كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني
رُدّوا الصِّبا كردّ طرْفِ لحظةٍ ... إنّ الصِّبا زمانُه حميدُ
وخلّصوني من تكاليفِ الهوى ... إنّ الهوى عذابُه شديدُ
أو لا فنادوا ثم بيعوا مُهجتي ... بنظرةٍ فيمن عسى يَزيدُ
أو فاجمَعوا شيبي وذُلّي في الهوى ... وطول تعذيبي بمن أُريدُ
ما فعلت بالأنفُس البيض الظُّبا ... ما فعلت بنا الظِّباءُ الغيدُ
سنَحْنَ بالوادي فماذا فعلت ... بالأنفُس الأجيادُ والخدودُ
وله من قصيدة:
أسيرُ هوى المحبّةِ ليس يُفْدى ... ومقتولُ التّجنّي لا يُقادُ
ومن قد أمرضته وأتلفته ال ... عيونُ فلا يُفادُ ولا يُعادُ
فقدْتُ الصّبرَ حين وجدْت وجْدي ... وجاد الدّمعُ إذ بخلَتْ سُعادُ
وكنت أخافُ بُعدي يوم قُربي ... فكيف أكون إن قرُب البِعادُ
ديارَهُمُ كساكِ الزّهرُ ثوباً ... وجادَ على معاهدِك العِهادُ
ألا هل لي إلى نجدٍ سبيلٌ ... وأيامي برامةَ هل تُعادُ
أقول وقد تطاول عمرُ ليلي ... أما للّيلِ ويحَكُمُ نفادُ
كأنّ الليلَ دهرٌ ليس يُقضى ... وضوءُ الصُبح موعدُه المَعاد
أعيدوا لي الرّقادَ عسى خيالٌ ... يزورُ الصبّ إن عادَ الرُقادُ
وبيعوني بوصلٍ من حبيي ... وفي سوق الهوانِ عليّ نادوا
فلو أنّ الذي بي من غرامٍ ... يُلاقي الصّخرَ لانفطرَ الجمادُ
وثِقتُ الى التصبّر ثمّ بانوا ... فخان الصّبرُ وانعكس المرادُ
وكان القلبُ يسكنُ في فؤادي ... فضاع القلبُ واختُلِس الفؤادُ
وقالوا قد ضللْت بحبّ سُعدى ... ألا هذا الضّلالُ هو الرّشادُ
وهل يسلو وِدادَهمُ محبٌّ ... له في كل جارحةٍ وِدادُ
وآنفُ من صلاحي في بعادي ... ويُعجبني مع القربِ الفسادُ
وبين الرملِ والأثلاتِ ظبيٌ ... يصيدُ العاشقين ولا يُصادُ
أحمُّ المُقلتيْن غَضيضُ جَفنٍ ... تكِلّ لطرفِه البيضُ الحِدادُ
أقولُ وقد تحجّبَ عن لِحاظي ... حبيٌ بالجَفا عنه أُذادُ
أراك بمقلتي وبعين قلبي ... لأنّك من جميعهما السّوادُ
لمن وأنا المَلومُ ألومُ فيما ... على نفسي جنيتُ أنا المُفادُ
سعى طرْفي بلا سببٍ لقتلي ... كما لدمِ الحسينِ سعى زِيادُ
وله:
سترَ الغرامُ فهتّكته الأدمُعُ ... والدمعُ يُعلنُ ما تُجنّ الأضلع
وأعار في الأغصان كلّ حمامةٍ ... نوحاً فرقّ له الحمامُ السُجّعُ
واستنّ برقٌ بالحِجاز فشاقه ... ذاك الوميضُ وأقلقته الأربُعُ
وكذا المشوقُ إذا تذكّر منزلاً ... هاجت بلابلَهُ البُروقُ اللُّمَّعُ
يا قلبُ هل لك في السّلوِّ طَماعةٌ ... أم ما مضى لك من زمان يرجِعُ
أم هل لمن أسرَ التّجني مُنقذٌ ... إنْ أنّ في قيدِ الصّبابةِ موجَعُ
كيف السّبيلُ الى الحجاز ولعلَعٍ ... من بعدِها بعُدَ الحجازُ ولعْلَعُ
أوطارُ شوقٍ في الفؤادِ مقيمةٌ ... وغليلُ حُبٍّ في الحشا لا ينقَعُ
من للمحبّ ترحّلت أحبابُه ... بلِوى العقيق عن العقيق وودّعوا
خذلَتْه أنصارُ التّصبّر في الهوى ... يومَ الفراقِ وساعدته الأدمعُ
قِفْ وقفةً عنّي ببُرقةِ عاقلٍ ... وسلِ الطّلولَ وهل يُجيك بلقَعُ
واستخبرِ الرّسمَ القديمَ وقل له ... أين الكثيبُ وأين ذاك الأجرعُ
بل أين سكّان الحِمى فلئِنْ سرَوا ... عن مُقلتي فلهم بقلبي مربَعُ
أضحت هوادجُهم لدُرِّ رُبوعهم ... صدَفاً وهنّ على الحدائجِ تُرفَعُ
وله:
هل بعد إقرارِ الدموعِ جُحودُ ... غلبَ الكرى وتمكّن التّسهيدُ
يا للرّجالِ لنازح متغرّب ... كثُر الغرامُ عليه وهو وحيدُ
أنا بين حالَيْ مُقتِرٍ ومبذّرٍ ... مُضْنى الفؤاد متيّمٌ معمودُ
صبرٌ ودمعٌ ليس لي بهما يدٌ ... فالصّبرُ يبخلُ والدموعُ تجودُ
أمذكّري تلك العهودَ برامةٍ ... أنَسيتَ ما أهدت إليّ زَرودُ
لا تثْنِ طرفَك عن ثنيّات اللّوى ... فلنا على تلك العهودِ عهودُ
ولقد وقفنا للوداع وضمّنا ... يومٌ بمنعرجِ اللّوى مشهودُ
جمعاً يفرّقنا الفراقُ ولم يزلْ ... شمْلُ الوداعِ يُبيدُه التّبديدُ
بلّغْ هُديتَ تحيّةً من عاشقٍ ... بالنّفسِ دون لِوى العقيقِ تجودُ
وأقرّ السّلامَ على الكثيبِ وقُلْ له ... هل ماءُ رامةَ بعدَنا مورودُ
يا عاذلَ العُشّاق إنْ هجروا وإنْ ... وصلوا فكلٌ بالجوى مجهودُ
دعهُمْ وما طُبِعوا عليه فإنّهم ... منهم شقيٌ في الهوى وسعيدُ
وله:
عتابٌ منك مقبولُ ... على العينين محمولُ
ترفّقْ أيه الجاني ... فعقلي فيك معقولُ
ويكفيني من الهِجرا ... نِ تعريضٌ وتهويلُ
ألا يا عاذلَ المشتا ... قِ إنّي عنك مشغولُ
وفي العشّاقِ معذورٌ ... وفي العشّاق معذولُ
أسُلْوانٌ ولي قلبٌ ... له في الحبّ تأويلُ
بمَنْ في خدِّه وردٌ ... وفي عينيه تكحيلُ
وجيشُ الوجدِ منصورٌ ... وجيشُ الصّبرِ مخذولُ
وله:
جفْنُ عيني شفّه الأرَقُ ... وفؤادي حشوهُ الحُرَقُ
من لمشتاقٍ حليفٍ ضنىً ... دمعهُ في الرّكبِ منطلقُ
أنا في ضِدّين نارِ هوىً ... ودموعٍ سُحْبُها دُفَقُ
بي حريقٌ في الفؤاد ولي ... مُقلةٌ إنسانُها غرِقُ
وحبيب غابَ عن نظري ... فدموعي فيه تستبقُ
غاب عن عيني فأرّقني ... فجفوني ليس تنطبقُ
قلت إذ لمَ العواذلُ واص ... طلحوا في اللّوْم واتّفقوا
وفؤادي فيه ذو قلقٍ ... ماعلى العُذّال لو رفَقوا
مذ نأت عنّي منازلُه ... ليس لي خلقٌ به أثِقُ
أخوه أبو المعالي ابن مسلم الشّروطي
وكان أصغر من محمود.
أذكره في أوان الصّبا، ودكّانه - في باب النّوبيّ - مجمع الظُرَفاء والأدباء، وهو يعمل شعراً، ويلقّنه صُنّاع الغِناء.
وتوفي بعد سنة خمس وأربغين، وهو شابّ.
ومن نظمه:
جرى دمعُه يوم باتوا دَما ... على إثرهم بعَقيق الحِمى
وصاحوا الرّحيل وزمّوا الرِّحالَ ... وساروا ووجدي بهم خيّما
تولّى الفريقُ أوانَ الفِرا ... قِ واقتسموا مهجتي أسهُما
وعيش علا يومَ صاحوا الرّحي ... ل صارت حلاوتُه علْقَما
وما ضرّ من جرحَتْ مُقلتا ... ه لو بعثَ الوصلَ لي مرهَما
بلا في الهوى وابتلاني الجَوى ... وكان أساس بلائي هُما
وكم لامني فيهمُ العاذلانِ ... فما سمِعت أذني منهما
وله:
نادى مُنادي البَيْن بالتّرْحالِ ... فلذلك المعنى تغيّر حالي
زُمّتْ ركابُهمُ فلمّا ودّعوا ... رفعوا على الأجمالِ كلّ جَمالِ
فجرت دموعي في خدودٍ خِلتُها ال ... ياقوتَ قد نُثِرت عليه لآلي
وتفرّق الشّملُ المَصونُ وقبلَ ذا ... لم يخطُرِ البيْنُ المُشتُّ ببالي
وله مسمّطة، يغنّى بها:
يا ريمُ كم تجنّىلِمْ قد صددتَ عنّاصِل عاشقاً مُعنّىبالوصلِ ما تهنّا
السّلسبيلُ ريقُوالشّهدُ والرّحيقُوالوردُ والشّقيقُمن وجنتَيْه يُجْنى
حتّامَ يا غزالُذا التّيهُ والدّلالُوالصّدُّ والمَلالُأفنى ولي يَفْنى
عذّبتَني فمهلالم ترْعَ فيّ إلاما كنتُ قطّ إلاأحسنتُ فيك ظنّا
يا فتنةَ الفتونِيا نُزهةَ العيونِإرحَمْ أخا شُجونِما نال ما تمنّى
يا بدرَ كلِّ بدرِفي نصفِ كلِّ شهرِيا منْ أطال فكرييا مَن به فُتِنّا
لم يرْقَ فيك جَفْنيمن عُظم طولِ حُزنيناحَ الحمامُ عنيفي دوحِه وغنّى
قد عيّروا ولاموامن شفّهُ السَّقامُما ينفَعُ الملامُمنْ في هواك جُنّا
صبٌ بكم عميدُأشواقُه تَزيدُقد شفّه الصّدودُأضحى بكم مُعنّى
فخر الدّين أبو شُجاع بن الدّهان
الفرَضي البغدادي
حبرٌ عالم، وبحر في الفضائل متلاطم، فقيه نبيه، نبيل وجيه.
رأيته ببغداد، وهو شابّ، يتوقد ذكاء وفطنة. وله اليدُ الطّولى في النّجوم وحلّ الزّيجات. وله شر حسن جيّد، وخاطر مجيد، ونفَس في النّظم مديد.
أنشدني لنفسه في قطب الدين بن العبّادي، وكان بينه وبين البرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ نوع منافرة، وكانت سوقه انكسرت به:
للهِ دَرّ القطبِ من عالِمِ ... طَبٍّ بأدواءِ الورىآسِ
مُذْ ظهرت حُجّتُه في الورى ... قام به البُرهانُ للنّاسِ
في عرف أهل بغداد: إذا أفلس أحدهم، وأغلق باب دكّانه، قيل: فلان قام للناس.
وأنشدني لنفسه:
أبو سعيدٍ الحكيمُ حبْرٌ ... قد فاق في علمه البرايا
إذا رأى الخطّ مستقيماً ... خرّ له قائمَ الزّوايا
وأنشدني لنفسه في ثقة الدولة، أبي الحسن، عليّ بن الدُرَيْني، وقد مرض:
نذَرُ الناسُ يومَ بُرئِك صوماً ... غيرَ أنّي نذرتُه أنا فِطْرا
عالماً أنّ ذلك اليومَ عيدٌ ... لا أرى صومَه وإنْ كان نَذْرا
وجرى حديثه عند الحكيم أوحد الزمان أبي الفرج بن صفيّة فذكر أنّه يعرف من الهندسة طرفاً صالحاً. وأما شعره، ففي غاية الجودة. وأنشد له من قصيدة في جمال الدين محمد بن عليّ بن أبي منصور بالموصل حين سافر إليه:
قابلتُه فانجبرت كسوري ... وكنتُ في مُربّعِ التّعثيرِ
وله في الوزير عون الدين بن هُبَيرةَ، وقد قرِّب حصانه - ليركب - فجمح، من قصيدة:
وبالأمسِ لما أنْ بدت لطِمِرِّه ... مهابتُه أضحى من الوحش أنفرا
على أنّه ما زال يغشى به الوغى ... ويُوطِيه أطرافَ الوشيجِ مُكسّرا
جوادٌ علت منه الجوادَ مهابةٌ ... فأُرعِد حتى كادَ أن يتأطّرا
وما الطِّرفُ عندي بالمَلومِ وخوفُه ... حقيقٌ به لما اجتلى منه قَسْوَرا
وماجَ لأنّ البحر بعضُ صفاتِه ... فساحَ ولاقى من يمينَيْه أبحرا
وله يهجو أعور:
من عجب البحرِ فحدِّثْ به ... بفرْدِ عينٍ ولسانَيْنِ
الأمير أبو شُجاع بنُ الطّوابيقي
من باب العامّة ببغداد.
له نظم رائق، وشعر فائق. وهو بالموصل. توفّي سنة تسع وستين.
حكى أبو المعالي بن سلمان الذّهبي: أنّه كان صحبه لما قصد أمير قلعة فنَك، وبات ليلتين لم يدخل. فلما عاد الأمير من الصّيد، دخلها، وأنشده من قصيدة:
يا ناصرَ الدّين سمعاً من فتى علِقَتْ ... يداهُ منك بحبلٍ غيرِ مُنبَتِك
لئن غدوتَ لصيدِ الوحشِ في عُدَدٍ ... من النّيازكِ والبتّارةِ البُتُكِ
لَصِدْتُ منك بلُقياك السّماحةَ وال ... إقدامَ والمجدَ في ثِنيَتيْ حِبا ملِك
وعُدّني مدَحٌ تُلهيك عن غُررٍ ... لو ناجتِ الشمسَ لانحطّت من الفلَكِ
أقِلْ وليّك قولَ الكاشحين له ... يا ويحَه عادَ بالحِرمان من فنَكِ
ولا تكِلهُ الى عذرٍ تنمّقُه ... إذ ما عليه بترك العُذرِ من درَكِ
فحسبُه ليلتا سوء غدا بهما ... نزيلُ مُلكك يا مولاي كالملكِ
وأنشدني أبو المعالي الذّهبي، قال: أنشدني لنفس، يستهدي شراباً:
مولايَ قد زارني غلامٌ ... ينظُرُ من مُقلتَيْ غزالِ
يَميسُ كالغصن جاذَبْتُه ... في دَوْحِه نسمةُ الشّمالِ
مزّق بالهجرِ ثوبَ عُمْري ... وعادَ يرفوهُ بالوِصالِ
وهْوَ جليسي في صحنِ دارٍ ... من كلّ ما يشتهيه خالِ
وقد تحيّلتُ في طعامٍ ... يُغني أكيلاً عن الخِلال
والير في دارِه قُدورٌ ... فوق الأثافي بين المقالي
قد أحكمت طبخَها طُهاةٌ ... وصُفِّقَ الخمرُ بالزّلالِ
فانعَمْ بها قهوةً حراماً ... لزاهدِ الدّين في الحلالِ
قال الشّاتاني: وكتب إليّ من قصيدة:
الى حسنٍ نحتثّها لُغّباً حسْرَى ... حواملَ من حُرِّ المديحِ له وِقْرا
ومنها:
تجاوزتَ عن جُرمِ انبساطيَ مرةً ... وعدتَ فعاوِدْ بالنّدى مرةً أرى
ولما سافر الى الموصل، مدح - بديار ربيعةَ وديار بكر - أكابرها، وأشاع أشعاره، وأقام شائرها. وكان له خاطر لأبكار القوافي خاطب غير خاطئ، لكنّما أخمَصُه لذُرا أشرافِها واطئ.
ومن شعره، قوله:
قامت تهزّ قوامَه يومَ النّقا ... فتساقطَتْ خجلاً غصونُ البانِ
وبكت فجاوبَها البكا من مُقلتي ... فتمثّل الإنسانُ في إنساني
ومنها:
وأحبّكم وأحبّ حبي فيكمُ ... وأُجِلّ قدرَكمُ على إنساني
وإذا نظرتكمُ بعينِ خيانةٍ ... قام الغرامُ بشافعٍ عُريانِ
إنْ لم يخلّصني الوصالُ بجاهه ... سأموتُ تحت عقوبةِ الهِجْرانِ
أصبحتَ تُخرجُني بغير جنايةٍ ... من دارِ إعزازٍ لدارِ هوانِ
كدم الفِصادِ يُراقُ أرذلَ موضعٍ ... أبداً ويخرجُ من أعزِّ مكانِ
قد نسب هذه الأبيات إليه من أنشدَنيها، وكنت أظنّها لغيره.
وله من قصيدة:
زارَ وجُنحُ الظلامِ مسدول ... طيفٌ له في الدُجى تخاييلُ
والليلُ زِنجيُّ ليلِه حدَثٌ ... عليه من شُهْبه أكاليلُ
والبدرُ وسْطَ السّماءِ معترضٌ ... قد أشرقَ العرْضُ منه والطّول
ومنها:
أينَ تسيرونَ بالرِّكاب فقد ... ملّ السُرَى حاملٌ ومحمولُ
غزال
من عامّة بغداد.أنشدني لنفسه:
قد هاج ناراً بقلبي في الدُجى وَرْقا ... أنّت ورنّت ولم تلْقَ الذي ألقى
أوصيكِ يا وَرْقُ رِفقاًبالفتى رِفقا ... الصّبُّ بعد فراق الحِبّ ما يبقى
فارس المعروف بطَلّق
ذكر لي بعض أصدقائي من أهل بغداد: أنّه رأى من عقلاء المجانين بها - في زماننا - رجلاً، يقال له طلّق، وأنشدني لنفسه:
لا يغُرّنْك اللباسُ ... ليس في الأثواب ناسُ
همْ وإنْ نالوا الثّريّا ... بُخَلاءٌ وخِساسُ
كم فتى يُدْعى رئيساً ... وهْوَ الخسّة راسُ
ويدٌ تصلُح للقط ... ع تُفَدّى وتُباسُ
الحسن بن عبد الواحد الشهرباني
المعروف بابن عجاجة المعلّم.أنشدت له في ابن رَزين:
قبّح اللهُ باخلاً ليس فيه ... طمعٌ واقعٌ لمن يرتجيه
سِفلةٌ إنْ قصدْتَه يتلقّا ... ك على فرْسخٍ بكبرٍ وتيهِ
أحمقٌ رأسُه إذا فتّشوهُ ... وجدوهُ بضدّ إسمِ أبيه
هذه الأبيات، مضطربة في نفسها لفظاً ومعنى، فإنّ ألف الاسم ألف وصل، وقد قطعه؛ ثم الهجو في غير موضعه.
يوسف بن الدُرِّ البغدادي
أنشدني محمد المولَّد له - وذكر أنّه مات في عُنفوان شبابه بطريق مكّة سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وكان ذكيّاً - يهجو بعضم بالعين:
إنّ أبا سعدٍ الممشّي ... زمانَه أنت حين يمشي
مدوّرُ الكعبِ فاتّخذهُ ... لتلِّ غرسٍ وثلِّ عرشِ
لو رمَقت عينُه الثريّا ... أخرجها في بنات نعشِ
ما سمعت بألطف منها في هذا المعنى.
وأنشدني له من قصيدة، وكأنه نطق بحالته:
لهفي على أمل فُجِعت به ... في عُنفُوان شبيبةِ الأملِ
وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ له:
عذرتُك لستَ للمعروف أهلاً ... ولومُك في قصورك عنه ظلمُ
أتحسَبُني أقدتُ إليك نفسي ... ولي بك أو بما تأتيه علم
ظننتُ بك الجميلَ فخاب ظنّي ... وقال اللهُ بعضُ الظنِّ إثمُ
وأُنشدت له:
تِهْ علينا وتِهْ على الشمسِ حُسناً ... أنت أولى بالوصف منه وأحرى
أنت بدرٌ يَسري ونحن أُسارا ... ك وأنّى يكون للبدرِ أسْرى
لا وأجفانِك المِراضِ اللواتي ... سِحرُه لانعجامه ليس يُقْرا
لو رأى وجهَك الخليلُ بعيني ... قال هذا ربّي ولم يتبرّا
أوقعته هذه المبالغة فيما ترى، ونستغفر الله تعالى من مثل هذا القول.
وأنشدني له أيضاً:
ويْحي من المتوجّعين وأخذِهم ... روحي بكثرة قولهم ماذا وما
وانظُر لنفسك قلتُ قد أكثرتمُ ... إنّي نظرتُ فما رأيتُ سوى العمى
وأنشد له:
تنقّل السُقمُ من جِلدي الى جلَدي ... كما تنقّل من جفنيك في جسدي
وزاد ما بي وقلّ الصّبرُ واستعرت ... نارُ الغرام وفتّ الحُزنُ من عضُدي
وما شكوتُ بِلى جسمي الى أحدٍ ... ولا الشّكيّةُ دارتْ قطّ في خلَدي
يسُرّني سوءُ حالي في هواك وإن ... كلّفتَني في الهوى ما لا تنالُ يدي
وأستلذّ الذي ألقاه من ألمٍ ... وإنْ حسسْتُ بوقعِ النارِ في كبِدي
إني على حفظِ سرّي فيك مجتهدٌ ... وهكذا أنت فاحفَظهُ أو اجتهِدِ
كيلا تُحيطَ بنا علماً ضمائرُنا ... ولا يَشيعَ حديثانا الى أحدِ
وأنشد له:
آمري بالصّبر سلِّ ال ... رّوحَ دون الصّبرِ عنكا
فتْكُ أجفانِك بالعُش ... اقِ من سيفك أنكى
عبدُك المرحومُ أضحى ... مستجيراً بكَ مِنكا
نقص في الأصل
إيّاك أن تُدخلَهُ مكةً ... فإنّه يُخرجُها من يدَيْكَ
هذه، وإنْ كانت نادرة معجبة، غيرَ أنّ التّجرّؤ على مخاطبة الله تعالى بمثل هذا القول، يدلّ على اختلال الدّين والعقيدة. ونسأل الله أن يحفظ علينا الاعتقاد الصّحيح.
وأنشدني له بعض أصدقائي - ببغداد - فيمن تزهد:
قالوا تزّهدتَ فازدد ... تَ بالتّزهُّدِ بَرْدا
ألبستَ نفسكَ لِبْداً ... والثّلجُ يُلبِسُ لِبْدا
لكنّه يتندّى ... وأنت لا تتندّى
أبو محمد محمد بن الحسين بن هِلال الدّقاق
من أهل بغداد.
ذكره السّمعاني في الذّيل، وذكر: أنّه لقيه شاباً، متودّداً، كيّساً، وذلك في سنة ستّ وثلاثين. لقِي أسعدَ الميهَنيّ الفقيه، وشدا عليه طرفاً من العلم.
قال: سألته عن مولده، فقال: سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة.
ٍقال: أنشدني لنفسه قوله:
أترى لوعدك آخِرٌ مترقّبٌ ... أم هل يمدّ بنا الى الميعاد
فاليأسُ إحدى الرّاحتين لآمِلٍ ... قد ضمّ راحتَه على ميعاد
وقوله:
لولا لطافةُ عُذرِها لمُتيّمٍ ... بغريبِ ألفاظٍ وحُسنِ تلطّفِ
لتقطّعتْ منه علائقُ قلبِه ... لولا مِزاجُ عتابها يتعطّفُ
ابن قزمّي البغدادي
أبو المظفّر محمد بن محمد بن الحسين بن خزَمِّي الإسكافي. من أهل بغداد، شيخ من باب الأزَج. كان أيامَ الوزير عليّ بن طِراد.
وكان لي صديق من أهل باب الأزَج، يقال له الكافي أبو الفضل، ووعدني أن يمع بيني وبينه، فما اتّفق ذلك. وحمل إليّ بخطّه هذه الأبيات:
مدامعُهُ تُغرِقُ ... وأنفاسُه تُحرِقُ
وما ذاك أعجوبةٌ ... كذا كلّ من يعشَقُ
بنفسي شهيّ الدّلا ... لِ إن مرّ بي يُطرِقُ
فأُغضي له هيبةً ... وقلبي جوى يخفِقُ
بوجهٍ كشمسِ الضُحى ... أساريرُه تبْرُقُ
أكادُ لإشراقِه ... إذا ما بدا أصعَقُ
إلامَ أداري الجوى ... وأمحَضُ مَن يمذُقُ
وأُشفِقُ من لوعة الص ... :دود ولا يُشفِقُ
سِهامُ لِحاظِ الحبي ... بِ في كبِدي تُرشَقُ
وكاتبٌ خطّ العِذا ... ر في خدّه يمشُقُ
وهذه الأبيات:
لي حبيبٌ لانَ عِطْفا ... ليتَه قد لان عَطْفا
إنّ قلبي من هواه ... في حريقٍ ليس يُطْفا
أشتهي تقبيلَ عيني ... ه وصحنِ الخدِّ ألفا
ثمّ ضِعفَ الشّفعِ والوَتْ ... رِ وضِعفَ الضِّعف ضِعْفا
ثم طالعت مجموعاً، فوجدت له فيه هذه الأبيات المقطّعات، فمنها:
مَن لنَجِيّ الفِكَرِ ... مَن لحليفِ السّهَرِ
منْ للمَشوقِ المستها ... مِ الوالِهِ المُستَهتَرِ
من للجفونِ قرّحت ... بدمعها المنهمرِ
من لفؤادٍ نارُه ... راميةٌ بالشّرَرِ
واهاً لقلبي من هوىً ... دهاهُ بعد الكِبَرِ
واها له من خاطرٍ ... أسلمني للخطرِ
واهاً له من موردٍ ... سهلٍ عسيرِ المصدِ
أيُظلِمُ القلبُ وقد ... أشرق صبحُ الشّعَرِ
جارَ عليّ الحبّ وال ... حُبّ لئيمُ الظّفَرِ
ومن يذُقْ ما ذُقتُه ... من الغرامِ يعذرِ
سباه ممشوقُ القوا ... مِ بابليّ النّظَرِ
أهيفُ مهضومُ الحشا ... كالصّارمِ المذكّر
يَبسِمُ عن مفلّجٍ ... مرتّلٍ مؤشّرِ
وشفَتَيْن شفّتا ... كالأرجُوان الأحمرِ
وخاتم الحسن الذي ... عِيلَ به مُصطَبَري
يا حبّةَ القلبِ المَشو ... قِ يا سَوادَ البصَرِ
ليَبلُغنّ الحبُ بي ... ما لم يَسِرْ في خبرِ
حتى يقولَ قائلٌ ... كان أبو المظفّرِ
ومن أخرى:
لطفُ الخصورِ المُخطَفَهْ ... والطُرَرُ المُصفّفَهْ
والوجناتُ البضّة ال ... مُشرِقةُ المترّفَهْ
ولينُ أغصانِ القُدو ... دِ اللّدْنةِ المُهَفْهَفهْ
أبقت قلوبَ العاشقي ... نَ صبّةً مختطَفَهْ
فكم مريضٍ مدنَفٍ ... شِفاؤهُ لثمُ الشّفَهْ
ولا يبالي أن يُع ... دّ فعلُه من السّفَهْ
قالوا له الهائمُ لا ... يردعُه من عنّفَهْ
ولا نصيحٌ مُشفِقٌ ... هدّدَهُ وخوفَهْ
والنّفسُ للإنسان إن ... أنصفَ غيرُ منصِفَهْ
يحظى بما قدّمه ... وهمّه ما خلّفَهْ
وإنّما الدُنيا غرو ... رٌ خدَعٌ مُزَخْرفَهْ
مثلُ حُطامِ الزّرعِ تذْ ... روهُ رياحٌ مُعصِفَهْ
بعدَ أنيقٍ ناضرٍ ... أزهارُه مفوّفَهْ
ومن أخرى:
هاج له ذِكرَ الصّبا ... نسيمُ أنفاسِ الصّبا
وعادهُ عيدُ الجوى ... فبتَ صبّاً وصِبا
ولم يكن بعدَ النُهى ... أولَ ذي شيبٍ صبا
لله ريْعانُ الشّبا ... بِ زائراً ما أعجبا
أودتُه مآربي ... إذ لستُ أعصي أرَبا
ومن أخرى:
يا لجآذرِ العِينِ ... فِتنتي وتَحْييني
ما تزالُ تقتُلُني ... تارةً وتُحييني
والمُنى تقرّبُني ... والحِذارُ يُقصيني
والوصالُ ينشُرُني ... والفراقُ يَطويني
والبِعادُ يُمرِضُني ... والدنوّ يَشْفيني
يكرهُ النّصيحةَ في ... غِلظةٍ وفي لينِ
والمحبّ حالتُه ... حالُ الجانين
والفراقُ أقتلُ من ... وقعِ ألفِ زُوبِين
والحبيُ أحسنُ من ... زهرةِ البساتينِ
وله في الزُهد:
أستغفرُ الله الكريمَ الغفّارْ ... الواسعَ العفوِ الحليمَ السّتّارْ
على هَناتٍ سلَفت وأخطار ... لم يرتكبْها قطّ أهلُ الأخطار
طوبى لمن عقّبَه باستغفارْ ... فإنّ من شرِّ الذّنوبِ الإصرارْ
يُضِرّ بالمذنِبِ أيَّ إضرارْ ... إذ كان يُنسيه العظيمَ الجبّارْ
وهم كما قال العزيزُ القَهّارْ ... فيهم فما أصبرَهُم على النّارْ
سيعلَمون مَنْ له عُقْبى الدّارْ
أبو الفتح بنُ قران
كان في أيّام المُقتفي شيخاً مطبوعاً، مربوعاً يختِضبُ، خليعاً يلعب ويطرَب، في زيّ المتنسّكين، وصبغ المنهتكين، حلوَ المنادمة والتمسخُر، وقفاً على اللهو والتعثّر.
وسمعت: أنه تاب مرةً، ولبس الخِرقةَ، ثم عاد عن التّوبة في الحال، وقال:
بَسّي من الزُهدِ بَسّي ... قامت من الزُهْدِ نفسي
متى أراني صَريعاً ... مابين ج... وك...
وسخفُه أسقطه، وحبَطه، وهبَطه.
أحمد بن محمد بن شُميعة
من باب الأزَج.
رأيته ببغداد سنة إحدى وخمسين وخمس مئة في سوق الكتب، واستنشدته، ورأيت له خاطراً مطبوعاً، ورأيت من دأبه نظم قصائد مختلفة الأوزان والرويّ في قصيدة واحدة، يمدح بها الأعيان، ويكتب ذلك بالحمرة والألوان المختلفة.
أنشدني له قصيدة، علق بحفظي منها هذه الأبيات، وهي:
لا أشتكيها وإن ضَتْ بإسافي ... وإنّما أشكي من طيفه الجافي
ومنها:
حِقْفٌ لمُعتنِقٍ خمرٌ لُغتبِقٍ ... وردٌ لمنتشقٍ مسكٌ لمُسْتافِ
ومنها:
همُ الأحبّةُ إلا أنّ عندَهُمُ ... ما في المُعادينَ من خُلْفٍ وإخلافِ
وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ لابْن شُميعة:
وُدّ أهلِ الزّوراءِ زورٌ فلا يس ... كُنُ ذو خِبرةٍ الى ساكنيها
هي دارُ السلامِ حسْبُ فلا مط ... مَعَ فيها في غير ما قيل فيها
وتوفّي ابن شميعة بعد سنة خمس وخمسين.
وإذا جئتم ثنيّاتِ اللِّوى ... فلِجوا رَبْعَ الحِمى في خطَرِ
وصِفوا شوقي لسُكّان الحِمى ... واذكُروا ما عندكم من خبري
وحنيني نحوَ أيامٍ مضت ... بالغَضى لم أقضِ منها وطَري
فاتني فيها مُرادي وحلا ... لتمنّي القُرب منها سهَري
كنتُ أخشى فوقَه قبلَ النّوى ... فرماني حذري في حذري
آهِ وأشواقاً الى من بدّلوا ... صفْوَ عيشي بعدَهُم بالكدَرِ
كلّما اشتقتُ تمنّيتُُهُمُ ... ضاع عمري بالمُنى وا عُمُري
أبو الحسن عليّ بن أبي الفُتوح بن أحمد
ابن بكري الكاتب
من الحريم.والده مستعمل السّقلاطون لدار الخِلافة. وكان هو كاتباً في ديوان المجلس سنين، ثم صرفه الوزير.
فيه فضل وأدب. وهو من طبقات الشَّطْرَنْجيين ببغداد.
أنشدني لنفسه - ببغدادَ - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، بيتين له في سوداءَ، وهما:
يا مَنْ فؤادي فيه ... مُتيّمٌ ما يزالُ
إنْ كان للّيلِ بدرٌ ... فأنتِ للصُبحِ خلُ
وأنشدني لنفسه يستعيرُ كتاباً ممّنْ ألزم نفسه ألا يُعير أحداً كتاباً:
يا مَنْ أنابَ وتابا ... ألاّ يُعيرَ كتابا
قد رُمْتَ ذاك ولكن ... محبّةُ الشُكْرِ تابى
وأنشدني أيضاً لنفسه أبياتاً، عمِلها ارتجالاً بحماة حين كان بالشّام، وكان على شاطئ النّهر المعروف بالعاصي:
قعَدْتُ على عاصي حماةَ وقد بكت ... نواعيرُه والماء يضحكُ فيه
فهاج لقلبي صبوةً لم أصِبْ لها ... شبيهاً وهل يؤتى لها بشبيهِ
وما زال يهتاجُ الفتى كلّ رنّةٍ ... إذا ما نوىً شطّت بدارِ أبيهِ
وأنشدني لنفسه في بعض الأكابر، وكان بيده بنفسج:
يا من عُلاه على السّماءِ مُطلّةٌ ... وبفضله تتحدّثُ الأمصارُ
إن كان يظهَرُ للبنفسج خجلةٌ ... من طيب نشرِك راح وهْو بَهارُ
وأنشدني لنفسه، وذكر لي أنّها من قصيدة:
أمامكَ أوطارٌ وخلفَك أوطانُ ... فعزمك ما بين البواعثِ حيْرانُ
إذا شمَلت هزّتْك للشّوقِ صبوةٌ ... وإن جنَبَتْ هزّتْك للإلْفِ أشجانُ
وأنشدني لنفسه في الاشتياق، سنةَ إحدى وستّين وخمس مئة، قوله:
الشوقُ ألوانٌ وأوفاهُ ما ... كان الى أهلٍ وجيرانِ
لو قرّب الشّوقُ لإفراطه ... ناء الى ناءٍ لأدناني
وقوله مما نظمه قديماً بدمشق:
فتى الصوفيّ ما كان امتداحي ... لمثلك أنّني أرجو ثَوابا
ولكني سخِطْتُ على القوافي ... فصيّرْتُ المديحَ لها عِقابا
وقوله في مرأة عجوز، ولِعَتْ بدولابْ الغزْل والغزْلِ:
قد ترك الدولابُ من حبّه ... سِتّ أبي بكرٍ بلا عقلِ
لو كن دولاباً على دِجلةٍ ... يزرعُ زرعَ الهرْفِ والأفْلِ
ما جاز أن تعشَقَهُ هكذا ... محبّة الأولادِ والأهلِ
فكيفَ والدولاب من عتقه ... مكسّرُ الإجلِ والقتلِ
قد سئِمَ الخرّاطُ من مرّه ... إليه واستغنى عن الغزْلِ
وقوله في الأولاد:
أدعو إلهي أنْ يَقي ... من فِتْنَتي في فِتيَتي
فلدى الحياةِ وفي المما ... تِ تقيّتي وبقيّتي
راحوا ثلاثةَ فِتيةٍ ... سمعي فؤادي مُقلَتي
فهُمُ أصاغِرُ عِدّتي ... وهمُ أكابرُ عُدّتي
وقوله، مما يُطرّزُ على سستجه:
أنا في كفّ حاملي ... زينةٌ للأناملِ
أنا في وقفةِ النّوى ... واشتكاءِ البلابِلِ
إن جرَتْ سُحبُ دمعةٍ ... لحبيبٍ مُزايِلِ
صُنتَهُ عن وُشاتِه ... وعُيونِ العواذلِ
وله في تفاحة أُهديت له:
حيّا بتُفّاحةٍ فأحياني ... مواصِلٌ بعدَ طولِ هِجران
كأنّما ريحُها تنفّسُه ... ولونُها وردُ خدِّه القاني
وقوله في قوس البُندُق:
أنا في الكفّ هلالٌ ... وعلى الطّيرِ هلاكُ
حركاتي تترُكُ الطّيْ ... رَ وما فيهِ حراكُ
وقوله في الشّطرنْج:
أحَبُّ دعاباتِ الرّجالِ الى قلبي ... دُعابةُ شِطرَنجٍ أغادي بها صحبي
أُسالمُ فيها ثمّ أغدو محارباً ... فسلْمٌ بلا سِلمٍ وحربٌ بلا حربِ
وقوله في الشطرنج:
إنّما لعبُك بالشط ... رنْجِ للنّفسِ رياضهْ
فاهجُرِ الهُجرَ لديهِ ... لا ترِدْ يوماً حِياضَهْ
وتجنّبْ صاحبَ الجه ... لِ ومَنْ فيه غضاضَهْ
لا تُجالِسْ غيرَ ندْبٍ ... زانَهُ العقلُ وراضَهْ
وقوله من قصيدة، في مدح أمير المؤمنين المستنجد بالله، وقد خرج الى الصّيد:
في حفظِ ربِّك غادياً أو رائحا ... ولك السّلامةُ دانياً أو نازحا
أنّى حللت فروضةٌ مخضرّةٌ ... مما تُفيدُ نوافلاً ومنائحا
لمّا غدوتَ الصّيدَ في ملمومةٍ ... ملأ الفضاءَ قوانساً وسوابحا
جرتِ الظِّبا لك للعداة سوانحاً ... وجرت لأنفسها الظِّباء بوارحا
ما جارحٌ أرسلتَهُ إلا غدا ... في الصّيدِ إمّا قاتلاً أو جارحا
ماضي القوادم كاللّهاذمِ لو بغَى ... سبْقَ الوَميضِ شأى الوميضَ اللائحا
أو كلّ ممشوق رشيقٍ لا ترى ... منه الوحوشُ إذا رأته منادحا
يجري فلا يدري بوطأته الثّرى ... فتخالُه ريحاًعليه رائحا
متوسّعُ الشِدْقيْنِ ضاق بعدْوِه ... وُسْعُ الفَلاةِ جرى عليها جامحا
أصبحتَ في جِدِّ الحروبِ وهزلِها ... متوحّدَ الإقدامِ فيه ناجحا
فاسْلَمْ أميرَ المؤمنين لأمّةٍ ... أحييتَها عدلاً وفضلاً راجحا
وهو مقيم ببغدادَ، يتولّى بعض الأشغال للخليفة.
تمّ الجزء الأول بعون الله ومنّه من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني رحمه الله يتلوه، في الجزِء الثاني، إن شاء الله تعالى باب في محاسن أهل العلم والأدب والفقه والشّعر، وأولهم الشيخ أبو محمد بن الخشّاب النحويّ، والحمد لله وحدَه، وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلامه /بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة
باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان سواد بغداد
و أعمالها شرقيها وغربيها
منهم:السديد أبو نصر محمد بن أحمد
بن محمود الفروخي الكاتب الأواني
من قرية يقال لها أواني بدجيل. وهي ذات سوق كبير كبلدة كبيرة.
كاتب بارع، عبارته فصيحة. حاسب صانع، جماعته صحيحة. ناظم، ناثر، عالم، شاعر.
إذا أنشأ وشى، ومن كأسه الفهم انتشى. وإذا حرر حبر، وعن الحسن عبر. وإذا سطر سطا بحسام قلمه. وإذا ترسل أرسل برهام كلمه. وإذا نطق فتق ورتق، وكأن نجم الجوزاء بغرر منطقه تمنطق. وإذا سرد درس النثر درس ربع النثرة. وإذا أزهرت زهره ظهر خجل الزهرة. وإذا حلى، حوى القدح المعلى. وإذا نفش فصوص فصوله، هبت قبول قبوله، وإذا بعث كتاباً أتاه رسول رسوله. معرب موجز في نثره. مغرب معجز في شعره.
رسائله متسقة الرسل، وفضائله مغدقة الوبل. ماهر، برهام إبداعه هامر. وحاذق، للضرب باللبن ماذق. عسلي الكلام، أسلي الأقلام، أسدي الإقدام. صوله بالقول، لا بالقوة والحول. من عبارته حميا أوانى عصرت، وألسنة الإطرء على فضله قصرت. غريب في الزمان ليس له ضريب. كلامه سهل ممتنع بديع بعيد قريب.
فأين أنت من راحه واحتساء أقداحه، وقدح زناده؟ فهلم إلى ناديه وناده، تفز باقتباس أنوار أنفاسه، واختلاس آثار أنقاسه، وتصدر من مورده ريان، وتصبح بالاستفادة منه جذلان.
كان شيخاً كبيراً، يفوح منسوجه عبهراً وعبيراً، ويلوح ممزوجه بطراز السجع منيراً. وكانت تلمع شيبته نوراً، قد استبدلت من المسك كافوراً.
رتبه الوزير عون الدين بن هبيرة - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة - في أعماله ب الهمامية و واسط، وأنا نائب الوزير بها - كاتباً معي مستوفياً، فاستسعدت بلقائه وكنت لحقوقه موفياً. فلم يلبث في العمل إلا مدة شهرين، فأصعد إلى بغداد صفر اليدين. وسمعت أن الوزير رتبه في موضعين، وأدركه حين الحين، بعد أن فارقته بسنتين. روح الله روحه، ونور ضريحه.
أنشدني لنفسه ب الهمامية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة:
ما لعينٍ، جنت على القلب، ذَنْبُ ... إنّما يٌرسل الّلحاظَ القلبُ
والهوى قائدُ القلوب. فإنْ سلّ ... طَ جيش الغرام، فالقلب نَهْبُ
أحياة بعدَ التّفرُّق يا قل ... ب؟ فأين الهوى؟ وأين الحبُّ؟
كان دعوى ذاك التَّأوُّه للبَيْ ... نِ، ولم ينصدع لشملك شَعبُ
إنَّ موت العشّاق من ألم الفُرْ ... قة والبَيْن، سُنَّة تستحبُّ
وعلاجُ الهوى، عذاب المحبّي ... نَ. ولكنّه عذاب عَذْبَ
زَوِّدِ الَّطرْفَ نظرةً، أو فمُتْ وَجْ ... داً، فهذا الوادي وذاك الّسِربُ
واسألِ الرَّكْب وقفة، فسعى يُنْ ... جِدُك اللّحظُ إن أجاب الرَّكْبُ
واستعنْ بالدّموع، فالدّمع عون ... لك إنْ ساعد المدامع سكبُ
وتبصَّرْ نحوَ العَقيق جُذَيَا ... تٍ على بُعدها تلوح وتخبو
فبذاك الجوّ الممنَّع أوْطا ... ريَ والقلبُ والهوى والصَّحْبُ
وأنشدني لنفسه، وقال سئلت أن أعمل أبياتاً على هذا الاقتراح فعملت. وهي في غاية اللطف والرقة:
يا صاحبَيَّ اسعِداني ... على الَّلَييْلِ الطُّوَّيِلْ
وعلّلاني بَبرد ... من النَّسيم العُلَّيِلْ
ويا حُداةَ المطايا ... رفقاً علي قليل
في هذه الدار قلبي ... رهنٌ بحّبِ غُزَّيِلْ
أسالَ دمعي، وألْوَى ... عنّي بخَدٍّ أُسَيِّلْ
ما زحته، فرماني ... بسهمٍ طَرْفٍ كُحّيِلْ
بُدَيْرُ تٍمٍّ، تراه ... تحتَ اللِثام هُلَّيِلُ
يَميس مثلَ قَضيب ... من فوق رِدْفٍ ثُقَّيِلْ
وله في مدح الوزير عون الدين تاج الملوك، سيد الوزراء، أبي المظفر يحيى، بن محمد، بن هبيرة ظهير أمير المؤمنين، وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وأنشدني لنفسه القصيدة بالهمامية:
سرى والليلُ غِربيبْ الإِهابِ ... وفرعُ ظَلامهِ نامي الخِضابِ
فأذكرني ثغوراً من لآَلٍ ... تَبَسَّمُ عن سُلاف من رُضابِ
هي الأحلام كاذبة الأماني ... فكيف أروم صدقاً من كِذابِ؟
وكيف أحوزِ خّلاً من خَيال ... وأطمَعُ في شراب من سَراب؟
سقى الله العِراقَ وساكنيهِ ... بَواكرَ مُسْبِلٍ داني الرَّبابِ
وخصَّ بذاك ربعاً، حلَّ منه ... محلَّ الخالِ من خدّ الكَعابِ
به خلّفت قلبي يومَ زُمَّتْ ... على عجل، لفُرقته، رِكابي
فإنْ ظَفِر الزَّمان، بحدّ ظُفْرٍ، ... بقلبي، أو بنابٍ غيرِ نابي،
فكم قد جاء بالعُتْبَى فأغنى ... وأغنى عن مطاوَلة العتاب
إلامَ أبيِت في طمع ويأس، ... وأُصبح بين رَوْح واكتئاب؟
وأقتحم الظَّلامَ بلا دليل، ... وأعتسف البلادَ بلا صِحاب؟
ولي من جود عون الدّين عونٌ ... به يَغْنَى المشيب عن الشَّباب
وطَرْفُ رجايَ، عنه غيرُ مُغْضِ ... وطِرْفُ نَداه عنّي غيرُ كابِ
أقول لمشتكي الأزمان: صَمْتاً، ... فبحرُ نَوالِه طامي العُبابِ
إذا ما البرقُ أخلفَ شائميه ... وضَنَّ بقَطره جَوْنُ السَّحابِ
وأمحلتِ البلاد، وعُدَّ ظُلماً ... على ساري الدُّجَى ظُلْمُ الوِطابِ
وعطِّلت القِداحُ، فعُدْنَ غُفْلاً ... وعُرِّيتِ الأكفّ من الرِّبابِ
وعُطِّل موقد النّيران ليلاً، ... وبات بحرِّ ألْسِنةِ الكِلابِ
وعزَّ الفَصدُ من عَجَف، وأمسى ... قِرى الأضياف أكباد الضِبّاب،
فسمعك للنِّداء إلى طُهاةتُذيل نفائسَ الرُّدُح الرِّحابِ
لَدى ملكٍ منيعِ الجارِ، حامي ال ... ذِمّارِ، معظَّمٍ، سامي القِبابِ
ألا يا عاقرَ البِدَرِ العوالي ... إذا ضَنَّ الجوادُ بعَقْر نابِ،
بدأتَ مؤمّليك بلا سؤال، ... وقابلتَ الوفود بلا حِجابِ.
فما عَذْراءُ من جُون الغَوادي ... تَهادَى في سكون واضطرابِ،
تكاد تَسِحُّ وجهَ الأرض، زحفاً ... عليها، في دُنُوّ واقترابِ
إذا سحَّت مدامعها بكاءً ... تبسَّمَ ضاحكاً زَهَرُ الهِضابِ
كأنَّ على الثَّرَى منها جُماناً ... تنظمه الرُّبا نظمَ السِّخابِ،
بِأغزرَ من نَداك إذا توالى ... فأغنى وافِديك عن الطِّلابِ.
وما قاضٍ على المُهَجات ماضٍ ... بأرواح الكُماة إلى ذَهابِ
إذا ما قابلته الشَّمس، أجرت ... بِمَتْنَيْهِ شعاعاً من لُعابِ
تقاسم خلفَه ماءٌ ونار ... أذيبا من صفاء والْتهابِ،
بأمضى من يَراعك يومَ رَوْعتُفَلُّ به الكتائب بالكِتابِ.
وما هُصَر أبو شِبلين ضارٍ ... يصول بِمْخَلب وبحدّ نابِ،
له نَحْضُ الفريسةِ حينَ تبدو ... وأعظُمها لنَسْر أو عُقابِ
ترى جُثَثَ الكُماة لديه صَرْعَى ... معفَّرةَ الجِباه على التُّرابِ
إذا ما غابَ عن غابٍ، أحالت ... عليه من الطَّوَى طُلْسُ الذِّئابِ
فتُصبحُ حوله الأشلاءُ نَهْباً ... مقسَّمة بأكناف الشِّعابِ،
بأثبتَ منك جأشاً في مَقامينوب الرّأي فيه عن الضِّراب.
وما عانِيّةٌ يَهْدِي سَناها ... لَدى الظّلماء ضُلالَ الرِّكاب،
تَنَفَّسُ عن نسيم من عبير، ... وتبسِم عن ثغور من حَبابِ
كأنَّ كؤوسها ماء جَمادٌ ... يَشِّف سَناه عن ذهب مُذابِ،
بأحسنَ منك بِشراً وابتساماً،وأعذبَ من خلائقك العِذابِ.
فكيف ينال شَأْوَك ذو فَخار؟ ... وأين ذُرا العِقاب من العُقاب؟
فَضَلْتَ بني الزَّمان عُلىً ومجداً ... كما فضَلَ الثَّواب على العِقابِ
وزيرٌ، دوَّخَ الأملاك بأساً ... فقِيدَتْ بينَ طوعٍ واغتصابِ
وبَزَّ عزيزهَا، فعَنَتْ إليه، ... ولم تطمَحْ لفَوْت من طِلابِ
وذَلَّلَ للخِلافة كلَّ مولى ... عزيزِ الجارِ، ممنوعِ الجَنابِ
وقاد لها الصِّعابَ مصعّراتٍ، ... وأبعدُ مطلبٍ قَوْدُ الصِّعابِ
أمولانا أجِبْ عبداً، توالت ... سِنُوه بَيْنَ بَيْنٍ واغترابِ
وعاد مُحَلأً عن كلِّ ورد ... أخا ظَمَأ، يُذادُ عن القِرابِ
وأقسم ما جهِلتُ الحزمَ. لكن ... قضاءٌ، حِرت فيه عن الصَّوابِ
وما ينفكّ مدحُ علاك ديني ... وما ينفكّ نَشْرُ نَداك دابي
نهاري في ثناء مستطاب، ... وليلي في دعاء مستجابِ
وكيف يحُدّ بِرُّك لي ثناءً، ... وقد أربى على حدّ الحسابِ؟
وليس سوى رجائِك، لي ملاذٌ ... يَمُنُّ بأوبة بعد اجتنابِ.
قال ولده المهذب محمود: هذه القصيدة، نفذها من الموصل، يستأذن في العودة، وكان بعد لخوف.
وله أرجوزة على نظم لفظاتٍ، إذا كتبت بالظاء كانت بمعنى، وإن كتبت بالضاد كانت بمعنى، خدم بها الوزير عون الدين بن هبيرة. كتبها لي - بعد موته - ولده محمود بخطه، وهي:
أفضلُ ما فاه به الإِنسانُ ... وخيرُ ما جرى به اللسانُ
حمدُ الإله، والصَّلاةُ بعدَهُ ... على النَّبيّ، فَهْيَ خير عُدَّه
محمدٍ وآلِه الأبرارِ ... وصحبه الأفاضل الأخيار.
وكلُّ ما ينظم للإفادَهْ ... فذاك منسوب إلى العبادَهْ
لا سِيَّما في مدح عون الدِّينِ ... مخجلِ كلِ عارضٍ هَتُونِ
مولىً، سمت بفخره جدودُه ... وابتسمت بنصره جدوده
واستأنست بقصده الهَواجِل ... واستوحشت لوفده الهَواجِل
مَنْ حكَّم الآمال في الأموال ... تحكُّمَ الآجال في الرِّجال
ورَدَّ أزْلَ الحادثات دَغْفَلا ... فالدَّهرُ عن أبنائه قد غَفَلا.
وقد نظمت عِدَّة من الكَلِمْ ... في الظّاء والضّاد جميعاً تلتئمْ
لكنّها مختلفاتُ المعنى ... يعرِفها منْ بالعلوم يُعْنَى
فاسمَعْ بُنَيَّ من أبيك سردَها ... وافهمْ هُديِتَ حصرَها وعَدَّها
واشكُرْ لمن وسمتها بخدمتِهْ ... حتّى أتت عاليةً كهمَّتِهْ
وابْدَأْ إذا قرأتَها بالظّاء ... وثنِّ بالضّاد على استواء
تقول: هذا الظَّهْرُ ظهرُ الرَّجُلِ ... والضَّهْر أيضاً قطعة من جبلِ
والقيظُ حَرٌّ في الزّمان ثائرُ ... والقيض في البيضة قشر ظاهرُ
والظَّنُّ في الإِنسان إحدى التُّهَمِ ... والضَّنُّ نعت للبخيل فاعلمِ
والحنظَلُ النّبتُ كثيرٌ معروفْ ... والحنضَلُ الظِّلُّ المديد المألوفْ
والظَّبُّ وصف الرَّجُلِ الهَذّاءِ ... والضَّبُّ معروفٌ لدى البيداء
والمَرَظُ الجوعُ المُضِرُّ فاعلمِ ... والمرضُ الدّاءُ الشّديدُ الألَمِ
وهكذا الحجارةُ الظَّرِيرُ ... والرَّجُل الأعشى هو الضَّرِيرُ
وفي النَّبات ما يُسَمَّى ظَرْبا ... وقد ضربتُ بالحُسام ضَرْبا
وكلّ ذي وجه قبيح ظِدُّ ... والخصمُ في كلّ الأمورِ ضدُّ
ومجمَعُ الحجارةِ الظِرابُ ... والنَّزْوُ في البهائم الضِّرابُ
والضّربة النَّجْلاء تُسْمَى ظَجَّهْ ... وكَثرة الأصوات أيضاً ضَجَّهْ
وزوجة المَرْء هيَ الظَّعِينَه ... والحِقدُ قد يعرف بالضَّعِينَه
وهل يؤوب قارظٌ مفقود؟ ... وقارض بالسِّنّ هل يُفيد؟
وللرِجال والسّباع ظُفُرُ ... والرَّجُلُ القصير أيضاً ضُفُرُ
ثمَّ سوادُ الليل أيضاً ظُلْمَهُ ... والسَّهَرُ المُفْرِط فَهْوَ ضُلْمَهْ
وورمُ الأحشاء يكنَى فِظَّهْ ... والوَرِقُ اللُجَيْنُ أيضاً فِضَّهْ
وكلُّ ما يفسد فَهْوَ ظِرُّ ... والصَّخرةُ الصَّمّاء أيضاً ضّر
والنَّبْتُ ما بين الرِّمال ظعفُ ... والعجزُ في الشّيخ الكبير ضَعْفُ
والجسمُ فيه جلدة وعظمُ ... ومَقْبِضُ القوسِ النّقيّ عَضْمُ
واعلَمْ بأنّ البيظَ ماءُ الفحلِ ... والبيضُ لا يجهله ذو عقلِ
وهكذا يكتب بيظ النَّمْلِ ... بالظَّاء، والبيض بضاد أُمْلِي
والزَّرْبُ حولَ الغَنَم الحَظِيرَهْ ... والقومُ في مجمعهم حَضِيرَهْ
والصَّفحةُ الصَّغيرة الظِّبارَهْ ... والكتب قد جَمَّعْتُها ضُبِارَهْ
وقيل: أصلُ الحافرِ الوظيفُ ... وكلُّ وقف فاسْمُه وضَيِفُ
والنَّصرُ فَهْوَ ظَفَرٌ وظَفْرَهُ ... والجَدْلُ في الشّعور أيضاً ضَفْرَهْ
والغيظُ ما يَعْرِض للإنسان ... والغَيْضُ غيضُ الماء في النُّقصان
والمنطق العَذْبُ الشَّهِيُّ ظَرْفُ ... وناعمُ العيشِ الرَّخِيّ ضَرْف
وعَظَّتِ الحرب إذا ما اشتدَّتْ ... ثُمَّ السِّباع والذِّئاب عضَّتْ
وحرَّم اللهُ الزِّنى وحَظَرا ... وغاب زيد بُرْهَةً وحَضَرا
وجودُ مولانا الوزيرِ ظلُّ ... ينكره من قد عراه ضَلُّ
مَن بات في جِواره وظَلا ... فعن سبيل رشده ما ضَلا
فأعْيُنُ الوَفْدِ إليه ناظِرَهْ ... وأوجهُ الرِّفْدِ إِليه ناضِرَهْ
لا مضمحلٌ جودُه ولا ظجرْ ... ولا أذىّ يفسده ولا ضَجَرْ
قد بات في الفخر بلا نظير ... والصُّفْرُ لا يُعْدَلُ بالنَّضيرِ
وفاظت الأنفس من أعدائه ... وفاض بحر الجود من عطائه
والحظُّ حظّي عند فوز قِدْحِي ... يحُضُّه على استماع مدحي
لا بَرِحَتْ تخدمِهُ الأيامُ ... وترتعي في ظِلّه الأنّامُ
ما سَبَحَتْ بالأنجم الأفلاكُ ... وسَبَّحَتْ في الظُّلَم الأملاكُ
وشرّقت في فَلَكٍ نُجومُ ... واتَّسقت في مسلكٍ رُجومُ
وأنشدني لنفسه ب الهمامية، سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، في تعريب معنى بيت بالفارسية، وكتب بها إلى الوزير:
قل للوزير، أدام الله دولته: ... يا أعظمَ النّاسِ حظّي كيف يلتبس؟
هذا غلامي وبِرذَوْني على خطر ... من فرط جوعهما ما فيهِما نَفَسُ
وإِنْ تدفَّعَ هذا اليوم بي، فغداً ... يمشي غلامي، ولا يمشي بيَ الفَرَسُ
وسافر إلى بلد، فلم يحصل إلا على نزر يسير، وكان طامعاً بجود كثير، وحاسب نفسه، فوجده بمقدار نفقة الطريق، فقال:
نادَوْا: هَلُمَّ إِلى النَّدَى، فتسابقتْ ... من كلّ ناحيةٍ بنو الآمالِ
ثمَّ اعترتهم للسَّماح ندامةٌ ... وتفكّرٌ في حفظ بيت المالِ
أعطوا محاسبةً، فما زادوا على ... زاد الطريق وأجرة الحمّالِ
الشيخ أبو محمد العكبري
عكبرا: قرية مجاورة ل أوانى.تلمذ له أبي منصور الجواليقي في الأدب، وقضى من فوائده جميع الأرب.
لقيته ب بغداد، في سوق الكتب، عصراً: ينشد لنفسه شعراً، من قصيدة في مدح علي، بن طراد، الزينبي الوزير، يصف الفرس. فاستنشدته، فأنشدني:
وما شازبٌ للعَسجَديّ إذا انتمى ... تُضَمِّرُهُ حَوْلاً غَزِيَّةُ أو زِعْبُ
يطوف به الوِلدانُ في كلّ غُدوة ... تعّللُه بالقَعْب، يَتْبَعُه القَعْبُ
طواه الطِّرادُ بالأصائل والضُّحَى ... وقد لحِق الإِطْلانِ واضطمرَ القُصْبُ
فأخلاقه شَغْبٌ، وغايتُهُ نَهْبُ، ... وإِروادُهُ سَكْبٌ، وإِحضارُه صَبُّ
بأسبقَ منه للمُغالِي، ورُبَّماكبا، وعليٌّ في المكارم لا يكبو
المغالاة: المسابقة في الرَّمي، ويستعمل في غيره استعارةً.
أبو تراب علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب
العكبري
ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: ولد ب عكبرا، ونشأ بها. ثم انحدر إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو. ثم انحدر إلى البصرة، وصار كاتب نقيب الطالبيين بها، وأقام مدةً. ثم رجع إلى بغداد في سنة تسعين وأربع مئة، وأقام ب الكرخ وسكنها، وولي الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وخمس مئة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وأربع مئة، فبلغ عمره تسعين سنة.قال: أنشدني ولده أبو علي لوالده علي العكبري، وذكر أنه أنشده لنفسه:
لا يغتررْ مَنْ آمالُه طمَعٌ ... إلى الدَّنايا مُوَفِّراً مالَهْ
فإِنَّ أعماله تورّطه ... حين يراها في الحشر أعمى لَهْ
قال: وأنشدني أبو علي، بن أبي تراب علي، قال: أنشدني والدي لنفسه:
حالي، بحمد الله، حالٍ ِجيدُهُ. ... لكنّه من كلّ حظّ عاطلُ
ما قلتُ للأيّام قولَ معاتب ... فالرِّزق يدفع راحتي ويُماطِلُ
إلاّ وقالت لي مقالةَ واعظٍ: ... ألرِّزقُ مقسومٌ، وحرصُك باطلُ
الشيخ أبو المعالي سعد بن علي
الوراق الكتبي الحظيري
من الحظيرة مجاورة ل عكبرا.أبو المعالي ذو المعاني، التي هي راحة المعنى العاني؛ وراق، لفظه رق وراق، وكسا غصنه الأوراق، وهلال معناه الإشراق.
ذو فنون، غضة الأفنان، وعيونٍ، تقر بها عيون الأعيان، ورهونٍ، يستبد بها عند الرهان.
ضاع عرفه، وما ضاع عرفه، وسبق في إنشاء طرفه طرفه، وبخس حظه الزمان فجرعه صرفه صرفه. فهو بيع الكتب على يده متعيش، وعلى القناعة عن غيره منكمش، وعلى الأنس بالعلم بما سواه مستوحش.
ذكيُّ، ذكاء ذكائه تطلع على نشر له في الأدب ذكي. ألمعي، يذيق كل فصيح ببلاغته ألم عي. حظيري، ينال الصادي من حظيرة دره حظ ري. كتبيٌّ، يعرف الكتب وما فيها، والمصنفات ومصنفيها، والمؤلفات ومؤلفيها.
له التصانيف الحسنة، التي اتفقت على إطرائها الألسنة، وثنت إليها من الفضلاء عنانها الأثنية المستعذبة المستحسنة.
نشر نثره وشي بوشيه، ونجم نظمه نجم في سماء وعيه، و نقاش الصين سرق من سرقه، وصناع صنعاء مطلقة بانقطاعها في طلقه.
المسك في الطيب دون ذكره، والعنبر معرب عن بره.
وجوده ب العراق بين الطغام، وجود الذهب في معدن الرغام.
جامع الكتاب النفيس، الموسوم ب لمح الملح في التجنيس، ومؤلف كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز، وقائل القول المستجاد، والشعر المستفاد.
نظمه بديع صنيع، وخاطره في إبداعه وإيداعه كل معنى حسن جريٌّ سريع، وشعار شعره المجانسة والمطابقة، والمبالغة في إعطاء معانه حقه والمحاققة. فشعره مصرع مرصع، معلم بالعلم ملمع. برده مسهم مفوف وسهمه مفوق، وعوده رطيب مورق وشرابه مروق، وبحره فياض، ودرعه فضفاض، وضرغامه للفضل فارس، و فرسه على طرف الفصاحة فارس، سمعت بشائر سيره الحجاز و فارس.
سوق الأدب قائمة بمكانه في سوق الكتب، وإذا حاورته لا تسمع منه غير النكت والنخب. قلبه قليب المعنى، ونحره بحره، وصدره مصدره، وسحره سحره، وخاطره غيثه الماطر، وليثه القاهر، وجنانه من الجنان، فإنه معدن الغر الحسان، ولسانه كالسنان، والعضب اليمان، وخطه كنقش الممزج حلو، وكالممزوج المصرف صفو، ومن كل عيب خلو.
رائق الكلام رائعه، وشائع في البلاد ما يطرز به وشائعه. عجيب الفن غريبه، غض الفنن رطيبه.
مقطعاته أكثر من قصائده، فإنه يقع له معنى فينظمه بيتاً أو بيتين في فرائده.
وقد ألف كل مؤلف طريف، وأودعه كل كلام لطيف، ولا يكون اعتناؤه - أكثر زمانه - إلا بالجمع والتأليف، وتصريف القول في التصنيف.
ولم يزل مجمع الفضل دكانه، ومنبع الفضل مكنه. وكنت أحضر عنده، وأقدح زنده، وأستنشق بانه ورنده، وهو ينشدني ما ينشيه، ويسرح خاطري فيما يوشيه.
أنشدني لنفسه في وصف العذار، مقطعاتٍ أرق من الاعتذار، غاص على ابتكار معانيها بالافتكار.
فمنها، قوله من الأبيات العذاريات:
مُدَّ على ماء الشّباب، الَّذي ... بخده، جَسْرٌ من الشَّعْرِ
صار طريقاً لي إلى سَلْوَتي ... وكنت فيه موثَقَ الأَسْرِ
وقوله أيضاً:
إن لم يَنَمْ لك وهْوَ أَمْ ... رَدُ، نامَ وهْوَ مُعَذِّرُ
فالنّومُ يعسُر في النَّها ... ر، وفي الدُّجَى يتيَسَّرُ
قوله، وقد شبه العذار باللجام:
ومُعَذِّرٍ: في خدّه ... وردٌ، وفي فمه مُدامُ
ما لانَ لي حتَّى تَغَشّ ... ي صبحَ عارِضهِ الظَّلامُ
والمُهْرُ، يجمَحُ تحتَ را ... كِبه، ويعطِفُه اللِجامُ
وقوله:
أحدقت ظلمة العِذار بخَّديْ ... هِ، فزادتْ في حبّه زَفَراتي
قلتُ: ماءُ الحياة في فمه الآ ... نَ، فطاب الدُّخولُ في الظُّلُمات
وقوله:
قالوا: الْتَحى، فاصْبُ إلى غيره ... قلت لهم: لست إِذَنْ أسلو
لو لم يكن من عسلٍ ريقُه، ... ما دَبَّ في عارضه النّمْلُ
وقوله في المعنى:
قلتُ، وقد أبصرته مقبِلاً ... وقد بدا الشَّعر على الخدِّ:
صعودُ ذا النَّملِ على خدّه ... يشهَدُ أنَّ الرِّيق من شُهْدِ
وقوله:
ومُهَفْهَفٍ، شبَّهْتُه شمس الضُّحى ... في حسن بهجتها وبُعد مكانِها
قد زاده نقش العِذار محبّةً ... نقشُ الفُصوص يَزيد في أثمانِها
وقوله أيضاً في الخال والعِذار:
شفَّني من سيّدي حَسَنٍ ... خالُ خدّ، زاد في أَلمي
خِلته، إذْ خُطَّ عارضُه، ... نقطةً من عثرة القلمِ
وقوله في مُخْتّطٍ:
يا آمري بالصَّبر عن رَشَأٍ ... قلبي يَحِنّ إلى مَآرِبِهِ
دعني، فصادُ الصَّبرٍ قد قُسمت ... ما بينَ حاجبه وشارِبِهِ
وأنشدني لنفسه أيضاً مقطعات، في معانٍ شتى.
فمنها، قوله في غلام تحت فمه شامة صغيرة:
قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دُونَ فيه: دَعِ الملامةَ فيهِ
إنّما الشّامة التَّي عِبتَ فيه ... فَصُّ فَيْرُوزَج لخاتم فيهِ
وله في غلام أشقر الشعر:
وأشقر الشَّعرِ، من لطافته ... يجرَحُ لَحْظُ العيونِ خدَّيّه
فإن بدا مَنْ يشُكّ فيه، فلي ... شاهدُ عدلٍ من لون صُدْغَيْهِ
وقوله فيه:
وأشقر الشَّعر، بِتُّ من كَلَفي ... به على النّار في محبَّتهِِ
كأنّ صُدْغّيْهِ في احمرارهما ... قد صُبِغا من مُدام وَجْنَتِهِ
وقوله فيه:
ما اشْقَرَّ شعرُ حبيبي، إِنّ وَجْنَتَهُ ... سقته من خمرها صبغاً، ولا خجِلا
وإِنّما لَفحت خدَّيْه من كبِدي ... نارٌ، ودبَّت إلى صُدْغَيْه فاشتعلا
وقوله في غلام أعرج:
قالوا: حبيبُك أعرج، فأجبتُهم: ... حاشاه أن تسطو العيون عليه
ما آدَ من عَرَج به. لكنّما ... قَدَماه لم تنهَضْ برادِفَتَيْهِ
وقوله في ثقيل الكفل:
يقولون: ما فيه شيء يُحَبُ ... ويعشق،، إلاّ علوّ الكَفَلْ
فقلت: و . . . . يُحِبُّ البكا ... ءَ، للزُّهد في كهف ذاك الجبلْ
وقوله في المعنى هزلاً:
ليس عيباً محبَّتي ... رَشَأَ راجحَ الكَفَلْ
أنا دَأْبي أحِبُّ آ ... كُلُ من أَلْيَةِ الحَمَلْ
ولِزُهْدي أرى عبا ... دةَ ربّي على الجَبَلْ
فدعوني من العِتا ... ب، وكُفُّوا عن العَذَلْ
وقوله في ثقيل الكفل أيضاً:
وَيْلي على ذي كَفَل راجح ... رأيتُه في رَحْبَة المسجدِ
قد وضَع الكَفَّ على كَشْحه ... وسمعُه مصغٍ إلى المُنشدِ
خافَ من الرِّدف على خَصْره ... فقد غدا يُمْسِكه باليدِ
وقوله في غلام به جدري:
طاف بِحبِّي ألمٌ ... فزاد فيه حَذَري
وصبَّ ماء الحسن في ... حُلَّة خدّ القمر
فلاحَ فيه حبَبَ ... فقيل: هذا جُدَرِي
وقوله فيه:
ما عابه التَّجديرُ لمّا غدا ... في خدّه بعضاً على بعضِ
وإِنّما غضض تُفّاحَه ... فلاحَ فيه أثر العضِّ
له في غلام ساعٍ:
وساعٍ سريع .. إذا ما عدا، ... لِقلبي سبى، ولِدمعي سَفَكْ
يسابق في الجَرْي ريح الشَّمالِ ... ويَزْرِي على دَوَران الفَلَكْ
له في غلام مغنٍ، بارد الغناء، مليح الوجه:
وشادِنٍ، طال غرامي به، ... كالبدر أو أبهى من البدرِ
غناؤه أبرد من ريقه، ... وريُقه أبرد من شعري
إذا تغنّى لي، ونارُ الهوى ... تُحرقني، يثلجُ في صدري
قوله في قبيح الوجه، مليح الغناء:
مستهجَنُ الشَّخص، له صنعةٌ ... وَفَّتْه أقصى حظّه منّا
كأنَّه شِعريَ في طبعه ... ليس يحليه سوى المعنى
وقوله أيضاً:
يا غزالاً . . منع الأَجْ ... فانَ أَنْ تطعَمَ غُمْضا
أنا أرضي فيك أَنْ يُص ... بحَ خدّي لك أرضى
وقوله في الطيف:
طَيْفُ خَيال هاجري، ... أَلَمَّ بي، وما وَقَفْ
وافقني على الكرى، ... ثُمَّ نفاه وانصرفْ
وقوله:
بدرُ تِمامٍ، وغصن بانِ ... اجتمعا منه في مكانِ
يا موقدَ النّار في فؤادي ... سوادُ قلبي من الدُّخَان
دعني أُمَتِّعْ لِحاظَ عيني ... من ورد خدَّيْك بالعِيانِ
وقوله:
وغزالٍ مُخْطَفِ الخَصْ ... رِ، له رِدفٌ ثقيلُ
فاز من كان له من ... هُ إلى الوصل سبيلُ
بينَ قلبي وَتَجِنِّي ... هِ إِذَنْ شرحٌ طويلُ
وقوله:
بنفسي مَنْ غدا يَعْجِ ... زُ عن إِدراكه الفهمُ
غزال، كادَ للرِّقَّ ... ة أَنْ يجرَحَه الوهمُ
وقوله:
ومستحسَنٍ، أصبحتَ أهذي بذكره ... وأمسيت في شغل من الوجد شاغل
وعارضني من سحر عينيه جِنَّةٌ ... فقَّيدني من صُدْغه بسلاسلِ
وقوله:
وبيضاءَ، مصقولةِ العارضَيْنِ ... تَصيد بسهم اللّحاظ القلوبا
بدت قمراً، ورنت جُؤْذَراً، ... ومالت قضيباً، وولَّت كَثِيبا
وقوله في مخضوبة الكف:
وذات كفٍّ، قد خضَّرته، ... تَسبِق في الوهم كلَّ نَعْتِ
كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سوادَ بَخْتي
وقوله:
يا من تغافل عنّي ... وشفَّني بالتَّجَنِّي
إِن كنتُ أعجِز عن بَ ... ثِّ بعض لوعة حُزني،
فاسمَعْ حديثي من الدَّمْ ... ع، فَهْوَ أفصح منّي
وقوله:
يا غزالاً، فاترَ النَّظَرِ ... يا شبيهَ الشَّمس والقمر
كيف يَخْفَى ما أُكتِّمه، ... وزفيري صاحبُ الخبرِ؟
وقوله:
يقول: لي حين وافى: ... قد نِلْتَ ما ترتجيهِ
فما لقلبك قد جا ... ءَ خفقة تعتريهِ؟
فقلتُ: وصلك عُرسٌ، ... والقلب يرقُص فيه
وقوله:
إذا ما تذكّرتُ مَنْ حسنُهُ ... يَكِلّ لسانيَ عن نعتهِ
تناول قِرطاس خدّي البُكا ... وطالعَ بالحال في وقتهِ
وقوله:
تركتك، فامْضِ إلى مَنْ تُحِبُّ ... ففعُلك برَّدَ حَرَّ الجَوى
وقَبَّحَك الغدرُ في ناظري ... وغُودر عُودُ الهوى قد ذَوَى
فصِرت أراك بعين السُّلُوُ ... وكنت أراك بعين الهوى
وقوله:
لست أذُمّ الفراق دهري، ... كيف وقد نِلْت منه سُولي؟
قبَّلْته في الوَداع ألفاً ... وقد عزَمنا على الرَّحيلِ
وقوله:
وقالوا: قد بكيتَ دماً ودمعاً، ... وقد أولاك بعدَ العُسر يُسرا
فقلت: لفرحتي برضاه عنّي ... نثرت عليه ياقوتاً ودُرّا
وقوله:
قيل لي: قد صار مبتذَلاً ... مَنْ حماه الصَّوْنُ في صِغَرِهْ
كُفَّ عنه النّاسَ. قلتُ لهم ... قولَ مَنْ يُجرى على أثرِهْ:
لا أذودُ الطَّيْرَ عن شجرٍ ... قد بَلَوْتُ المُرَّ من ثَمَرِهْ
وقوله:
واهاً على طيب ليَالٍ، مضت ... بالوصل، حتَّى فطِن الهجرُ
ما كان أحلى العيشَ في ظلّها ... كأنّما كانت هي العمرُ
وقوله، وهو مما يكتب على المراوح:
بَدا يروِّح جسمي ... لمّا رأى ما أُلاقي
وما ينفّس كربي ... إلاّ نسيمُ التَّلاقي
وقوله:
كُفَّ، يا عاذلي، فعَذلُك يُغري ... زادَ وَجْدي، وقَلَّ في الحّب صبري
أنا أهوى سُعدى وتُنحل جسمي، ... وأُحِّب الدُّنيا وتَقْرِض عمري
وأنشدني لنفسه أبياتاً في الشيب، منها قوله:
بدا الشَّيب في فَوْدِي، فأقصَرَ باطلي ... وأيقنت قطعاً بالمصير إلى قبري
أتطمَعُ في تسويد صُحْفي يدُ الصِّبا، ... وقد بيَّضَت كفّ النُّهَى حُسْبَةَ العمرِ؟
وقوله:
صبح مشيبي بدا، وفارقني ... ليلُ شبابي، فصِحت: واقَلَقِي
وصِرت أبكي دماً عليه، ولا ... بُدَّ لصبح المشيب من شَفَقِ
وقوله:
بِأَبِي مودِّعةً لوصلي، إذْ بدافي عارضي بعدَ الشَّباب قَتِيرُ
كالطَّيْف، يطرُقُ في الظّلام إذا دجا ... وله إذا لاح الصَّباح نُفورُ
ومما أنشدني له في أغراض مختلفة، قوله:
نَقَصُوهَ حظَّهُ حسداً ... لكمال في خلائقه
وعلوُّ النَّجم، أورثه ... صِغرَاً في عين رامقهِ
وقوله:
لا غَرْوَ إِن أَثرى الجهولُ على ... نقص، وأَعدم كلُّ ذي فهمِ
إِنَّ اليدَ اليُسرى، وتفضُلُها ال ... يُمْنَى، تفوز بمُعْلَم الكُمِّ
وقوله:
أرى ذا النَّدَى والطَّوْل يغتاله الرَّدَى ... ويبقى الَّذي ما فيه طَوْلٌ ولا مَنُّ
كما الورد . . يبدو في الغصون وينقضي ... سريعاً، ويبقى الشَّوْك ما بَقِيَ الغصنُ
وقوله:
كن ناقصاً تُثْرِ، فإِنّ الغِنَى ... يُحْرَمُهُ الكاملُ في فهمهِ
فالبدرُ يحوي من نجوم الدُّجَى ... في النّقص ما يعدَمُ في تِمّهِ
وقوله:
يقولون: لا فقرٌ يدوم ولا غنى، ... ولا كُربة إلا سيتبعها كشفُ
ولست أرى كَربي وفَقري بمنقضٍ ... كأنّي على هذين وحدَهُما وقفُ
وقوله:
لا تَحْقِرِنَّ وَضِعاً ... يُزري بصدرٍ شريفِ
فرُبَّما خُفِض اسمٌ ... عالٍ بحرفٍ ضعيفِ
وقوله، يخاطب بعض الصدور، وقد استخدم غلاماً عيب به:
لمّا أضفتَ إليك نجل مسرّة ... حاربتَ مجدك بالحُنُوّ عليهِ
وبه انخفضت، وكان قدرُك عالياً، ... فِعْلَ المضاف بما أُضِيف إليهِ
وقوله:
تعلّمن منه العلم، ثمَّ اطرَّحته ... وأوليته بعدَ الوِصال له هَجْرا
وهل يقتني الأَصدافَ في النّاس حازم ... إذا هو من أجوافها أخَذ الدُّرّا؟
وقوله، يمدح الوزير عون الدين:
بدأ الوزير بجوده متفضّلاً ... فنطقت فيه بأحسن الآدابِ
والرَّوض ليس بضاحك عن ثَغْره ... إلا إذا روّاه صَوْبُ سَحابِ
وقوله، يقيم عذراً لمن بخل عليه بجائزة شعره:
لم يحبِسِ المولى الأجلّ نَوالَهُ ... بُخْلاً عليَّ، ولم أكن بالسّاخطِ
لكنّني أنشدت شعراً بارداً ... والبردُ يَقْبِض كلَّ كفٍّ باسطِ
وقوله:
أَصِخْ لنظمي، ففيه معنىً ... بلا شبيه ولا نظيرِ
وقد بدا في ركيك لفظي ... كعالم فاضل فقيرِ
وقوله، وقد طلب من بعض الرؤساء كاغداً، فأعطاه نصف ما سأله، ووعده بالباقي:
أعطيتني نصف الَّذي أملَّتْهُ ... من كاغَد، ووعَدتني بِسواهُ
ورجَعتَ تأخُذه إليك تقاضياً ... منّي، وذاك الوعد لست أراه
كالشّهر: يُعطي البدر من تَمامه، ... ويعودُ يأخُذ منه ما أعطاه
وقوله فيه:
مدَحت الأجَلَّ، وأمّلت في ... ه إِنفاذَ دَسْت من الكاغَدِ
فنفَّذ لي النِّصفَ ممّا طلَبْ ... تُ بعدَ تردُّديَ الزّائد
فأفنيته في اقتضائي له، ... ومرَّ مديحي على البارد
وقوله:
سَمَحت ببعض الَّذي أرتجي ... وألقيت حبلي على غاربي
وإتمامُ نافلةِ المكرُما ... ت، بعدَ الشُّروع، من الواجب
وقوله في ناعورة:
رُبَّ ناعورةٍ . . كأَنَّ حبيباً ... فارقَتْه، فقد غدت تحكيني
أبداً هكذا تدور وتبكي ... بدموع تجري، وفَرْطِ حنينِ
وقوله في اللغز:
وأهيف القَدّ، نحيف الشَّوَى ... معتدل، لم يَحْوِ معناه وَصْفْ
وهْوَ، إذا أنت تأمّلته ... بفكرة، اسم وفعل وحَرْفْ
أراد به الألف، فهو اسم إذا أعرب، وفعل إذا بني، وحرف بذاته.
وقوله في قبور أهل البيت، عليهم السلام:
إِنّ ب الطَّفّ و الغَرِيّ و سامَرّ ... ا وطُوسٍ و يَثْرِبٍ والحَرِيمِ
لقبوراً لآل أحمدَ، لا زا ... لَ مُواليهِمُ بدار النَّعيمِ
ومما أنشدني له في الهجاء والذم، قوله:
ما كان بخلك بالنَّوال مؤثّراً ... فيكون هجوي فيك باستحقاق
لكنّني أبصرت عِرضك أسوداً ... متميزِّقاً، فقَدَحْتُ في حُرّاق
وقوله:
منَع احتقار محمّد عن نفسهذَمِيّهِ، وهْوَ كما علِمْت خبيثُ
والليثُ: يُنشب مِخْلَبي في جلده ... ظُفُراً، ويُفلت من يدي البُرغوثُ
وقوله:
قال: ألم تعلَمْ بلؤمي؟ فلِمْ ... كسوتَ عِرضي حُلَلَ المدحِ؟
قلت: أُرَبِّيك لسيف الهِجا ... كما يُرَبَّى الكَبْشُ للذَّبْحِ
وقوله:
ومُذْ صَحَّ لي جوده بالهِجا ... تَبَّيْنتُ أَنَّ مديحي هَوَسْ
كذا الفّصُّ: ما بانَ لي خطُّه، ... ولا حسنُ معناه، حتّى انعكَسْ
وقوله:
هجوتك، إِذْ قطَعت البِرَّ عنّي ... وكنت أحوك فيك المدح حَوْكا
كذاك الأرضُ: تزرَعُها فتزكو، ... وتقطَعُ زرعها فتجيء شوكا
وقوله:
بغربيّ بغدادٍ صديقٌ مذمَّمٌ ... كرامتُه للأصدقاء التَّمَلُّقُ
تبسَّمَ لي من بعدِ غِلٍّ كأنّه ... ذُبالةُ مصباح تُضيء وتُحرِقُ
وقوله:
نصر علينا زاد في تِيِههِ ... وهجوُنا ينقُصُ عن مجدهِ
والظُّفْرُ إِنْ أسرف في طوله ... يُرَدّ بالقصّ إلى حدّهِ
وقوله:
فلا تحتقرْ نصرَ الذَّميمَ، فإِنّه ... يَزيِد لفَرْط الثِّقْل منه على الوصفِ
فرُمّانةُ القَبّانِ، يُحْقَرُ قدرُها، ... وتُخرِج عندَ الوزنِ أكثر من أَلْفِ
وقوله:
كم تَدَّعي كرمَ الجدو ... دِ، وأنت تَحْرِمُ مَنْ شكَرْ؟
وعلى فساد الأصل مِنْ ... كَ، يَدُلُّني عدمُ الثَّمَرْ
وأنشدني لنفسه أيضاً في الهزل:
قال قليبي، وقد حَظِيت بمن ... شَقٍِيتُ في حبّها مَدى العُمُرِ:
قد اسكنتَنِي لَظَى. فقلت: كما ... عبدتَها دونَ خالق البشرِ
وصُمْتَ عن غيرها، وكنتَ تقو ... مُ الليلَ في حبّها إلى السَّحَرِ
فاصبِرْ على قُبح ما جنيتَ، فلم ... تَظْلِمْك إذْ خلَّدَتْك في سَقَرِ
وأنشدني لنفسه:
ترَحَّلْتُ عن أرض الحَظِيرة، هارباً ... من العشق، حتّى كادت النَّفْس تَزْهَقُ
وأفلستُ، حتّى إنّ جِلْفاً مُغَفَّلاً ... خلا بالّذي أهواه: يَزني ويفسُقُ
فلا أنا في بغدادَ روّيتُ غُلَّةً، ... ولا ثَمَّ واصلتُ الَّذي أتعشّقُ
وأنشدني لنفسه في بعض عمال السواد أبياتاً، أعطى فيها صنعة التجنيس حقها، وهي:
وما اسْودَّ فَوْدُك حتى نزلتَ ... من المقتفي في سواد الفؤادِ
ورَدَّك ناظرَه في السَّوا ... دِ، إذْ كنتَ ناظره في السَّوادِ
ولمّا أراد اختبار الرِّجا ... لِ، أَلْفَى مرادك فوقَ المراد
وأعارني ما جمعه ثانياً من أشعاره ورسائله، وسح سحائب خاطره ووابله، فنظمت لكتابي هذا في سخابه، منخب ما سخابه؛ وختمته بعد ذلك بقصدتين نظمهما في الإمام المستنجد بالله يوسف، بن المقتفي لأمر الله.
فأما منظوماته: قال أبو المعالي، سعد، بن علي، بن قاسم، الحظيري في صاحب المخزن زعيم الدين، أبي الفضل، يحيى، بن جعفر يمدحه ويهنئه بالحج:
لقد برَّ حَجٌّ وحَجَّ بَرُّ ... وضَمَّ بحرَ العِراقِ بَرُّ
عاد الزَّعيمُ الكريم يَطْوِي ... أرضاً، لها من تُقاه نَشْرُ
صدر، نفى العجزَ عنه قلبٌ ... ثَبْتٌ، له همَّة وصبرُ
إذا حبا واحتبى بنادٍ، ... تقول: بحر طَما، وبدرُ
غَوْثٌ لمستصرِخ، وغيث ... إِن لم يكن في السّماء قَطْرُ
يا مَنْ ضُروبُ الورى غُثاءٌ، ... وخُلقُه للجميع بحرُ
أنت الّذي ديِنُه لَباب ... يبقَى، ودُنياه منه قشرُ
قد طُلْتَ فَرعاً، وطِبْتَ عَرْفاً ... وأصلُ علياك مستقرُّ
فاقْنَ لِما لا يَبيِدُ ممّا ... يَبيِدً ذُخراً، فالخيرُ ذُخْرُ
إِن قلت شعراً، ففيه شَرْع ... والفكرُ في المستحيل كفرُ
لكِن سَجاياك لُحْنَ غُرّاً ... حقيقةً، لا كما تغُرُّ
فصاغها منطقي عُقوداً ... فوقَ جُيوب العلى تُزَرُّ
تُضْحي لنَحْر الوليّ حَليْاً ... وَهْيَ لنَحْر العدوّ نَحْرُ
كأنّما الشَّخص منك فَصّ ... من المعالي عليه سطرُ
والشِّعر كالسَّمْع منه، يُقْرَا ... بالسَّمْع، والطّبع فيه شكرُ
ولست فيما أحوك إلا ... حاكٍ، فمالي عليه أجرُ
هذا. على أنَّ لي زماناً ... ما دارَ لي في القَريض فكرُ
لأنَّه يستبيحُ منّي ... حِمىً، له في العَفاف سترُ
وتسترقّ الأطّماع منّي ... حُرّاً، ولا يُسْتَرَقُّ حُرُّ
فاستوجب الشُّكر. رُبَّ بَرٍّ ... على جميع الورى مُبِرُّ
قلَّدني منه اِبتداءً ... فاقتادني، والكريمُ غِرُّ
وزففّت دُونَه القوافي ... وشَفَّ وزن، وضاق بحرُ
لكنْ خلَعْتُ العِذار حبّاً ... وكان لي في القصور عذرُ
وكتب إلى ولد أخيه في صدر مكاتبة، وقد عاد إلى بلده، عند غرق بغداد في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمس مئة:
أصابت العينُ مثلَ عيني ... فصابتِ العينُ مثلَ عينِ
مَنْ يرتشي في خلاص عيني. ... من أسر دمعي خلاص عيني.
بَلَّ رِداء البكاء وِردي ... وفي الحشا للرَّدَى رُدَيْني
زَمَّ زمانٌ نِياقَ بَيْن ... فَرَّقَ ما بينَه وبيني
وصالَ فِرْعَوْنُ صَرْفِ دهر ... والصّبرُ عوني، ففَرَّ عوني
لانَ لنا غيلةً، ووافَى ... من الرَّزايا بكلّ لونِ
ودانَ، فالعيش فيه دانٍ، ... ثمَّ انثنى طالباً بدَيْنِ
أدالَني اللهُ من زمانٍ ... جانٍ، جَهامِ الغَمام، جَوْنِ
وكتب إليه أيضاً:
ظهرت، يا بَيْنُ، في الكَميِنِ ... وكنت من قبلُ في الكُمونِ
سار الذَّي سرَّ بالتَّداني ... ولم يكن ذاك في الظُّنونِ
حالَ التَّقالي دونَ التَّلاقي ... فالقوم في مصرع الحُسَيْنِ
كنّا من الدَّهر في أمانٍ ... نرى الأَماني على اليقينِ
فبشَّرَ الماء حين وافَى ... قرائن الوصل من قَرينِ
طَرا، ولكن طغى مَعِينٌ ... ولا مُعِينٌ على مَعِينِ
يا وَلَدي البَرُّ أيُّ بحر ... مَدَّ فألقاك جوفَ نُونِ
واهاً لأِيّامِنا الخَوالي ... منك، الحَوالي بك العُيُونِ
زالت، فهدّت قُوىً، وأجرتْ ... منّا عُيوناً من العُيُونِ
وقال على لسان بعض أصدقائه،يهنئ صاحباً للخليفة، جعله أميراً:
سماءُ الفضل مُفْهَقةُ النَّشاصِ ... وأرضُ العدل مشرِقة العِراص
بدولة سيّدِ الثَّقَلْينِ طُرّاً ... إِمامِ العصر، مُدركِ كلِّ قاصِ
أتته خِلافة الدُّنيا انقياداً ... مسلِّمةً له، لا عن تعاص
وقد طلَعت خصائصُه، وكانت ... تطالع قبلَ ذلك من خَصاصِ
وصار خليفةَ لله فينا، ... وأنت به شديد الاختصاصِ
فأعطاك الإِمارةَ مستحقاً ... مَزيدَ القدر منه بلا انتقاصِ
وبأسُك يا أخا الفضل المُرَجَّى ... يُعيد الملكَ ممتنع الصَّياصي
وقد مُلِّكت قاصيةَ الأَماني ... ولاتَ لها المَدى حينَ المناصِ
فتى الفِتيان هذا اليومَ كنّا ... نرجِّي، فاصْغِ سمعاً لاقتصاصي
أرى الأيامَ تأخُذ في انتقاصي ... مشرِّدةً، فهل لك في اقتناصي؟
لَعَلَّ فضائلي تبدو لِراء ... وعَلَّ الحظَّ يُسعِد بالخلاصِ
وفضلي لم يزل يَجْني خُمولي ... عليه، وقد رجوتك للقِصاصِ
فنّوِهْ بي، وخُذْ مدحي رخيصاً ... وليس على سواك من الرِّخاصِ
وأما القصيدتان، فإحداهما أنشأها وقد بويع المستنجد بالله يوم الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مئة، واتفق ذلك اليوم ثالث عشر آذار عند الاعتدال الربيعي. ولما تولى، أخذ القاضي ابن المرخم وجماعة من أصحاب أبيه، اتهمهم بخيانة، وتولى عقد البيعة له أستاذ الدار أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، فذكر الحال:
بيعةٌ: شَدُّ عَقْدِها لا يُحَلُّ، ... وانقيادٌ لغيرها لا يَحِلُّ
سفَرت شمسُها، وقد أسفر الصُّبْ ... حُ، فَحلَّ الضِيّاء حيثُ تَحِلُّ
لم يَفِلْ رأيُ فَأْلِها، ولقد جا ... ءَ بعَضْب ماضي الشَّبا لا يُفَلُّ
جاء تاريخها لخمس وخمسي ... ن وخمس من المِئِينَ يدلُّ
إِنّه عَقْدُ بيعة، كُلَّما دا ... رَ عليه الزّمانُ لا يَضْمَحِلُّ
عدّد ليس ضربه فيه إِنْ كُرِّ ... رَ مما يُحيله أو يَحُلُّ
أَحَدِيّ الأيّام، وَهْوَ دليل ... أنّه أوحد الأنام الأجَلُّ
ثانيَ الشَّهر من ربيع، وفي أَوَّ ... ل فصل الرَّبيع، فالفصلُ فصلُ
وربيع فَأْلٌ بأنّ ربيعاً ... دهره كلُّه، وأَنْ ليس مَحْلُ
واعتدالُ الرَّبيعِ مبدأُ عدلٍ ... يقصُرُ الليل عندَه ويَقِلُّ
ويطول النَّهار، والطُّولُ طَوْل ... من يديه، ما فيه مَطْلٌ مُطِلُّ
ليس في هذه الخِلافة من بع ... دُ خلافٌ يُخشى، ولا كان قبلُ
ولقد صحّح التَّفاؤلُ فيها ... وغدا الحكم وَهْوَ حزم وفصل
فَرَج، جاء من أبيه، فَجلَّى ... جَلَلاَ، دِقُّه على المُلك جِلُّ
خَبَّ فيه خَبٌّ، فخاب رجاء، ... وخبا جمرُ كيدِه وَهْوَ جَزْلُ
للإمام المستنجد المَلِكِ العا ... دل، والكالِئِ الّذي لا يَكِلُّ
همّةٌ: تستقلُّ ما حوتِ الدَّنْ ... يا، وبالدِّين والعلى تستقلُّ
ذا إمامٌ، بالعدل قام، فما يح ... كُمُ إلا بالعدل، والفضلُ فضلُ
فالمُوالي لأمره، والمُوَلِّي ... عنه: يُقْلَى هذا، وذاك يقلُّ
قام بالأمر، ثمَّ قوَّم قوماً ... لن يُقالُوا ذنباً، وإنْ هُمْ قَلُّوا
قرن العقل بينهم، وقضى فص ... لاً بأنْ لا فضلٌ قرانٌ وعقلُ
حِفظ الآلُ الآل إلا لَعِين ... آل ألا يعِزَّ منه الإِلُّ
كان شرّاً قضاؤه وعدولاً ... فاقتضى أن يهان شرعٌ وعدلُ
كم غليلٍ على غُلول بكَفَّيْ ... هِ، شفَاهُ فَكٌّ لها أو غَلُّ
هاشِمي، هاشم الأَكارم يُحْسِي ... ك بسَجْل من النَّوالَيْنِ، سَجْلُ
صُنت شعري، إذٍْ صدقه مستحيلٌ ... وحرامُ انتحالِه مُسْتَحَلُّ
ثمّ أفصحت عن عُقود لآَلٍ ... يتحلّى فيها إِمام يُجَلُّ
ملِك، راح بالجمال مُحَلّىً ... وله في ذَرا الجلال محلُّ
ملك، يُسْتهالُ فَرْطُ سُطاه ... وحِباهُ إذا احتبى يَستهلُّ
يا إِمامَ الزَّمان مثلُك مَنْ قا ... مَ بحقّ التَّقوى، ومالَكَ مِثلُ
فاحفَظِ الله في الرَّعيّة، يحفَظْ ... ك، فإنَّ السُّلطان في الأرض ظِلُّ
واخْشَ فيما أَزَلَّه من زَوال ... وتيقَّنْ أَنَّ المُزيِلَ المُزِلُّ
وامرُؤٌ حلَّ قلبَهُ الغِلُّ، فاجعَلْ ... قلبَهُ الغُلَّ؛ إِنّه لك حِلُّ
لم تَمِلْ حينَ قُمتَ بالحقّ فيها ... فتَمَلَّ النُّعمى التّي لا تُمَلُّ
والقصيدة الثانية: ما قالها أيضاً فيه، ويذكر حال خلعٍ أفاضها على أصحابه، وأخذه ل ابن المرخم، ويذكر بعض من توقف من الملوك عن البيعة:
عُلى هكذا، لا زال جَدُّك عاليا ... ولا ينتهي حتَّى ينال التَّناهيا
وما المرءُ إِلا في الدَّناءة سائم ... إِذا لم يكن في مُرْتَقَى المجد ساميا
يرى باديَ الدُّنيا أخو اللُبّ بائداً ... ويعرِف غاياتِ الأمور مَباديا
فيُصبح منه الطَّبع للشّرع دائناً ... ويلمَحُ منه العقلُ ما غاب دانيا
ركِبت مَطا الدُّنيا. فإنْ كنتَ رائضاً ... نجوتَ، وإلا كنت بالأرض راضيا
وما هيّ إلا منزل لمسافر ... فَقِلْ ساعةً فيه، وفارِقْه قاليا
وما يقنعنّ النّفسَ سائر ما حوت ... فإن قنَعَت ببعضه كان كافيا
وما العمرُ إِلا ساعةٌ ثمّ تنقضي ... فطُوبى لمن أضحى إلى الخير ساعيا
وما الحُرُّ إلا مَنْ إذا حاز فانياً ... نفى غَيَّه عنه، وحاول باقيا
ومَنْ لم يكن عن سُنَّة الشَّرع حائداً ... وسار بتوحيد المُهَيْمِنِ حاديا،
فقد فاز من جنّات مَحْياه راقياً ... وجاز إلى جنّات أُخراه راقيا
وأنت، أميرَ المؤمنين، امرُؤٌ سمت ... به الهِمّة القُصوى، ولم يكُ وانيا
طَمَحْت إلى الدُّنيا. فلمّا ملكتَها، ... سمَوْتَ إلى الأُخرى، فأصبحت حاويا
ملأت الورى عدلاً، فعدَّلت مائلاً ... وفرَّقت مالاً، واسْتَمَلْتَ مماليا
غدوت بحكم العدل في النّاس قاضياً ... ورُحت به حقَّ الخِلافة قاضيا
بعدلِك ألبست النّهارَ نهاره ... وقلَّدت أجيادَ الليالي لآَلِيا
فأصبح وجه الدَّهر بالزَّهْر حالياً ... ويا طالما قد كان من ذاك خاليا
فإنْ كنت بالمعروف أصبحت هائماً ... فإنَّ نَداك بالحَيا ظلَّ هاميا
وسَيْبُك مورود، ترى الكلَّ حائماً ... عليه، وما نلقى لمغزاه حاميا
إذا ما طما سيلُ المظالم سائلاً، ... ترقَيت عن مَهْواه، بالعدل ساميا
وإِمّا رأيت الخَطب قد جَدَّ هائلاً ... غدوت به من الشَّجاعة لاهيا
وأيّ عدوّ غادرَ الدَّهرَ غادراً، ... عدوتَ له، مُدّارِئاً، لا مُدارِيا
طرأت على الدُّنيا بأيمنِ طائر ... وطرَّيْت بالِيها، فبوركت طاريا
وما زِلت نحوَ الشَّرع باللطف داعياً ... تروِّع بالإِبعاد من عادَ عاديا
وها قد أرى أَنْ ليس في الأرض جائر ... وليس عليه سيلُ أمرِك جاريا
ولم تعف إِذْ عفّيت مَنْ كان ظالِماً ... فأصبح نبت العدل في الأرض عافيا
وثَبَّتَّ في دَسْت الوزارة أهله ... وزيراً لأحوال الرَّعايا مراعيا
إذا الملْك أشفى من سَقامٍ صحيحه ... فإنَّ لديه من تلافٍ تلافيا
خصائصُه لم تلق ملقى خَصاصة ... بِوادي بَوادِيها، فلم تَعْدُ واديا
أبوك الّذي أحيا، ليُحيي من العلى ... مَواتاً، فألفاه وزيراً مُواتيا
على ملك الدُّنيا وَقَفْت مطامِعي ... وفي مدحه أمسيتُ أقفو القوافيا
أَعُوم بِحارَ الشّعر، للدُّرّ صائداً ... شواردَه، فَأنثني عنه صاديا
وأعجز عن آيات معناه تالياً ... ولو أَنّني أَغدو ل سَحْبانَ تاليا
على أَنّني قد كنت حرّمن مدّةً ... مَواردَه، حتّى قرأت فَتاويا
بعدل إِمام، يقصُر الوصفُ دونَه، ... ويرخُص غاليه وإن كان غاليا
فإن شملتني من عطاياه نعمةٌ، ... تروّح لي بالاً، وتُنعش باليا
أبانَ ضياءُ الشُّكر لي عن مديحه ... مَعانيَ، تَبني لي لديه المَعاليا
وقد تمنَحُ الشَّمس الهَباء خَوافياً ... فيرقَى، وتبدي منه ما كان خافيا
و مستنجداً بالله ظلَّ إِمامُنا ... فما ضَلَّ، بل أضحى إلى الحقّ هاديا
عظيم المزايا، يبتني المجد عالياً ... كريم السَّجايا، يشتري الحمد غاليا
له عزمةٌ، كالهُنْدُوانيّ ماضياً ... ورأيٌ، إلى رِيّ الهدى ليس ظاميا
إمام هدى زاكٍ. فمن جاء جانباً ... لغير ثمارِ حبّه، جارَ جانيا
ومَن جاءه يوماً على الملك صائلاً ... غدا في غَداة الهُلْك للنّار صاليا
لقد قام بالحقّ الذي كان قاعداً ... وأورى زِناداً للهدى متواريا
وردَّ مُعار المال، حتّى لقد غدت ... خزائنه من العواري عواريا
فصار وليّاً للقلوب محبّةً ... وكان على أجسادها قبلُ واليا
وأولى مواليه ملابس عزّة ... وكان لِما يولي الموالي مواليا
سَرَوْا مَلْبَسَ الحُزنِ الّذي كان شاملاً ... وسُرُّوا، وأضحوا يُظهرون التَّهانيا
أرى خِلَعاً، جاءت على إِثْر بيعة ... لخير إِمام يجعَلُ الرَّوْعَ باديا
لِيَهْنَ مواليه عطاءً أَزَلَّهُ، ... أزال به حسّادهم والأعاديا
وكم مائنٍ في العَقد، أشبه مانياً ... فما نال منه من أمان أمانيا
عدا عادياً في الشَّرع، للشَّرّ واعياً ... وفي كل ما لن يُرضيَ الله غاويا
يَبيت لِما يهوَى على النّاس قاضياً ... ويُصبح في الدُّنيا عن الدّين قاصيا
فلمّا انجلت تلك الغيَابة، وانجلت ... مَخاريقُه، أضحى عن الأرض جاليا
ولم يُلْفِ لمّا أَنْ رأيناه حانياً ... عليه امْرَءاً من سائر الناس حانيا
وكم سُنَّةٍ كانت على الملك سُبَّةً ... وقد كان، لولاها، من العار عاريا
وكم شائرٍ شُهْدَ الممالك غِيلَةً ... شَرى شَريْها، وضَلَّ إِذْ ظَلَّ شاريا
ولم يَكُ للخيرات في الملك باغياً ... ولكنْ عدا في باغِ دنياه باغيا
وعمّا قليلٍ يُصبح الأمر واهياً ... عليه، ويُمسي طَوْدُ علياه هاويا
ويجعله خُلف الخِلافة عِبرةً ... لمن قد حكاه في المَساوي مُساويا
وتغدو ملوك الأرض طوعَ خليفة ... شَفاها شِفاهاً حين قال مُناديا:
ألا كلُّ ما لا يقتضي الشّرع فعله ... فليس به أَمري مدى الدَّهر ماضيا.
فأصبح هذا القول في النّاس فاشياً ... وراح لأَدواء الرَّعِيَّة شافيا
فلا زال هذا الملك في النّاس دائماً ... ونَحرُ الّذي يَشْناهُ بالسّيف داميا
وأثبت من رسائله ما استملحته لما استلمحته، ولقطت من درر لفظه وما لفظه وخزنت من در مزنه إذ لحظته.
فمنها، من خطبة له في هذا المجموع، وهي:
كنت، أيها الحبر البحر، والوالد البر، حين اقتدحت سقط زندي لشائم بروقه، وافتتحت سفط زبدي لشام سحيقه، استحسنته مذهباً، واستخشنته مركباً، وسألتني إتحافك برويته، وإسعافك بروايته، فانصببت في قالب غرضك، وأصبت قلب غرضك.
ومن أخرى، جواباً عن كتاب: وصل كتاب فلان، أطال الله فروع دوحة مآثره، وأطاب ينبوع فسحة سرائره، ووارى نار نفسه، وأورى نور قدسه، وأحيا قلبه بورد الذكر، وحيا لبه بورد الفكر؛ وقرأت فصوله، وفهمت محصوله، من أبكار معانٍ زفت إلى غير كفو، وبرود وشيٍ أفيضت على جسد نضو.
ولقد أذاقني بحلو خطابه، مر عتابه، وقد انشرح صدري، لشرح عذري، فتلقه مجملاً، تكن بقبوله مجملاً.
إني مذ صرف بوجهي نحو الحقيقة، وقصد بي قصد الطريقة، فحدقت لقراءة سورةٍ تشهدها، وحققت استقراء صورةٍ تحمدها، ونار المجاهدة بعد في تصفي سبائك خلاصي، حتى أرى مسالك خلاصي بإخلاصي. ولقد كابدت من أول قرين، عدة سنين، ما بيض سود ذوائبي، وغيض مورد ذنائبي، حتى أذن في طلاقه، فأذن بانطلاقه. هي بخط من يضن بخطه، ويظن به صحة ضبطه.
ومن أخرى إلى زاهد: كتابي إلى فلان، مد الله في مدد عمره، وأمده بمدد نصره، وأيد عزمه، وسدد سهمه، ورزقه عن الدنيا سلوةً، وبالمولى خلوةً، وصفى من شبه الشبه خلاص اعتقاده، وأضفى على شخص مجاهدته دلاص استعداده، ب محمد خلاصة الوجود، وخالصة المعبود.
فلانٌ قصدني مسلماً، ولما استودع من التحية مسلماً، وعرفني كونه بالقلعة متزهداً، وللقلعة متزوداً، وبمطلب الاعتزال قائلاً، ولمذهب الاعتزال قالياً. كنت ذكرت له تجردي للحق، وتفردي عن الخلق، حتى أدركت من علمه ما في طاقة البشر، وأطمعني الشوق في الذوق والنظر، متى ارتفع عن النظراء والأشباه، واقتنع بالنضار لا الأشباه، زهد في الأعراض الذاهبة، ورغب في الأغراض الواجبة.
فاعتزل - يا أخي - كل مشغلة، فعزلة المرء عزٌّ له، والخلطة مذلة، والمخلط مدله، والشواغل عن المقصود، للشوى غلٌّ وقيود. ولا يرد ذلك الحمى، إلا من احتمى، وماتت دواعى نزاعه، وعوادى طباعه، وطمع في جوار سلطانه، وطعم من ثمار جنانه.
وإن أردت البقا، فعليك بالتقى، فسر مع اسكندر الدين، واسكن دار الطين.
رأيت الثقيل - لكثافته - يهرب هوياً، والخفيف - للطافته - يطلب رقياً. وليس من استبقى أطمار الحرمة، واستسقى أمطار الرحمة، وخنست شياطين جوارحه، الكائدة استسلاماً، وحبست سلاطين جوارحه، الصائدة أثاماً - كم كرع في حياض المنى صادياً، ورتع في رياض الهوى متمادياً، واستبهمت جواد مذهبه، وانحسمت مواد مواهبه. فليس الوصول بهلك الأولاد، بل بفك الأقياد، ولا بترك ثراء الأموال، بل بسفك الآمال، ولا بإتلاف المرء جسده، بل ب تلافيه، فليس من أخرب مسجده، كمن تلافيه.
فكم من يأسو الكليم، بقصة موسى الكليم، ويبرئ الهيم، بحديث إبراهيم. فإن موسى سار بأهله، وسر بفعله: غدا بنفسه مستقلاً، وراح لشخصه مستقلاً. ولما جمع رطب الطرب، رجع إلى النسب والنشب. هاجرهم لشانه، وما جاهرهم بلسانه، وقصد العود، ووعد العود، وجنى رطب الشجر، وجنى طلب النظر، واعترف بضعفه عن كنه الأمر، واغترف بكفه من وجه البحر، ولم يودع في وطاب، من ماء شرعه إلا وطاب.
وإبراهيم - عليه السلام، أمر بذبح ولده في المنام. فلما حقق عزمه، وفوق سهمه، قيل له: غير مرامك، وعبر منامك. فهذا البلاء، وإلا فذا لذا فداء. وأنزل كبشاً، ملئ كبساً، فجمع الهم، وفرق اللحم.
كم لهذا المعنى من أمثال، وعلى طريقه من أميال. والحق لا يشتبه، فانتبه أنت به، واشتر قطع الجواهر الرابحة سوماً، بقطع الهواجر اللافحة صوماً، واجعل قيام قلائل الليالي، قيم قلائد اللآلي.
فمن فعل ذلك، وسلك هذه المسالك، فقد رأب شعبه، ورب شعبه، وشفع في القيامة لمن شفع وتره، ورفع بالكرامة من رفع وتره.
إن العمر ذاهب نافق، وذهب نافق، وغنيمة تغل وتستغل، وغنيمة تستقل وتستحل. فخذ لنفسك منه أودع، واحفظ الوديعة لمن أودع.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل
كتابٌ راقَ ألفاظاً ومعنىً ... وساقَ إليَّ إِحساناً وحُسْنا
فكان عرائسَ الأفكار تُجْلَى ... وكان غرائسَ الأفكار تُجْنَى
استرجع الحسن العازب، وأطلع الأمن الغارب، ورفع من المجد ما هوى، ورقع من الجد ما وهى. لم أكن لأهدي حشف النخل، وحثالة النحل، إلى هجر الفضل العريق، ومغنى المعنى الدقيق.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل كتاب فلان، أطال الله مديد بقائه، وأدام مشيد علائه، وأمن مخافة لأوائه، وقمع كافة أعدائه - ففضضته عن مثل لطائم العطر ذكاءً، ونظائم الدر استجلاءً، وريق النحل استحلاءً، وريق الوبل صفاءً، فأطلع من البهجة ما غرب، واسترجع من المهجة ما عزب. ومنذ انحدر به سفينه، وترحل عنه قطينه، ما قام لنا نادٍ إلا بذكره، ولا حام منا صادٍ إلا على بحره.
ومن أخرى إلى ولد أخيه: أوجب لبنات الصدر رقصاً، ولثبات الصبر نقصاً وللسكون تفلتاً، وللعيون تلفتاً، إلى من سلب النزوع عنه النزاع إليه، وأوجب الحنين نحو التحنن عليه. فإن كان صنوي مصدر نسبه جسماً، وصفوي بورد أدبه علماً، فأنا أحق بمصاقبته جواراً، وأرق في مصاحبته حواراً. وعمر الله أندية الأدب، بصائب قوله، وغمر أودية الأرب، بصوب طوله، ووفقه لفعل ما يجب، وأرانا فيه ما نحب، ما مكنته من النهوض عن أرضي، ولا سمح كلي بفراق بعضي. وقد كاتبته بكلمات ينزر عددها، ويغزر مددها، لتشير إلى العلم صنائع شوقه، وتثير من الجهل بضائع سوقه، وتعزف عما أسفر ليل الأسفار، إلى قراءة صبح الإسفار، ويقايس به نفائس ثمار الأدب، وخسائس أحجار الذهب.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب فلان، فكان لصبري منهجاً، ولصدري مبهجاً، وللسعود مجدداً، وللجدود مسعداً، وللنفوس من شكال الوحشة مخلصاً، وللنفيس من إشكال العجمة ملخصاً. وكنت أرتقب عوده المقترب، فحالت المقادير، دون التقادير، وجاء المكتوب، بغير المحسوب، وأرجو أن تأتي العاقبة بالعافية، فتغنى به الأطلال العافية. ولولا اشتهار جنوح الأمر، وانتشار جناح العذر، لقلت: قطعه الفضول عن الفضل، ومنعه العدول عن العذل، واقتنع ببياض بلح النخيل، عن رياض ملح الخليل، ومكابرة الأجباس، عن مكاثرة الأجناس، وأنا أخفض له الجناح، وأرفع عنه الجناح. فإذا شرب من العلم فوق طوقه، وشب عمره عن طوقه، واتسق در سخابه، وفهق در سحابه، وأعادته محبة التربة، ومحنة الغربة، إلى منبت غرسه، ومبيت عرسه، أرخى عزالي مزاده، وأرجى بلاوه بلاده.
انتقش من شوك العجز في قدم تقدمك، وانتعش بالعلم قبل أن يحال بين لوحك وقلمك. ولم أجرك بسوط السوق، في شوط الشوق، لكوني ممن يعتقد خمود عزمك، لكن ليغدو إذكائي لضرمك، مقاوماً، لريح من يروح لك لائماً، فيقوم المنشط، حذاء المثبط.
ومن أخرى إليه:
كتابي، وعندي وحشةٌ لك فادِحَهْ ... ونارُ اشتياق في فؤاديَ قادحَهْ
فنُحْتُ على ضَنّ بقربك في النَّوى ... فها أَدمعي بعد ارتحالك سافِحَهْ
ورائحة البِرّ الّذي فيك والتُّقَى ... غدت بك عنّي، فلتكن بك رائِحَهْ
لتعبَقَ بالعلم الذَّي اشتقت عَرْفَه ... وتفْغِم مَنْ وافاك يطلُب رائِحَهْ
فبلّغك الله الذَّي أنت أهُله ... ولا بَرِحَتْ منك الفضائل رابِحَهْ
كتابي، والأشواق إليه دائمة، والآماق عليه دامية، والهموم على الجوانح جوانح، والجوارح فيها جوارح، فبر الله رداء الردى عن منكبي برده إلي، وأفاض من قربه سابغ برده علي، شكرت الباريء دقت حكمته، وجلت قدرته، على ما أنعم به عليه من سابغ ثياب السلامة، وسائغ شراب الكرامة.
ومن أخرى إليه: كتاب فلان، أحيا الله موات أرضه بجاري ماء علمه، وضوأ ظلمات بلاده بساري ضياء نجمه، وكسر بجلاده سوق سوق البدعة القائمة، وجبر بجداله عظم عظمة الشرعة السالمة، فهدى أبكار معانٍ سنية الألطاف، وأهدى ثمار بيان حسنة القطاف، بألفاظ تنقع الغليل، وتنفع العليل، ويهيج بهيج منثورها، بلابل بلابل مسحورها؛ ونشر من مطاوي التلف موتى أشواق، وقدح ولكن في حراق، فأعاده الله واضح الأسرة، وأعاد به نازح المسرة. كم نصيب مرفوض، من نصاب مفروض، ألعين إليه ممتدة، وعن سواه مرتدة، لا زال موفق العزم، مفوق السهم.
ومن أخرى إلى الحكيم المغربي: وصل كتاب فلان، أطال الله فرع عود عمره، وأطاب عرف عود ذكره، وحلى جيد الزمان بفرائد فوائده، وحلأ تهذيبه الإنسان عن مصايد مكايده، ما استخرجت أسفار، وخرجت أسفار.
وجدته أحلى من اللقاء بعد البين، والنجاء من يد الحين. وكأن أنواء بنانه حاكت وشي الربيع، وأنوار بيانه حاكت الروض الصنيع. والاستيحاش لبعد حضرته، أذوى عودي بعد خضرته. ولولا ارتقاب العين، اقتراب البين، لأخفقت وعود الجلد، وخفقت بنود الكمد، سيما وكتبه التي تسقي عللاً، وتشفي عللاً، يوردها إرسالاً، فترد علينا أرسالاً. لكن أحال القلب عن حاله، وأماله عن آماله، قوله إن النزوع يحارب النزاع، والقنوع يجاذب القناع. أو ما يعلم - أعاد الله به شمل الأنس جميعاً، وأزال بلقائه وحشة الحس سريعاً - أن الذي مرى أخلافه، واستمرأ خلافه، وأذهب ذهبه ونقاره، واستعذب صخبه ونقاره، وقد طعم بعد حلو العيش أمره، وبرم بما أبرم حبله وأمره، وعلم أنه أغاض مذنباً، وأغاظ مذنباً؟ والزمان يثقف المتأود، ويثاقف المؤيد. وهبه جنى وما أجنى، وبرى وما أبرا، وأكفأ وما أكفا، وأشفى وما شفى، وحلى وما حلا، وعفى وما عفا، وسلى وما سلا، ومل وما ملا، واشتف حتى اشتفى، وكف حتى انكفا .. أليس لأجله هاجرت إلى البلاد، وهاجرت مثل بغداد، مجمع سرورك، وموضع سريرك، ومطلع نجمك، وموقع سهمك، ودائرة نقطتك، وبيت شرفك، وليت أسفك، التي هي الروضة والحديقة، والدنيا على الحقيقة؟ سيما وقد ارتفع بها صوتك، واتسع صيتك، وعرفك الأماثل، واعترف بفضلك المماثل، وقد كاد جناحك يريش، ومعاشك يعيش. لكنك هربت من صرف الأيام، وطلبت صرف المدام. وهيهات لك وجه الخلاص، وأنى ولات حين مناص؟ والسماء ألجأتك إلى الصريفة، والحمى أحوجتك إلى القطيفة، وقد صحت الأدواء، وصحت السماء. وبغداد عقد أنت واسطته، وعقدٌ أنت رابطته، ومفرق فضلك تاجه، ومشرق مثلك سراجه، والعيش ها هنا أرغد، والعود إلينا أحمد. ومن أنت قائلٌ بفضله، وقائلٌ في ظله فعلمٌ معروف، وله علم ومعروف، وسيكفيك ويكفيك، ويجزل لك ولا يجزيك.
ومن أخرى إلى والد هذا المويد، يستعطفه له: كتابي إلى فلان، أطال الله له طول البقاء، وأدام عليه ديم النعماء، وجعل مراده وفق المراد، واستسعاده بطاعته فوق الاستسعاد، وأفلته من حبس الحس، ولفته إلى قدس النفس، وأراه ما واراه من وجوده، وأورى له ما وراه من عدله وجوده، عن أشواق تحالفت علي فما تخالفت، وأتواق أضعفت القوى حين تضاعفت، إلى الاستئناس بروائه الروي البهجة، والاقتباس من رأيه الوري الحجة، والتروح بنسيم شمائله، والتلمح لكريم شمائله. فلو سلكت سبيل وصفها لضللت في سهوب الإسهاب، ولو أقمت عماد ذكرها لأطلت أطناب الإطناب.
ولقد امتد إليه سبب نكيري، واحتد عليه لهب ضميري، كيف سمح بنتيجة عمره، وسبب بقاء ذكره، وقطع غصنه وقد أثمر، ومنع مزنه وقد أمطر، حين أشرق كوكبه الدري، واتسق عقده الدري، من الذي استرق قلبك واسترقه، وعرف منبعك فاستحقه؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الرجوع بعد الطلوع.
فبدار بدار، إلى القمر حين الإبدار. فالتلافي بالتلاقي غرةٌ تقتبل، وغرةٌ تهتبل. والعبارة تضيق عن البث، ضيق المصدور عن النفث. وما أظنك تقف على هذه النبذة فتقف، أو تقرأ هذه الأحرف فتنحرف.
ومن أخرى: وصل كتاب الأخ، أطاب الله شراب الدعاء في سحرة تهجده، وأطار غراب الرياء عن شجرة تعبده، وجعل سهام عزائمه صائبة الرمي، وغمام مكارمه صائبة الأتي، وأسرح طرف طرفه في حلبات أزهار العرفان، وأسرج قنديل إيمانه في قبلة قلبه بأنوار الإيقان، وجمع بيننا في مستقر رحمته، ب محمد وعترته.
ولولا أن القلوب تتلافى بعد المزار بقرب التذكار، وتتلاقى بعد البعد في سرار الأسرار، لما استقر بي بلد غربة، وما استفزني شوق الصحبة. واستيحاش العين لشخصه المبهج اللقاء، يضرم نار الشوق المزعج في الأحشاء. والمسؤول إتحافي بمكاتباته الحالية الطلى، وعقار مخاطباته الحلوة الطلا.
ومن أخرى: وطأ الله أكناف ممالك المجد، وأوطأه أكتاف مسالك الحمد، وربط أسباب بقائه بامتداد الدهر، ونقط كتاب ثنائه بمداد الشكر.
أكون لما يعرض من خدمه، كأحد خدمه. فإن شرح لي سوانح أغراضه، وصرح لي عن لوائح إيماضه، سلكت سبيل التحصيل، وتركت مضل التأميل، واجتهدت بقدر الوسع والإمكان، واعتمدت على مساعدة الزمان.
ومن أخرى إلى ولد أخيه:
كتابي إلى فلان، أبان الله نقشة نفسه بكل معلوم، وأبان عن عين عقله كل موهوم، وشحا لسوغ أعماله فم القبول ومحا من لوح خياله رقم المعلول، وقد مسني من خبل الشوق إليه مس، وغشيني للبس ثوب الوحشة لبس، مستصرخاً بالتداني من خطب الفراق ومستروحاً إلى الأماني من كرب الأشواق، لا أجد نشراً من طي الأسف، ولا نشرةً من طيف اللهف. لكن أترجى بعد سيره مسار كتاب منه صادر، يتضمن سائر أخبار السائر، لا تعلل بورود وروده، وأعل من ورد موروده، فيبل غليلي، ويبل عليلي.
وكنت بقربه برهةً من الدهر، في نزهة من الزهر، حتى غار القدر فأغار، ونكث من الحبل ما أغار، ونقد علي المغير المنجد، وبكى علي الغائر المنجد. وليس بناجٍ من علقته ضوابثه، وطرقته حوادثه، وعين التجربة تستشف كدره في الصفاء، وتستشرف إلى عذره حين الوفاء. والآن، فسبيله السكون حتى تركد أكداره، والخمول حتى يخمد شراره، حارساً لطرة دينه من الانحراف، حافظاً لقطرة علمه من الجفاف.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب الوالد، حرس الله واديه، وأخرس أعاديه، وجعل نبراس ذكره عالي المنار، وأساس قدره راسي القرار، وآيات محامده متلوة السور، وغايات مقاصده مجلوة الصور، بعد أن كان عقاب العقاب يطير إليه جناحه، وارتقاب الكتاب يطور به جناحه، فأصبح سفور صبحه، سفير صلحه، وراح نسيم راحه، ما حي عظيم اجتراحه، وأبدى من العذر فائح مسكة سحيقه، وأدنى من الصبر نازح مسكة سحيقه.
وقد كان لظلالي متفيأً، ولأطلالي متبوئاً، مستقبلاً مصلى الأتقياء، و مستقبلاً مصلي العلماء، راقياً لواعج الإرادة، وراقياً معارج السعادة. أذكى مقادح إشعاله، لتبدو ذكاء ذكائه، و والى مصالح أشغاله، ليعلو لواء لألائه. لكن، صل للقدر حسامٌ صل صله، وعقد للحذر حزامٌ جل حله، ونكث مفتول قطيع سيره، فبعث مقتول فظيع سيره، ليشتد بالمنع همه، ويستد في القطع عزمه. شعر: " وحب شيئاً إلى الإنسان ما منعا " . فلا تيأس من قرب عوده، وإن يبس رطيب عوده. فالدهر يجيء ويمر، والعيش يحلو ويمر، وحبل كل مرء ينكث ويمر. ووصيتي إليه إذكاء دراري علمه متى انطفت، وإرساء جواري عزمه وإن طفت، حتى تسكت هواتف القضاء، وتسكن عواصف الابتلاء، ويطيب جو الزمان، ويصوب نوء الإمكان، ويعود موسى عزمه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، وأيقظ كلاً من نومه، وأمسى إلى الإيمان بالغيب داعياً، ولغنم شعيب الغيب راعياً. فاعرف هذه الأمور، وتفهم منطق الطيور.
ومن أخرى إليه: كتابي إلى فلان، والشوق قد استحوذ على الجلد، واستنفد قوى الجلد، طبع الله في شمع سمعه، نقوش فصوص صنعه، ورفع عن قليب قلبه حجاب تراب طبعه، وناجاه بأسرار كنه ملكوته الصادعة النور، وأراه أسرار وجه ملكه الساطعة الظهور.
ووصلني كتابه فكان لنور الأحداق، كنور الحداق، وفي ناظر العين، كناضر العين، وشفى قلباً أشفى على التلف تلافيه، ورقى سليماً للهف بما تلافيه، من طيب أخباره السارة الأوصاف، الدارة الأخلاف، واحتبائه بثوب العافية والعفاف، وارتوائه من سلاف أكرم الأسلاف. فإن لقح ناجم طلعه انعقد أرطاباً، وإن وضح طالع نجمه اتقد شهاباً.
ومن أخرى إلى بعض العارفين: كتابي إلى معين الدين، ومعين طريق السالكين، وعلامة دهره، وعلامة سعادة أهل عصره، جعله الله لقلبه واجداً، وعلى نفسه واجداً، أشرح فيه ما أطوي من مصافاته وإيثاره، وأنشر من صفاته وآثاره، لإجرائنا جواد الإرادة، في جواد السعادة، واهتبالنا غرة دهره الهجود، واقتبالنا غرة فجر الوجود، وهو الأمر تدر أخلافه، ويدرأ خلافه، وإن كان قبلي في قبلة السبق مصلياً، وكنت على أثره مصلياً، وأصبح علم علمه في الناس منشوراً، وأمسى علم علمي مزوراً عنه لا مزوراً، والله المرشد إلى صوب الصواب، والمسعد بثوب الثواب، لأصد عن صدى الحق صدأه، ولأحد عن بلوغ أمله فيه ملأه، والسلام.
ومن أخرى تعزية:
عوضه الله على عظيم مصابه، عميم ثوابه. إن لكل أجل كتاباً، ولكل عمل ثواباً، والإنسان رهن أيامٍ تطرقه نوائبها، وهدف أحكامٍ ترشقه صوائبها، وتزعجه عن استقراره، وتنهجه سبيل قراره، ليستعد لتزود معاده، ويستجد مركباً من أعواده، وهو كطير حبس في قفص بدنه، وبوعد عن وطنه، ونثر له حسنات تقواه، وأرسل من خشبات تقواه، ليرفع طائراً، أو يرجع إلى معاده آخراً. فإن أسف على جنة هواه مثل حائراً، أو أخلد إلى أرض دنياه عدل جائراً، وصائد الشيطان قد نثر أنواع حبوب الأطماع ليوثقه بحبله، وستر أشراك ضروب الإشراك ليوبقه بختله. فإن تم صيده، فهو صيده. وإن تذكر قصده، وتبصر رشده، ونزع عن غوايته، ونزع إلى هدايته، استبصر بغروره، واستنصر بنوره، واستقل ما حوى فيه، واستقل بخوافيه، ومالك رقه لشدة رأفته، وفرط مخافته، أرسل مذكرات النوائب، ومنفرات المصائب، يناديه بلسان الحال، لا ببيان المقال: ما يتهيأ لك ها هنا عش، ولا يتهنأ لك عيش، فعد إلى وطنك الوطي، وسيدك الحفي. وإياك أن يكون حاصل حوصلتك، حب حب عاجلتك، فيثقلك عن النهوض، وينقلك إلى الحضيض. وهذه أمثال لأمثالنا ضربت، واللبيب من تنبه واعتبر، وسلك سبيل من عبر، وتزود التقوى، واستعد للمثوى. فالدنيا قنطرة للجائز، ومقطرة للعاجز، ومركب للعاقل، وملعب للغافل.
وحين وصلني خبر فقيدتك المتردية بالخفر، المتردية في الحفر، أقض مضجعي، وفض مدمعي. ولولا أني في عقابيل نوائب آلمت حين ألمت، وارتهنت ذمة الصبر وما أذمت، لكنت أنا الوافد إليك، والوارد عوض كتابي عليك.
ومن أخرى: كتابي إلى فلان، أدام الله في معارج السيادة ارتقاءه، وأدام في معارج السعادة بقاءه، عن سلامةٍ حالية الجيد، جالبة المزيد، متهدلة الأغصان، معتدلة الزمان، لما نتداوله من تلاوة ذكره، ونتناوله من حلاوة شكره، ولما لاح لواء ولائه، وفاح نشر الثناء من أثنائه، فعم الداني والقاصي، وعم الدين والعاصي.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، أطال الله له البقاء، طول يده بالعطاء، وأدام له القدرة، وبه القدوة، وإليه انصراف الآمال، وعليه اعتكاف الإقبال، ما أشرق طرس بذكره، ونطق جرس بشكره، وجلا منىً، وحلا جنىً. وفضضته عن لآليء در، ولألاء بدر، وسلاف خمر، وائتلاف شذر. له في كل فصلٍ بديع، فصل ربيع، يفوح قداحه، ويلوح مصباحه، وتجول قداحه، وتجود أقداحه. زاهر البهار، باهر الأزهار. قد اشتمل سواد الخط فيه، على بياض الحظ لمعتفيه، فروى دائم عهوده، ديم العهاد، وأروى حائم موروده، العذب البراد، وأبقى موارده عذاباً، وألفى معانده عذاباً، ما سمج وصف شحيح، وسجم كف سحيح.
ووصل البر الذي أولاه ووالاه، والإنعام الذي ابتدأه وثناه، فتلقيته بيد الفائز بقمره، العاجز عن شكره. وكنت أعتقده ديناً مقترضاً، حتى جرى سيله فطم على القري، وخرج على مقابلته بالذكر القري، وإنما الوهاد إذا رضعت أخلاف الجود، بعد إخلاف الجود، ورصعت بلآلئ القطر منها أقطار الجيد، تفتقت أزهارها عن الأكمام، وأشرقت أقمارها من الظلام، فاستفرغت طاقات الدهر، طاقات الشكر، وكان ظهور أثر الندى، حقيقة شكر الندى.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، وقفه الله على منهاج ثوابه، ووفقه لاستخراج كتابه، فكان كالزهر، أضحكه بكاء الغمام، أو الدر، أمسكه بقاء النظام، أو الذهب ذهب غشه صفاءً، فأعرب عن النسب انتماءً، أو سواد الحرق، على الفضة الحرق. لا، بل بنفسج غض، على الجيد الغض، فسرق اللحظ من الخط الحظ، وسبق إلى القلب موشي اللفظ، لأنه طلع قمرياً، وسجع قمرياً، فأذهب حراً، وجلب حراً.
إن الدنيا عاريةٌ في نظر البصير، عارية في يد الخبير. فما لاق فيها لاقٍ لها، وما راق لديها إلا راقٍ عليها. ومن كان فيها على أوفاز، علا أو فاز.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، ملأه الله تعالى بملاءة عمره، وأملاه في إضاءة فجره، ودرأ عنه شر ما ذرأ، وأبر بقدره على من برأ، فراق ما حاكه من الحبر، في البصر والسمع، وأراق ما حكاه من الخبر، مصون الدمع.
ومن أخرى:
وصل كتاب سيدنا، أرغد الله عيش الأسرة والخدم، بنضرة أيامه، وأنجد جيش العسرة والعدم، بنضرة إنعامه، ما فرع شجرة خلافٍ شعباً، وأوقع شجار خلاف شغباً. ولما أخذ الوداد برمته، وجبذ الفؤاد بأزمته، رحل ولم يرحل مثاله، واستقل وقل أمثاله، وسكن وما سكن خاطري من القلق، وهدأ وما أهدأ الإشفاق من الحرق.
ومن أخرى إلى ابن أخيه، يحثه على الدخول بزوجته: ما دجا حبر، وداجى حبر، وأمح منهج ظلام، وانمحى نهج ظلام.
ومنها: وصار كمين الوجد مكيناً، وحنين الغرام جنوناً، ووشيك العذر مستبعداً، والقلب بين الجوانح إليك جانح، وجوارحه لملتمسك جوارح. فاسترسل قلمه في لقمه، ورقم وصف قرمه، وحاكى ما حاك في الخلد، وكنى عما نكأ في الجلد.
ووصل كتابك الشريف الموضع، اللطيف الموقع، فانتطق بشارة بشارةٍ، ونطق بإفصاح إشارة، فسروت قناعه فأقنعني بالمسرة، وقرأت عنوانه فملأ العين قرة، وأزال بلطف نقشه ونفسه، من الطرف وحشة حسه. ولما طرأ عاد الشوق طرياً، ومرى شأن الدمع فوجده مرياً. وكان كالماء الفرات، أو كلم ابن الفرات، وقمت له إجلالاً، وقلت ارتجالاً:
وفى إِليَّ وفاءا ... منك الكتاب وَفاءا
فشفّ قلبيَ، حتّى ... أشفى، وكان الشِّفاءا
يا غائباً كان يروي ... صَدَى العُيون رُواءا
لَقىً تركتَ اصطباري ... يرومُ منك لِقاءا
" وأعذبت عنك - لا عذب قليبك - لا أعذب قلبك " ، فقلت: يتبع راية آرائه، ويقع في هوة أهوائه، ورأي الفطرة فطير وخيم، وحجر الشريعة حجرٌ لكل طبعٍ وخيم. فمن مري خلفها غذوا، وأمر خلفها عدوا.
وكنت حين طلبت سر هذا الأمر، وركبت ظهر هذا البحر، جعلت الإيمان أميني، والقرآن قريني، والشريعة ذريعتي، والسنة جنتي، مستمراً على أمرها، ومستمرئاً جنى مرها، حتى انفتحت لي مغالقها، واتضحت لعيني طرائقها، وأحدقت بي حدائقها.
والفقه غرس ربما حنظل شجره، ودرس ربما درس أثره. والسنة ألجأتك إلى خبط الميس، والأئمة خيرٌ من قيس.
ولنشرح لك حقيقة الخلاف، في المسألة الدائرة بين الأطراف: فإن الشافعي، شافي عي، بل أحمد، الذي أنت له أحمد: التفت عن الدنيا سالياً، ونظر نظراً عالياً، ومن سلا سلم، ومن علا علم، فقال: المقصود من هذا الوجود، الاشتغال بعبادة المعبود، والإقبال على النكاح يشغل، فالتخلي للعبادة أفضل. وذاك حين تسكن نوازع الشهوة، وتمكن منافع الخلوة. وأما النعمان فأنعم النظر، وأحكم المرر، ونظر محيطاً، وأفتى محتاطاً.
ومن تخلى لنوافل الشرع، نوى فل الجمع. ومن أذهب الفرض للنافلة، ووهب الأرض للناقلة، فقد عند، وما عبد. يسكن من الطبع ما يرى مائراً، ويمكن من الشرع ما طرأ ماطراً. ومتى أرى ظل الهوى، أضل إراءة الهدى. ويرق لمن ملك رقه، ويوفي كل ذي حق حقه، فيضرب في نوافل العبادة بسهم، ويضرب عن وجه غرض النكاح بسهم، ويكون له في كل مشروع، بالقلب شعورٌ وبالقالب شروع، ويدق كل باب، ويذوق كل لباب، اتباعاً لقول الرب الواحد: " يا بني. لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ " . وآداب الأنبياء، دأب الأولياء، وأقوالهم، أقوى لهم.
النفوس إذا التحف صاحبها بأخلاق من أخلاق، أو فاق في أفعال على غير وفاق، أو رفض من الشرع ما رفض، وعرض بما هو له غرض، أو سرق طبعه ذميم الأخلاق، ممن ليس له خلاق، وأخلاق السوء من القرناء، أعدى من الثؤباء، وليس بين الأعداء، شيء من الإعداء؛ فشفاؤك إشفاؤها، وجلاؤك جلاؤها. فعاد الحكيم إلى النفس، واتخذ من الطب ومنهاجا وقانونا، وقال: الحكمة في سمك الماء، كهي في سمك السماء، والنفس كالشخص، في الصحة والنقص.
فاجعل العقل إماماً، وقدمه أماماً، وفوض إليه التأمير، والسكنى في التامور.
من ند عن الكمال ندم، ومن عد من الجهال عدم. فأخلد بخلدك إلى الخلد، واستعد لورود هذا العد.
وإن عدت إلى عادية عادتك، واعتددت بغادية غادتك، وإن اتسع لك المجال، وامتنع منك المحال، تخلصت زبدتك عن المخض، وخلصت إلى الحق المحض، وأطفت بملكٍ لا يبلى.
فإن أعادك إلى حبسك فلحكمته، وإن أرادك لنفع جنسك فلرحمته. وخذها طويلةً غير قصيرة، ومشورةً كالشهد مشورة، وعليك السلام، وأفضل التحية والإكرام.
وتوفي أبو المعالي الكتبي ب بغداد في سنة ثمان وستين وخمس مئة.
ابن الريفية
من أهل الراذان.
كان من رؤسائها. قعد به الزمان، وحاربه الحدثان، فقصد الأمير دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، وكان لا يهب إلا وقت سكره، فأنشده قصيدةً.
منها:
فلم يبقَ، يا تاجَ الملوكِ، وسيلةٌ ... يَمُتُّ بها ذو حاجة وَهْوَ مُضْطَرُّ
سِوى الخمرِ أَنْ أضحى لَدَيْك منارُها ... فوا سَوْأتا إِن قيلَ: شافِعُه الخمرُ
وحاشا وكَلا أَنْ يقالَ: ابنُ مَزْيَدٍ ... كريمٌ إذا ما هَزَّ أعطافَهُ السُّكْرُ
المهند أبو البركات بن بصيلة المزرفي
من أهل عصري.ذو خاطر كالمهند الطرير، وعبارةٍ ذكية كالعبير. من ضامه منظومه لن يجار، ومن ثار بمنثوره لا يجد القرار.
إذا شبب ونسب أطرب، وإذا عتب واستعطف استعتب، وإذا مدح وأطرى أعجز وأعجب، وإذا ذم وهجا ثلب وأغضب.
هو من كتاب الرؤساء، ورؤساء الشعر.
كيف يسمي أبوه بصيلة، وقد أجنى بولده عسيلة؟ سألت أبا المعالي الكتبي عنه، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، فذكر: أنه حين عرفه ب العراق عارق العطلة ونكد العيشة، وشام ب الشام وديار بكر برق المعيشة. رحل مشيماً، وأبل بسفره مغيماً. وها هو الآن كاتب بلدة كذا مستقيم الجاه، في نعمة الله.
وأنشدني من شعره ما نقلته من مجموعه.
فمن ذلك له من قصيدة في الغزل:
فَرْعاءُ. بالطُّول قد خُصَّت ذَوائبُها ... حُسناً، كما خَطْوُها قد خُصَّ بالقِصَرِ
إذا تمشّت، لتقضي حاجةً عرَضَت، ... تمحو الذَّوائبُ ما بالأرض من اَثَرَ
وله:
أذاب قلبي بدرُ تِمٍّ، له ... أَلحاظ رِئم وقَوام القَضيبْ
في خدّه وردٌ، وفي رِيقه ... شُهْدٌ، وفي النَّكْهَة للصَّبّ طيبْ
يلحَظُني شَزْراً إذا جئتُه ... لأنَّه يعلَمُ أَنّي مُرِيبْ
وله:
أَفدي الذَّي زارني وَهْناً، وقد هجَعَت ... عينُ الغيور، ونام الحاسدُ الحَنِقُ
فبِتُّ أَلْثِمُ كفَّيْهِ، وأُكبِرُهُ ... عن قُبلة الخدّ، حتّى قوَّض الغَسَقُ
وله يصف الروض:
الرَّوضُ بينَ متوَّجٍ ومُكَلَّلِ ... والماءُ بين مُكَفَّرٍ ومُصَنْدَلِ
فانظُرْ إلى الوَسْمِيّ كيف كسا الثَّرَى ... ثوباً، يطرِّزُهُ مَعيِنُ الجدول
تلحَظْ جِنانَ الخُلد في الدُّنيا، بلا ... شكّ، وتَرْنُ نزهةَ المتأمِّلِ
فكأنَّ غَيْدانَ البَنَفْسَجِ عاشقٌ، ... بالصَّدّ والهجرِ المُبَرِّجِ قد بُلِي
وكأنَّ زهرتَه بقيّةُ عضَّةٍ ... في خدّ رئِم ذي دلال أكحلِ
والنَّرْجِسُ الغَضُّ الشَّهِيُّ، كأنّه ... حَدَقٌ . . أصابت بالصَّبابة مَقْتَلِي
مالي وللآرام؟ قبّح حسنها ... حالي، وغالت بالجمال تجمُّلِي
وتركنني غَرَضَ الرُّماةِ مُقَسّماً ... بينَ الوُشاةِ وبينَ عذلِ العُذَّلِ
هذا البيت مطابق مجانس، وقد وقع اختياري عليه وما يتلوه.
وله في الاستجداء استزادة:
خليفةَ الله، إِمامَ الهدى ... رِقاعُنا لِمْ حُبِست عنّا؟
إِن أنت لم تَقضِ بها حاجةً ... لنا، فلِمْ تأخُذُها مِنّا؟
وله في الذم:
اعتدلَ النّاس في النَّذالةِ والجه ... ل وضاقت مسالكُ السّالِكْ
فمن جحيم إلى لَظَى سَفَرٍ ... ونحن من هالك إلى مالِك
وله:
كمالُ الدِّين نقصُ الدِّيِ ... نِ لا شَكٌّ ولا كذِبُ
لئيمٌ. خانَهُ حسَبٌ، ... ولم ينهَضْ به أدبُ
تراه يفور من غيظ ... على الرّاجي ويلتهبُ
ويَهْوَى أَنّ آمِلهَ ... بكفّ الحَتْف مُسْتَلَبُ
فلا دامت له الدُّنيا، ... ولا رقَدت له النُّوَبُ
لو قال: " فلا انتبهت له الدنيا " ، كان أحسن في المطابقة.
وله أيضاً:
إذا ما قَنَعنا باليسير، ولم يصل ... هنيئاً، قَنَعنا بالنَّزاهة والفقرِ
وحاشا أبا الفَيّاض ممّا يَشيِنُه ... يقول: نَصيحٌ غَشَّهُ، وَهْوَ لا يدري
وسألت عنه ب الموصل سنة سبعين وخمس مئة، فقيل لي: إنه صاحب دارا ونديمه، ويواظب عمله ويديمه.
دبيس المدائني
من المدائن.ضرير، بالأدب بصير. لقيته، واستنشدته أشعاره. وهي في غاية الرقة، بعيدة عن التعسف وارتكاب المشقة.
لما توفي ثقة الدولة بن الدريني، سنة تسع وأربعين وخمس مئة، رثاه بقصيدةٍ، أنشدني منها من حضر العزاء، وهو عز الدين البروجردي، قال: سمعته ينشد:
قد قلت للرَّجُل المُوَلَّى غسلَهُ ... هَلاّ أطاع، وكنت من نُصَحائِهِ
جَنِّبْهُ ماءَك، ثُمَّ غَسِّلْهُ بما ... تُجْريه عينُ المجدِ عندَ بكائِهِ
وَأَزِلْ أفاوِيهَ الحَنُوطِ وطِيبَهُ ... عنه، وَحِنّطْهُ بطِيب ثَنائِهِ
ومُرِ الكِرامَ الكاتبينَ بحَمْله ... أَوَ ما تراهم وُقَّفاً بإزائِهِ
لا تُوهِ أَعناق الرِّجال بحمله ... يكفي الَّذي فيهِنَّ من نَعْمائِهِ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، بن الحصين، من قصيدةٍ، سمعه ينشدها في الوزير، يصف الحرب:
وفي قدود الرِّماح السُّمْر منعَطَف ... وفي خدود السُّرَيْجِيّات توريدُ
تغنّتِ البِيض، فاهتزَّ القَنا طرباً ... مثلَ اهتزازِك إِذْ يدعو بك الجودُ
القاضي أبو حامد بن الأشتري
من المدائن.ذكر الأمير ابن الصيفي: أنه كان من معيدي المدرسة النظامية ب بغداد. من فضلاء أصحاب الشافعي.
وكان له صديق من باب النوبي: يجتمعان كل ليلة عند ضوء المنار المنصوب، يتحادثان. فإن رفع المنار الذي يشعل، يفترقان.
قال: أنشدني لنفسه في المنار:
رِكابُ أدلَّة، كالسَّطْر حالا ... قوائمه مخالفة كلالا
لكلّ مطيّةٍ منها ثلاثٌ ... وما عرَفَت قوائمُها كَلالا
إذا ميِطت عمائمُهم أناخُوا ... وإِنْ نِيطت بهم ثُرْنَ اشتعالا
مواقفُ للعتاب لنا حِذاهم ... نواعدهنَّ هَجراً أو وِصالا
فيسكُنً صاحبي، وهُمُ وقوفٌ، ... ويقلَقُ كلَّما عزَمُوا ارتحالا
المعلم أبو الأزهر
الضحاك، بن سلمان، بن سالم، بن وهابة، المرئي. من أهل المحول.قال السمعاني في تاريخه المذيل: شيخ صالح. له حظ من اللغة والعربية. يعلم الصبيان ب المحول. وله يد باسطة في الشعر.
وأورد مما أنشده لنفسه قوله:
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة، أوفَى من العافِيَهْ
وكلُّ مَنْ عُوفيَ في جسمه ... فإنّه في عيشة راضيه
والمالُ حلوٌ حَسنٌ جيّدٌ ... على الفتى، لكِنَّه عاريه
وأسعدُ العالم بالمال، مَنْ ... أدّاه للآخرة الباقيه
ما أحسنَ الدُّنيا ولكنّها ... مَعْ حسنها غادرةٌ فانيه
وقوله:
هَبُوا الطَّيفَ ب الزَّوْراء ليس يزورُ ... فما لنجوم الليل ليس تغورُ؟
تطاولَ بعدَ الظّاعنينَ. وطالما ... قضينا به الأوطارَ، وَهْوَ قَصِيرُ
فإِن يُمْسِ طَرْفي ليس تَرْقَا جفونُهُ ... فيا رُبَّما أمسيتُ وَهْوَ قريرُ
لياليَ يُلهيني وأُلهيهِ أَغيدٌ ... أَغَنُّ غَضيضُ المقلتين غريرُ
هذا، ما اخترته.
أبو القاسم عبد الغني بن محمد بن عبد الغني بن محمد بن حنيفة
الباجسري
رجل فاضل، صالح، متميز. من تناء بعقوبا، من أعمال طريق خراسان ب بغداد.توفي بها في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسة مئة.
قال محمد بن ناصر، الحافظ البغدادي: ولي منه إجازة بجميع رواياته، وسمعت عليه أيضاً.
أنشدني عبد الغني الباجسري لنفسه قوله:
إِنْ تحاولْ علم ما أُضْمِره ... من صفاء لك، أو من دَخَلِ
فاعبِرْهُ منك، واعلم أَنَّه ... لك عندي مثلُ ما عندَك لي
وقوله:
لا تَكُ ما بينَ الورى معلِناً ... بالأمر، إلا بعدَ إِبرامِهِ
فمن وَهِي أمرٍ وإِفسادِه ... إعلانُه من قبل إِحكامِهِ
وقوله:
لو كفى الله شرَّ أهلِ زماني ... مثلَما كُلَّ خيرِهم قد كفاني،
سِيَّما منهم الّذي كنتُ أرجو ... ه من الأَصفياء والخُلاّنِ،
عشتُ في غِبطة وفي خفضِ عيشٍ ... آمناً من طوارق الحدثانِ
فإِلى الله أشتكي جورَ دهر ... زائدِ السُّوء ناقصِ الإِحسانِ
ويروى:
فإِلى الله أشتكيهم، وأرجو ... ه يُعافي منهم بما قد بلاني
وبه أَستعين، إِذْ كلُّ راجٍ ... عونَ غيرِ الإِله غيرُ مُعانِ
أبو علي الحسين بن جعفر بن الحسين الضرير
البندنيجي
الأديب المعروف ب ابن الهمذاني. من شعراء الدولة القائمية والمقتدية.نقلت من كتاب تكملة الذيل ل ابن الهمذاني من مدائحه في القائم بأمر الله من قصيدة، يهنئه فيها بعوده إلى دار الخلافة بعد ما تم الذي تم من البساسيري، وبعد أمير المؤمنين إلى الحديثة، وعوده في أيام طغرل بك سنة إحدى وخمسين وأربع مئة.
منها:
أقام ثِقافه الإسلام لمّا ... تأوَّد، إذْ بأمر الله قاما
وعاد العدل، بعد بِلىً، قَشيباً ... به، والدِّيِنُ مقتبلاً غلاما.
ولمّا أَنْ طغت عُصَبٌ، وطاشت ... حلومٌ . . أورثت لهم ضِراما
وقادهم القضاء إلى عُتُّلٍ ... زَنيِمٍ، قاد للفِتن السَّواما
أتاح الله ركن الدّين لطفاً ... وتأييداً، فأخزى من أَلاما
وأردى العبدَ، لا جادت يداه ... سوى النّيرانِ تضطرمُ اضطراما
وأتعسَ جَدَّه، وَأدال منه، ... وأقعصه وقد جَدَّ انهزاما
ومنها:
أميرَ المؤمنين رِضى وغَفْراً ... لعارضِ نَبْوَةٍ طرَقَت لِماما
فإنّ الله أبلاك امتحاناً ... كما أبلى النَّبييّن الكراما
صَفِيّ الله آدمُ إذْ عصاه ... فأهبطه إلى الأرض انتقاما
غوى، ثمّ اجتباه، فتاب هَدْيا ... عليه، وعاضَهُ نِعماً جِساما
وإِبراهيمُ لمّا راغَ ضرباً ... على أصنامهم، فغدت حُطاما
وقال: ابْنُوا عليه، وحرِّقوه ... وقال لناره: كوني سلاما
وأَيُّوبُ ابتلاه بطول ضُرٍّ ... وألبسه المذلَّةَ والسَّقاما
فناداه، فأنعمَ مستجيباً ... له، وأتمَّ نعمته تماما
ويوسُفُ حين كادَ بنو أبيه ... له كيداً، وما اجتنبوا الأَثاما
فملَّكه، وجاء بهم إليه ... كما جاؤوك طوعاً أو رَغاما
ولَمَّ الله شملَهُمُ جميعاً ... كذلك لَمَّ شعبكم انتظاما
فأمسى الشَّمل ملتئماً جميعاً ... وزادَ ب عُدَّة الدِّين التئاما
وليّ العهد، والملك المُرَجَّى ... لتقويم الهدى أَنَّى استقاما
فبورك للرَّعيَّة فيه مولىً، ... ودُمتَ إمامها أبداً، وداما
لقد قرَّت بأوبته عيونٌ ... تجافت، منذُ زايَلَ، أن تناما
وأسفرت الخِلافة بعدَ يأس ... وحالَ قطوبُ دولتِها ابتساما
فلا عَدِمَتْكُما ما لاحَ نجمٌ ... تَحُوطانِ الشّريعةَ والأَناما
ولا زالت يمينُ الله تُهدي ... لعزّكما السّعادة والدَّواما
وله من قصيدة، يهنئه بفتح بلاد الروم على يد ألب أرسلان سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة:
عندَك يرجى العفوُ عن مذنبٍ ... أسلمه للحَتْف عُدوانُهُ
ومن أياديك بحورِ العلى ... كلُّ مُدِّلٍ عزَّ سلطانُهُ
هذا ابنُ داوودَ الَّذي قد سمت ... فوقَ نجوم الأُفق تيجانُهُ
باسمك يسطو حين يلقى العدا ... فتَفْرِسُ الأملاكَ فُرسانُهُ
أرهفتَه سيفاً صقيلاً، به ... ينقتل الكفرُ وأوثانُهُ
واصطلم الأعداء، واستهدمت ... دعائم الكفر وأديانُهُ
تَبّاً لكلب الرُّوم إذْ غَرَّه ... تزاحمُ الجيش وصُلبانُهُ
آلى يميناً أن ينالَ العلى ... فانعكست بالخِزي أَيمانُهُ
ويلُ أمِّهِ في الأَسر، مستعبِراً ... يندَمُ إذْ منَاه شيطانُهُ
لم يُغنِ عنه الجمعُ شيئاً، كما ... لم يُغنِ ذاك الجمعَ شجعانُهُ
وسوف تلقى مصرُ من بعدها ... هولاً، يُشيب الطّفلَ لُقيانُهُ
لا بُدَّ للقائم من أن تُرَى ... منشورةً في الغرب عِقبانُهُ
يملِكها شرقاً وغرباً، على ... رُغْم العدا، والله مِعوانُهُ
وعُدَّة الدِّين الإِمام الَّذي ... أهَّله للأمر رَحمانُهُ
خِلافة بالدَّهر مقرونة ... لا تنقضي ما لاح كيَوانُهُ
فدامَ للأمَّة، يرعاهُمُ ... موفَّقاً في العدل رُعيانُهُ
وله من قصيدة في تهنئته بإقامة الخطبة ب الحرمين سنة أربع وستين وأربع مئة:
بحبل القائم المهدي اعتصمنا ... فما نخشى نوائبَه الصِّعابا
براه الله غيثاً للبرايا ... وغوثاً يَدْرَؤوُن به العذابا
وقد خضعَت لهيبته البوادي ... وقد مدَّت، لخَشيته، الرِّقابا
ألم تَرَ للمغارب كيف عاذت ... بمِلَّته، لدعوته انقلابا؟
وأَنَّ منابر الحَرَمَيْنِ أَنَّتْ ... لخطبة من تملّكها اغتصابا
فلا زالت يمين الله تهدي ... لدولته السَّعادة والغِلابا
وله يهنئ الإمام المقتدي بالخلافة، ويعزيه عن القائم، سنة سبع وستين وأربع مئة، من قصيدة:
ولما انتهت ب القائم الطُّهْر مُدَّةٌ ... مقدَّرة، كالشمس حانَ أفولُها
تسربلتَها أندى الخلائف راحةً ... وأجدرَ مَنْ أفضى إليه وصولُها
وقمتَ بأمر الله، مقتدياً به، ... فقرَّت عيونٌ، نال منها هُمولُها
لِيَهْنِ نفوساً، أمَّلَتْك، تيقُّناً ... بنيل العلى والفخر فيما تُنيلُها
بجودك يستسقَى من المَحْل، كلَّما ... أَرَبَّتْ بأَقطار البلاد مُحولُها
فلا يحسَبِ المغرورُ في مِصْرَ أَنَّه ... ستَعصِمُه منك الفَيافِي وطُولُها
فلو بكتاب رُعْتَهُ، لا كَتيبةٍ، ... لَخَرَّتْ رواسي مِصْرَ، أو غارَ نِيلُها
وله من قصيدة في بهاء الدولة، منصور، بن دبيس، بن علي، بن مزيد، الأسدي، والد صدقة، يهنئه بإفضاء الإمارة إليه، بعد وفاة والده في شوال سنة أربع وسبعين وأربع مئة، في أيام ملك شاه:
جزى الله سلطانَ الملوك سحائباً ... من الرَّوح، تحبوه النّعيمَ، وتُزلِفُ
جزاءً بما أبقت لنا مَكرُماتُه ... هًماماً، به تُزْهَى نِزار و خِنْدِفُ
ولولاك، يا منصور، لم يُلْفَ بعدَه ... مُجيرٌ على خَطْب، ولا مُتَنَصَّفُ
لَئِنْ شرُفت أرض بمَلْك، لقد غدت ... بك العُرب والدُّنيا معاً تتشرَّفُ
فِدى لك مَن يبغي العلى وَهْوَ باخلٌ ... ويطلُب غاياتِ المَدى وَهْوَ مُقْرِفُ
إِذا هُزَّ للمعروف، مال بعِطفه ... إلى اللُؤم طبعٌ في الدَّنايا مُلَفَّفُ
إليك بهاءَ الدَّولة اعتسفتْ بنا ... أَمانٍ، لغير المجد لا تتعسَّفُ
بقِيت لنا، ما حنَّتِ النِّيبُ، قاهراً ... عِداك، وما ضمَّ الحَجِيجَ المُعَرَّفُ
وله في مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله - قصيدة، منها:
لتفخرِ الشّريعة كيف شاءت ... ب إِبراهيمَ إذْ يَشفي السِّقاما
أعاد بهديه الإسلامَ غَضّاً ... وأنشر من معالمه الرِّماما
به اتّضح الهدى والدِّينُ فينا ... وكان الحقُّ أعوجَ فاستقاما
إِذا نصر الجدال، رأيت منه ... لساناً، يفضَح العَضْبَ الحُساما
فأمَا في الدُّروس إِذا تلاها، ... فموجُ البحر يلتطم الْتِطاما
وله من تهنئة للوزير أبي شجاع بالوزارة، سنة ست وسبعين وأربع مئة:
هنيئاً لك المنصِبُ الأرفعُ ... ولا زِلت بالملك تستمتعُ
وَمَّلأَك الله ما فَوَّضَتْ ... هُ إليك الخِلافةُ، لا يُنْزَعُ
مقام، يشُقّ على الحاسدينَ، ... رٍقابُ الملوك له تخضَعُ
وأَعظِمْ به شرفاً باذخاً ... إلى مستقرّ الهدى يشفَعُ
أتتك الوزارة مشتاقةً ... إليك، وأنفُ العلى أجدعُ
أبَتْ أن تُقيم على ظالمم ... على المَكْرُمات، فتستشفعُ
ومنها:
فلولاكها كافلاً إِنّه ... تقلّدها ماجدٌ أَرْوَعُ
بصَيرٌ بتثقيف أيّامها ... أمينٌ إِذا خانَ مستودَعُ
وتحسَبُ سَحْبانَ في دَسْته ... و قُسّاً إذا احتشد المجمع
وبين الجوانح من معشر ... غَليلٌ، بحَرّ الرَّدى ينقَعُ
وهيهات يروى صَداهم بها ... وقد عزَّ دونَهم المَكْرَعُ
أناسٌ ربيعُهُمُ مُجدب ... وأنتم ربيعٌ لهم مُمْرِعُ
وباعُهُمُ في العلى ضيّقٌ ... وباعُك في المجد مستوسعُ
لَشَتّانَ بينكما في القياس ... وهل يستوي النَّبْعُ والخِرْوَعُ
وبيتُك من فارس دوحةٌ ... بِدَرّ المكارم تسترضعُ
مَعالٍ من الله موهوبةٌ ... وما وهَب الله لا يخلعُ
وكم قال ذو أدب، أمحلت ... مُناه: متى يُخصب المرتعُ؟
فبّلغه الله آماله ... بما طبّقت مُزنة تَهْمَعُ
كفَلْتَ الرَّعيَّة من دهرها ... فلستَ لنائبه تخشَعُ
ويُمناك باليُمن تَغْشَى البلاد ... أَماناً، ويا طالَما رُوِّعُوا
وأحيا بك المقتدي أُمّةً ... يحرّمها كَلأ مُسبَعُ
وما اختار للأمر إلا فتىً ... إليه قلوب الورى تَنْزِعُ
فلا أعدم الله إحسانَه ... رعاياه، ما أشرقَ المَطْلَعِ
وله في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن علي، بن مزيد من قصيدة، يذكرها فيها فعله يوم آمد، في الوقعة بين شرف الدولة، مسلم، بن قريش و فخر الدولة، بن جهير. وكان سيف الدولة حاضراً، فوقف كرمه على فك الأسرى من بني عقيل، واستنقاذهم، وإغناء فقرائهم، وإعطاء عفاتهم:
إنا نحن وافينا فِناءَ ابنِ مَزْيَد ... توالت لنا سُحبُ النَّدَى وانسكابُها
فِناءٌ يَفِيْ المعتفونَ إلى الغِنى ... بنائله، حتّى يرجَّى ثوابُها
يُجير إذا جار الزَّمانُ وريبُه ... ويُجْدِي إذا الأَنواءُ ضَنَّ سَحابُها
إذا ورد العافون مَغْناه، صادفوا ... بحور عطاياه يَعُبّ عُبابُها
تكاد مَقاريه، سروراً وبهجةً ... بِضيفانه، تسعى إليهم قِبابُها
وتُمسي لهم في جِيد كلّ متوَّج ... صنائعُ، لم يَخْطِر ببالٍ حسابُها
ويغشى الوغى واليومُ بالنَّقع مُسْدِفٌ ... وللحرب نارٌ لا يبوخ شِهابُها
كيوم عُقَيْل والرِّماحُ شواجرٌ ... وبِيضُ الظُّبَى يُرْدي الكُماةَ ضِرابُها
غَداةَ غدت للتُّرك في الحيّ وقعة ... أباحت حِمى دارٍ عزيزٍ جَنابُها
فأُقسِمُ لولا نخوة مَزْيَدِيَّةٌ ... لباتت على حكم السِّباء كَعابُها
ولكنّ سيفَ الدّولة ابنّ بهائِها ... حَمَى عِرضَها والتُّرك تَحْرَقُ نابُها
تناشده الأرحامَ والنَّقْعُ ثائرٌ ... ولا يحفَظُ الأرحامَ إلاّ لُبابُها
وكم ذاد عنها المَزْيَدِيُّونَ بالقَنا ... سُيوفَ العدا من حيثُ غَصَّ شرابُها
عشيةَ لاذتْ بالفرار من الظُّبَى ... وذلّت سباع، طالما عزَّ غابُها
وجاست خلالَ المَوْصِل الخيلُ عَنْوَةً ... وعاثت بأسلاب الأسود ذِئابُها
ولولا عوالي نورِ دولةِ خِنْدِف ... لمَا انجاب عن تلك الشُّموس ضبَابُها
فلا زال منكم يا بني مَزْيَدٍ لها ... مُجيرٌ، إليه في الأمور مَآبُها
إذا نابَها خَطْبٌ، فأنتم مَلاذها ... وإنْ رابَها جَدْب، فأنتم رَبابُها.
وله يمدح الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رضي الله عنه، من قصيدة، ويذكر المدرسة النظامية ب بغداد، ويصفها:
وهذا سيّدُ الوزراء، لمّا ... رآه يَجِلُّ عن نيل المُنِيلِ،
بنى للعلم داراً، واصطفاه ... لها، فسمت، وعزّت عن بَدِيلِ
نهنّيه بها، والدّارُ أَولى ... وأجدرُ أن تُهَنَّأَ بالنَّزِيلِ
مشيّدة، تَتِيهُ على اللَّيالي ... بأعجبِ منظرٍ حَسَنٍ جميلِ
يكاد يحُكُّ مَنِكْبُها الثُّرَيّا ... بفَرْعٍ مدهشِ الرّائي طويلِ
ويفخَرُ سيلُ دجلةَ حين أمست ... له جاراً على كلّ السُّيولِ
يقبّلُ حافَتَيْها الموجُ حبّاً ... لها، كمقبّلٍ خدَّيْ خليلِ
تولاّها، فأغرب في بناها ... ذكيُّ القلب ذو رأيٍ أصيلِ
وله في ألب قرا البكجي أمير التركمان، وقد قال له: سوغك نظام الملك خراجك. قال: لأنني مدحته. قال: فامدحني، حتى أفعل معك مثل ذلك. فمدحه بقصيدة، ذكر فيها الوقعة التي كانت بينه وبين خفاجة وكسره لها:
ألب قرا البكجي الفارس البطل ال ... مُغْني بجود يديهِ كلَّ مرتادِ
الذّائذُ، الضّاربُ الهاماتِ، مخترماً ... في الرَّوْع آجالَ أبطالٍ وآسادِ
حامي الذِّمار، عزيزُ الجار، همَّتُه ... إِمّا لكَبْت عدوٍّ، أو لإِحمادِ
يغشى الحروبَ بنفس غير وانية ... عن الطِّعان، وقلبٍ غير مُنْآدِ
سهلُ الخليقة، ميمون النَّقيبة، مَرْ ... هُوبُ العزيمةِ، لا باغٍ، ولا عادِ
سطا، فأشبه في إقدامه ملكاً ... وربمَّا ساد آباءٌ بأولاد
يا خيرَ مَنْ ساد عزّاً في بني بكج ... سامٍ إلى خير آباء وأجدادِ
إِنّ الخليفةَ مُذْ أدناك منتصراً ... أدناك مستيقناً منكم بإنجادِ
نِداءَ ذي العرش موسى حين أرسله ... في آل فِرْعَوْنَ يدعوهم بإرشادِ
أوحى إليهِ: أَنِ اضرِبْ بالعصا، فَهَوَوْا ... في إثمهم، وأراهم صدقَ ميعادِ
واختارك الله للأَعراب مثلَ عصا ... موسى لِيَفْلِقَهم ضرباً على الهادي
لمَا عبرت إلى غربيّ دجلةَ في ... جيش من التُّرك سيراً غير إِرْوادِ
من خيل سلغرَ، لا زالت كتائبهم ... في الحرب منصورةً، مرهومةَ الوادي
طارت خَفاجةُ في البَيْداء طائشةً ... خوفاً، تَقاذَفُ من شِعْب إلى وادِ
فاستقدمت للوَغَى كعب وإخوتها ... بنو كِلاب بإبراق وإرعادِ
والأشقياء بنو حرب و خِضْرِمة ... و بُحْتُر ورجال غير أوغاد
حتّى إذا ما التقى الجمعانِ في رَهَج ... أقبلتَ تَخْلِطُ أعناقاً بأجياد
أغرقتهم في بِحار من دمائِهِمُ ... كأنَّ أرضَهمُ جاشت بفِرْصادِ
أتيت منهم ربيعاً في ديارهِمُ ... فالطّيرُ ترتَعُ في خِصْب من الزّادِ
وبات يُثني عليك المادحونَ بما ... أبليتَ ما بين إِتهام وإِنجادِ
وسار ذكرك في الآفاق منتشراً ... ذِكراً يغنّي به الغِرِّيدُ والشّادي
فاشكر هنيئاً مَرِيئاً ما خُصِصتَ به ... عند الخليفة من شكر وإرفادِ
وله في أبي سعد، عبد الواحد، بن أحمد، بن الحصين صاحب المخزن في الدولة المقتدية، عند عوده من الحج، من قصيدة، منها:
وعلَّلْت قلباً بارتقاب مبّشِرٍ ... يبّشِر أَنَّ الرَّكْبَ في البِيد مُعْرِقُ
فلمّا بدا وجهُ ابنِ أحمدَ، كبّرت ... رجالٌ، إلى لُقيانه تتشوَّقُ
وأُفحمت عن بثّ اشتياقي مسرّةً ... وشاهدُ حالي عن ضميريَ ينطِقُ
فظَلْتُ أقوتُ النَّفسَ ألفاظَه التّي ... شَفَتْ كِبداً، للبَيْن كادت تَمَزَّقُ
وأَلْثِمُ أَخفافَ المَطِيّ التَّي خَدَتْ ... وأرضاً غدت فيها مَطاياه تُعنقُ
فلا روضُ ذاك الأُنس فيها مصوِّحٌ،ولا بُرْدُه ما حنَّت النِّيبُ مُخْلِقُ
لَئِنْ كنت أوحشتَ العِراقَ، لقد غدا ... ل مَكَّةَ أُنس في القلوب معشَقُ
ونالت بها منك المُنَى، إذ دخَلْتَها ... ورُحتَ وواديها بفضلك يَنْطِقُ
وأبدى لك البيت الحرام بشاشةً ... بها أَرَجٌ، من طِيب نَشْرِك، يعبَقُ
ولَمَّا استلمتَ الرّ؟ُكنَ، زاد بهاؤه ... وكاد، بما مسَّتْه يُمناك، يورقُ
ولو نطَقت أعلام مكّةَ لاَنْتَشتْ ... بما عِلمتْ، تُثني عليك وتصدُقُ
وقضَّيْتَ ما قضَّيتَ في كلّ موقف ... وحجُّك مبرورٌ، وأنت موفَّق
ودونَ الَّذي تخشى، ولا مَسَّكَ الرَّدى، ... دعاءٌ، بأعناق السَّماء معلَّقُ
يَبيت وجيِدُ الليلِ منه مُمَسَّكٌ ... ويُضحي ونَحرُ الصُّبحِ منه مُخَلَّقُ
وأورده السمعاني في كتابه الموسوم ب المذيل، وأثنى عليه، وأسند إليه ما روي له عنه من شعره في نظام الملك:
فلو أَنَّ يحيى كان يحيا، وجعفراً ... وفَضْلاً لقالوا: عندك الفضل موجودُ
أسأتَ إليهم حينَ أخملت ذكرهم ... بفعلٍ لَدَيْه بِيضُ أفعالهم سُودُ
وله فيه:
عَمَّ معروفك غرباً، مثلَما ... عَمَّ شرقاً، وكذا الشّمس تَعُمّ
بأَيادٍ، ملأت كلّ يد، ... فانثنى يُثني عليه كلُّ فَمْ
خُلِقت يُمناك يُمناً للورى ... والمعالي والعَوالي والقلمْ
وله في المدح:
تواضعَ لمّا أَنْ تغلغل رفعةً ... وعُظماً، ومن مجد العظيم التَّواضُعُ
ترى عُصَب الأملاك حولَ سريره ... وكلٌّ له في نخوة العزِّ خاضعُ
أبو سعيد عقيل بن جعفر بن أحمد بن جعفر
الهمذاني
من أهل البندنيجين. من عصبة الشاعر السابق ذكره. وكان أحد الفضلاء المقدمين. وكان قيماً بصناعة الشعر والأدب، عالماً بالعروض والقوافي.روى السمعاني عن محمد، بن علي، بن جعفر، بن الحسين، البندنيجي أنه قال: سمعت والدي يقول: سمعت عم والدي يقول: أتاني أبي في المنام، وقال لي: هل لك في أن تمصرع وأتمم، أو أمصرع وتتمم؟ فقلت:لا، بل أمصرع وتتمم. فقال لي: يا عيار هربت من القافية، ولكن قل.
فقلت:
هل عندَكم رحمةٌ يرجو عواطفَها
فقال:
صَبٌّ، تشكَّت إلى الشَّكوى جَوارحُهُ
فقلت:
أغلقتُم كلَّ باب عن مسرَّته
فقال:
وفي يدَيْ ظبيِكم كانت مَفاتِحُهُ
فقلت:
ما أمسكتْ قلبه، إذْ لم يَطِرْ جزعاً
فقال:
من فَرْط بَرْح الجَوَى إلا جَوانحُهُ
باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان الحلة
والكوفة وهيت والأنبار
ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون
النازلون بالحلة السيفية على الفرات
كانوا ملجأ اللاجين، وثمال الراجين، وموئل المعتفين، وكنف المستضعفين. تشد إليهم رحال الآمال، وتنفق عندهم فضائل الرجال، ويفوح في أرجائهم أرج الرجا، وتطيب بند نداهم أندية الفضلاء. لا يلفي في ذراهم البائس بؤس الباس، وكم قصم بجودهم الفقير فقار الفقر والإفلاس. بشرهم للمرتجي بشير، وملكهم للاجيء وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير. ليوث الوغى، وغيوث الندى، وغياث الورى. سلكوا محجة الهدى والحجا، وأودعوا قلوب عداهم الشجن والشجا، وأحشاء حاسدهم بحسك الحسد قريحة، ونفوس مواليهم ومواليهم بدولتهم مستريحة. وما زال ذيل نعمهم سابغاً، ومشرب دولتهم سائغاً، وأمورهم مستقيمة، والجدود عندهم مقيمة، إلى أن قتل صدقة، وأظلمت أيامه المشرقة، وانتقلت الإمارة إلى دبيس ابنه، وإن أمر الإمارة على أساس أبيه لم يبنه، فتارةً يقيم وتارةً يخرج، ومرةً يمر وآونةً يدرج.
ولقد بارز المسترشد بالله مراراً بالمحاربة، فهزم وكيل جنده كيل المحاربه.
وما برحت دولتهم تنقص، وظلهم يقلص، إلى أن اضمحلت إلى زماننا هذا بالكليه، أعاذنا الله من مثل هذه البلية، فلقد كانوا ذوي الهمم العلية.
ومنازلهم ب الحلة حلت، وبعدما كانت مصونة أحلت، وعقود سعودهم حلت.
وما كانوا يعتمدون قول الشعر، إلا لحادثة على سبيل الندر. وسأذكرهم على الترتيب، وأقدم الأب البعيد على الأب القريب، وأسأل التوفيق من الله السميع المجيب: بهاء الدولة أبو كامل، منصور، بن دبيس، نور الدولة الأسدي، أبي الفتح والد سيف الدولة صدقة، من الطبقة الأولى.
توفي أبوه أبو الأغر دبيس سنة أربع وأربع مئة.
كان منصور منصوراً في الأمور، مقصوراً زمامه على إيواء طالب القرى المقرور، مخاطباً لدفع الخطوب، مجانباً عند لقاء زائري جنابه القطوب.
فارس البيداء وشجاعها، وليث الهيجاء وشجاعها، ومجند العساكر وجماعها، دأبه لقاء الكتائب وقراعها. توفرت له الطاعة من العرب، وتوسلت إلى القرب منه بالقرب.
وبينه وبين شرف الدولة، مسلم، بن قريش مكاتبات، ومخاطبات ومجاوبات، سأورد منها ما وقع إلي عند ذكر شرف الدولة.
وأذكر ها هنا مقطعات من أشعاره، إبقاءً لجميل آثاره. فعزائمه: بها الدولة استقامت، وعيون الحادثات عنها نامت.
له من قصيدة، يفتخر:
أولئك قومي: إِنْ أعُدَّ الّذي لهم ... أُكَرَّمْ، وإنْ أفخَرْ بهم لا اُكَذَّبِ
هُمُ ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الضَّرِيكِ والفقيرِ المُعَصَّبِ
بِطاءٌ عن الفحشاء لا يحضُرونها ... سِراعٌ إلى داعي الصَّباح المثَوِّبِ
مَناعِيشُ للمولى، مَساميحُ بالقِرى ... مَصالِيتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ
وجَدت أبي فيهم وخالي كِلَيْهِما ... يُطاع ويُؤتَى أمرُه وَهْوَ مُحْتَبِ
فلم أتعمّلْ للسِّيادة فيهِمُ ... ولكن أتتني وادعاً غير مُتْعَبِ
وقرأت في المذيل ل ابن الهمذاني: أنه أقام بقرب الحريم الطاهري، فعاشر الأذكياء من شارع دار الرقيق، وخرج بمقامه في الحضر عن عادة البادية.
ومن شعره:
فإِنْ أنا لم أَحمِل عظيماً، ولك أَقُدْ ... لُهاماً، ولم أصبر على فعل معظمِ
ولم أُجِرِ الجاني وأمنع حَوْزَهُ ... غَداةَ أنادى للفخار فأنتمي
وله:
رعت مَنْبِتَ الضُّمْران من أَيْمَنَ الحِمَى ... إلى السِّدر من ذات الأَجارع فالوَهْدِ
نعم، وسقى الله الحِمَى كلَّ مُزنةٍ ... مهدَّلةِ الأَطْباءِ صادقةِ الرَّعْدِ
وحنّت إلى بغدادَ والغَوْرُ دُونَها ... ألا ليت شعري أينَ بغدادُ من نَجْدِ؟
وذكرَّني سعداً وأيّامَهُ الأُلى ... مضين. ألا واحَرَّ قلبي على سعد
وقرأت في ذيل السمعاني، يقول: قرأت في كتاب سر السرور: الأمير منصور شعره مما يرتاح له الطبع السليم، ويهتز به القلب السقيم، اهتزاز الغصن القويم بعليل النسيم، نحو قوله:
ما لا مِني فيك أعدائي وعُذّالي ... إلا لغفلتهم عنّي وعن حالي
لا طيَّب الله لي عيشاً أفوزُ به ... إنْ دَبَّ سكرُ سُلّوٍ منك في بالي
وقوله:
ولمّا رأيتكِ صَرّاعةً ... ترين الخِداعَ مقالاً جميلا
تسلّيتُ عنكِ بمن لا أُريِدُ ... فدَبَّ السُّلُوُّ قليلاً قليلا
وله، قرأته من مجموع:
يوم لنا ب النِّيل مختصَرُ ... ولكلّ يومِ لذاذةٍ قِصَرُ
والسُفنُ تجري في الفُرات بنا ... والماءُ منخفِضٌ ومنحدرُ
وكأنّما أمواجُه عُكَنٌ ... وكأنَّما أَسراره سُرّرُ
قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي بهاء الدولة، منصور ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأرع مئة، وكانت إمارته بعد أبيه صدقة خمس سنين.
وله في صاحبٍ، يكنى أبا مالك:
فإن كان أودى خِدنُنا ونديمنا ... أبو مالك، فالنّائباتُ تنوبُ
فكلُّ ابنِ أُنثى لا مَحالةَ ميّتٌ ... وفي كل حيّ للمَنُون نصيبُ
ولو رَدَّ حزنٌ أو بكاءٌ لهالك ... بكَيناه ما هبّت صَباً وجَنُوبُ
سيف الدولة أبو الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ملك العرب، من الطبقة الثانية.
كان جليل القدر، جميل الذكر، جزيل الوفر للوفد، مجداً في حراسة قانون المجد.
له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الألوف، ويردها ويصدر عنها الضيوف.
المعروف، بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف. من دخل بلده أمن مما كان يخافه، ودرت - لرجائه بجوده - أخلافه.
ولقد كان بلد الحلة في أيامه حصناً حصيناً، وحمىً من الحوادث مصوناً، وحوزته لأنواع الخير حائزة، وأصحابه بطوالع السعد فائزة. محط رحل الأمل، ومخط الخطي والأسل، وغاب الليوث، وسحائب الغيوث، وسماء النجوم، ومنزل الحجاج القروم، وفلك الملك، وملك النسك، وسلك اللؤلؤ المنضود، ومسلك الآلاء والسعود، ومبرك البركات، ومناخ الخيرات.
وصدقة أكرم به بحراً نازلاً على الفرات، مبرأ الساحة من الآفات وكان يلتجئ إليه الجاني العظيم الشان، على الخليفة والسلطان، فلا تطرقه طوارق الحدثان، ويقيم عمره في ظله تحت رفده آمن السرب، مشتغلاً بلذاته عن الأكل والشرب، واللهو واللعب.
وكان شديد المحافظة على من يستجيره، كثير الحراسة لمن يجيره. ولم يزل معروفاً بالوفاء يشيد أساسه، حتى بذل في الحفاظ والوفاء راسه.
استجاره سرخاب الديلمي الساوي فأجاره، فأشعل الشر ناره، وفرق في الآفاق شراره. وطلبه السلطان محمد، بن ملك شاه مراراً فما أجابه، ورام من السلطان العفو عنه فما أصابه. وما زال يلح والسلطان يلح، إلى أن تبدل الحرب عن الصلح، وعبر السلطان إليه محارباً.
ولما التقى الصفان، لقي صدقة في القتلى لقىً جانباً، وأقطعت حينئذٍ بلاد الحلة، وأبدلت العزة بالذلة، وذلك في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة فيما أظن.
ثم استقام بعد حينٍ أمر دبيس ولده، فعاد وافر الحرمة إلى بلده.
قال السمعاني: قرأت في كتاب سر السرور: لما خلع سرخاب ربقة طاعة السلطان، والتجأ إلى صدقة، وأجاره، كتب إلى السلطان يستعطفه على لسانه:
هَبْنِي كما زعَم الواشونَ، ولا زَعَمُوا، ... أذنبتُ، حاشايَ، مُذْ زلَّتْ بِيَ القدمُ
وهَبْك ضاق عليك العفو عن جُرُم ... لم أَجْنِهِ، أيَيقُ العفو والكرمُ؟
ما أنصفتْنِيَ في حكم الهوى أُذُنٌ ... تُصغي لواشٍ، وفي عذري . . بها صَمَمُ
وقرأت في مجموعٍ هذين البيتين منسوبين إلى أبي سعد بن المطلب، والصحيح أنه كتبه صدقة.
ومن لطيف محاضرته أنه استقبلته بغتةً هرةٌ، وثبت إلى أعطافه، وخدشت عرنينه، فقال أظنه متمثلاً:
أما إنَّه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القَنا بالرّاعفات اللَهاذِمِ
وكان صدقة صديق الصادق، ولا تنفق عنده بضاعة المنافق، حسن الخلائق للخلائق.
يهتز للشعراء اهتزاز الاعتزاز، ويخص الشاعر المجيد من جوده بالاختصاص والامتياز، ويؤمنه مدة عمره من طارق الإعواز.
يقبل على الشعراء، ويمدهم بحسن الإصغاء، وجزيل العطاء. لا يخيب قصد قاصده من ذوي القصائد، ويبلغ آمليه أغراضهم والمقاصد.
ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسم، بأن يطلق له من خزانته رسم.
سمعت مجد العرب العامري يقول: حكي لي أنه كان شاعر شريف من مداح بهاء الدولة، منصور والد صدقة، وله عليه رسم قدره كل سنة مئة دينار وثوب أطلس وعمامة قصب وحصان. فلما توفي بهاء الدولة، جاء الشاعر، و وقف على طريق صدقة وهو راجع عن الصيد، وأنشد متمثلاً بهذه الأبيات، وهي في الحماسة:
لا تَقْرَبَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قومٌ: رِباطُ الخيلِ بينَ بُيوتِهم ... وأَسِنَّة زُرق تُخَلْنَ نُجوما
ومخرَّقٌ عنه القميصُ، تَخالُهُ ... بين البُيوت من الحياء سقيما
حتّى إذا رفع اللِواء، رأيتَه ... تحتَ اللِواء على الخَميس زَعيما
فعرفه صدقة وقال: أنت الشريف؟ قال: أنا هو. قال: فأنشد في حالنا هذه شعراً. فأنشد أبياتاً، من جملتها:
نزَلتُ بهم يوماً وراوُوقُهم يَشِي، ... ومِرْجَلُهم يَغْلي، وشادِيهِمُ يشدو
وعندَهُمُ ما صرّع الخيل بالقَنا، ... وما خَطِف البازي، وما قنَص الفَهْدُ
فأمر بأن يضاعف رسمه، واستحضر في الوقت مئتي دينار إمامية من خزائنه وثوبين وعامتين وفرسين، وقال: ارجع إلى وطنك، لأني أعلم أن خلفك من لا يعذرك.
وفضائل سيف الدولة أكثر من أن تحصى، وفي ذكرها يستقصى.
الأمير أبو الأغر دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي لقب ب سيف الدولة. من الطبقة الثالثة.
أكرم بالأغر أبي الأغر دبيس، أثبت في الهيجاء وأرزن في الوقار من أبي قبيس. أشجع من قيس، وفارس بني عبس. أسد أسدي، وضيغم مزيدي.
طلب المزيد، ورام العز الجديد، ولم يرضَ بمنصب والده، وما ورثه من قديم المجد وتالده، فخرج على الإمام المسترشد نوباً، فانهزم ووالى هربا، وتفرق من نجا من جنده أيدي سبا. ثم قضت بينهما تصاريف الزمن، فتارةً إثارة فتن وإبداء إحن، وطوراً رفع ما حل من محن، بهدنة على دخن، إلى أن استشهد المسترشد، وظن أنه من بعده يخلد، فقتله السلطان مسعود صبراً بعد قتل الإمام بشهر ب المراغة. وذلك يوم الأربعاء، الرابع عشر من ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وخمس مئة.
قال الأمير أبو الفوارس بن الصيفي التميمي المعروف بن حيص بيص يشير إليهما، وكان الخليفة و دبيس أشقرين:
تعنّفُني في شُرب كأسي ضلالةً ... أَقِلّي، فبينَ الأحمرَيْنِ هِلالُ
وما حالة في الدّهر إلا ستنقضي ... ويعقُبُها بعدَ البقاء زوالُ
فكُرِي علَيَّ الكأس، يا مَيُّ، واعلمي ... بأنّ تصاريفَ الحياة خَيالُ
وكان دبيس ينشد كثيراً هذين البيتين:
إِنَّ اللياليَ منَاهلٌ ... تُطوَى وتبسط بينَها الأَعمارُ
فقِصارُهُنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطِوالُهنَّ مع السُّرور قِصارُ
قال السمعاني في تاريخه: قرأت في كتاب الوشاح: كتب بدران بن صدقة إلى دبيس وإخوته:
ألا، قُلْ ل منصور، وقُلْ ل مسيّب ... وقُلْ ل دُبَيْس: إنَّني لَغريبُ
هنيئاً لكم ماء الفُرات وطِيبُه ... إذا لم يكن لي في الفُرات نصيبُ
فأجابه دبيس:
أَلا قُلْ ل بدرانَ الّذي حنَّ نازعاً ... إلي أرضه، والحُرُّ ليس يَخيبُ
تمتَّعْ بأيّام السُّرور، فإنَّما ... عِذارُ الأَماني بالهموم مشيبُ
ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيبُ
قال: وقرأت في الوشاح: أنشدني أبو الفتوح السرخسي، أنشدني دبيس لنفسه:
حبُّ عليّ بن أبي طالبٍ ... للنّاس مِقياس ومِعيارُ
يُخرج ما في أصلهم، مثلَما ... تُخرِج غِشَّ الذَّهبِ النّارُ
قال السمعاني: أبو الفتوح السرخسي لم يكتب وفاته.
الأمير منصور بن صدقة بن منصور الأسدي من الطبقة الثالثة.
كان خرج على أمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، مع أخيه، ولم يستقم أمرهما. وجارت عليه صروف لياليه، وأسر منصور المسكين، وحبس إلى أن أتاه اليقين. ولحق دبيس ب سنجر في خراسان، لعله يلقى من جانب السلطان، ما يعود منه بإصلاح الشان. فأكرمه سنجر، ثم أجلسه ب مرو الروذ شبه محبوس، وخصه بمكان بالنعمة مأنوس، ثم أطلقه ورده إلى بلده، بعد أن أثقل ظهره برفده وصفده.
قرأت في كتاب السمعاني: ذكر صديقنا أبو العلاء القاضي في كتاب سر السرور: أنشد ملك العرب دبيس بن صدقة لأخيه منصور:
إنْ غاض دمعُك والرِّكابُ تساقُ ... مع ما بقلبك، فَهْوَ منك نِفاقُ
لا تَحِبسَنْ ماءَ الجفون، فإنّه ... مُغزٍ، وظاهرُ عَذْلِه إِشفاقُ.
لو حُمِّل العُذّالُ أَعباءَ الهوى ... أو جُرِّعوا غُصَصَ الملام وذاقوا،
لتَيَقَّنُوا أَنَّ الجبالَ مُطاقَةٌ ... والعذل في المحبوب ليس يطاقُ
شمس الدولة بدران بن صدقه بن منصور الأسدي أبو النجم شمس العلى، وبدر الندي والندى. ف بدران، لحسن منظره وطيب مخبره بدران، ولعلمه وجوده بحران.
تغرب بعد أن نكب والده، وتفرقت في البلاد مقاصده. فكان برهةً ب الشام، يشيم بارقة السعادة من الأيام، وآونةً ورد بلاد مصر، فأولاده كانوا بها إلى هذا العصر، وعادوا بأجمعهم إلى مدينة السلام، وظهر عليه أثر الإعدام، وتوفي ب مصر سنة ثلاثين وخمس مئة.
وله شعر، ماله - من جودته - سعر. يتيمة، ما لها قيمة.
له في أبيه صدقة، أو صدقة، بن دبيس، بن صدقة:
ولمّا التقى الجمعانِ، والنَّقْعُ ثائرٌ، ... حسِبت الدُّجَى غطّاهُمُ بجَناحهِ
وكشَّفَ عنهم سُدفةَ النَّقْع في الورى ... أبو حسَن بسُمره وصِفاحهِ
فلم يَسْتَضُوا إلاّ ببرق سيوفه ... ولم يهتدوا إلا بشُهْب رِماحهِ
وله:
لا والَّذي قصد الحجيج على ... بُزْل وما يقطَعْنَ من جَدَدِ
لا كنت بالرّاضي بمنقصة ... يوماً، وإلا لست من أَسَدِ
لأَقَلْقِلَنَّ العِيسَ داميةَ ال ... أَخفافِ من بلد إلى بلدِ
إِمّا يقال: سعى فأحرزها، ... أو أن يقالَ: مضى ولم يَعُدِ
وله:
وغَرِيرةٍ، قالت ونحن على مِنَىوالليلُ أنجمُه الشَّوابِك مِيلُ :
زعَم العواذل أَنْ مَلِلْت وِصالنا ... والصَّبرُ منك على الجفاء دليلُ.
فأجبتُها، ومدامعي منهلَّة، ... والقلب في أسر الهوى مكبول:
كذَبَ الوُشاةُ عليَّ فيما شنَّعُوا. ... غيري يَمَلُّ، وغيرُكِ المملولُ
وله ب مصر، وقد ذكر المغني المعروف ب الكميت:
اشْرَبِ اليومَ من عُقارٍ كُمَيْتِ ... واسْقِنِيها على غناء الكُمَيْتِ
ثمَّ سَقِّ النَّدِيم حتّى تراه ... وَهْوَ حيّ، من الكُمَيْت، كمَيْتِ
وله:
يا راكِبَيْنِ من الشَّآ ... م إلى العِراق: تَحسَّسا لي
إِن جئتما حِلَلَ الكرا ... مِ، ومركزَ الأَسَلِ الطِّوالِ
قولا لها، بعدَ السَّلا ... مِ، وقبلَ تصفيفِ الرِّحالِ:
ما لي أرى السَّعْدِيَّ عن ... جيش الفتى المُضَريّ خالِ؟
والقُبَّة البيضاء في ... نقص، وكانت في كمالِ؟
يا صدق لو صدقوا رِجا ... لُك مثلَ صدقِك في القتالِ
أو يَحمِلون على اليمي ... ن كما حَمَلْت على الشِّمالِ
دامت لهم بك دولةٌ ... تسعى لها هممُ الرِّجالِ
عربيّة بدويّة ... تسمو على طول الليالي
لكنّهم لمّا رأوا ... يومَ الوَغَى وَقْعَ العوالي
فَرُّوا وما كَرُّوا، فتَبّ ... اً للعبيد وللمَوالي
وله أيضاً:
فواعَجَبا كيف اهتدى الطَّيْف في الدُّجَى ... إلى مضجَع لم يبقَ فيه سِوى الجَنْبِ؟
وله أيضاً:
وصغيرةٍ عُلِّقتُها ... كانت من الفِتَن الكِبار
كالبدر، إلا أنَّها ... تبقى على ضوء النَّهار
وله في تشبيه القمر، وقد انكسف:
وليلةٍ بِتُّها أُسَقَّى ... حمراءَ صِرْفاً كالأُرجُوان
وانكسف البدرُ، فَهْوَ يحكي ... في الأُفْق مَرْآةَ هِنُدْوُاني
وله:
لي صاحبٌ ذو خِلال، قد غَنِيت به ... عن الورى، وَهْوَ بي عمّا ذكرتُ غني
إن قلت: لا، قال: لا، مثلي، وقلتُ: نعَمْ، ... يَقُلْ: نعَمْ، أو أكُنْ في حادثٍ يكُنِ
وله:
ولائمٍ لامَني جهلاً، فقلت له والقلبُ في حَرَق والطَّرْف في غَرَقِ :
يا لائمي كيف يسلو مَنْ تُقَلِّبُهُ ... أيدي السَّقامِ، وتَثْنِيهِ يَدُ الأَرَقِ؟
أما ورَبِّ المَطايا الواجفات ضحىً ... تَؤُمُّ بَكَّةَ بين الوَخْدِ والعَنَقِ
لا زُلْتُ عن حبّ مَيّ ما حَييِت، وما ... زال الصبَّابةُ والأشجانُ من خُلُقي
وله:
مَنْ عَذِيري مِن صاحب سَيّئِ العِش ... رَةِ، لا يهتدي لأمرٍ مُسَدَّدْ؟
كخُيوط الميزانِ، في كل وقت ... ليس ينفكّ دائماً يتعَقَّدْ
وله:
إنّي من الشّاكرينَ، لكن ... بغير راءِ، فكن ذكيّا
وإنّني مبغض معادٍ ... لكلّ من لم يُرِدْ عَليِّا
ظَلْتُ ل آل النَّبيّ عبداً ... ومن مُعاديِهِمُ بَرِيّا
وله:
قال العواذلُ: لا تُوَا ... صِلْهُ، فقلت لهم: رُوَيْدا
قالوا: احجُبُوه عن السَّواد ... دِ. أيحجُبوه عن السُّوَيْدا
غيرهم من الحلة والنيل والكوفة وأعمالها
الأجل أبو الغنائم حبشي بن محمد الملقب بشرف الدين من الحلة.كان أجل الكتاب قدراً، وإذا عدوا نجوماً عد بدراً.
سمعت أبا البدر الكاتب الواسطي، وكان معي في عمل الوزير كاتباً: أن حبشياً كان ناظر واسط، غير ناظر فيها إلى قاسط. قال: و هو أكتب من رأيته، وأملأ ضرعٍ في الكرم مريته. وخدمته ب واسط مدة، وصادفت ظلاله بالنعم ممتدة. وما رأيت أحداً أوضح بهجةً، وأفصح لهجة، وأكثر منه بشراً للقاء العافي، و أرشد الناس إلى طريق المعروف الخافي. كهف الخائف، ولهف العائف.
وسمعت مجد العرب العامري يترحم عليه، وإذا جرى ذكره تحدر دمع عينيه، ويقول: ما رأيت في الدنيا أجود منه يداً، وأعم منه ندىً، وأحسن منه رأياً، وأشمل منه عطايا، وأشعر منه بالشعر، وأعرف منه بالقيمة لأهله والسعر.
وله ديوان، كأنه بستان.
وزر لصاحب ماردين: تمرتاش، ومهد له ملكه تمهيد الفراش.
ثم وزر في الشام ل زنكي، وصار يشبه ملكه الجنة ويحكي، إلى أن أدركته على الملا حدة الملاحدة وفتكت به، ومضى لسبيله شهيداً إلى منقلبه.
وقال: حلي بتمائمه في الحلة، سامي المنزل والمحلة. وكان أبوه وزير صدقة ملك العرب، وربي حبشي في دولته وفاز منها بكمال الأدب.
أنشدني العامري، قال: أنشدني حبشي الوزير لنفسه رباعيه:
عيناي أباحتا لعينيك دمي ... حتى قدِمتْ على الرَّدَى بي قَدَمي
بالشُّكر كما قيل دوامُ النِّعَمِأعطاك غنى حسنك، فارحَمْ عَدَمي
وأنشدني له:
هجرتكمُ إِن كنت أضمرت هجركمْ ... وسافرت عنكمْ إِن رجَعت إلى السَّفَرْ
وإن خطَرت بالنَّفس صحبةُ غيرِكم ... فلا بَرِحَتْ محمولةً بي على الخطَرْ
وأنشدني لنفسه:
أطعتُ العلى في هجر ليلى، وإِنّني ... لأَضُمِرُ منها مثلَ ما يُضمر الزَّنْدُ
قريبةُ عهد، لم يكن من رجالها ... سِوايَ من العشّاق قبلٌ ولا بعدُ
رأيتُ فراق النَّفْس أهونَ لوعةً ... عليَّ من الفعل الَّذي يكرَهُ المجدُ
وله أيضاً رباعية:
الرَّوضُ غدا نسيمه وَهْوَ عليلْ ... والوُرْقُ شفَتْ بنطقها كلَّ غَليلْ
قم فاغتنم الفُرصة، فالمكث قليلْ ... ما أغبَنَ من يسلب عنه التَّحصيل
وأنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، الكوفي ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني المهذب، أبو القاسم، علي، بن محمد ب الموصل، في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ل حبشي، بن أبي طالب، ابن حبشي:
ما لي على صَرْف الزَّما ... نِ ورَيْبِه، يا صاحِ، أمرُ
لو كان ذلك، لم يَبِتْ ... خلفَ الثَّرى والتُّرْبِ حصرُ
واغتاله مع ذلك ال ... قَدّ الرَّشيقِ الغَضِّ عُمرُ
لكنَّ ليلَ صبَابتي ... مُذْ بانَ لا يتلوه فجرُ
ابن العودي النيلي أبو المعالي، سالم، بن علي، بن سلمان، بن علي، بن العودي، التغلبي.
شاب شبت له نار الذكاء، وكأنما شاب لنظمه صرف الصهباء، بصافي الماء، ونثر فيه شؤبوب الفصاحة، يسقي من ينشد شعره راح الراحة.
وردت واسطاً سنة خمسين وخمس مئة، فذكر لي أنه كان بها للاسترفاد، وقام في بعض الأيام ينشد خادم الخليفة فاتناً فسبقه غيره إلى الإنشاد، فقعد ولم يعد إليه، وسلم على رفده وعليه، وصمم عزم الرحيل، إلى وطنه ب النيل.
ولقيته بعد ذلك سنة أربع وخمسين ب الهمامية.
أنشدني القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي له:
هُمُ أقعدوني في الهوى وأقاموا ... وأبلوا جُفوني بالسُّهاد وناموا
وهُمْ تركوني للعتاب دَرِيئةً ... أُؤَنَّبُ في حُبِّيهِمُ وأُلامُ
ولو أنصفوا في قسمة الحبّ بينَنا ... لَهامُوا، كما بي صَبْوَةٌ وهُيامُ
ولكنَّهمْ لمّا استدرّ لنا الهوى، ... كُرمْتُ بحفظي للوداد، ولاموا
ولمّا تنادَوْا للرَّحيل، وقوِّضت ... لِبَنْهِمِ ب الأَبْرَقَيْنِ خِيامُ،
رَميت بطَرْفي نحوَهم متأمِّلاً ... وفي القلب منّي لوعةٌ وضِرامُ
وعُدت وبي ممّا أُجِنُّ صَبابةٌ ... لها بينَ أَثناءِ الضُّلوع كِلامُ
إذا هاج بي وَجْدٌ وشوق، كأنَّما ... نضمَّن أعشارَ الفؤاد سهامُ
ولائمةٍ في الحبّ، قلت لها: اقْصِري ... فمثليَ لا يُسلي هواه ملامُ
أأسلو الهوى بعدَ المشيِب، ولم يزل ... يصاحبني مُذْ كنت وَهْوَ غُلام؟
ولمّا جزَعنا الرَّملَ، رملَ عُنَيْزَةٍ ... وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمامُ،
صبوتَ اشتياقاً، ثمَّ قلت لصاحبي: ... ألا إِنّما نَوحُ الحَمام حِمامُ
تجهَّزْ لبَيْنٍ، أو تَسَلَّ عن الهوى، ... فما لَكَ من ليلى الغَداةَ لمِامُ
وكيف تُرَجّي النَّيْلَ عندَ بخيلةٍ ... تُرام الثُّرَيّا، وَهْيَ ليس تُرامُ
مُهَفْهَفَةُ الأعطافِ: أَمّا جَبينُها ... فصبحٌ، وأَمّا فَرعُها فظلامُ
فيا ليت لي منها بلوغاً إلى المُنَى ... حلالاً، فإنْ لم يُقْضَ لي فحرامُ
وأنشدني الشريف قطب الدين، أبو يعلى، محمد، بن علي، ابن حمزة ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الربيب الأقساسي، أبو المعالي، بن العودي لنفسه، ب الكوفة، في منزلي، مستهل صفر سنة خمسين وخمس مئة:
ما حبَست الكتابَ عنك لهجر ... لا، ولا كان عبدُكم ذا تَجافِ
غيرَ أَنَّ الزَّمانَ يُحْدث للمَرْ ... ءِ أموراً، تُنْسيه كلَّ مُصافِ
شِيَمٌ، مَرَّتِ الليالي عليها، ... والليالي قليلةُ الإِنصافِ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه في التغزل بامرأة:
أبى القلب إِلا أمَّ فضلٍ وإن غدت ... تعدّ من النّصف الأخير لدِاتُها
لقد زادها عندي المشيبُ مَلاحةً ... وإن رغم الواشي وساء عُداتها
فإن غيَّرت منها الليالي، ففي الحشا ... لها حَرَق، ما تنطقي زَفَراتها
فما نال الدَّهر حتّى تكاملت ... كمالاً، وأعيا الواصفين صفاتها
سَبَتْني بفَرْع فاحم، وبمُقْلَة ... لها لَحَظات . . ما تُفَكُّ عُناتُها
وثغرٍ . . زهت فيه ثَنايا، كأنّها ... حصى بَرَدٍ، يَشْفي الصَّدَى رَشَفاتُها.
ولمّا التقينا بَعْدَ بُعْدٍ من النَّوَى ... وقد حانَ منّي للسَّلام الْتفاتُها،
رأيت عليها للجمال بقيَّةً، ... فعاد لنفسي في الهوى نَشَواتُها
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقولون: لو دارَيْتَ قلبك، لارْعَوى ... بسُلوانه عن حبّ ليلى وعن جُمْلِ
قال: وأنشدني له:
يؤرّقني في واسط كلَّ ليلةٍ ... وَساوِسُ همٍّ من نَوىً وفِراقِ
فيا للهوى هل راحمٌ لمُتَيَّمٍ ... يُعَلُّ بكأس للفراق دِهاقِ؟
خليليّ هل ما فات يُرجَى؟ وهل لنا ... على النَّأْي من بَعد الفراق تَلاقِ؟
فإن كنتُ أبدي سلوة عن هواكمُ ... فإنّ صَباباتي بكم لَبَواقِي
ألا، يا حماماتٍ على نهر سالم ... سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ
تعالَيْنَ نُبدي النَّوْحَ، كلٌّ بشَجْوه ... فإِنّ اكتتامَ الوَجْد غيرُ مُطاقِ
على أَنّ وَجْدي غيرُ وَجْدك في الهوى ... فدمعيَ مُهراقٌ، ودمعكِ راقي
وما كنت أدري، بعدَ ما كان بينَنا ... من الوصل، أَنّي للفراق مُلاقِ
فها أنتِ قد هيَّجْتِ لي حرق الجَوى ... وأبديتِ مكنون الهوى لوفاقي
وأسهرتِني بالنَّوْح، حتّى كأنّما ... سقاكِ بكاسات التَّفُّرق ساقِ
فلا تحسبي أَنّي نزّعت عن الهوى، ... وكيف نزوعي عنه بَعد وَثاقي؟
ولكنَّني أخفيتُ ما بي من الهوى ... لِكَيْ لا يرى الواشونَ ما أنا لاقِ
ابن جيا الكاتب هو جمال الدولة، شرف الكتاب، محمد. من أهل الحلة السيفية ب العراق. ومسكنه بغداد.
مجمعٌ ب العراق على بلاغته، مبدع للأعناق أطواق براعته. قد اتفق أهل العراق اليوم أنه ليس له نظير في الترسل، وأن روضه نضير في الفضل صافي المنهل. يستعان به في الإنشاء، ويستبان منه أسلوب البلغاء. وهو صناعة عراقية في الكتابة، وصياغة بغدادية في الرسالة. ولعدم أهل هذه الصناعة هناك عدم مثله، وعظم محله. لكنه تحت الحظ الناقص، مخصوص بحرفة ذوي الفضل والخصائص.
اشتغاله باستغلال ملكه، وانتهاج مسلك الخمول والانتظام في سلكه. يعمل مسودات لمسودي العمال، وينشئ بما يقترح عليه مكاتبات في سائر الأحوال.
وله مراسلات حسنة، ومبتكرات مستملحة مستحسنة. وله نظم بديع، وفهم في إدراك المعاني سريع.
وهو إلى حين كتبي هذا الجزء، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، ب بغداد مقيم، وخاطره صحيح وحظه سقيم.
ومن جملة شعره ما كتبه إلى سعد الدين المنشيء في أيام السلطان مسعود، بن محمد:
هنِّئت في اليوم المَطِيرِ ... بالرّاح والعيش النَّضيرِ
ومُنحت بالعزّ الَّذي ... يُعدي على صَرْف الدُّهورِ
فاشرَبْ كُؤوساً، كالنُّجو ... م، تُديرُها أيدي البدورِ
من كلّ أهيفَ، فاترِ ال ... أَلْحاظِ، كالظَّبي الغَرِيرِ
يحكي الظَّلامَ بشَعره ... والصُّبحَ بالوجه المُنيرِ
فانعَمْ به، متيقّنا ... إِحمادَ عاقبةِ الأمورِ
فكبيرُ عفوِ الرَّبّ، مَوْ ... قُوفٌ على الذَّنْب الكبيرِ
واسلَمْ على طول الزَّما ... ن لكلّ ذي أمل قصيرِ
تُفني زمانَك كلَّه ... بالعزم منك وبالسُّرورِ
ما بين حفظٍ للثُّغو ... رِ وبين رَشْفٍ للثُّغورِ
ول ابن جيا في مدح الأمير أبي الهيج، بن ورام، الكردي، الجاواني:
سرى مَوْهِناً طَيْفُ الخَيال المؤرِّقِ ... فهاج الهوى من مغرم القلب شَيِّقِ
تخطَّى إلينا من بعيد، وبينَنا ... مَهامِهُ مَوْماةٍ من الأرض سَمْلَقِ
يجوب خُدارِيّاً، كأنَّ نُجومَه ... ذُبالٌ، يُذَكَّى في زُجاج مُعَلَّقِ
أتى مضجعي، والرَّكبُ حولي كأنَّهم ... سُكارى، تساقَوْا من سُلاف مُعتَّقِ
فخيَّل لي طيفُ البخيلة أَنّها ... أَلَمَّتْ برَحْلِي في الظَّلام المروّق
فأرَّقَني إِلمْامُها بي، ولم يكن ... سِوى حُلُم من هائم القلب موثَقِ
أِسيرِ صبَاباتٍ، تعرَّقن لحمَه ... وأمسكن من أنفاسه بالمُخَنَّقِ
إذا ما شكا العشّاقُ وجداً مبِّرحاً ... فكلُّ الذي يشكونه بعضُ ما لَقِي
على أنّه لولا الرَّجاءُ لِأَوْبَة ... تقرِّبُني من وصل سُعْداه ما بَقِي
نظرت، ولي إنسانُ عينٍ غزيرةٍ، ... متى يَمْرِها بَرْحُ الصبَّابة يَغْرَقِ،
إلى عَلَم من دار سُعْدَى، فشاقني، ... ومن يَرَ آثارَ الأحبّة يَشْتَقِ
فظَلْتُ كأنّي واقفاً عندَ رسمها طَعينٌ بمذروب الشَّباة مُذَلَّقِ
وقد كنت من قبل التَّفَرُّق باكياً، ... لِعلمي بما لاقيت بعدَ التَّفرُّقِ
وهل نافعي، والبعدُ بيني وبينَها، ... إِجالةُ دمع المُقلة المترقرقِ؟
وأشعثَ، مثلِ السَّيف، قد مَنَّهُ السُّرَى ... وقطعُ الفيافي مُهْرَقاً بعدَ مُهْرَقِ،
من القوم، مغلوب، تَميل برأسه ... شُفافاتُ أَعجاز النُّعاس المرنِّقِ،
طَردت الكَرى عنه بمدح أخي العُلَىأبي الهَيْج ذي المجد التَّلِيد المُعَرَّقِ
حُسام الجُيوش، عزّ دولة هاشم، ... حليف السَّماح والنَّدَى المتدفِّقِ
فتى مجدُه ينمي به خيرُ والد ... إلى شرف فوقَ السَّماء محلِّقِ
على وجهه نورُ الهدى، وبكفّه ... مفاتيحُ بابِ المبهم المتغلِّقِ
إذا انفرجت أبوابُه، خِلْت أنَّها ... تفرَّج عن وجه من البدر مُشرقِ
وإن ضاق أمر بالرِّجال، توجَّهَتْ ... عزائكه، فاستوسعت كلَّ ضيِّقِ
ترى مالَه نَهْبَ العُفاة، وعِرضَهُ ... يطاعن عنه بالقَنا كلُّ فَيْلَقِ
جَمُوع لأشتات المحامد، كاسب ... لها أبداً من شمل مال مفرَّقِ
سعَى وهْوَ في حدّ الحَداثة، حدّه ... له في مساعي كلّ سعي مشقَّقِ
تلوح على أَعطافه سِمَةُ العلى ... كبرق الحَيا في عارض متألِقِ
من النَّفَر الغُرّ الأُلى عمَّتِ الورى ... صنائعُهم في كلّ غرب ومشرقِ
إذا فخَروا لم يفخَروا بأُشابةٍ ... ولا نسبٍ في صالحي القوم مُلْصَقِ
هم الْهامةُ العُلْيا. ومن يُجْرِ غيرَهُمْ ... إلى غاية في حَلْبَة المجد، يُسْبَقِ
إذا ما هضابُ المجد سدّ طلوعها ... ولم يَرْقَها من سائر النّاس مُرْتَقِ،
توقَّلَ عبد الله فيها، ولم يكن ... يزاحمه فيها امْرُؤٌ غيرُ أحمقِ
صفا لك، يا ابنَ الحارثِ القَيْلِ، في العلى ... مَشاربُ وِردٍ صفوُها لم يُرَنَّقِ
متى رُمتُ في استغراق وصفك حَدَّه، ... أبى العجز إلا أن يقول ليَ: ارفُقِِ
فلست، وإِنْ أسهبتُ في القول، بالغاً ... مَداه بنَعْتٍ أو بتحريرِ منطقِ
إلا إنّ أثوابَ المكارم فيكُمُ ... بَواقٍ على أحسابكم لم تُخَرَّقِ
يجدّدُها إيمانكم، ويَزِيدُها ... بَقاكم، على تجديدها، فضلَ رَوْنَقِ
لك الخُلُقُ المحمودُ من غير كلفة، ... وما خُلُقُ الإنسانِ مثلَ التَّخَلُّقِ
إذا ما نَداك الغَمْرُ نابَ عن الحَيا ... غَنِينا به عن ساكب الغيث مُغْدِقِ
فما مدحُكم ممّا أُعاب بقوله ... إذا أفسد الأقوالَ بعضُ التَّمَلُّقِ
ولكنْ بقول الحقّ أغربت فيكُمُ، ... ومن يَتَوَخَّ الحَقَّ، بالحَقِّ ينطِقِ
فإِن نِلْتُ ما أمَّلْتُه من وَلائكمْ ... ومدحِكُمُ، يا ابنَ الكرام، فأَخْلِقِ
وما دونَ ما أبغي حجابٌ يصُدُّني ... برّدٍ ولا بابٍ عن الخير مُغْلَقِ
إذا أنا أحرزت المودَّةَ منكُمُ، ... فحسبي بها، إذْ كنتُ عينَ الموفَّقِ
سعيد بن مكي النيلي من أهل النيل.
كان مغالياً في التشيع، حالياً بالتورع، غالياً في المذهب، عالياً في الأدب، معلماً في المكتب، مقدماً في التعصب.
ثم أسن حتى جاوز الهرم، وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم، وأناف على التسعين. وآخر عهدي به في درب صالح ب بغداد سنة اثنتين وستين وخمس مئة، ثم سمعت أنه لحق بالأولين.
أنشدني له ابن أخته عمر الواسطي الصفار ب بغداد، قال: أنشدني خالي سعيد بن مكي لنفسه، من كلمة له:
ما بالُ مَغاني الحِمَى لشخصك أطلالْ؟ ... قد طال وقوفي بها، وبَثّي قد طالْ
الرَّبْع دثور، ودِمْنَتاه قِفار ... والرَّبْع مُحيل، بعد الأَوانس بطال
عفته دَبُور وشَمْأَل وجَنُوب ... مع مَرِّ مُلِّثٍ مُرخي العَزالِي مِحْلال
يا صاحِ قِفاً باللِّوى نسأل رسماً ... قد حالَ، لَعلَّ الرُّسوم تُنْبِي عن حالْ
مُذْ طارَ شجا بالفراق قلب حزين ... بالبَيْن، وأقصى بالبعد صاحبة الخال
ما شَفَّ فؤادي إلا نَعيب غُرابٍ ... بالبَيْن يُنادي، قد صار يضرِب بالفال
تمشي تتهادَى وقد ثَناها دَلّ ... من فَرْط حياها تخفي رنين الخَلخْال
وله من قصيدة، يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام:
قمرٌ أقام قيامتي بقَوامهِ ... لِم لا يجودُ لمُهْجَتي بِذمامهِ
ملّكتُه قلبي، فأتلف مُهْجَتي ... بجمال بهجته وحسن قَوامهِ
وبناظر غَنِجٍ وطَرْف أحور ... يُصمي القلوبَ، إذا رنا، بسِهامهِ
وكأنَّ خطَّ عِذاره في حسنه ... شمس تجلَّت وَهْيَ تحتَ لِثامهِ
ويَكاد من ترف، لدقَّة خَصْره، ... ينقَدُّ عندَ قعودِه وقيامهِ
وكأنَّه من خمرة ممزوجة ... بالرِّسْل عندَ رِضَاعِه وفِطامهِ
ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام:
دَعْ يا سعيدُ هواك، واستمسِكْ بمَنْ ... تسعَدْ بهم، وتراح من آثامهِ
ب محمَّد، وب حَيْدَر، وب فاطمٍ ... وبوُلدهم عقدوا الولا بتمامهِ
قومٌ، يُسَرُّ ولِيُّهم في بعثه، ... ويَعَضُّ ظالمُهم على إبهامهِ
وترى وَلِيٌّ وَليِّهمْ، وكتابُه ... بيمينه، والنُّورُ من قُدّامهِ
يَسقيه من حوض النَّبِيّ محمّد ... كأساً بها يَشفي غَليلَ أُوامهِ
بيدَيْ أمير المؤمنين، وحَسْبُ مَنْ ... يُسقَى به كأساً بكفّ إِمامهِ
ذاك الَّذي لولاه ما اتَّضحت لنا ... سُبُلُ الهدى في غَوْره وشَآمِهِ
عَبَد الإِلهَ، وغيرُه من جهله ... ما زال معتكفاً على أَصنامهِ
ما آصف يوماً، وشمعون الصَّفا ... مع يُوشَعٍ في العلم مثلَ غلامهِ
من ها هنا دخل في المغالاة، وخرج عن المصافاة، فقبضنا اليد عن كتب الباقي، ووردنا القدح على الساقي. وما أحسن التوالي، وأقبح التغالي القائد أبو عبد الله محمد بن خليفة السنبسي سمعت أنه كان من شعراء سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن دبيس، وكان يحسن إليه. فلما قتل صدقة، مدح دبيساً ولده، فلم يحسن إليه.
فوافى بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح الوزير جلال الدين، أبا علي، بن صدقة، فأحسن إليه، وأجزل له العطاء.
ومات ب بغداد.
وكان مسبوك النقد، جيد الشعر، سديد البديهة، شديد العارضة. تتفق له أبيات نادرة، ما يوجد مثلها.
فمنها، من قصيدة بيتان، وهما:
فرُحْنا، وقد رَوَّى السَّلامُ قلوبَنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المَسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجرةٌ في المدامعِ
وهذان البيتان البديعان، من كلمة له في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، المزيدي، الأسدي، وأولها:
لِمَنْ طَلَلٌ بين النَّقا فالأَجارعِ ... مُحيِل، كسَحْق اليَمْنَة المُتَتايعِ؟
ومنها:
وعهدي به والحَيُّ لم يتَحمَّلُوا ... أو انسَ غِيدٍ كالنُّجوم الطَّوالعِ
من اللاءِ لم يعرِفن، مُذْ كُنَّ صِبْيَةً ... مع الليل، فَتْلاً غيرَ فَتْل المَقانعِ
ومنها:
نَبَذْت لهنَّ الصَّوتَ منّي، وقد جرى كَرَى النَّوْمِ ما بينَ الجُفون الهواجعِ
فأقبلن، يسحَبْنَ الذُّيولَ على الوَجَى، ... إِلَيَّ، كأمثال الهِجان النَّوازعِ
يُزَجِيّنَ مِكسالاً، يكادُ حديثُها ... يَزِلُّ بحِلْم الزّاهد المتواضعِ
مليحة ما تحتَ الثِيّاب، كأنَّها ... صَفيحةُ نَصْل في حَرِيرَة بائعِ
إذا خطَرت بين النِّساء، تأوَّدت ... برِدْف كدِعْص الأجرع المُتَتابعِ
فَأبْثَثْتُها شوقي وما كنت واجداً ... فراحت وسِرّي عندَها غيرُ شائعِ
ومَنْ يَنْسَ لا أنسَى عِشيّةَ بَيْنِنا ... ونحن عِجال بين غادٍ وراجعِ
وقد سلَّمت بالطَّرْف منها، ولم يكن ... من النُّطق إِلاّ رَجْعُنا بالأصابعِ
وبعدها البيتان:
فرحُنْا، وقد رَوَّى السَّلام قلوبنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجْرَةٌ في المدامعِ
انظر، هل ترى مثل هذين البيتين في القصيدة، بل في جمع شعره؟ وقوله: " لولا ضجرة في المدامع " ، ما سبق إليه. وهو في غاية الحسن واللطافة.
ومنها:
فإنْ تَكُ بانَتْ بَيْنَ لا مُتَعَتِّبٍ ... فيرضَى، ولا ذو الوُدّ منها بطامعِ،
فإِنّي لأَهْواها، وإِنْ حالَ دونَها ... سَوادُ رَغامٍ البَرْزَخ المتاوقعِ
وأُقسِم لولا سيفُ دولة هاشمٍ ... ونشري لِما أولاه بينَ المجامعِ،
لَقَرَّبُت رَحْلي عامداً فأتيتُها ... وإِن كان إِلمامي بها غيرَ نافعِ
ومنها في المدح، وقد أحسن أيضاً:
إذا جئتَه، لم تلقَ من دون بابِه ... حجاباً، ولم تدخُلْ إليه بشافعِ
كماء الفُرات الجَمّ، أعرض وِردُه ... لكلّ أُناس، فَهْوَ سهلُ الشّرائعِ
إذا سار في أرض العدوّ، تباشرت ... بأرجائها غُبْرُ الضِّباع الخوامعِ
فتتبَعُه من كلّ فَجّ، فتهتدي ... طوائفها بالخافقات اللوامعِ
فيُرمِلُ نِسواناً، ويُيْتِمُ صِبْيَةً، ... ويجنُبُ في الأَغلال مَنْ لم يُطاوعِ
على أَنّه في السَّلْم عندَ سؤاله ... أَغَضُّ وأحيا من ذوات البَراقعِ
ومنها:
فما نِيلُ مِصر، والفُراتُ، ونِيلُهُ ... ودَجْلَةُ في نَيْسانَ ذاتُ الرَّواضعِ،
تَرُدُّ لها الزّابانِ من كلّ مَنْطَفٍ ... ذَوائبَ أعناقِ السُّيُول الدَّوافعِ،
بأسرعَ من يُمْناه فضلَ أَناملٍوأجرى نَدىً من سيله المتدافعِ
إِليك ابنَ منصور تخطّت بنا الفَلا ... سفائنُ بَرٍّ غيرُ ذات بَضائعِ
سِوى الحمدِ. إِنَّ الحمدَ أبقى على الفتى ... من المال، والأموالُ مثلُ الودائعِ
وله من قصيدة في عميد الدولة، ابن جهير وزير الإمام المستظهر بالله، أولها:
أمَنازلَ الأحباب بينَ مَنازلِ ... فالرَّبْوَتَيْنِ إلى الشَّرَى من كافلِ
ومنها:
ولقد جزِعت من الفراق وبَيْنِهِ ... جَزَعَ العليلِ من السَّقام القاتلِ
تتلو، وتتبَعُها، الحُداة، كأنّها ... قَزَعٌ تقطَّعَ من جَهامٍ حافلِ
فوقفت أنظُرها، وقد رُفِعت لنا، ... نظرَ الغريقِ إلى سواد السّاحلِ
وتعرَّضت، لِتَشُوقَنا، مَعنيَّة ... كالظَّبْي أفلت من شِراك الحابلِ
هيفاء . . ألْحَفَها الشَّباب رِداءَه ... كالغصن ذي الورقِ الرَّطيبِ المائلِ
تهتزُّ بين قلائد وخَلاخل ... وتَميس بين مَجاسد وغَلائلِ
وتقول: إنّ لقاءنا في قابلٍ، ... والنَّفسُ مولعة بحبّ العاجلِ
ومضت، فأضمرها البِعادُ، فلم تكن ... خُطُواتُها إِلا كَفْيءٍ زائلِ
ومنها في المخلص:
يشكو معاندةَ الخطوبِ، ويرتجي ... عدلَ الزَّمانِ من الوزير العادلِ
وله من قصيدة في مهذب الدولة، السعيد، بن أبي الجبر ملك البطيحة يطلب فيها شبارة:
خَلِّياني من شقوة الادلاجِ ... وأصْبَحانِي قبل اصطخابِ الدَّجاجِ
من كُمَيْت، ذابت، فلم يبقَ منها ... غيرُ نُور مستوقَدٍ كالسِّراجِ
عتَّقتْها المَجُوس من عهد شِيثٍ ... بُرهةً بينَ مِخْدَعٍ وسِياجِ
فبدت من حِجالها، وَهْيَ تسمو ... كالمصابيح في بطون الزُّجاجِ
واقْتُلاها عنّي بمَزْج، فإِنّي ... لا أرى شُربَها بغير مِزاجِ
يتهادَى بها إِلَيَّ غَضيضُ ال ... طَّرْف ما بينَ خُرَّد كالنِّعاجِ
من بنات القصور، يَمشين رَهْواً ... بين وَشْي الحرير والدِّيباجِ
وذَراني من النُّهوض مع الرُّكْ ... بانِ والعَوْدِ بالقِلاص النَّواجي
ووقوفي على مَعاهدَ غُبْرٍ ... ليس فيها لِعائج من مَعاجِ
إِنَّما بِغْيَتِي مصاحبة الصَّهْ ... باءِ مَعْ كلِّ أبلجٍ فَرّاجِ
ومنها في المخلص:
كامل في الصِّفات مثل كمال ال ... دِّينِ غَوْثِ الورى ولَيْثِ الهِياجِ
ومنها:
أيُّها الخاطبُ الَّذي بعَث المَهْ ... رَ إلينا، والنَّقْدَ، قبلَ الزَّواجِ
قد زَفَفْنا إليك بِكراً لَقُوحاً ... غيرَ ما فارِكٍ، ولا مِخْداجِ
حُرَّةً، لم تلِدْ جَنيناً، ولم تَنْ ... مُ قديماً من نُطفة أَمشاجِ
غيرَ أَنّي إِخالُها، وَهْيَ حَمْلٌ، ... لَقِحَتْ من نَداك قبلَ النَّتاجِ
فاشْرِ منها النِّكاحَ طِلْقاً، فإنّي ... بِعتُه منك بيعةَ المحتاجِ
بَسُبوحٍ دَهْماءَ، مُسْحنَةِ البط ... نِ، خَرُوجٍ من كَبَّة الأمواجِ
كالظَّلِيم المُغِّذِ، في الماء تبدو ... من لباس الظَّلْماء في دُوّاجِ
شَخْتَة القَدِّ، من خِفاف الشَّبابِي ... ر المَقاصير، أو طِوال الوراجي
الوراجي: جمع أرجية، وهي من سفن البطائح.
بارزات أضلاعها فَهْيَ كُثْرٌ ... مُدْمَجاتٌ في قوَّة واعوجاجِ
سيرُها دائباً على الظَّهر، لا يشْ ... كو قَراها من كدحة وانشجاجِ
يلتقي جَرْيَةَ الفُراتِ فيُردي ... سيرُها كلَّ مُقْرِب هِمْلاجِ
بلِسان مثلِ السِّنان طويلٍ ... طاعنٍ من حَشاه في الأَثباجِ
ورِقاقٍ عُقْفٍ، كأجنحة الطِّيْ ... ر إِذا رفرفتْ على الأَبراجِ
داجياتٍ، حُدْب الظُّهور، فإِنّي ... أبداً في هواك غير مُداجِ
فتراها تمُرُّ في الماء كالسَّهْ ... مِ إِذا قصَّرَتْ نِقالُ الرَّماجِ
ومنها:
واغتنمْ فُرصة الزَّمان بنفعي ... فالليالي سريعة الاِنْدِراجِ
وَلْيَكُنْ ذاك عن قريب، فإِنّي ... كلَّ يوم في رجفة وانزعاجِ
وله في صفة الراح:
وكأسٍ كمثل فَتِيق الضِّرام ... تُميِت الهموم، وتُحيي السُّرورا
تُشَبُّ لِشَرْبٍ على مَرْقَب ... فتُعشي النَّديمَ، وتُغْشِي المديرا
إذا شابَها شاربٌ مُعْتِمٌ ... ظننت بيُمْناه نجماً منيرا
أنشدنيها ب البصرة زين الدين، ابن الأزرق.
وله يصف روضاً، من قصيدة، أولها:
يا راقداً، قد نفَى عن جَفْنه الأَرَقا، ... قُمْ للصَّبُوح، فهذا الصُّبح قد طَفِقا
واشرَبْ على روضة، جازَ النَّسيمُ بها ... ليلاً، فأصبح من أَنفاسها عَبِقا
فما يَمُرّ، إذا ما مَرَّ مبتكِراً، ... إِلا وأَرَّج من أنفاسه الطُّرُقا
كأنّما نشَر العطّارُ عَيْبَتَهُ ... فيها سُحَيْراً مع الإِصباحِ إِذْ فُتِقا
كأنّما السُّحْبُ تَهْواها، فقد نظَمت ... من لؤلؤ الطَّلّ في أوراقها حَلَقا
ووكلت حولَها من نورها حرساً ... يظَلُ يرقُبُها، لا تَطْرِفُ الحَدَقا
صُفْرُ الحماليق، لا تنفكّ ناظرةً ... وليس تنطقُ إِنْ ذو ناظر نطَقا
كأنّما الكَرْمُ في أرجائها خِيَمٌ ... من سُنْدُس، ضُرِبت مسطورةً نَسَقا
تبدي لنا من حواشيها، إذا كشَطت ... هُوجُ العواصِف عن قُضبانها الوَرَقا
مثل التَّنابيلِ من حام قد اتَّخَذُوا ... خوفاً من السَّبْي في أيديِهِمُ دَرَقا
وأنشدني أيضاً للسنبسي في صفة الخمر، وقد أحسن:
فكأنّها والكأسُ تحت سُلافِها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاقِ
وكأنَّ أفواهَ الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
ومنها في صفة الإبريق:
جُليت علينا في مراكزِ محكَمٍ ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتُونِ رِقاق
أنشدنيها أبو المعالي الذهبي، رحمه الله تعالى.
ومنها، وهو أول الأبيات على الترتيب:
ولَرُبَّ ديرٍ، قد قصَدنا نحوَهُ ... في فِتْيَة، ناءٍ عن الأسواقِ
فطرَقْت بابَهُمُ، فقال كبيرهُمْ: ... أهلاً بزائرنا وبالطُّرّاقِ
ومضى بمغِوَلِه، فغاب هُنَيْهَةً ... في مُخْدَع ناءٍ وَرا أَغلاقِ
وأتى بها بِكراً، تخالُ حَبابَها ... فوقَ الدِّنان نواظرَ الأحداقِ
حمراءَ، تَخْضِب في الظَّلام إذا بدت ... في كفّ شاربها، يمينَ السّاقي
لم تُغْلَ في قِدر، فيَكْمَدَ لونُها، ... قبلَ انتهاكِ العصر، بالإِحراقِ
فكأنَها، والكأس تحتَ سُلافها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاق
ومنها في صفة الأباريق:
جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ
وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ
قلت: اسْقِني منها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ
وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ
فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ
لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ
ومنها في صفة الخمار، وسومه:
فتعالت الأصوات فيما بينَنا ... حتّى أخَذْنا في مِرا وشِقاقِ
أدنو، فيبعد في الكلام بسَوْمِهِ ... عنّي، فما ألقاه عندَ وِفاقي
فكأنّما درَسَ الخِلافَ وحكمَهُ ... للشّافِعيّ على أبي إسحاقِ
وله في المديح:
فواللهِ ما حدَّثتُ نفسي بمدحة ... لذِي كرم، إلا خطَرت بباليا
ولا سِرْتُ في وجه، لأِسأل حاجة ... أُسَرُّ بها، إلا جعَلْتك فاليا
وإِنّي لَراجٍ أن أنالَ بك العلى ... وأبلُغَ من دهري ومنك الأمانيا
وأنشدت له في الخمر:
أقول لصاحب، نبَّهْتُ وَهْناً، ... ونومُ العين أكثرُه غِرارُ:
لَعلَّك أَنْ تعلِّلَنا بخمرٍ، ... فأيّامُ الشُّرور بها قِصارُ
فقامَ يذودُ باقي النَّوم عنه، ... وفي أجفانِ مُقْلَتِه انكسارُ
وعاد بها، كماء التِّبْر، صِرفاً ... على أَرجائها زَبَدٌ صِغارُ
فلم أرَ قبلَ منظرِه لُجَيْناً ... رقيقَ السَّبْكِ، أخلصه النُّضارُ
فما أدري، وقد فكّرتُ فيها، ... أنارٌ في الزُّجاجة؟ أَمْ عُقارُ؟
لِكُلّهِما ضياءٌ واشتعالٌ ... تطايرَ عن جوانبه الشَّرار
سِوى أَنّي وجدت لها نسيماً ... كنَشْر الرَّوض، باكرَه القِطارُ
وله:
ولمّا تنادَى الحيُّ بالبَيْن غُدوةً، ... أقام فَريقٌ، واستقلَّ فَريقُ
تَلفَّتُّ إِثْرَ الظُّعْنِ حتّى جهِلته ... فإِنسانُ عيني بالدُّموع غريقُ
فيا مَنْ لِعَيْنٍ لا تَزالُ كأنَّما ... عليها غِشاء للدُّموع رقيقُ
إذا البَيْنُ أدماها بأيدي سِفاره ... تحدَّر منها لؤلؤ وعَقيقُ
وله:
فَسِيحُ نواحي الصَّدر، ثَبْتٌ جَنانُه ... إذا الخيلُ من وقع الرِّماح اقشعرَّتِ
جميل المُحَيّا والفِعَال، كأنّما ... تمنَّتْه أُمُّ المجد لمّا تَمَنَّتِ
وأنشدني شيخنا عبد الرحيم بن الأخوة قال: أنشدني القائد أبو عبد الله، محمد، بن خليفة، السنبسي لنفسه:
وخمّارةٍ من بناتالمَجُسِ لا تطعَمُ النّومَ إلاّ غِرارا
طرَقْت على عجل، والنُّجو ... مُ في الجوّ معترضاتٌ حَيارَى
وقد برد الليل، فاستخرجت ... لنا في الظَّلام من الدَّنّ نارا
وله:
لم أنسَ، يومَ رحيلِ الحيّ، موقِفَنا ... ب ذي الأراك وذيلُ الدّمعِ مجرورُ
وقد لها كلُّ ذي حاجٍ بحاجته ... عنّا، فمُنْتَزِجٌ ناءٍ، ومنظورُ
كم قد عزَمت على تَركي محبَّتكم ... يا أُمَّ عَمْروٍ، فتأباه المقاديرُ
وله في النسيب:
يَعشي العُيونَ ضياءُ بهجتِها ... تحتَ الظَّلامِ، ودُونَها السِّتْرُ
وإذا تكلّمنا، ترى بَرَداً ... شَنَباً، تَرقرقُ فوقَه خمرُ
قَصُرتْ عن الأَبواع خطوتها ... عندَ القيامِ، فقَدْرُها فِترُ
وإذا مشت، مالت روادفُها ... بقَوامها، وتململ الخَصْرُ
فجبينُها بدرٌ، ومَبْسِمُها ... فجرٌ، وحشوُ جُفونِها سحرُ
فكأنّما كُسيت تَرائبُها ... زَهَراً، تَوَقَّد بينَه جمرُ
قامت تودِّعُني، وما علِمت ... أَنَّ الوَداع لمِيتتي قَدْرُ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، عبد الواحد، بن الحصين قال: أنشدني والدي مسعود، بن عبد الواحد، رحمه الله تعالى، للسنبسي من قصيدة في سيف الدولة، صدقة، أولها:
قم فاسقنيها على صوت النَّواعيرِ ... حمراءَ، تُشرق في ظلماءِ دَيْجُورِ
كانت سِراجَ أناسٍ، يهتدون بها ... في أوَّل الدَّهر قبلَ النّارِ والنُّورِ
فأصبحت، بعدَما أفنى ذُبالتَها ... مَرُّ النَّسيمِ وتَكرارُ الأعاصيرِ،
في الكأس تُرْعَدُ من ضُعف ومن كِبَر ... كأنَّها قَبَسٌ في كفّ مقرورِ
فالظِّلُّ منتشرٌ، والطَّلُّ منتثِرٌ ... ما بينَ آسٍ ورَيْحانٍ ومنثورِ
ونَرجِس خَضِل، تحكي نواظرُه ... أحداقَ تِبْر على أجفان كافورِ
ما بينَ نَيْلَوْفَرٍ، تحكي تَمائمهُ ... زُرقَ الأَسِنَّة في لون وتقديرِ
مغرورق، كرُؤوس البطّ مُتْلِعَةً ... أعناقَها، وهُمُ مِيلُ المناقيرِ
كأنّما نَشْرُها في كلّ باكرةٍ ... مِسكٌ تضوَّعَ، أو ذِكرُ ابنِ منصورِ
أبو عبد الله أحمد بن عمار الحسيني الكوفي مجد الشرف.
كتب لي ولده شمس الشرف، عمار نسب والده، وهو: أبو عبد الله، أحمد، بن عمار، بن أحمد، بن عمار، بن المسلم، بن أبي محمد، بن أبي الحسن محمد، بن عبيد الله، بن علي، بن عبيد الله، بن علي، ابن عبيد الله، بن الحسين، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
وذكر: أنه توفي ب بغداد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وعمره اثنتان وخمسون سنة.
علوي، نجم سعده في النظم علوي. وشريف شرى في سوق الأدب، فضله بكد النفس والنصب. شرفت همته، وظرفت شيمته، ولطف لنظم رقيق الشعر ذهنه، ولم يملك في مضمار القريض رهنه.
مجد الشرف، مجيد لإنشاء الطرف. موفي كافٍ، خاطره صافٍ، ولفظه شافٍ، وفضله غير خافٍ. في حظه قانع، وفي شعره صانع، ومن الخطأ في نظمه مانع، فكأن كلامه ثمر يانع.
كل شعره مجنس، لا كشعر غيره بالركة والعجمة مدنس. فهو بصنعته وقوة معناه مقدس، بنيانه على الفضل ممهد مؤسس.
ف ابن عمار، لمودات القلوب بانٍ ومعمار. نبتت في أفنان أدبه أثمار، وتطلعت من مشرق فضله لقصائده أقمار، وستنقضي - إلى أن يسمح الدهر بمثله - حقب وأعمار.
أغر، له الكلم الغر. حر، له النظم الحر، السهل الممتنع الحلو المر، كأنه الياقوت والدر.
أنشدني الشيخ المؤدب المقرئ أبو إسحاق، إبراهيم، بن المبارك، البغدادي بها، في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمس مئة - وكان راوية الشعراء، يتوب عنهم في الإنشاد بين يدي الكبراء - ل ابن عمار قصيدةً ألفيةً، أبياتها تشبه طلساً رومية. وكنت نظمت على روي الألف، وسمته أن ينشدها عني عند بعض ذوي الشرف، فتذكر ابن عمار وقال: ورد بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح جلال الدين بن صدقة بتلك القصيدة المعنوية، ورويتها عنه إنشاداً بحضرة الوزير: وهي:
خَلِّه، تُنْضِ ليلَهُ الأَنْضاءُ ... فعَساه يَشفي جَواه الخُوَاءُ
ويُبِيد البَيْداء والعِيسَ. إِنّي ... مُشفقٌ أَنْ تُبيدَه البَيْداءُ
فقد استنجدتْ حَياه رُبا نَجْ ... د، وشامت بُروقه شَيْماء
وثَنَت نحوَه الثَّنِيَّةُ قلباً ... قُلَّباً، تستخفُّهُ الأَهواءُ
عاطفاتٍ إليه أَعطافَها، شَوْ ... قاً، كما تَلْفِتُ الطُّلَى الأَطلاءُ
دِمَنٌ دامَ لي بها اللهوُ حِيناً ... وصَفا لي فيها الهوى والهواءُ
وأَسرْت السَّرّاءَ فيها بقلب ... أَسَرَتْه من بَعدِها الضَّراءُ
فسقت عهدَها العِهادُ، ورَوَّت ... منه تلك النَّواديَ الأَنداءُ
وأَربَّتْ على الرُّبا من ثَراها ... ثَرَّةٌ، للرِّياض منها ثَراءُ
يستجمُّ الجُمام منها إذا ما ... نَزَح المُقْلَةَ البَكِيَّ البكاءُ
زمنٌ، كان لي عن الهَمّ هَمّ ... بالتَّصابي، وبالغَواني غَناءُ
ناضرٌ. كُلَّما تعطَّفتِ الأَع ... طافُ منه، تثنَّتِ الأَثْناءُ
وإِذا هَزَّت الكَعابُ كِعابَ ال ... خَطِّ، سَلَّتْ ظُبَى السَّيوفِ الظِّباءُ
في رياض، راضت خِلالَ جَلالَ ال ... دِّينِ أرواحهنَّ والصَّهْباءُ
شِيَمٌ، شامَها النَّسيمُ، فرَقَّت ... وجَفَتْ عن سموّها الأسماءُ
شابَ بالعُرْف عَرْفَهُنَّ، وقِدْماً ... خامر الخمرَ في الزُّجاجة ماءُ
ملك، خاطبَ الخُطوب برمز ... خَطُبَتْ من شِياته الفصحاءُ
وأمالَ الآمالَ عن كلّ حَيّ ... بعدَ أَنْ لم يكن لحَيّ رجاءُ
أَلْمَعِيٌّ، لو شامَ لامعَ أمر ... لأَرَتْه غروبَه الآراءُ
مُعرض العِرض عن عتاب، إِذا لم ... يَرُعِ الأروعَ الهِجانَ الهِجاءُ
لك من وجهه وكفَّيْه ماءا ... نِ: فهذا حَياً، وهذا حَياءُ
روَّض الأرضَ والنَّدِيَّ نَداه ... واعتفته الأَحياءُ والأَحياءُ
بِيَدٍ، أيّدت من الدَّهر ما انآ ... دَ، وكانت له اليدُ البيضاءُ
ويَراع، راعَ الذَّوابلَ بأساً ... ورعى المجدَ حين قلَّ الرِّعاءُ
كلَّما صلَّ، صالَ منه بِصّلٍ ... لا يُرَى للرُّقَى إليه ارتقاءُ
وإذا ماجَ ثُمَّ مَجَّ لُعاباً ... كان منه الشِّفاءُ والاشقاءُ
فعليه للسّائلين صِلاتٌ ... وعليه للصّائلينَ صِلاءُ
قد أصابوا لَدَيْه صَوْباً وصاباً ... فيهما راحةٌ لهم وعناءُ
ورَّثَته هَدْيَ الجدودِ جدودٌ ... ورَّثَتها آباءَها الآباءُ
معشرٌ، عاشروا الزَّمانَ ووَلَّوْا ... وعليه رِيٌّ بهم ورُواءُ
لو يُجارونَ جاريَ الغيثِ في الجو ... د، لمَا ناوَأَتْهُمُ الأَنواءُ
أنت صُنت العِراق إِذْ عَرَقَتْهُ ... بيَدَيْها مُلِمَّةٌ دَهْياءُ
وأَمامَ الإِمامِ قِدْماً تقدَّمْ ... تَ وأقدمتَ حينَ حانَ اللِقاءُ
بجِنانٍ، ما حَلَّ جَنْبَيْ جَبانٍ، ... واعتزامٍ، للموت فيه اعتزاءُ
أعربت عنه يَعْرُب و قُرَيْش ... واصطفته الملوكُ والخُلَفاءُ
باسطاً في ذرّا البسيطة جيشاً ... جاشَ منه صدرُ الفَضاءِ الفَضاءُ
نقع الجوَّ من جَواه بنَقْع ... نافسته على السًّموّ السَّماءُ
لم يَرِمْ عاريَ العَراء إلى أن ... نُشِرت منه في مَلاهُ المُلاءُ
كاد مَنْ كاده يَصُوب بِصَوْبٍ ... قَطْرُ أقطارِ دِيِمَتَيْه الدِّماءُ
يا أخا الجودِ والسَّماحِ، نِداءً ... فوقَ سَمْعِيهِ من نَداك نِداءُ
رائقاً، لا يُرِيقُ فيكم دمَ الأَمْ ... والِ، حتّى تحيا به العَليْاءُ
كلَّما هزَّه السَّماحُ، تثنَّى ... بين أثنائه عليه الثَّناءُ
مِن فتىً، فاتَ أقوم القوم بالقَوْ ... لِ، ودانت لفضله الفضلاءُ
حاز صَفْوَ الصّفات، فالعِلمُ منه ... عَلَمٌ، والذَّكاء فيه ذُكاءُ
لكُمُ منه ذِمَّة اللهِ. إِنَّ ال ... حمدَ والذَّمَّ من سِواه سَواءُ
مستقلٌّ للمال، لا يَجْتَدِيه ... إِنَّما همَّةُ العليِّ العَلاءُ
همّةٌ نالَها، الثُّرَيّا علوّاً ... واستوى عندَه الثَّرى والثَّراءُ
لم يَطُلْها طَوْلُ السَّحاب، ولا جا ... زَتْ بمجرى أفلاكِها الجَوْزاءُ
همَّةٌ، نازعت إليك، وفي ذا ... كَ دليلٌ بأنّها عَلْياءُ
عزَفَت عن بني الزَّمان، ورامَتْ ... ك، فهم داؤها، وأنت الدَّواءُ
كُلَّ يومٍ يؤُمُّها منك جودٌ ... أحقرُ الجودِ عندَه الإِجداءُ
أمطرَ العِزَّ ناشئاً ومَلِيئاً ... واستوى المالُ عنده والماءُ
تستميلُ الآمالُ عِطْفَيْه عَطْفاً ... ويهُزُّ الرَّجاءَ منه الرَّجاءُ
أنا ذاك الدّاني البعيدُ مقاماً ... ومقالاً إِن أُفحِم الخُطَباءُ
لا أرى الشِّعرَ لي شِعاراً إذا ما ا ... أخَذّتْهُ دَأباً لها الأدباءُ
هو عندي نقصٌ وإن كان فضلاً ... وكثيرٌ من البحور الغُثاءُ
وإذا أحكم الرِّجالُ مقالاً ... حكمت لي بسبقه الحكماءُ
وقليلُ النَّوالِ عندي كثيرٌ ... وهِباتُ الدُّنيا لَدَيَّ هَباءُ
وإذا كنتَ أنت ذُخريَ للأي ... امِ، هانت في عينيَ الأشياءُ
وجدير أَنّي أنالُ بك المج ... دَ، فما للغنى لَدَيَّ غَناءُ
ويميناً ألا مددتُ يميناً ... ما دجا الليلُ، واستنار الضّياءُ
غيرَ أنّي أغارُ للمجد أنْ لا ... تُدرِكَ المالَ غارةٌ شَعْواءُ
وإذا القصدُ أخطأَ ابن عليّ ... فعلى الشّعر والعُفاةِ العَفاءُ
هذه القصيدة، من حقها أن تكتب بسويداء القلوب على بياض الأحداق، وقد أحدقت بها حدائق من التجنيس و التطبيق و الترصيع أحسن إحداق. ما يخلو بيت من تجنيس ومعنى نفيس، تخجل من نسجها صناع تونسة و تنيس. بكر مالها كفء فرضيت بالتعنيس. وعلى الحقيقة، لم أر كهذه الحديقة، ولم أسمع قبلها، في صنعتها مثلها، فهي غراء، عذراء حسناء، بل روضة غناء، أو غانية رعناء، خدرها الحياء. فلله در جالب درها، وحالب درها وأنشدني الشريف أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي ب بغداد، في ديوان الوزير عون الدين، بن هبيرة، ثامن عشر صفر سنة ست وخمسين وخمس مئة، ل ابن عمار الكوفي:
وشادِنٍ، في الشّرب قد اُشرِبت ... وَجْنَتُه ما مَجَّ راوُوقُهُ
ما شُبِهّت يوماً أبارِيقُهُ ... بريِقه، إلا أبى رِيقُهُ
وقال لي الشريف الجليل: وله في عمك العزيز، رحمه الله تعالى، قصيدة، منها:
إذا هاجه الأعداء، أو هزَّه النَّدَى ... فأيُّ حَيا نادٍ، وحيَّة وادِ
وله في التجنيس، من قصيدة:
في جَحْفَل متعاضد متعاقد ... في قَسْطَل متراكب متراكمِ
ورأى العلى بلحاظ عاشٍ عاشقٍ ... ورمى العدا بشُوّاظ غاشٍ غاشمِ
وله:
يدٌ، لو تُباريها الرِّياحُ لغاية ... لَبَذَّ نسيمَ العاصفاتِ وَئيدُها
إذا ما غَوادي المُزنِ أخلف جَوْدُها ... وصوَّحَ نبتُ الأرضِ، أخلف جُودُها
ومنها:
كتائبُ، لكنَّ الرَّزايا نِبالُها. ... كواكبُ، لكنّ العطايا سُعودُها
وله:
محمّد و دُبَيْس أوْرَيا لهما ... زَنْدَ المَنوُنِ، ونَقْعُ الليلِ معتكرُ
برأي هذا وغيبُ الخَطْب مشتبه ... وبأسِ ذاك وغاب الخَطِّ مشتجرُ
غدا عليهم وفي قلب الوَغَى غَرَرٌ ... وراح عنهم وفي وجه العلى غُرَرُ
ولقيت ولده ب بغداد، في سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وهو شمس الشرف، عمار، بن أحمد، بن عمار، وهو كهل، فروى لي عن والده ما سبق ذكره، وأنشدني ما نظمه والده في مدح عمي العزيز، رحمه الله تعالى، وكتبه لي بخطه:
إليك، فما خَطْبِي بهَيْن من الأَمْرِ ... وعنك، فما فتكي ببِدْع من الإِمْرِ
لَبِئْسَ الفتى مَن يردَعُ البؤسُ بأسَهُ ... وغَمْرُ الرِّجال مَنْ يبيت على غِمْرِ
ألست حصَبْتَ القلب يومَ مُحَصَّبٍ ... وأوطأته ب الجَمْرَتَيْنِ على الجمرِ
شنَنْت عليه ب الغُوَيْر إِغارةً ... سنَنْت بها سَبْيَ النُّفوسِ إلى الحشرِ
وثنَّيْت في يوم الثَّنِيِّ بنظرة ... ثَنَت حِلمه لولا التَّمَسُّكُ بالصَّبْرِ
حوادث، تُسليني عن الهجر والنَّوَى ... وأبرحُ شيءٍ ما جنته يدُ الهجرِ
شكور على النُّعْمى، صبور على البَلا، ... ذلول على الحسنى، جموح على القسرِ
وعُدْنا إلى القُربى، وعُذْنا من القِلى، ... وعُجْنا عن العُتبى، ومِلْنا إلى العُذرِ
وما أنا بالسّالي الجَمُوحِ على الهوى ... ولا أنا بالغالي الطَّمُوحِ إلى الوِزْرِ
ومثليَ مَن هبَّتْ به أَرْيَحِيَّة ... إلى اللهو، لكنّي أَغارُ على الفخرِ
ولا أقتضي بردَ الرُّضاب، وإِنْ ورى ... شُواظَ الثَّنايا الغُرِّ في قلبيَ الغِرِّ
ولي في ظُبَيّات العَقِيق وحسنِها ... مآربُ أُخرى غيرُ نُكْدٍ ولا نُكْرِ
تذكّرني ألحاظُها وقُدودُها ... عِناقَ الصِّفاحِ البِيضِ والأَسَل السُّمْرِ
وتُلهمني ألفاظُها وعُقودها ... بنظم القوافي في معاليك والشّعرِ
إليك عزيزَ الدِّينِ قسراً تعَسَّفت ... بنا البِيدَ أَنْضاءٌ مِراحٌ على الضَّمْرِ
مردَّدة بين الجَدِيل و شَدْقَمٍ ... كرائم يبدي سرّها كرم النَّجْرِ
تطيرُ بأيدٍ، في الفضاء، خوافقٍ ... كما خفَقَت في الجوّ قادمِتا نَسْرِ
مَرَقْنَ بنا من أرض كُوفانَ بُدَّناً ... خِفافاً، تَبارَى في الأَزِمَّة والضَّفْرِ
ورُحْنَ عن الزَّوْراء زُوراً نَوافراً ... كما مَرَّتِ النَّكْباء بالبلد القَفْرِ
ونكَّبْنَ أعلام العِراق ضَوارباً ... بأخفافها ما بينَ شِجْنَةَ والقصرِ
تلاعب أيديها كَلالاً، كأنَّها ... كواسرُ طيرٍ، رائحات إلى وَكزِ
تَتَبَّعُ آثار المكارم، مثلَما ... تَتَبَّعُ رُوّادُ الحَيا أثَرَ القَطْرِ
إلى أن أنَخْناها بعَرْصَة ماجدٍ ... أخي يَقَظات، لا ينامُ على وِتْرِ
طليقِ الغنى والوجه والكفّ والنَّدَى ... رَحيبِ الحِمى والحِلم والباع والصَّدْرِ
وَصُولٍ قَطُوعٍ، باسمٍ باسرٍ، نَدٍ ... صَليبٍ، مُبيحٍ مانعٍ، سَهِلٍ وَعْرِ
رقيقِ حواشي الحِلم، يعدو على الغِنى ... إذا ما سألناه، ويُعدِي على الفَقرِ
بكيدٍ خفّيٍ، حُوَّلِ الرّأيِ قلَّبٍ ... يروح على سرّ، ويغدو على جهرِ
وخَطْبٍ كجري السَّيْل، نَهْنَهْت غَرْبَه ... بعزمي، وأسبابُ القضاء به تجري
دعوت له وُدَّ الأخِلاّء مرّةً ... وبأسَ الكُماة الصِّيد والعَدَد الدَّثْرِ
فلمّا أبى نصري الزَّمان وأهلُه ... دعوت، على رُغْم الزَّمانِ، أبا نصرِ
دعوت فتى، لم يُسْلمِ الدَّهْرَ جارَه ... ولا رمَقَ الأضيافَ بالنّظر الشَّزْرِ
ولا حكَمت في قلبه سَوْرَة الهوى ... ولا رنّحت من عِطْفه نشوة الكِبرِ
يروح ويغدو عند الجارُ آمناً ... وتُمسي خطوبُ الدَّهر منه على ذُعْرِ
إذا انقبضت فوقَ اليَراعِ بَنانُه ... أرتك انبساطَ الجُودِ في سَعَة الوَفْرِ
بَنانٌ. إذا جالت على الطَّرس، خِلْتَها ... بُحوراً ومُزناً جُدْنَ بالدُّرّ والدَّرِّ
وما أنت إلا الشَّمسُ، تبسطُ نورَهانهاراً، وتُلقيه ظلاماً على البدر
وكم ليَ في عَلْياك غُرَّة مدحة ... تَكَشَّفُ عن أوضاحها بُهَمُ الفكرِ
غرائب. لو يُلْقَى الظَّلامُ بذكرها، ... لأَغنت قوافيها عن الأنجم الزُّهْرِ
ولو فُصِّلت بالدُّرّ غُرُّ عقودِها ... وخُيِّرْت، لاخترت القَريض إلى الدُّرِ
ومثليَ من أهدى لمثلك مثلَها ... فإِنّي رأيتُ الحمد أنْفَسَ للذُّخْرِ
وأنشدني أيضاً لوالده، رحمه الله تعالى، في عمي الصدر والشهيد عزيز الدين رحمه الله تعالى:
إِلامَ تَلَقّانا النَّوَى بعِنادِ؟ ... وترمي الليالي قُربنا بِبِعادِ؟
وحَتّامَ يَقضي البينُ فيَّ مرادَه ... وتمنَعُني الأيّامُ كلَّ مُرادِ؟
وما أشتكي إلا فراقَك، إِنَّه ... وَهَى جَلَدي عنه وقلَّ جِلادي
ومثلُك مَن يَشْجَى الخليلُ ببَيْنِه ... وأكثرُ إخوانِ الزَّمان أعادي
وأنت الفتى كلُّ الفتى، لا مضيِّعٌ ... لعهد، ولا ناسٍ لحفظ وِدادِ
ولا شامخٌ إن زادك الدَّهرُ رتبةً ... ولا ضاربٌ دونَ النَّدَى بسِدادِ
كريمٌ وأخلاقُ الزَّمانِ لئيمةٌ ... رَوِيٌّ وأخلافُ الغَمامِ صوادي
وإن هاجك الأعداءُ، أو هزَّك النَّدَى ... فأيّ حَيا نادٍ، وحَيَّةِ وادِ
وأنشدني أيضاً لوالده، كتبها إلى عمي العزيز: عز الدين، أحمد، بن حامد يستهدي منه فرساً، فنفذ له فرساً، يساوي خمسين ديناراً:
يا مَنْ ترى الغيب فينا أَلْمَعِيَّتُهُ ... فالبعدُ في وَهْمه أدنى من الكَثَبِ
أما رأيت يدَ الدَّهْماء قاصرةً ... قد ناوشتْها فنالتها يدُ العَطَبِ
كأنّما يَدُها، عن رجلها خلَف، ... فكلَّما أقدمت، عادت على العَقِبِ
فما تَسير ببَرْحٍ غيرِ منقلِب ... فسيرُها راجع في كلّ منقَلَبِ
حتّى إذا هملجتْ بالقوم خيلُهُمُ ... عدلت عجزاً إلى التَّقريب والخَبَبِ
سارت بهم أنجم تنقضُّ مسرعةً ... وسار تحتيَ ليل العاشق الوَصبِ
فجُدْ بأشهبَ، مثلِ النّجم مُتَّقداً ... أو أشقرٍ، كأُوار النّار، ملتهبِ
أو أحمرٍ، كارعٍ في ماء غُرَّته ... كأنَّ كُمْتَتَهُ الإحراقُ في الذَّهَبِ
يبدو فيَكسِفُ من أنوار شُهْبِهِمُ ... والشَّمسُ إِن طلَعت غطَّت على الشُّهُبِ
مُجَنَّسٍ، مُعْلَمِ الجَدَّيْنِ، مفترع ... عالي المَناسِب بين التُّرْك و العربِ
لا خالصٍ عربيٍّ في أَرُومَتِهِ ... ولا بليدٍ، لئيمِ النَّجْرِ، مُؤْتَشِبِ
قد أخلصته بنو ذُهْل، وهذَّبه ... أبناءُ ساسانَ، فاستولى على الأدبِ
تظَلُّ في حسنه الأبصارُ حائرةً ... فليس ينفكّ من عُجْب ومن عَجبِ
يَزِين راكبه يوماً ومهديه ... كالرّوض يُثني على الأَنواء والسُّحًبِ
هذا الجوادُ، الَّذي مَنَّ الجواد به، ... فافخَرْ بما شئت من مجد ومن حسبِ
وأنشدني لوالده أيضاً في مرثية الوزير السميرمي، وهو علي، بن أحمد، والاستطراد بمدح عمي العزيز، أحمد، بن حامد رحمه الله تعالى:
لقد هدَّ ركن الأرض فَقْدُ ابن أحمدٍ ... وهيهاتَ ما خَلقٌ عليها بخالدِ
وما تُخْلف الأيّامُ مثلَ ابن أحمد ... على النّاس، إلا أن يكونَ ابن حامد
وهَبْنِيَ طال الدَّهرُ واعتضتُ غيرَه ... أليس من المعروف نشرُ المحامدِ
وأنشدني أيضاً لوالده، في التجنيس:
قالوا: نرى قوتة مصفَّرة، ... وما دَرَوْا ما بك يا قُوتَهْ
قد كنت بالأمس لنا دُرَّةً ... فصِرتِ فينا اليومَ ياقُوتَهْ
أنتِ حياةُ القلب، بل قُوتُه ... فكيف يسلو عنكِ يا قُوتَهْ
وأنشدني لوالده أيضاً:
ورُبَّ إِشارةٍ عُدَّت كلاماً ... وصوتٍ لا يُعَدّ من الكلامِ
وأنشدني له أيضاً:
لَئِن بسَطَ الزَّمانُ يَدَيْ لئيمٍ ... فصبراً للذَّي صنَعَ الزَّمانُ
فكم في الأرض من عبدٍ هَجِينٍ ... يقبِّل كفَّه حُرٌّ هِجانُ
وقد يعلو على الرّأس الذُّنابى ... كما يعلو على النّار الدُّخَانُ
وأنشدني لوالده أيضاً:
لَئِن غدوتُ مقيماً في رُبوعكمُ ... وقد دعتني رُبوعُ المجد والشَّرَفِ
فالماءُ في حجر، والتِّبْرُ في تُرُب، ... والبدرُ في سَدَف، والدُّرُّ في صَدَفِ
وله:
ولقد نظَرت إلى الزَّمان بمُقْلَة ... نظري إلى أهل الزَّمان قَذاتُها
وعجِبت من أكل الحوادث للورى ... وهمُ بنو الدُّنيا، وهُنَّ بناتُها
تنشو جُسومُهمُ بلحم أخيهِمُ ... مثل الرِّئال: غِذاؤها أخواتها
أبو العز نصر بن محمد بن مبادر النحوي النيلي ذكره السمعاني وقال: كان شيخاً فاضلاً، عارفاً بالنحو واللغة.
وأنشدني لنفسه على باب داره ب النيل:
هل الوَجدُ إلا أن ترى العين منزلا ... تحمَّملَ عنه أهلُه فتبدَّلا؟
عَقَلْنا به غُزْرَ الدُّموعِ، وطالما ... عهِدناه للغِيد الأَوانس مُعْقِلا
إذا نحن أَلمْمَنْا له، انبعث الجَوى ... يحمّلنا داءً من الهمّ مُعْضِلا
أقول لمسلوب الجَلادة، لم يَقُلْ: ... خلا قلبُه من لاعج الشَّوْق، أولا:
أظُنّك لو أشرفت ب النِّيل مائلا ... على سُبُل، أضحى بها الدّمع مُسْبَلا
وآنست من آثار آل مُعَيَّة ... معاهدَ، كانت للمكارم منزلا،
لأَلْفيتَ ما بين الجوانح والحَشا ... فؤاداً، بأسباب الغرام موكَّلا
وغاديتَ يوماً بالكآبة أَيْوَماً، ... وساريتَ ليلاً بالصَّبابة أَلْيَلا
ألا أيُّها اللاحي على ما أُجِنُّه ... هل أنْتَ مُعيِرِي ناظراً متأمِّلا؟
أُريك محلاً، ما أحاطت رُبوعُه ... من القوم إلا مُفْضِلاً أو مُفَضَّلا
من الفاطميّين الَّذينَ وَلاؤهم ... عُراً لذوي التَّقْوى، نَجاءً ومَوْئِلا
إلى الحسن، بن المصطفى طوَّحَتْ بهم ... عُلىً، شرُفت من أن تقاس بها عُلَى
ابن الشريف الجليل أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي.
شيخ طويل، شريف جليل، نبيه نبيل.
كأن نظمه نسيم عليل، أو تسنيم وسلسبيل. أرق عبارةً من عبرة من أرقه الشوق، وأحسن حليةً من جيد ورقاء حلاها الطوق.
وفد على الديوان العزيز في صفر، سنة ست وخمسين وخمس مئة، يخاطب على ملك له قد انتزع، ورسمٍ له قد قطع.
وكنا نجتمع في دار المولى الوزير عون الدين بن هبيرة كل غدوة، وننتظر إذنه للخواص في اللقاء، وجلوسه لأهل الفضل وأبناء الرجاء. فاستأنس الشريف بمحاورتي، استئناسي بمحاورته، وأتحفني من رقيق عبارته، بيتين له في عمي العزيز رحمه الله، في نكبته. وهما:
بني حامد إن جارَ دهرٌ أو اعتدى ... عليكم، فكم للدّهر عندكمُ وِتْرُ
أجرتم عليه مَنْ أخافت صُروفُه ... فأصبح يستقضيكُمُ وله العذرُ
وذكر بعد ذلك أيادي عمي ونعماه، وما أولاه إليه وأسداه. ورق لفضلي وضياعه، وأشفق من اتضاعه، فذكرت له التفات الوزير إلي، وتحدثت بإنعامه علي. لولاه ذل أهل الفضل، وعز أولو الجهل، فهو الناقد البصير، العارف الخبير. عاش الفضلاء في ذراه، فيا ضيعة ذوي الأدب وأولي الحسب لولاه. رمقهم بعين القبول فحفظ رمقهم، وإن كان مقامهم - لولاه - ب العراق عرقهم، وخذل أهل الباطل بنصرة الحق وفرق فرقهم.
ولم يزل الشريف الجليل لي جليساً، يهدي إلي من أعلاقه نفيساً، إلى أن نجز توقيعاً بما توقعه، واستخلص ملكه ورجعه. فركب إلى الكوفة مطا التنوفة.
وعاد في سنة سبع وخمسين وخمس مئة إلى الوزير متظلماً، شاكياً متألماً، وأنشده - وأنا حاضر - قصيدةً مقتصدة في أسلوبها، مستجيراً به من الليالي وخطوبها، فيها بيتان جعلهما لتلك الكلمة مقطعاً، ما ألطفهما معاً وهما:
أجِرْني على الدَّهرِ فيما بقي ... بَقِيتَ. فما قد مضى، قد مضى
فلست أُبالي بسُخط الزَّمانِ ... وأنت تراني بعين الرِّضَى
فاهتز الوزير لها اهتزاز مثله، وأثنى على الشريف وفضله، ووعده بقضاء شغله. ووددت لو أن لي مكنةً، أو أملك على إجازته وإجارته منةَ، فأتقلد له منةً.
ثم أخذت القصيدة، فاخترت منها هذه الأبيات:
أَمَا والقَنا شُرَّعاً، والظُّبَى ... تجور وقد حُكِّمت في الطُّلَى
وشُعثِ النَّواصي، إذا ما طلَعْنَ ... عوابسَ، قُلْتَ ذِئاب الفلا
وتقصُرُ عنهنَّ هُوج الرِّياح ... إذا ما اصطخَبْنَ وطال المَدَى
عليها المَساعيرُ من هاشم ... تَخالُهم الأُسْدَ أُسْدَ الشَّرَى
لقد خصَّك الله بالمَأْثُرا ... تِ دُونَ البَرِيَّة لمّا برا
فأعطاك، وَهْوَ الجزيلُ العطا ... ءِ، لمّا رآك جزيلَ العطا
وقابلتَ إِحسانَه محسناً، ... فنِلْتَ المُنَى، وأنلتَ المُنَى
ومنها:
وكفُّك في الجود فوقَ الغَمامِ ... وأرضُك في الفخر فوقَ السَّما
ومنها:
أما والعُلَى قَسَماً صادقاً ... لقد أنجبتْ بك أُمُّ العلى
هُمَاماٌ، إذا صالَ صلَّ الحديدُ، ... وإن قال أسمعَ صُمَّ القَنا
ومنها:
فتىً، يُرخصُ النَّفْسَ يومَ الهِياجِ ... ويَشري الثَّناءَ إذا ما غلا
أخو السَّيف والضّيف، من تَدْعُهُ ... ليومِ النِّزالِ ويومِ القِرَى
عظيمٌ، يهونُ عليه العظيمُ ... مُرَجّىً يصدقُ فيه الرَّجا
تقلَّد بالمجد قبلَ النِّجاد، ... وقبلَ بلوغِ الأَشُدِّ استوى
ومنها:
أيا واهبَ الكُومِ تحتَ الرِّحا ... لِ، والمُقْرباتِ عليها الحِلَى
سَوامي النَّواظر، قُبّ البطون، ... قِصار المُتون، طِوال الخُطا
ومُعطي السَّوابغِ موضونةً ... تَرَقْرَقُ مثلَ مُتونِ الأَضا
إلى كلّ مجدولةٍ كالعِنا ... نِ، رَيّا الرَّوادفِ، ظَمْأَى الحَشا
تُرِيك القَضِيبَ إذا ما بدت ... تَميسُ دلالاً، وحِقْفَ النَّقا
ومنها، في صفة القصيدة:
إذا ما تغنَّى رُواة الثَّناءِ ... بها، وسرى نَشْرُها في المَلا
تأَرَّجَ منها رِداءُ النَّسِي ... م طيباً، ورقّت حواشي الصَّبا
وبعدهما البيتان اللذان سبق ذكرهما.
وأنشد له الشريف قطب الدين، بن الأقساسي ابن أخته، رحمه الله تعالى:
حَبَتْهُ نِجادَ السَّيف قبلَ التَّمائمِ ... فشبَّ عميداً بالعلى والمكارمِ
ضَرُوباً إذا حادَ الدَّنِيُّ عن الرَّدَى ... رَكُوباً لأَثْباج الأمور العظائمِ
مُطِلاً على الأعداء، أكثرُ هَمِّه ... وُلُوجُ الثَّنايا واطِّلاعُ المَخارمِ
ومَنْ طلَب العلياءَ، كلَّفَ هَمَّهُ ... صدورَ العَوالي، أو شِفارَ الصَّوارمِ
وخاض الدًُّجَى، ما تَمَّ فيه سِنانُه، ... وقلقل أعناقَ المَطِّيِ الرَّواسمِ
إذا ما بناها النّيّ غِبَّ كَلالِها ... قصوراً، رماها من سُراه بهادِمِ
ومنها:
من القوم، يَنْهَلُّ النَّدَى من أكُفّهم ... إذا بخِلت بالقَطْر غُزْرُ الغَمائم
وإن شمَّرُوا في ساحة الحرب، جَدَّعُوا ... بأسيافهم، رُعباً، أُنُوفَ المَظالمِ
فما جارُهم في يوم حرب بمُسْلَمٍ ... ولا مالُهم في يومِ سلَمْ بسالمِ
أُولئك قومي، طأطَؤُوا كلَّ شامخ ... إلى المجد، واعلَوْلَوْا على كلّ ناجمِ
إذا لبِسوا الزَّغْفَ الدِّلاصِ، حسِبتَهم ... أسودَ عَرِينٍ في جلودِ أَراقمِ
ومنها:
وقوم رموني عن قِسِيّ ضَغائنٍ ... بأَسْهُمِ أحقادٍ وأَيْدٍ كَوالمِ
إذا ما رأوني، قطَّعوا اللحظَ، وانثنَوْا ... من الغيظ، فاعتاضُوا بعضّ الأباهِمِ
لهم عَلَمٌ يومَ النَّدَى غيرُ خافق ... وأَطلالُ مجدٍ دارساتُ المَعالمِ
وموقدُ نارٍ لا تُضيء لطارق، ... وبرقُ سَماحٍ لا يلوحُ لشائمِ
ولما أصلد زند رجائه، وأصلى جمر برحائه، وتبدد سلكه، ولم يعد ملكه، سافر إلى مصر، كأنما ساقه القدر بها إلى القبر. لكنه عاش فيها مديدةً قفي ظل الكرامة، وانتقل إلى دار الخلد والبقاء والسلامة.
الشريف الجليل الكامل أبو نزار، عبد الله، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني الكوفي.
هو أخو الشريف أبي القاسم. وكان كاسمه كاملاً، عالماً ، فاضلاً.
أنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي ب بغداد، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، لخاله الشريف الكامل، أبي نزار رحمه الله، مما نظمه عند كونه ب الجبل في أيام السلطان مغيث الدين، محمود، بن محمد، بن ملك شاه، وهو:
وأرَّقَني بالدَّوْح نَوْحُ حمامةٍ ... مفجَّعَةٍ محزونةٍ، بهَدِيلِها
تذكّرني داراً ب هَمْدانِ ناعطٍ ... تَقِرُّ بعيني وقفةٌ بطُلولها
وقال رفيقي يومَ جُزْنا ب سَحْنَة ... وكان يرِجّي العَوْدَ عندَ وصولِها:
أما آنَ للرَّكْب المُغذِّيِن أَنْ تَنِي ... قَلائصُهم من نَصِهّا وذَميِلها؟
أرى الأَرضَ قد بُدِّلتُ ضَيْقاً بِفيحها ... وبالوعر من بَطْحائها وسُهولها
واللُكَناءِ الغُتْمِ من فصحائها ... وبالدُّلْبِ من رُمّانها ونخيلها
وأنشدني أيضاً الشريف ابن الأقساسي لخاله الشريف أبي نزار:
قَوِّض خِيامى عن ديار الهُونِ ... فلست ممن يرتضي بالدُّونِ
واشدُدْ على ظهر الهَجِين رَحْلَه ... فقد شكاني غاربُ الهَجيِنِ
وقرِّبَنْ من الحِصان زُلْفَةً ... فالحُصْنُ أولى بي من الحُصونِ
فإِنْ أنا قصّرتُ عن شَأْو العلى ... فلا أقلَّتْ صارمي يمَيني
ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمُي ... ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمي
إِن لم أَنُطْ بالمأثُرات همَّتي ... حتَّى أَحِلَّ رتبةً تُرضيني،
فهمَّتي لا ترتضي لي بعلى ... لأنّها ترى المَعالي دُوني
أحكامَ دهري. ما أراك تُنْصِفي ... قدَّمْتِ غيري وتؤخّريني
أنكرتِ منّي ما عَرَفتِ منهمُ ... ستعرِفيني حينَ تَسْبُرِيني
لانُوا، فنالُوا ما بَغَوْا بلينهم، ... وكنت لا أرضَى على بلِينِ
إِنّي، وإِنْ هان الكِرامُ، باخلٌ ... بماءِ وجهٍ وافرٍ مصونِ
على تصاريفِ الليالي شَرِسٌ ... لم تَزُلِ النَّخْوَةُ من عِرنيني
إنّيَ من قوم، إذا ما ذُكروا ... خَرَّ جميعُ النّاس للجَبِينِ
يُسجَدُ للمولود منهم هيبةً ... ويوضع التّاجُ على الجَنيِنِ
من دَوْحَة ميمونة، طاهرة ال ... أَعراق، تُؤتي الأُكْلَ كلَّ حينِ
محمّد جدّي. وقُربي في العلى ... من النَّبيّ المصطفى يَكفيني
وكان من ذي العرش، جَلَّ ذِكرُه، ... كقابِ قوسِ العَينِ، أو من دُونِ
والمرتضَى أبي. وحسبي عقلة ... موصولة بالأَنْزَع البَطِينِ
وأنشدني له أيضاً:
أُنظُرْ إلى الرَّشَأ الغَرِير وَقِدّهِ ... وسوادِ طُرَّتِه وحمرةِ خدّهِ
رَشأٌ، تكامل دَلُّه ودَلالُه، ... كالبدر أشرق طالعاً في سعدهِ
ألقَى الظّلام على الضّياء فزانه ... والشيء يحسُنُ أَنْ يقاسَ بضدّهِ
لم أدرِ حينَ بدا، وبهجةُ خِدِّهِ ... تُوفِي على لهب المُدامِ وحَدّهِ،
هل خدُّهُ متجسّمٌ في كأسه؟ ... أم كأسُه متجسّمٌ في خدّهِ؟
لم يُبق من بُرْد الجمال بقيَّة ... للمكتسي فَضَلاتِه من بَعدِه
قال: وكان قد خرج يوماً إلى أراضي خفان للصيد، فأمسى وقد أوغل في البرية، فعدل إلى جانب ونزل، وأمر أصحابه فأوقدوا النار، وشووا لحم الصيد، ليأكلوه، فارتفعت نارهم لقوم من عرينة، فوافوها، فأضافهم، وسألهم عن مقصدهم، فذكروا أنهم سفرٌ يمتارون، فحملهم معه إلى الكوفة، ورفدهم، وقال في ذلك:
ومُدْلجِينّ مَقاوي، لا دليلَ لهم ... إلى مكان القِرى شيءٌ سِوى ناري
باتت تُضيءُ، وباتُوا عامدينَ لها، ... وإِنّما رُفِعت للمُدْلِجِ السّاري
لمّا أناخُوا بها، وَلَّى سُغُوبُهُمُ ... وبُدِّلوا بعدَ إعسارٍ بإيسارِ
وأنشدني له أيضاً من قصيدته السينية السنية، التي هي في الذم على من هجاهم أمر من المنية، وفوت الأمنية، يعرض بسادات بني عمه من الكوفة و الحلة. وهي في فنها مطبوعة، باللطف مشفوعة، مطلعها:
نادى عقيلُ بأعلنِ الجَرْسِ: ... كم ذا يلينُ لِلامسٍ لَمْسِي
مَنْ ذا يُناكحني، فينكحُنِي؟ ... وَيْلاهُ من . . . ومن . . .؟
ومخلّصي من كلّ بائقة ... سَمْجِ الخلائق ناقصِ الحِسِّ
وله أَبٌّ. لو جاز بيعُ أَبٍ، ... لتركته في حُجرة النَّخْسِ
مَلآْنُ من أكل الحرام، فما ... للخير في ناديه من حسِّ
والشَّيخ عزّ الدِّين حجَّتُهُ ... ضاعت ضَياعَ الشَّمعِ في الشَّمسِ
قلَعَ الرَّواسيَ من عَشيرته ... حرصاً على التَّحويل والغرسِ
وفتى المُعَمَّرِ لا يجود لمَنْ ... يرجو نَدَى كفَّيْه بالفَلْسِ
يعني نقيب الطالبيين، والد النقيب الآن.
ولهِ خُوَانٌ، ما عليه من ال ... إِدامِ غيرُ الخَلِّ والدِّبْسِ
والشَّنْفقيّ، ثَكِلْت طلعته، ... في غاية الإِدبار والنَّحْسِ
هو النقيب العمري ب سوراء.
فكأنَّه، في لبس مِمْطَرِه ... والعِمَّةِ الصَّفراءِ كالوَرْسِ،
شيخُ الْمَثِيبة في اليهود، وما ... بين النَّصارى موضع القَسِّ
وفتى مُعَيَّةَ لو بَصُرتَ به ... لوجدتَه ذئباً من الطُّلْسِ
هو الشريف أبو منصور بن معية، وزير دبيس المزيدي.
هو في التَّذلُّل من سَلُولَ، وفي ال ... أَطماع والغارات من عَبْسِ
متفنِّنٌ في الخُبث منه، فما ... كذَب الَّذي سمّاه بالنِّمْسِ
والأَنكدُ المشؤومُ طلعتُه ... أدهى من الضًّرَبان في الضّرِسِ
وأبو الحسين فكلُّه مَلَقٌ ... مَبْنَى عقيدتهِ بلا أُسِّ
هو جال الدين، بن عز الدين بن أبي نزار.
فكأنَّه دارٌ مجصَّصَةٌ، ... بيضاءُ، خاليةٌ من الإِنسِ
وأنشدني له في جارية، كانت تسكن في جوار الجامع، بديها:
نشَدْتُكِ يا جارةَ الجامعِ ... أهَلْ من قِرىً للفتى القانعِ؟
بعيشِكِ لا تَحْرِميهِ القِرى، ... فما دُونَ وصلكِ من مانعِ
وَعَدْتِ ثلاثاً فأخْلَفْتِها، ... وحاشاكِ من موعد رابعِ
يجوز الخلاف لرَبِّ الخلاف، ... فما العُذرُ للسّامع الطّائعِ؟
الشريف علم الدين بن الأقساسي من الكوفة.
أبو محمد، الحسن، بن علي، بن حمزة أبي الحسين، بن أبي يعلى محمد، بن أبي القاسم الحسن، بن كمال الشرف أبي الحسن محمد، بن الحسن بن محمد، بن علي، بن محمد، بن يحيى، بن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
استكتبت هذا النسب من أخيه الأكبر قطب الدين، أبي يعلى، محمد، بن الأقساسي. وكانا قد وصلا، في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، من الكوفة إلى ديوان الخلافة، يسألان إعادة الأملاك التي أخذت.
وسمعت ابن الأقساسي الأصغر، وهو كهل، ينشد الوزير عون الدين بن هبيرة، غير مرة، من قصائده التي نظم فيه.
وهو شاعر مجيد، حسن الأسلوب، متين النظم، سليم المغزى، قويم اللفظ والمعنى. ينطق شعره بحسبه، وشرف نسبه، وتعبر ألفاظه عن غزارة علمه وكمال أدبه.
وللشريف أبي محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي يرثي الإمام المستنجد بالله، ويهنىء الإمام المستضيء بالله بالخلافة:
رُزءٌ، تعاظمَ عن حدّ وعن أَمَدِ ... كادت تزول له الأفلاك من زُؤُدِ
عمَّ الورى، فوَهَى حِلمُ الحليم به، ... وظلَّ مستضعَفاً عنه أخو الجَلَدِ
ومارَتِ الأرضُ، إِعظاماً لموقعه، ... مَوْراً غدا راجفاً بالسَّهْل والجَلَدِ
وأضحت الشَّمسُ منه وَهْيَ كاسفةٌ ... كأنّما طَرْفها مُغْضٍ على رمدِ
بيومِ أعظمِ خلقِ اللهِ منزلةً، ... وخيرِ منفردٍ، بالعزّ مُتَّحِدِ
من الرِّعان التّي لولا شوامخُها ... ما كان للأرض من صدف ولا وَتِدِ
القائمين بأمر الله، دَأْبُهُمُ ... حياطةُ الدّين، كالحاني على الولدِ
الآخذين من الأيّام ما احتكموا ... والنّائلي أَمَداً يُغنيك عن أَمَدِ
هم الأئمَّةُ، ما إنْ زال مدحُهمُ ... دَأْبي، وحبُّهمُ ديني ومعتَقَدي
آهاً لِداعي الرَّدَى، لو أَمَّ عَقْوَتَه ... في جَحْفَل حَرِجِ الأحشاء محتشدِ،
له وَجِيفٌ على الثَّرْيا، يُظَلِّلُها ... بمثلها من صَفِيق النَّقْع منعقدِ،
إِذَنْ لَلاَقى طِعاناً دُونَ بِغْيتِهِ ... مُواشِكاً، وضِراباً هاتِكَ الزَّرَدِ
وكلَّ ذِمْرٍ غَداةَ الرَّوْع تُعْظِمه ... إذا تنكَّر للأقران عن أسد
يرى الحِمام حياةً في مُنازَلة ... بينَ الرِّقاق المَواضي والقَنا القِصَدِ
لكنّه القَدَرُ الحتمُ الَّذي خَنَعَت ... له الملوك أُولوا الأَعدادِ والعُدَدِ
فإِنْ تعاظمَ رُزْءاً يومُ مصرعهِ ... فقد أتانا من النُّعمى بأيّ غدِ
وما نقولُ، وقد قامت سعادتُه ... لنا عن الوالد المحمود بالوَلَدِ؟
المستضيء الَّذي قد قام معتمداً ... على إِبالته بالواحد الصَّمَدِ
هو الإمام الَّذي مَدَّت لبيعته ... قلوبُنا طاعةً من قبلِ مِدّ يَدِ
مؤَيَّدٌ، ملَكَ الأهواءَ، فَهْيَ له ... تسعَى إليه، إذا نادَى، على جَدَدِ
صحَّت عزائم أهل الأرض، واجتمعت ... على إِمامته في القُرب والبُعُدِ
فما يقوم له داعٍ على بلد ... إلا وقد سبقته طاعة البلدِ
وكيف لا تمِلكُ الدُّنيا، وأنت لها ... يا ابن الخلائفِ مثلُ الرُّوحِ في الجسدِ
فقُم بها، يا أميرَ المؤمنينَ، ونَلْ ... ما شئتَ، وابْقَ على الأيّامِ والأَبَدِ
وله فيه من قصيدة، يهنئه بالخلافة، ويطلب الشريف:
تبسَّمَ الدَّهرُ عن ثَغْر الرِّضَى جَذِلا ... طَلْقاً، وأهدى إلينا السُّول والأَمَلا
فقم لنفرحَ، وأعلم أَنَّ فرحتَنا ... ما قام يوماً بها أمرٌ ولا عَدَلا
وجاءنا بالأمَاني غَضَّةً جُدُداً ... بِيضاً، وجادَ بها من بعدِ أَنْ مَطَلا
وقام معتذراً ممّا أَلَمَّ به ... يُبدي حياءً، ويُخفي تارةً خَجَلا
وأقبل الجودُ والإحسانُ في طرب ... بادٍ، وقد نَبُها من بعدِ ما خَمَلا
واهتزّت الأرضُ، واخضرَّت هَوامدُها ... وأصبح الرَّوضُ فيها نابهاً خَضِلا
واستبشر المجدُ والعلياء، فابتهجا ... حُسناً، وقد حَلِيا من بعدِما عَطِلا
وحالَ لونُ الليالي فَهْيَ مشرقةٌ ... كأنَّما صِبغُها المعهود قد نَصَلا
وأقشع الظُّلمُ عنّا والظَّلامُ، كما ... وَلَّى جَهامٌ، حَدَتْه الرِّيحُ فانجفلا
ب المستضيء بأمر الله إِنّ به ... تُجلى الخطوب إذا ما ليلها اتَّصلا
الكاشف الكُرَب الجُلَّى وقد عظُمت ... والفاعل الفعلَ في الأيّام ما فُعِلا
خليفة، قيَّدَ الأَلحاظ يومَ بدا ... إلى مُنير، يضمّ البدر قد كمَلا
أي: قيد نوره الألحظا عن النظر إليه.
كأنّما قابل الرّاؤون غُرَّتَه ... شمساً، بدت طلعةً تستوقف المُقَلا
يَوَدُّ مَنْ غاب عن مرهوب موقفه ... لو أنّه بالثَّرَى من تُربه اكتحلا
ثَرىً، ترى بثُغور النّاس كلهِمُ ممّا تقبّله أفواهُهم بلَلا
مَدَّت إليه قلوب النّاس طاعتها ... قبلَ الأَكُفّ، ومَدَّتْها له نَفَلا
إلى يدٍ سَبْطَةٍ بالجود، مُنعِمةٍ ... تُعطي، فيخجَلُ منها الغيثُ إن هطَلا
وما سمِعنا بغيث قبلَ نائلِه ... جادَ البلادَ، فأحيا السَّهلَ والجبلا
سيلٌ، طما، فوُجوهُ الأرضِ سائرُها ... قَرارةٌ، ما علا منها وما سَفَلا
وكيف يَسْقِي حَيا الأمطارِ حيث سقى ... حَياه، أو يصِلُ المَغْنَى الَّذي وصَلا؟
أم كيف يُحسن وصلاً كل مقتدر ... له، وقد غمرَ الأقطارَ والمِلَلا؟
أدنى وإن كان لا أدنى نوافله ... يستغرقُ القولَ، أو يستنفدُ المَثَلا
قد بثَّ عدلاً وجوداً، يُوضحانِ لنا ... قصورَ مَن جادَ في الأزمان، أو عدَلا
نكاد نظلِمُ ما يأتيه من حسَن ... بقولنا: زاد عمّن كان، أو فضَلا
وأبلج من بني العبّاس أوسعَنا ... جوداً، زَوَى وصفُه التَّشبيبَ والغَزَلا
فكلَّما خطَرت في خاطر كِلفٍ ... حسناءُ، حايدَ عنها الشِّعرَ، فانعزلا
وكلَّما جاوز المنطيقُ غايته ... في القول، أيقن بالتَّقصير، فانخزلا
معظَّم، جازت الأهواءُ دولتَه، ... وأوضحت، لاِنقيادِ الأنفُس، السُّبُلا
فالأرض تعنو ومَن فيها لطاعته ... وكلُّ جودٍ، يُلبّيه، وما حملا
لو استطاعت أقاصيها، إِذَنْ جمعت ... لوطئه خدَّها فخراً إذا انتعلا
يسنتشق التُّرْبَ ملذوذاً لعَقْوَتِه ... كأنَّما فُتَّ فيه المسكُ أو قُتِلا
إليك يا خيرَ مَنْ مُدَّت إِليه يَدٌ، ... يداً، لها شرف في مدّها وعُلَى
رأك باسطها الأَوْلَى بدعوته ... حقّاً، فلم يَأْلُ إِذْ ناداك أو سألا
قد جُدتَ بالمال من قبلِ السُّؤال بلا ... مَنٍ، فسنَّ عليه الفخر والحُلَلا
مَلابسٌ، تُبهجُ الدُّنيا، وسابغُها ... عليه يبقى جديدَ الفخرِ لا سَمَلا
تظَلّ تعلو على الأعناق، من شرف ... بها، ويسمو إليه الطَّرْف إِنْ رَفَلا
من الحِسان اللواتي لا يفوزُ بها ... إِلا الأفاضلُ، من جَدْواك، والنُّبَلا
ودُمْ، نهنّيك بالنًّعمى التّي سبغت ... على الورى، وتَلَقَّ العيشَ مقتبلا
فأنت للأرض ممَّنْ فاتَها بدلٌ، ... فلا رأتْ منك يا خيرَ الورى بدلا
وله مما أنشدني أخوه الشريف قطب الدين، أبو يعلى، بن الأقساسي رحمهما الله تعالى:
جاد الزمان، فلولا ما ابتدأتَ به ... كنّا حِسبنا الَّذي جاؤوا هو الكرمُ
حتّى أتيتَ بمعنى غيرِ مُنْتَحَلٍ ... في الجود، لم يأتهِ عُربٌ ولا عجَمُ
لولا اقتفاؤك فيما جئتَ من كرم ... لمَا علِمنا المعاني كيف تنتظم
ابن الناقة الكوفي أبو العباس، أحمد، بن يحيى، بن أحمد، بن زيد، بن الناقة. من أصحاب الحديث العالي. من أهل الكوفة. عاش من بعد سنة خمسين وخمس مئة.
وله شعر، قرأته من تاريخ السمعاني بخطه، قال: أنشدنا لنفسه ب الكوفة:
إِذا ما انتسبت إلى دِرْهَم ... فأنت المعظَّمُ بينَ الورى
وإِمّا فخَرتْ على معشرفبالمال إِن وهو علم العلم وعلامة الدهر، وذكاء الذكاء وذكي النشر. كنا نظمأ إلى سماع نظمه، ونؤثر تيمم مشرعه من يمه، إلى أن سمعنا مجد العرب، العامري يقول لقيته ب الأنبار في عنفوان شبابي، ولا يمكن أن يلحق أحد بطبقته. وأنشد لنفسه
أظما، وغُدرانُ المَواردِ جَمَّةٌ ... حولي، وأسغَبُ، والمطاعمُ دوُني
وأعافُ أدوانَ الرِّجالِ، فإِنّه ... لا يرتضي بالدُّون غيرُ الدُّونِ
لا الفقرُ يَخفِضُ من تسامي ناظري ... فيَغُضُّ منه، ولا الغِنَى يُطغيني
هذا البيت، أنشدنيه ب بغداد الرئيس أبو الفتح، نصر الله، ابن أبي الفضل، بن الخازن.
وأنشدني الأديب مفلح، بن علي، وذكر أنه مطلع هذه القصيدة:
وهواكِ حِلفةَ مغرمٍ مفتونِ ... وجفاك أصدق حالف ويمينِ
َلأُكَلِفَنَّ الوجدَ نقضَ جوانحي ... وأُكَلِّفَنَّ الدَّمعَ نفضَ جُفوني
ول أبي سعيد، أحمد، بن واثق، الأنباري، وقد أبدع فيهما:
شكَرَتْك عنّي كلُّ قافية ... تختالُ بينَ المدحِ والغَزَلِ
فلقد ملأتَ بكلّ عارفة ... كفَّ الرِّجاءِ وناظرَ الأمَلِ
وله:
إِما ترى غَرْبي سِجالاً في الصِّبا ... فِرشاؤها بيد العقاب متينُ
ولقد أُفلُّ الخَطْبَ وَهْوَ مُصَمِّم ... وأُلِينَ عِطفَ الدَّهرِ وَهْوَ حَرُونُ
بمُسَلَّطِ السَّطَوات، حيثُ دعوته ... خفَّتْ به العَزَماتُ وَهْوَ حَرُونُ
عرَّفْتَني عِزَّ الغِنى، فكأنَّني ... لم أدرِ ذُلَّ الفقر كيف يكونُ
وله:
وقد زعَمُوا أَنّي وعدت بزَوْرة ... من الطَّيْف تأتي والصَّباحَ على قَدْرِ
فقلت لهم: ما ذاك إلا بأَنْ نمى ... إلى علم لَيْلَى أَنَّ لَيْلِي بلا فجرِ
وله:
في كلّ مضطَرَب، للمرء مكتَسَبٌ ... وللمطالب بابٌ غيرُ مسدودِ
ومنها:
جاورتُه، فازدريتُ الليثَ ممتنعاً ... ببأسه، وذمَمْتُ الغيثَ في الجودِ
خلائقٌ منه، ما تنفكُّ طيّبةً، ... إِنَّ الخلائقَ عُنوانُ المواليدِ
وأنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن ياسر، الأنباري قال: أنشدني ابن واثق لنفسه:
يُهدي الكَرى لعيون النّاس ليلُهمُ ... والليلُ يَنْفي الكَرى عنّي ويطرُدُهُ
إذا سُهادُ جُفوني باتَ يَبْعَثُه ... إلَيَّ ليلي، فقل لي كيف أرقُدُهُ؟
وأنشدني له:
لو كان غيرُ رُضابِه خمري ... يا عاذِلي لصحوتُ من سُكري
أبو طاهر بن أبي الصقر الأنباري من الطبقة الأولى في العصر: شيخ من أصحاب الحديث. روى عنه الحافظ أبو الفضل، بن ناصر. ومات سنة ست وسبعين وأربع مئة.
وله:
نفسُ، كوني ذات خوفٍ ... واتِّقاءٍ واجتناب
لا تظُنّي النّاسَ ناساً ... أَيُّ أُسْدٍ في الثَّيابِ
أبو نصر مواهب بن يحيى بن المقلد الربعي الهيتي فاضل فقيه، نبيل نبيه، معروف وجيه.
ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: كتب عنه رفيقنا أبو القاسم الدمشقي أبياتاً من شعره وقت انحداره إلى بغداد، ورواها لنا، وهي:
إذا ما هبَّ هِيتَ النَّسِيمُ ... تذكَّر مغرم بكمُ يَهيمُ
وإنْ برقٌ تألَّق من ذَراها ... تجدَّد عندَه العهدُ القديمُ
على مَنْ ب الفُرات أقام، منّي ... سلامٌ، ما تلألأت النُّجومُ
وما فارقتُها لِقِلىّ، ولكنْ ... تأَوَّبَني بها الزَّمنُ الغَشُومُ
ولم أطلُب بها عِوَضاً، ولكنْ ... إذا عُدِم الكَلا رُعِي الهَشيِمُ
سقى الله الفُراتَ وساكنيه ... وطيبَ ثَراه وَبْلاً لا يَرِيمُ
وحيّا حَيَّ بِسطامِ بْنِ قَيس ... ففي أبياته قلبي مقيمُ
أَحِنُّ إلى التّي أَصْمَت فؤادي ... فأَصبحَ والغرامُ له غَرِيمُ
رمتني من لواحظها بسهم ... أُصيبَ به من لقلب الصَّميمُ
فما أنا، ما حَيِيتُ، لها بسالٍ ... ولا في التُّرْب إذْ عظمي رَميمُ
الأديب أبو الفرج محمد بن الحسين بن خليل الهيتي لقيته بباب دكان أبي المعالي الكتبي، في سنة خمسين وخمس مئة، وكان كهلاً، للثناء أهلاً. وذكر أنه أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت، وأنه صنف مقاماتٍ. واستنبطته، فوجدت فيه أدباً وفضلا، وأنشدني مما نظمه أبياتاً، ومما نثره فصلا.
أنشدني لنفسه من قصيدة:
أمُغْرىً بالمَلال، دَعِ المًلالا ... فمَنْ يُدِمِ السُّرَى يَجِدِ الكَلالا
وإن تَكُ غيرَ مَنّانٍ بوصل ... فزُرْ بخَيالك الدَّنِفَ الخَيالا
وله:
وحُرِمْتُ طِيبَ العيش يومَ سرت بهم ... خيلُ الصُّدورِ بنِيَّة الهجرِ
ولبِست ثوبَ تجلُّدي زمناً ... خوفَ الوُشاةِ، فخانني صبري
وله:
يا راقداً أَسهرَ لي مُقلةً ... عزيزةً عندي وأبكاها
ما آنَ للهِجْرانِ أن ينقضي ... من مُهجةٍ هجرُك أضناها
إِن كنت لا ترحَمُني، فارتقبْ ... ،يا قاتلي، في قتليَ، الله
وله:
إِذَنْ عَوِّضِي حُسنَ الثَّناء وأَجْمِلي ... فذاك لَعَمْرِي فُرصةُ المتعوّضِ
وجُودي بموجود، فإنَّ قُصَارَهُ ... إلى اَجَل يُفضي إليَّ وينقضي
أبو الخير المبارك بن نصر بن مسافر الحديثي أورده السمعاني في تاريخه، وقال: شيخ من أهل الحديثة. له معرفة بالأدب واللغة. ويقول الشعر. ورد علينا بغداد، وأنشدني لنفسه من قصيدة:
أنارَ نهارُ الشَّيب ليلَ شبابي ... وطيَّرَ بازيُّ المشيبِ غُرابي
وزايَلَني شَرْخُ الشَّباب وطِيبُه، ... وطاوعتُ عُذّال، وقلَّ عتابي
ومنها:
فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ بغادة ... منعَّمةٍ، غَرْثَى الوِشاحِ، كَعابِ
أَناةٍ، يُضيءُ البيتَ لألاءُ وجهِها ... ولو سترت من دونه بنِقابِ
لها جِيدُ أَدْماءِ المُقَبَّلِ مُغْزِلٍ ... ووجهٌ كبدر التَّمِّ غيرُ مَعابِ
فيا لكَ لهواً في عَفاف لَهَوْتُه ... ولم تُدنس الفحشاءُ طِيبَ ثيابي
ويا رُبَّ خَرْقٍ قد قطَعْتُ نِياطَه ... بوَغْلٍ جِيادٍ أو بِنَصِّ رِكابِ
وما شِبْت من عمر طويل، فهذه ... سِنِيَّ، وهذا إن شككتَ حسابي
ولكنْ رماني الدَّهرُ منه بأَسْهُم ... شقَقْنَ فؤادي قبل شَقِّ إِهابي
فقلتُ، وقد أَصْمَيْنَ رَشْقاً مَقاتلي: ... أَهذاك دابُ النّائباتِ ودابي؟
قال: وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وخمس مئة، بعد أن كتبت عنه الأبيات بيسير.
ابن زكرويه الأنباري هو الحسن، بن محمد، بن زكرويه. من شعراء الأيام المقتدية.
قرأت في ذيل التاريخ ل ابن الهمذاني، في حوادث سنة ثمانين وأربع مئة، ل ابن زكرويه، الأنباري، يمدح نظام الملك، ويهنئه عند عوده في السنة المذكورة من زيارة المشهدين ب الكوفة و الحائر على ساكنيهما السلام، قصيدة، منها:
زُرتَ المَشاهدَ زورةً مشهورةً ... أرضت مَضاجعَ مَنْ بها مدفونُ
فكأنّك الغيثُ استمدَّ بتُرْبها ... وكأنّها بك روضةٌ ومَعِينُ
فازت قِداحُك بالثَّواب، وأنجحت ... ولك الإِلهُ على النَّجاح ضَمينُ
وله في هذه السنة، وقد خلع الإمام المقتدي على السلطان ملك شاه، وتوجه للإمامة:
هنيئاً للإمامة ما أرتنا ... من الآيات في السُّوَر الفِصاحِ
وحسبُ جلالِ دولِتها جلالاً ... وشائحُ هذه الرُّتَبِ الفِساحِ
لقد توَّجْتَ مَفْرِقه بتاج ... يُقيم على الزَّمان بلا بَراحِ
فحلَّ نهايةَ الشَّرَف المُعَلَّى ... ومازجَ صفوةَ الفخر الصُّراحِ
وقرأت في مجموع شعراء عميد الدولة، أبي منصور، محمد، بن محمد، بن جهير فيه، ويهنئه بالعود إلى الوزارة:
أبى الله إلا أن يُعِينَ بك الهدى ... وإنْ رُغم الحُسّادُ أو كرِه العِدا
سعدت، عميدَ الدَّوْلَتينِ، بأَوبة ... إلى رتبة، مَدَّتْ إلى يدك اليدا
ولو لم تكن موعودةً بك، غالَها ال ... لإِراقُ، وأبلاخا الحنينُ وأكمدا
فدُونَكَها مسرورةً بك، أقبلت ... تَهادَى جلالاً لا يُبارَى وسوددا
وها هيَ قد ألقتْ مَقاليدَ أمرِها ... إلى أمرك الأعلى، هَوىً وتَوَدُّدا
وكم كُلِّفتْ عنك السُّلُوَّ، فزادها اشْ ... تِياقاً، وأذكى وجدَها فتوَقَّدا
ومنها:
ولمّا تبدَّت همّة تَغْلِبِيَّة، ... وعزم أقام الحادثات وأقعدا،
تشوّفتِ الأخبار عنك، مَشُوقةً ... إليك اشتياقَ الرَّوْضِ حَنَّ إلى النَّدَى
ومادت ب زَوْراء العِراقِ مَخاوِفٌ ... إذا ما رآها الثّابتُ الجَأْشِ عَرَّدا
فلو لم تَصِلْها عائداً، لم تَجِدْ بها ... سريعاً إلى الدّاعي ولا متأيّدا
قدِمتَ عليها، مستهّلاً بنائل ... نفى بنَدِاه جَدْبَها المتوقّدا
أبو الحسن علي بن جد الهيتي رحمه الله.
له في مدح الإمام المستضيء بأمر الله، ويصف هيت، ويشكو أهلها، ويذمهم:
مَنازلُ هِيتٍ لا يوافقُها العدلُ ... إذا عدَل السُّلطانُ، جار بها الأهلُ
وما هيَ إلا بلدةٌ جاهليّة ... أَمَرَّت على مَرّ الزَّمانِ فما تحلو
تجمَّع أهلوها على الخُلْف والجَفا ... وبينَهما أخذُ الحرائبِ والقتلُ
قلوبُهمُ من جَنْدَلٍ وصفائحٍ ... خُلِقن، وما في العالمين لهم شَكْلُ
وأَيمانُهمْ غدرٌ إذا حلفوا بها، ... وقولُهمُ نُكْرٌ، ووعدُهُمُ مَطْلُ
وإِن عُوتبوا فالعتبُ فيهم مضيَّعٌ ... وإِن عُذِلوا يوماً فما ينفَعُ العَذْلُ
أرى شيمتي تأبى بلادي وأهلَها ... فيا ليتَ أَنّا لم يكن بينَنا وصلُ
وأُقسِمُ لولا بِنتُ عمٍّ شفيقةٌ ... إذا غِبتْ عنها، نالها منهم ثِقْلُ،
لأَبْعدتُ أسفاري، وفارقتُ منزلي، ... ولم يَثْنِني كَرْمٌ بأرضي ولا نخلُ
وخُذْ بيميني، إِنّنا شَرُّ جَِبْلَةٍ ... وما إِنْ لنا دِينٌ يَزينُ ولا عقلُ
خُلِقنا بلا حِلم، ولا علمَ عندَنا، ... وإِنّا أناسٌ قد أضَرَّ بنا الجهلُ
ولولا أميرُ المؤمنينَ وحلمُهُ ... لَحَلَّ بنا من قبحِ أفعالِنا نكْلُ
ولكنّه عمَّ البَرايا بعدله ... فأمسى له في كلّ مَكْرُمَة فعلُ
وأحيا به الأرضَ المَواتَ، وقد غدا ... لكلّ أَخي عُدو بأرجائها أُكْلُ
وإنَّ الإِمامَ المستضيءَ فتى العلى ... هو الرُّكنُ للإسلام والفرعُ والأصلُ
إِمامٌ، به دَسْتُ الخِلافة مُشرقٌ ... أضاءت به الآفاقُ والمُدْنُ والسُّبْلُ
مطيعٌ لأمر الله في الجهر والخَفا ... سميعٌ إذا ناداه عانٍ به كَبْلُ
تواضع للرَّحْمن خوفاً وخَشيةً ... وتابعَ ما قال النَّبِيُّونَ من قبلُ
حمى حَوْزَة الإسلامِ من كلّ ظالم ... فلا ناصرٌ يُجْبَى بأرض ولا جَفْلُ
هو العَلَمُ الفردُ الَّذي يُقْتَدى به ... إذا اختلف الأقوامُ في الأمر أو ضَلُّوا
وقد سار فينا سِيرةً عُمَرِيَّةً ... فأربى على كِسرى، فسيرتُه عدلُ
وفاق على كلّ البَرِيَّة فعلُه ... فليس له فيهم نظيرٌ ولا مِثلُ
جَبَرْتَ البَرايا يا ابنَ عمِّ محمَّد ... وسِرت بإِنصاف كما سارت الرُّسْلُ
وكنتَ على الإسلام وجهاً مُبارَكاً ... وأضحى بأرضٍ أنت مالكها الوَبْلُ
الرئيس أبو علي يحيى بن محمد بن الشاطر الأنباري أنباريٌّ: أنبأ رائيه، أنه عز في زمانه من يباريه. إن باراه سحبان، قال: سبحان باريه.
مقصد مقصده سليم، ومنهجه قويم. مقطع كأنه مقطع ديوان المعاني، بل ناظم لعقود هي قلائد المعالي لا الغواني.
أسلوبه مطلوب، بالأرواح مسلوب. ومذهبه محبوب، بالقلوب منهوب. معناه شائق، ولفظه رائق، ونظمه فائق، ولفظه بالمعنى لائق.
أنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن أبي ياسر، الأنباري، في الديوان العزيز - مجده الله - ب بغداد، في شهور سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني ابن الشاطر لنفسه، وهي كلمة خالية من النقط غير معجمة، مطرزة بالحكم حالية معلمة، سلمت من التكلف، وخلصت من التعسف، لا يتفق لأحد مثلها في فنها، وسلامتها وحسنها. وهي:
صارِمْ ملولاً كَدِراً وُدًّهُ ... ودُمْ لأهل الوُدِّ ما دامُوا
وأَعطِ أموالَك سُؤّالَها ... ولو لَحى الحُسّادُ أو لامُوا
وحَصِّل الحمدَ. ألا، كلُّ ماحُصِّل إلاّ الحمدَ، إِعدامُ
السُّؤدَدُ المالُ، ولولاه ما ... رامَ أُولُو الأحوالِ ما رامُوا
أولادُ حَوّاءَ وِهادٌ، ولو ... سادُوا، وأهلُ العلمِ أَعلامُ
ما أمدح المرءَ، ولم أَدرِ ما ... أسرارُه، واللهُ علاّمُ
ما مَسَّ حُرَّ الأصلِ عارٌ، ولو ... علاه أَسْمالٌ وأَهْدامُ
كم صارمٍ، محمُله دارسٌ ... وهو حُسامُ الحدّ صَمْصامُ
كم وَرِعٍ، حَسَّر أَكمامَه ... للمكر، وَهْوَ الصّادُ واللام
وأنشدني له:
إذا ما ألَمَّتْ شِدَّة، فاصطبِرْ لها ... فخيرُ سلاحِ المرء في الشِّدَّة الصَّبْرُ
وإِنّي لأَستحيي من الله أَنْ أُرَى ... إلى غيره أشكو وإِنْ مَسَّني الضُّرُّ
عسى فَرَجٌ به الله. إِنَّه ... له كلَّ يوم في خَلِيقته أمرُ
قال: وتوفي رجل من بلده، فكتب على تربته:
يا واقفين بنا، ألم تتَيقَّنُوا ... أَنَّ الحِمامَ بكم علينا قادمُ؟
لا تستغرُّوا بالحياة، فإِنَّكم ... تبنونَ، والموتُ المفرِّقُ هادمُ
لو تَنزِلونَ بشِعبنا، لَعَرَفْتُمُ ... أَنَّ المفرِّطَ في التَّزَوُّد نادمُ
ساوَى الرَّدَى ما بينَنا، فأحَلَّنا ... حيثُ المُخَدَّمُ واحدٌ والخادمُ
الأديب أبو المظفر مفلح بن علي بن يحيى بن عباد الأنباري من شعراء الدولة المستنجدية. وقد مدح المقتفي أيضاً، رحمه الله تعالى.
ذكر أنه من كلاب، بن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن.
وكان خصيصاً بالوزير عون الدين، بن هبيرة: يصلي به في السفر والحضر، ويتولى له أخذ الزكاة من غنم الخالدية، وهو عامل المنثر، وأكثر شعره فيه.
فلما توفي الوزير، ونكب جماعته، رقي عنه أنه نظم شعراً يعرض فيه ببعض الصدور، فأخذ وحبس في حبس الجرائم، وعوقب مراراً، وأخرج ميتاً بعد سنة من حبسه يوم الاثنين ثاني عشر شعبان سنة إحدى وستين وخمس مئة.
كان أديباً فصيح اللهجة، مليح العبارة، يتبادى في إنشاده وإيراده، ويسلك أسلوب العرب.
ذكر أنه كان معلماً للأدب قبل اختصاصه بالوزير.
فمما أنشدنيه لنفسه، من قصيدة يمدح فيها الوزير عون الدين، سمعته ينشد الوزير ثانياً سنة سبع وخمسين وخمس مئة:
أثَغْرُكِ ثغرُ الأُقْحُوانةِ، أم دُرّ؟ُ؟ ... وأَرْيٌ بفِيكِ الباردِ العَذْبِ، أم خمرُ؟
وصبحٌ بدا في جنْح ليلِ ذَوائبٍ، ... أمِ الشَّمسُ من تحت السِّجاف، أمِ البدرُ؟
وماذا الَّذي أدمى صحيفةَ خدِّها؟ ... أَلَحِظْي بها، أم دَبَّ من فوقِها الذَّرُّ؟
وما أثَرٌ فوقَ التَّرائبِ بَيِّنٌ؟ ... أَلِعقد لَمّا جال من فوقها إِثْرُ؟
أَناة من البِيض العِفاف، نِجارُها ... من العُرب يَنْمِيها غَزِيَّةُ أو عَمْروُ
إذا الحَضَريّاتُ النَّواعمُ أشرقتبهِنّ وقد مِسْنَ الرُّصافةُ والحَسْرُ،
سَنَحْنَ لنا ما بينَ فَيْدَ و حاجِر ... ظِباءَ نَقاً، يُزْهَى بها الضّالُ والسِّدْرُ
يَمِسْنَ كأغصان من البان هَزَّها ... نسيمُ الصَّباحِ فَهْيَ مَجّاجةٌ خُضْرُ
تقسَّم قلبي ب العُذَيْب وبانِهِ ... كواعبُ، لا نهيٌ عليها ولا أمرُ
فلا أجرَ إلا في مُعاناة هَجرها ... ولا وِزْرَ إلاّ في الَّذي ضَمَّت الأزْرَ
ومنها:
ومَرْت، كظهر التُّرْس، زِيَزْاء مَجْهَل ... تَتِيهُ به، من دَرْس أعلامِها، السَّفْرُ
ومنها:
وليل، عَطَطْنا ثوبَه بقَلائص ... هِجانٍ، يُنَزِيّها التَّحَلْحُلُ والزَّجْرُ
إذا انقضَّ فيه النّجمُ، آنسَ قلبُه ... من الفجر قُرباً، فاستطارَ به الذُّعْرُ
أكان له بالفجر أقربُ نسبةٍ ... فصالَ عليه؟ أم له عندَه وِتْرُ؟
فلمّا نَزَلْ نَفْرِي حُشاشةَ قلبِه ... إذا ما خلا قفرٌ يعارضُنا قفرُ
إِلى أنْ سمت خيلُ الصَّباحِ، فكشَفت ... أَدانيه عن قُطر، ورِيعَ لها قُطرُ
كأنَّ ابيِضاضَ الفجرِ في أُخْرَياته ... مواهبُ يَحْيى، أو خلائقُه الزُّهْرُ
فتى، أَنْشَرَ العلياءَ من بعدِ موتِها ... فعادَ لها من بعدِ ما طُوِيت نَشْرُ
وجدَّد أيّاماً من العدل أخلقت ... فعادَ لها من بعدِ نسيانها ذِكرُ
بطلعته تَثْني الخطوبُ نواكصاً، ... وتستبشرُ الدُّنيا، ويستنزلُ القَطْرُ
أغَرُّ، تخالُ البِشرَ في قَسَماته ... وَمِيضَ حُسامٍ راق قي مَتْنه أَثْرُ
وأعنقَ في سُبْل العلى وأخافَها ... فمسلكها صعبٌ على غيره وَعْرُ
ومنها:
يجودُ بما تَحوِي يداه لوَفْده ... ويطلُبُ منهم أن يُقامَ له العذرُ
وما وَفَرت يوماً مَحامدُ سيّدٍ ... من النّاس حتى لا يكونَ له وَفْرُ
ومنها:
يَزِيدُ على كُثْر الوفودِ سماحةً ... فتىً، عُذرُه قُلٌّ، وأنعُمه كُثْرُ
يَبِيتُ، إذا ما نامَ ماليءُ بطنِه، ... أخا هِمَم يَسْري وصَيْقَلُها الفكرُ
لإِعمالِ رأيٍ صائبٍ غيرِ فائلٍ ... فيُفْتَحُ فتح، أو يُسَدّ به ثَغْرُ.
وإِمّا نَحَتْ أبناءُ فارِسَ أرضَنا ... كتائبَ للهيجاء ضاق بها البَرُّ،
رماهم بآسادٍ، مَعاقلُها القَنا، ... وأَغيالُها البِيضُ اليَمانِيَةُ البُتْرُ
نَضاهُنَّ بِيضاً، أخلصتها قُيُونها ... صِقالاً، وشِيمت وَهْيَ من عَلَق حُمْرُ
إذا ذمَّها قومٌ، لسوء صنيعِها ... بهم، فسِباعُ الوحشِ تَحْمَدُ والنَّسْرُ
وكانت طُلوعَ الشّمس بِيضاً وجوهُهم ... فما غَرَبَتْ إلا وأوجُههم صُفْرُ
فما انتظمت أشتاتُ عدل تفرَّقت ... إلى أن غدوا قَسْراً ونظمهمُ نثرُ
وما ابيضَّ وجهُ الحقّ بعدَ اسوِدادِه ... فأشرق، حتّى احمرَّتِ البِيضُ والسُّمْرُ
وما صحَّتِ العلياءُ بعد اعتلالِها ... حَنانَيْكَ حتّى صارَ في الزَّمنِ الكسرُ
وما افترَّ ثَغْرُ الدِّين بعدَ بكائه ... إلى أن بكى من وجه أعدائه ثَغْرُ
وما مَلأَت أيدي الوفودِ رغائباً ... يمينُك إلا وَهْيَ ممّا حوت صِفرُ
أرى البحرَ ذا مَدٍّ وجزرٍ يَشِينُه ... فلِلّهِ بحرٌ لا يكونُ له جَزْرُ
فتىً، لو أصاب السَّدَّ صائبُ عَزْمِه ... دَحَاه، فلم يمنَع حديدٌ ولا قِطرُ
إذا ما جرى في حَلْبَة الفخر مُعْنِقٌ ... جريتَ الهُوَيْنَى واقفاً ولك الفخرُ
فكان لك الباعُ الطَّويلُ إلى العلى ... بأيسرِ ما تسعى، وكان له شِبرُ
وأنشدني له من قصيدة فيه:
سُقم أجفانِك، والسِّحرُ الَّذي ... صحَّ منها، زادَ شَجْوِي وسَقامي
وفُتورُ العين، لمّا نظرت ... عَرَضاً، زادَ فتوراً في عِظامي
سارَ قلبي معها إذْ وَدَّعَت ... فعليها وعلى قلبي سلامي
ظَلَم الكاعبَ مَنْ قال لها، ... وَهْيَ بَرْدُ العيش: يا بدرَ التَّمامِ
كالَّذي قاسَ نَدَى يحيى، وقد ... شَمَلَ الخَلْقَ، بمُنْهَلِّ الغَمامِ
ملك. لوا هُداه في الورى ... خَبَط النّاسُ عَشاءً في ظلامِ
وأنشدني له قصيدة، نظمها فيه، وأنشده إياها في شوال سنة سبع وخمسين وخمس مئة. وهي:
أُخادعُ نفسيَ عن دارها ... وقد عرفتْ بعدَ إِنكارِها
مخافةَ ذِكر النَّوَى فَجْأَةً ... فيَبْهَضُها حَمْلُ آصارِها
مضى الشَّكُّ، فاعترفي باليقين ... وعينَك سحّي بمِدرارها
فقد غلَبت سابقاتُ الدُّموع ... وجاشت غَواربُ تَيّارِها
فذَرْها، تَبُحْ بهَناتٍ لها ... وتُبْدِ لهم بعضَ أسرارِها
أَأُبْدي التَّجَلُّدَ من بعدِ ما ... رأيتُ مَعالمَ آثارِها؟
وما إِنْ أَرَى إِرَماً ماثلاً ... بها غيرَ موقدِ أحجارِها
وأقنَعُ بالعَرْف من بانِها ... وسَوْفٍ، وبالسَّوْف من غارِها
وقوليَ: يا سعدُ عَلِّلْ بها، ... وزِدْنيَ من طِيب أخبارِها
ومَنْ لي بغفلة حُرّاسِها؟ ... ومَنْ لي بهَجْعَة سُمّارِها؟
إذا ما بدت بينَ أَتْرابِها ... ويَعْقِدْنَ مُنْحَلَّ أَزْرارِها،
بدت شمسَ صحوٍ، سَنا نورِها ... رقيبٌ على هتك أَستارِها
كأنَّ لَطِيمةَ مِسكٍ، غدت ... تقلّبُها يدُ عَطّارِها
كأنَّ بِفيها، بُعَيْدَ المنام، ... خَلِيَّةَ شُهْدٍ لمُشتارِها
فيا عجبا من قُوَى قلبِها ... ومن ضَعفِ مَعْقِدِ زُنّارِها
تَحِلُّ ب فَيْد، وكم للنّوَى ... تقاضي الخطوبَ على ثارِها
وجاور أهلك أهل العِراق ... وشَتّانَ دارُك من دارِها
تقضَّى الشّبابُ وأَيّامُه ... وقلبي مُعَنّىً بتَذْكارِها
وإِنّي لأَرْجو، على نَأْيِها ... وما فاتَ من رَجْع أَسمارِها،
أَمُرُّ طليقاً بوادي الحِمى ... وترمُقُ ناري سَنا نارِها.
وكم من طروبٍ ب نجد. وما ... جَنَى من جَناها وأشجارِها،
ولا شمَّ نفحة جَثْجاثِها، ... ولا راقَه حسنُ أزهارِها،
فكيف بمَنْ قد قضَت نفسُه ... بأَرْبُعِها بعضَ أوطارِها؟
وكيف بمَنْ لم يَزَلْ قومُه ... حُماةَ رُباها وأَغوارِها؟
يظُنُّ الهَزار بأرض العِراق ... مُجاوبَ صوتِ خشنشارِها
قَمارِي النَّخيلِ وأَطيارُه ... يرنّحُها بَرْدُ أسحارِها
كأنَّ البلابلَ شَرْبٌ، حَسَتْ ... دِهاقاً بكاساتِ خَمّارِها
إذا لم تكن زينب في زَرُودَ ... فلا سُقِيَتْ صَوْبَ أَقطارِها
ولا عَمَرتْ أربُعٌ بالحِمى ... إذا فارقتُ أمُّ عمّارِها.
ويَهْماءَ، ليس بها مَعْلَمٌ، ... يَتِيهُ الدَّليلُ بسُفّارِها
تجاوزتُها، ومعي فِتيةٌ ... تُراعي النُّجومَ بأَبصارِها،
على ناجياتٍ، كمثل القِسِّيِ، ... يباشرُها طول تَسْيارِها
تُسابقُ فُرّاطَ كُدْرِيّهِا ... فتحسو بقيَّة أسآرِها
تُخالُ، وقد طال إِسآدُنا ... بها سُجَّداً فوقَ أكوارِها،
حَنايا، ونحن لها أسهمٌ ... و نجدٌ رَمِيَّةُ أوتارِها
فآضت وجوهٌ كمثل الوَذِيلِ، ... تُحاكي الحُلُوكةَ من قارِها
فآوت إلى ظِلّ مأوى الضَّرِيكِ ... وحطَّتْ به ثِقْلَ أَوزارِها
باب في ذكر محاسن أهل واسط و البصرة
وما يتخللها ويجاورهما من البلاد والنواحي
واسط
أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الشافعي الواسطي كان من شعراء الدولة القائمية و المقتدية و المستظهرية. وكان من شهود واسط وأعيانها. عاش تسعين سنةً، إلا شهوراً.قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي ب واسط يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مئة. ومولده ذو الحجة سنة تسع وأربع مئة. وكان الرجل الذي لا يرى مثله في كمال فضله، وبلاغته، وحسن خطه، وجودة شعره.
وله أبيات، قالها قبل موته. إن حصل رويها ضاداً معجمة، أو صاداً غير معجمة، لم يستحل معناها. وهي:
خليلي الَّذي يُحصي عليَّ محاسني ... فأكرِمْ بذاك الخِلِّ من ماجد مَحْضِ محصِ
وإن لامَه في خُلَّتي ذو عداوة ... فأَجْدِرْ به في ذلك الوقتِ أن يُغضِي يَعْصِي
يَزيدُ على الأيّام حفظَ مَودَّةٍ ... به أَمِنت، والحمدُ لله، من نقضٍ نقصِ
ومن شعره القديم، وهو مما يتغنى به، قوله:
وحُرمةِ الوُدِّ مالي عنكمُ عِوَضُ ... لأنَّني ليس لي في غيركم غَرَضُ
أشتاقُكم وبوُدّي أن يواصلَني ... لكم خَيالٌ، ولكن لست أغتمضُ
وقد شرَطْتُ على قوم صحِبتُهُمُ ... بأنَّ قلبي لكم من دونهم، ورَضُوا
ومن حديثي بكم، قالوا: به مرض، ... فقلت: لا زال عنّي ذلك المرضُ
وله مما يكتب على فص عقيقٍ أحمر:
ما كان قبلَ بكائي، يومَ بَيْنِكمُ، ... فَصِّي عَقيقاً، ولا دمعي استحال دما
وإِنَّما من دُموعي الآن حمرتُه ... فانظُرْ إلى لونه والدَّمعِ كيف هُما
وله في فص أصفر:
أظُنُّ بفَصّي، حينَ زاد اصفرارُه ... وعوداً لها بالوصل، طال انتظارُهُ
وإن تَكُ هذي حاله، فَهْيَ حالتي ... بوعد حبيب عَزَّ منه مَزارُهُ
وله في فص أزرق:
أبدى الحبيبُ تغيُّراً وتنكُّراً ... من خاتمي وعليه فَصُّ أَزْرَقُ
قلت: التَّفاؤلُ منه في تصحيفه ... عَلِيّ لوعدٍ منك، يوماً، أُرْزَقُ
وله:
عليك بحسن الصَّبْرِ في كلّ ما يَطْرا ... وقِفْ وِقفةَ المظلومِ، وانتظرِ الدَّهْرا
وإن لم تنَلْ، في هذه الليلة، المُنَى ... سريعاً، فبِتْها، وانتظرْ ليلةً أُخرى
فلو أَنَّ في النَّاس امرَأَيْنِ، تَمَنَّيا ... جميعاً مُنىً، لم تَعْدُ مَنْ أحسن الصَّبرا
وله مرثية:
كفانيَ إنذاراً وفاةُ قرِيني ... فكيف الّذي في السِّنّ أصبح دُوني؟
فكيف تراني أصحَب الدَّهرَ آمناً ... إذا هو أضحى فيك غيرَ أمينِ؟
وكنت أُناجي اللهَ، جَلَّ جلالُه، ... بأَنْ فيك مكروهَ القضاءِ يَقيني
فبلبلتِ الأقدار قلبي، وولَّدت ... وساوسَ، أخشى أن تبلبلَ دِيني
وإنَّك لم تبلُغْ من العمر غايةً ... تكون بها في النّائبات مُعيني
فليت المَنايا نفَّستْ من خِناقها ... إلى أَمَد، أرجوه فيك، وحِينِ
لئن صان منك الدَّمع حالاً تغيَّرَتْ ... ففائضُ دمعي فيك غير مصونِ
ويأمُرني بالصَّبر عنك ذوو الحِجا، ... فقلت لهم: من ذا المقالِ دًعُوني
فلي لَهْفُ مغصوبٍ، وحَيرةُ مُكْرَهٍ ... وأنفاسُ مكروب، ووَجْدُ حزينِ
فلا قلت يوماً للكآبة: أَقْصِري، ... ولا لجُفوني: دمعَ عينِك صُوني
وأستذنبُ الأيّامُ فيك جهالةً، ... وكم أهلكتْ من أُمَّة وقرينِ
هو الموتُ، لم يَحْفِلْ بصاحبِ معقلٍ ... ولم يخشَ من حِصن عليه حصينِ
ولا فاتَه سارٍ، يواصلُ سيرَه ... على ظهر سُرْحُوبٍ ومَتْنِ أَمُونِ
وإِن تَكُ هذي الأرضُ غيرَكَ تبتغي ... كريماً، فما ترضَى إذَنْ بدفينِ
عليك سلام. كم إليك جوارحٌ ... تَحِنُّ، ولكن ما لها كحنيني
هذا ما علقته من كتاب التاريخ ل ابن الهمذاني.
وأنشدني الشيخ أبو المجد، الواعظ، الواسطي بها، سلخ رمضان سنة أربع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الشيخ أبو الحسن، بن أبي الصقر لنفسه، زعم أنه قصد نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إليه:
لِلهِ دَرُّك إِنَّ دارَك جنَّةٌ ... لكِنَّ خلفَ البابِ منها مالكا
هذا نظامُ الملك ضدُّ المقتضى ... إذْ كان يَرْوِي عن جَهَنَّمَ ذالِكا
أنعِمْ بتيسير الحجاب، فإِنَّني ... لاقيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا
مالي أُصادفُ بابَ دارِك جفوةً ... وأنا غنيٌّ، راغبٌ عن مالكا؟
فأذن له نظام الملك، وقال: إذا كنت غنياً عن مالنا، فانكفئ فقال: كلانا شافعي المذهب، وقد جئتك لمذهبك لا لذهبك.
وأنشدني له بعض الشهود المشايخ، وهو الصائن، بن الأعلاقي ب واسط، وقد لقيته:
بعدَ ثمان وثمانينا ... في مسكني قد صرت مسكينا
لا أسمَعُ الصَّوتَ، ولا أُثْبِت الش ... خْصَ، فلا بُلّغِتُ تسعينا
ويرحَمُ اللهُ تعالى امْرَءاً ... يسمَعُ قولي، قالَ: آمينا
وقد استجيب دعاؤه، حيث توفي - رحمه الله تعالى - قبل أن يتم التسعين.
وأنشدني له أيضاً، يعتذر عن ترك القيام لأصدقائه لكبره:
علَّة، سُمِيّت ثمانين عاماً، ... منعتني للأصدقاءِ القياما
فإِذا عُمِّرُوا تمهَّدَ عذري ... عندَهم بالَّذي ذكرتُ، وقاما
وله في العذار:
عِذارُ الحبيب على خدّه ... طِرازٌ، وزَيْنُ اللباسِ الطِّرازُ
أرَدتُ سلوكاً إلى هجره، ... فسَدَّ طريقي، فما لي مَجازُ
وله:
إذا ما مَرَّ يومٌ بعدَ يومٍ، ... ووجهي ماؤُه فيه مَصُونُ،
وقُوتي قُرْصَتانِ إلى ثلاث ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ،
وسِرْ بِي آمنِ، وأنا مُعَافىً، ... وليس عَلَيَّ في الدُّنيا دُيونُ،
فما أَشكو الزَّمان، فإنْ شكوتُ ال ... زَّمانَ، فإِنّه منّي جُنونُ.
وله:
أَسُوق نفسي بعصاً في يدي ... تُبصرُ قُدّاميَ، لا خلفي
يا رَبِّ. حتّى الشَّيخُ في سَوْقه ... مخالفُ العادةِ والعُرفِ
وله في تفاحة حمراء:
أَهدى لقلبي قمَرٌ، ... طالَ إليه قَرَمي،
تُفّاحةً، أُحيي بها ... قلبي وكفّي وفمي
فلستُ أدري، إذْ بدت ... ولونُها كالعَنْدَمِ،
مِن نَفَسي تورَّدت؟ ... أم حَمَلَتْ وِزْرَ دمي؟
وله:
لا تعجبَنَّ من الزَّما ... نِ، فهكذا قد كانَ يفعَلْ
ما راسَ فيه سِفْلَةٌ ... إلا أصارَ الرَّأسَ أسفلْ
فانظُرْ إلى النُّظّار في ... ه آخِراً من بعدِ أوَّلْ
مَنْ ليس من أهل الرِّئا ... سة، للرِّئاسة قد تأهَّلْ
لا تَغْبِطَنَّ مُقَدَّماً ... تأخيرُهُ أَولى وأَجملْ
منْ ليس ذا أهلٍ، فلي ... س على ولايته مُعَوَّلْ
كمُؤَمَّرِ النَّيْرُوز، يَن ... ظُرُ بعضَ يوم ثُمَّ يُعْزَلْ
وله:
واللهِ، لولا بولةٌ ... تُحرِقُني وقتَ السَّحَرْ
لمّا علِمتُ أَنَّ لي ... ما بينَ فَخْذَيَّ ذَكَرْ
وأخبرني الشيخ كثير بن سماليق إجازةً، قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه، ب بغداد:
مَنْ قال: لِي جاهٌ، ولي حِشمةٌ، ... ولي قبولٌ عندَ مولانا،
ولم يَعُدْ ذاك بنفع على ... صديقه، لا كانَ ما كانا
هذان البيتان، أوردهما أبو سعد، السمعاني في المذيل عن كثير، عنه، وأنا لي إجازة من كثير، وسمعت عليه الحديث أيضاً.
وذكر ابن السمعاني في المذيل: أنه أنشده عبد السميع العباسي قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه:
كلُّ أمر، إذا تفكّرت فيه ... وتأمَّلْته، رأيت طريفا
كنتُ أَمشي على اثنتينِ قويّاً ... صرتُ أَمشي على ثلاثٍ ضعيفا
وله:
كلُّ رزقٍ، ترجوه من مرزوقِ، ... يعتريهِ ضربٌ من التَّعويقِ
وأنا قائلٌ، وأستغفرُ الل ... هَ، مقالَ المجازِ لا التَّحقيقِ:
لست أرضى من فعلِ إبليسَ شيئاً ... غيرَ تركِ السُّجودِ للمخلوقِ
وله:
أبَداً ما يقاسُ بالكلب إلاّ ال ... بُخَلاءُ الأراذلُ السُّفَهاءُ
ومتى قلت: أنت كلبٌ؟ فللكل ... بِ وفاءٌ، وليس فيك وفاءُ
وله - وقد دخل على سيف الدولة، صدقة واسطاً في سنة ست وتسعين وأربع مئة، وظفر بأعدائه، منهم القيصري، وعفا عنهم - فقال فيه، ودخل إليه وسنه سبع وثمانون سنة، وأنشده:
ظفَّرَ اللهُ بالعُداة الأميرا ... مثلَما ظفَّرَ البشيرَ النَّذيرا
يومَ بَدْرٍ، فإِنّه كان يوماً ... قَمْطَريراً على عداه عسيرا
أيُّها المنعمُ الّذي واسط تَس ... كُرُ إِنعامَه عليه الكثيرا
حين وافيتَها بفِتيانِ صِدقٍ ... لا يولُّونَ في اللقاء الظُّهورا
طال للقيصريّ غَمٌّ بعفوٍ ... عنه، لم يرجُهُ، وكان قصيرا
ولقد قال ناصحوه ب بَغْدا ... دَ وفيها يأوِي حريماً وسُورا:
إنْ أردت الأمانَ من سيفِ سيفِ ال ... دَّوْلةِ اسكَنْ ب الجامِعَيْنِ و سُورا
يا بني مَزْيَدٍ، لأِيّامِنا دُم ... تُمْ شموساً، ولليالي بدورا
يا بني مَزْيَدٍ غُيوثاً بَقِيتُمْ ... ولُيوثَ الثَّرَى أميراً أميرا
وكتب إلى نظام الملك عند وقوع الفتنة ب بغداد، وقصد العامة سوق المدرسة النظامية، وقتل جماعة. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر، بن القشيري لما جلس للوعظ في المدرسة النظامية، كثر أتباعه من الأشعرية، وأزرى على غيرهم، وأدت إلى الفتنة من العوام، فنسب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، ابن جهير، في سنة سبعين وأربع مئة:
يا نِظامَ المُلك قد خَ ... لَّ ب بغدادَ النِّظامُ
وابنُك القاطنُ فيها ... مُستهانٌ مستضامُ
وبها أودى له قَب ... لاً غلام وغلامُ
والّذي منهم تَبَقَّى ... سالماً، فيه سِهامُ
يا قوام الدِّين لم يَب ... قَ ب بغداد مقامُ
عظُم الخَطْبُ، وللحر ... ب اتّصالٌ ودوامُ.
فمتى لم يَحْسِمِ الّدا ... ءَ بكفَّيْك الحُسامُ،
ويكفَّ القوم في بغ ... دادَ فتكٌ وانتقامُ،
فعلى مدرسةٍ في ... ها، ومَنْ فيها، السَّلامُ.
وكتب إلى الوزير أبي شجاع - رحمه الله - قصيدةً، يمدحه فيها، ويطلب شيئاً من شعره، يقول فيها:
يا ماجداً، لو رُمْتُ مدحَ سِواه لم ... أَقْدِر على بيتٍ ولا مِصراعِ
أُمْنُنْ عليَّ بشعرك الدُّرِّ الّذي ... شعرُ الرَّضيّ له من الأَتباعِ
فأجابه الوزير:
لو كنتُ أرضَى ما جمعت شَتِيتَه ... لَضَمِنت معرضه على الأَسماعِ
لكنّ شعري شبه شَوْهاءَ اتَّقَتْ ... عيباً لها، فتستّرت بِقناعِ
ومن قصيدة له في مدح عميد الدولة، ابن جهير، يطالب برسمه على الديوان، ويعرض ب ابن يعيش:
يا مَن نلوذُ الزَّمان بظلّه ... أبداً، ونطرُدُ باسمه إِبليسا
رسمي على الدِّيوان حُوشِيَ قدرُه ... أن يُسْتَقَلَّ وأن يكون خسيسا
وعليَّ آخُذ شَطره من واسط ... دَيناً، أُؤَدِّي عينه محروسا
وإذا شكا الدَّيْنَ الأديبُ، فإِنّه ... لم يَشْكُ إلا حظَّه المنحوسا
والكلُّ في بغدادَ آكِلُهُ، وكم ... فرَّغت في بغدادَ كيساً كيسا
ولَكم رفَعتُ لأجله من قِصَّة، ... أنفَدْتُ فيها كاغداً ونفوسا
وبه توقّعُ لي، وكم مستخدماً ... يَدَهُ لَثَمْتُ، وحاجباً، ورئيسا
قد صار إطلاقاً على ابن يعيش،لا ... ذاقَ الرَّدَى حتّى يقرَّ تعيسا
فكأنَّما ابنُ يعيشَ صار لأِكله ... مالَ الخليفة مستبيحاً سُوسا
وكأنّه، كَدّاً، حمارُ عُزَيْرَ لا، ... وتلقُّفاً للمال، حَيَّةُ موسى
فأنا على وَجَل، لأجل إِحالتي، ... لو أَنّها كانت عليه فلوسا
صَيِّرْ لك العمّالَ أقلاماً، إذا است ... تخدمتَها، طأطاتَ منها الرُّوسا
وأنشدني الشيخ الفقيه العالم هبة الله، بن يحيى، بن الحسن، البوقي، الشافعي ل ابن أبي الصقر، روايةً عنه، كتبه إلى قادم من بغداد:
من هدايا بغدادَ في ألف حِلٍّ ... أنت، إلا من باقَتَيْ كِبْريتِ
إنَّه عندَ ربَّة البيتِ، ممّا ... ليس منه بُدٌّ، كشُرب الفَتيتِ
وأنشدني القاضي يحيى، بن هبة الله، بن فضل الله، بن محمد ب بغداد في الديوان، سنة ستين وخمس مئة، قال: أنشدني والدي القاضي هبة الله قاضي الغراف لخاله أبي الحسن، بن أبي الصقر لما أخذ العكاز بيده عند الكبر:
لو حُوِّلَتْ هذي عصايَ، الَّتي ... أحمِلُها في الكفّ، ثُعبانا
تَلَقَّفُ الأَعداءَ، مثلَ الَّذي ... في مثلها من قبلُ قد كانا،
كرِهتُ حَمْلِيها، ولو أَنَّني ... صرتُ بها موسى بن عِمْرانا
وأنشدني له بالإسناد، فيها أيضاً:
صرتُ لمّا كِبْرتُ ثُمَّ تعكَّزْ ... تُ، وما بي شيخوخةٌ، من حَراكِ
كجِدارٍ واهٍ، أراد انقضاضاً ... فتلافاه أهلُه بسِماكِ
وله أيضاً فيها:
مرض، صيّر اسمه الكبراثا ... قد أعاد الرِّجلينِ منّ؟ي ثلاثا
وَهْوَ داء، له دواءٌ: يُسَمَّى ... في الكَنانيش كلِّها القبراثا
وبهذا الدُّعاءِ كم قد شفى الل ... هُ مريضاً منه إليه استغاثا
وذكر أيضاً القاضي رضي الدين، هبة الله، بن فضل الله، بن محمد، النحاس، وكتبه بخطه، قال: أنشدني خالي أبو الحسن، محمد، بن علي، بن أبي الصقر، قال: كنت إذا ترقيت إلى سن، أعمل أبياتاً. فلما بلغت الستين، قلت:
بعدَ سِتّينَ وسِتٍّ ... كلَّما زِدتُ، نَقَصْتُ
أيُّ فخرٍ في حياة ... بَعناءِ؟ لَيْتَ مِتُّ
ولما بلغ السبعين، قال:
إِنَّ ابنَ سبعينَ عاماً ... ما بينَ سَبْعينِ يمشي
للصُّبح منه غَداء ... وللعَشاء تَعَشِّي
ولما بلغ الثمانين، قال:
وقائلةٍ، لما عَمَرْتُ وصارَ لي ... ثمانونَ حَوْلاً: عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ
ودُمْ، وانتشقْ رَوْحَ الحياةِ، فإِنَّه ... لأَطَيبُ من بيتٍ ب صَعْدَةَ مُظلِمِ
فما لم تكن كَلاًّ على ابْنٍ وغيرِه ... فلا تَكُ في الدُّنيا كثيرَ التَّبَرُّمِ.
فقلتُ لها: عذري لَدَيْكِ مُمَهَّدٌ ... ببيت زُهَيْرٍ، فاعلَمي وتعلَّمي:
سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ. ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حَوْلاً، لا أبالَكَ، يَسْأَمِ
وذكر القاضي يحيى عن والده: أنه كتب خاله ابن أبي الصقر إلى والده رقعة، يعرضها على مهذب الدولة، سعيد، بن أبي الجبر على يدي، فيها:
يموتُ ولا تدري ويحيا ولا تدري ... مُؤَمِّلُكَ الدّاعي لك ابنُ أبي الصَّقْرِ
وما لم تَزُرْ داري، وأنت ب واسِطٍ ... لِتُبْصِرَني مُضْنىً بها، لم تَزُرْ قبري
فإِن أنت لم تُصلِحْ أموري ملاحظاً ... فسَلْ للأمير النّافذِ الأمر في أمري
وخاطبْ كمال الدِّينِ فيَّ، فإِنَّ في ... يد ابن أبي الجبر السَّعيد أرى جبري
قال: فوصله مذهب الدولة بصلة سنيةٍ، وعمره حينئذٍ ست وثمانون سنة.
قال: ووجدت بخط خالي من شعره لغزاً، لم يفسره. فكتبت من ذلك ب البصرة إلى الأمير حسام الدولة أبي الغيث سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، فكتب جوابها: فمن ذلك قول ابن أبي الصقر:
وأيُ شيءٍ طولُه عَرضُه ... أضحى له عندَك مقدارُ؟
دلَّ عليه حسنُ طبعٍ له، ... ففيه للعالم أوطارُ
تُمسكه الكفّ، ولا تشتكي ... منه احتراقاً، وبه نارُ
وجواب الأمير أبي الغيث البصري، رحمه الله تعالى:
يا مَنْ أتانا مُلغِزاً فكرَهُ ... لِلُّغْز يستفتي ويمتارُ
أَلْغَزْتَ في الّدينار، فامتَرْ به ... إِنْ كنتَ مَنْ للعلم يمتار
ومن ذلك قول ابن أبي الصقر:
ما ذو عيونٍ سُودٍ مفتَّحةٍ ... أصمُّ أعمى إذا لَقِي بطلا؟
تَبْيَضُّ تلك العيونُ منه، إذا اس ... تكَدَّهُ مَنْ يسومُه العملا
وما قضى منه حاجةً أحدٌ ... إلا ومِن بعد ذلك اغتسلا
وبطشُه كلّ؟ُه بفردِ يَدٍ ... وفردِ رجلٍ، كُفِيتَ كلَّ بَلا
وجواب الأمير أبي الغيث:
يا مَن أتى مُلْغِزاً ليُعجِزَنا ... وأعملَ الفكرَ منه والحِيَلا
وزفَّ من نظم خالهِ طُرفَاً ... لم يلقَ خَلْقٌ لحسنها مثَلا
وما درى أَنَّ سحرَ فطنتِه ... إذا رأى نفثَ سورتي بَطَلا
عيَّن في لُغْزه على حَجَر الرِّ ... جْل، فأعيا، ولم يَرُزْ بَطَلا
وقول ابن أبي الصقر عفا الله عنه:
وما شيءٌ له رأسٌ وسنُّ ... وفي أسنانه قَلَحٌ ونَتْنُ؟
وقد كُسِيَ البياضَ، وليس فيما ... يُلابسُهَ دِبيقيٌّ وقُطنُ
يُعَرِّيهِ ويَنْظِمهُ لأجلِ الث ... ياب، فمنه تَمَّ لهنَّ حسنُ
يُقَلقَلُ منه سنٌّ بعدَ سنٍّ، ... ولا يبكي لذاك، ولا يَئِنُّ
وما هو عنبرٌ، وبه دَعاهُ ... ذوو فهمٍ كما لَهُمُ يَعِنُّ؟
وجواب أبي الغيث:
ألا يا أيُّها الحَبْرُ المُوافِي ... بألغازِ لها في الحسن فَنُّ
ظننتَ بأنَّ خالَك ليس يُلْفَى ... له نِدٌّ، وليس كما يُظَنُّ
له زمنٌ مضى، ولنا زمانٌ ... وكلٌّ في صِناعته مُرِنٌّ
برأس الثُّوم والأسنان منه ... عَنَيْتَ، فخُذْ وقلبُك مطمئنُّ
فهاتِ اللُغْزَ ممتحناً، فقلبي ... إلى ما صاغَه منه يَحِنُّ
وقوله:
ومستعملٍ متساوي العملْ ... يضافُ إلى ما عليه اشتملْ
ترى العينُ ما بينَ أعماله ... وما تتفاضل قدراً جَلَلْ
إذا ما استقرَّت به بُقعةٌ ... من الأرض، حاصرها وارتحلْ
ويأكلُ بالعَشْر والرّاحتينِ ... ويَخْرَى لموضعه ما أكَلْ
وجواب الأمير أبي الغيث رحمه الله:
أيا مَنْ على حذقِه يَتَّكِلْ ... إذا غامضٌ في العَوِيص اشتكلْ
أتيتَ بلُغزٍ عسيرٍ، فما ... يكادُ يَبيِّنُه مَنْ عَقَلْ
بقالب لَبْنٍ له قد عني ... تَ. أحسنتَ لمّا ضرَبْتَ المَثَلْ
وقوله:
ما ذاتُ أَنفاسٍ يصعِّدها، بها ... يبدو ويظهَرُ ما تُجِنّ وتستُرُ؟
معسولة، تُردي النُّفوسَ، ضئيلة ... ممشوقة، بقَوامها مُسْتَهْتَرُ
مالت إلى حكم السَّفاهِ، ولم تَمِلْ ... نحوَ البلاغةِ، وَهْيَ لا تتصوَّرُ
تبدي، بحال تأمُّلٍ في نفسها، ... عيناً تغمِّضُها، وأُخرى تُبصرُ
وجواب أبي الغيث:
يا مَن غدا بذكائه ملِكاً على ... أدباء أهلِ زمانِه يتبختَرُ
وإذا رآه المُلغزونَ، بدا له ... كبراؤهم، فاستعظموه وقصَّروا
للزَّرْ بَطانةِ قد عنيتَ، وإِنَّها ... لَغريبةٌ، معروفةٌ لا تُنكَرُ
كم من يدٍ طَلَّتْ، وكم رأسٍ رمتْ ... بيد السَّفيهِ، وكم جَناحٍ تَكْسِرُ
ولقد أجَدْتَ لها القَريضَ، وأعجزت ... فيها صفاتُك كلَّ حَبْرٍ يشعُرُ
وقوله:
ما ذاتُ رأسٍ وفمٍ واسعٍ ... بغير أَضراسٍ وأسنانِ؟
لا تلقُطُ الحَبَّ، ومِنقارُها ... أطولُ من مِنقارِ حَصّانيّ
كأنَّها الهُدهُدُ، مِنقارُها ... فيه كتابٌ من سَلَيْمانِ
ترضَعُ كالطّفل، ولو أَنّها ... مضى لها عُمرٌ وعُمرانِ
لا تكتُمُ السِّرَّ، وسِرُّ الَّذي ... يُودعُها السِّرَّ كإِعلانِ
والجواب عنه ل أبي الغيث:
قَريضُك المهدى لنا لُغْزُهُ ... لم يَخْلُ من حسن وإحسانِ
لو رامَ حَسّانُ جواباً له، ... قَصَّرَ عنه نظم حَسّانِ
عَنَيْتَ فيه غيرَ مستشعِرٍأَنْ يعتريها فهمُ إِنسانِ
مِحْجَمَةً، تُرْضِعُ حَجّامَها ... بالمَصّ شَخْباً من دمٍ قانِ
وقوله:
وما نائمٌ مُلْقىً، إذا ما أقمتَه ... بَلَلْتَ بأطراف الأصابع راسَهُ؟
يَصُبُّ، إذا استعملتَه، فضلَ مائِه ... ويعتادُ من بعد الفَراغِ نُعاسَهُ
يحبُّ، إذا ما كان صُلْباً مدوَّراً ... طويلاً غليظاً، مِلكَه والْتِماسَهُ
ويُمسي ويُضحي في الأنام مسوَّداً ... نرجِّي نَداهُ، أو نُخَوَّفُ باسَهُ
وجواب أبي الغيث:
لقد جئتَنا ، يا مَنْ أجاد قياسَهُ، ... فخافَ ذَوُو الآداب في اللُغْز باسَهُ
يُقِرّ؟ُ له الرُّمْحُ الأَصَمُّ إذا جرى ... على الطِّرْس حتّى لا تُطيقُ مِراسَهُ
وقوله:
ومحبوس لضرب بعدَ ضرب ... تكرَّرَ منه، راعَ به القلوبا
إذا أحرجتَه بعدَ احتياط ... عليه باليمين ترى عجيبا
ترى فعلاً، يشُدُّ عليه منه ... حَنيفٌ مسلمٌ وَرِعٌ، صليبا
وجواب الأمير أبي الغيث على غير وزنه:
أيا مَنْ إذا اللُغْزُ كان السَّقا ... مَ، أضحى له بذكاءٍ طبيبا
عنيتَ بمحبوسك المِبْضَعَ ال ... ذي يَفْصِدُ العِرقَ لفظاً غريبا
وذاك الصَّليب الَّذي قد عَنَيْ ... تَ، شَدُّ العصابة، فاخْشَ المجيبا
وقوله:
وشيء له بطنٌ ورأسٌ ومَخْرَجٌ ... ووجهٌ، تراه العينُ أبيضَ أحمرا
يُحَلَّى ببِيضٍ كالدَّراهم، وجهُهُ ... فيجعَلُها مثلَ الدّ؟َنانيرِ أصفرا
وجوابه:
أيا مُلغزاً في نظمه أعجزَ الورى ... وأخجلَ مَنْ جاراه في الفضل إذْ جرى
تأمّلت في التَّنُّور والخبز فِضّة ... أتيتَ بها، ما البدر أبْهَى وأنورا
ومن ذلك قوله:
وأُنثى لها ذَكَرٌ، قَلَّما ... تغافلَ عن وطئها أو وَنَى
وليس يُحَدُّ، إذا ما علا ... عليها وجهراً بها قد زَنى
ومنه ومن غيره، بالذُّكو ... رِ قد صَيَّرَتْ حَمْلَها دَيْدَنا
ومن شأنها أَنَّها قد تُضافُ ... وما دخَلت لاِمْرِئٍ مسكنا
وليس يحرّكُها باليَدَيْنِ ... أشد؟ُّ الرِّجالِ، وفيها منَى
وجواب الأمير أبي الغيث عنه:
أيا مَنْ أتى مُلغزاً بالعَوِيصِ ... وأخفى بقدرته ما عنى
ولم يَدْرِ أَنَّ ضميري، متى ... يُسِرُّ امْرُؤٌ غامضاً، أعلنا
عنيتَ منارةَ بيتِ الإِلهِ ... ومَنْ كان رأسها أذَّنا
فخُذْها، وهاتِ العَوِيصَ الخَفِيَّ ... تَجِدْه لأفكارنا مُذْعِنا
ومن ذلك، قول ابن أبي الصقر:
وما شيءٌ، بفَلْس تشتريه ال ... كِرامُ أُولو المروءة، والشِّحاحُ؟
وفي باب الخليفة كلَّ وقتٍ ... تراه، وما له عِللٌ تُزاحُ
وسائرُ جسمِه، ذَنَبٌ ورأسٌ ... وهذا وصفُه المَحْضُ الصُّراحُ
وجواب أبي الغيث عنه:
أيا جبلاً، لأهل العلم أضحى ... منيعاً، لا تزعزعُهُ الرِّياحُ
أتيتَ بمعجِز، فلِقيتَ طَبّاً ... لَدَيْه الجِدُّ يحسُنُ والمُزاحُ
يطير إلى الغوامض بافتكار ... له في كلّ ناحيةٍ جَناحُ
عنيتَ بلُغْزك المِسمارَ، فاعلم ... وهاتِ المشكلاتِ، ولا بَراحُ
وقوله:
وما خِلٌّ يخونُ، ولم تخُنْهُ، ... يكلِّفُك الهَوانَ، ولم تُهِنْهُ؟
ذكيٌّ، هَمُّه الإِصغاءُ، حتّى ... يقومَ ببعض ما تبغيهِ منهُ
يَسُرُّكَ أَنْ يغيبَ فلا تراه ... ويسألُ عنك حين تغيبُ عنهُ
وجوابه:
لقد أودعتَ منك الشِّعرَ لُغْزاً ... عجيباً، لَمْ تُذِلْهُ، ولم تُهِنْهُ
وخِلُّك ذَبْذَبٌ، للبول منه ... خروجٌ والْمَنِيّ ولا يشنهُ
إذا كان الأديبُ به عفيفاً، ... بخوف الله يَخْطِمُه، فكُنْهُ
الرئيس أبو الجوائز بن بازي واسمه: هبة الله، بن بازي، بن حمزة، الواسطي.
من شعراء الدولة القائمية. وأوردته، لكوني لقيت من روى عنه، وذكر لي أنه الشيخ الحافظ محمد، بن ناصر، رحمه الله، كان روى من شعره، ولي عن الشيخ محمد، بن ناصر إجازة.
وقرأت من تاريخ ابن الهمذاني أنه توفي سنة ستين وأربع مئة.
وله شعر مستحسن جيد، ونظم رائق رائع، بديع الصنعة، مليح العبارة، سهل الكلام ممتنعه، حلو المنطق مستعذبه.
فمن ذلك، ما أنشدني أبو المعالي الكتبي قال: أنشدني له ابن أفلح:
برى جسدي طول الضَّنَى، وأذابني ... صدودُك، حتّى صرت أمحلَ من أمسِ
فلست أُرَى حتَّى أَراك، وإنّما ... يَبِينُ هَباءُ الذَّرّ في أَلَق الشَّمسِ
وله في غلام، اسمه راح:
بنفسي أفتدي ممّا ... يحاذرُ مالكي راحا: اسمه
غزالاً، زَفَّ لي عَذْرا ... ءَ، صيَّرَ خِدْرَها راحا: الرّاحة
شَمُولاً، ما غدتْ إلا ... رأينا الهَمَّ قد راحا: من الرَّواح
وما سكَنت حَشا سالٍ ... وإلا اشتاق أو راحا: من الارتياح
لها ريح إذا بُزِلَتْ ... كعَرْف المسكِ إذْ راحا: من الرّيح
إذا ما جَنَّ ليلٌ من ... هموم، فاقتبِسْ راحا: خمرة
وله في غلام ألثغ:
لِشقْوَتي بِتُّ مُسْتَهاماً ... بفاتر المُقْلَتَيْنِ لاثِغْ
باكَرَني زائراً، ونادَى: ... ها أنا ذا قد أتيتُ زايغْ
أي: زائر وهي لغة أهل بغداد.
قلت له: قد صدقت، كرهاً ... فارفُقْ بقلبي، ولا تبالغْ
يا مَنْ إذا سِرُّه صفا لي ... أصبحَ من لفظه مُراوِغْ
وله في سوداء:
سوداء، تَحكي المسكَ في ... إحراقِهِ ومثالِهِ
لمّا رنتْ وتعطَّفتْ ... للمُسْتَهام الوالِهِ،
رأت الظَّلامَ أبَرَّ من ... رَأْدِ الضُّحى بوصالِهِ
فتلفَّعَتْ بأَدِيمه ... وتلثَّمتْ بهِلالهِ
وله في غلام أصفر:
وظبي أصفر، تُدْمِي ... لحاظُ محِبّه بَدَنَهْ
تخالُ الَثّمَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتاً على بَدَنَهْ
وله من التجنيس المطبوع المصنوع:
أَرْدَتِ الصَّبرَ غادةٌ، وَجْنتاها ... لي وَرْدٌ، وثغرُها لي وِرْدُ
كالقَضيب الرَّطيب حينَ تَصَدَّى ... والقضيبِ الرَّطيبِ حينَ تَصُدُّ
تتجنَّى إذا جَنَتْ، وتَعَدَّى ... ثمَّ تنسى ذنوبَها وتَعُدُّ
ذلَّ قلبي، وقلَّ صحبيَ، إِنْ لم ... يُمْسِ سهمي وَهْوَ الأسدُّ الأشَدُّ
ليس يَحْظَى بصحبتي ووفائي ... من رِفاقي إلاّ المُغِذُّ المُعِدُّ
ونجيبٌ، كأنَّه في ظهور الن ... جْب، من شدّة التوقُّد وَقْدُ
وله:
يا خليلاً صفا، ويا سيّداً أَص ... فَى، فأضحى به صفائي مَنُوطا
وأرانا ابن مُقْلَة حائرَ المُق ... لَة غُفْلاً، وخَطَّهُ تخطيطا
وله:
بدرٌ، هواه مضلِّلٌ رائي. ... يدنو، ولكنْ وِصالُه ناءِ
تفاوت في صفاته بِدَعٌ ... قد فتنتْ في رِضاه أهوائي
لفظٌ وقلبٌ كالصَّخر، ضَمَّهما ... رِيقٌ وصدرٌ في رِقَّة الماءِ
يُرِيك ناراً قد أُودِعت بَرَداً ... وشمسَ دَجْنٍ خِلالَ ظَلْماءِ
وله:
عَذيرِيَ من مالكٍ جائرٍ ... كثيرِ التَّفَنُّن في ظلمِهِ
وداوِ محبّاً، ثَناهُ ضَناهُ ... إلى أن غدا جشمُه كاسمهِ
فقال: أَرُوه طبيباً، عَسَى ... يرى النَّفْعَ فيه وفي علمهِ.
فلو كنت بالطِّبّ ذا خِبرة ... لَدارَيْتُ طَرْفيَ من سُقمهِ
وله:
أذكت مِياهُ الصِّبا في خدّه نارا ... تَهْدي إلى وصله من ضَلَّ أو جارا
ظبيٌ، تسافرُ في أردافه مُقَلٌ، ... أقلُّ أجفانِها تَكفيه زُنّارا
وله:
أقول، وجَرْسُ الحَلْيِ يمنَعُ وصلَها ... وقد عاد ذاك القُربُ وَهْوَ بِعادُ:
هَبِي كلَّ نطقٍ يَغارُ عليكُمُ، ... فكيف يَغارُ الحَلْيُ وَهْوَ جَمادُ؟
وله من قصيدة:
خَضَّبْنَ بالشَّفَقِ الأظافِرْ ... ومَشَطْنَ بالغَسَقِ الغَدائِرْ
وتأوَّدتْ أغصانُهُ ... نَّ، فأغضتِ القُضُب النواظِرْ
سِرب المَهاةِ العامريّ ... ة بينَ يَبْرِينٍ و حاجِرْ
سودُ القُرونِ من النِّطا ... ح بها لحبّاتِ الضَّمائِرْ
وضعائف يملِكن بال ... أَبصار أربابَ البصائرْ
بِيض، شَهَرْنَ البِيضَ من ... أَجفانِ أَجفانٍ فَواتِرْ
عَجَباً لجارية تَج ... رُّ على قبائلنا الجرائِرْ
زانت يمينَ الحسنِ من ... أَلحاظها بأَغَرَّ باتِرْ
ومثقَّف من قَدّها ... قد نَصَّلُوه بالنَّواظِرْ