كتاب : المغازي
المؤلف : الواقدي

وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بالطعام، فلا يأكلون منه شيئاً حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا. قالوا: أرأيت الربة، ما ترى فيها؟ قال: هدمها. قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ويحك يا عبد يا ليل! إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده. قال عبد يا ليل: إنا لم نأتك يا عمر! فأسلموا، وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد. فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى. قالوا: سنتين! فأبى. قالوا: سنة! فأبى. قالوا: شهراً واحداً! فأبى أن يوقت لهم وقتاً. وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها. واستعفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكسروا أصنامهم بأيديهم. وقال: أنا آمر أصحابي أن يكسروها. وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما الصلاة فسنصلى، وأما الصيام فسنصوم. وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرموا ما بقي من الشهر، وكان بلال يأتيهم بفطرهم. ويخيل إليهم أن الشمس لم تغب فيقولون: يا بلال، ما غاب الشمس بعد. فيقول بلال: ما جئتكم حتى أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكان الوفد يحفظون هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعجيل فطره. وكان بلال يأتيهم بسحورهم، قال: فأسترهم من الفجر، فلما أرادوا الخروج قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلاً منا يؤمنا. فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وهو أصغرهم، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرصه على الإسلام. قال عثمان: وكان آخر عهدٍ عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، وإذا أممت قوما فاقدرهم بأضعفهم، وإذا صليت لنفسك فأنت وذاك. ثم خرج الوفد عامدين إلى الطائف، فلما دنوا من ثقيف قال عبد يا ليل: أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموها القضية، وخرفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أموراً عظمناها فأبيناها عليه، يسألنا تحريم الزنا والخمر، وأن نبطل أموالنا في الربا، وأن نهدم الربة. وخرجت ثقيف حين دنا الوفد، فلما رآهم الوفد ساروا العنق وقطروا الإبل، وتغشوا بثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا، فلم يرجعوا بخيرٍ. فلما رأت ثقيف ما في وجوه القوم حزنوا وكربوا، فقال بعضهم: ما جاء وفدكم بخير! ودخل الوفد، فكان أول ما بدأوا به على اللات، فقال القوم حين نزل الوفد إليها، وكانوا كذلك يفعلون، فدخل القوم وهم مسلمون فنظروا فيما خرجوا يدرأون به عن أنفسهم، وقالت ثقيف: كأنهم لم يكن لهم بها عهد ولا برؤيتها! ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله، وأتى رجالاً منهم جماعة من ثقيف فسألوهم: ماذا رجعتم به؟ وقد كان والوفد قد استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالوا منه فرخص لهم، فقالوا: جئناكم من عند رجلٍ فظ غليظ، يأخذ من أمره ما شاء، قد ظهر بالسيف، وأداخ العرب، ودان له الناس، ورعبت منه بنو الأصفر في حصونهم، والناس فيه؛ إما راغب في دينه، وإما خائف من السيف، فعرض علينا أموراً شديدة أعظمناها، فتركناها عليه؛ حرم علينا الزنا، والخمر، والربا، وأن نهدم الربة. فقالت ثقيف: لا نفعل هذا أبداً. فقال الوفد: لعمري قد كرهنا ذلك وأعظمناه، ورأينا أنه لم ينصفنا؛ فأصلحوا سلاحكم، ورموا حصنكم، وانصبوا العرادات عليه والمنجنيق، وأدخلوا طعام سنة أو سنتين في حصنكم، لا يحاصركم أكثر من سنتين، واحفروا خندقاً من وراء حصنكم، وعاجلوا ذلك فإن أمره قد ظل لا نأمنه. فمكثوا بذلك يوماً أو يومين يريدون القتال، ثم أدخل الله تبارك وتعإلى في قلوبهم الرعب فقالوا: ما لنا به طاقة، قد لداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه، واكتبوا بينكم وبينه كتاباً قبل أن يسير إلينا ويبعث الجيوش. فلما رأى الوفد أن قد سلموا بالقضية، ورعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ورغبوا في الإسلام، واختاروا الأمن على الخوف، قال الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطانا ما أحببناه، وشرط لنا ما أردنا،ووجدناه أتقى الناس، وأبر الناس، وأوصل الناس، وأوفى الناس، وأصدق الناس، وأرحم الناس، وقد تركنا من هدم الربة وأبينا أن نهدمها، وقال: أبعث من يهدمها، وهو يبعث من يهدمها. قال: يقول شيخ من ثقيف قد بقي في قلبه من الشرك بعد بقية: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه؛ إن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شئ! فقال عثمان بن العاص: منتك نفسك. الباطل وغرتك الغرور! وما الربة؟ وما تدري الربة من عبدها ومن لم يعبدها؟ كما كانت العزى ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها؛ جاءها خالد بن الوليد وحده فهدمها؛ وكذلك إساف، ونائلة، وهبل، ومناة، خرج إليها رجل واحد فهدمها؛ وسواع، خرج إليه رجل واحد فهدمه! فهل امتنع شئ منهم؟ قال الثقفي: إن الربة لا تشبه شيئاً مما ذكرت. قال عثمان: سترى!

وأقام أبو سفيان والمغيرة بن شعبة يومين أو ثلاثة، ثم خرجوا وقد تحكم أبو مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وهما يريدان يسيران مع أبي سفيان، والمغيرة إلى هدم الربة، فقال أبو مليح: يا رسول الله، إن أبي قتل وعليه دين، مائتا مثقال ذهب، فإن رأيت أن تقضيه من حلى الربة فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فقال قارب بن الأسود: يا رسول الله، وعن الأسود بن مسعود أبي، فإنه قد ترك ديناً مثل دين عروة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات وهو كافر. فقال قارب: تصل به قرابة، إنما الدين على وأنا مطلوب به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفعل. فقضي عن عروة، والأسود، دينهما من مال الطاغية. وخرج أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما لهدم الربة، فلما دنوا من الطائف قال لأبي سفيان: تقدم فادخل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان بماله ذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلاً يهدمونها. فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف. فأخذ المعول واستوى على رأس الربة ومعه المعول، وقام قومه بنو معتب دونه، معهم السلاح مخافة أن يصاب كما فعل بعمه عروة بن مسعود. وجاء أبو سفيان وهو على ذلك فقال: كلا! زعمت تقدمني أنت إلى الطاغية، تراني لو قمت أهدمها كانت بنو معتب تقوم دوني؟ قال المغيرة: إن القوم قد واضعوهم هذا قبل أن تقدم، فأحبوا الأمن على الخوف. وقد خرج نساء ثقيف حسرا يبكين على الطاغية، والعبيد، والصبيان، والرجال منكشفون، والأبكار خرجن. فلما ضرب المغيرة ضربة بالمعول سقط مغشياً عليه يرتكض، فصاح أهل الطائف صيحة واحدة: كلا! زعمتم أن الربة لا تمتنع؛ بلى والله لتمتنعن! وأقام المغيرة مليا وهو على حاله تلك، ثم استوى جالساً فقال: يا معشر ثقيف، كانت العرب تقول: ما من حي من أحياء العرب أعقل من ثقيف، وما من حي من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم، وما اللات والعزى، وما الربة؟ حجر مثل هذا الحجر، لا يدرى من عبده ومن لم يعبده! ويحكم، أتسمع اللات أو تبصر أو تنفع أو تضر؟ ثم هدمها وهدم الناس معه، فجعل السادن يقول وكانت سدنة اللات من ثقيف بنو العجلان بن عتاب بن مالك، وصاحبها منهم عتاب بن مالك بن كعب ثم بنوه بعده - يقول: سترون إذا انتهى إلى أساسها، يغضب الأساس غضباً يخسف بهم. فلما سمع بذلك المغيرة ولى حفر الأساس حتى بلغ نصف قامة، وانتهى إلى الغبغب خزانتها، وانتزعوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب ومن ذهب أو فضة. قال: تقول عجوز منهم: أسلمها الرضاع، وتركوا المصاع! وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وجد فيها أبا مليح، وقارباً وناساً، وجعل في سبيل الله وفي السلاح منها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لثقيف: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي رسول الله إلى المؤمنين؛ إن عضاه وج وصيده لا يعضد، ومن وجد يفعل ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ محمداً، فإن هذا أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكتب خالد بن سعيد بأمر النبي الرسول محمد ابن عبد الله. فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع عضاه وج وعن صيده، وكان الرجل يوجد يفعل ذلك فتنزع ثيابه. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمى وج سعد بن أبي وقاص.
بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين

قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري، وعبد الله ابن يزيد، عن سعيد بن عمرو، قالا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة قدم المدينة يوم الجمعة لثلاث ليالٍ بقين من ذي القعدة، فأقام بقية ذي القعدة وذي الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار بصدقتهم، ويقال: كعب بن مالك، وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة؛ وبعث رافع بن مكيث في جهينة؛ وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة؛ وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب؛ وبعث بسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب؛ وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى نبي ذبيان؛ وبعث رجلاً من بني سعد بن هذيم على صدقاتهم. فخرج بسر بن سفيان على صدقات بني كعب. ويقال إنما سعى عليهم نعيم بن عبد الله النحام العدوى، فجاء وقد حل بنواحيهم بنو جيهم من بني تميم، وبنو عمروا بن جندب بن العتير بن عمرو بن تميم، فهم يشربون معهم على غديرٍ لهم بذات الأشطاط؛ ويقال: وجدهم على عسفان. ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة. قال: فحشرت خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكرت ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ تؤخذ أموالكم منكم بالباطل! وتجيشوا، وتقلدوا القسي، وشهروا السيوف، فقال الخزاعيون: نحن قوم لدين بدين الإسلام، وهذا من ديننا. قال التميميون: والله لا يصل إلى بعيرٍ منها أبداً! فلما رآهم المصدق هرب منهم وانطلق مولياً وهو يخافهم السيف لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وحنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر مصدقية أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم، فقدم المصدق على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال: يا رسول الله، إنما كنت في ثلاثة نفر، فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالهم، وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم؛ ليدخلن علينا بلاء من عداوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله، تردونهم عن صدقات أموالن. فخرجوا راجعين إلى بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فقال: أن والله لهم، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين حتى آتيك بهم إن شاء الله، فترى فيهم رأيك فيهم رأيك أو يسلموا. فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين فارساً من العرب، ليس فيها مهاجر واحد ولا أنصاري، فكان يسير بالليل ويكمن لهم بالنهار، خرج على ركوبة حتى انتهى إلى العرج، فوجد خبرهم أنهم قد عارضوا إلى أرض بني سليم، فخرج في أثرهم حتى وجدهم قد عدلوا من السقيا يؤمون أرض بني سليم في صحراء، قد حلوا وسرحوا مواشيهم، والبيوت خلوف ليس فيها أحد إلا النساء ونفير، فلما رأوا الجمع ولوا وأخذوا منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة من النساء إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً، فحملهم إلى المدينة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار ملة بنت الحارث. فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، العطارد بن حاجب بن زرارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث ابن مجاشع؛ فدخلوا المسجد قبل الظهر، فلما دخلوا سألوا عن سبيهم فأخبروا بهم فجاءوهم، فبكى الذراري والنساء، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في بيت عائشة، وقد أذن بلال بالظهر بالأذان الأول، والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجلوا خروجه، فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا! فقام إليهم بلال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الآن.؟ فاشتهر أهل المسجد أصواتهم فجعلوا يخفقون بأيديهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا به يكلمونه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليا، وهم يقولون: أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مضى فصلى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته فركع ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن السمجد، وقدموا عليه وقدموا عطارد ابن حاجب التميمي فخطب فقال: الحمد لله الذي له الفضل عينا، والذي جعلنا ملوكاً، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثرهم مالاً وأكثؤهم

عدداً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:داً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟. فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا! ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتي بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم! فقالم ثابت وما كان دري من ذلك بشئ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول - فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضي فيها أمره، ووسع كل شئ علمه، فلم يك شئ إلا من فضله. ثم كانمما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زياً، وأصدقهم حديثاً. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً. ثم كنا أول الناس إجابةً حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه،ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس، فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له، فأقاموا الزبر قان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من السديف إذا لم يؤنس القزع
وننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجبهم يا حسان بن ثابت! فقام فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد شرعوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهن ما رقعوا
ولا يضنون عن جارٍ بفضلهم ... ولا ينالهم في مطمعٍ طبع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أطرافها خشعوا
خذ منهم ما أتى عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... سما غريضاً عليه الصاب والسلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
وأنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جدبا لناس جد القول أو شمعوا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بمنبر، فوضع في المسجد ينشد عليه حسان، وقال: إن الله ليويد حسان بروح القدس ما دافع عن نبيه. وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والمسلمون بمقام ثابت وشعر حسان. وخلا الوفد بعضهم إلى بعض، فقال قائل: تعلمن والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منا! وكان ثابت بن قيس من أجهر الناس صوتاً. وأنزل الله تعإلى على نبيه في رفع أصواتهم التميميين ويذكر أنهم نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " إلى قوله: " أكثرهم لا يعقلون " ، يعني تميماً حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم. وكان ثابت حين نزلت هذه الآية لا يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم السبي والأسرى.
وقام عمرو بن الأهتم يومئذ يهجو قيس بن عاصم، كانا جميعاً في الوف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر لهم بجوائز، وكان يجيز الوفد إذا قدموا عليه ويفضل بينهم في العطية على قدر ما يرى، فلما أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل بقي منكم من لم نجزه؟ قالوا: غلام في الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوه نجزه! فقال قيس بن عاصم: إنه غلام لا شرف له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن كان! فإنه وافد وله حق! فقال عمرو بن الأهتم شعراً يريد قيس بن عاصم:
ظلت مفترشاً هلباك تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إنا وسوددنا عود وسوددكم ... مخلف بمكان العجب والذنب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
قال: حدثني ربيعة بن عثما، عن شيخ، أخبره أن امرأة من بني النجار قالت: أنا أنظر إلى الوفد يومئذ يأخذون جوائزهم عند بلال، اثنى عشرة أوقية ونش. قالت: وقد رأيت غلاماً أعطاه يومئذ وهو أصغرهم، أعطى خسم أواقي. قلت: وما النش؟ قالت: نصف أوقية.
بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلققالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى صدقات بني المصطلق، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد بمساحاتهم. فلما خرج إليها الوليد وسمعوا به قد دنا منهم، خرج منهم عشرون رجلاً يتلقونه بالجزر والنعم فرحاً به، ولم يروا أحداً يصدق بعيراً قط. ولا شاة، فلما رآهم ولى راجعاً إلى المدينة ولم يقربهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دنا منهم لقوة. معهم السلاح يحولون بينه وبين الصدقة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر وقالوا: يا رسول الله، سله هل ناطقنا أو كلمنا؟ ونزلت هذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه ونعتذر، فأخذه البرحاء فسرى عنه، ونزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " الآية فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وأخبرنا بعذرنا وما نزل في صاحبنا، ثم قال: من تحبون أبعث إليكم؟ قالوا: تبعث علينا عباد بن بشر. فقال: يا عباد سر معهم فخذ صدقات أموالهم وتوق كرائم أموالهم. قال: فخرجنا مع عباد يقرئنا القرآن ويعلمنا شرائع الإسلام حتى أنزلناه في وسط بيوتنا، فلم يضيع حقاً ولم يعد بنا الحق. وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام عندنا عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً.
باب شأن سرية قطبة بن عامر إلى خثعمفي صفر سنة تسع

حدثنا ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: حدثنا ابن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حي خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يغذ السير، فخرجوا في عشرة أبعرة بعتقبون عليها، قد غيبوا السلاح، فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحاء، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر. وخبر هذه السرية داخل في سرية شجاع بن وهب.
سرية بني كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابيقال: حدثني رشيد أبو موهوب الكلابي، عن حيان بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى، وحصين بن عبد الله، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى القرطاء؛ فيهم الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر الكلابي، والأصيد بن سلمة بن قرط بن عبد، حتى لقوهم بالزج زج لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة بن قرط، وسلمة على فرس له على غدير زج، قدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرسه، فلما وقع على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه. وهذه السرية في شهر ربيع الأول سنة تسع.
قال: حدثني رشيد أبو موهوب، عن جابر بن أبي سلمى، وعنبسة بن أبي سلمى قالا: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حارثة بن عمرو ابن قريط. يدعوهم إلى الإسلام، فأخذوا صحيفته فغسلوها ورقعوا بها است دلوهم، وأبوا أن يجيبوا. فقالت أم حبيب بنت عامر بن خالد ابن عمرو بن قريط. بن عبد بن أبي بكرة، وخاصمتهم في بيت لها فقالت:
أيا أبن عسيد لا تكونن ضحكة ... وإياك واستمرر لهم بمرير
أيا ابن سعيد إنما القوم معشر ... عصوا منذ قام الدين كل أمير
إذا ما أتتهم آية من محمد ... محوها بماء البئر فهي عصير
قالوا: فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم؟ أذهب الله بعقولهم؟ فهم أهل رعدة. وعجلة وكلام مختلط، وأهل سفه! وكان الذي جاءهم بالكتاب رجل من عرينة يقال له: عبد الله ابن عوسجة، لمستهل شهر ربيع الأول سنة تسع. قال الواقدي: رأيت بعضهم عيباً لا يبين الكلام.
شأن سريةٍ أميرها علقمة بن مجزز المدلجي
في ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثني موسى بن محمد، عن أبيه. وإسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، زاد أحدهما على صاحبه، قالا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من الحبشة تراياهم أهل الشعيبة - ساحل بناحية مكة - في مراكب؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجلٍ حتى انتهى إلى جزيرة في البحر فخاض إليهم فهربوا منه، ثم انصرف. فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يلقوا كيداً، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي - وكانت فيه دعابة - فنزلنا عزمت عليكم ألا تواثبتم في هذه النار! فقام بعض القوم فتحاجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا. إنما كنت أضحك معكم! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه!
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلسفي ربيع الآخر سنة تسع قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم بقول لموسى بن عمران بن مناح. وهما جالسان بالبقيع: تعرف سرية الفلس؟ قال موسى: ما سمعت بهذه السرية. قال: فضحك ابن حزم ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام في خمسين ومائة رجل على مائة بعير وخمسين فرساً؛ وليس في السرية إلا أنصارى، فيها وجوه الأوس والخزرج، فاجتنبوا الخيل وعتقبوا على الإبل حتى أغاروا على أحياء من العرب، وسأل عن محلة آل حاتم ثم نزل عليها، فشنوا الغارة مع الفجر، فسبوا حتى ملاؤا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وهدموا الفلس وخربوه، وكان صنماً لطيئ، ثم انصرف راجعاً إلى المدينة.

قال عبد الرحمن بن عبد العزيز: فذكرت هذه السرية لمحمد بن عمر بن علي، فقال: ما أرى ابن حزم زاد على أن ينقل من هذه السرية ولم يأتك بها. قلت: فأت بها أنت! فقالك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الفلس ليهدمه، في مائة وخمسين من الأنصار، ليس فيها مهاجر واحد، ومعهم خمسون فرساً وظهراً، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل، وأمره أن يشن الغرات؛ فخرج بأصحابه، معه راية سوداء ولواء أبيض، معهم القنا والسلاح الظاهر، وقد دفع رايته إلى سهل بن حنيف، ولواءه إلى جبار بن صخر السلمى، وخرج بدليلٍ من بني أسد يقال له: حريث، فسلك بهم على طريق فيد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: بينكم وبين الحي الذي تريدون يوم تام، وإن سرناه بالنهار وطئنا أطرافهم ورعاءهم، فأنذروا الحي فتفرقوا، فلم تصيبوا منهم حاجتكم؛ ولكن نقيم يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نسري ليلتنا على متون الخيل فنجعلها غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح. قالوا: هذا الرأي! فعسكروا وسرحوا الإبل، واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم يتقصون ما حولهم، فبعثوا أبا قتادة، والحباب بن المنذر، وأبا نائلة، فخرجوا على متون خيلٍ لهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود فقالوا: ما أنت؟ قال: أطلب بغيي. فأتوا به علياً عليه السلام فقال: ما أنت؟ قال: باغ. قال: فشدوا عليه، فقال: أنا غلام لرجل من طيئ من بني نبهان، أمروني بهذا الموضع، وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسراً. فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم. ثم قلت لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بينٍ من عددكم وعدد خيلكم وركابكم؛ ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم. قال علي عليه السلام: اصدقنا ما وراءك! قال: أوائل الحي على مسيرة ليلة طرادةٍ، تصبحهم الخيل ومغارها حين غدوا. قال علي عليه السلام لأصحابه: ما ترون؟ قال جبار بن صخر: نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون فنغير عليهم؛ ونخرج بالعبد الأسود ليلاً، ونخلف حريثاً مع العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله. قال علي: هذا الرأي! فخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادا، وهو ردف بعضهم عقبة، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف، فلما انهار الليل كذب العبد وقال: قد أخطأت الطريق وتركتها ورائي. قال علي عليه السلام: فارجع إلى حيث أخطأت! فرجع ميلاً أو أكثر، ثم قال: أنا علي خطأ. فقال علي عليه السلام: إنا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحي، قدموه! لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت إن صدقتكم، أينفعني؟ قالوا: نعم. قال: فإني صنعت ما رأيتم؛ إنه أدركني ما يدرك الناس من الحياء فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحي من غير محنةٍ ولا حق فآمنهم، فلما رأيت منكم ما رأيت وخفت أن تقتلوني كان لي عدر، فأنا أحملكم على الطريق. قالوا: اصدقنا. قال: الحي منكم قريب. فخرج معهم حتى انتهى إلى أدنى الحي، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النعم في المراح والشاء، فقال: هذه الأصرام وهي على فرسخ. فينظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: فأين آل حاتم؟ قال: هم متوسطو الأصرام. قال القوم بعضهم لبعض: إن أفزعنا الحي تصايحوا وأفزعوا بعضهم بعضاً فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر معترضاً فقد قرب طلوعه فنغير؛ فإن أنذر بعضهم بعضاً لم يخف علينا أين يأخذون، وليس عند القوم خيل يهربون عليها ونحن على متون الخيل. قالوا: الرأي ما أشرت به. قال: فلما اعترضوا الفجر أغاروا عليها فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم يخف عليهم أحد تغيب فملأ أيديهم. قالك تقول جارية من الحي وهي ترى العبد الأسود - وكان اسمه. أسلم - وهو موثق: ماله هبل! هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم! قال: يقول الأسود: أقصرى يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي! قال: فعسكر القوم، وعزلوا الأسرى وهم ناحية نفير، وعزلوا الذرية وأصابوا من آل حاتم أخت عدي ونسياتٍ معها، فعزلوهن على حدةٍ، فقال أسلم لعلي عليه السلام: ما تنتظر بإطلاقي؟ فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

قال: أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت! قال: ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟ قال: نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إلى من أن أكون مع غيرهم مطلقاً، يصيبني ما أصابهم. فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى، وقال: أنا معهم حتى ترون منهم ما أنتم راءون. فقائل يقول له من الأسرى: لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم! وقائل يقول: مرحباً بك وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت! لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشد منه، ثم آسيت بنفسك! وجاء العسكر واجتمعوا، فقربوا الأسرى فعرضوا عليهم الإسلام، فمن أسلم ترك ومن أبى ضربت عنقه، حتى أتوا على الأسود فعرضوا عليه الإسلام، فقال: والله إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود! قال: يقول رجل من الحي ممن أسلم: يا عجباً منك، ألا كان هذا حيث أخذت! فلما قتل من قتل، وسبى من سبى منا، وأسلم منا من أسلم راغباً في الإسلام تقول ما تقول! ويحك، أسلم واتبع دين محمد! قال: فإني أسلم وأتبع دين محمد. فأسلم وترك، وكان يعد فلا يفي حتى كانت الردة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة فأبلى بلاء حسناً.
قال: وسار علي عليه السلام إلى الفلس فهدمه وخربه؛ ووجد في بيته ثلاثة أسياف، رسوب، والمخذم، وسيفاً يقال له اليماني، وثلاثنة أدراع، وكان عليه ثياب يلبونه إياها. وجمعوا السبي، فاستعمل عليهم أبو قتادة، واستعمل عبد الله بن عتيك السلمى على الماشية والرثة، ثم ساروا حتى نزلوا ركك فاقتسموا السبي والغنائم، وعزل النبي صلى الله عليه وسلم صفيا رسوباً والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر؛ وعزل الخمس، وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
قال الواقدي: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن جعفر الزهري فقال: حدثني ابن أبي عون قال: كان في السبي أخت عدي بن حاتم لم تقسم، فأنزلت دار رملة بنت الحارث. وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي عليه السلام، وكان له عين بالمدينة فحذره فخرج إلى الشام، وكانت أخت عدي إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علينا من الله عليك! كل ذلك يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم! فيقول: الفار من الله ورسوله؟ حتى يئست. فلما كان يوم الرابع مر النبي صلى الله عليه وسلم فلم تكلم فأشار إليها رجل: قومي فكلميه! فلكمته فأذن لها ووصلها، وسألت عن الرجل الذي أشار إليها فقيل: على، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله، ما زلت مدينة طرف ثوبي على وجهي وطرف ردائي على برقعي من يوم أسرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.
غزوة تبوكقرى على أي القاسم بن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن ابن سعيد، وعبد الله بن جعفر الزهري، ومحمد بن يحيى، وابن أبي حبيبة وربيعة بن عثما، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي قتادة، وعبد الله ابن عبد الرحمن الجمحي، وعمر بن سليمان بن أبي حثمة، وموسى بن محمد بن إبراهيم، وعبد الحميد بن جعفر، وأبو معشر، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وابن أبي سبرة، وأيوب بن النعمان؛ فكل قد حدثني بطائفةٍ من حديث تبوك، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني ممن لم أسم، ثقات، وقد كتبت كل ما قد حدثوني.

قالوا: كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم؛ لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك، إنما ذلك شئ قيل لهم فقالوه. ولم يكن عدون أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجاراً - من العدد والعدة والكراع. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوةً إلا ورى بغيرها، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ ديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزي وعدداً كثيراً، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم، وأخبر بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم، فبعث إلى أسلم بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم، وخرج أبو واقد الليثي في قومه، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مكيث، وجندب بن مكيث في جهينة؛ وبعث نعيم بن مسعود في أشجع؛ وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء، وعمرو بن سالم، وبشر بن سفيان؛ وبعث في سليم عدة، منهم العباس بن مرداس. وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد، ورغبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، فكان أول من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: الله ورسوله أعلم! وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئاً؟ قال: نعم، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال: ما استبقنا إلى الخير قط. صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالاً؛ وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالاً، مائتي أوقية؛ وحمل سعد بن عبادة إليه مالاً، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالاً. وتصدق عاصم ابن عدي بتسعين وسقاً ممراً. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، حتى كفى ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت لهم حاجة! حتى كفاهم شنق أسقيتهم. فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا! ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، واحتسبوا في ذلك الخير، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كن النساء ليعن بكل ما قدرن عليه قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه مسك، ومعاضد، وخلاخل وأقرطة وخواتيم، وخدمات، مما يبعث به النساء يعن به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرةٍ شديدة، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالانكماش والجد، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب، قد رحل يريد أن يبعث إلا أنه طن أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدين قيس: أبا وهب، هل لك العام تخرج معنا لعلك تحتفب من بنات الأصفر؟ فقال الجد: أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله، لقد عرف قومي ما أحد أشد عجباً بالنساء مني، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد أذنت لك! فجاءه ابنه عبد الله بن الجد وكان بدريا، وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال لأبيه: لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؟ فو الله ما في بني سلمة أكثر مالاً منك، ولا تخرج ولا تحمل أحدً! قال: يابني، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ والله، ما آمن خوفاً من بني الأصفر وإني في منزلي بخربي، فأذهب إليهم فأغزوهم، وإني والله يابني عالم بالدوائر! فأغلظ له ابنه، فقال: لا والله، ولكنه النفاق! والله، لينزان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك قرآن يقرأونه. قال: فرفع نعله فضرب بها وجهه، فانصرف ابنه ولم يكلمه. وجعل الخبيث يثبط قومه، وقال لجبار بن صخر ونفرٍ معه من بني سلمة: يا بني سلمة، لا تنفروا في الحر. يقول: لا تخرجوا في الحر زهادةً في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل فيه: وقالوا لا تنفروا في الحر إلى قوله: جزاءً بما كانوا يكسبون. وفيه نزلت: ومنهم من يقول " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية، أي كأنه إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به؛ إنما تعذر بالباطل، فما سقط. فيه من الفتنة أكثر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه. يقول الله عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يقول: إن جهنم لمن ورائه؛ فلما نزلت هذه الآية جاء ابنه إلى أبيه فقال: ألم أقل لك إنه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟ قال: يقول أبوه: اسكت عني يا لكع! والله. لا أنفعك بنافعةٍ أبداً! والله لأنت أشد على من محمد! قال: وجاء البكاءون وهم سبعة يستحملونه، وكانوا أهل حاجة، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " . الآية. وهم سبعة من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير، قد شهد بدراً، لا اختلاف فيه عندنا؛ ومن بني واقف هرمي ابن عمرو؛ ومن بني حارثة علبة بن زيد، وهو الذي تصدق بعرضه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، فجعل الناس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول الله، ما عندي ما أتصدق به وجعلت عرضي حلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبل الله صدقتك. ومن بني مازن بن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب؛ ومن بني سلمة عمرو بن عتبة، ومن بني زريق سلمة بن صخر، ومن بني سليم عرباض بن سارية السلمى. وهؤلاء أثبت ما سمعنا. ويقال: عبد الله بن مغفل المزني، وعمرو بن عوف المزني؛ ويقال: هم بنو مقر،، من مزينة. ولما خرج البكاءون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، وإنما يريدون ظهراً، لقي يامين بن عمير بن كعب بن شبل النضري أبا ليلى المازني، وعبد الله بن مغفل المزني، وهما يبكيان فقال: وما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما ننفق به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه، وزود كل رجلٍ منهما صاعين من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخرج معنا إلا مقوٍ فخرج رجل على بكرٍ صعب فصرعه، فقال الناس: الشهيد، الشهيد! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة ولا يدخل الجنة عاصٍ. وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء.

قالوا: وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير علةٍ فأذن لهم، وكان المنافقون الذين استأذنوا بضعه وثمانين. وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله عز وجل. هم نفر من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون رجلاً. وأقبل عبد الله بن أبي بعسكره، فضربه على ثنية الوداع بحذاء ذباب، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع إليه، فكان يقال: ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين، وأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم السفر، وأجمع المسير، استخلف على المدينة سباع ابن عرفة الغفاري ويقال: محمد بن مسلمة لم يتخلف عنه غزوة غير هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف ابن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بنى الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، إلى ما لا قبل له به! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق معه من هو على مثل رأية، ثم قال ابن أبي: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع إلى تبوك، وعقد الآلوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال: إلى الحباب بن المنذر بن الجموح.
قالوا: وإذا عبد لا مرآة من بني ضمرة، لقيه على رأس ثنية النور، والعبد متسلح. قال العبد: أقاتل معك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنت؟ قال: مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى سيدتك، لا تقتل معي فتدخل النار! قال: حدثني رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، عن جده، قال: جلست مع زيد بن ثابت فذكرنا غزوة تبوك، فذكر أنه حمل لواء مالك بن النجار في تبوك فقلت: يا أبا سعيد، كرم ترى كان المسلمون؟ قال: ثلاثون ألفاً، لقد كان الناس يرحلون عند ميل الشمس، فما يزالوان يرحلون والساقة مقيمون حتى يرحل العسكر. فسألت بعض من كان بالساقة فقال: ما يرحل آخرهم إلا مساء، ثم نرحل على أثرهم فما ننتهي إلى العسكر إلا مصبحين من كثرة الناس.
قالوا: وتخلف نفر من المسلمين، أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتبابٍ، منهم: كعب بن مالك، وكان كعب يقول: كان من خبري حين تخلفت عن تبوك أني لم أك قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة؛ والله، ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغروة! فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أعدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك! فلم أزل يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً والمسلمون، وذلك يوم الخميس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يخرج فيه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحق بهم. فغدوت بعد ما فصلوا أتجهز، فرجعت ولم أفعل شيئاً، ثم غدوت فلم أفعل شيئاً، فلم أزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وقلت: أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت! ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس فطفت فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. والقائل عبد الله بن أنيس، ويقال: الذي رد عليه المقالة أبو قتادة، ومعاذ بن جبل أثبتهما عندنا.
قال هلال بن أمية الوافقي، حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك: والله ما تخلفت شكا ولا ارتباباً، ولكن كنت مقوياً في المال.

قلت: أشتري بعيراً. ولقيني مرارة بن الربيع فقال: أنا رجل مقوٍ، فأبتاع بعيراً وأنطلق به. فقلت: هذا صاحب أرافقه. فجعلنا نقول: نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفوت ذلك؛ نحن قوم مخفون على صدر راحلتين فغداً نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونوخر الأيام حتى شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد. فقلت: ما هذا بحين خروج. وجعلت لا أرى في الدار ولا في غيرها إلا معذوراً أو منافقاً معلناً، فأرجع مغتما بما أنا فيه. وكان أبو خيثمة قد تخلف معنا، وكان لا يتهم في إسلامه ولا يغمص عليه، فعزم له على ما عزم، وكان أبو خيثمة يسمى عبد الله بن خيثمة السالمي، فرجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام حتى دخل على امرأتين له في يومٍ حار فوجدهما في عريشين لهما، قد رشت كل واحدةٍ منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما انتهى إليهما قام على العريشين فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر، يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظلالٍ باردٍ وطعامٍ مهيأ وامرأتين حسناوين، مقيم في ماله، ما هذا بالنصف! ثم قال: والله، لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى أخرج فألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأناخ ناضحه وشد عليه قتبه وتزود وارتحل، فجعلت امرأتاه يكلمانه ولا يكلمهما، حتى أدرك عمير بن وهب الجمحى بوادي القرى يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فصحبه فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة: يا عمير! إن لي ذنوباً وأنت لا ذنب لك، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك. ففعل عمير، فسار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فقال الناس: يا رسول الله، هذا أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة، وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الدومة، فراح منها ممسياً حيث أبرد، وكان في حر شديد، وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الطهر والعصر في منزله، يؤخر الظهر حتى يبرد، ويعجل العصر، ثم يجمع بينهما، فكل ذلك فعله حتى رجع من تبوك. وكانت مساجده في سفره إلى تبوك معروفة؛ صلى تحت دومة بذي خشب، ومسجد الفيفاء، ومسجد بالمروة، ومسجد بالسقيا، ومسجد بوادي القرى، ومسجد بالحجر، ومسجد بذنب حوصاء، ومسجد بذي الجيفة، من صدر حوصاء، ومسجد بشق تاراء مما يلي جوبر، ومسجد بذات الخطمى، ومسجد بسمنة، ومسجد بالأخضر، ومسجد بذات الزراب، ومسجد بالمدران، ومسجد بتبوك.
ولما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجال فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه! فخرج معه ناس من المنافقين كثير لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
وكان أبو ذر يقول: أبطات في غزوة تبوك من أجل بعيري، كان نضوا أعجف، فقلت: أعلفه أباماً ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعلفته أياماً ثم خرجت، فلما كنت بذي المروة عجز بي، فتلومت عليه يوماً فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته على ظهري، ثم خرجت أبتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً في حر شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحداً يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ مني العطش، فنظر ناظر من الطريق فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كن أبا ذر! فلما تأملني القوم قالوا: يا رسول الله، هذا أبو ذر! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنوت منه فقال: مرحباً بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! فقال: ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعز أهلي على تخلفاً، لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوةٍ ذنباً إلى أن بلغتني. ووضع متاهه عن ظهره ثم استسقى، فأتى بإناء من ماء فشربه، فلما أخرجه عثمان رضي الله عنه إلى الربذة فأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما فقال: اغسلاني وكنناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود في رهطٍ من العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطرها، فسلم القوم فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينوني عليه! فاستهل ابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبو ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " . ثم نزل هو وأصحابه حتى وراروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.
وكان أبو رهم الغفاري وهو كلثوم بن الحصين، قد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً. قال: فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وأنا قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقي على النعاس، فطفقت أستيقظ. وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفزعني دنوها منه خشية أن أصيب رجله في الغرز؛ فطفقت أحوز راحلتي حتى غلبتني عيناي في بعض الطريق ونحن في بعض الليل، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فما استيقظت إلا بقوله: حس! فقلت: يا رسول الله، استغفر لي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سر! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف من بني غفارٍ، فأخبره بهم، وهو يسألني ما فعل النفر الحمر الطوال النطانط؟ فحدثته بتخلفهم. قال: فما فعل النفر السود القصار الجعاد الحلس؟ فقلت: والله يا رسول الله ما أعرف هؤلاء. قال: بلى، الذين هم بشبكة شدخ. قال: فتذكرتهم في بني غفار فلا أذكرهم، ثم ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا فينا وكانوا يحلون بشبكة شدخ، لهم نعم كثير، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط. من أسلم حلفاء لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعيرٍ من إبله رجلاً نشيطاً في سبيل الله ممن يخرج معنا، فيكون له مثل آجر الخارج! إن كان لمن أعز أهلي على أن يتخلف عني! المهاجرون من قريش والأنصار، وغفار، وأسلم.
قالوأ: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره مر على بعيرٍ من العسكر قد تركه صاحبه من العجف والضعف، فمر به مار فأقام عليه وعلفه أياماً ثم حوله إلى منزله، فصلح البعير فسافر عليه، فرآه صاحبه الأول، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحيى خفا أو كراعاً بمهلكةٍ من الأرض فهو له.

قالوا: وكان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً، ومن الخيل عشرة آلاف فرس. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بطنٍ من الأنصار أن يتخذوا لواءً وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمار بن حزم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة: يا رسول الله، لعلك وجدت علي! قال: لا والله، ولكن قدموا القرآن، وكان أكثر أخذاً للقرآن منك؛ والقرآن يقدم، وإن كان عبداً أسود مجدعاً. وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، وكان أبو زيد يحمل راية بني عمر بن عوف، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بأصحابه في سفره وعليه جبة صرف وقد أخذ بعنان فرسه أو قال: مقود فرسه وهو يصلى، فبال الفرس فأصاب الجبة فلم يغسله وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها.
قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس ابن سويد بن الصامت، ومخشى بن حمير من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة بن حاطب. فقال: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيباً للمؤمنين. فقال وديعة بن ثابت: مالي أرى قراءنا هؤلاء أوعبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس ابن سويد، وكان زوج أم عمير، وكان ابنها عمير يتيماً في حجره: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا! والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير! والله، لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجلٍ منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم!

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلم كذا وكذا! فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، وقد أخذ بحقب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! ولم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيه: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " . قالوا: ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من الحمير قال: فأنت شر من الحمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق وأنت الكاذب. وجاء الجلاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئاً، فأنزل الله عز وجل على نبيه فيه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " ونزلت فيه: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " الآية قال: وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجاً، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها له فاستغنى بها. وقال مخشى بن حمير: قد والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أو عبد الله وسأل الله عز وجل أن يقتل شهيداً ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك، فكان يثبط. الناس عم الخروج، وكانت أم عمير تحته، وكان عمير يتيماً في حجره ولا مال له، فكان يكفله وبحسن إليه، فسمعه وهو يقول: والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحيمر! فقال له عمير: يا جلاس، قد كنت أحب الناس إلى، وأحسنهم عندي أثراً، وأعزهم على أن يدخل عليه شئ نكرهه؛ والله، لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون على من الأخرى! فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم مقالة الجلاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الجلاس مالاً من الصدقة لحاجته وكان فقيراً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير، فحلف بالله ما تكلم به قط. وأن عمير الكاذب. وهو عمر بن سعيد وهو حاضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام وهو يقول: اللهم، أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به! فأنزل الله على نبيه " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " إلى قوله: " أغناهم الله ورسوله من فضله " للصدقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الجلاس: اسمع! الله قد عرض على التوبة! والله لقد قلت ما قال عمير! ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خيرٍ كان يصنعه إلى عمير ابن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته.

قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آخر صوها! فخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرصناها معه، عشرة أوساق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك. فلما أمسنا بالحجر قال: إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد منكم إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله. قال: فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره. فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبلى طيئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا الذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلى طيئ فإن طيئاً أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودى هريساً فأكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم أربعين وسقاً، فهي جارية عليهم. تقول امرأة من اليهود: هذا الذي صنع بهم محمد خير مما ورثوه من آبائهم؛ لأن هذا لا يزال جارياً عليهم إلى يوم القيامة.
وكان أبو هريرة يحدث يقول: لما مررنا بالحجر استقى الناس من بئرها وعجنوا، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها ولا تتوضئا منه للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل. قال سهل ابن سعد: كنت أصغر أصحابي وكنت مقريهم في تبوك، فلما نزلت عجنت لهم ثم تحينت العجين، وقد ذهبت أطلب حطباً، فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تشبوا من ماء بئرهم. فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتها. قالوا: يا رسول الله، قد عجنا. قال: أعلفوه الإبل! قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نضوين، فهما كانا أضعف ركابنا.
وتحولنا إلى بئر صالحٍ النبي عليه السلام، فجعلنا نستقي من الأسقية ونغسلها، ثم ارتوينا، فلم نرجع يومئذ إلا ممسين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها، فعقروها فأوعدوا ثلاثاً، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلا هلك، إلا رجل في الحرم منعه الحرم من عذاب الله. قالوا: يا نبي الله، من هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو رغال، أبو ثقيف. قالوا: فما له بناحية مكة؟ قال: إن صالحاً بعثه مصدقاً، فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص، ومعه شاة والد، ومعه صبي ماتت أمه بالأمس. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك. فقال: مرحباً برسول الله وأهلاً! خذ قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أم هذا الغلام بعد أمه، خذ مكانها عشراً. قال: لا. قال: عشرين. قال: لا. قال: خمسين. قال: لا. قال: خذها كلها إلا هذه الشاة. قال: لا. قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فنثر كنانته ثم قال: اللهم تشهد! ثم فوق له بسهم فقتله، فقال: لا يسبق بهذا الخبر إلى نبي الله أول مني! فجاء صالحاً فأخبره الخبر، فرفع صالح يديه مدا فقال: اللهم العن أبا رغال! ثلاثاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم. قال أبو سعيد الخدري: رأيت رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين. قال: فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه فما أدرى أين وقع حتى الساعة. وكان انب عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين حاذهم: إن هذا وادي النفر! فجعلوا يوضون فيه ركابهم حتى خرجوا منه.

قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يونس بن يوسف، عن عبيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدرى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته حتى خلفها. قال: وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة فدعا ولا والله ما أرى في السماء سحاباً فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى إني لأنظر إلى السحاب تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطر. ثم كشف الله السماء عنا من ساعتها وإن الأرض إلا غدر تناخس، فسقى الناس وارتووا عن آخرهم، وأسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشهد أني رسول الله! فقلت لرجلٍ من المنافقين: ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو أوس بن قيظى، ويقال: زيد بن اللصيت.
قال: حدثني يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟ فقال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبني عمه. سمعت جدك قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قوم منا منافقون. ثم من بعد سمعت زيد بن ثابت يقول في بني النجار: من لا بارك الله فيه! فيقال: من يا أبا سعيد؟ فيقول: سعد بن زرارة، وفيس بن فهر. ثم يقول زيد: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما كان من أمر الماء ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سحابةً فأمطرت حتى ارتوى الناس، فقلنا: يا ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو والله رجل لك به قرابة يا محمود بن لبيد! قال محمود: قد عرفته! قال: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً إلى تبوك، فأصبح في منزل، فضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عمارة بن حزم عقبى بدرى قتل يوم اليمامة شهيداً وكان في رحله زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع كان يهودياً فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وعشهم، وكان مظاهراً لأهل النفاق، فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن منافقاً يقول إن محمداً يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بأمر السماء ولا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا الشعب أشار لهم إليه حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها. فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شئ حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنها عن مقالة قائلٍ أخبره الله عنه! قال كذ وكذا الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! قال: فأقبل عمارة على زيد ابن اللصيت يجأه في عنقه ويقول: والله، إن في رحلى لداهية وما أدري! اخرج يا عدو الله من رحلى! وكان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط. من أصحابه. والذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرةٍ، فقال زيد بن اللصيت: لكأني لم أسلم إلا اليوم! قد كنت شاكاً في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرةٍ، وأشهد أنه رسول الله! فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فشلا حتى مات.

فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي المشقق سمع حادياً في جوف الليل فقال: أسرعوا بنا نلحقه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ممن الحادي، منكم أو من غيركم؟ قالوا: بلى، من غيرنا. قال: فأدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جماعة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا من مضر. فانتسب حتى بلغ مضر. قال القوم: نحن أول من حدا بالإبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذلك؟ قالوا: بلى، إن أهل الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فأغير على رجلٍ منهم ومعه غلام له، فندت إبله فأمر غلامه أن يجمعها، فقال: لا أستطيع! فضرب يده بعصاً، فجعل الغلام يقول: وايداه! وايداه! وتجتمع الإبل، فجعل سيده يقول، قل هكذا بالإبل! وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضحك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وهم يسيرون على رواحلهم، فقال: إن الله أعطاني الكنزين فارس والروم، وأمدني بالملوك ملوك حمير، يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فئ الله.
وكان المغيرة بن شعبة يقول: كنا بين الحجر وتبوك فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وكان ذا ذهب أبعد، وتبعته بماءٍ بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم وهي الصلاة الصبح حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم. فحملت مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة فيا ماء، فلما فرغ صببت عليه فغسل وجهه. ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة وعليه جبة رومية فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما ومسح خفيه. وانتهينا إلى عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بالناس، فسبح الناس بعبد الرحمن بن عوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا أن يفتتنوا، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن ركعة، فلما سلم عبد الرحمن تواثب الناس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة الباقية، ثم سلم بعد فراغه منها، ثم قال: أحسنتم! إنه لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
وأتاه يومئذ يعلى بن منبه بأجيرٍ له، قد نازع رجلاً من العسكر، فعضه ذلك الرجل، فانتزع الأجير يده من في العاض فانتزع ثنيته، فلرمه المجروح فبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقمت مع أجيري لأنظر ما يصنع، فأتيى بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعمد أحدكم فيعض أخاه كما يعض الفحل، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب من ثنيته.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتى. قال معاذ بن جبل: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الزلال تبض بشئ من ماء، فسألهما: هل مسستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم. فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غرفوا بأيديهم قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شن، ثم غسل النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثيرٍ فاستقى الناس. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً! قالوا: وكان عبد الله ذو البجادين من مزينة، وكان يتيماً لا مال له، قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً، وكان عمه ميلا، فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، فكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة راجعاً إلى المدينة، فقال عبد الله لعمه: يا عم، قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فائذن لي في الإسلام! فقال: والله، لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعنه منك حتى ثوبيك. فقال عبد العزي، وهو يومئذ اسمه: وأنا والله متبع محمداً ومسلم، وتارك عباده الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه! فأخذ كل ما أعطاه، حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجاداً لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان جبل من حمى المدينة - فاضطجع في المسجد في السحر، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له، فقال: أنت عبد الله ذو الجادين! ثم قال: انزل مني قريباً. فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثراً، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلاً صيتاً، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع إلى هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، يا عمر! فإنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله. قال: فلما خرجوا إلى تبوك قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. قال: أبلغني لحاء سمرة. فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عضده وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار! ال: يا رسول الله، ليس أردت هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك إذا خرجت غازياً في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، ووقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان: فلما نزلوا تبوكاً فأقاموا بها أياماً توفي عبد الله ذو البجادين. فكان بلال بن الحارث يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع بلالٍ المؤذن شعلة من نارٍ عند القمر واقفاً بها، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أدنيا إلى أخاكما! فلما هيآه لشقه قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضياً فارض عنه. قال: فقال عبد الله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحد! وقالوا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وهو مردف سهيل ابن بيضاء خلفه، فقال سهيل: ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا سهيل! كل ذلك يقول سهيل: يالبيك! ثلاث مرات، حتى عرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم؛ فانثنى عليه من أمامه، ولحقه من خلفه من الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، حرمه الله على النار.

قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية، ذكر من عظمها وخلقها، وانصاع الناس عنها. فأقبلت حتى واقفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلاً، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمةً؛ فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط. الثمانية من الجن الذين يريدون أن يسمعوا القرآن، فرأى عليه من الحق - حين ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده - أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام. فسلموا عليه! فقال الناس جميعاً: وعليه السلام ورحمة الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوا عباد الله من كانوا.
قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً وأقام بها عشرين ليلة يصلى ركعتين، وهرقل يومئذٍ بحمص. وكان عقبة بن عامر يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، حتى إذا كنا منها على ليلةٍ استرقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، ألم أقل لك اكلأ لنا الليل؟ فقال بلال: ذهب بي النوم، ذهب بي الذي ذهب بك! قال: فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان غير بعيد، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم هذب بقية يومه وليلته فأصبح بتبرك، فجمع الناس فحمد لله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب؛ واليد العليا خير من السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر الأمور المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً؛ ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكم مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر كن من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حباله الشيطان، والشباب شعبة من الجنون؛ وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع؛ والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، والربا ربا الكذب. وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم.
وكان رجل من بني عذرة يقال له عدى يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فرأيته على ناقةٍ حمراس يطوف على الناس يقول: أيها الناس، يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى الوسطى، ويد المعطى السفلى. أيها الناس، اقنعوا ولو بحزم الحطب! اللهم، هل بلغت؟ ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله، كان لي امرأتان اقتتلتا فرميت فأصبت إحداهما فرمى في رميتي - يعني ماتت، كما تقول العرب: رمى في جنازته.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعقلها ولا ترثها.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع مسجده بتبوك، فنظر نحو اليمين ورفع يديه يشير إلى أهل اليمن فقالك الإيمان يمان! ونظر نحو المشرق وأشار بيده: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر من نحو المشرق حيث يطلع الشيطان قرينه.
وقال رجل من بني سعد بن هذيم: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بتبوك - في نفرٍ من أصحابه، هو سابعهم - فوقفت فسلمت، فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: أفلح وجهك! ثم قال: يا بلال، أطعمنا!

قال: فبسط بلال نطعاً، ثم جعل يخرج من حميتٍ له، فأخرج خرجات بيده من تمرٍ معجونٍ بالسمن والأقط، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا! فأكلنا حتى شبعنا فقلت: يا رسول الله، إن كنت لآكل هذا وحدي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ والمؤمن يأكل في معي واحد. قال: ثم جئته من الغد متحيناً لغدائه لأزداد في الإسلام يقيناً، فإذا عشرة نفرٍ حوله. قال: فقال هات أطعنا يا بلال. قال: فجعل يخرج من جراب تمرٍ بكلفه قبضة قبضة، فقال: أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتاراً! فجاء بالجراب فنثره. قال: فحزرته مدين. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على التمر، ثم قال: كلوا باسم الله! فأكل القوم وأكلت معهم، وكنت صاحب تمر. قال: فأكلت حتى ما أجد له مسلكاً. قال: وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال، كأنا لم نأكل منه تمرةً واحدةً. قال: ثم عدت من الغد. قال: وعاد نفر حتى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلاً أو رجلين، فقال: يا بلال، أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه أعرفه فنثره، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام.
قال: وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديقب به؛ فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف. وكان الذي خبر النبي صلى الله عليه وسلم - من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام - باطلاً، ولم يرد ذلك ولم يهم به. وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقدم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنت أمرت بالمسير فسر! قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت به ما استشرتكم فيه! قال: يا رسول الله، فإن للروم جموعاً كثيرةً، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اله عز وجل لك في ذلك أمراً.
قالوا: وهاجت ريح شديدة بتبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لموت منافقٍ عظيم النفاق. قال: فقدموا المدينة فوجدوا منافقاً قد مات عظيم النفاق.
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبنةٍ بتبوك فقالوا: يا رسول الله، إن هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم الله! قال: وأهدى رجل من قضاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرساً، فأعطاه رجلاً من الأنصار، وأمره أن يربطه حياله استئناساً بصهيله، فلم يزل كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ففقد صهيل الفرس فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابها. والذي نفسي بيده، إن الشهداء ليأتون يوم القيامة بأسيافهم على عواتقهم، لا يمرون بأحد من الأنبياء إلا تنحى عنهم، حتى أنهم ليمرون بإبراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم حتى يجلسوا على منابر من نور. يقول الناس: هؤلاء الذين أهريقوا دماءهم لرب العالمين، فيكون كذلك حتى يقضي الله عز وجل بين عباده!

قالوا: وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك قام إلى فرسه الظرب فعلق عليه شعاره وجعل يمسح ظهره بردائه. قيل: يا رسول اله تمسح ظهره برداءك؟ قال: نعم، وما يدريك؟ لعل جبريل أمرني بذلك، مع أني قد بت الليلة، وإن الملائكة لتعاتبني في حس الخيل ومسحها. وقال: أخبرني خليل جبريل أنه يكتب لي بكل حسنة أو فيتها إياه حينة، وإن ربي عز وجل يحط. عني بها سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط. فرساً في سبيل اله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلا كتب الله له بكل حبة حسنة، وحط عنه بكل حبة سيئة! قيل: يا رسول الله، وأي الخيل خير؟ قال: أدهم، أقرح، وأرثم محجل الثلث، مطلق اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة. قال: وقيل: يا رسول الله، فما في الصوم في سبيل الله؟ قال: من صام يوماً في سبيل الله تباعدت منه جهنم مسيرة مائة سنة كأغذ السير. ولقد فضل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، وما من أحدٍ من القاعدين يخالف إلى امرأةٍ من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلا وقف يوم القيامة فيقال له: إن هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما شئت؛ فما ظنكم؟ وكان عبد الله بن عمر أو عمرو بن العاص يحدث قال: فزع الناس بتبوك ليلةً، فخرجت في سلاحي حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه، فقلت: لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر! فجلست إلى جنبه قريباً من قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مغضباً فقال: أيها الناس، ما هذه الخفة؟ ما هذا النزق؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان الصالحان؟ يعنيني وسالماً مولى أبي حذيفة.
قالوا: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وضع حجراً قبلة مسجد تبوك بيده وما يلى الحجر، ثم صلى الظهر بالناس، ثم أقبل عليهم فقال: ما هاهنا شام، وما هاهنا يمن.
وكان عبد الله بن عمر يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقام يصلي من الليل، وكان يكثر التهجد من الليل، ولا يقوم إلا استاك، وكان إذا قام يصلي صلى بفناء خيمته، فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلى ليلة من تلك الليالي، فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال: أعطيت خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: بعثت إلى الناس كافة، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك ولا يصلون إلا في كنائسهم والبيع، وأحلت لي الغنائم آ كلها، وكان من كان قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي! ثلاثاً. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: سل، فكل نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك

قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا مالكم ذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم.. " الآية. قالوا: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهد من الناس، وحين طابت الثمار واشتهيت الظلال، فأبطأ الناس فكشفت منهم " براءة " ما كان مستوراً، وأبدت أضغانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " إلا تخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب.. الآية. قال: كان قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البوادي! فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " . " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول: نشاطاً وغير نشاط، ويقال: الخفاف: الشباب؛ والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوكم؛ وجاهدوا، يقول: قاتلوا؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " عشرين ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " يعني المنافقين " لو كان عرضاً قريباً " يقول: غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً لا تبعوك " يعني حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض؛ " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " أنهم أقوياء أصحاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل عذرهم ويأذن لهم. قال الله عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب.
" لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر " وصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزة، العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله " يعني المنافقين. ثم ذكر المنافقين فقال: " لقد ابتغوا الفتنة من قبل " من قبل خروجك إلى تبوك وظهور أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين.
" ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " نزلت هذه في الجد بن قيس، وكان أكثر بني سلمة مالاً، وأعدهم عدة في الظهر، وكان رجلاً معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر. فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس أحد أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول الله عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا " لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. " إن تصبك حسنة تسوهم " يقول: غنيمة وسلامة، الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل " . " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب. " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة. " قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم " كان رجال من المنافقين من ذي الطول يظهرون النفقة إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله تعإلى: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم " إلى قوله عز وجل: " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: يكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه على نفاق، وما أنفقوا فإنما هو رياء. " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم " وهم البكاؤون وهم سبعة؛ أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر المازني، وثعلبة بن غنمة الأسلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمى من بني سليم، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير العمري، " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " يعني مع النساء، الجد بن قيس. " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم. " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " من صلى القبلتين.
غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندلفي رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن أبن عباس رضي الله عنه، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومعاذ بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وإسماعيل ابن إبراهيم، عن موسى بن عقبة؛ وكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماده حديث ابن أبي حبيبة.

قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارساً إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل - وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانياً - فقال خالد: يا رسول الله، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجده يصيد البقر فتأخذه. قال: فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرةٍ صائفة، وهو على سطحٍ له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة، وصعد على ظهر الحصن من الحر، وقينته تغنيه، ثم دعا بشرابٍ فشرب. فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته الرباب فأشرفت على الحصن فرأت البقر فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم! هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا! ثم قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد! قال: يقول أكيدر: والله، ما رأيت جاءتنا ليلة بقر غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردت أخذها شهراً أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيت، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم؛ فلما فصلوا من الحصن، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان، فقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته فدخلوا الحصن. وكان على حسان قباء ديباجٍ مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمري حتى قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
قال أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله: رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله وائت به إلى، فإن أبي فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بجرة من طيئ، ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك تجده يصيد البقر " وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال شعراً:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
ومن يك عانداً عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وقال خالد بن الوليد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك. فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاق، انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن! فرأوا ذلك، فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر لخالد: تعلم والله لا يفتحون لي ما رأوني وثاق، فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتني على أهله. قال خالد: فإني أصالحك. فقال أكيدر: إن شئت حكمتك وإن شئت حكمني. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت . فصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه. فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن، فدخله خالد وأوثق أخاه مضاداً أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلاً إلى المدينة، ومعه أكيدر ومضاد. فلما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه أمانهم وما صالحهم، وختمه يومئذ بظفره.
قالوا: وأقبل واثلة بن الأسقع الليثي، وكان ينزل ناحية المدينة، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح انصرف فيتصفح وجوه أصحابه ينظر إليهم.

فلما دنا من واثلة أنكره فقال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أطقت؟ قال واثلة: نعم. فبايعه - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يتجهز إلى تبوك فخرج الرجل إلى أهله، فلقى أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها! قال واثلة: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً. فأتى عمه، وهو مولى ظهره الشمس، فسلم عليه فقال: قد فعلتها! قال: نعم. ولا مه لائمة أيسر من لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر، فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه فسلمت عليه بتحية الإسلام، فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك. وكان واثلة ذكر الإسلام ووصفه لعمه، فأعجب أخته الإسلام فأسلمت، فقال واثلة: لقد أراد الله بك أخية خيراً! جهزى أخاك جهاز غازٍ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فأعطته مدا من دقيق فعجن الدقيق في الدلو، وأعطته تمراً فأخذه. وأقبل إلى المدينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك، وبقي عيرات من الناس وهم على الشخوص وإنما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيومين - فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي! قال: وكنت رجلاً لا رجلة لي، فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار، ويدك أسوة يدي ولي سهمك! قال واثلة: نعم. فقال واثلة بعد ذلك: جزاه الله خيراً! لقد كان يحملني عقبتي، ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر الكندي بدومة الجندل خرج كعب بن عجرة في جيش خالد بن الوليد، وخرجت معه فأصبنا فيها كثراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها! فخرج إلى وهو يتبسم ويقول: بارك الله لك فيها! ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وكان أبو سعيد الخدري رحمه الله يحدث يقول: أسرنا أكيدر فأصابني من السلاح درع وبيضة ورمح، وأصابني عشر من الإبل.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: أسرنا أكيدر وأخاه، فقدمنا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم وعزل يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم صفى خالص قبل أن يقسم شئ من الفئ، ثم خمس الغنائم فكان للنبي صلى الله عليه وسلم الخمس. وكان عبد الله بن عمرو المزني يقول: كنا أربعين رجلاً من مزينة مع خالد بن الوليد، وكانت سهماننا خمس فرائض، كل رجلٍ مع سلاح، يقسم علينا درع ورماح.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت أكيدر حين قدم به خالد وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهر.
قال الواقدي: حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد ابن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها. وإن لنا الضاحية من الضحل، والبور، والمعامي، وأغفال الأرض، والحلقة، والسلاح، والحافر، والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها. عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
قال: الضحل: الذي فيه الماء القليل؛ والبور: ما ليس فيه زرع؛ والمعامي: ما ليست له حدود معلومة؛ وأغفال الأرض: مياه؛ ولا تعد فاردتكم: يقول لا يعد ما يبلغ أربعين شاة؛ والحافر: الخيل؛ والمعين: الماء الظاهر؛ والضامنة من النخل: النبات من النخل التي قد نبتت عروقها في الأرض؛ ولا تحظر عليكم النبات: ولا تمنعوا أن تزرعوه.
قالوا: وأهدي له هدية فيها كسوة، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً آمنه فيه وفيه الصلح، وآمن أخاه ووضع عليه فيه الجزية، فلم يك في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتم فختمه بظفره.

وكانت دومة، وأيلة، وتيماء، قد خافوا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا العرب قد أسلمت. وقدم يحنة بن رؤبة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ملك أيلة، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر. وأقبل معه أهل جرباء وأذرح، فأتوه فصالحهم فقطع عليهم الجزية، جزية معلومة، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، لسفنهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. ومن أحدث حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشر حبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على أهل أيلة؛ ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل.
قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه صليب من ذهب، وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كفر وأومأ برأسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ارفع رأسك! وصالحه يومئذ، وكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا يمنة، وأمر له بمنزل عند بلال.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب: من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم.
قال الواقدي: نسخت كتاب أذرح وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه.
قالوا: وكتب لأهل مقنا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم.
وكان عبيد بن ياسر بن نمير أحد سعد الله، ورجل من جذام أحد بني وائل، قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بتبرك، فأسلما وأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ربع مقنا مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها، وربع المغزل. وكان عبيد بن ياسر فارساً، وكان الجذامي راجلاً، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس عبيد بن ياسر مائة ضفيرة - والضفيرة: الحلة - فلم يزل يجري ذلك على بني سعد، وبني وائل إلى يوم الناس هذا.
ثم إن عبيد بن ياسر قدم مقنا وبها يهودية، وكانت اليهودية تقوم على فرسه، فأعطاها ستين ضفيرة من ضفاشر فرسه، فلم يزل يجري على اليهودية حتى نزعت آخر زمان بني أمية، فلم ترد إليها ولا إلى ولد عبيد. وكان عبيد قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرساً عتيقاً يقال له مراوح، وقال: يا رسول الله ، سابق! فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بتبوك فسبق الفرس، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فسأله المقداد بن عمرو الفرس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين سبحة؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً. قال: يا رسول الله عندي، وقد كبرت وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها؛ وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها، فأردت أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتيني بمهر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! فقبضه المقداد، فخبر منه صدقاً، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال، سبق في عهد عمر وعثمان، فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً.
قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك يريد حاجته، فرأى ناساً مجتمعين فقال: ما لهم؟ قيل: يا رسول اله بعير لرافع بن مكيث الجهني، نحره فأخذ منه حاجته، فخلى بين الناس وبينه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه نهبة لا تحل! قيل: يا رسول الله، إن صاحبه أذن في أخذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أذن في أخذه!

قالوا: وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ظل خباء في سبيل الله، أو خدمة خادمٍ في سبيل الله، أو طروقة فحلٍ في سبيل الله.
وكان جابر بن عبد الله يحدث يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك فقال: اقطعوا قلائد الإبل من الإبل. قيل: يا رسول الله ، فالخيل؟ قال: لا تقلدوها بالأوتار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على حرسه بتبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان عباد بن بشر يطوف على أصحابه في العسكر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا رسول الله، ما زلنا نسمع صوت تكبيرٍ من ورائنا حتى أصبحنا، فوليت أحدنا يطوف على الحرس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلتن ولكن عسى أن يكون بعض المسلمين على خيلنا انتدب. فقال سلكان ابن سلامة: يا رسول الله، خرجت في عشرةٍ من المسلمين على خيلنا فكنا نحرس الحرس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله حرس الحرس في سبيل الله! قال: فلكم قيراط من الأجر على كل من حرستم من الناس جميعاً أو دابة.
قالوا: وقدم نفر من بني سعد هذيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا، قليل ماؤها، وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نقتطع؛ لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع الله لنا في ماء بئرنا، وإن روينا به فر قوم أعز منا، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوني حصيات! فتناولت ثلاث حصيات فدفعتهن إليه، ففركهن بيده ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم فاطرحوها واحدةً واحدةً وسموا الله. فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من المشركين ووطئوهم، فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا من حولهم عليه ودانوا بالإسلام.
قالوا: وكان زيد بن ثابت يحدث يقول: عزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فكنا نشتري ونبيع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرانا ولا ينهانا.
قال: وكان رافع بن خديج يحدث يقول: أقمنا بتبوك المقام فأرملنا من الزاد وقرمنا إلى اللحم ونحن لا نجده، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن اللحم ها هنا، وقد سألت أهل البلد عن الصيد فذكروا لي صيداً قريباً - فأشاروا إلى ناحية المغرب - فأذهب فأصيد في نفرٍ من أصحابي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذهبت فاذهب في عدةٍ من أصحابك، وكونوا على خيلٍ ، فإنكم تتفرقون من العسكر.
قال: فانطلقت في عشرةٍ من الأنصار فيهم أبو قتادة - وكان صاحب طردٍ بالرمح وكنت رامياً - فطلبنا الصيد فأدركنا صيداً، فقتل أبو قتادة خمسة أحمرة بالرمح على فرسه، ورميت قريباً من عشرين ظبياً، وأخذ أصحابنا الظبيين والثلاثة والأربعة، وأخذنا نعامة طردناها على خيلنا. ثم رجعنا إلى العسكر، فجئناهم عشاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنا: ما جاءوا بعد؟ فجئنا إليه فألقينا ذلك الصيد بين يديه فقال: فرقوه في أصحابكم! قلت: يا رسول الله، أنت مر به رجلاً! قال: فأمر رافع بن خديج. قال: فجعلت أعطي القبيلة بأسرها الحمار والظبي، وأفرق ذلك حتى كان الذي صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظبي واحد مذبوح، فأمر به فطبخ، فلما نضج دعا به - وعنده أضياف - فأكلوا. ونهانا بعد أن نعود وقال: لا آمن. أو قال: أخاف عليكم.

حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجةٍ، فرجعنا إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن مغفل المزني - فكنا ثلاثة، كنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطلب شيئاً نأكله فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالاً: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا. قال: انظر، عسى أن تجد شيئاً فأخذ الجرب ينفضها جراباً جراباً، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفةٍ فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى الله وقال: كلوا بسم الله! فأكلنا فأحصيت أربعة وخمسين تمرة أكلتها، أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، وشبعنا وأكل كل واحدٍ منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعاً. قال: فبينا نحن حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله فقرأ من " المؤمنين " عشراً، فقال: هل لكم في الغداء؟ قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة ثم قال: كلوا بسم الله! فأكلنا - والذي بعثه بالحق - حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعاً وإذا التمرات كما هي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا. وطلع غليم من أهل البلد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التمرات بيده فدفعها إليه؛ فولى الغلام يلوكهن. فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير من تبوك أرمل الناس إرمالاً شديداً، فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها، فأذن لهم؛ فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن محرها، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمةٍ له فقال: أذنت للناس في نحر حمولتهم يأكلونها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شكوا إلى ما بلغ منهم الجوع فأذنت لهم، ينحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون الى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: منكان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا الى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا الى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا الى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشأ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!

وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً الى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به الى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأوه، ثم دعا بر كابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فإدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.

فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلىن ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده الى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرةن عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.

قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز الى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالى: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل الى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر الى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه الىجنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به الى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.

وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز الى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " الى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم الى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم الى الله تعالى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم الى الله عز وجل.

قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت الى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع الى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها الى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله

ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان الى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا الى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.

قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غالى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام الى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال الى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي الى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي الى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي الى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم الى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " الى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " الى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!

قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعالى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده الى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل الى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا الى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به الى قبره.

فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك

" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض " الى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا الى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "

يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم الى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا الى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.

قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها الى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.

" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " الى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " الى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " الى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء الى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا

حشف. قال: نعم. فعمل معه الى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به الى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا الى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " الى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " الى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله الى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " الى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ الى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " الى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " الى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " الى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.

" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون الىعذاب عظيم " يقول: الى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار الى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " الى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " الى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " الى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .

قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " الى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " الى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر الى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " الى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " الى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة الى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم الى بعض " الى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع

قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ الى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى الى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون إلى أهليهم. فقال: يا رسول الله، لا تفعل؟ فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيراً، فالظهر اليوم رقاق، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حيث أرملنا، فإن الله عز وجل يستجيب لك؟! فنادى منادي رسول الله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به؟! وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر. فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق حزراً. ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل أن .
يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهني معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى منادية: هلموا إلى الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس، فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرةً من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقاً والآخر خبزاً، وأخذت في ثوبي دقيقاً، ما كفانا إلى المدينة. فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وفاه الله حر النار.

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء. قال معاذ ابن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبيد الله بن عبد العزيز، أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد ابن سويد، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير في الجيش ليلاً، وهو قافل وأنا معه، إذ خفق خفقةً وهو على راحلته، فعال على شقه، فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط. فدعمتك. فقال: حفظك الله كما حفظت رسول الله! ثم سار غير كثير، ثم فعل مثلها، فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله! فقال: انظر من خلفك! فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم! فقلت: أجيبوا رسول الله! فجاءوا فعرسنا ونحن خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها؛ فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلنا: إنا لله! فاتنا الصبح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأناً، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا. وذلك أن أبا بكر وعمر أراد أن ينزلا بالجيش على الماء، فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاةٍ من الأرض. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى ترووا، وأرووا خيلهم وركابهم، فإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ويقال: خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة!

وكان في تبوك أربعة أشياء: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير منحدراً إلى المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشاً شديداً حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أسيد بن حضير، في يومٍ صائفٍ وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عسى أن تجد لنا ماء. فخرج وهو فيما بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأةٍ من بلى، وكلمها أسيد فخبرها بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به إلى رسول الله! وقد وضعت لهم الماء وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: هلموا أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملأه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به أسيد وصبه في قعبٍ عظيمٍ من عساس أهل البادية، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: زودوا! فاتسع الماء، وانبسط. الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان، فأرووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرداً متروياً من الماء.
قال: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي سهل، عن عكرمة، قال: خرجت الخيل في كل وجهٍ يطلبون الماء، وكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرسٍ أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، بارك في الشقر! قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة وسعد بن راشد، عن صالح بن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الخيل الشقر.
قالوا: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبةً في الطريق. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع! فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة رواحلهم بمحجن في يده. وظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمه الليل.
وكانوا قد أنفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فسقط. بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي يقول: فنور لي في أصابعي الخمس فأضئن حتى كنا نجمع ما سقط. من السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شئ إلا جمعناه. وكان لحق النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة.

فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من العقبة؟ قال: يا أبا يحيى، أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما اهتموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي. فقال أسيد: يا رسول الله، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت، والذي بعثك بالحق، فنبئني بهم، فلا تبرح حتى آتيكم برؤسهم، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم، وأمرت سيد الخزرج فكفال من في ناحيته، فإن مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟ حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذله، وضرب الإسلام بجرابه! فما يستبقي من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسيد: إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول الله، فهولاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
قال: حدثني يعقوب بن محمد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعمار رحمهما الله.
قال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: تنازع عمار بن ياسر ورجل من المسلمين في شئ فاستبا، فلما كاد الرجل يعلو عماراً في السباب قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: الله أعلم. قال: أخبرني عن علمكم بهم! فسكت الرجل، فقال من حضر: بين لصاحبك ما سألك عنه! وإنما يريد عمار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنا نتحدث أنهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمار: فإنك إن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً! فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني! فقال عمار: والله ما سميت أحداً، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلاً، اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا؛ ويوم يقوم الأشهاد، " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوحى إليه وراحلته باركة، فقامت راحلته تجر زمامها حتى لقيها حذيفة بن اليمان فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني مسر إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلى على فلان، وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم لأحدٍ غير حذيفة. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط. أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عيه عمر، وإن انتزع يده وأبي أن يمشي انصرف معه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، قال: لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً إلا حذيفة، وخم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي. وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا.

قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار، جاءوا خمسة نفر منهم: معتب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد الله بن نبتل ابن الحارث. فقالوا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجداً لذي القلة والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلى بنا فيه! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا بكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوانٍ راجعاً من تبوك أناه خبره وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه؛ قالوا بينهم: يأتينا أبو عامرٍ فيتحدث عندنا فيه، فإنه يقول: لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف، إنما أصحاب رسول الله يلحقوننا بأبصارهم. يقول الله تعالي: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي العجلاني، ومالك بن الدخشم السالمي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرقاه! فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه النار. ثم خرجا سريعين يعدوان حتى انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم يومئذ مجمع بن جارية، فقال عاصم: ما أنسى تشرفهم إلينا كأن آذانهم آذان السرحان. فأحرقناه حتى احترق، وكان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته، فهدمناه حتى وضعناه بالأرض. وتفرقوا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي السمجد يتخذه داراً وكان من دار وديعة بن ثابت ودار أبي عامر إلى جنبهما فاحرقوهما معه فقال: ما كنت لأتخذ مسجداً قد نزل فيه ما نزل داراً؛ وإن بي عنه لغني يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له. فأعطاه ثابتاً. وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مفموص عليه في النفاق، ولكنه قد كان يفعل أموراً تكره له. فلما هدم المسجد أخذ أبو لبابة خشبة ذلك فبني به منزلاً، وكان بيته الذي بناه إلى جنبه. قال: فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولم يقف فيه حمام قط، ولم تحضن فيه دجاجة قط. وكان الذين بنوا مسجد الضرار خمسة عشر رجلاً: جارية بن عامر بن العطاف وهو حمار الدار وابنه مجمع بن جارية وهو إمامهم، وابنه زيد بن جارية وهو الذي احترقت أليته فأبى أن يخرج وابنه يزيد بن جارية، ووديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج، وعبد الله بن نبتل، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، وثعلبة بن حاطب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زمام خير من خذام، وسوط خير من بجاد! وكان عبد الله بن نبتل وهو المخبر بخبره يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثه ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، إن رجلاً من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك، ثم يذهب به إلى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهم هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمارٍ فينظر بعين شيطان.

وكان عاصم بن عدي يخبر يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل، وثعلبة بن حاطب قائمين على مسجد الضرار، وهما يصلحان ميزاباً قد فرغا منه، فقالا: يا عاصم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدنا أن يصلى فيه إذا رجع. فقلت في نفسي: والله، ما نبى هذا المسجد إلا منافق معروف بالنفاق، أسسه أبو حبيبة بن الأزعر، وأخرج من دار خذام بن خالد، ووديعة بن ثابت في هؤلاء النفر والمسجد الذي بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوسسه جبريل عليه السلام يؤم به البيت فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه، وذم أهله الذين جمعوا في بنائه وأعانوا فيه: " الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً " إلى قوله " يحب المطهرين " . قالوا: كانوا يستنجون بالماء. " لمسجد أسس على التقوى " ؛ قال: يعني مسجد بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: عني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل منهم عويم بن ساعدة! وقيل لعاصم بن عدي: ولم أرادوا بناءه؟ قال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم ويلتفت بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم وأرادوا مسجداً يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا! وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره. قالوا: نحن نبني مسجداً تتحدث فيه عندنا.
قالوا: قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأىٍ من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتيني شئ أستريح إليه، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعإلى.
ويقال من غير حديث كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تكلموا أحداً منهم تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم. فلم يكلموهم، فلما قدم المدينة جاءه المعذون يحلفون له، وأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه. فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون إليه بالحمى والأسقام، فيرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل منهم علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل.

قالوا: وقال كعب بن مالك: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فسلمت عليه، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً لترضى عني ليوشكن الله عز وجل أن يسخط. على، ولئن حدثتك اليوم حديثاً صادقاً تجد على فيه، إني لأرجو عقبي الله فيه. ولا والله ما كان لي عذر؛ والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد صدقت، فقم حتى يقض الله عز وجل فيك! فقمت وقام معي رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا! وقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؛ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فو الله ما زالوا بي ينوبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. فلقيت معاذ بن جبل وأبا قتادة فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً إن شاء الله! فأما هؤلاء المعذرون، فإن يكونوا صادقين فسيرضى الله ذلك ويعلمه نبيه، وإن كانوا على غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذب حديثهم. فقلت لهم: هل لقى هذا غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة وقدوة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي، والأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، وكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، حى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا، ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فنشدته الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، فوثبت فتسورت الجدار، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق فإذا نبطي من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالسوق، يسأل عني يقول: من يدلني على كعب ابن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له، فدفع إلى كتاباً من الحارث بن أبي شمر ملك غسان أو قال من جبلة بن الأيهم في سرقةٍ من حرير؛ فإذا في كتابه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك. قال كعب: فقلت حين قرأته: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع في رجال من أهل الشرك. فذهبت بها إلى تنور فسجرته بها، وأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتين فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها. وكان الرسول إلي، وإلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، خزيمة بن ثابت. قال كعب: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ماهو قاض. وأما هلال بن أمية فكان رجلاً صالحاً، فبكى حتى إن كان يرى أنه هالك من البكاء، وامتنع من الطعام، فإن كان يواصل اليومين ولثلاثة من الصوم ما يذوق طعاماً، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو من اللبن، ويصلى الليل ويجلس في بيته لا يخرج؛ لأن أحداً لا يكلمه، حتى إن كان الولدان ليهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أن أخدمه فعلت. قال: نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك. فقالت: يا رسول الله

ما به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.ا به من حركةٍ إلي! والله، ما زال يبكي منذ يوم كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعاً الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنه، وأنا رجل شاب، فو الله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليال، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح على ظهر بيتٍ من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عز وجل، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمةً في ظهر سلع فكنت فيه، إذ سمعت صارخاً أوفني على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
فكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أخبر الناس بما تاب الله على هؤلاء النفر: كعب بن مالك، ومراراة بن الربيع، وهلال بن أمية. فخرج أبو بكر رضي الله عنه فوافى على سلع فصاح: قد تاب الله على كعب! يبشره بذلك. وخرج الزبير على فرسه في بطن الوادي، فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يأتي الزبير. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره ببني واقف، فلما أخبره سجد. قال سعيد: فظننت أنه لا يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، وكان بالسرور أكثر بكاءً منه بالحزن حتى خيف عليه؛ ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناله من الضعف والحزن والبكاء، حتى ركب حماراً. وكان الذي بشر مرارة بن الربيع سلكان بن سلامة أبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ووافيا الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، ثم انطلقا إلى مرار فأخبراه، فأقبل مرارة حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.

قال كعب: وكان الصوت الذي سمعت على سلع أسرع من الفارس الذي يركض في الوادي وهو الزبير بن العوام والذي صاح على سلع، يقول كعب: كان رجلاً من أسلم يقال له حمزة بن عمرو، وهو الذي يشرني. قال: فلما سمعت صوته نزعت ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته؛ والله ما أملك يومئذ غيرهما! ثم استعرت ثوبين من أبي قتادة فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غإلى طلحة بن أبي طلحة فحياني وهنأني، ما قام إلى من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك! ويقال: قال له: تعال إلى خير يومٍ ما طلع عليك شرقه قط. قال كعب: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أو من عند الله؟ فقال: من عند الله عز وجل! قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر يستنير حتى كأن وجهه فلقة القمر، وكان يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه، قلت : يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله وإلي رسوله أن أنخلع من مالي إلى الله ورسوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، هو خير لك!قال قلت: إني ممسك بسهمي الذي بخيبر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ! قلت: النصف! قال: لا! قلت: فالثلث! قال: نعم! قال: إني يا رسول الله أحبس سهمي الذي بخيبر. قال كعب: قلت: يا رسول الله إن الله عز وجل أنجاني بالصدق، فإن توبتي إلى الله ألا أحدث إلا صدقاً ما حييت. قال كعب: والله، ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مما أبلاني، والله ما تعمدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي. وقال كعب: قال الواقدي: أنشدنيه أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب: سبحان ربي إن لم يعف عن زللي فقد خسرت وتب القول والعمل قال: وأنزل الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " إلى قوله: " وكونوا مع الصادقين " . قال كعب: فو الله ما أنعم الله على من نعمه قط. إذ هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أكون كذبته يومئذ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه. قال الله في الذين كذبوه حين أنزل عليه الوحي شر ما قال: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم " إلى قوله " الفاسقين " . قال كعب: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله فيه ما قضي. فبذلك قال الله عز وجل: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " . قال: ليس عن الغزوة، ولكن بتخليفه إيانا، وإرجائه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
قال كعب حين بنى الخيمة على سلع، فيما حدثني أيوب من النعمان ابن عبد الله بن كعب بن أبي القين:
أبعد دور بني القين الكرام وما ... شادوا على تبتيت البيت من سعف
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في رمضان سنة تسع، فقال: الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجرٍ وحسنةٍ ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً سرنا من مسيرٍ ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أوليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القرى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال!

قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، أصابكم السفر وشدة السفر ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة لأقواماً ما سرنا من مسير ولا هبطنا وادياً إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس الله تعإلى يقول في كتابه: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " ؛ فنحن غزاتهم وهم قعدتنا. والذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا! وجعل المسلمون يبيعون سلاحهم ويقولون: قد انقطع الجهاد! فجعل القوى منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال! قالوا: ومرض عبد الله بن أبي في ليالٍ بقين من شوال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حب اليهود. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه. ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب! هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه. فإعطاه الأعلى وكان عليه قميصان فقال: الذي يلي جلدك. فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثم قال: صل علي واستغفر لي! قال: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت ابن أبي إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف من وجهه ونفث عليه من ريقه؛ وأسنده إلى ركبتيه وألبسه قميصه وكان عليه قميصان وألبسه الذي يلي جلده. والأول أثبت عندنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غسله وحضر كفنه، ثم حمل إلى موضع الجنائز فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا؟ فعد عليه قوله. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه عمر قال: إني قد خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له زدت عليها، وهو قوله عز وجل: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " . فيقال إنه قال: سأزيد على السبعين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يكن إلا يسيراً حتى نزلت هذه الآيات من براءة: " ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " . ويقال إنه لم تزل قدماه بعد دفنه حتى نزلت عليه هذه الآية، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المنافقين، فكان من مات لم يصل عليه.
وكان مجمع بن جارية يحدث يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازةٍ قط. ما أطال عليها من الوقت، ثم خرجوا حتى انتهوا إلى قبره، وقد حمل على سرير يحمل عليه موتاهم عند آل نبيط. وكان أنس بن مالك يحدث يقول: رأيت ابن أبي على السرير وإن رجليه لخارجتان من السرير من طوله.
وكانت أم عمارة تحدث قالت: شهدنا مأتم ابن أبي، فلم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج إلا أتت ابنته جميلة بنت عبد الله بن أبين وهي تقول: واجبلاه! ما ينهاها أحد ولا يعيب عليها واجبلاه! واركناه! قالوا: ولقد انتهى به إلى قبره.

فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد جهدنا أن ندنو من سريره فما نقدر عليه، قد غلب عليه هؤلاء المنافقون وكانوا قد أظهروا الإسلام، وهم على النفاق، من بني قينقاع وغيرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وسلامة بن الحمام، ونعمان بن أبي عامر، ورافع بن حرملة، ومالك بن أبي نوفل، وداعس، وسويد. وكانوا أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يعرضونه. وكان ابنه عبد الله ليس شئ أثقل عليه ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق دونهم الباب، فكان ابن أبي يقول: لا يلبني غيرهم. ويقول: أنت والله أحب إلي من الماء على الظمأ. ويقولون: ليت أنا نفديك بالأنفس، والأولاد، والأموال! فلما وقفوا على حفرته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته وارتفعت الأصوات حتى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبهم ويقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله! حتى أصيب أنف داعس فسال الدم، وكان يريد أن ينزل في حفرته، فنحى ونزل رجال من قومه، أهل فضلٍ وإسلام؛ وكان لما رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وحضوره، ومن القيام عليه. فنزل في حفرته ابنه عبد الله، وسعد بن عبادة بن الصامت، وأوس بن خولي حتى سوى عليه، وإن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأكابر من الأوس والخزرج يدلونه في اللحد، وهم قيام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وزعم مجمع بن جارية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن، وعزى ابنه وانصرف. فكان عمرو بن أمية يقول: مالقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون، إنهم هم الذين كانوا يحثون في القبر التراب ويقولون: ياليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك! وهم يحثوب التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: قوم أهل فقر، وكان يحسن إليهم!
ذكر ما نزل من القرآن في غزوة تبوك

" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " إلى آخر الآية. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ وجهدٍ من الناس، وحين طابت الثمار واشتهبت الظلال، فأبطأ الناس، وكشفت " برآءة " عنهم ما كان مستوراً، وأبدت أضفانهم ونفاق من نافق منهم. يقول: " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " يقول: في الآخرة؛ " ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً " قيل: يا رسول الله، من هؤلاء القوم؟ " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله. " الآية. قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس من أصحاب محمد في البوادي. وقالوا: هلك أصحاب البدو. فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة " الآية. ونزل فيهم: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " الآية " إلا تنصروه فقد نصره الله " يعني من نافق من الأوس والخزرج؛ " إذ أخرجه الذين كفروا " يعني مشركي قريش؛ " ثاني اثنين " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ " إذ هما في الغار " حيث كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه " يقول الطمأنينة، " وأيده بجنود لم تروها " يعني الملائكة؛ " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " يقول: جعل ما جاءت به قريش من آلهتهم باطلاً، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الظاهر العالي. " انفروا خفافاً وثقالاً " يقول نشاطأ وغير نشاط، ويقال الخفاف: الشباب، والثقال: الكهول؛ " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " يقول: أنفقوا أموالكم في غزوتكم، وجاهدوا في سبيل الله: قاتلوا. " لو كان عرضا قريباً " يعني غنيمة قريبة؛ " وسفراً قاصداً " يعني سفراً قريباً، " لا تبعوك " يعني المنافقين؛ " ولكن بعدت عليهم الشقة " سفر تبوك عشرون ليلة؛ " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " بعين المنافقين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يعتذرون بالعسرة والمرض " يهلكون أنفسهم " يعني في الآخرة؛ " والله يعلم إنهم لكاذبون " يعني إنهم مقوون أصحاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم ويقبل عذرهم. قال: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك " حتى تبلوهم بالسفر وتعلم من هو صادق ومن هو كاذب؛ " الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فتعلم من له قوة ممن لا قوة له، استأذنك رجال لهم قوة. " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين " ووصف المؤمنين الذين أنفقوا أموالهم في تلك الغزوة، وكانت تسمى غزوة العسرة. " إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " يعني المنافقين في شكهم. " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " يقول: كانوا أقوياء بأبدانهم وأموالهم ولكن كره الله خروجهم فخذلهم؛ " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يعني مع النساء. " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً " يعني ابن أبي، وعبد الله بن نبتل، والجد بن قيس، وكل هؤلاء استأذن ورجع، فيقول: لو كانوا فيكم " ما زادوكم إلا خبالاً " إلا شراً؛ " ولأوضعوا خلالكم " يقول: يدخل المنافق بين الراحلتين فيرفض بهما؛ " يبغونكم الفتنة " هؤلاء النفر، يقول: لأظهروا النفاق ولقالوه. " وفيكم سماعون لهم " يقول: من المنافقين ومن دونهم من يأتيهم بالأخبار وهؤلاء من رؤساهم؛ " والله عليم بالظالمين " . ثم ذكر المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " يقول: من قبل خروجك وتشاوروا في كل ما يلبس عليك وعلى أصحابك " حتى جاء الحق " يعني ظهر الحق، " وظهر أمر الله " يعني أمرك يا محمد؛ " وهم كارهون " لظهورك واتباع من اتبعك من المسلمين. " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " نزلت هذه الآية في الجد بن قيس، وكان من أكثر بني سلمة مالاً وأعد عدةً في الظهر؛ وكان معجباً بالنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تغزو بني الأصفر؟ عسى أن تحتقب من بنات الأصفر! فقال: يا محمد، قد علم قومي أنه ليس رجل أعجب بالنساء مني، فلا تفتني بهن! يقول عز وجل: " ألا في الفتنة سقطوا "

يتخلفه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.ه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم ونفاقه؛ يقول عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " به وبغيره ممن هو على قوله. " إن تصبك حسنة " غنيمة وسلامة؛ " تسؤهم " يعني الذين تخلفوا واستأذنوك؛ " وإن تصبك مصيبة " البلاء والشدة؛ " يقولوا قد أخذنا أمرنا " حذرنا؛ " من قبل " يعني من استأذنه؛ ابن أبي وغيره، والجد بن قيس، ومن كان منهم على رأيهم؛ " ويتولوا وهم فرحون " بتلك المصيبة التي أصابتك. يقول الله عز وجل: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " يقول: إلا ما كان في أم الكتاب؛ " هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . يقول الله عز وجل لنبيه: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " الغنيمة أو الشهادة؛ " ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده " القارعة تصيبكم؛ " أو بأيدينا " يؤذن لنا في قتلكم؛ " فتربصوا " يقول: انتظروا بنا وننتظر بكم وعيد الله فيكم.
" قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين " كان رجال من المنافقين من ذوي الطول يظهرون النفقة، إذا رآهم الناس ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ويدرأون بذلك عن أنفسهم القتل. يقول الله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسإلى " يقول رياء: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " يريدون أن يظهر أنهم ينفقون. " فلا تعجبك أموالهم " أي ما أعطيناهم؛ " ولا أولادهم " الذين أعطيناهم إياهم؛ " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " يقول: تكون عليهم بينة لأن ما أكلوا منها أكلوه نفاقاً، وما أنفقوا، فإنما هو رياء. يقول: " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أن يلقوا ربهم على نفاقهم. " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون " أي رؤساءهم وأهل الطول منهم مثل ابن أبي، والجد بن قيس وذويه، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون أنهم معه، وإذا خرجوا نقضوا، يقول: يفرقون من أن يقتلوا لقلتهم في المسلمين " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولا إليه وهم يجمحون " يقول: لو وجدوا جماعة أو يقدرون على هربٍ من دارهم إلى قومٍ يعزون فيهم، لذهبوا إليهم سراعاً. " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطو منها رضو وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون " نزلت في ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطى محمد الصدقات من يشاء! يتكلم بالنفاق. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه فرضى، ثم جاءه قلم يعطه فسخط. يقول الله عز وجل: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " يقول: لم يسخطوا إذا رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أعطاه قليلاً بقدر ما يجد؛ " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " يقول: حسب نبيه.
وقال: إن الله سيرزقنا، وإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أعطانا.

قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " . ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يكلها إلى ملك مقربٍ ولا نبي مرسلٍ حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت من جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنياً فصداع في الرأس وأذى في البطن، والفقراء فقراء المهاجرين الذين كانوا يسألون الناس والمساكين الذين كانوا في الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. " والعاملين عليها " يعطون قدر عمالتهم ونفقتهم في سفرهم؛ " والمؤلفة قلوبهم " ليس في الناس اليوم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً، يتألفهم على الإسلام، " وفي الرقاب " يعني المكاتبين؛ " والغارمين " يعني الذين عليهم الدين، يقضي عن الرجل دينه؛ " وفي سبيل الله " يعني المجاهدين؛ " وانب السبيل " الرجل المنقطع به في غير بلده فيعان ويحمل وإن كان في أهله موسراً. وهذه الصدقات ينظر فيها، فإن كان أهل الحاجة والفاقة في صنف واحدٍ فوضع ذلك فيه أجزاءه إن شاء الله. " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خيرٍ لكم " نزلت في عبد الله بن نبتل. قال، كان يقول: إني لأنال من محمد ما أشاء، ثم آتى محمداً فأحلف له فيقبل مني. يقول الله عز وجل: " إذن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " يعني أنه يقبل من المؤمنين؛ " ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله " يعني ابن نبتل؛ " لهم عذاب أليم " . " يحلفون بالله لكم " حلفه للنبي ما قالوا؛ " ليرضوكم " يعني النبي وأصحاب محمد. ثم يقول: " والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ألا توذوا رسول الله ولا تقولوا إلا خيراً.

" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله. " إلى آخر الآية، يعني عبد الله ابن نبتل. " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بمافي قلوبهم " قال: كان المنافقون يتكلمون برد الكتاب والحق، فإذا نزل على النبي شئ من القرآن خافوا أن يكون فيما قالوا أو فيما تكلموا. " إن الله مخرج ما تحذرون " يعني ما يتكلمون به. كان نفر منهم في غزوة تبوك: وديعة بن ثابت، وجلاس بن سويد، ومخش بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وثعلبة بن حاطب، فقال ثعلبة: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنهم غداً مقرنين في الحبال! وقال وديعة: إن قراءنا هؤلاء أو عبنا بطوناً، وأحدثنا نسبةً، وأجبننا عند اللقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدركهم فقد احترقوا. " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " فالذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير؛ والذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه؛ فنزل " قد كفرتم بعد إيمانكم " والذي قال كلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت؛ والذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير، فتيب عليه فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وسأله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة شهيداً. قال الله عز وجل: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر " قال: كان نساء منافقات مع رجال. وقوله: " بعضهم من بعض " أولياء بعض؛ " يأمرون بالمنكر " بأذى النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه؛ " وينهون عن المعروف " عن اتباعه؛ " ويقبضون أيديهم " لا يتصدقون على فقراء المسلمين؛ " نسوا الله فنسيهم " يقول: تركوا الله فتركهم الله. " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم " يقول: هي جزاءهم ؛ " ولعنهم الله " يعين في الدنيا؛ " ولهم عذاب مقيم " في الآخرة. " كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا يخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم " يعين من كان قبلكم من الأمم ممن كذب الأنبياء واستهزى بهم، وقد رزقهم الله الأموال الكثيرة والأولاد، فذكر أنهم استمتعوا بخلاقهم، ثم ذكر هولاء النافقين أنهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع به أولئك، وقال: " وخضتم كالذي خاضوا " يقول: استهزيتم كما استهزي أولئك؛ " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " يعني الأمم التي كانت قبلهم، وهم المنافقون. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " يقول: يأمرون بالأسرم وينهون عن الكفر؛ " ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكا " يتصدقون على الفقراء " ويطيعون الله ورسوله " . يقولك " يا أيها النبي جاهد الكفار " يعني المشركين بالسيف؛ " والمنافقين واغلظ عليهم " فأمره أن يغلظ على المنافقين بلسانهح " ومأواهم جهنم " يعني الكافرين والمنافقين. " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " وديعة بن ثابت؛ " وهموا بما لم ينالوا " قالوا: نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجه إذا رجعنا، ويقال هم الذين هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة؛ " وما نقموا إلا ن إغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم " نزلت في الجلاس بن سويد، كانت له دية في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها له وكان محتاجاً. " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " " فلما آتاهم من فضله " إلى قوله " وبما كانوا يكذبون " نزلت في ثعلبة ابن حاطب، وكان محتاجاً لا يجد ما يتصدق به، فقال: والله لئن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأكونن من الصالحين. فأصاب دية، اثنى عشر الف درهم، فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين. " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين " قال: جاء زيد بن أسلم العجلاني بصدقة ماله، فقال معتب ابن قشير وعبد الله بن نبتل: إنما أراد الرياء من المؤمنين في الصدقات؛ " والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " نزلت في علبة بن زيد الحارثي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم خميص البطن، فجاء إلى رجلٍ من اليهود فقال: أوجرك نفسي أجر الجرير على أن تعطيني صاعاً من تمر لا تعطيني فيه خدرة الخدرة التي فيها الدخان. أو يقال: جديد ولا

حشف. قال: نعم. فعمل معه إلى العصر، ثم أخذ التمر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عبد الله بن نبتل يقول: انظروا إلى هذا وما يصنع، ما كان الله يصنع بهذا، أما كان الله غنياً عن هذا؟ " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " إلى آخر الآية.؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعي ليصلى على عبد الله بن أبي فقال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت؛ إني خيرت فاخترت! " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " إلى قوله " بما كانوا يكسبون " قال: نزلت في الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم " يعني من سفرة تبوك، " فاستاذنوك للخروج " يعني المنافقين الذين كانوا استأذنوه للقعود؛ " فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " أول سفرى حين خرجت؛ " فاقعدوا مع الخالفين " مع النساء. " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. " الآية. قال: لما مات ابن أبي وضع في موضع الجنائز، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، تصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا؟ فقال: يا عمر بن الخطاب، إني خيرت فاخترت، فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين صلاة غفر له زدت! وذلك قول الله عز وجل: " اتسغفر لهم أولاً تستغفر لهم " . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، فلما فرغ من دفنه فلم يرم مقامه حتى نزلت هذه الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " الآية " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم " إلى قوله " بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء؛ " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " نزلت في الجد بن قيس، وكان ميلاً، كثير المال. " وجاء المعذرون من الأعراب " يعني المعتذرون، وهم أحد وثمانون من غفار؛ " ليؤذن لهم " في القعود، يقول: ويعذروا في الخروج؛ " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يقول: قعد المنافقون الذين تخلفوا، وقالوا: اجلسوا إن أذن لكم أو لم يأذن. يقول الله عز وجل: " ليس على الضعفاء " أهل الزمانة والشيخ الكبير؛ " ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني المعسر؛ " حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم " إذا كانوا هكذا. يقول الله عز وجل: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما نيفقون " هؤلاء البكاؤون وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمى، وعبد الله بن عمرو المزني، وسالم بن عمير. يقول الله عز وجل: " إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف " مع النساء، يعني الجد بن قيس. يقول الله عز وجل: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " يعني ما أخبره من قصتهم، " وسيرى الله عملكم ورسوله " يعني المنافقين؛ إلى قوله " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم " يعني لا تلوموهم؛ " فأعرضوا عنهم " يعني اتركوهم؛ " إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءٍ بما كانوا يكسبون " . " يحلفون لكم لترضوا عنهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا تعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " أشد كفراً ونفاقاً وأجدرألا يعلموا حدود ما أنزل الله. " إلى آخر الآية. قال: يعني الأعراب. " ومن الأعراب من يتخذ ما نيفق مغرماً " إلى قوله " وصلوات الرسول " يعني دعاء الرسول " ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته " . يقول الله عز وجل: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " يعني من صلى القبلتين منهم؛ " والذين اتبعوهم بإحسان " إلى آخر الآية. يعين من أسلم قبل الفتح. وفي الفح يقول الله عز وجل: " وممن حولكم من الأعراب منافقون " كان رجال من العرب، منهم عيينة بن حصن وقومه معه يرضون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك. " ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لا تعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ويرونهم أنهم معهم ويرضون قومهم الذين هم على الشرك.

" ومن أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " . أهل المدينة " يعني منافقي المدينة؛ " مردوا على النفاق " يقول مردوا في النفاق؛ " لاتعلمهم نحن نعلمهم " ثم أعلمهم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم يعد؛ " سنعذبهم مرتين " يعني الأعراب، يقول: الجوع وعذاب القبر؛ " ثم يردون إلىعذاب عظيم " يقول: إلى النار. " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى آخر الآية، نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح. " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " يعني المسلمين، صدقات أموالهم يعني تزكيهم؛ " وصل عليهم " استغفر لهم. يقول اله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " يقول: من أقبل وتاب، ويقبل الصدقات، ما يراد بها وجه الله. يقول الله: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " إلى آخر الآية. " وآخرون مرجون لأمر الله " إلى آخر الآية، يعني الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعِ. " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، " وتفريقاً بين المؤمنين " يعني أن يفرقوا بين بني عمرو بن عوف، ويصلى بعضهم فيه، " وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله " يعني أبا عامر، يقول: يقدم علينا من الشام فيتحدث عندنا فيه! هو لا يدخل مسجد بني عمرو ابن عوف. يقول الله عز وجل: " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " إلى آخر الآية. " لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه " إلى قوله " والله لا يهدي القوم الظالمين: يقول: لا تصل فيه وصل في مسجد بني عمرو بن عوف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسسته بيدي، وجبريل يؤم بنا البيت. وأما قوله عز وجل: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " كان رجال يستنجون بالماء، منهم عويم بن ساعدة. يقول الله عز وجل: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم " . يقول الله عز وجل: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " يقول: شك في قلوبهم؛ " إلا أن تقطع قلوبهم " يقول: إلا أن يموتوا. قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن شيبة بن مصاح، عن الأعرج، قال: إنما عني الرجلين ولم يعن المسجد، أي في قوله " أفمن أسس بنيانه " وقوله: " إن الله اشترى من المؤمنينن أنفسهم وأموالهم " إلى قوله: " وذلك هو الفوز العظيم " يقول: اشترى من الذين يجاهدون في سبيله وينفقون أموالهم فيه بأن لهم الجنة. قوله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى " إلى قوله: " أصحاب الجحيم " .

قال: لما مات أبو طالب استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لآستغفر لك حتى أنهي! فاستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " يقول: ماتوا على كفرهم فر يتوبون. يقول الله عز وجل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه " قال: وعده أن يسلم؛ " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لما مات على كفره تبرأ منه؛ " إن إبراهيم لأواه حليم " . قال: الأواه الدعاء. قوله عز وجل: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم " إلى آخر الآية. يقول الله عز وجل: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ابتعوه في ساعة العسرة " يعين عزوة العسرةن وهي غزوة تبوك، وكانت في زمنٍ شديد الحر؛ " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم " يقول: أبي خيثمة وما حدث نفسه بالتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحر وبعد الشقة، ثم عزم له على الخروج؛ " ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " . " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " إلى قوله: " التواب الرحيم " وهو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وأما قوله: " الذين خلفوا يعين من تعذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ممن قبل منهم.؟ قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " يعني غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وأشجع؛ " أن يتخلفوا عن رسول الله " في غزوة تبوك؛ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " يعني عطش؛ " ولا نصب " يعني تعب؛ " ولا مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطؤن موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو مخمصة " مجاعة؛ " ولا يطون موطئاً " بلاد الكفار؛ " ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " . قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر " إلى آخر الآية، يقول: ما كان المؤمنون إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أن ينفروا كلهم ويتركوا المدينة خلوفاً بها الذراري، ولكن ينفر من كل قبيلة طائفة. يقول: بعضهم لينظروا كيف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين ويعوا ما سمعوا منه؛ " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " يعني يخافون الله.
يقول: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " إلى آخر الآية. قوله عز وجل: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً " يعني يقيناً وتسليماً؛ فيقول الذين آمنوا: زادتنا يقيناً وتسليماً؛ وأما المنافقون فزادتهم شكا وريبة إلى ما كانوا فيه. ويقال إنها في المشركين، فزادتهم شكا وثباتاً على دينهم، وماتوا وهم كافرون. يقول الله عز وجل فيهم: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين " فأما من جعلها في المنافقين فيقول: يكذبون في السنة مرة أو مرتين، وأما من زعم أنها في المشركين يقول: يبتلون بالغزو في السنة مرة أو مرتين؛ " ثم لا يتوبو " يقول: لا يسلمون. " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض " إلى آخر الآية. وكان عبد الله بن نبتل يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المنافقون، فإذا خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بعضهم ببعض؛ " هل يراكم من أحد " يعنون المسلمين؛ يقول: " ثم انصرفوا " يعني استهزأوا فكذبوا بالحق؛ " صرف الله قلوبهم " عنه. يقول الله عز وجل وهو يذكر نبيه: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " يقول: منكم؛ " عزيز عليه ما عنتم " يقول: ما أخطأتم " حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم " . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع

قال: حدثني معمر، ومحمد بن عبد الله، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وحارثة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر؛ وكل واحد قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم، قالوا: كان قبل أن تنزل " براءة " ،قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المشركين عهداً؛ فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات. وحج عبد الرحمن بن عوف فأهدى بدناً، وقوم أهل قوة، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة، وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فقال: هذه القصواء! فنظر فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام عليها، فقال: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عل الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهدٍ عهده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أبي بكر أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمعٍ قبل طلوع الشمس. فخرج أبو بكر حتى قدم مكة وهو مفرد بالحج، فخطب الناس قبل التروية بيومٍ بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعاص، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم لم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى إلى نمرة، فنزل في قبةٍ من شعرٍ فقال فيها، فلما زاغت الشمس ركب راحلته فخطب ببطن عرنة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته، فوقف بالهضاب - الهضاب: عرفة، والمصلى منعرفة فلما أفطر الصائم دفع، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى جميعٍ، فنزل قريباً منالنار التي على قزح. فلما طلع الفجر صلى الفجر، ثم وقف، فلما أسفر دفع، وجعل يقول في وقوفه: يا أيها الناس، أسفروا! يا أيها الناس، أسفروا! ثم دفع قبل الشمس، فكان يسير العنق حتى انتهى إلى محسر فأوضع راحلته، فلما جاز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتى رمى الجمرة راكباً؛ سبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر فنحر، ثم حلق. وقرأ على بن أبي طالب رضوان الله عليه يوم النحر عند الجمرة " براءة " ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان وكان أبو هريرة يقول: حضرت ذلك اليوم - فكان يقول: هو يوم الحج الأكبر - فخطب أبو بكر رضي الله عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته. فكان أبو بكر قد خطب في حجته ثلاثة أيام لم يزد عليها؛ قبل التروية بيومٍ بمكة بعد الظهر، وبعرفة قبل الظهر، وبمنى يوم النحر بعدالظهر. وأقام أبو بكر رضي الله عنه يرمي الجمار ماشياً، ذاهباً وجائياً، فلما كان يوم الصدر - قالوا: رمى ماشياً - فلما جاوز العقبة ركب ويقال: رمى يومئذ راكباً، فلما انتهى إلى الأبطح صلى به الظهر، ودخل مكة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلاً إلى المدينة.
سرية على بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمنقالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة عشر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعسكر بقباء، فعسكر بها حتى تتام أصحابه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لواء، أخذ عمامةً فلفها مثنية مربعة فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه وقال: هكذا اللواء! وعممه عمامةً، ثلاثة أكوار، وجعل ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه، ثم قال: هكذا العمة!

قال: فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع، قال: لما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: امض ولا تلتفت! فقال علي عيه السلام: يا رسول الله، كيف أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فر تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلهم، تلومهم ترهم أناه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. والله، لأن يهدي الله علي يدك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت! قال: فخرج في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد، فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد - وهي أرض مذحج - فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقاهم جمع، ثم لقي جمعاً فدعاهم إلى الإسلام وحرض بهم، فأبوا ورموا في أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمى فتقدم به، فبرز ورجل من مذحجٍ يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن الخزاعي السلمى، فتجاولا ساعة وهما فارسان، فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، فكف عن طلبهم ودعاهم إلىالإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله! قال: فحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: وجمع علي عليه السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء؛ فأقرع عليهان فكتب في سهم منها لله فخرج أول السهام سهم الخمس، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً. فكان من قبله يعطون أصحابهم الحاضر دون غيرهم من الخمس. ثم يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فر يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي عليه السلام فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فيه رأيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم، ونلقاه ويصنع فيها ما أراه الله. فانصرف راجعاً، وحمل الخمس وساق معه ما كان ساق، فلما كان بالفتق تعجل. وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم تساق مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم.
قال أبو سعيد الخدري وكان معه في تلك الغزوة قال: وكان علي عليه السلام ينهانا أن نركب على إبل الصدقة؛ فسأل أصحاب علي عليه السلام أبا رافع أن يكسوهم ثياباً فكساهم ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين مكة، خر علي عليه السلام يتلقاهم ليقدم بهم فينزلهم، فرأى علي أصحابنا ثوبين ثوبين على كل رجل، فعرف الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ قال: كلموني ففرقت من شكايتهم، وظننت أن هذا يسهل عليك، وقد كان من كان قبلك يفعل هذا بهم. فقال رأيت إبائي عليهم ذلك! وقد أعطيتهم، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت، فتعطيهم! قال: فأبى علي عليه السلام أن يفعل ذلك حتى جرد بعضهم من ثوبيه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم؟ قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً، ينفلون من أرادوا من الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني سالم مولى ثابت، عن سالم مولى أبي جعفر، قال:

لما ظهر علي عليه السلام على عدوه ودخلوا في الإسلام، جمع ماغنم واستعمل عليه بريدة بن الحصيب، وأقام بين أظهرهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره أنه لقى جمعاً من زبيد وغيرهم، وأنه دعاهم إلى الإسلام وأعلمهم أنهم إن أسلموا كف عنهم، فأبوا ذلك وقاتلهم. قال علي عليه السلام: فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل منهم من قبل. ثم أجابوا إلى ما كان عرض عليهم، فدخلوا في الإسلام وأطاعوا بالصدقة، وأتى بشر منهم للدين، وعلمهم قراءة القرآن. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافيه في الموسم، فانصرف عبد لله بن عمرو بن عوف إلى علي عليه السلام بذلك.
قال: فحدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن يونس بن ميسرة ابن حليس، قال: لما قدم علي بن أبي طالب عليه السلام اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود، حتى استمعا له فواقفاه، وهو يقول: إن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. قال كعب: صدق! فقال علي: وفيهم من لايبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. فقال كعب: صدق! فقال علي عليه السلام: ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق! فقال الحبر: وكيف تصدقه؟ قال: أما قوله: " من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار " فهو المؤمن بالكتاب الأول ولا يومن بالكتاب الآخر.
وأما قوله: منهم من ريبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر. وأما قوله: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة فهو ما يقبل الله من الصدقات. قال: وهو مثل رأيته بين! قالوا: وجاء كعباً سائل فأعطاه حلته، ومضى الحبر مغضباً؟ ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلةً براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت نعم! فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة ولبس الحلة، وأسرع السير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة! قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن نسطاس، عن عمرو بن عبد الله العبسي، قال: قال كعب الأحبار: لما قدم علي عليه السلام اليمن، لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد. فجعل يخبرني عنه،وجعلت أتبسم فقال: مم تتبسم فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقال: ما يحل وما يحرم، فقلت: فهو عندنا كما وصفت! وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به. ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفراً فقلت: هذا كان أبي يختمه على ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبى يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، فقدمت في خلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وياليت أني كنت تقدمت في الهجرة!
باب ما جاء يؤخذ من الصدقاتأخبرنا ابن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سالم مولى ثابت، عن يحيى بن شبل، قال: قرأت كتاباً عند أبي جعفر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به محمد رسول الله، أن يؤخذ من صدقات المسلمين من سوائم مواشيهم من كل أربعين شاةٍ شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاة إلى المائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث إلى ثلاثمائة، فإذا زادت شاة ففي كل مائة شاةٍ شاة. وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، وفي صدقة الإبل، في أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم يوجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ ستا وأربعين، ففيها حقة إلى أن تبلغ إحدى وتسعين، ففيها حقتان طروقتا الفحل، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا يتس، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق، ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرقين، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين نت لبون، وليس فيما دون ثلاثين من البقر صدقة، وفي كل ثلاثين جذع أو جذعة، وفي كل أربعين مسنة. وفيما سقت السماء أو سقى بالغيل العشر، ما سقى بالغرب نصف العشر، ومن كان على يهودية أو نصرانية لم يفتن عنها، وأخذ منه دينار على كل حالم، أو عدله من المعافري.

قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن المكيدر، عن حسين بن أبي بشير المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع علي عليه السلام باليمن، فرأيته يأخذ الحب من الحب، والبعير من الإبل، والشاء من الغنم، والبقرة من البقر، والزبيب من الزبيب، وكان لا يكلف الناس مشقة، وكان يأتيهم في أفنيتهم فيصدق مواشيهم ويأمر من يسقب بذلك، وكان لا يفرق الماشية، كان يقعد فما أتى به من شاةٍ فيها وفاء له أخذها، ويأمر من يسقب بذلك ويقسم على فقرائهم يسقب: يسعى عليهم يأخذ الصدقة من ها هنا ومن ها هنا؛ يعرفهم.
قال: حدثنا الحارث بن محمد الفهري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن سعيد بن العاص مع رسل حمير، وبعث علياً عليه السلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اجتمعتما في مكيدةٍ فعلى على الناس، وإن افترقما فكل على حدة. قال رجاء: وكان قد قضي بها قضية؛ دية النفس مائة من الإبل على أهل الإبل، وألفى شاة على أهل الغنم؛ مائتي جذعة أي ثم ضالع الشاة جذعة، ثم ثنية ومائتي بقرة نصفها تبيع قالوا: احتفر قوم باليمن بشراً، فأصبحوا وقد سقط فيها أسد، فأصبح الناس ينظرون إليه، فسقط إنسان في البئر، فتعلق بآخر فتعلق الآخر بآخر حتى كانوا في البئر أربعة؛ فحرب الأسد بهم فقتلهم، فأهوى له رجل برمحه فقتله. فقال الناس: الأول عليه ديتهم فهو قتلهم.
فأرادوا يقبلون، فمر بهم على عليه السلام فقال: أنا أقضي بينكم بقضاء، فمن رضي فهو إلى قضائه، ومن تجاوز إلى غيره فر حق له حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيكم؛ اجمعوا من حضر البئر من الناس! فجمعوا كل من حضر البئر، ثم قال: ربع دية، وثلث دية، ونصف دية، ودية تامة؛ فالأسفل ربع دية، من أجل أنه هلك من فوقه ثلاثة؛ وللثاني ثلث الدية، لأنه هلك اثنان، وللثالث نصف الدية، من أنه هلك فوقه واحد؛ وللأعلى الدية كاملة. فإن رضيتم فهو بينكم قضاءن وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي بينكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وهم عشرة نفر، فجلسوا بين يديه وقصوا عليه خبرهم، فقال: أنا أقضي بينكم إن شاء الله! فقام أحد النفر فقال: يا رسول لله، إن عليا قد قضى بيننا. فقالك فيم قضى بينكم؟ فأخبروه بما فضى به، فقال: هو ماقضى به. فقام القوم فقالوا: هذا قضاء من رسول الله. فلزم المقضى عليهم وسألهم عن الأسد، أهي في بلادهم. فقالوا: يا رسول الله، إنها لكثيرة تغير على ماشيتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم عن الأسد؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنه غدا على ابن لحواء فأكله، فأقبلت عليه حواء فقالت: ويلك، أكلت ابني! قال: وما يمنعني أن آكل رزقاً ساقه الله إلي. فأقبل آدم فقال: ويلك، تخاطبها وقد أكلت ابنها؟ اخسأ! فطأطأ رأسه، فلذلك لا يمشي إلا غيرها، وإن شئتم تركته يجالسكم وتحذرون منه. فخلا بعضهم ببعض فقالوا: وظف له وظيفة. فقال بعضهم: نخشى ألا يحملها قومنا ولا يطيعون بها، فنكون قد قلنا لرسول اله صلى الله عليه وسلم قولاً لا نفي به. فقالوا: يا رسول الله، دعه يجالسنا ونتحذر منه. فقال: فذاك! فولى القوم راجعين إلى قومهم، فلما قدموا على قومهم أخبروهم فقالوا: والله ماهديتم لرشدكم، لو قبلتم ما وظف له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنتم منه. فهيأوا رجلاً يبعثونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الرسول.

قال: وحدثني أبو بكر بن عبد الله، وحاتم بن إسماعيل مولى لآل الحارث بن كعب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قدم علي عليه السلام من اليمن، فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك على عليها فقالت: أمرني بهذا أبي! قال علي، وهو بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذكرت عنه، وأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقالت أبي أمرني بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت! ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال، قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك! قال: فإن معي الهدي فر تحل! فكانت جماعة الهدي الذي جاء به علي عليه السلام والذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة بدنة، فحل الناس وقص من لم يكن معه هدى، ثم نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وأشرك علياً عليه السلام في هديه.
حجة الوداعقال: حدثني معمر بن راشد، وابن أبي سبرة، وأسامة بن زيد، وموسى ابن محمد، وابن أبي ذئب، وأبو حموة عبد الواحد بن ميمون، وحزام ابن هشام، وابن جريج، وعبد الله بن عامر، فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفةٍ، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير من سميت قد حدثنا أيضاً، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام يضحى بالمدينة كل عام، لا يحلق ولا يقصره ويغزو المغزي، ولم يحج حتى كان في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره، فأجمع الخروج وآذن الناس بالحج، وقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بعمله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاث عمر، أولها عمرة الحديبية، نحر بالحديبية وحلق في ذي القعدة سنة ست، ثم عمرة القضية سنة سبع في ذي القعدة، وأهدى ستين بدنة، ونحر عند المروة وحلق، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: سألت سعيد بن المسيب: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن نبي إلى أن توفي؟ قال: حجة واحدة من المدينة. قال الحارث: فسألت أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، قال: حج حجة بمكة قبل الهجرة وبعد النبوة، وحجته من المدينة. وكان مجاهد يقول: حجتين، قبل الهجرة والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا، إنما حج حجة واحدة من المدينة، وهي الحجة التي يقول الناس إنها حجة الوداع.
قال: فحدثني الثورى، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كره أن يقال حجة الوداع. فقيل: حجة الإسلام؟ قال: نعم.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم عند صلاة الظهر من يومه ذلك، وهذا الثبت عندنا. قال: فحدثنا عاصم بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ذي الحليفة عند الظهر، فبات لأن يجتمع إليه أصحابه والهدي حتى أحرم عند الظهر من الغد.
قال: فحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته مدهناً مترجلاً متجرداً حتى أتى ذا الحليفة.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في ثوبين صحاريين، إزار ورداء، وأبدلهما بالتنعيم بثوبين من جنسهما.
قالوا: لما اجتمع إليه نساؤه وكان حج بهن جميعاً في حجته في الهوادج وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع أصحابه والهدي، دخل مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى الظهر وصلى ركعتين، ثم خرج فدعا بالهدى فأشعره في الجانب الأيمن، وقلد نعلين. ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم.

فقال: فحدثني خالد بن إلياس، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ليلاً، ومعنا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، فبتنا بذي الحليفة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت الهدي يعرض عليه، فلما صلى الله عليه وسلم الظهر أشعر هديه وقلده قبل أن يحرم. ولاقول الأول أثبت عندنا أنه لم يبت.
قال محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشعر بدنه أتى ببدنة فأشعرها هو بنفسه وقلدها. وكان ابن عباس يقول: أشعرها ووجهه إلى القبلة؛ وساق مائة بدنة. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يشعر ما فضل من البدن ناجية بن جندب، فاستعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهدي.
قال: فحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن ناجية بن جندب، قال: كنت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، وكان معي فتيان من أسلم، كنا نسوقها سوقاً نبتغير بها الرعي، وعليها الجلال، فقلت: يا رسول الله، أرأيت ما عطب منها، كيف أصنع به؟ قال: تنحره وتلقى قلائده في دمه، ثم تضرب به صفحته اليمنى، ثم لا تأكل منها ولا أحد من أهل رفقتك.
قال: ثم قدمنا مكة بعد يوم، ثم رحلنا يوم التروية إلى عرفة بالهدي، ثم انحدرنا من عرفة حتى انتهينا إلى جمع، ثم انتهينا من جمعٍ إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم أن سق الهدي إلى المنحر! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر الهدي بيديه وأنا أقدمها إليه تعتب في العقل.
قالوا: ومر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنه فقال: اركبها ويلك! قال: إنهابدنة! قال: اركبها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المشاة أن يركبوا على بدنه.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحرامه بيدي. وكانت تقول: أحرمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيبت، فلما كنا بالقاحة سال من الصفرة على وجهي فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بين مكة والمدينة ركعتين، آمنا لا يخاف إلا اله تعإلى، فلما قدم مكة صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم سلم، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا سفر! وقد اختلف علينا فيما أهل به صلى الله عليه.
قال: فحدثني ابن أبي طوالة، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن محمود ابن لبيد، عن أبي طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن مع حجته عمرة.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت، قلت: يا رسول الله، تأمر الناس أن يحلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هدبي، فلا أحل حتى أنحر هدبي.
حدثني سعمر، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث، عن سعد بن أبي وقاص؛ ومعمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: قالا. أخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة وساق الهدي.
قال: فحدثني مالك بن أنس، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فكان هذا الأمر الذي أخذ به أهل المدينة وثبت عندهم. قالت عائشة: وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بملل، ثم راح فتعش بشرف السيالة، وصلى بالشرف الغرب والعشاء، وصلى الصبح بعرق الظبية بين الروحاء والسيالة وهو دون الروحاء، في المسجد الذي عن يمين الطريق. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحاء، فإذا بحمارٍ عقيرٍ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هذا حمار عقير. قال: دعوه حتى يأتي صاحبه. فجاء النهدى وهو صاحبه فأهداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين أصحابه، وقال: صيد البر لكم حلال، إلا ما صدتم أو صيد لكم. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلممن الروحاء فصلى العصر بالمنصرف، ثم صلى المغرب والعشاء وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج.

قال: فحدثني أبو حمزة عبد الواحد بن مصون، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وكان أبو بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: إن عندي بعيراً نحمل عليه زادنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إذا! قالت: فكانت زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بزاد، دقيقٍ وسويق، فجعل على بعير أبي بكر. وكان غلامه يركب عليه عقبة، فلما كان بالأثاية عرس الغلام وأناخ بعيره فغلبته عيناه، فقام البعير يجر خطامه آخذاً في الشعب، وقام الغلام فلزم الطريق، يظن أنه سلكها، وهو ينشده فلا يسمع له بذكر. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيات بالعرج، فجاء الغلام مظهراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: ضل مني! قال: ويحك، لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر علي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله! فلم يلبث أن طلع به صفوان بن المعطل، وكان صفوان على ساقة الناس، وأناخه على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: انظر هل تفقد شيئاً من متاعك! فنظر فقال: مانفقد شيئاً إلا قعباً كنا نشرب به، فقال الغلام: هذا القعب معي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أدى الله عنك الأمانة! قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر رضي اله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل العرج جلس بفناء منزله، ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه فجلس إلى جنبه، فجاءت عائشة رضي الله عنها فجلست إلى جنبه الآخر، وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وأقبل غلام أبي بكر متسربلاً، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أين بعيرك؟ قال: أضلني. فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه يضربه ويقول: بعي واحد يضل منك؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع؟ وما ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحدثني أبو حمزة، عن عبد الله بن سعد الأسلمي، عن آل نضلة الأسلمي، أنهم خبروا أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت، فحملوا جفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: " هلم يا أبا بكر، فقد جاءك الله بغداء طيب " ! وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هون عليك، فإن الأمر ليس إليك، ولا إلينا معك " ! قد كان الغلام حريصاً ألا يضل بعيره، وهذا خلف مما كان معه. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر، وكل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا.
قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملة تحمل زاداً، يومان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يجدا الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته، فقال سعد: يا رسول الله، قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام، وهذه زاملة مكانها. فقال رسول الله، قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ قال سعد: يا رسول الله، المنة لله ولرسوله، والله يا رسول الله، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع. قال: صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت! إن الأخلاق بيد الله عز وجل، ومن أراد الله أن يمنحه منها خلقاً صالحاً منحه، ولقد منحك الله خلقاً صالحاً. فقال سعد: الحمد لله الذي هو فعل ذلك! قال ثابت بن قيس: يا رسول الله، إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا والمطعون في المحل منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم ما أسلموا عليه " .

قال ابن أبي الزناد، يقول له جميل ذكره، قال: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيى جمل، وهو محرم، في وسط رأسه قال: حدثني بذلك محمد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن الأعرج، عن ابن بحينة، قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السقيا يوم الأربعاء، ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء، فأهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار يقطر دماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا حرم فكان معاوية يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بالأبواء لياء مقشى أهدى له من ودان، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي ينظر وادي الأبواء، على يسارك وأنت موجه إلى مكة. ثم راح النبي صلى الله عليه وسلم من الأبواء فصلى بتلعات اليمن، وكان هناك سمرة. كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وكان ابن عمر يصب الإداوة تحتها إذا مر بها، يسقيها.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها، وأن ابن عمر كان يصب الإداوة تحتها في أصل السمرة، يريد بقاءها.
قال: فحدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي هناك حين يهبط. من ثنية أراك على الجحفة، ونزل يوم الجمعة الجحفة، ثم راح منها فصلى في المسجد الذي يحرم منه مشرفاً خارجاً من الجحفة، والمسجد الذي دون خم عن يسار الطريق، فكان يوم السبت بقديد، فصلى في المسجد المشلل، وصلى في المسجد الذي أسفل من لفت.
قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن أبيه، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بامرأة في محفتها، ومعها ابن لها صغير، فأخذت بعضده فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ فقال: نعم، ولك أجر وكان يوم الأحد بعسفان، ثم راح فلما كان بالغميم اعترض المشاة، فصفوا له صفوفاً فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالنسلان. ففعلوه فوجدوا لذلك راحة. وكان يوم الاثنين بمر الظهران، فلم يبرح منها حتى أمسى، وغربت له الشمس، فلم يصل المغرب حتى دخل مكة. فلما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما، بين كدى وكداء، ثم أصبح فاغتسل، ودخل مكة نهاراً.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعد، عن عكرمة. عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً من كدى على راحلته القصواء إلى الأبطح، حتى دخل من أعلى مكة حتى انتهى إلى الباب الذي يقال له باب بني شيبة. فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام ناقته فأخذه بشماله. قالوا: ثم قال حين رأى البيت: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً! قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة. قالوا: ولما انتهى إلى الركن اسلمه وهو مضطبع بردائه، وقال بسم الله، والله أكبر! ثم رمل ثلاثة من الحجر. وكان يأمر من يستلم الركن أن يقول: بسم الله، والله أكبر! إيماناً بالله، وتصديقاً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني ابن جريج، عن يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب المخزومي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والأسود: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
قال: فحدثني عبد الله بن جعفر، عن عاصم بن عبد الله، عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود، ومشى أربعة. قالوا: ثم انتهى إلى خلف المقام فصلى ركعتين، يقرأ فيهما: " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، ثم عاد إلى الركن فاستلمه. وقد قال لعمر: إنك رجل قوي؛ إن وجدت الركن خالياً فاستلمه، وإلا فلا تزاحم الناس عليه فتؤذي وتؤذى. وقال لعبد الرحمن بن عوف: وكيف صنعت بالركن يا أبا محمد؟ قال: استلمت وتركت. قال: أصبت! ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: أبدأ بما بدأ الله به.

قال: فحدثني عبد الله بن وفدان، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الله بن ثعلبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك.
قال: حدثني الثوري، عن حماد. عن سعيد بن جبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد، وهو ساكن، فطاف بين الصفا والمروة على راحلته.
قال: حدثني ابن أبي جريج، عن مجاهد، قال: طاف يومئذ على بغلته. والأول أثبت عندنا، وهو المعروف على راحلته.
قالوا: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فكبر سبع تكبيرات، وقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ثم دعا بين ذلك، ثم نزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل.
قال: فحدثني علي بن محمد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة قالت: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسعى قال: أيها الناس، إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا! فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه. وقالوا: قال في الوادي: رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم! فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اضطرب بالأبطح.
قال: فحدثني برد أن إبراهيم بن أبي النضر حدثه، عن أبيه، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ، قالت، قلت: يا رسول الله، ألا تنزل في بيوت مكة؟ فأبى واضطرب بالأبطح حتى خرج يوم التروية، ثم رجع من منى فنزل بالأبطح حتى خرج إلى المدينة، ولم ينزل بيتاً ولم يظله. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فلما انتهى إلى بابها خلع نعليه؛ ودخل مع عثمان بن أبي طالحة، وبلال، وأسامة بن زيد، فأغلقوا عليهم الباب طويلاً ثم فتحوه. قال ابن عمر: فكنت أول الناس سبق إليه، فسألت بلالاً: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ قال: نعم، ركعتين بني الأسطوانتين المقدمتين وكان على ستة أعمدة.
فحدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في نواحيه ولم يصل.
قالوا: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: فعلت اليوم أمراً ليتني لم أك فعلته! دخلت البيت فعسى الرجل من أمتي لا يقدر أن يدخله، فتكون في نفسه حرارة، وإنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله بن موسى، قال: سمعت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول: كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته الحبرات.
قالوا: وكانت الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعاً.
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهو يوم التروية، فيما اجتمع لنا عليه وخطب رسو لاله صلى الله عليه وسلم قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.
قال: فحدثني هشام بن عمارة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة الظفري، عن عمرو بن يثربي الضمري، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والغد من يوم النحر بمنى بعد الظهر. قال الواقدي: هذا الأمر المأخوذ به المعروف. ويقال: إن يوم الجمعة وافق يوم التروية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركن والمقام، فوعظ الناس وقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل. وركب حين زاغت الشمس بعد أن طاف بالبيت أسبوعاً، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ونزل بموضع دار الإمارة اليوم. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، ألا نبني لك كنيفاً؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: منى منزل من سبق!

قال: حدثني ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثم ركب فانتهى إلى عرفة فنزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر. ويقال: إنما قال إلى فيء صخرة، وميمونة زوجته تتبع ظلها حتى راح، وأزواجه في قباب أو في قبة حوله. فلما كان حين زاغت الشمس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته القصواء، فرحلت إلى بطن الوادي بطن عرنة.
قالوا: وكانت قريش لا تشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجاوز المزدلفة يقف بها، فقال له نوفل بن معاوية الديلي، وهو يسير إلى جنبه: يا رسول الله، ظن قومك أنك تقف بجمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافاً لهم! وقال جبير بن مطعم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بعرفة قبل النبوة، وكانت قريش كلها تقف بجمع إلا شيبة بن ربيعة. وإن موسى بن يعقوب حدثني، عن عمه، عن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: كان شيبة بن ربيعة من بين قريش يقف بعرفة، عليه ثوبان أسودان، وزمام بعيره من شعر بين غرزين أسودين، حتى يقف مع الناس بعرفة ثم يدفع بدفعهم، فإننا لا نتكلم مع الناس يعني العرب كانت تقف بعرفة: وقريش بجمع تقول: نحن أهل الله.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس ببطن عرفة على ناقته القصواء، فلما كان آخر الخطبة أذن بلال وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، فلما فرغ بلال من أذانه تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات وأناخ راحلته؛ وأقام فصلى العصر، جمع بينهما بأذان وإقامتين.
فحدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يومئذ في وادي عرفة، ثم ركب. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى الناس أن يقفوا إلى عرفة.
خطبة النبي بعرفة قبل الصلاتينوكان من خطبته يومئذ: " أيها الناس، إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا بعد يومكم هذا! رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا! واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم! ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضع كله، وأول رباً أضه ربا العباس بن عبد المطلب. اتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح؛ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله تبارك وتعإلى! وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون " ؟ قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت! ثم قال، بإصبعه السبابة إلى السماء، يرفعها ويكبها ثلاثاً: " اللهم، اشهد " ! قال: فحدثني محمد بن عبد الله. عن عمه الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بالهضاب من عرفة فقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف إلا بطن محسر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من هو بأقصى عرفة فقال: الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم.
قال: فحدثني إسحاق بن حازم، عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: عرفة أول جبل مما يلي عرنة إلى جبل عرفة، كله من عرفة. قال: وقال ابن عباس: نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وهو ماد يديه، يقبل براحتيه على وجهه.
وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير " !

قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التومة، عن ابن عباس، أن ناساً اختلفوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة. فقالت أم الفضل: أنا أعلم لكم عن ذلك! فأرسلت إليه بعس من لبن، فشرب وهو يخطب. قالوا:: ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته حتى غربت الشمس يدعو. وكان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رؤوس الرجال. فظنت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كذلك، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه حتى غربت الشمس، وكذلك كانت دفعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن أسمامة بن زيد، قال: سمعته يسأل عن سير النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: كان يسير العنق، وإذا وجد فجوة نص والنص: فوق العنق.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، على رسلكم! عليكم بالسكينة، ليكف قويكم عن ضعيفكم " .
قال: فحدثني معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما رفعت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يديها في شيء من الدفعتين واضعة حتى رمى جمرة.
قال: فحدثني محمد بن مسلم الجهني، عن عييم بن جبير بن كليب الجهني، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دفع من عرفة إلى جمع، والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها.
قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن خارجة، عن أبيه، قال: لما أبصر سليمان بن عبد الملك النار، قال لخارجة بن زيد: متى كانت هذه النار يا أبا يزيد؟ قال: كانت في الجاهلية، وضعتها قريش؛ لا تخرج من الحرم إلى عرفة إلا تقول: نحن أهل الله! وقد أخبرني حسان بن ثابت وغيره في نفر من قومي أنهم كانوا يحجون في الجاهلية فيرون تلك النار.
قال: فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن عمر بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى الشعب! قال: وهو شعب الإذخر يسار الطريق بين المأزمين، ولم يصل.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة، ومل يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذان وإقامتين.
قالوا: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من النار والنار على قزح، وهو الجبل، وهو المشعر الحرام فلما كان في السحر أذن لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء.
قال: حدثني أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، أن سودة بنت ربيعة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التقدم من جمع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه حين أصبح. قالت عائشة رضي الله عنها: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروج به.
قال: فحدثني ابن أبي سبره، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمران ابن أبي أنس، عن أمه، قالت: تقدمت مع سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فرمينا قبل الفجر.
قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه كان يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله فرموا الجمرة مع الفجر.
قال: فحدثني جبير بن زيد، عن أبي جعفر، قال: لما برق الفجر، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ركب على راحلته القصواء، ثم وقف على قزح. وكان أهل الجاهلية لا يدفعون من جمع حتى تطلع الشمس على ثبير، ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً خالفت عهد إبراهيم! فدفع قبل طلوع الشمس، وقال: هذا المقف، وكل المزدلفة موقف! قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: جمع من أقصى المأزمين إلى القرن الذي خلف وداي محسر.
قال: فحدثني الثوري، عن ابن الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7