِهِ
رشأٌ أَغارُ عليه من أَجفانه ... وأَظنّها، للسُّقْم، من عُشّاقِه
وأَقولُ من سُكْري بخَمرة يَغْرهِ ... ويدي تُلِمُّ بحلّ عَقْد نِطاقه
يا ساقيَ الصَّهْباءِ صِرْفاً لا تَجُرْ ... وامزُج لنا الصهباءَ من أَرْياقه
جَلَّ الذي أَعطاه في الحُسْن المُنى ... وأَضاف خِلْقته إِلى أَخلاقه
كالغصنِ في حركاته، والظبي في ... لَفَتاتِه، والبدرِ في إِشراقه
قد ذُبتُ من شوقي إِليه صَبابةً ... وكذا المحبُّ يذوبُ من أَشواقه
وقوله في الربيع ووصف دمشق:
هذا هو الزّمن البديع المُونِقُ ... والعِيشَةُ الرَّغْدُ التي هي تُعْشَقُ
فعلامَ تصحو والحَمام كأَنها ... سَكْرى تُغنّي تارةً وتُصَفِّق
وتلوم في حبّ الديار جَهالةً ... هيهات يسلوها فؤادٌ شَيِّق
والشام شامةُ وَجْنَةِ الدنيا كما ... إِنسان مقلتِها الغضيضة جِلِّق
مِنْ آسِها لك جَنَّةٌ لا تنقضي ... ومن الشقيق جهنَّمٌ لا تَحْرِق
سِيَما وقد رَقَم الربيعُ ربوعها ... وَشْياً، به حَدَقُ البرايا تَحْدِق
في نَيْرَبٍ ضحكت ثُغورُ أَقاحِه ... لما بكاه العارضُ المُتَأَلِّق
وقوله:
وصاحبٍ يتلقّاني لحاجته ... بالرَّحْب، وهو مليح الخَلْق والخُلُقِ
حتى إِذا ما انقضت وليّ وخلَّفني ... أَحسَّ من جُرَذٍ في بيت مرتَلإق
كالماء، بينا ترى الظمآن يرشِفه ... حتى يبدّد باقيه على الطرق
وقوله في غلام طويل وكان عرقلة قصيراً أعور:
لي حبيبٌ قدُّه ... قُدَّ من السُّمْرِ الرِّقاقِ
من رآه ورآني ... قال ذا غير اتفاقي
أَعور الدَّجّال يمشي ... خَلْفَ عُوْجِ بن عُناق
الكاف وقوله في المدرسة التي أنشأها الملك العادل رحمه الله بدمشق:
ومدرسةٍ سيَدْرُس كلُّ شيء ... وتبقى في حِمى عِلْمٍ ونُسْكِ
تَضوَّع ذكرها شرقاً وغرباً ... بنور الدين محمود بن زنكي
وقوله رباعية:
يا بدرَ دُجىً يحمِله غصنُ أَراكْ ... ما أَعجبَ ما يَحِلّ بي حين أَراكْ
لا تقتلْ بالصدود صبّاً يَهواكْ ... ما للأَعراب طاقةٌ بالأَتراكْ
اللام
وِصالٌ ما إِليه من وُصولِ ... وسمعٌ ما يُصيخ إِلى عَذولِ
لقد أَخفيتُ داءَ الحبّ حتى ... خفِيتُ عن الرقيب من النُّحول
وكيف يَصِحُّ هذا الجسم يوماً ... وآفته من الجفن العليل
وليلٍ مثل يوم العَرْضِ طولاً ... ومَنْ عَوْني على الليل الطويل؟
وما للصُّبح فيه من طلوعٍ ... ولا للنجم فيه من أُفول
إِلى كمْ نحن في صدٍّ وهجرٍ ... وفي قالٍ من الواشي وقيل
تُرى يوماً نَرى تلك الأَماني ... وتجمع شملَنا كأسُ الشَّمول
وتعطِف لي عواطفُ مَنْ جفاني ... ويَشْفي من غَلائله غَليلي
تصدّى للصدود قِلىً وبُعداً ... ولن تَخْفى علاماتُ المَلُول
وفي صبري على التقبيح عُذْرٌ ... إِذا ما كان من وجهٍ جميل
وقوله في الشيب:
إِلى كم أُبيد البيدَ في طلب الغنى ... وأَقربُ رزقي فوق نجمِِ سُهَيْلِ
وقد وخَطَ الشيْبُ الشبابَ كأَنه ... أَوائلُ صبحٍ في أَواخرِ لَيْل
وقوله في العذار في غلام اسمه وهيب:
قال قَوْمٌ بدا عِذارُ وَهَيْبٍ ... فاسْلُ عنه، فقلت: لا، كيف أَسْلو
أَنا جَلْدٌ على لِقا أُسْد عينيْه، وأَخشى عِذارَه وهو نملُ!
وقوله في امرأة يقال لها صفية، وقد عزمت على السفر:
تقول صفيةٌ، والصًّفْوُ منها ... لغيري، حين قَرَّبَتِ الجِمالا
وقد سفَرتْ لنا عن بَدر تِمٍّ ... غَداةَ البَيْن وانتقبت هِلالا
أَتصبِرُ إِنْ هجرنا أو بَعُدْنا ... فقلتُ: نعم، وقال القلب: لا، لا
يخاف البُعْدَ من أَلِفَ التَّداني ... ويخشى الهجرَ مَنْ عَرَفَ الوِصالا
وقوله من أخرى:
ميلوا إِلى الدار من ذات اللَّمى ميلوا ... كحلاء ما جال في أَجفانها ميلُ
هذا بكائي عليها وهي حاضرةٌ ... لا فَرْسَخٌ بيننا يوماً ولا مِيل
ممشوقة القَدّ ما في شَنْفها خَرَسٌ ... ولا تَضِجّ بساقَيْها الخَلاخيل
كأَنّما قَدُّها رُمحٌ، ومَبْسِمُها ... صُبْح، بنفسيَ عسّالٌ ومعسول
ومنها:
إِني لأَعشق ما يحويه بُرْقُعها ... ولستُ أُبْغِض ما تحوي السراويل
وربّ كأْسٍ سقانيها على ظمأٍ ... مُهَفْهَفٌ مثلُ خُوطِ البان مَجْدول
حتى إِذا ما رشفْنا راحَ راحتِه ... وَهْناً، وأَنقالُنا عَضٌّ وتقبيل
جارت عليَّ يدُ السّاقي ومُقْلَتُه ... لكنني بزِمام العقْلِ معقول
أَد
وقوله في مدح الشيب:
رصّعَ الشيبُ لِمّتي يا حبيبي ... بنُجومٍ طُلوعُهُنَّ أُفولي
كان شَعْري كمُقلتيْك فأَضحى ... كثناياك، حَبَّذا من بديل
وقوله في مدح ابن نيسان بآمد:
قومي اسمعي يا هذه وتأَمَّلي ... رَقْصَ الغصون على غِناء البلبلِ
فالطَّيرُ بين تغَرُّدٍ وتشاجُرٍ ... والماءُ بين تَجَعُّدٍ وتسلْسُل
أَظِباءَ وَجْرةَ كم بشطَّيْ آمِدٍ ... من ظبْيةٍ كَحْلى وظَبيٍ أَكحل
ومُدلَّلٍ ومذَلَّلٍ في حُبّهِ ... شتّان بين مُدّلَّلٍ ومُذَلَّل
والعَيْش قد رقَّتْ حواشي حُسنِه ... ما بين دَجلتها إِلى قُطْرَبُّل
رَقَم الربيع رُبوعَها فكأَنها ... زنجيةٌ تختال تيهاً في الحي
ومنها في المدح:
في حِصنه غَيْثٌ، وفوق حصانه ... لَيْثٌ يَكُرّ على الكُماةِ بِمِسْحَل
متبسِّمٌ لعُفاته قبل النّدى ... كالبرق يلمَع للبِشارة بالوَلي
يعطي المُحَجَّلَةَ الجياد وكم لهُ ... في الجُوْد من يومٍ أَغرَّ مُحَجَّل
ويَرُدّ صدر السَّمْهَريِّ بصدره ... ماذا يؤثّر ذابلٌ في يَذْبُل
وكأَنّه والمَشْرَفِيُّ بكفّه ... بحرٌ يكُرّ على العُفاةِ بجدولِ
وقوله في الملك الناصر قبل ملك مصر وكان متولي دمشق:
رويدَكُمُ يا لُصوصَ الشآم ... فإِني لكم ناصحٌ في مَقالي
وإِياكمُ من سمّي النبيّ يوسُفَ ربِّ الحِجا والجمالِ
فذاك مُقطِّع أَيدي النساءِ ... وهذا مقطع أَيدي الرجال
وقوله في مغنية بمصر اسمها خراطيم:
تقول خراطيم لما أَتيْتُ: أَهلاً بذا الشاعر الأَحْوَلِ
وغنَّتْ فقلتُ لجُلاّسها: ... شبيهٌ بنصف اسمها الأَوَّل
الميم وقوله من قطعة:
أَمُوَلَّدَ الأَتراك إِن مُوَلَّدَ الأَعْراب أَضحى في هواكَ مُتَيَّما
لو كان قلبُك مثلَ عِطْفِك لَيِّناً ... ما كان حظي مثلَ صُدْغكَ مُظلِما
وقوله في مبارك بن منقذ:
ضدُّ اسمه المُنقِذيّ، عن ثقةٍ ... فلا تلومَنّه على الُّوم
كالجُدَرِيّ الذي يقال له ... مُباركٌ، وهو أَلف مشؤوم
وقوله من قصيدة:
سَلا هل سَلا عن رَبَّةِ الخال واللَّما ... مُحِبٌّ غدا من ظَلْمها مُتظلِّما
وهل لاح برقٌ من تبسُّم ثغرها ... فأَمطر إِلاّ سُحْبُ أَجفانه دما
مُهَفْهَفَةٌ كالخيزُرانة لَيْنَةٌ ... تزيد اعوجاجاً حين زادت تَقَوُّما
ومنها:
أَما آنَ أَن تدنو الديارُ بنازح ... وهل نافعي قوْلي بُعَيْدَ النَّوى أَما
كأَنّ قِسِيَّ البين لم ترَ في الورى ... لأَغراضها إِلاّ المحبين أَسهما
وقوله في المنثور:
قد أَقبل المنثور يا سيِّدي ... كالدُّرِّ والياقوت في نَظْمِهِ
ثَناك لا زال كأَنفاسه ... ومُخُّ من يَشْناك مثل اسمِه
وقوله، ويكتب على سرج:
أَنا سَرْجٌ لمليكٍ ... حِصنه في الشّام شامَهْ
تحتيَ البرقُ وفوقي ... من أَياديه غَمامَهْ
كتب اللهُ عليه ... كلّما سار السلامَهْ
وله في شاعر يدعى الطائي قدم من بغداد:
قد أَصبح الطائِيُّ في جِلَّقٍ ... بدُبْره أَكرمَ من حاتم
يقول بالأَيْر الذي لم يزل ... يقوم، والناس مع القائم
النون وله من قصيدة:
يا غصنَ بانٍ تَثَنَّى وهو نَشْوانُ ... وبدرَ تِمٍّ لِحَظّي منهُ نُقْصانُ
إِلامَ تَصْدَعُ قلبي بالصدود قِلىً ... وليس يسكنه إِلاّك إنسان
من لي بذي شَنَبٍ يفترُّ عن بَرَدٍ ... ما إِن يذوب وفي خدّيْه نيران
أَخشى على كتفيْه من ذَوائِبه ... وكيف لا أَتخشَى وهي ثعبان
وقوله:
يا غُرْبةً جعلتْ فؤادي للأَسى ... إِلْفاً، وخدّي للمدامع مَوْطِنا
حتى أَلِفتُ حديثَ حادثة النَّوى ... يَلْقى الشدائدَ سهلةً مَن أَدْمنا
وقوله في الشيب:
وفي الشيب لي واعظٌ لو عقَلت ... قرعتُ على العمر سِنّي سنينا
تراني وقد عارض العارضَيْن طوراً شمالاً وطوراً يمينا
أُقلّع أَوَّلَ فرسانه ... ولكنّني أَتخشّى الكمينا
وقوله:
وفي دير مُرّانَ خَمّارةٌ ... من الروم في يومِ سَعْنينها
سقتْني على وجهها المُشْتهى ... أَرقَّ وأَعتقَ من دِينها
وقوله من أخرى:
ومُهَفهَفٍ كالرّمح يحمل مثلَه ... قَتَلَ الورى وسْنانُهُ وسِنانُهُ
فارقته وفرِقت عند وَداعه ... مِنْ صارمٍ أَجْفانُهُ أَجْفانُه
في ليلةٍ طالت عليَّ كأَنّها ... عِطفاه أَو صُدْغاه أَو هِجْرانه
حتى بدا فَلَقُ الصّباح كأَنّهُ ... وجهُ الأَمير وعِرضه وجِفانُهُ
وقوله في غلام كمراني:
وكيف يرانيَ الرُّقبا ... ءُ من سقمٍ بِجُثْماني
وجسمي مثل ما يحوي ... كمران الكمراني
وقوله في مدح شمس الدولة صاحب اليمن رحمه الله:
تأَمَّلْ ولْتكنْ ثَبْتَ الجَنان ... نساء الحيّ أَم حور الجِنانِ
بَدَوْن كأَنهنَّ بُدور تِمٍّ ... وَمِسْنَ كأَنهنّ غُصون بان
وكم في الحيّ بَهْكَنةٌ ... مُبَرْقَعَة المُحَيّا والحصان
ومخضوب القناة من الأَعادي ... لِعَيْنَيْ كلِّ مخضوب البنان
أَتيْناهُنّ أَضيافاً ولكن ... شُغلنا بالجفون عن الجِفان
يَقُلْن تَسَلَّ بالصَهْباء عنّا ... على ضرْب المَثالث والمَثاني
فقلتُ وقد مضى نَوْءُ الثُّرَيا ... وجاءت بالسُّعود النّيّران
عيونَ السُّحْب كم تبكين وَجْداً ... وقد ضحِكَتْ ثُغورُ الأُقْحُوان
وفي ربْع الحبيب لنا ربيعٌ ... ونَوْرٌ ما حَوَتْهُ النَّيْربان
وما شمسُ الضُّحى في الحُسْن إِلاّ ... كشمس الدولة المَلكِ الهِجان
وقوله:
كم أُمَشَّى كأَنني ذو طِحال ... وأُمُنى كأَنني كَمّون
وقوله في ابن نيسان:
كنت أَذُمّ ابنَ مالكٍ فإِذا ... ذاك سماءٌ عند ابن نيسان
قد قيل ما يَحْمَد المجرِّبُ لِلأَوَّل حتى يجرِّب الثاني
قَطَنْتُ في آمِدٍ أُؤمِّلُهُ ... وأَيُّ خيرٍ في ظِلِّ قطّان
وقوله في ذم كتاب:
وصَل الكتاب، عدِمت عشرَ أَناملٍ ... أَلَّفْنَ ما فيه من التضمين
ما كان أَشبهه وقد عاينته ... بوثيقةٍ حَلّت على مديون
الواو وقوله:
عذلوني في الحبّ، والعَذْل يَغْوي ... ورمَوْني بالصَّدِّ والصدُّ يَكْوي
واستحلّوا غَزْوي بكلِّ غَزالٍ ... حلَّ في حُبّه قِتالي وغَزْوي
تركونا ما بين وَجْدٍ وشوقٍ ... والمطايا ما بين سَوْقٍ وحَدْوِ
يا أُحَيْبابنا بجَيْرون حتى ... ومتى للغرام نَهوى فنَهوي
أُهْجرونا إِن شئتمو أو صِلُونا ... قد شربنا من كلِّ مُرٍّ وحُلو
الهاء وقوله:
جَنِّبْ عن الدنيا إِذا جَنَّبَتْ ... عنك بإِكبارٍ وتنزيهِ
فما ترى فيها فتىً زاهداً ... إِن لم تكن قد زهِدَتْ فيهِ
وقوله في أبي الحكم الطبيب:
لنا طبيبٌ شاعرٌ أَشْتَرٌ ... أَراحنا من شخصه اللهُ
ما عاد، في صُبْحة يوم، فتىً ... إِلاّ وفي باقيه رثّاهُ
وقوله:
يا بني الأَعراب إِنّ التُّرك قد جارت بنُوها
عَقْرَبوا الأَصْداغ حيناً ... ولِحَيْني ثَعْبنوها
الياء وقوله في طغريل السياف:
أَيها السيّاف هيا ... لا تَدَعْ في البيت شَيّا
داوِ قرناً صرا تُرْساً ... للدّبابيس مُهَيّا
كم نصحناك وقلنا ... إِنتبه ما دُمتَ حيّا
كلُّ نَحْسٍ أَنت فيه ... من حِراف ابن ثريّا
نصر الهيتي الدمشقي
هو نصر بن الحسن، من ضيعة يقال لها الهيت من أعمال حوران من ناحية اللوى. لقيته بدمشق، وتوفي بعد وصولي إليها بسنيات، بعد سنة خمس وستين وخمسمائة.أِنشدني له وحيش، وذكر أن شعره كان سالماً نقياً ما عليه غبار:
كيف يُرْجى معروف قومٍ من اللؤ ... مِ غَدَوْا يَدْخُلون في كلِّ فنِّ
لا يروْن العُلا ولا المجد إِلاّ ... بِرَّ عِلْقٍ وقَحْبَةٍ ومُغَنِّ
يتمنَّوْن أضن تَحُلَّ المسامير بأَسماعهم ولا الصوت مني
وأنشدني له بعض أصدقائي بدمشق:
ما لي أَرى قوماً يروضُون العُلا ... وبها عليهم نفرةٌ وإِباءُ
لن يشْرَكونا في القريض، وكلُّهم ... في بعض ما نأتي به شركاء
زعموا بأَنّ المَيْن في أَقوالنا ... ونَسُوا بأَنّا في المقال سَواء
إِن كان خُلْف القول في أِشعارنا ... نقصاً فنحن وهم به أَكفاء
لا نحن نفعلُ ما نقول ولا همُ ... فإذا نظرتَ فكلّنا شعراء
لكنْ لنا ولهم على أَقوالنا ... بين الأَنام مدائحٌ وهجاء
فإِذا كَذَبنا، قيل عنا: أَحْسَنوا ... وإِذا همُ كذَبوا يقال: أَساءوا
هذا وإِنّ لنا عيوناً مِلْؤها ... من كلِّ ما نُسِبوا إِليه حياء
والله ما نسجوا على مِنْوالنا ... يوماً وإِنّا منهم بُرَآء
ومن العجائب أَن يَرَوْنا دونهم ... وهمُ لنا أَرضٌ ونحن سماء
وأنشدني أيضاً:
لقد تعجَّبَتِ النُّظَام من مِدَحٍ ... أَزُفّها بين منظومٍ ومنثورِ
أَبكار فكرٍ جلاها منطقي فأَتَتْ ... تختال ما بين تهذيب وتحبير
ولا أَنال بها رِفْداً إِذا نُشِرت ... إِلاّ سوادَ خُطوطٍ في مناشير
واخَيْبةَ الشِّعرِ أُهديه إِلى نفرٍ ... عليه يَجْزُون مَسْطوراً بمسطور
رفاعُهم تملأُ الدنيا بما رحُبَت ... مَلأً من المَيْنِ والبُهْتان والزُّور
تُطْوى وتُنْشَر والأَدْناس تشمِلها ... في كَفِّ كلِّ سَخين العَيْن مَعْرور
كأَنها، وعطاياهم مُسَطَّرةٌ ... فيها، لفائِفُ مَيْتٍ غير منشور
أَو ما يُقَلّعه البَيْطار مِن خِرَقٍ ... عن كلِّ أَعجفَ غثِّ اللحم مَعْقورِ
فما لها مُشْبِهٌ في كلِّ مُخْزِيةٍ ... إِلاّ مناديلُ رَبّات المواخير
لا تَطَّرِحْها إِذا جاءت فإِنَّ لها ... نفعاً ولكن لترقيع الطنابير
ثم وقعت بيدي مسودات من شعر الهيتي بخطه عند وصولي إلى مصر، مما قاله بها وبالشام، فنقلت منها ما تحسد دررها الدراري، ويعشق إنشآءها المشحون فلك معانيه منشآت الجواري، فمن ذلك قوله من قصيدة في ابن رزيك:
لم تدر ما طعم الكَلال ولا الوَجا ... لولا تدَرُّعُها الظلامَ إِذا سجا
والسير تحت هواجر الشِّعْرى التي ... يلقى الوجوهَ أُوارُها متوهّجا
بكواكب القَيْظِ التي قالت بها ... جُونُ الجَنادِب تستظِلُّ العَرْفَجا
ذرْها وحاديَها وأَجوازَ الفلا ... وتحمّل الأَثقال فيها والنَّجا
عوّامةٌ في الآل تحسب أَنه ... بحرٌ، وتحسبها السَّفينَ مُلَجّجا
ومنها في الغزل:
تجلو بِعيدان الأَراك مُعَلَّلاً ... بالراح مثلَ الأُقحوان مُفَلَّجا
مُضْنىً يُريك مُوَشَّحاً ومُمَنْطَقاً ... عَبْلاً يريك مُخَلْخَلاً ومُدَمْلَجا
وكأَنما ظبيُ الصّريم أَعارها ... جِيداً ومُلْتَفَتاً وطَرْفاً أَدْعجا
عُلِّقْتُها تختال في بُرْدِ الصِّبا ... مَرَحاً، وبُرْد شبيبتي ما أَنْهَجا
حتى تنفَّس من غياهب لِمَّتي ... فَلَقُ المشيب بمَفْرقي وتبلّجا
وكففتُ عن غزلي بها وتهذَّبتْ ... مني القرائح للمدائح والهجا
وحَلَبْتُ هذا الدهرَ أَشطُره فلم ... أَرَ فيه ذا خطرٍ يُخاف ويُرْتجى
إِلاّ بني رُزِّيك أَرباب النَّدى ... والبأس والمجدِ المُؤَثَّل والحِجا
وقوله من قصيدة:
لئن أَمسكتْ عني سحائب جُودهِ ... فما أَنا للبِرّ القديم جَحودُ
أَلم تر أَنَّ المُزْن يهطِل تارةً ... ويُمْسِك بعد الهَطْل ثم يجود
وقوله من قصيدة أولها:
تيمَّمِ النار تجلو عاكِفَ الظُّلَمِ ... يا مُدْلِجاً بطِلاح العيس لم ينمِ
حُلَّ النسوع بمَغْنىً لم يزلْ أَبداً ... يُهَزّ بالمدح فيه نَبْعة الكرم
واحطُط رِحال المطايا عن غواربها ... برحْب هذا الحِمى الممنوع والحَرَم
جناب أَرْوَعَ ما استسقيت راحتَه ... تُفني العِدى واللُّهى بالسيف والقلم
فعزمُه أَبداً بالنُّجْح مقترنٌ ... والرَّأْيُ بالرُّشْد، والأَلفاظُ بالحِكم
مَنْ لم يزل يرعف الخَطيُّ في يده ... والمشرفيُّ دمَ الأَكباد والقِمَم
ما قارعتْ يده إِلاّ بمُنْحَطِمِ ... كلاّ ولا جالدت إِلاّ بمُنْثَلِم
ومنها:
كأَنّهم والرَّدَيْنِيّاتُ تكنُفُهمْ ... يومَ الهياج غضابُ الأُسْد في الأَجَم
ومنها:
يا ابن الذين إِذا عُدَّتْ مناقبهم ... بين الورى ضاق عنها واسعُ الكَلِم
وقوله من قصيدة في صاحب بُصرى أولها:
خَلِّ الصَّريمَ لواصفي آرامِهِ ... وغَزالَه لِمُتَيَّمٍ ببُغامِه
وَدَع الأَراك وما سما من دَوْحِه ... تدعو على الأَغصان حَمامِه
ومنها في المدح:
أَسدٌ ولكن من براثن كفّه ... بيضُ الظُّبا، والسُّمْرُ من آجامه
لو لم يكن أَحدَ الضراغم لم يكن ... كسر الكُماةِ الشوس من إِلهامه
سائلْ به يوم الظَّليلِ فإِنه ... يومٌ تجلّى عنه من أَيّامِه
إِذا جاءه جيشُ الفرنج مُنَظَّماً ... فسما إِليه فحَلَّ عَقد نظامه
وغدا يُحَدِّث في الجامع كفرُهُمْ ... بالبأس والسَّطَواتِ عن إِسلامه
وله بأَرض القُدْس فيهم وقعةٌ ... سلبت مليكَهم لذيذَ منامِه
كم جَحْفلٍ للشّرْك همَّ بحَرْبه ... فأَحَلَّ صدر الرُّمْح صدر هُمامِه
فبنور شمس الدّين قد كُشِفت من الكُفْرِ المُرَوّع عاكفاتُ ظلامه
فالّليْث في سِرْباله والغيث بين بنانه والبدر تحت لِثامه
ماء المنايا والمُنى في كفِّه ... جارٍ، وفوق الطِّرْس من أَقلامه
حازَ المفاخر والنُّهى في مَهده ... وسما إِلى العَلْياء قبل فِطامه
لِلأريحيَّة والنَّدى في عِطفه ... فِعْلٌ يقصِّر عنه فعلُ مُدامه
تهزُّ عِطفيْه المدائحُ هزةً ... كعواسل المُرّان يوم زحامه
يُغنيك في العام الجديب بجُوده ... عن فيض أَبحره وجَوْد غمامه
كَرَمٌ، غدا هذا الزمان لكل ذي ... أَملٍ يروض به نفوسَ كرامه
وقوله من قصيدة:
رداءَ اتِّباع الغيِّ هل أَنت نازِعُ ... وهل لك مما لاح بالفَوْدِ وازعُ
فَحتّامَ تُصْبيكَ البُروق كأَنها ... لقلبك لا قلب الظَّلام صوادع
فحلأَّ جفنَ العين عن مَنْهَل الكرى ... وقد شرَعتْ فيه العيون الهواجع
أَوَجْدَك أَمْ إِلْفاً بنُعْمان في الدُّجى ... على أَيْكِهِ هاجَ الحمامُ السَّواجع
أَمِ الطيف لما زار، وهْناً، مُسَلِّماً ... نبت بك لما سار عنك المَضاجع
فبتّ سميراً للنجوم كأَنّما ... تضمَّنَ من تهواه منها المطالع
فيا لابِساً ثَوبَيْ مَشِيبٍ وصَبْوةٍ ... صُنِ السّرَّ إِلاّ أَن تَنُمَّ المَدامِع
فما لك في خَلْع العِذاريْنِ عاذرٌ ... ولُبْسِ قِناع اللَّهْوِ، والفَوْدُ ناصع
ومُضطربِ الأَحشاء من أَلم الجوى ... نَبَتْ عن سماع العذل منه المسامع
أَقام الهوى منه الفؤادَ رَمِيّةً ... لِما فوّقت يوم الوَداع البَراقع
فلا الماء إِلاّ ما تَسُحُّ جُفونُه ... ولا النّارُ إِلاّ ما تَجُنُّ الأَضالع
يَحِنُّ إِلى أَرض الشآم صَبابَةً ... كما حَنَّ مفقود القرينة نازعُ
ديارٌ كساها القَطْرُ سِرْبال بَهْجَةٍ ... مصايفُها تُزْهى به والمَرابِع
جَلَتْها الرياضُ الخُضْرُ في حُسْنِ حُلَّةٍ ... من النَّوْر حاكتْها الغُيوثُ الهوامِع
سَقَتْها على تصفيق برقٍ تراقَصتْ ... بأَسيافها فيه البروق اللَّوامع
وأَلبسها زهْرُ الربيع مَطارِفاً ... مِن الوَشي لاثتها الرُّبى والأَجارع
تُرَجِّعُ فيه الطيرُ لحناً كأَنما ... يَجُسُّ به منها المثانيَ صانع
تخال مناقير الهَزار بدَوْحِها ... مزاميرَ، لكن أَعوزتْها الأصابع
بلادٌ لأُسْد الغاب في عَرَصاتِها ... بأَلحاظ أَحْداق الظباء، مَصارع
فيا طِيبها لولا زَلازِلُها التي ... يروعُك منها هَزُّها المتتابع
تَمُورُ كما مار السَّفيه بلُجَّةٍ ... تَلاطمَ فيها مَوْجُها المتدافع
بأَقْطارها لا تطمئنُّ كأَنّما ... توعَّدهُنّ اللّوذعِيُّ طلائع
ومنها:
إِذا ملأَ الصدرَ النِّجادُ وصافحتْ ... متونُ القنا الخَطّارِ فيه الأَشاجع
يقول: أَلا أَيْن المجالِدُ، عضبُه ... وذابله العسّال، أَين المُقارِع
منازِلُه والمالُ والصَّدْرُ والجَدى ... على الخلْق، كُلٌّ في الإِضافة واسع
وأَفعالهُ في المَكْرُمات كعزْمِه ... مواضٍ، فما فيهن فعلٌ مُضارعُ
فما روْضَةٌ يُسْقى بماءيْنِ تُرْبُها ... وكلُّ نميرٍ في المَنابت ناجِع
يمُجّ إِليها النيل من صاعِد النَّدى ... ويَشْفَعُه من نازل القطر شافع
مُدَبَّجَةُ الأَرْجاء تُمْسي كأَنها ... عقيلة خِدْر سِرُّ ريّاهُ ذائع
تَقابَلَ في المخضرّ أَبيضُ ناصِعٌ ... وأَحمرُ قانٍ منه أَصفر فاقع
بأَحسنَ منْ يوم التهاني يَزُفُّها ... لمجدك نظّامٌ بليغ وساجع
وله في كبير مرض:
مَنْ مِثْلُه حين عاد مشتكياً ... والمجدُ والمَكْرُمات عُوَّدُهُ
مدّ إليه الشفاءُ كلَّ يدٍ ... وعنه غُلَّتْ من الرَّدى يدُه
وقوله في مرثية الصالح بن رزيك:
جَلَّ ما أَحدثتْ صُروفُ الليالي ... عند مُسْتَعْظَم العُلى والجلالِ
مَلِكٌ بعد قَبْضِه بَسَطَ الخَطْبُ يديْه إِلى بني الآمال
جادتِ العينُ بعد بُخْلٍ عليه ... بيواقيتِ دمعها واللآلي
وغدا كلُّ ناطقٍ بلسان ... مُوجَعاً فيه، قائلاً: ما احتيالي
ذهب الصّالح الذي أَلبس الأَيّامَ مِنْ بعدِه ثيابَ الليالي
والذي كَفَّ كفُّه أَيديَ الفقْر بما بثَّ من جَزيل النَّوال
حَلَّ في التُّرْبِ منه من كان يرجو ... ه ويخشاه كلُّ حيّ حِلال
طوْدُ حِلْمٍ ما خَفّ إِلاّ إِذا قيل: أَلا أَين حامِلُ الأَثْقال
مَنْ لِشَنِّ الغاراتِ بعد أَبيها ... ولِصَدْمِ الأَبطال بالأَبطال
ولِنَظْمِ الصُّدور، تعتلجُ الأَحْقاد فيهنّ، في صُدورِ العوالي
ولِفَصْلِ الخطاب في كلِّ أَمرٍ ... شيبَ منه الإِبهامُ بالإِشْكال
ومنها:
خَلِّ دَمْعي فإِنَّهُ غير راقٍ ... وفؤادي فإِنه غيرُ سالِ
ليس يُطفي ناراً تَلَظَّى بقلبي ... سُحْبُ جفني بمائها الهطّال
حُرِمتْ لَذَّةَ الكرى كلُّ عَيْنٍ ... لم تَجُدْ بعدَه بدمْعٍ مُذال
وإِذا بان ساكنُ الرَّبْعِ عنه ... ما يَرُدُّ البكاءُ في الأَطْلال
وقوله:
طاف، وسِتْرُ الظَّلام مُنْسَدِلُ ... خيالُ مَنْ زان طرفَهُ الكَحَلُ
يَعْجَبُ مِنْ طارق الرُّقاد وقد نا ... زَلَ جفني من بعد ما ارتحلوا
ثُمَّت وليّ وَهْناً فأَتْبَعَهُ ... طيبَ كراه المُتيَّمُ الغَزِلُ
ولو تَخَطَّى إِليه باعثُه ... لم تُخْفِه دُجْنَةٌ ولا طَفَلُ
وكيف يُخْفي الظلامُ شمسَ ضُحىً ... غصَّتْ بأَنوارِ وجْهها السُّبُلُ
الليلُ والصبحُ مِنْ مُرَجَّلِها ... على نَواصي جبينها خَجل
وقدُّها عَلَّم الغصونَ ضُحىً ... تميلُ في البانِ ثم تعتدل
جَيْداءُ قد نظّمت قلائدها ... دُرّاً يحاكيه ثَغْرُها الرَتَل
لم أَدْرِ من قبل أَنْ تلاحظني ... أَنّ جفونَ الصّوارم المُقَل
ولا علمتُ الظّباء كانِسَةً ... فوق المطايا وكُنسُها الكِلَل
ومنها:
منازلَ الحيِّ بالمُرَيج سقى ... ثَرى مَغانيكِ عارِضٌ هَطِلُ
لولا ظِباء الطُّلول منك لما ... شجا فؤادي ظبيٌ ولا طَلل
ولم يَرُضْني هوى الحسانِ كما ... يروضني للمدائح الأَمل
من كلِّ سيّارةٍ مُحَبَّرةٍ ... دُرِّيّةِ اللفظ ما بها خَلَل
عذراء، روضيَّة النسيم، على ... أَوصاف سيف الإِسلام تشتمل
غدا لأَمر الإِِله مُمْتَثِلاً ... فأَمره في العباد مُمْتَثَل
ملك تُقِرّ الملوك أَنهم ... له، إِذا ما تفاخروا، خَوَل
تُهْدى إِلى التُّرْب في مجالسه ... مِنْ قبلِ تقبيل كَفِّه، القُبَل
قائد جيشٍ إِلى العِدى لجبٍ ... صَرْفُ الرَّدى منه خائفٌ وَجِل
قومٌ كأُسْدِ الشرى براثنها البيض المواضي وغابُها الأَسَل
فَلِلْمَها ما تَقَلّدوه، وللأَحْداق يوم الهياج ما اعتقلوا
مِن مَعشرٍ ما لذا الزمان يدٌ ... يفعل في الناس مثل ما فعلوا
إِن سُئِلوا المجدَ والعُلى مَنَعوا ... أَو سُئلوا العُرْفَ والنَّدى بذلوا
ومنها:
يسأَله الوَفْدُ رِفْدَه فمتى ... تَرَحَّلوا عن جنابه سُئِلوا
تفعل في عِطْفه المدائح ما ... يَعْجَزُ عنه الثقيل والرَّمَل
ذِكْرُ النَّدى والعُلى يُرَنِّحُه ... كأَنه منه شارِبٌ ثَمِل
فالْعلمُ والحِلمُ والشجاعة والعفّةُ فيه والقول والعمل
وحيش الأسدي
هو الأديب أبو الوحش سبع بن خلف بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن زيد بن زياد بن المرار بن سعيد الأسدي الفقعسي، ومولده سنة أربع وخمسمائة. لقيته بدمشق شيخاً مطبوعاً، ومدحني بقصائد.ومن جملة ما مدح به الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب عند وصوله إلى الشام وملكه دمشق سنة سبعين من قصيدة أولها:
قد جاءك السَّعْدُ والتوفيقُ واصطحبا ... فكن لأَضْعافِ هذا النصر مُرْتقِبا
ومنها:
لله أَنتَ، صلاحَ الدين، من أَسدٍ ... أَدنى فريستِه الأَيّامُ إِن وَثَبا
رأَيتَ جِلِّق ثغراً لا نظير له ... فجئتَها عامِراً منها الذي خَرِبا
نادتْك بالذُّلِّ لما قلَّ ناصرها ... وأَزْمعَ الخَلْقُ منْ أَوطانها هَرَبا
أَحْيَيْتَها مثلَ ما أَحييتَ مِصْر فقد ... أَعَدْت مِن عدلها ما كان قد ذهبا
هذا الذي نصر الإِسلامَ فاتّضحتْ ... سبيلُه، وأَهان الكُفْر والصُّلُبا
ويوم شاوَر، والإِيمانُ قد هُزمت ... جيوشُه، كان فيه الجحْفَلَ اللَّجِبا
أَبَتْ له الضيْمَ نفسٌ مُرَّةٌ ويدٌ ... فعّالةٌ، وفؤادٌ قَطُّ ما وَجَبا
يستكبر المدحَ يُتْلى في مَكارمه ... زُهْداً، ويستصغر الدنيا إِذا وهبا
ويومَ دِمياط والإسكندرية قد ... أَصارهم مثلاً في الأرض قد ضُرِبا
والشذامُ لو لم يدارك أَهلَه اندرستْ ... آثاره وعَفَتْ آياتُه حِقَبا
ومنها:
هو الجوادُ ولكن لا يُقالُ كبا ... وهْو الحُسامُ ولكن لا يُقال نَبا
وهو الهِزَبْرُ ولكن لا يقال طغا ... وهْو الضِّرام ولكن لا يُقالُ خَبا
فأَنتَ إِسكندرُ الدُّنْيا ووارِثُها ... فاقصِد ملوكَ خُراسان وَدَعْ حَلَبا
وأنشدني لنفسه:
رُبّ يَوْمٍ وليلةٍ بتّ أَقْضيها بلا مانعٍ غِناءً وسُكْرا
أضجْتلي نَرْجِساً وأَلْثِمُ رَيْحا ... ناً وأَجني وَرْداً وأَرشُف خمرا
إِنْ أَمِلْ يَمْنَةً أُعانق خَصْراً ... أَو أَمِلْ يَسْرَةً أُقَبِّلُ ثَغْرا
وأنشدني لنفسه:
وكم لَيْلَةٍ قَد بتُّ مُسْتَمْتِعاً بها ... إِلى أَن بدا من صبح سَعْديَ فجرُهُ
وخمري جنَى فيه، ووَرْديَ خَدُّهُ ... وصُبْحي مُحَيّاهُ وليليَ شَعْرُه
ورَيْحانُ نَقْلي من عِذارَيْه يانِعٌ ... وكأْسي إِذا ما دارتِ الكأْسُ ثَغْرُه
وأنشدني أبو الوحش لنفسه من قصيدة بدمشق سنة إحدى وسبعين في نور الدين:
انظرْ فهذا الرَّشَأُ الأَحْوَرُ ... يَرْهَبُ منه الأَسَدُ القَسْوَرُ
يُقامِرُ القلْبَ بأَجفانه ... وغَيْرُ خافٍ أَيُّنا يَقْمَرُ
وأَسمر تفعل أَلحاظُه ... بالقلْبِ ما لا يفْعَلُ الأَسْمَرُ
تختلِبُ الأَنْفُسَ أَلفاظُه ... لا شكَّ عندي أَنه يَسْحَر
قالت لُيوثُ الغاب: يا قومُ ما ... أَسرعَ ما يصرع ذا الجُؤْذَرُ
يا بَدوِيّاً جارُه آمِنٌ ... لِمْ ذِمَّتي في حُبِّكُمْ تُخْفَر
عِقْدُك من لفظك مُسْتَنْبطٌ ... فاتّفق الجَوْهَرُ والجوهر
أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ هر
أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ إِذا واصلْتَهُ يُنْشَر
ما الليلُ ليلٌ عند هذا الورى ... إِذا تبدّى وجهُك المُسْفِر
والوَجنةُ الحمراءُ مُذْ أَزهرت ... نَمْنَمَها ريْحانُها الأَخضر
والغُصُنُ المُورِقُ خَجْلان مُنْذُ اهتزّ منك الغُصُن المُزْهِر
واسَقمي مِنْ غصُنٍ مُزْهرٍ ... بغير هِجْرانيَ لا يُثْمِر
لمّا عَلَتْ طُرَّتُه وجْهَه ... قلت: اعجَبوا هذا الدُّجى المُقْمِر
كم لامَ قومٌ في هواه فمُذْ ... بدا لهم في زيِّه كبَّروا
واسْتكبروا وجدي فناديتُهم ... قوموا انظروا، حُسْنُه أَكبر
يا صاح قد رقّ نسيم الصَّبا ... آثِرْ بها إِنْ كنت مَنْ يُؤْثِر
قم فاسقِنيها اليوم روميَّةً ... ممّا حبا القَسَّ بها قَيْصَرُ
إِذا بدت في كفّه خِلْتَها ... مِنْ خدّه في كأْسه تُعْصَر
إِنْ غُيِّبَتْ في فيه أَنوارُها ... فإِنها في خَدِّه تظهر
أَو قيل عنها نَجَسٌ مُطلقٌ ... فإِنها من يده تَطْهُر
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
وقد عَلِمَتْ أَبناءُ عَصْرِيَ أَنّني ... أَنا المِسْكُ لكن دهري الجائِر الفِهْرُ
إِذا زادني سَحْقاً أَزيد تأَرُّجاً ... فمِنْ شَأْنِه ظُلْمي ومن شَأْنِيَ الصَّبْرُ
وقصدني بقصائد مدحني بها، فأحسنت جائزته.
وله في بعض الأكابر وهو كمال الدين بن الشهرزوري:
حُبُّ الإِمام مُحَمَّدٍ لي مَذْهَبٌ ... ومطامِعي بمُحَمَّدِ بنِ القاسم
وكِلاهُما في الانتظار عقيدتي ... فَنَداك مقرونٌ برُؤْيا القائم
فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال
الأسدي الخزيمي الدمشقي المعلم سألت بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، عند شروعي في إتمام هذا الكتاب، عمن بها من الشعراء وذوي الآداب، فذكر لي فتيان منهم فتيان، معلم الصبيان، وهو ذو نظم كالعقود، وشعر كمجاج العنقود، ومعنى أرق واصفى من معين العذب البرود، ولفظ أنمق وأشهى من وشي البرود. وأنفذ إلي مسودات من شعره ونفاثات من سحره، فكتبت منها ما يروق الأسماع، ويشوق الطباع. فمن ذلك:نَوْحُ الحَمامِ الوُرْقِ في أَوْراقِها ... دَلَّ أَخا الشوق على أَشواقِها
فأَظهَر الدَّمْعَ وأَخفى زَفْرةً ... خاف على الباناتِ من إِحراقها
لو بَكتِ الوُرْقُ ببعض دَمْعِه ... لامَّحَتِ الأَطواقُ من أَعناقها
فاعْجَبْ لها شاكيةً باكيةً ... لم تَسْلُك الدُّموعُ في آماقها
ما أَفْرقَتْ مُهْجَته من الجوى ... لكنه أَشْفى على فِراقها
دضعِ العُرَيْبَ والنَّقا وزينباً ... تجذِب لِلْبَين بُرى نِياقها
وَعُجْ على دمشق تُلْفِ بلدةً ... كأَنما الجنّات من رُسْتاقِها
سقى دمشقَ اللهُ غيثاً مُحْسِباً ... من مُسْتَهِلّ ديمةٍ دفّاقِها
مدينة ليس يضاهى حُسْنُها ... في سائر البلدان من آفاقها
تودّ زوراء العراق أَنّها ... منها ولا تُعْزى إِلى عِراقها
أَهْدتْ لها يدُ الربيع حُلَّةً ... بديعةَ التَّفْويف من خَلاّقِها
بَنَفْسَجٌ مثل خُدودٍ أُدْمِيَتْ ... بالقَرْص والتَّجْميش من عُشّاقِها
ونَرْجِسٌ أَحداقه رانِيةٌ ... عَنْ مُقَلِ الغِيد وعن أَحداقها
تَنَزَّل المَنْثُورُ من رياضها ... تَنَزُّلَ الأَعلام من شِقاقها
فأَرضُها مِثلُ السماء بَهْجةً ... وزَهْرها كالزَّهْر في إِشْراقها
مياهُها تجري خِلال رَوْضها ... جَرْيَ الثعابين لَدى اسْتِباقها
مُسْفِرةٌ أَنهارها ضاحِكة ... تنطلِق الوُجوه لانطِلاقها
نسيمُ ريّا رَوْضها متى سَرى ... فَكّ أَخا الهموم من وَثاقها
قد رَبَع الرَّبيع من رُبوعها ... وسيقت المُنى إِلى أَسواقها
لا تَسْأَمُ العُيون والأُنوف من ... رؤيتها يوماً ولا استنشاقها
فكم بها من شادنٍ تَحْسُدهُ ... لِحُسنه البدور في اتساقها
كأَنّما رُضابُه الصهباءُ بلْ ... مَذاقه أَطيبُ من مَذاقها
وَمِنْ بدورٍ في الخدور لم تَزَلْ ... كواملاً لم تَدْنُ من محاقها
فأَيُّ أُنْسٍ ثَمَّ لم تلاقِه ... وأَيَّةُ الراحات لم تلاقها
بعدل فخر الدين قَرَّ أَهلُها ... عيناً وزاد الله في أَرزاقها
زوَّجَها الأَمْنَ، وناهيك به ... بَعْلاً، فطيبُ العَيْش من صَداقها