كتاب : مقدمة ابن خلدون
المؤلف : ابن خلدون

في طبيعة العمران في الخليقة
وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التشيعات للأراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الإنتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رأها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها. ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جمبع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله، فإذا السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض.
وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم. كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية، وكيف اتخذ تابوت الخشب وفي باطنه صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر، حتى كتب صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها، وعمل تماثيلها من أجساد معدنية، ونصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها، وتم له بناؤها، في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي، ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه، ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرر، ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه، ولا ينتظرون به رجوعه، عن غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها، إنما هي قادرة على التشكل، وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة.
وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية. والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله. وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته، فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي، ويهلك مكانه. وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد، والمتدلين في الأبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤه بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها، فإن المتدلي فيها يهلك لحينه. وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر، فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هوحار بإفراط، والماء الذي يعدله بارد، والهواء الذي خرج إليه حار، فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.

ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون، ومنه يتخذون زيتهم. وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاد الزيت.
ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة تشتمل على عشرة آلاف باب. والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي، وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم!.
وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص. وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها، وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الأنية والخرثي، وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الإستحالة والبعد.
وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول الففظ وتأويلة بما لا يقبله العقل. وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية، لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.
وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان ؤقوعه، وصار في ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه، إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة. وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الأجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصور من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الضد والصواب فيما ينقلونه. وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تآليفنا.
وكان هذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة أخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً.
واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية، إذ السياسه المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهورعلى منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤة. فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه.

وكأنه علم مستنبط النشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة. ما أدري ألغفلتهم عن ذلكظ وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل. فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله بمحوها عند الفتح؟ وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل؟ وما ظهر عليهم، آثارها ونتائجها؟ وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة، لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها. ولم نقف على شيء من علوم غيرهم.
وإذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها، وجب إن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه. لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات، وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت، وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة، فلهذا هجروه، والله أعلم " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.
وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب: مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع، ومثل ما يذكر في أصول الفقه، في باب اثبات اللغات، أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وتبيان العبارات أخف، ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل أيضاً مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران، فكان لها النظر فيما يعرض له، وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة.
وكذلك أيضاً يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة، لكنهم لم يستوفوه. فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي: " أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلاأ بالمال، ولا سبيل إلى المال إلاأ بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك " . ومن كلام أنو شروان في هذا المعنى بعينه: " الملك بالجند والجند بالمال، والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال وإصلاح العمال باستقامة الوزراء ة ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها. يملكها ولاتملكه " .

وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة، المتداول بين الناس جزء صالح منه، إلا أنه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان، وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها، وهو قوله: " العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه العالم، العالم بستان... " ، ثم ترجع إلى أول الكلام. فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها على صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها، فخر بعثوره عليها، وعظم من فوائدها. وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيناً بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان. وكذلك تجد في كلام ابن المقفع،وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام. وكذلك حوم الماضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك، وبوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الأحاد والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعاً يرفع بالبراهين الطبيعية حجاباً، إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقق قصده، ولا استوفى مسائله.
ونحن ألهمنا الله إلى ذلك الهاماً وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره. فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه، ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق. والله يهدي بنوره من يشاء.
ونحن الأن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول: لما كان الإنسان متميزاً عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها. فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الني تميز به عن الحيوانات، وشرف بوصفه على المخلوقات. ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر، إذ لا يمكن وجوده دون ذلك، من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد، وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية. ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه، لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه، قال تعالى: " أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " . ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه. ومن هذا العمران ما يكون بدوياً، وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضرياً، وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها. وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضاً ذاتياً له، فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول: الأول: في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض.
والثاني: في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية.
والثالث: في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية.
والرابع: في العمران الحضري والبلدان والأمصار.
والخامس: في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه.
والسادس: في العلوم واكتسابها وتعلمها.

وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي، والطبيعي أقدم من الكمالي، وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران، كما نبين لك بعد. والله الموفق للصواب والمعين عليه.
الباب الأول من الكتاب الأول

في العمران البشري على الجملة
وفيه مقدمات
المقدمة الأولى
في أن الاجتماع الإنساني ضروري
ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: " الإنسان مدني بالطبع " ، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حباً من غير علاج، فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد. فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه. لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها، وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان، فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور، وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره. وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد. فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الألات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع: مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة، والتراس النائبة عن البشرات الجاسية، إلى غير ذلك مما ذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الألات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل قوت ولا غذاء، ولا تتم حياته، لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه. فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني، وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران الذي جعلناة موضوعاً لهذا العلم.
وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له. وهذا وإن لم يكن واجباً على صاحب الفن، لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم، فليس أيضاً من الممنوعات عندهم، فيكون إثباته،من التبرعات، والله الموفق بفضله.

ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدو عنهم، لأنها موجودة لجميعهم. فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم والهاماتهم. فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك. وقد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية ولا بد لهم منها. وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد لما استقرىء فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه، إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة: " أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " .
وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته وأنه لا بد للبشر من الوازع، ثم يقولون بعد ذلك. وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه، إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب. بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع. وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة. والله ولي التوفيق والهداية.
المقدمة الثانية

في قسط العمران من الأرض
والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم اعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه. فانحسر الماء عن بعض جوانبها، لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها. وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض، وليس بصحيح، وإنما التحت الطبيعي قلب الأرض ووسط كرتها الذي هو مركزها، والكل يطلبه بما فيه من الثقل، وما عدا ذلك من جوانبها. وأما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض. وإن قيل في شيء منها أنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. وأما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحراً يسم البحر المحيط، ويسمى أيضاً لبلاية بتفخيم اللام الثانية، ويسمى أوقيانوس، أسماء أعجمية، ويقال له البحر الأخضر والأسود. ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال، وإنما المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الاستواء، ومن جهة الشمال. إلى خط كروي ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج ومأجوج. وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة. وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل، والمعمور منه مقدار ربعه، وهو المنقسم بالأقاليم السبعة.

وخط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق، وهو طول الأرض وأكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر خط في الفلك. ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستين درجة، والدرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخاً، والفرسخ اثنا عشر آلف ذراع في ثلاثة أميال، لأن الميل أربعة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن. وبين دائرة معدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين وتسامت خط الاستواء من الأرض، وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة. لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع وستون درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود، كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى.
ثم أن المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وما فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرمال مثل: بطليموس في كتاب الجغرافيا، وصاحب كتاب روجار من بعده، قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول، فالأقليم الأول أطول مما بعده وكذا الثاني إلى آخرها، فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة الأرض. وكل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي. وفي كل جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه.
البحار:وذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج منه من جهة المغرب في الإقليم الرابع البحر الرومي المعروف. ويبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشر ميلاً أو نحوها ما بين طنجة وطريف ويسمى الزقاق، ثم يذهب مشرقاً وينفسح إلى عرض ستمائة ميل. ونهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ ومائة وستين فرسخاً من مبدئه، وعليه هنالك سواحل الشام. وعليه من جهة الجنوب سواحل المغرب، أولها طنجة عند الخليج، ثم إفريقية، ثم برقة إلى الإسكندرية. ومن جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج، ثم البنادقة، ثم رومة، ثم الإفرنجة ثم الأندلس إلى طريف عند الزقاق قبالة طنجة. ويسمى هذا البحر الرومي والشامي، وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية ودانية.
قالوا: ويخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينية، يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض رمية السهم، ويمر ثلاثة بحار: فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال، ويمر في جريه ستين ميلاً، ويسمى خليج القسطنطينية، ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال، فيمد بحر نيطش، وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هريقلية، وينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف وثلاثمائة ميل من فوهته، وعليه من الجانبين أمم من الروم والترك وبرجان والروس. والبحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي وهو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال، فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة، وينتهي الي بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدئه. وعلى حافتيه من البنادقة والروم وغيرهم أمم، ويسمى خليج البنادقة.
قالوا: وينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر إلى الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم الأول، ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة والزنج، وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ من مبدئه ويسمى البحر الصيني والهندي والحبشي. وعليه من جهة الجنوب بلاد الزنج وبلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره، وليسوا من البربر الذين هم قبائل المغرب، ثم بلد مقدشو، ثم بلد سفالة، وأرض الواق واق، وأمم أخر ليس بعدهم إلا القفار والخلاء. وعليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم الهند ثم السند، ثم سواحل اليمن من الأحقاف وزبيد وغيرها، ثم بلاد الزنج عند نهايته وبعدهم الحبشة. قالوا: ويخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند

باب المندب فيبدأ متضايقاً، ثم يمر مستبحراً إلى ناحية الشمال ومغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى مدينة القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه، ويسمى بحر القلزم وبحر السويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل. وعليه من جهة الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز وجدة، ثم مدين وأيلة وفاران عند نهايته، ومن جهة الغرب سواحل الصعيد وعيذاب وسواكن وزيلع، ثم بلاد الحبشة عند مبدئه، وأخره عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش وبينهما نحو ست مراحل. وما زال الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتم ذلك. والبحر الثاني من هذا البحر الحبشي، ويسمى الخليج الأخضر، يخرج ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن ويمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة فرسخ وأربعين فرسخاً من مبدئه ويسمى بحر فارس. وعليه من جهة الشرق سواحل السند ومكران وكرمان وفارس، والأبلة عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل البحرين واليمامة وعمان والشحر، والأحقاف عند مبدئه. وفيما بين بحر فارس والقلزم جزيرة العرب كأنها داخلة من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب وبحر القلزم من الغرب، وبحر فارس من الشرق، وتفضي إلى العراق فيما بين الشام والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما. وهنالك الكوفة والقادسية وبغداد وإيوان كسرى والحيرة. ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم. وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها، وبلاد اليمامة والبحرين وعمان جهة الشرق منها، وبلاد اليمن في جهة الجنوب منها، وسواحله على البحر الحبشي.
قالوا: وفي هذا المعمور بحر أخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان وطبرستان، طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربيه أذربيجان والديلم، وفي شرقيه أرض الترك وخوارزم، وفي جنوبيه طبرستان، وفي شماليه أرض الخزر واللان.
هذه جملة البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا.
الأنهارقالوا: وفي هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة ونهر بلخ المسمى جيحون.
فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر، ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك، وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين، فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل. ويخرج من هذه البحيرة نهران. يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته، ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً، وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى نيل مصر، وعليه الصعيد من شرقيه، والواحات من غربيه. ويذهب الأخر منعطفاً إلى المغرب، ثم يمرعلى سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأمهم كلهم على ضفتيه.
وأما الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس، ويمر جنوباً في أرض الروم وملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة، ثم بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء التي بين البصرة وواسط، ومن هناك يصب في البحر الحبشي، وتنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة.
وأما دجلة فمبدؤه عين ببلاد خلاط من أرمينية أيضاً، وتمر على سمت الجنوب بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى واسط، فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة، وتفضي إلى بحر فارس، وهو في الشرق على يمين الفرات. وينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كل جانب. وفيما بين الفرات ودجلة من أوله جزيرة الموصل قبالة الشام من عدوتي الفرات، وقبالة أذربيجان من عدوة دجلة.

وأما نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة، وتنجلب إليه أنهار عظام، ويذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان، ثم يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس، فيصب في بحيرة الجرجانية التي بأسفل مدينتها، وهي مسيرة شهر في مثله، وإليها ينصب نهر فرغانة والشاش الأتي من بلاد الترك. وعلى غربي نهر جيحون بلاد خراسان وخوارزم، وعلى شرقيه بلاد بخارى وترمذ وسمرقند، ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد الترك وفرغانة والخزرجية وأمم الأعاجم.
وقد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه والشريف في كتاب " روجار " ، وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأودية، واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله، ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر وبالأوطان التي للعرب من المشرق واللة الموفق.
تكملة لهذه المقدمة الثانية

في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا
ً
من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة أقل عمراناً مما بعدهما، وما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرماد، والبحر الهندي الذي في الشرق منهما. وأمم هذين الإقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة، وأمصاره ومدنه كذلك. والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك. فالقفار فيها قليلة، والرمال كذلك أو معدومة، وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة، وأمصارها ومدنها تجاوز الحد عدداً والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس، والجنوب خلاء كله. وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحروقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس. فلنوضح ذلك ببرهانه، ليتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع فنقول:

إن قطبي الفلك الجنوبي والشمالي إذا كانا على الأفق، فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب، وتسمى دائرة معدل النهار. وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك التي في جوفه قهراً، وهذه الحركة محسوسة. وكذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق، وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في السرعة والبطء. وممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين، وهي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجاً، وهي على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على نقطتين متقابلتين من البروج، هما أول الحمل وأول الميزان، فتقسمها دائرة معدل النهار بنصفين: نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال وهو من أول الحمل إلى أخر السنبلة، ويصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أول الميزان إلى آخر الحوت. وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار، يمر من المغرب إلى المشرق ويسمى خط الاستواء. ووقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدأ الإقليم الأول من الأقاليم السبعة، والعمران كله في الجهة الشمالية عنه. والقطب الشمالي يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستين درجة، وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السابع. وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهي التي يين القطب ودائرة معدل النهار صار القطب على سمت الرؤوس وصارت دائرة معدل النهار على الأفق، وبقيت ستة من البروج فوق الأفق وهي الشمالية وستة تحت الأفق وهي الجنوبية. والعمارة فيما بين الأربعة والستين إلى التسعين ممتنعة لأن الحر والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما، فلا يحصل التكوين. فإذا الشمس تسامت الرؤوس على خط الاستواء في رأس الحمل والميزان، ثم تميل عن المسامتة إلى رأس السرطان ورأس الجدي، ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعاً وعشرين درجة. ثم إذا ارتفع القطب الشمالي عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس بمقدار ارتفاعه، وانخفض القطب الجنوبي كذلك بمقدار متساو في الثلاثة، وهو المسمى عند أهل المواقيت عرض البلد. وإذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان، وانخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه. فلا يزال الأفق الشمالي يرتفع حتى يصير أبعد الشمالية وهو رأس السرطان في سمت الرؤوس، وذلك حيث يكون عرض البلد أربعاً وعشرين في الحجاز وما يليه. وهذا هو الميل الذي إذا مال رأس السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالي حتى صار مسامتاً. فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشمس عن المسامتة، ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً وستين، ويكون انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبي عن الأفق مثلها، فينقطع التكوين لإفراط البرد والجمد، وطول زمانه غير ممتزج بالحر. ثم إن الشمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعة على الأرض على زوايا قائمة، وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادة. وإذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادة. فلهذا يكون الحر عند المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعده لأن الضوء سبب الحر والتسخين. ثم إن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي الحمل والميزان، وإذا مالت فغير بعيد. ولا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان والجدي إلا أن صعدت إلى المسامتة، فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق، ويطول مكثها أو يدوم، فيشتعل الهواء حرارة، وئفرط في شدتها. وكذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربع وعشرين، فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً ويبساً يمنع من التكوين، لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبات وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات، إذ التكوين

لا يكون إلا بالرطوبة. ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمس وعشرين، فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً، فيكون التكوين، ويتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضو، وكون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين ويفسد. إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد، لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد. فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً، وفي الثالث والرابع والخامس متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء، وفي السادس والسابع كثيراً لنقصان الحر، وإن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر، إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع. فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله أعلم. يكون إلا بالرطوبة. ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمس وعشرين، فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً، فيكون التكوين، ويتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضو، وكون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين ويفسد. إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد، لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد. فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً، وفي الثالث والرابع والخامس متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء، وفي السادس والسابع كثيراً لنقصان الحر، وإن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر، إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع. فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله أعلم.
ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خط الإستواء وما وراءه. وأورد عليهم أنه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة. فكيف يتم البرهان على ذلك، والظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية، إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قوي بإفراط الحر، والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي. وهو كذلك، فإن خط الاستواء والذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جداً. وقد زعم ابن رشد أن خط الأستواء معتدل وأن ما وراءه في الجنوب، بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا. والذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التكوين، وإنما امتنع فيما وراء خط الإستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابلاً للتكوين، ولما امتنع المعتدل لغلبة الماء تبعه ما سواه، لأن العمران متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع. وأما القول بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر والله أعلم.
ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها... إلخ.
تفصيل الكلام على بدء الجغرافيا

اعلم أن الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب، يسمون كل قسم منها إقليماً. فانقسم المعمور من الأرض كله على هذه السبعة الأقاليم، كل واحد منها أخذ من الغرب إلى الشرق على طوله. فالأول منها مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب، وليس وراءه هنالك إلا القفار والرمال وبعض عمارة إن صحت فهي كلا عمارة. ويليه من جهة شماليه الإقليم الثاني ثم الثالث كذلك ثم الرابع والخامس والسادس والسابع وهو آخر العمران من جهة الشمال. وليس وراء السابع إلا الخلاء والقفار، إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط، كالحال فيما وراء الإقليم الأوال في جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمال أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة الجنوب. ثم أن أزمنة الليل والنهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالي عن أفاقها. فيتفاوت قوس النهار والليل لذلك. وينتهي طول الليل والنهار في آخر الإقليم الأول، وذلك عند حلول الشمس برأس الجدي لليل وبرأس السرطان للنهار كل واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة. وكذلك في آخر الإقليم الثاني مما يلي الشمال، فينتهي طول النهار فيه عند حلول الشمس برأس السرطان وهو منقلبها الصيفي إلى ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة. ومثله أطول الليل عند منقلبها الشتوي برأس الجدي. ويبقى للأقصر من الليل والنهار ما يبقى بعد الثلاث عشرة ونصف من جملة أربع وعشرين الساعات الزمانية لمجموع الليل والنهار، وهي دورة الفلك الكاملة. وكذلك في آخر الإقليم الثالث مما يلي الشمال أيضاً ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة، وفي آخر الرابع إلى أربع عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي آخر الخامس إلى خمس عشر ساعة، وفي آخر السادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف، وفي آخر السابع إلى ست عشرة ساعة، وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها ونهارها بنصف ساعة لكل إقليم، يتزايد من أوله في ناحية الجنوب إلى آخره في ناحية الشمال، موزعة على أجزاء هذا البعد. وأما عرض البلدان في هذه الأقاليم فهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدل النهار الذي هو سمت رأس خط الاستواء، وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبي عن أفق ذلك البلد. يرتفع القطب الشمالي عنه، وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمى عرض البلد كما مر ذلك قبل. والمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية، ويذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك ونحن الأن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كل جزء منها، ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب " نزهة المشتاق " الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة. وجمع له كتباً جمة للمسعودي وابن خرداذبه والحوقلي والدمري وابن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها، والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنه وفضله.
الإقليم الأولوفيه من جهة غربيه الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس يأخذ أطوال البلاد. وليست في بسيط الإقليم، وإنما هي في البحر المحيط، جزر متكثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة، ويقال إنها معمورة. وقد بلغنا أن سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض أساراهم بسواحل المغرب الأقصى، وصاروا إلى خدمة السلطان. فلما تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم، وإنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون وأن الحديد مفقود بأرضهم، وعيشهم من الشعير، وماشيتهم المعز، وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف، وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت، ولا يعرفون ديناً ولم تبلغهم دعوة. ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها، لأن سفر السفن في

البحر إنما هو بالرياح، ومعرفة جهات مهابها، وإلى أين يوصل إذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب. وإذا اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتية والملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر. والبلاد التي في حافات البحر الرومي وفي غدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود، وفي وضعها في سواحل البحرعلى ترتيبها، ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة ويسمونها الكنباص، وعليها يعتمدون في أسفارهم. وهذا كله مفقود في البحر المحيط. فلذلك لا تلج فيه السفن لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدي إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها، وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها. فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها.
وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه، ويسمى نيل السودان. ويذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك. وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة، وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان. وإلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى، وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثمين، ومفاوز يجولون فيها. وفي جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال لهم لملم وهم كفار، ويكتوون في وجوههم وأصداغهم، وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب، وكلهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق، يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضاً وليسوا في عداد البشر. وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان. فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح. وقال صاحب كتاب روجار أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن، ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن. وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي.
وفي شرقي هذا البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد كوكو على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك. ويمر مغرباً فيغوص في رمال الجزء الثاني. وكان ملك كوكو قائماً بنفسه، ثم استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته، وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر. وفي جنوبي بلد كوكو بلاد كانم من أمم السودان. وبعدهم ونغارة على ضفة النيل من شماليه.

وفي شرقي بلاد ونغارة وكانم بلاد زغاوة وتاجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم. وفيه يفر نيل مصرذاهباً من مبدئه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي فى الشمال. ومخرج هذا النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة. واختلفوا في ضبط هذه اللفظة. فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه وكثرة ضوئه. وفي كتاب المشترك لياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند، وكذا ضبطه ابن سعيد. فيخرح من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل خمسة منها في بحيرة، وبينهما ستة أميال. ويخرج من كل واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال. وينقسم ماؤها بقسمين: فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط، ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما، وينقسم في أعلى أرض مصر، فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط، ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان. وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة، وهي في غربي هذا النيل وبعدها علوة وبلاق، وبعدهما جبل الجنادل على ستة مراحل من بلاق في الشمال، وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة، فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صباً هائلاً، فلا يمكن أن تسلكه المراكب، بل يحول الوسق من مراكب السودان، فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد، وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل. وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة. والواحات في غربيها عدوة النيل، وهي الأن خراب، وبها آثار العمارة القديمة.
وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة، فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر. وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر. وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل. وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس ينتهي بحر الهند الذي يدخل من ناحية الصين، ويغمرعامة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس، فلا يبقى فيه عمران إلا ما كان في الجزائر التي في داخله وهي متعددة، يقال تنتهي إلى ألف جزيرة، أو فيما على سواحله الجنوبية وهي آخر المعمور في الجنوب، أو فيما على سواحله من جهة الشمال، وليس منها في هذا الإقليم الأول إلا طرف من بلاد الصين في جهة الشرقي وفي بلاد اليمن.
وفي الجزء السادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهندي إلى جهة الشمال وهما بحر قلزم وبحر فارس وفيما بينهما جزيرة العرب. وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشحر في شرقيها على ساحل هذا البحر الهندي، وعلى بلاد الحجاز واليمامة. وما إليهما كما نذكره في الإقليم الثاني وما بعده فأما الذي على ساحل هذا البحر من غربيه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجة في شمالي الحبشة ما بين جبل العلاقي في أعالي الصعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهندي وتحت بلاد زالع من جهة الشمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهندي ممتداً مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشمال في طول اثني عشر ميلاً، فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في غرض ثلاثة أميال أو نحوها، ويسمى باب المندب وعليه تمر مراكب اليمن إلى ساحل السويس قريباً من مصر. وتحت باب المندب جزيرة سواكن ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجة من أمم السودان كما ذكرناه. ومن شرقيه في هذا الجزء تهائم اليمن، ومنها على ساحله بلد علي بن يعقوب. وفي جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيه قرى بربر يتلو بعضها بعضاً. وينعطف مع جنوبيه إلى آخر الجزء السادس.
ويليها هنالك من جهة شرقيها بلاد الزنج ثم بلاد سفالة على ساحله الجنوي في الجزء السابع من هذا الإقليم. وفي شرقي بلاد سفالة من ساحله الجنوبي بلاد الواق واق متصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط.

وأما جزائر هذا البحر فكثيرة من أعظمها جزيرة سرنديب مدورة الشكل وبها الجبل المشهور، يقال ليس في الأرض أعلى منه، وهي قبالة سفالة. ثم جزيرة القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشرق منحرفة بكثير إلى الشمال إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصين، ويحتف بها في هذا البحر من جنوبيها جزائر الواق واق، ومن شرقيها جزائر السملان إلى جزائر آخر في هذا البحر كثيرة العدد، وفيها أنواع الطيب والأفاوية، وفيها يقال معادن الذهب والزمرد، وعامة أهلها على دين المجوسية، وفيهم ملوك متعددون. وبهذه الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا. وعلى الضفة الشمالية من هذا البحر في الجزء السادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلها. فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن، وبعدها بلد صعدة مقر الإمامة الزيدية، وهي بعيدة عن البحر الجنوبي وعن البحر الشرقي. وفيما بعد ذلك مدينة عدن وفي شماليها صنعاء، وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفار، وبعدها أرض حضر موت، ثم بلاد الشحر ما بين البحر الجنوبي وبحر فارس. وهذه القطعة من الجزء السادس هي التي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى، وينكشف بعدها قليل من الجزء التاسع، وأكثر منه من العاشر فيه أعالي بلاد الصين، ومن مدنه الشهيرة خانكو، وقبالتها من جهة الشرق جزائر السيلان وقد تقدم ذكرها. وهذا آخر الكلام في الإقليم الأول والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وفضله.
الإقليم الثانيوهو متصل بالأول من جهة الشمال. وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها، وفي الجزء الأول والثاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية، وبعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان، وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نيستر متصلة من الغرب إلى الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان، وفيها مجالات الملثمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة.
وعلى سمت هذه المفاوز شرقاً أرض فزان، ثم مجالات أزكار من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثالث على سمتها في الشرق وبعدها من هذا الجزء بلاد كوار من أمم السودان، ثم قطعة من أرض الباجويين. وفي أسافل هذا الجزء الثالث وهي جهة الشمال منه بقية أرض ودان، وعلى سمتها شرقاً أرض سنترية وتسمى الواحات الداخلة. وفي الجزء الرابع من أعلاه بقية أرض الباجويين. ثم يعترض في وسط هذا الجزء، بلاد الصعيد، حافات النيل الذاهب من مبدئه في الإقليم الأول إلى مصبه في البحر، فيمر في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين، وهما جبل الواحات من غربيه، وجبل المقطم من شرقيه، وعليه من أعلاه بلد أسنا وأرمنت، ويتصل كذلك حافاته إلى أسيوط وقوص ثم إلى صول. ويفترق النيل هنالك على شعبين ينتهي الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللاهون والأيسر عند دلاص، وفيما بينهما أعالي ديار مصر.
وفي الشرق من جبل المقطم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهي إلى بحر السويس، وهو بحر القلزم الهابط من البحر الهندي في الجنوب إلى جهة الشمال. وفي عدوته الشرقية من هذا الجزء أرض الحجاز من جبل يلملم إلى بلاد يثرب. وفي وسط الحجاز مكة شرفها الله، وفي ساحلها مدينة جدة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربية من هذا البحر.

وفي الجزء السادس من غربيه بلاد نجد أعلاها في الجنوب وتبالة وجرش إلى عكاظ من الشمال. وتحت نجد من هذا الجزء بقية أرض الحجاز، وعلى سمتها في الشرق بلاد نجران وخيبر، وتحتها أرض اليمامة وعلى سمت نجران في الشرق أرض سبأ ومأرب، ثم أرض الشحر. وينتهي إلى بحر فارس وهو البحر الثاني الهابط من البحر الهندي إلى الشمال كما مر. ويذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمر ما بين شرقيه وجوفيه قطعة مثلثة عليها من أعلاة مدينة قلهات. وهي ساحل الشحر، ثم تحتها على ساحله بلاد عمان، ثم بلاد البحرين، وهجر منها في آخر الجزء. وفي الجزء السابع في الأعلى من غربيه قطعة من بحر فارس تتصل بالقطعة الأخرى في السادس. ويغمر بحر الهند جانبه الأعلى كله. وعليه هنالك بلاد السند إلى بلاد مكران ويقابلها بلاد الطوبران وهي من السند أيضاً. فيتصل السند كله في الجانب الغربي من هذا الجزء، وتحول المفاوز بينه وبين أرض الهند، ويمر فيه نهره الآتي من ناحية بلاد الهند، ويصب في البحر الهندي في الجنوب. وأول بلاد الهند على ساحل البحر الهندي، وفي سمتها شرقاً بلاد بلهرا، وتحتها الملتان بلاد الصنم المعظم عندهم، ثم إلى أسفل من السند، ثم إلى أعالي بلاد سجستان.
وفي الجزء الثامن من غربيه بقية بلاد بلهرا من الهند، وعلى سمتها شرقاً بلاد القندهار ثم بلاد منيبار، وفي الجانب الأعلى على ساحل البحر الهندي وتحتها في الجانب الأسفل أرض كابل، وبعدها شرقاً إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الداخلة وقشمير الخارجة عند آخر الإقليم.
وفي الجزء التاسع، ثم في الجانب الغربي منه بلاد الهند الأقصى، ويتصل فيه إلى الجانب الشرقي فيتصل من أعلاه إلى العاشر، وتبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصين فيها مدينة شيغون، ثم تتصل بلاد الصين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط، والله ورسوله أعلم، وبه سبحانه التوفيق، وهو ولي الفضل والكرم.
الإقليم الثالثوهو متصل بالثاني من جهة الشمال. ففي الجزء الأول منه وعلى نحو الثلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيه عند البحر المحيط إلى الشرق عند آخره. ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلا خالقهم حسبما يأتي ذكره. وفي القطعة التي بين هذا الجبل والإقليم الثاني وعلى البحر المحيط منها رباط ماسة، ويتصل به شرقاً بلاد سوس ونول، وعلى سمتها شرقاً بلاد درعة، ثم بلاد سجلماسة ثم قطعة من صحراء نيستر المفازة التي ذكرناها في الإقليم الثاني. وهذا الجبل مطل على هذه البلاد كلها في هذا الجزء، وهو قليل الثنايا والمسالك في هذه الناحية الغربية إلى أن يسامت وادي ملوية فتكثر ثناياه ومسالكه إلى أن ينتهي. وفي هذه الناحية منه أمم المصامدة ثم هنتاتة، ثم تينملك، ثم كدميوة، ثم مشكورة وهم آخر المصامدة فيه، ثم قبائل صنهاكة وهم صنهاجة. وفي آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة. ويتصل به هنالك من جوفيه جبل أوراس وهو جبل كتامة. وبعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم. ثم أن جبل درن هذا من جهة غربيه مطل على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفيه. ففي الناحيه الجنوبية منها بلاد مراكش وأغمات وتادلا. وعلى البحر المحيط منها رباط أسفى ومدينة سلا. وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة. وهذه هي ائتي تسمى المغرب الأقصى في عرف أهلها. وعلى ساحل البحر المحيط منها بلدان: أصيلا، والعرايش. وفي سمت هذه البلاد شرقاً بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان، وفي سواحلها على البحر الرومي بلذ هنين ووهران والجزائر. لأن هذا البحر الرومي يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في الناحية الغريية من الإقليم الرابع، ويذهب مشرقاً فينتهي إلى بلاد الشام، فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوباً وشمالاً فدخل في الإقليم الثالث والخامس. فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثاك الكثير من بلاده. ثم يتصل ببلاد الجزائر من شرقيها بلاد بجاية في ساحل البحر، ثم قسنطينة في الشرق منها. وفي آخر الجزء الأول، وعلى مرحلة من هذا البحر في جنوب هذه البلاد ومرتفعاً إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير، ثم بلد المسيلة ثم الزاب وقاعدتها بسكرة تحت جبل أوراس المتصل بدرن كما مر. وذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشرقي.

والجزء الثاني من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأول، ثم جبل درن على نحو الثلث من جنوبه ذاهباً فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين. ويغمر البحر الرومي مسافة من شماله. فالقطعة الجنوبية عن جبل درن غربيها كله مفاوز، وفي الشرق منها بلد غدامس، وفي سمتها شرقاً أرض ودان التي بقيتها في الإقليم الثاني كما مر. والقطعة الجوفية عن جبل درن ما بينه وبين البحر الرومي في الغرب منها جبل أوراس وتبسة والأوبس. وعلى ساحل البحر بلد بونة. ثم في سمت هذه البلاد شرقاً بلاد إفريقية. فعلى ساحل البحر مدينة تونس، ثم سوسة، ثم المهدية. وفي جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد: توزر، وقفصة، ونفزاوة. وفيما بينها وبين السواحل مدينة القيروان وجبل وسلات وسبيطلة. وعلى سمت هذه البلاد كلها شرقاً بلد طرابلس على البحر الرومي. وبإزائها في الجنوب جبل دمر ونقرة من قبائل هوارة متصلة بجبل دحرن وفي مقابلة غدامس التي مر ذكرها في آخر القطعة الجنوبية. وآخر هذا الجزء في الشرق سويقة ابن مشكورة على البحر. وفي جنوبها مجالات العرب في أض ودان.
وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم يمر أيضاً فيه جبل درن، إلا أنه ينعطف عند آخره إلى الشمال ويذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرومي ويسمى هنالك طرف أوثان. والبحر الرومي من شماليه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه وبين جبل درن. فالذي وراء الجبل في الجنوب وفي الغرب منة بقية أرض ودان ومجالات العرب فيها، ثم زويلة ابن الخطاب، ثم رمال وقفار إلى آخر الجزء في الشرق. وفيما بين الجبل والبحر في الغرب منه بلد سرت على البحر. ثم خلاء وقفار تجول فيها العرب ثم أجدابية، ثم برقة عند منعطف الجبل ثم طلمسة على البحر هنالك، ثم في شرق المنعطف من الجبل مجالات هيب ورواحة إلى آخر الجزء.
وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم وفي الأعلى من غربيه صحارى برقيق، وأسفل منها بلاد هيب ورواحة. ثم يدخل البحر الرومي في هذا الجزء فيغمر طائفة منه إلى الجنوب، حتى يزاحم طرفه الأعلى، ويبقى بينة وبين آخر الجزء قفار تجول فيها العرب وعلى سمتها شرقاً بلاد الفيوم وهي على مصب أحد الشعبين من النيل الذي يمرعلى اللاهون من بلاد الصعيد في الجزء الرابع من الإقليم الثاني. ويصب في بحيرة فيوم وعلى سمته شرقاً أرض مصر ومدينتها الشهيرة على الشعب الثاني الذي يمر بدلاص كل بلاد الصعيد عند آخر الجزء الثاني. ويفترق هذا الشعب افتراقة ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شنطوف وزفتي. وينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين ويصب جميعها في البحر الرومي. فعلى مصب الغربي من هذا الشعب بلد الإسكندرية وعلى مصب الوسط بلد رشيد، وعلى مصب الشرقي بلد دمياط. وبين مصر والقاهرة وبين هذه السواحل البحرية أسافل الديار المصرية كلها محشوة عمراناً وفلجاً.
وفي الخزء الخامس من هذا الإقليم بلاد الشام، وأكثرها على ما أصف، وذلك لأن بحر القلزم ينتهي من الجنوب وفي الغرب منه عند السويس، لأنه في ممره مبتدئ، من البحر الهندي إلى الشمال ينعطف آخذاً إلى جهة الغرب، فتكون قطعة من انعطافه

في هذا الجزء طويلة فينتهي في الطرف الغربي منه إلى السويس. وعلى هن! القطعة بعد السويس فاران ثم جبل الطور ثم أيلة مدين ثم الحوراء في آخرها. ومن هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في أرض الحجاز كما مر في الأقليم الثاني في الجزء الخامس منه. وفي الناحية الشمالية من هذا الجزء قطعة من البحر الرومي غمرت كثيراً من غربيه عليها الفرما والعريش، وقارب طرفها بلد القلزم، فيضايق ما بينهما من هنالك، وبقي شبه الباب مفضياً إلى أرض الشام. وفي غربي هذا الباب فحص التيه أرض جرداء لا تنبت، كانت مجالاً لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم إلى الشام أربعين سنة كما قصه القرآن. وفي هذه القطعة من البحر الرومي في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص وبقيتها في الأقليم الرابع كما نذكره. وعلى ساحل هذه القطعة عند الطرف المتضايق لبحر السويس بلد العريش، وهو آخر الديار المصرية، وعسقلان، وبينهما طرف هذا البحر ثم تنحط هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الأقليم الرابع عند طرابلس وغزة. وهنالك ينتهي البحر الرومي في جهة الشرق. وعلى هذه القطعة أكثر سواحل الشام. ففي شرقه غزة ثم عسقلان، بانحراف يسير عنها إلى الشمال بلد قيسارية. ثم كذلك بلد عكا ثم صور ثم صيدا ثم ينعطف البحر إلى الشمال في الأقليم الرابع. ويقابل هذه البلاد الساحلية من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيم يخرج من ساحل أيلة من بحر القلزم، ويذهب في ناحية الشمال منحرفاً إلى الشرق إلى إن يجاوز هذا الجزء ويسمى جبل اللكام، وكأنه حاجز بين أرض مصر والشام. ففي طرفه عند أيلة العقبة التي يمر عليها الحجاج من مصر إلى مكة، ثم بعدها في ناحية الشمال مدفن الخليل عليه الصلاة والسلام عند جبل السراه يتصل من عند جبل اللكام المذكور من شمال العقبة ذاهباً على سمت الشرق، ثم ينعطف قليلاً. وفي شرقه هنالك بلد الحجر وديار ثمود وتيماء ودومة الجندل وهي أسافل الحجاز. وفوقها جبل رضوى، وحصون خيبر في جهة الجنوب عنها. وفيما بين جبل السراة وبحر القلزم صحراء تبوك. وفي شمال جبل السراة مدينة القدس عند جبل اللكام ثم الأردن ثم طبرية. وفي شرقها بلاد الغور إلى أذرعات، وفي سمتها شرقاً دومة الجندل آخر هذا الجزء وهي آخر الحجاز. وعند منعطف جبل اللكام إلى الشمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا وبيروت من القطعة البحرية، وجبل اللكام يعترض بينها وبينها. وعلى سمت دمشق في الشرق مدينة بعلبك، ثم مدينة حمص في الجهة الشمالية آخر الجزء عند منقطع جبل اللكام. وفي الشرق عن بعلبك وحمص بلد تدمر ومجالات البادية إلى آخر الجزء.
وفي الجزء السادس من أعلاه مجالات الأعراب تحت بلاد نجد واليمامة ما بين جبل العرج والصمان إلى البحرين وهجر على بحر فارس. وفي أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة والقادسية ومغايض الفرات. وفيما بعدها شرقاً مدينة ا البصرة. وفي هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبادان والأبلة من أسافل الجزء من شماله. ويصب فيه عند عبادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة وتختلط به جداول أخرى من الفرات، ثم تجتمع كلها عند عبادان وتصب في بحر فارس. وهذه القطعة من البحر متسعة في أعلاه متضايقة في آخره في شرقيه وضيقة عند منتهاه مضايقة للحد الشمالي منه. وعلى عدوتها الغربية منه أسافل البحرين وهجر والأحساء، وفي غربها أخطب والصمان وبقية أرض اليمامة، وعلى عدوته الشرقية سواحل فارس من أعلاها، وهو من عند آخر الجزء من الشرق على طرف قد امتد من هذا البحر مشرقاً. ووراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان وتحت هرمز على الساحل بلد سيراف ونجيرم على ساحل هذا البحر. وفي شرقيه إلى آخر هذا الجزء وتحت هرمز بلاد فارس مثل سابور ودار أبجرد ونسا واصطخر والشاهجان وشيراز وهي قاعدتها كلها. وتحت بلاد ،فارس إلى الشمال عند طرف البحر بلاد خوزستان، ومنها الأهواز وتستر وصدى وسابور، والسوس ورام هرمز، وغيرها وأرجان وهي حد ما بين فارس وخوزستان. وفي شرقي بلاد خوزستان جبال الأكراد متصلة إلى نواحي أصبهان وبها مساكنهم ومجالاتهم وراءها في أرض فارس، وتسمى الرسوم.

وفي الجزء السابع في الأعلى منه من المغرب بقية جبال القفص، ويليها من الجنوب والشمال بلاد كرمان ومكران، ومن مدنها الرودان والضيرجان وجيرفت ويزدشير والبهرج. وتحت أرض كرمان إلى الشمال بقية بلاد فارس إلى حدود أصبهان، ومدينة أصبهان في طرف هذا الجزء ما بين غربه وشماله. ثم في المشرق عن بلاد كرمان وبلاد فارس أرض سجستان وكوهستان في الجنوب. وأرض كوهستان في الشمال عنها.
ويتوسط بين كرمان وفارس وبين سجستان وكوهستان، في وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها. ومن مدن سجستان بست والطاق. وأما كوهستان فهي من بلاد خراسان. ومن مشاهير بلادها سرخس وكوهستان آخر الجزء.
وفي الجزء الثامن من غربه وجنوبه مجالات الجلح من أمم الترك متصلة بأرض سجستان من غربها وبأرض كابل الهند من جنوبها. وفي الشمال عن هذه المجالات جبال الغور وبلادها وقاعدتها غزنة فرضة الهند. وفي آخر الغور من الشمال بلاد أستراباذ، ثم في الشمال غرباً إلى آخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان. وبها أسفراين وقاشان وبوشنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان. وتنتهي خراسان هنالك إلى نهر جيحون. وعلى هذا النهر من بلاد خراسان من غربيه مدينة بلخ، وفي شرقيه مدينة ترمذ، ومدينة بلخ كانت كرسي مملكة الترك. وهذا النهر، نهر جيحون، مخرجه من بلاد وجار في حدود بذخشان مما يلي الهند. ويخرخ من جنوب هذا الجزء وعند آخره من الشرق فينعطف عن قرب مغرباً إلى وسط الجزء، ويسمى هنالك نهر خرناب، ثم ينعطف إلى الشمال حتى يمر بخراسان، ويذهب على سمته إلى إن يصب في بحرة خوارزم في الإقليم الخامس كما نذكره. ويمده عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشمال خمسة أنهارعظيمة من بلاد الختل والوخش من شرقيه، وأنهار أخرى من جبال البتم من شرقيه أيضاً وجوفي الجبل حتى يتسع ويعظم بما لا كفاء له، ومن هذه الأنهار الخمسة الممدة له نهر وخشاب، يخرج من بلاد التبت، وهي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء فيمر مغرباً بانحراف إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء يعترضة فى طريقه جبل عظيم يمر من وسط الجنوب في هذا الجزء، ويذهب مشرقاً بانحراف إلى الشمال، إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء، فيجوز بلاد التبت إلى القطعة الشرقية الجنوبية من هذا الجزء. ويحول بين الترك وبين بلاد الختل، وليس فيه إلا مسلك واحد في وسط الشرق من هذا الجزء جعل فيه الفضل بن يحيى سداً وبنى فيه باباً كسد يأجوج ومأجوج. فإذا خرج نهر وخشاب من بلاد التبت واعترضه هذا الجبل فيمر تحتة في مدى بعيد إلى أن يمر في بلاد الوخش، ويصب في نهر جيحون عند حدود بلخ، ثم يمر هابطاً إلى الترمذ في الشمال إلى بلاد الجوزخان. وفي الشرق عن بلاد الغور فيما بينها وبين نهر نهر جيحون بلاد الناسان من خراسان. وفي العدوة الشرقية هنالك من النهر بلاد الختل وأكثرها جبال، وبلاد الوخش، ويحدها من جهة الشمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربي نهر جيحون، وتذهب مشرقة إلى أن يتصل طرفها بالجبل العظيم الذي خلفه بلاد التبت. ويمر تحته نهر وخشاب كما قلناه فيتصل به عند باب الفضل بن يحيى. ويمر نهر جيحون بين هذه الجبال، وأنهاز أخرى تصب فيه منها نهر بلاد الوخش يصب فيه من الشرق تحت الترمذ إلى جهة الشمال، ونهر بلخ يخرج من جبال البتم من مبدئه عند الجوزجان ويصب فيه من غربيه. وعلى هذا النهر من غربيه بلاد آمد من خراسان. وفي شرقي النص من هنالك أرض الصغد وأسروشنة من بلاد الترك، وفي شرقها أرض فرغانة آخر الجزء شرقاً. وكل بلاد الترك يحوزها جبال البتم إلى شمالها.
وفي الجزء التاسع من غربيه أرض التبت إلى وسط الجزء، وفى جنوبيها بلاد الهند وفي شرقيها بلاد الصين إلى آخر الجزء. وفي أسفل هذا الجزء شمالاً عن بلاد التبت الخزلجية من بلاد الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالاً. ويتصل بها من غربيها أرض فرغانة أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً، ومن شرقيها أرض التغرغر من الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالاً.

وفي الجزء العاشر في الجنوب منه جميعاً بقية الصين وأسافله. وفي الشمال بقية بلاد التغرغر. ثم شرقاً عنهم بلاد خرخير من الترك أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً. وفي الشمال من أرض خرخير بلاد كتمان من الترك. وقبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها ولا مسلك، والصعود إلى أعلاه من خارجه صعب في الغاية. وفي الجزيرة حيات قتالة وحصى من الياقوت كثيرة، فيحتال أهل الناحية في استخراجه بما يلهمهم الله إليه. وأهل هذه البلاد في هذا الجزء والعاشر فيما وراء خراسان والجبال كلها مجالات للترك أمم لا تحصى، وهم رحالة أهل إبل وشاة وبقر وخيل للنتاج والركوب والأكل وطوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلا خالقهم وفيهم مسلمون مما يلي بلاد النهر نهر جيحون ويغزون الكفار منهم الدائنين بالمجوسية، فيبيعون رقيقهم لمن يليهم ويخرجون إلى بلاد خراسان والهند والعراق.
الإقليم الرابع يتصل بالثالث من جهة الشمال والجزء الأول منه في غربيه قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوله جنوباً إلى آخره شمالاً وعليها في الجنوب مدينة طنجة، ومن هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرومي في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلاً ما بين طريف والجزيرة الخضراء شمالاً وقصر المجاز وسبتة جنوباً، ويذهب مشرقاً إلى إن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الأقليم، وينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة أجزاء وأكثر الخامس ويغمر عن جانبيه طرفاً من الأقليم الثالث والخامس كما سنذكره. ويسمى هذا البحر البحر الشامي أيضاً. وفيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة، ثم مايرقة، ثم منرقة، ثم سردانية ثم صقلية وهي أعظمها، ثم بلونس، ثم أقريطش ثم قبرص كما نذكرها كلها في أجزائها التي وقعت فيها. ويخرج من هذا البحر الرومي عند آخر الجزء الثالث منه، وفي الجزء الثالث من الإقليم الخامس، خليج البنادقة، يذهب إلى ناحية الشمال، ثم ينعطف عند وسط الجزء من جوفيه، ويمر مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الثاني من الخامس. ويخرج منه أيضاً في آخر الجزء الرابع شرقاً من الإقليم الخامس خليج القسطنطنية، يمر في الشمال متضايقاً في عرض رمية السهم إلى آخر الإقليم. ثم يفضي إلى الجزء الرابع من الإقليم السادس، وينعطف إلى بحر نيطش ذاهباً إلى الشرق في الجزء الخامس كله ويصف السادس من الإقليم السادس كما نذكر ذلك في أماكنه. وعندما يخرج هذا البحر الرومي من البحر المحيط في خليج طنجة، وينفسح إلى الإقليم الثالث يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين، وبعدها مدينة سبتة على البحر الرومي ثم قطاون ثم باديس. ثم يغمر هذا البحر بقية هذا الجزء شرقاً، ويخرج إلى الثالث. وأكثر العمارة في هذا الجزء في شماله وشمال الخليج منه، وهي كلها بلاد الأندلس الغربية، ومنها ما بين البحر المحيط والبحر الرومي، أولها طريف عند مجمع البحرين، وفي الشرق منها على ساحل البحر الرومي الجزيرة الخضراء ثم مالقة، ثم المنكب ثم المربة. وتحت هذه من لدن البحر المحيط غرباً وعلى مقربة منه شريش، ثم لبلة، وقبالتها فيه جزيرة قادس، وفي الشرق عن شريش ولبلة أشبيلية، ثم استجة وقرطبة ومديلة، ثم غرناطة وجيان وأبدة، ثم وادياش وبسطة، وتحت هذه شنتمرية وشلب على البحر المحيط غرباً، وفي الشرق عنهما بطليوس وماردة ويابرة، ثم غافق وبزجالة، ثم قلعة رياح وتحت هذه أشبونة على البحر المحيط غرباً، وعلى نهر باجة، وفي الشرق عنها شنترين وموزية على النهر المذكور، ثم قنطرة السيف. ويسامت أشبونة من جهة الشرق جبل الشارات، يبدأ من المغرب هنالك، ويذهب مشرقاً مع آخر الجزء من شماليه فيتتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النصف منه. وتحت هذا الجبل طلبيرة في الشرق من فورنة، ثم طليطلة، ثم وادي الحجارة ثم مدينة سالم. وعند أول هذا الجبل فيما بينه عيبن أشبونة بلد قلمرية، وهذه غربي الأندلس. وأما شرقي الأندلس فعلى ساحل البحر الرومي منها بعد المرية قرطاجنة، ثم لفتة، ثم دانية، ثم بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشرق، وتحتها شمالاً ليورقة وشقورة تتاخمان بسطة وقلعة رياح من غرب الأندلس.

ثم مرسية شرقاً، ثم شاطبة تحت بلنسية شمالاً، ثم شقر ثم طرطوشة، ثم طركونة آخر الجزء. ثم تحت هذه شمالاً أرض منجالة وريدة متاخمان لشقورة وطليطلة من الغرب، ثم أفراغة شرقاً تحت طرطوشة وشمالاً عنها. ثم في الشرق عن مدينة سالم قلعة أيوب ثم سرقسطة ثم لاردة آخر الجزء شرقاً وشمالاً.
والجزء الثاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلا قطعة من غربيه في الشمال، فيها بقعة جبل البرنات ومعناه جبل الثنايا. والسالك يخرج إليه من آخر الجزء الأول من الإقليم الخامس، يبدأ من الطرف المنتهي من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوباً وشرقاً، ويمر في الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في هذا الإقليبم الرابع منحرفاً عن الجزء الأول منه إلى هذا الجزء الثاني، فيقع فيه قطعة منه، تفضي ثناياها إلى البر المتصل، وتسمى أرض غشكونية، وفيه مدينة خريدة وقرقشونة. وعلى ساحل البحر الرومي من هذه القطعة مدينة برشلونة ثم أربونة. وفي هذا البحر الذي غمر الجزء جزائر كثيرة، والكثير منها غير مسكون لصغرها. ففي غربيه جزيرة سردانية، وفي شرقيه جزيرة صقلية متسعة الأقطار يقال إن دورها سبعمائة ميل، وبها مدن كثيرة مشاهيرها سرقوسة وبلرم وطرابغة ومازر ومسيني وهذه الجزيرة تقابل أرض إفريقية، وفيما بينهما جزيرة أعدوش ومالطة.
والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر إلا ثلاث قطع من ناحية الشمال الغربية منها أرض قلورية، والوسطى من أرض أبكيردة، والشرقية من بلاد البنادقة.
والجزء الرابع من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر كما مر وجزائره كثيرة وأكثرها غير مسكون كما في الثالث. والمعمور منها جزيرة بلونس في الناحية الغربية الشمالية، وجزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب والشرق منه.
والجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلثة كبيرة بين الجنوب والغرب، ينتهي الضلع الغربي منها إلى آخر الجزء في الشمال، وينتهي الضلع الجنوبي منها إلى نحو الثلثين من الجزء، ويبقى في الجانب الشرقي من الجزء قطعة نحو الثلث، يمر الشمالي منها إلى الغرب منعطفاً مع البحر كما قلناه. وفي النصف الجنوبي منها أسافل الشام، ويمر في وسطها جبل اللكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشام في الشمال فينعطف من هنالك ذاهباً إلى القطر الشرقي الشمالي، ويسمى بعد انعطافه جبل السلسلة، ومن هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس. ويجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشرق. ويقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متصلة بعضها ببعض إلى أن ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرومي متآخر إلى آخر الجزء من الشمال. وبين هذه الجبال ثنايا تسمى الدروب وهي التي تفضي إلى بلاد الأرمن وفي هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال وبين جبل السلسلة. فأما الجهة الجنوبية التي قدمنا أن فيها أسافل الشام، وأن جبل اللكام معترض فيها بين البحر الرومي وآخر الجزء من الجنوب إلى الشمال، فعلى ساحل البحر منه بلد أنطرطوس في أول الجزء من الجنوب متاخمة لغزة وطرابلس على ساحله من الإقليم الثالث، وفي شمال أنطرطوس جبلة ثم اللاذقية ثم اسكندرونة ثم سلوقية وبعدها شمالاً بلاد الروم. وأما جبل اللكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشام من أعلى الجزء جنوباً من غربيه حصن الحواني وهو للحشيشة الإسماعيلية، ويعرفون لهذا العهد بالفداوية، ويسمى الحصن مصياف وهو قبالة أنطرطوس. وقبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلمية في الشمال عن حمص. وفي الشمال عن مصياف بين الجبل والبحر بلد أنطاكية. ويقابلها في شرق الجبل المعرة، وفي شرقها المراغة، وفي شمال أنطاكية المصيصة ثم أذنة ثم طرسوس آخر الشام. ويحاذيها من غرب الجبل قنسرين ثم عين زربة. وقبالة قنسرين في شرق الجبل حلب. ويقابل عين زربة منبج آخر الشام. وأما الدروب فعن يمييها ما بينها وبين البحر الرومي بلاد الروم التي هي لهذا العهد للتركمان وسلطانها ابن عثمان.

وفي ساحل البحر منها بلد أنطاكية والعلايا. وأما بلاد الأرمن التي بين جبل الدروب وجبل السلمية ففيها بلد مرعش وملطية والمعرة إلى آخر الجزء الشمالي. ويخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان ونهر سيحان في شرقيه فيمر بها جيحان جنوباً حتى يتجاوز الدروب، ثم يمر بطرسوس ثم بالمصيصة، ثم ينعطف هابطاً إلى الشمال ومغرباً حتى يصب في البحر الرومي جنوب سلوقية. ويمر نهر سيحان موازياً لنهر جيحان فيحاذي المعرة ومرعش ويتجاوز جبال الدروب إلى أرض الشام، ثم يمر بعين زربة ويجوز عن نهر جيحان ثم ينعطف إلى الشمال مغرباً فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة، ومن غربها. وأما بلاد الجزيرة التي يحيط بها منعطف جبل اللكام إلى جبل السلسلة ففي جنوبها بلد الرافضة والرقة، ثم حران ثم سروج والرها ثم نصيبين ثم سمياط وآمد تحت جبل السلسلة. و آخر الجزء من شماله وهو أيضاً آخر الجزء من شرقيه، ويمر في وسط هذه القطعة نهر الفرات ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمران في بلاد الأرمن جنوباً إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة، فيمر نهر الفرات من غربي سمياط وسروج وينحرف إلى الشرق فيمر بقرب الرافضة والرقة ويخرج إلى الجزء السادس. ويمر دجلة في شرق آمد وينعطف قريباً إلى الشرق فيخرج قريباً إلى الجزء السادس.

وفي الجزء السادس من هذا الإقليم من غربيه بلاد الجزيرة، وفي الشرق منها بلاد العراق متصلة بها تنتهي في الشرق إلى قرب آخر الجزء ويعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطاً من جنوب الجزء منحرفاً إلى الغرب، فإذا انتهى إلى وسط الجزء من آخره في الشمال يذهب مغرباً إلى أن يخرج من الجزء السادس ويتصل على سمته بجبل السلسلة في الجزء الخامس، فينقطع هذا الجزء السادس بقطعتين غربية وشرقية، ففي الغربية من جنوبيها مخرج الفرات من الخامس، وفي شماليها مخرج دجلة منه. أما الفرات فأول ما يخرج إلى السادس يمر بقرقيسيا ويخرج من هنالك جدول إلى الشمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها، ويمر من قرقيسيا غير بعيد، ثئم ينعطف إلى الجنوب فيمر بقرب الخابور إلى غرب الرحبة ويخرج منه جداول من هنالك، يمر جنوباً ويبقى صفين في غربيه. ثم ينعطف شرقاً وينقسم بشعوب فيمر بعضها بالكوفة، وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين، وتخرج جميعاً في جنوب الجزء إلى الإقليبم الثالث، فيغوص هنالك في شرق الحيرة والقادسية. ويخرج الفرات من الرحبة مشرقاً على سمته إلى هيت من شمالها يمر إلى الزاب والأنبار من جنوبهما، ثئم يصب في دجلة عند بغداد. وأما نهردجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمر مشرقاً على سمته ومحاذياً لجبل السلسلة المتصل بجبل العراق على سمته فيمر بجزيرة ابن عمر على شمالها، ثم بالموصل كذلك وتكريت، وينتهي إلى الحديثة فينعطف جنوباً وتبقى الحديثة في شرقه والزاب الكبير والصغير كذلك، ويمر على سمته جنوباً وفي غرب القادسية إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات، ثم يمر جنوباً على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الأقليم الثالث فتنتشر هنالك شعوبه وجداوله، ثم يجتمع ويصب هنالك في بحر فارس عند عبادان. وفيما بين نهر الدجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة. ويختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشرقية الشمالية منه وينتهي إلى بلاد النهروان قبالة بغداد شرقاً ثم ينعطف جنوباً، ويختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثالث. ويبقى ما بين هذا النهر وبين جبل العراق والأعاجم بلاد جلولاء، وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة. وأما القطعة الغربية من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرقاً إلى آخر الجزء ويسمى جبل شهرزور ويقسمها بقطعتين. وفي الجنوب من هذه القطعة الصغرى بلد خونجان في الغرب والشمال عن أصبهان، وتسمى هذه القطعة بلد الهلوس، وفي وسطها بلد نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غرباً عند ملتقى الجبلين، والدينور شرقاً عند آخر الجزء. وفي القطعة الصغرى الثانية طرف من بلاد أرمينية قاعدتها المراغة، والذي يقابلها من جبل العراق يسمى باريا وهو مساكن للأكراد، والزاب الكبير والصغير الذي على دجلة من ورائه. وفي آخر هذه القطعة من جهة الشرق بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبندقان. وفي الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر.

وفي الجزء السابع من هذا الإقليم من غربه وجنوبه معظم بلاد الهلوس، وفيها همذان وقزوين وبقيتها في الإقليم الثالث وفيها هنالك أصبهان، ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها ويمر بالإقليم الثالث، ثم ينعطف من الجزء السادس إلى الإقليم الرابع ويتصل بجبل العراق في شرقيه الذي مر ذكره هنالك، وأنه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشرقية. ويهبط هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثالث إلى جهة الشمال، ويخرج إلى هذا الجزء السابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته هنالك قاشان ثم قم، وينعطف في قرب النصف من طريقه مغرباً بعض الشيء، ثم يرجع مستديراً فيذهب مشرقاً ومنحرفاً إلى الشمال، حتى يخرج إلى الإقليم الخامس، ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الري في شرقيه، ويبدأ من منعطفه جبل آخر يمر غرباً إلى آخر الجزء، ومن جنوبه من هنالك قزوين،، ومن جانبه الشمالي وجانب جبل الري المتصل معه ذاهباً إلى الشرق والشمال إلى وسط الجزء، ثم إلى الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر طبرستان. ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء، في نحو النصف من غربه إلى شرقه، ويعترض عند جبل الري. وعند انعطافه إلى الغرب جبل متصل يمر على سمته مشرقاً وبانحراف قليل الجنوب حتى يدخل في الجزء الثامن من غربه. ويبقى بين جبل الري وهذا الجبل من عند مبدئهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين، ومنها بسطام. ووراء هذا الجبل قتطعة من هذا الجزء فيها بقية المفازة التي بين فارس وخراسان وهي في شرقي قاشان، وفي آخرها عند الجبل بلد استراباذ. وحافات هذا الجبل من شرقيه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان. ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثم مرو الشاهجان آخر الجزء. وفي شماله وشرقي جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء شرقاً. وكل هذه تحت الجبل. وفي الشمال عنها بلاد نسا، ويحيط بها عند زاوية الجزأين الشمالي والشرقي مفاوز معطلة.
وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم وفي غربيه نهر جيحون ذاهباً من الجنوب إلى الشمال. ففي عدوته الغربية رم وآمل من بلاد خراسان، والظاهرية والجرجانية من بلاد خوارزم. ويحيط بالزاوية الغربية الجنوبية منه جبل استراباذ المعترض في الجزء السابع قبله، ويخرج في هذا الجزء من غربيه ويحيط بهذه الزاوية، وفيها بقية بلاد هراة، ويمر الجبل في الإقليم الثالث بين هراة والجوزجان حتى يتصل بجبل البتم كما ذكرناه هنالك. وفي شرقي نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد بخارى ثم بلاد الصغد وقاعدتها سمرقند ثم بلاد أسروشنة ومنها خجندة آخر الجزء شرقاً. وفي الشمال عن سمرقند وأشروسنة أرض إيلاق. ثم في الشمال عن إيلاق أرض الشاش إلى آخر الجزء شرقاً، ويأخذ قطعة من الجزء التاسع في جنوب تلك القطعة بقية أرض فرغانة، ويخرج من تلك القطعة التي في الجزء التاسع نهر الشاش يمر معترضاً في الجزء الثامن إلى أن ينصب في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثامن في شماله إلى الإقليم الخامس. ويختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التاسع من الإقليم الثالث من تخوم بلاد التبت، ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التاسع نهر فرغانة. وعلى سمت نهر الشاش جبل جبراغون، يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقاً ومنحرفاً إلى الجنوب حتى يخرج إلى الجزء التاسع محيطاً بأرض الشاش، ثم ينعطف في الجزء التاسع فيحيط بالشاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثالث. وبين نهر الشاش وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب. وبينه وبين أرض بخارى وخوارزم مفاوز معطلة. وفي زاوية هذا الجزء من الشمال والشرق أرض خجندة وفيها بلد إسبيجاب وطراز.
وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في غربيه بعد أرض فرغانة والشاش أرض الخزلجية في الجنوب وأرض الخليجية في الشمال. وفي شرق الجزء كله أرض الكيماكية. ويتصل في الجزء العاشر كله إلى جبل قوقيا آخر الجزء شرقاً وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك، وهو جبل يأجوج ومأجوج. وهذه الأمم كلها من شعوب الترك، انتهى.
الإقليم الخامس

الجزء الأول منه أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه وشرقه لأن البحر المحيط بهذه الجهة الغربية دخل في الإقليم الخامس والسادس والسابع عن الدائرة المحيطة بالإقليم. فأما المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلث متصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيتها. ويحيط بها البحر من جهتين كأنهما ضلعان محيطان بزاوية المثلث ففيها من بقية غرب الأندلس سعيور على البحر عند أول الجزء من الجنوب والغرب، وسلمنكة شرقاً عنها، وفي جوفها سمورة. وفي الشرق عن سلمنكة آبلة آخر الجنوب، وأرض قشتالة شرقاً عنها، وفيها مدينة شقونية. وفي شمالها أرض ليون وبرغشت، ثم وراءها في الشمال أرض جليقية إلى زاوية القطعة. وفيها على البحر المحيط في آخر الضلع الغربي بلد سنتياقو، ومعناه يعقوب. وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلية عند آخر الجزء في الجنوب وشرقاً عن قشتالة. وفي شمالها وشرقها وشقة وينبلونة على سمتها شرقاً وشمالاً. وفي غرب ينبلونة قشتالة ثم ناجزة فيما بينها وبين برغشت. ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضلع الشمالي الشرقي منه وعلى قرب، ويتصل به وبطرف البحر عند ينبلونة في جهة الشرق الذي ذكرنا من قبل أن يتصل في الجنوب بالبحر الرومي في الإقليم الرابع، ويصير حجراً على بلاد الأندلس من جهة الشرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونية من أمم الفرنج. فمنها من الإقليم الرابع برشلونة وأربونة على ساحل البحر الرومي، وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشمال. ومنها من الإقليم الخامس طلوشة شمالاً عن خريدة. وأما المنكشف في هذا الجزء من جهة الشرق فقطعة على شكل مثلث مستطيل زاويته الحادة وراء البرنات شرقاً. وفيها على البحر المحيط على رأس القطعة التي يتصل بها جبل البرنات بلد نيونة. وفي آخر هذه القطعة في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء. وفي الجزء الثاني في الناحية الغربية منه أرض غشكونية، وفي شمالها أرض بنطو وبرغشت، وقد ذكرناهما. وفي شرق بلاد غشكونية في شمالها قطعة أرض من البحر الرومي دخلت في هذا الجزء كالضرس مائلة إلى الشرق قليلاً، وصارت بلاد غشكونية في غربها داخلة في جون من البحر. وعلى رأس هذه القطعة شمالاً بلاد جنوة وعلى سمتها في الشمال جبل نيت جون. وفي شماله وعلى سمته أرض برغونة. وفي الشرق عن طرف جنوة الخارج من البحرالرومي طرف آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البر في البحر في غربيه نيس وفي شرقيه مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم. وفيها من المباني الضخمة والهياكل الهائلة والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار. ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروشاً قاعه ببلاط النحاس، وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين وهما مدفونان بها. وفي الشمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء. وعلى هذا الطرف من البحر الذي في جنوبه رومة بلاد نابل في الجانب الشرقي منه متصلة ببلد قلورية من بلاد الفرنج. وفي شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثالث مغرباً ومحاذياً للشمال من هذا الجزء، وانتهى إلى نحو الثلث منه، وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط. وفي شماله بلاد أنكلاية في الإقليم السادس.

وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في غربيه بلاد قلورية بين خليج البنادقة والبحر الرومي يحيط بها من شرقيه يوصل من برها في الإقليم الرابع في البحر الرومي في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشمال إلى هذا الجزء. وفي شرقي بلاد قلورية بلاد أنكيردة في جون بين خليج البنادقة والبحر الرومي، ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرابع وفي البحر الرومي. ويحيط به في شرقيه خليج البنادقة من البحر الرومي ذاهباً إلى سمت الشمال، ثم ينعطف إلى الغرب محاذياً لآخر الجزء الشمالي. ويخرج على سمته من الإقليم الرابع جبل عظيم يوازيه ويذهب معه في الشمال، ثصم يغرب معه في الإقليم السادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليه في بلاد أنكلاية من أمم اللمانيين كما نذكر. وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما داما ذاهبين إلى الشمال بلاد البنادقة، فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثم بلاد الألمانيين عند طرف الخليج.
وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرومي خرجت إليه من الإقليم الرابع مضرسة كلها بقطع من البحر. ويخرج منها إلى الشمال وبين كل ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما، وفي آخر الجزء شرقاً قطع من البحر. ويخرج منها إلى الشمال خليج القسطنطينية، يخرج من هذا الطرف الجنوبي ويذهب على سمت الشمال إلى أن يدخل في الإقليم السادس، وينعطف من هنالك عن قرب مشرقاً إلى بحر نيطش في الجزء الخامس وبعض الرابع قبله، والسادس بعده من الإقليم السادس كما نذكر. وبلد القسطنطينية في شرقي هذا الخليج عند آخر الجزء من الشمال. وهي المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة وبها من آثار البناء والضخامة ما كثرت عنه الأحاديث. والقطعة التي ما بين البحر الرومي وخليج القسطنطينية من هذا الجزء، وفيها بلاد مقدونية التي كانت لليونانيين ومنها ابتداء ملكهم. وفي شرقي هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس، وأظنها لهذا العهد مجالات للتركمان، وبها ملك ابن غثمان وقاعدته بها بورصة وكانت من قبلهم للروم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتركمان.
وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم من غربيه وجنوبه أرض باطوس، وفي الشمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمورية، وفي شرقي عمورية نهر قباقب الذي يمد الفرات، يخرج من جبل هنالك ويذهب في الجنوب حتى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء الثاني إلى ممره في الإقليم الرابع. وهنالك في غربيه آخر الجزء في مبدإ نهر سيحان ثم نهر جيحان غربيه الذاهبين على سمته وقد مر ذكرهما. وفي شرقه هنالك مبدأ نهر الدجلة الذاهب على سمته، وفي موازاته حتى يخالطه عند بغداد. وفي الزاوية التي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميافارقين. ونهر قباقب الذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين: إحداهما غربية جنوبية وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء شمالاً، ووراء الجبل الذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمورية كما قلناه، والقطعة الثانية شرقية شمالية على الثلث في الجنوب منها مبدأ الدجلة والفرات، وفي الشمال بلاد البيلقان متصلة بأرض عمورية من وراء جبل قباقب، وهي عريضة، وفي آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة. وفي الزاوية الشرقية الشمالية قطعة من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية.

وفي الجزء السادس من هذا الإقليم في جنوبه وغربه بلاد أرمييية متصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشرق. وفيها بلد أردن في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل. وفي شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة، وفي جنوبها بانحراف إلى الشرق مدينة أرمينية. ومن هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع. وفيها هنالك بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى، وقد مر ذكره في الجزء السادس منه. ويتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء وفي الإقليم الرابع قبله من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان، وآخرها في هذا الجزء شرقاً بلاد أردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع، ويسمى بحر طبرستان. وعليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم التركمان. ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس، فتمر فيه منعطفة ومحيطة ببلد ميافارقين. ويخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد، ويتصل بجبل السلسلة في أسافل الشام، ومن هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر. وبين هذه الجبال الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين. ففي جنوبيها بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان، وعليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب. وتتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد أرمينية. وبينهما في الشرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة إلى بحر طبرستان. وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها. وفي زاوية الجزء كله قطعة أيضاً من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية، وقد مر ذكره. ويحف بهذه القطعة من بحر نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة وتتصل بلاد السرير بين جبل الأبواب والجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر. وعند آخرها مدينة صول. ووراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء من بحر طبرستان وآخر الجزء شمالاً.
والجزء السابع من هذا الإقليم غربيه كله مغمور ببحر طبرستان، وخرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان، وجبال الديلم إلى قزوبن. وفي غربي تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الإقليم الرابع. ويتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقيه أيضاً. وينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في هذا البحر. ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغز من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن، ويذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس، ثم ينعطف مع طرفه ويفارقه ويسمى هنالك جبل سياه، ويذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم السادس، ثم يرجع جنوباً إلى الجزء الساس من الإقليم الخامس. وهذا الطرف منه هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السرير وأرض الخزر. واتصلت بأرض الخزر في الجزء السادس والسابع حافات هذا الجبل المسمى جبل سياه كما سيأتي.
والجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم الترك، وفي الجهة الجنوبية الغربية منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر جيحون، دورها ثلاثمائة ميل، ويصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات. وفي الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل، وماؤها حلو. وفي الناحية الشمالية من هذا لجزء جبل مرغار، ومعناه جبل الثلج لأنه لا يذوب فيه، وهو متصل بآخر الجزء. وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون وبه سميت ،البحيرة. وينجلب منه ومن جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا تنحصر عدتها فتصب فيها من الجانبين.

وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز وشرق بلاد الكيماكية. ويحف به من جهة الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج، يعترض هنالك من الجنوب إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر، وقد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله واحتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشمال، ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما دون نصفه، وأحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية، ثم خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس، فذهب فيه مغرباً إلى آخره، وبقيت في جنوبيه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية، ثم خرج إلى الجزء التاسع في شرقيه وفي الأعلى منه وانعطف قريباً إلى الشمال وذهب على سمته إلى الجزء التاسع من الإقليم السادس. وفيه السد هنالك كما نذكره. وبقيت منه القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب، وهي من بلاد يأجوج ومأجوج.
وفي الجزء العاشرمن هذ الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متصلة فيه كله إلا قطعة من البحر المحيط غمرت طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله، وإلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب والغرب جبل قوقيا حين مر فيه، وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإقليم السادس فالجزء الأول منه غمر البحر أكثر من نصفه واستدار شرقاً مع الناحية الشمالية، ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب وانتهى قريباً من الناحية الجنوبية، فانكشفت قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطرفين، وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه، وينفسح طولاً وعرضاً، وهي كلها أرض بريطانية. وفي بابها بين الطرفين، وفي الزاوبة الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلة ببلاد بنطو التي مر ذكرها في الجزء الأول والثاني من الإقليم الخامس.
والجزء الثاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربه وشماله، فمن غربه قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشمالي من شرق أرض بريطانية في الجزء الأول، واتصلت بها القطعة الأخرى في الشمال من غربه إلى شرقه، وانفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء وفيه هنالك قطعة من جزيرة إنكلترة، وهي جزيرة عظيمة متسعة مشتملة على مدن وبها ملك ضخم وبقيتها في الإقليم السابع. وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية، وبلاد أفلادش متصلين بها، ثم بلاد إفرنسية جنوباً وغرباً من هذا الجزء، وبلاد برغونية شرقاً عنها، وكلها، لأمم الأفرنجة، وبلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء. فجنوبه بلاد أنكلاية ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة وشطونية. وعلى قطعة البحر المحيط في الزاوية الشمالية الشرقية أرض أفريرة وكلها لأمم اللمانيين.
وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشمال. وفي الناحية الشرقية بلاد أنكوية في الجنوب وبلاد بلونية في الشمال، يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من الجزء الرابع ويمر مغرباً بانحراف إلى الشمال، أن يقف في بلاد شطونية آخر النصف الغربي.
وفي الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية. وتحتها في الشمال بلاد الروسية. وفصل جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى أن يقف في النصف الشرقي. وفي شرق أرض جثولية بلاد جرمانية وفى الزاوية الجنوبية.الشرقية أرض القسطنطينية، ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي، وعند مدفعه في بحر نيطش، فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية من هذا الجزء، ويمدها الخليج وبينهما في الزاوبة بلد مسيناه.

وفي الجزء الخامس من الإقليم السادس، ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من الخليج في آخرالجزء الرابع، ويخرج على سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله، وفي بعض السادس طى طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدئه في عرض ستمائة ميل. ويبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها بر مستطيل في غربة هرقلية على ساحل بحر نيطش على متصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس. وفي شرقه بلاد اللانية وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش. وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان وشرقاً بلاد الروسية وكلها على ساحل هذا البحر. وبلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع ومن غربها في الجزء الرابع من هذا الإقليم.
وفي الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش، وينحرف قليلاً إلى الشمال ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية، وفي جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس. وفي الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر. وفي شرقها أرض برطاس، وفي الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار. وفي الزاوية الشرقية الجنولية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياه كوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده، ويذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز في هذه القطعة، ويدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس، فيتصل هنالك بجبل الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر.
وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازه جبل سياه بعد مفارقته بحر طبرستان. وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً.
وفي شرقها القطعة من بحر طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها. ووراء جبل سياه في الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس. وفي الناجية الشرقية من الجزء أرض شحرب ويخناك وهم أمم الترك.
وفي الجزء الثامن والناحية الجنوبية منه كلها أرض الجولخ من الترك في الناحية الشمالية غرباً، والأرض المنتنة، وشرق الأرض التي يقال إن يأجوج ومأجوج خرباها قبل بناء السد. وفي هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم وممره في بلاد الترك ومصبه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه. وهو كثير الإنعطاف يخرج من جبل في الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمر على سمت الغرب إلى آخر السابع من هذا الإقليم، فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع، فيمر في طرفه بين الجنوب والمغرب، فيخرج في الجزء السادس من السابع ويذهب مغرباً غير بعيد، ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب، ويرجع إلى الجزء السادس من الإقليم السادس، ويخرج منه جدول يذهب مغرباً ويصب في بحر نيطش في ذلك الجزء، ويمر هو في قطعة بين الشمال والشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من الإقليم، السادس، ثم ينعطف ثالثة إلى الجنوب، وينفذ في جبل سياه ويمر في بلاد الخزر ويخرخ إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه، فيصب هنالك في بحر طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية.

وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ من الترك وهم قفجاق، وبلاد الشركس منهم أيضاً. وفي الشرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط، وقد مر ذكره، يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال، ويفارقه مغرباً وبانحراف إلى الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس، فيرجع إلى سمته الأول حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب، وفي وسطه ههنا السد الذي بناه الأسكندر، ثم يخرج على سمته إلى الإقليم السابع وفي الجزء التاسع منه، فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله، ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع إلى الجزء الخامس منه، فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه. وفي وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الأسكندر كما قلناه. والصحيح من خبره في القرآن، وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً، وبعث سلاماً الترجمان، فوقف عليه، وجاء بخبره، ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا.
وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجرج متصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشمال وعريضة بعض الشيء في الشرق.
الإقليم السابع والبحر المحيط قد غمر عامته من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج.
فالجزء الأول والثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرة إنكلترة التي معظمها في الثاني وفي الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى الشمال، وبقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثاني من الإقليم السادس وهي مذكورة هناك. والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلاً. ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة مستطيلة من الغرب إلى الشرق.
والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتسع في شرقها، وفيها هنالك متصل أرض فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس وأنها في شماله وفي القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء. ثم في الجانب الغربي منها مستديرة فسيحة، وتتصل بالبر من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونية.
وفي شمالها جزيرة بوقاعة مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق.
والجزء الرابع من هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر المحيط من المغرب إلى المشرق، وجنوبه منكشف، وفي غربه أرض قيمازك من الترك، وفي شرقها بلاد طست، ثم أرض رسلاندة إلى آخر الجزء شرقاً، وهي دائمة الثلوج وعمرانها قليل - ويتصل ببلاد الروسية في الإقليم السادس وفي الجزء الرابع والخامس منه.
وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية وينتهي في الشمال إلى قطعة من البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل.
وفي الناحية الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من الإقليم السادس، وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء، وهي عذبة تنجلب إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشمال. وفي شمال الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض التتارية من التركمان إلى آخره.
وفي الجزء السادس من الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية، وفي وسط الناحية بحيرة عثور عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية، وهي جامدة دائماً لشدة البرد إلا قليلاً في زمن الصيف. وفي شرق بلاد القمانية بلاد الروسية. التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء الخامس منه، وفي الزاوية، الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس. وفي الناحية الشرقية الشمالية من الجزء السادس منه، وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل، القطعة الأولى إلى الجنوب كما مر. وفي آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا متصلاً من غربه إلى شرقه.
وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية أرض يخناك من أمم الترك.

وكان مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من الجزء السادس قبله، وفي الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء. ويخرج إلى الإقليم السادس من فوقه. وفي الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً. وفي آخر الجزء من جهة الشمال جبل قوقيا المحيط متصلاً من غربه إلى شرقه.
وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم في الجنوبية الغربية منه متصل الأرض المنتنة. وفي شرقها الأرض المحفورة، وهي من العجائب: خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار والنيران في الليل تضيء وتخفى. وربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال. وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد. وفي آخر الشمال منه جبل قوقيا متصلاً من الشرق إلى الغرب.
وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق، فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس ويمر معترضاً فيه. وفي وسطه هنالك سد يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه. وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من شرقه وشماله.
والجزء العاشر غمر البحر جميعه.
هذا آخر الكلام على الجغرافيا وأقاليمها السبعة " وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات للعالمين " .
المقدمة الثالثة

في المعتدل من الأقاليم والمنحرف
وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم

قد بينا أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال. ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد، وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً. فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الإعتدال، والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الإعتدال. والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات، وجمبع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة الاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساما وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم. قال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله. وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم، يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة، المنمقة بالصناعة، ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين، ويذهبون في ذلك إلى الغاية. وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير. ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين. ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم. وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين، وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين، ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة. ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات. وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال، مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم. فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود، وأكثرهم عرايا من اللباس، وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوبن مائلة إلى الانحراف. ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم. حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض، ويأكلون العشب، وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً، وكذا الصقالبة. والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم، ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً، فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة، إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر، مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد، ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد، يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة، ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً، فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم: " ويخلق ما لا تعلمون " ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني، فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا، فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها، فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر، وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه، وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص. ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا

غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات. وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب، فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة، قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر. ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس. شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال، إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها، فيضعف الحر فيها، ويشتد البرد عامة الفصول، فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة. ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور. وتوسطت بينهما الأقاليم الثلاثة: الخامس والرابع والثالث، فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر. والرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه. فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم. وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التوسط، لميل هذا قليلاً إلى الجنوب الحار، وهذا قليلاً إلى الشمال البارد، إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف. وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم. فالأول والثاني للحر والسواد، والسابع والسادس للبرد والبياض. ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة والزنج والسودان، أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد، وإن كان اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة واليمن، والزنج بمن تجاه بحر الهند. وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره. وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض، فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام. وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب، تسود ألوان أعقابهم. وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء. قال ابن سينا في أرجوزته في الطب:
با لزنج حر غير الأجسادا ... حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بضاضا

وأما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء. فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده. ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والطغرغر والخزر واللان، والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج، أسماء متفرقة وأجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة. وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة، أهل الاعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم، وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرياسات والملك، فكانت فيهم النبوات والفلك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة. وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم، مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين. ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب: فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم، فتكلفوا في تلك الحكاية الواهية، وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام. وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد، إنما هو إخبار عن الواقع، لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط، وليس كذلك: فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس، ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان، ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعزب، ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم. فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بإنهما من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب، إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات، وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها: " سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً " والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم، وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم.
المقدمة الرابعة

في أثرالهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر. والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثفه، وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته. ولهذا يجد المنتشي من الفرح السرور ما لا يعبر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه، فيتفشى الروح وتجيء طبيعة الفرح. وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك، حدث لهم فرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشىء عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم، وفي أصل تكوينهم، كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً، فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً، ويجيء الطيش على أثر هذه، وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية، لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة. وقد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها، لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول.

واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر، فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً، منها كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مآكلهم من أسواقهم. ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب، حتى إن الرجل منهم ليدخر قهوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم وللبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء. والله الخلاق العليم.
وقد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم، وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس ويعقوب بن أسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم، وما نشأ عنه من ضعف عقولهم. وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "
المقدمة الخامسة

في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع
وما ينشأ عن ذلك من الأثار في أبدان البشر وأخلاقهم اعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش، بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش، من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطينة ووفور العمران، وفيها الأرض الحرة التي لا تنبت زرعاً ولا عشباً بالجملة، فسكانها في شظف من العيش: مثل أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثمين من صنهاجة الساكنين بصحراء المغرب وأطراف الرمال فيما بين البربر والسودان، فإن هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة، وإنما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللحوم، ومثل العرب أيضاً الجائلين في القفار، فإنهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها، وعلى الإقلال لقلة وجدهم، فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أودونها فضلاً عن الرغد والخصب، وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوضهم من الحنطة أحسن معاض. وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالاً في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش: فألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف، وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات. هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم. فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه، وبين الملثمين وأهل التلول. يعرف ذلك من خبره والسبب في ذلك واللة أعلم إن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد أقطارها في غير نسبة، ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه، وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من ابخرتها الرديئة، فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة. واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدة مداركها. فالغزال أخو المعز والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر، والبون بينها ما رأيت. وما ذااك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره، والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء. واعتبر ذلك فى الأدميين أيضاً: فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والأدم والفواكه يتصف أهلها غالباً بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم. وهذا شأن البربر المنغمسين في الأدم مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة، مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسون في الأدم والبر مع أهل الأندلس المفقودبأرضهم السمن جملة، وغالب عيشهم الذرة، فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول

وخفة الأجسام وقبول التعليم مالايوجد لغيرهم. وكذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار. فإن أهل الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش، إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها، وعامة مآكلهم لحوم الضآن والدجاج، ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته، فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الرديئة. فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البادية المخشنين في العيش. وكذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لافضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة.
واعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة، فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل الترف والخصب. بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار لما يعمها من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر. ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي. وكذلك نجد حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفاً باختلاف حالها في الترف والخصب. وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية وأهل الحواضر والأمصار، إذا نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم، مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا، لا مثل العرب أهل القفر والصحراء، ولا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر، ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير والزيت، وأهل الأندلس الذين غالب عيشهم الذرة والزيت، فإن هؤلاء وإن اخذتهم السنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر. والسبب في ذلك والله أعلم أن المنغمسين في الخصب، المتعودين للأدم والسمن خصوصاً، تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها، فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعي اليبس والانكماش، وهو عضو ضعيف في الغاية، فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنه من المقاتل. فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق. وأما المتعودون للعيمة وترك الأدم والسمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفة عند حدها من غير زيادة، وهي قابلة لجميع الأغذية الطبيعية، فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس ولا انحراف، فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل.

وأصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة. فمن عود نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفاً وصار الخروج عنه والتبدل به داء، ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم واليتوع وما أفرط في الانحراف. فأما ما وجد فيه التغذي والملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة. فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد حصل له ذلك غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك. وكذا من عود نفسه الصبرعلى الجوع والاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضات، فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها. والسب في ذلك العادة، فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة التلون، فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعية لها. وما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة، وقطع عنها الغذاء بالكلية، فإنه حينئذ ينحسم المعي ويناله المرض الذي يخشى معه الهلاك. وإذا كان ذلك القدر تدريجاً ورياضة بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً، كما يفعله المتصوفة، فهو بمعزل عن الهلاك. وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة. فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعة خيف عليه، الهلاك وإنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج. ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً وصالاً وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين، وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصح شأنهما، واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتت.ا ورأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار، ويكون ذلك غذاءه، واستدام على ذلك خمس عشرة سنة كثير، ولا يستنكر ذلك.
واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه، لمن قدر عليه أو على منها، وأن له أثراً في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه، واعتبر بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم. فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك. وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذون بألبان الإبل ولحومها أيضاً، مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل، وتنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ، فلا يطرقها الوهن ولا الضعف، ولا ينالها من مضار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة، كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيرن، ولا ينال أمعاءهم منها ضرر. وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقه أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين، لما فيها من السمية. ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم. وأمثال ذلك كثير، فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثاراً في الأبدان، لأن الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه، فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم. والله محيط بعلمه.
المقدمة السادسة

في أصناف المدركين للغيب من البشر
بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا

اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يعرفونهم بمصالحهم، ويحرضونهم على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلونهم على طريق النجاة. وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم. قال صلى الله عليه وسلم " ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله " . واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق، لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة.
وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء، وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ثم يتنزل إلى المدارك البشرية: إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله. ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه. قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوحى: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول " . ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه. ففي الحديث: " كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة: " كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً " وقال تعالى: " إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " . ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون: له رئي أو تابع من الجن. وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال: " ومن يضلل الله فما له من هاد " .
ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطورعلى التنزه عن المذمومات والمنافرة لها، وكأنها منافية لجبلته. وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة، فجعلها في إزاره، فانكشف، فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم، بل نزهه الله عن ذلك كله حتى أنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة. فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم، فقيل له في ذلك فقال: " إني اناجي من لا تناجون " .
وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره، فقالت: " إجعلني بينك وبين ثوبك " فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت: " إنه ملك وليس بشيطان " ، ومعناه إنه لا يقرب النساء. وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها، فقال البياض والخضرة، فقالت إنه الملك، يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة، والسواد من ألوان الشر الشياطين وأمثال ذلك.
ومن علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف. وقد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك أبو بكر، ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه. وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش، وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله، فكان فيما سأل أن قال: بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه، فقال: " إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين " . والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة. فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبوته، ولم يحتج إلى معجزة. فدل على أن ذلك من علامات النبوة.

ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم. وفي الصحيح: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وفي رواية أخرى في ثروة من قومه، استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: " كيف هو فيكم؟ " قال أبو سفيان: " هو فينا ذو حسب، فقال هرقل: والرسل تبعث في أحساب قومها. ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته.
ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم، وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم. وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف.
فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي، وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم. وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله، وهو أن يستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه. فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق، وتكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية. فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي، ولذلك كان التحدي جزءاً منها. وعبارة المتكلمين صفة، وهو واحد، لأنه معنى الذاتي عندهم.
والتحدي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسحر، إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق، فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً. وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبوة. ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحق وغيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبوة عند التحدي بالولاية. وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحى بغير مايتحدى به النبي، فلا لبس، على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً، وربما حمل على إنكار أن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه.
وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة، فلا فرق.
وأما وقوعها على يد الكاذب تلبيساً فهو محال. أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية، فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة، والهداية ضلالة، والتصديق كذباً، واستحالت الحقائق، وانقلبت صفات النفس، وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً. وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله.
وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي، ولو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الأسباب، والشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار، وأن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية، منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك. والخارق عندهم يقع للنبي سواء أكان للتحدي أو لم يكن، وهو شاهد بصدقه من حيث دلالتها على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق. فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين، ولا يكون التحدي جزءاً من المعجزة، ولم يصح فارقاً لها عن السحر والكرامة. وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه، والساحر على الضد فأفعاله كلها شر، وفي مقاصد الشر. وفارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء، والنفوذ في الأجسام الكثيفة، وإحياء الموتى، وتكليم الملائكة والطيران في الهواء، وخوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء. ويأتي النبي بجميع خوارقه، ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء. وقد قرر ذلك المتضوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم.

وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم " ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتيته وحياً أوحي إلي. فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " ، يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة.
تفسير حقيقة النبوة ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثيرمن المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب فنقول: اعلم أرشدنا الله وإياك، أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته.
وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني. وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً، ويستحيل بعض الأوقات.
والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضهما ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش، وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الانسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا.
ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعة: ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر، وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك، تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام. فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها، وذلك هو النفس المدركة والمحركة. ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها الإدراك والحركة، ويتصل بها أيضاً، ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً، وهو عالم الملائكة. فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية الى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد، ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها، شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه. فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل: فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية، فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان. وهذا ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض.

ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنفس ولقواها، أما الفاعلية فالبطش باليد والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعاً. وأما المحركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة، فقوى لظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن، وأوله الحس وهو قةة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر، لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ: مقدمة للأولى، ومؤخرة للثانية. ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب. والحافظة لإيداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة، وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ: أوله للأولى، ومؤخره للأخرى. ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر. وآلته البطن الأوسط من الدماغ، وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل، فتحرك النفس بها دائماً لماركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية، وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملإ الأعلى الروحاني. وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية. فهي متحركة دائماً ومتوجهة نحو ذلك. وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب، بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك.
أصناف النفوس البشرية والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني، فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة، وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن، وكلها خيالي منحصر نطاقه، إذ هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسد فسد ما بعدها. وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني. وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم.
وصنف متوجة بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية، وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها. وهذه مدارك العلما الأولياء أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ.
وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة.
الوحي

وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي، فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من لقصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النةع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة. فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه، وعاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه، فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك، والرجوع إلى المدارك البشرية، وفهمه ما ألقي عليه كله كأنة في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، لأنه ليس في زمان، بل كلها تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحياً، لأن الوحي في اللغة الإسراع.
واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غيرالمرسلين على ما حققوه، والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأولى. وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام، وقال وكيف يأتيك الوحي، فقال: " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول. وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الإتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية بالسمع وصعب ما سواه. وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية، يأتي على جميعها وخصوصاً الأوضح منها وهو إدراك البصر. وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام، وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه، فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي، المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم، والكلام يساوقه الوعي، فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد.
واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة، وشدة قد أشار إليها القرآن، قال تعالى: " إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " وقالت عائشة: " كان مما يعاني من التنزيل شدة، وقالت: " كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً " . ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف. وسبب ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر. وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله: " فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء، وكذا ثانية وثالثة " كما في الحديث. وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله. ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة. وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك، وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته، بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت، وينزل الباقي في حين آخر. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول، بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات. والله المرشد للصواب. هذا محصل أمر النبوة.
الكهانة

وأما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية. وذلك أنه وقد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك، وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات، ولا من الأفعال البدنية كلاماً اوحركة ولا بأمر من الأمور، إنما هو انسلاخ من البشريه إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر.
وإذا كان كذلك، وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية، فيعطي التقسيم العقلي، وإن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل، لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه، وشتان مابينهما. فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته حركتها الفكرية بالإردة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة، لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة، كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان، فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له. وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة. ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات.
ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات، فتنفذ فيها نفوذاً تاماً أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائماً. ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان. وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص، فيهجس في قلبه عن تلك الحركة، والذي يشيعها من ذلك الأجنبي، ما يقذفه على لسانه صدق ووافق الحق، وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به.
وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه، وتمويهاً على السائلين. وأصحاب هذا السجع هم المخصصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله: " هذا من سجع الكهان " . فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة. وقد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: يأتيني صادقاً وكاذباً فقال: خلط عليك الأمر! يعني أن النبوة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي. والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه، والتبست بالإدراك الذي توجه إليه، فصار مختلطاً بها، وطرقه الكذب من هذه الجهة، فامتنع أن تكون نبوة. وإنما قلنا أن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخف من سائر المغيبات من المرئيات والمسموعات. وتدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال والإدراك، والبعد فيه عن العجز بعض الشيء.
وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبوة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة، وأن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن، والكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين، فبطلت الكهانة من يومئذ. ولا يقوم من ذلك دليل، لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه. وأيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة، ولم يمنعوا مما سوى ذلك. وأيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة، كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس، لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب.

وقد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة، ثم تنقطع، وهكذا مع كل نبوة وقعت، لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه، وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النبوة التي دل عليها، ونقض ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة، وهو معنى الكاهن على ما قررناه. فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص، ويقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً. فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله، وانقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة، فلايوجد منها شيء بعد. وهذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره، وهو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئة الخاصة، ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً، لا أنه يقتضي ذلك الأثر ناقصا كما قالوه.
ثم أن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته، لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة كما لكل إنسان من أمر النوم. ومعقولية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم. ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم، فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ، وكذا وقع لابن صياد ولمسيلمة وغيرهم. فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان، كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان.
الرؤيا وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها. وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال. والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة ومداركه، حتى تصيرذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية. إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره. فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن: ومنه خاص كالذي للأولياء، ومنه عام للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا.

وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي، وهو عندما يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم، شبهاً بيناً، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير. فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وفي رواية ثلاثة وأربعين، وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب. وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة، ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين، فكلام بعيد من التحقي. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء، مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم، إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاماً في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة. ففطر اللة البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات، فقال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا وما المبشرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له.

وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك، وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني، وهو بخار لطيف مركزه بالتجوبف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره. وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية. ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده، وتت أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به لما اقتضتة حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف، ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية، صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته. وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين، إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف. فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيواني إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل. فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ورجع إلى القوى الباطنة، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة، تمثل منها بالتركيب والتحليل صور خيالية، وأكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً. ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة، وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية، فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ. ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان " . وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه: فالجلي من الله، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك، وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل والشيطان ينبوع الباطل. هذه حقيقة الرؤيا وما يسببها ويشيعها من النوم وهي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الأناسي رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة، وحصل له على القطع أن النفس مدركه للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال، لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. والله الهادي إلى الحق بمنه وفضله.
الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه، وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه. وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه، ويسمونها الحالومية. وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام، وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي، تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ويذكر حاجته، فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم.

وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره، فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام، فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه. وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي. وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها، وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا، فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلاً على إيقاع المستعد له. فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء، فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله. والله الحكيم الخبير.
فصلثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها، بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، ولا يستدلون عليه بأثرمن النجوم ولا غيرها، إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها. وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها. وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب. وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.
ونحن الآن نتكلم على هذه الإدراكات كلها، ونبتدىء منها بالكهانة، ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها. ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها. وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل بالبدن وأحواله. وهذا أمر مدرك لكل أحد. وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل. فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية. ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بوررود مدركاتها المحسوسة عليها، وما تنترع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور، مرة بعد أخرى، حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل، فتتم ذاتها، وتبقى النفس كالهيولى، والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة. ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف بغيرهما. وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم يتم بعد، بل لم يتم لها انتزاع الكليات. ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك: إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية، وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني. وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن، فيرتفع حجاب البدن لحظة: إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق، أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية. فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الإتصال في الوجود كما قررناه قبل. وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر. فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً. وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه:

فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها، وأهل الطرق بالحصى والنوى، فكلهم من قبيل الكهان، إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم، لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة، وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها فى نوع واحد منها، وأشرفها البصر، فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه، وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك. بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر، ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمائم يتمثل فيه صور هي مداركهم، فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات، فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه. وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال، وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك، وهو نفساني ليس من إدراك البصر، بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف. ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها، وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد، ثم يخبر كما أدرك، ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة. وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين. والعالم أبو الغرائب.
وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان، والفكر فيه بعد مغيبه، وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أومسموع. وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية، فيبعثها في البحث مستعيناً بما رأه أو سمعه، فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلتة فيكون عنها الرؤيا. وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن، لفساد أمزجتهم غالباً وضعف الروح الحيواني فيها، فتكون نفسه غيرمستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه، وربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها، فيكون عنه التخبط. فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه، غاب عن حسه جملة، فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال. وربما نطق على لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق.
وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل، لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه. ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال، فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه، ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ ذلك الاتصال والإدراك ويدعون بذلك معرفة الغيب، وليس منه على الحقيقة.
هذا تحصيل هذه الأمور. وقد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب، فما صادف تحقيقاً ولا إصابة. ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله.
وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر. فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم. وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك. واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار، وسطيح بن مازن بن غسان، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. ومن مشهور الحكايات عنهما تأوبل رؤيا ربيعة بن مضر، وما أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم، وظهور النبوة المحمدية في قريش، ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة. وكذلك العرافون كان فى العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم، قال:
فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لطبيب
وقال الآخر:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني

فقالا شفاك اللة والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدان
وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة، وعراف نجد الأبلق الأسدي.
ومن هذه المدارك الغبية، ما يصدر لبعض الناس، عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه، بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد.
ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام، فيتكلم كأنه مجبور على النطق، وغايته أن يسمعه ويفهمه. وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك، أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه، فيخرج من ذلك الدهن، فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة. وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني.
ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة، فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها. فيحاولون ذلك بالاكتساب، ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم. وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد الهند. ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة، والأخبار عنهم في ذلك غريبة.

وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة، وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة. لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله، وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض، ولا يكون مقصودا من أول الأمر، لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله، وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب، وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم: " من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني " . فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه. وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالغرض وغير مقصود لهم. وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به، وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف. ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً، وما يقع لهم من التصرف كرامة، وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم. وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها. والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن فيكم محدثين وإن منهم عمر " . وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه: " يا سارية! الجبل " . وهو سارية بن زنيم، كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات، وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام، وكان بقربه جبل يتجهز إليه، فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه: " يا سارية! الجبل " وسمعه سارية وهو بمكانه، ورأى شخصه هنالك، والقصة معروفة. ووقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته، ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة. فقال في سياق كلامه: " وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: " إنما هي أسماء فمن الأخرى، فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية " ، فكانت جارية. وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل. ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء. إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي، حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها. والله يرزقنا الهداية، ويرشدنا إلى الحق.
فصل

ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق، مع أنهم غير مكلفين. ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب، لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب. وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم، والولاية لا تحصل إلا بالعبادة، وهوغلط، فإن فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها. وإذا كانت النفس الأنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه. وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين، وإنما فقد لهم العقل الذي ينال به التكليف، وهي صفة خاصة للنفس، وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله. وكإنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده. وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته، فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش، ولا استحالة في ذلك، ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم. ولك في تمييزهم علامات: منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما، لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة، لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف، والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً. ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم، والمجانين لا تصرف لهم.
وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه، والله المرشد للصواب.
فصلوقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب، من دون غيبة عن الحس: فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك، وآثارها في العناصر، وما يحصل من الإمتزاج بين طباعها بالتناظر، ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء. وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء، إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التأثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس. ونحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله. وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء.

ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم. ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجيه والفردية واستوائها فيهما، فكانت ستة عشر شكلاً، لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان، وإن كان الفرد فيهما في مرتبتين واحده فقط فأربعة أشكال، وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال، وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال. جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس، شأن الكواكب، وجعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية بزعمهم، وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة، وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به، واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه. إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس، وهذه إنما مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية، ولا دليل يقوم على شيء، منها. ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم، وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما، شأن الصنائع كلها. وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: " كان نبي يخط، فمن وافق خطه فذاك " . وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه، لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك بخط، ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء، فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك، أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط. وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا. وهذا معنى الحديث والله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع، ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً. ثم يطرحون النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب، فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية، ئم يولدون منها أربعة أشكال آخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي بإزائه، وما يجتمع منهما من زوج أو فرد، فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر، ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها، ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها، ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما، ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر. ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات، والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً. وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتآخرين، وهي كما رأيت تحكم وهوى. والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحس إلى عالم الروح. ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب. فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها أشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك، وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وإنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل. والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمطط ومبادىء الغيبة عن الحس، ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم. فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه.
فصل

ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية، ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس، ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون، وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة. ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص. فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو، يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك. وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً وعشرات ومئين وألوفاً. فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك. ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة، واحفظ بقية هذا وبقية هذا. ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين: فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معاً زوجين أو فردين معاً فصاحب الأقل منهما هو الغالب، وإن كان أحدهما زوجاً والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب، وإن كانا متساويين في الكمية وهما معاً زوجان فالمطلوب هو الغالب، وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب. ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما:
أرى الزوج والأفراد يسمو أقلها ... وأكثرها عند التخالف غالب
ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي ... وعند استواء الفرد يغلب طالب
ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة، وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي: " أ " الدالة على الواحد و " ي " الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبه العشرات و " ق " الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين " وش " الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف. وليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف، لأن الشين هي آخر حروف أبجد.

ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي " ايقش " . ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الألاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد، فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف: وهي " ب " الدالة على اثنين في الأحاد و " ك " الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و " ر " الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان، وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي بكر. ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس. وكذلك إلى آخر حروف أبجد. وصارت تسع كلمات نهاية عدد الأحاد وهي " إيقش، بكر، جلس، دمت، هنث، وصخ، زغد، حفظ، طضغ " . مرتبة على توالي الأعداد، ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته، فالواحد لكلمة أيقش والاثنان لكلمة بكر، والثلاثة لكلمة جلس، وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ، فتكون لها التسعة. فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات، وأخذوا عددها مكانه، ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم، فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها، وإلا أخذوه كما هو، ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه. والسر في هذا القانون بين. وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد، فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان، وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلثمائة والثلاثة الألاف كلها ثلاثة ثلاثة. فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير، وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الأحاد والعشرات والمئين والألوف، وصارعدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الأحاد أو العشرات أو المئين، فيؤخد عدد كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها، وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه. هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم. وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها، ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه با لأخرى سواء وهي هذه أرب، يسقك، جزلط، مدوص، هف، تحذن، عش، خغ، تضظ ، تسع كلمات على توالي العدد، ولكل كلمة منها عدها الذي في مرتبته، فيها الثلاثي والرباعي والثنائي. وليست جارية على أصل مطرد كما تراه. لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء، ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش. والله أعلم كيف ذلك.
وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق. والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الأراء البعيدة عن التحقيق والبرهان، يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ.

ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم " المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب، كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين. وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز، فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه. وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم. وكل دائرة مقسومة بأفسام فلكها: إما البروج وإما العناصر أو غيرهما. وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار. وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة، فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد، ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة. وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان. وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض، ومائة وواحد وثلاثين في الطول، جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف، وجوانب خالية البيوت. ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية. وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة.
الا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح والجلاء. وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب، وهو مالك بن وهيب من علماء اشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجد مثلا
وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها. فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً، ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها، وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله ماراً إلى المركز، ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع. فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى أخره، والأعداد المرسومة بينهما، ويصيرونها حروفاً بحساب الجمل. وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم. ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى ا؟لمركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط. ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى. ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم، وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم، ويضعونها ناحية، ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج. وأسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب، فإنه عندهم البعد عن أول المراتب. ثم يضربونه في عدد آخر يسمون الأس الأكبر والدور الأصلي. ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة. ويستخرجون منها حروفاً ويسقطون أخرى. ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال، وما معها، ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار، ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنه الدور، يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك، فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة.

وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع. وليس ذلك بصحيح، لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة، وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال. ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار. والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح آخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة، ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي، غير مستنكر. وقد يقع الأطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول.
فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس، وطريق لحصوله، ولا سيما من أهل الرياضة، فإنها تفيد العقل قوة القياس وزيادة في الفكر. وقد مر تعليل ذلك غير مرة.

ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة، فهي منسوبة للسبتي. ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله. ولعمري أنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة، والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت. ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه. ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه. وكثيرمن الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب، فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات، وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار، ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون، ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة. وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات، والتفاوت بين المدارك والعقول. ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه. ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي، فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذلك وحدس. وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها، فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها. فلنذكر مسألة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا. مثاله: لو قيل لك خذ عدداً من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس، ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً، ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر، فكم الطيور المشتراة بالدراهم والفلوس؟ فجوابه أن تقول هي تسعة. لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون، وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية، فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد، وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً، وعلى سعره اشتريت بالدراهم، فتكون تسعة. فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة. والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفتة. وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها. وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم. وأما الكائنات المستقبلة إذ ا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته. وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال، لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر. وسر ذلك إنما هو من تناسب نينهما يطلع عليه بعض دون بعض. فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين. والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات. وليس هذا من المقام الأول، بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج. ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه، وقد استأثره الله بعلمه " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .
الباب الثاني

في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل
وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات
الفصل الأول
في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي. فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة، ومنهم من ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها.

وهؤلاء القائمون. على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة، ولا بد، إلى البدو لأنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء، بالبدو أمراً ضرورياً لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحضل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك.
ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر. ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون، أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو، لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم. فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه.
الفصل الثاني

في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة، إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه، وقد يأوون إلى الغيران والكهوف. وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار. فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن، وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر والأعاجم. ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم. والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم، فالتقلب في الأرض أصلح بهم، ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر، ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهولاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة. وأما من كان معاشهم في الأبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الأبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله إذ الأبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة، فاضطروا إلى أبعاد النجعة. وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضاً، فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم، فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم، وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق. إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط، وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها. فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث
في أن البدو أقدم من الحضر
وسابق عليه وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما

قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم. ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليهما لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه. فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذ ا كان الضروري حاصلاً. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة، وأمكن نفسه إلى قياد المدينة. وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم.والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته.
ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه، أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه، وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر. وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها، فتفهمه. ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه: فرب حي أعظم من حي، وقبيلة أعظم من قبيلة، ومصر أوسع من مصر، ومدينة أكثر عمراناً من مدينة. فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها، بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية، والله أعلم.
الفصل الرابع

في أن أهل البدو أقرب إلى الخير
من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر، قال صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه: فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر صعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليها أيضاً عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر. والله يحب المتقين.
ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكني البادية، فقال له: " ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟ " فقال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن لي في البدو " . فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه، ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية، لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة.

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة: " اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم " ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها، فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة. داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين، وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ، لقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح. وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح. وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح. والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الأفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة. فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟ نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإ شارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه، وهو قوله: " ولا تردهم على أعقابهم " . وقوله تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون. وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو. ويكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة. ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط، لعلمه كسقوط الهجرة بعد الوفاة، وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وأفضل، فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه. وعلى كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب، لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته، لا لمذمة البدو. فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل على مذمة التعرب.والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.
الفصل الخامس

في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والذعة، وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم. فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، وبتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم. وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل. وسبب ذلك ما شرحناه. وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً. والله يخلق ما يشاء.
الفصل السادس
في أن معاناة أهل الحضر للاحكام..
مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه، إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم، فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتى صار لهم الأدلال جبلة. لا يعرفون سواها.

أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة بن جوية سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: " هلا انتظرت في اتباعه إذني؟ " وكتب إلى عمر يستأذنة فكتب إليه عمر: " تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به، وبقي عليك مابقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه! وأمضى له عمر سلبه.
وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد، فلا يكون مدلا ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام. ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً، ولا لمن يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والآخذ عن المشايخ والآ ئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقاروالهيبة! فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.
ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة، ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد الناس بأساً، لآن الشارع صلوات الله عليه لما. أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وأدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الأيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة، كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمررضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله، حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد.
ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالآحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الأنقياد إلى الأحكام نقضت بذلك سورة البأس فيهم.
فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم، والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب. ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين والمتعلمين: " إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط، نقله عن شريح القاضي، واحتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات، وهو ضعيف، ولا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف. والله الحكيم الخبير.
الفصل السابع

في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل
أهل العصبية اعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر، كما قال تعالى: " وهديناه النجدين " ، وقال: " فألهمها فجورها وتقواها " . والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الأقتداء بالذين. وعلى ذلك الجم الغفير، إلا من وفقه الله. ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض. فمن أمتدت عينه إلى متاع أخيه أمتدت يده ألى أخذه ألا أن يصده وازع كما قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم

فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه أحكام والمدلة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدوعليه، فإنهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه. وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً، أو يدفعه ذياد الحامية من أوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة. وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الرقار والتجلة. وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم. ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم، وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم، واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام، حين قالوا لأبيه: " لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون " ، والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له.
وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه، فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً من التخاذل. فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم.
وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه، لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً، فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد. والله الموفق للصواب.
الفصل الثامن

في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب
أو ما في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك: نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا. فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة، فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها. وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه، فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هومنسوب إليه بوجه. ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم " بمعنى، أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه، إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والا التحام. فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما. قلناه. وإذا كان إنما يستفاذ، الخبر البعيد ضغف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الثسغل به مجاناً، ومن أعمال اللهو المنهي عنه. ومن هذا الاعتبار معنى قولهم: النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر، بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس وانتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلامنفعة فيه حينئذ. والله سبحانه وتعالى.
الفصل التاسع
في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين
في القفر من العرب ومن في معناهم

وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن، حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة، وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها، والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره ونتاجها في رماله كما تقدم، والقفر مكان الشظف والسغب، فصار لهم إلفاً وعادة وربيت فيه أجيائهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة، فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال. بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه، فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، ولا تزال بينهم محفوظة. واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة، لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب، كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها إختلاط ولا عرف فيهم شوب. وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان و طيء وقضاغة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم. ففي ك! واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس وماتعرف. وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم. وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم، وإنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه: " تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد،إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا " . هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف. من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة، فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب. وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن، فيقال جند قنسرين، جند دمشق، جند العواصم، وانتقل ذلك إلى الأندلس، ولم يكن لاطراح العرب أمر النسب، وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم. ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم، وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فأطرحت. ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها، وبقي ذلك في البدو كما كان. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل العاشر

في اختلاط الأنساب كيف يقع
اعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها، فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال. وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد، لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنه التحم بهم. ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر. وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم. وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك. ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه، وقالوا هو فينا لزيق، أي دخيل ولصيق، وطلبوا أن يولي عليهم جريراً. فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة: " صدقوا يا أمير المؤمنين، أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قممي ولحقت بهم " . وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم، لولا علم بعضهم بوشائجه، ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب. فأفهمه واعتبر سر الله في خليقته. ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود. والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه.
الفصل الحادي عشر
في أن الرياسة لا تزال في نصابها
المخصوص من أهل العصبية

اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات آخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم، مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين. فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام. والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة. والرياسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكونه في الكل. ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسه لأهلها. فإذا وجب ذلك تعين أن الرياسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم، إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الآخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرياسة. فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع، ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه، لما قلناه من سر الغلب. لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون، والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر، فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية. ومنه تعين استمرار الرياسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.
الفصل الثاني عشر

في أن الرياسة على أهل العصبية ..
لا تكون في غير نسبهم وذلك أن الرياسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه.
فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة، لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان والاتباع. والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب، إنما هو ملصق لزيق، وغاية التعصب له بالولاء والحلف، وذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة، وإذا فرضنا أنه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأول من الالتصاق، ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم، فكيف له الرياسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه. والرياسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعتين له الغلب بالعصبية. فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرياسة حينئذ، فكيف تنوقلت عنه، وهو على حال الإلصاق، والرياسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية. وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها، إما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم، أو ذكر كيف اتفق، فينزعون إلى ذلك النسب، ويتورطون بالدعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رياستهم والطعن في شرفهم. وهذا كثير في الناس لهذا العهد.
فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب. ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين. من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم، لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم، ويسمونه الحجازي.

ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية، أبي عبد القوي. ولم يعلم دخول أحد من العباسيين إلى المغرب، لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين، فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين، وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس، ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم، فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم، ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس. ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم، فكيف تتم له الرياسة عليهم في باديتهم؟ وإنما هو غلط من قبل اسم القاسم، فإنه كثير الوجود في الأدارسة، فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب، وهم غير محتاجين لذلك، فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم، ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب. وإنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد. ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم، أنه لما قيل له ذلك أنكره، وقال بلغته الزناتية ما معناه: أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب، وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله. وأعرض عن التقرب إليه بذلك.
ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة، وكذا بنو مهنى أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم، وأمثال ذلك كثيرة ورياستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه، بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب وأقوى عصبياته. فاعتبره واجتنب المغالط فيه. ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية، فإن المهدي لم يكن من منبت الرياسة في هرثمة قومه، وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين، ودخول قبائل المصامدة في دعوته، وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم. والله عالم الغيب والشهادة.
الفصل الثالث عشر

في أن البيت والشرف بالأصالة..
والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال، ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين، تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته، لما وقر في نفوسهم من تجلة سلفه وشرفهم بخلالهم. والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن، قال صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا " . فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب، وقد بينا أن ثمرة الأنساب وفائدتها أنما هي العصبية للنعرة والتناصر، فحيث تكون العصبيه مرهوبه ومخشيه والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى. وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها، فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب. وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية، لأنه سرها. ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز، وإن توهموه فزخرف من الدعاوى. وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار، وجدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع، وهذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب وتعديد الآباء، ولكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز، لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخيم ومسالكه، وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق، وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى.
وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم، ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء، لذهاب العصبية جملة. وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك. وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل. فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت:

أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام، إلى موسى صاحب مفتهم وشريعتهم، ثم بالعصبة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به. ثم انسلخوا من ذلك أجمع، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وكتب عليهم الجلاء في الأرض، وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين. وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون: هذا هاروني، هذا من نسل يوشع، هذا من عقب كالب، هذا من سبط يهوذا، مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة. وكثيراً من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان.
وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكرالحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول. والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة، ولم يتعرض لهم. وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه. فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط. مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد.
وأما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو. وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة، إلا أن ابن رشد ربي في جيل وبلد لم يمارسوا العصبية ولا أنسوا أحوالها، فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق، ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة. والله بكل شيء عليم.
الفصل الرابع عشر

في أن البيت والشرف للموالي..
وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة، والحقيقة إنما هو لأهل العصبية. فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي، والتحموا بهم كما قلناه، ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " مولى القوم منهم " ، وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف، وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية، إذ هي مباينة لذلك النسب، وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر، وفقدانه أهل عصبيتها، فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم. فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم، بل يكون أدون منهم على كل حال.
وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم، فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها، وتعدد الآباء في ولايتها. ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس، وإلى بني برمك من قبلهم، وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة. فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه، لا بالانتساب في الفرس. وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها. ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده. وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف، فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم، فلم ينفعه نسب ولادته، وإنما بنى مجدة نسب الولاء في الدولة، ولحمة الاصطناع فيها، والتربية. وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبيته ودولته، فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها. وانتفع بالثانية لوجودها. وهذا حال بني برمك، إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النارعندهم، ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار، وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم. وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له. والوجود شاهد بما قلناه. و " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . والله ورسوله أعلم.
الفصل الخامس عشر
في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء

اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد، لا من ذواته ولا من أحواله. فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات: الإنسان وغيره، كائنة فاسدة بالمعاينة. وكذلك ما يعرض لها من الأحوال، وخصوصاً الإنسانية. فالعلوم تنشأ ثم تدرس، وكذا الصنائع وأمثالها. والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين، فهو كائن فاسد لا محالة. وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه، إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كرامة به وحياطة على السر فيه. وأول كل شرف خارجية كما قيل، وهي الخروج عن الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب، ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه، شأن كل محدث.
ثم إن نهايته أربعة آباء، وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه. وابنه من بعده مباشر لأبيه، قد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلأ انه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له. ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد. ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم، وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم. فيحتقرهم بذلك، فينغصون عليه، ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت، ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبييهم كما قلناه. بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله. فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته. هذا في الملوك، وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع، ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز " .
واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلأ فقد يدثر البيث من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم. وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس، إلا أنه في انحطاط وذهاب. واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان، ومباشر له، ومقلد، وهادم. وهو أقل ما يمكن. وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء. قال صلى الله عليه وسلم : " إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم " ، إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد. وفي التوراة ما معناه: أنا الله ربك طائق غيورمطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب.
ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة. قال: نعم، قال: بأي شيء، قال: من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، فالبيت من قبيلته، وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري، وهم بيت قيس، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس من كندة، وآل حاجب بن زرارة، وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم، فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول. فقام حذيفة بن بدر، ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان، ثم بسطام بن قيس بن شيبان، ثم حاجب بن زرارة، ثم قيس بن عاصم، وخطبوا ونثروا. فقال كسرى: كلهم سيد يصلح لموضعه. وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم، ومعهم بيت بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني. وهذا كله يدل على أن الاربعة الآباء نهاية في الحسب. والله أعلم.
الفصل السادس عشر

في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها

اعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر، فهم اقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار. فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم. واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها، كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها، وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف. وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد. وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة والعصبية. وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم، ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه، لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم، كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب، فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم. وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور من بعدهم، لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم، كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم. وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً وعيشاً خصباً دون الحي الآخر. فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافآ في القوة والعدد. سنة الله في خلقه.
الفصل السابع عشر

في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه، وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك. وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة، لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس. ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً. فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت. ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى، وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " .
ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها. فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً، ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها، شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم. وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً، وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها، وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد. وهكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة: فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها، وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها. وذلك ملك آخر دون الملك المستبد، وهو كما وقع للترك في دولة بني العباس، ولصنهاجة وزناتة مع كتامة، ولبني حمدان مع ملوك الشيعة والعلوية والعباسية.
فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك، إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك. وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر

في أن من عوائق الملك حصول الترف
وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم، وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها. فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه، أذعن ذلك القبيل لولايتها، والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها، ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه، إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك. فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة، ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة. وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم، ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية، حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية، فيأذنون بالانقراض. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك، فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب. وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم سواهم. فقد تبين أن الترف من عوائق الملك. والله يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع عشر
في أن من عوائق الملك حصول المذلة
للقبيل والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة. واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا: " إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " ، ي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى. ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: " اذهب أنت وربك فقاتلا " . وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة كما تقتضيه الآية، وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً، حتى ذهبت العصبية منهم جملة، مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما خبرهم به موسى من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم، فأقصروا عن ذلك، وعجزوا تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة، وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك، وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم.

وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية، وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله. ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب. فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه، لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلأ إذا استهونته عن القتل والتلف، وأن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية، ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة قد حصل له الانقياد للذل، والمذلة عائقة كما قدمناه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار: " ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل " ، فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للمذلة. هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر. فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر.
ومن هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك. وهو غلط فاحش كما رأيت، إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك ولا تمت لهم دولة. وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه، وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له، فقال: أنا اليوم منكم يدي في أيديكم، وصعري معكم فمرحباً بكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحبون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف.
الفصل العشرون

في أن من علامات الملك التنافس
في الخلال الحميدة وبالعكس لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة، لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان، فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك، إذ الخير هو المناسب للسياسة. وقد ذكرنا أن المجد له أصل ينبني عليه، وتتحقق به حقيقتة وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكفله وهو الخلال. وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال، لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب.
وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع، وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره، فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه. فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق، ووجدت فيه الصلاحية لذلك.

وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى. فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل وكسب المعدم، والصبر على المكاره والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم، واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبذل في أحوالهم، والانقياد للحق والتواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك، علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم، أو على العموم، وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم، وليس ذلك سدى فيهم، ولا وجد عبثاً منهم، والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم، فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً " . واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه. والله يخلق ما يشاء ويختار.
واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك، إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم. وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية، ويشاركهم في اتساع الجاه أمم طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه. وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم، ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد، وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية. لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه، وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة. فالصالحون للدين، والعلماء للجأ إليهم في إقامة مراسم الشريعة، والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم، والغرباء من مكارم الأخلاق، وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل. فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك، وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها. ولهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق. فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم، وارتقب زوال الملك منهم: " وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له " . والله تعالى أعلم
الفصل الحادي والعشرون

في أنه إذا كانت الأمة وحشية
كان ملكها أوسع

وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما قلناه، واستعباد الطوائف، لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم، وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة. وأيضا فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد، ولا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على اللأمم النائية. وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضى الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال: أن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فقال: " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " . واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل، مثل التبابعة وحمير، كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى. ولم يكن ذلك لغير العرب من الأمم. وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى الإقليم الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة. وهذا شأن هذه الأمم الوحشية. فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً، وأبعد من مراكزها نهاية. " والله يقدر الليل والنهار " وهو الواحد القهار لا شريك له.
الفصل الثاني والعشرون

في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب..
من أمة فلا بد من عوده إلم شعب أخر منها ما دامت لهم العصبية.
والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم، فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون لسرير الملك. ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة. فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم، وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل، وانفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها. وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم، وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه. فإذا استولت على الأولين الأيام، وأباد خضراءهم الهرم فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب، بما أرهف النعيم من حدهم واشتفت غريزة الترف من مائهم، وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي، شعر:
كدود القز ينسج ثم يفنى ... بمركز نسجه في الانعكاس
كانت حينئذ عصبية الأخرين موفورة، وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة، فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم، وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم، فيستولون على الأر ويصير إليهم. وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذاً عنه من عشائر أمتهم، فلا يزال الملك ملجأ في الأمة إلا أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها. سنة الله في الحياة الدنيا، " والآخرة عند ربك للمتقين " .
واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود، ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير، ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً، ومن بعدهم الأذواء كذلك، ثم جاءت الدولة لمضر. وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية، ملك من بعدهم الساسانية، حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام. وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الروم. وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثم الملثمين من بعدهم، ثم المصامدة، ثم من بقي من شعوب زناتة وهكذا. سنة الله في عباده وخلقه.

وأصل هذا كله إنما يكون بالعصبية، وهي متفاوتة في الأجيال، والملك يخلقه الترف ويذهبه كما سنذكره بعد. فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الأمر منهم من له عصب مشاركة لعصبيتهم التي عرف لها التسليم والانقياد، وأونس منها الغلب لجميع العصبيات. وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم، لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسب التي هي فيه أو بعد. حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته، فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامه بذلك التبديل. كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم، بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً.
الفصل الثالث والعشرونفي أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب
في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجحران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: العامة على دين الملك، فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. والله العليم الحكيم، وبه سبحانه وتعالى التوفيق.
الفصل الرابع والعشرون

في أن الأمة إذا غلبت
وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، بما خضد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل، وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أولم يحصلوا.
وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين. فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء. والبقاء لله وحده.

واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة، ولما فنيت حاميتهم في أيام العرب، بقي منهم كثير وأكثر من الكثير. يقال أن سعداً أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفاً، منهم سبعة وثلاثون ألفاً رب بيت. ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً، ودثروا كأن لم يكونوا. ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم أوعدوان شملهم، فملكة الإسلام في العدل ما علمت، وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره، وصار آلة لغيره. ولهذا إنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم، وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه، أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرق حصول رتبة أو إفادة مال أو عز كما يقع لممالك الترك بالمشرق والعلوج من الجلالقة والإفرنجة بالأندلس، فإن العادة جارية باستخلاص الدولة لهم، فلا يأملون من الرق لما يأملونه من الجاه والرتبة باصطفاء الدولة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الخامس والعشرون

في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم. فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه، ولا يعرضون له. والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم، لأنهم لا يتسنمون إليهم الهضاب، ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر. وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة فهي نهب لهم وطعمة لأكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم، إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم، ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة، إلى أن ينقرض عمرانهم. والله قادر على خلقه، وهو الواحد القهار لا رب غيره.
الفصل السادس والعشرون
في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان..
أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم.
وأيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم فى ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه. فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران.
وأيضاً فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم، لا يرون لها قيمة ولا قسطاً من الأجر والثمن، والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها، وإذا فسدت الأعمال وصارت مجاناً، ضعفت الآمال في المكاسب، وانقبضت الأيدي عن العمل، وابذعر الساكن، وفسد العمران.
وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو مغرماً، فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد. وربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم، وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها، بل يكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض، فتبقى الرعايا في ملكتهم كأنها فوضى دون حكم. والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران، بما ذكرناه أن وجود الملك خاصة طبيعية للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلا بها، وتقدم، ذلك أول الفصل.

وأيضاً فهم منافسون في الرياسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي وتختلف الأيدي على الرعية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض.
قال الأعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران، فقال: تركته يظلم وحده. وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض: فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصارة وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خراباً كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر. والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الفصل السابع والعشرون

في أن العرب لا يحصل لهم الملك..
إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيىء لقبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات، فإن كل مولود يولد على الفطرة، كما ورد في الحديث وقد تقدم.
الفصل الثامن والعشرون
في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش، ورئيسهم محتاج إليهم غالباً للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطراً إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شأن عصبييه، فيكون فيها هلاكه وهلاكهم. وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر وإلا لم تستقم سياسته.
وأيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض. فإذا ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم. وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد، فلا يكون ذلك وازعاً، وربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد، واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه. فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران، فتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض، فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعاً شأن الفوضى كما قدمنا.
فبعدت طبع العرب لذلك كله عن سياسة الملك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شدد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم.
كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عمر كبدي، يعلم الكلاب الآداب.

ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين، فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة، فتوحشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم. ولما ذهب أمر الخلافة وانمحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم، لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم، وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك، ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك، ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس. لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة. وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه. واللة يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع والعشرون

في أن البوادي من القبائل ..
والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأن الأمور الضرورية في العمران ليس كلها موجودة لأهل البدو وإنما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادها معدومة ومعظمها الصنائع. فلا توجد لديهم بالكلية من نجار وخياط وحداد وأمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم. في الفلح وغيره. وكذا الدنانير والدراهم مفقودة لديهم، وإنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألباناً وأوباراً وأشعاراً وإهاباً مما يحتاج إليه أهل الأمصار، فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم. إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم الحاجي والكمالي. فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم. فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك، وطالبوهم به. وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك. وإن لم يكن في المصر ملك فلابد فيه من رياسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلا انتقض عمرانه. وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه: إما طوعاً ببذل المال لهم، ثم يبذل لهم ما يحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهم، وإما كرهاً أن تمت قدرته على ذلك ولو بالتفريق بينهم، حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلى طاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم. وربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلى جهات أخرى، لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرهم، فلا يجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر. فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار. والله قاهر فوق عباده، وهو الواحد الأحد القهار.
الباب الثالث من الكتاب الأول
في الدول العامة والملك والخلافة
والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات
الفصل الأول
في أن الملك والدولة العامة..
إنما يحصلان بالقبيل والعصبية وذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد منهم دون صاحبه. ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالباً، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه، فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة، وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً. وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها، وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل: فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة، إنما يدركون أصحاب الدولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التسليم لهم، والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم، ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوله، وما لقي أولهم من المتاعب دونه، وخصوصاً أهل الأندلس في نسيان هنه العصبية وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب.

والله قادر على مايشاء، وهو بكل شيء عليم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني

في أنه إذا استقرت الدولة
وتمهدت قد تستغني عن العصبية والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب، للغرابة، وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه. فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه. ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية، كأنه من جملة عقودها. ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة: إما بالموالي والمصطنعين الذين نشؤوا في ظل العصبية وغيرها، وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.
ومثل هذا وقع لبني العباس. فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم. ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملكوها، وصار الخلائق في حكمهم. ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم. ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة.
وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، واستمرت لهم الدولة مقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية. وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها، والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم، حتى تأذن الله بانقراض الدولة، وجاء الموحدون بقوة قويه من العصبية في المصامدة، فمحوا آثارهم.
وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها، واقتسموا خطتها وتنافسوا بينهم وتوزعوا ممالك الدولة، وانتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه. وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية، فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته، وأمنوا ممن ينقض ذلك عليهم أو يغيره، لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره، واستمر لهم ذلك، كما قال ابن شرف:
مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم، اقتداء بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم، حين ضعفت عصبية العرب، واستبد ابن أبي عامر على الدولة. فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها، ولم يزالوا في سلطانهم ذاك، حتى جاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة، فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهما، ولم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم.

فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها. وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة، ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك، وكلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها، وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب وإستحكام الصبغة لأهله. فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة. فإنه إنما أدرك دول الطوائف، وذلك عند اختلال دولة بني أمية، وانقراض عصبيتها من العرب، واستبداد كل أمير بقطره. وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفر أهل سرقسطة، ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين وهلاكهم، ولم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره، قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة وبقية العصبية، فهو لذلك لا ينازع فيه، ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة، فأطلق الطرطوشي القول في ذلك، ولم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة وأنه لا يتم إلا لأهل العصبية. فتفطن أنت له وافهم سر الله فيه والله يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل الثالث

في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي..
دولة تستغني عن العصبية وذلك أنه إذا كان لعصبيته غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد، فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقر ملكه ومنبت عزه، اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه، وعنوا بتمهيد دولته، يرجون استقراره في نصابه، وتناوله الأمر من يد أعياصه، وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر، ولا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته، وانقياداً لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم، وعقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم، فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها.
وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديين بإفريقية ومصر، لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية، وابتعدوا عن مقر الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العباس، بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد مناف: لبني أمية أولاً ثم لبني هاشم من بعدهم، فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم، وقام بأمرهم البرابرة مرة بعد أخرى، فأوربة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوارة للعبيديين، فشيدوا دولتهم ومهدوا بعصائبهم أمرهم، واقتطعوا من ممالك العباسيين المغرب كله ثم إفريقية، ولم يزل ظل الدولة يتقلص وظل العبيديين يمتد إلى أن ملكوا مصر والشام والحجاز، وقاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة. وهؤلاء البرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم. وإنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم. فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها. " والله يحكم لا معقب لحكمه " .
الفصل الرابع
في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك..
أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم " ، وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لارب سواه.
الفصل الخامس
في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة
على قوة العصبية التي كانت لها من عددها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6