كتاب : المغازي
المؤلف : الواقدي
حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عثمان بن أبي سليمان، قال: كانت قريشٌ قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قال: ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصف خيله فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة، وهي في مائتي فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بإزائه فصف أصحابه.
قال داود: فحدثني عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: فحانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه يركع بهم ويسجد، ثم سلم فقاموا على ما كانوا عيه من التعبية. فقال خالد بن الوليد: قد كانوا على غرة، و كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاةً هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم! قال: فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم.. " الآية. قال: فحانت العصر فأذن بلال، وأقام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً القبلة، والعدو أمامه، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر الصفان جميعاً، ثم ركع وركع الصفان جميعاً، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود بالصف الأول وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصف يلونه، وتقدم الصف المؤخر، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا جميعاً، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع الصفان جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الصف الذي يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى رضي الله عنه جالساً فتشهد، ثم سلم عليهم. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه أول صلاةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف.
حدثني سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش الزرقي، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا، وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
حدثين ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما أربع سنين؛ وهذا أثبت عندنا.
قالوا: فلما أمسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تيامنوا في هذا العصل ، فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل ؟ فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالمٌ بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسلك أمامنا، فاخذ به بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلاً تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط. قال: فوالله إن كنت لأسلكها في الجمعة مراراً. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوجه قال: اركب! فركبت فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فسار قليلاً ثم سقط في خمر الشجر، فلا يدري أين يتوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب. ثم قال: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فقال: انطلق أمامنا. فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو: نعم يا رسول الله. فلما وقف على رأسها تحدر به. قال عمرو: والله إن كان ليهمني نفسي وجدي، إنما كانت مثل الشراك ، فاتسعت لي حتى برزت وكانت محدة لاحبة . ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعاً معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية الليلة إلا مثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: " وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ " .
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل: " لا إله إلا الله وادخلوا الباب سجداً " . قال: باب بيت المقدس، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا: " حبة في شعيرةٍ " .
وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوا: " نستغفر الله ونتوب إليه " . فكلا هذين الحديثين قد روي.
قالوا: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر الله له. قال أبو سعيد الخدري: وكان أخي لأمي قتادة بن النعمان في آخر الناس، قال: فوقفت على الثنية فجعلت أقول للناس: إن رسول الله قال: " لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر له " . فجعل الناس يسرعون حتى جاز أخي في آخر الناس، وفرقت أن يصبح قبل أن نجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل: من كان معه ثقلٌ فليصطنع. قال أبو سعيد: وإنما معه صلى الله عليه وسلم ثقل - الثقل: الدقيق - وإنما كان عامة زادنا التمر. فقلنا: يا رسول الله، إنا نخاف من قريشٍ أن ترانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يروكم، إن الله سيعينكم عليهم. فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع. فلقد أوقدوا أكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد غفر الله للركب أجمعين إلا رويكباً واحداً على جملٍ أحمر، التقت عليه رجال القوم ليس منهم. فطلب في العسكر وهو يظن أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به ناحيةً إلى ذرى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، فقيل لسعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. قال سعيد: ويحك! اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك! قال: بعيري والله أهم إلى أن يستغفر لي - وإذا هو قد أضل بعيراً له يتبع العسكر يتوصل بهم ويطلب بعيره - وإنه لفي عسكركم، فأدوا إلي بعيري. فقال سعيد: تحول عني لا حياك الله! ألا لا أرى قربي إلا داهيةً وما أشعر به! فانطلق الأعرابي يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر، فبينا هو في جبال سراوع إذ زلقت نعله فتردى فمات، فما علم بن حتى أكلته السباع.
وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي قومٌ تحقرون أعمالكم مع أعمالهم. فقيل: يا رسول الله، قريش. قال: لا، ولكن أهل اليمن، فإنهم أرق أفئدةً وألين قلوباً. قلنا: يا رسول الله، هم خيرٌ منا؟ فقال بيده هكذا - ويصف هشام في الصفة كأنه يقول سواء - ألا إن فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " حديثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذٍ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع السحاب، هم خير من على الأرض. قال رجلٌ من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم الرابعة قال قولاً ضعيفاً: إلا أنتم.
حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الحديبية وقعت يد راحلته على ثنيةٍ تهبطه على غائط القوم، فبركت راحلته فقال المسلمون: حل! حل! فأبت أن تنبعث فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطةً في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرناها فقامت، فولى راجعاً عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمدٍ من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضاً ، فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهماً من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن. قال: وإنهم ليغرقون بآنيتهم جلوساً على شفير البئر. والذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم من أسلم. وقد روي أن جاريةً من الأنصار قالت لناجية بن جندب وهو في القليب:
يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
فقال ناجية وهو في القليب:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أنى أنا الماتح واسمي ناجيه
وطعنةٍ مني رشاشٍ واهيه ... طعنتها تحت صدور العاليه
أنشدنيها رجلٌ من ولد ناجية بن الأعجم يقال له عبد الملك بن وهب الأسلمي. فحدثني موسى بن عبيد، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب.
وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، قال: حدثني رجلٌ من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي ودعاني بدلوٍ من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال: مضمض فاه، ثم مج في الدلو، والناس في حرٍّ شديدٍ وإنما هي بئر واحدة، وقد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهه، فقال: انزل بالماء فصبه في البئر وأثر ماءها بالسهم. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كنت أخرج حتى كاد يغمرني، وفارت كما تفور القدر حتى طمت، واستوى بشفيرها يغترفون ماء جانبها حتى نهلوا من آخرهم. قال: وعلى الماء يومئذ نفرٌ من المنافقين؛ الجد بن قيس، وأوس، وعبد الله بن أبي، وهم جلوسٌ ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوسٌ على شفيرها. فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيءٌ؟ وردنا بئراً يتبرض ماؤها - يتبرض: يخرج في القعب جرعة ماءٍ - فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضمض فاه في الدلو، ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء. قال: يقول ابن أبي: قد رأيت مثل هذا. فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فيقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أبا الحباب، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ فقال: ما رأيت مثله قط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: أستغفر الله! قال ابنه: يا رسول الله، استغفر له! فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد، عن جده عبدي بن أبي عبيد، قال: سمعت خالد بن عباد الغفاري يقول: أنا نزلت بالسهم يومئذٍ في البئر.
حدثني سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم.
قالوا: ومطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية مراراً فكثرت المياه.
حدثني سفيان بن سعيد، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح الهذلي، عن أبيه، قال: مطرنا بالحديبية ل الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعتثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي سلمة الحضرمي، قال: سمعت أبا قتادة يقول، سمعت ابن أبي يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أبي: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى! وحدثني محمد بن الحجازي، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: لما نزلنا على الحديبية، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس يقول: ما كنا خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت: لا تقل هذا يا أبا عبد الله، فلم خرجت؟ قال: خرجت مع قومي. قلت: فلم تخرج معتمراً؟ قال: لا والله، ما أحرمت. قال أبو قتادة: ولا نويت العمرة؟ قال: لا! فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومج فاه فيه، ثم رده في البئر، فجاشت البئر بالرواء. قال أبو قتادة: فرأيت الجد ماذاً رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله! أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئاً. قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الجد وقال: بقينا مع صبيانٍ من قومنا لا يعرفون لنا شرفاً ولا سناً، لبطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنه خيرٌ منه! قال أبو قتادة: فلقيني نفرٌ من قومي فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم! ويحكم! عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا: نعم، كبيرنا وسيدنا. فقلت: قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن بني سلمة، وسود علينا بشر بن البراء بن معرور ، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجد وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة. قال أبو قتادة: فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فر الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو وأخذت بيد رجلٍ كان يكلمني فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك! ما أدخلك ها هنا؟ أفراراً مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رعبت وسمعت الهيعة . قال الرجل: لا نضحت عنك أبداً، وما فيك خير. فلما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات ودفن، فقيل له في ذلك فقال: والله، ما كنت لأصلي عليه وقد سمعته يقول يوم الحديبية كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجاً ولا أشهده. يوقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى دفن، ومات الجد في خلافة عثمان
وقالوا: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية أهدى له عمرو ابن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزراً، وكان صديقاً له، فجاء سعد بالغنم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن عمراً أهداها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى، فبارك الله في عمرو! ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزر، تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم على أصحابه من آخرها. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت معه: فدخل علينا من لحم الجزر كنحوٍ مما دخل على رجلٍ من القوم، وشركنا في شاةٍ فدخل علينا بعضها. وكان الذي جاءنا بالهدية غلامٌ منهم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، والغلام في بردةٍ له بلية ، فقال: يا غلام، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم قريباً بضجنان وما والاه. فقال: وكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام: تركتها وقد تيسرت، قد أمشر عضاهها ، وأعذق إذخرها ، واسلب ثمامها ، وابقل حمضها ، وانبلت الأرض فتشبعت شاتها إلى الليل، وشبع بعيرها إلى الليل مما جمع من خوصٍ وضمد الأرض وبقل، وتركت مياههم كثيرةً تشرع فيها الماشية، وحاجة الماشية إلى الماء قليلٌ لرطوبة الأرض. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لسانه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوةٍ فكسي الغلام، وقال الغلام: إني أريد أن أمس يدك أطلب بذلك البركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن! فدنا فأخذ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وقال: بارك الله فيك! فكان قد بلغ سناً، وكان له فضلٌ وحالٌ في قومه حتى توفي زمن الوليد بن عبد الملك.
قالوا: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءه بديل ابن ورقاء وركبٌ من خزاعة، وهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة شيئاً، فأناخوا رواحلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا فسلموا عليه، فقال بديل: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل - النساء والصبيان - يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؛ وقريشٌ قومٌ قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثر منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ينفذ الله أمره! فوعى بديلٌ مقالته وركب، ثم ركبوا إلى قريش، وكان في الركب عمرو ابن سالم، فجعل يقول: والله لا تنصرون على من يعرض هذا أبداً، حتى هبطوا على كفار قريش. فقال ناسٌ منهم: هذا بديل وأصحابه، إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم، فلا تسألوهم عن حرفٍ واحدٍ! فلما رأى بديل وأصحابه أنهم لا يستخبرونهم قال بديل: إنا جئنا من عند محمد، أتحبون أن نخبركم؟ قال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص: لا والله، ما لنا حاجةٌ بأن تخبرنا عنه! ولكن أخبروه عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبداً حتى لا يبقى منا رجلٌ. فقال عروة بن مسعود: والله ما رأيت كاليوم رأياً أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه؟ فإن أعجبكم أمرٌ قبلتموه، وإن كرهتم شيئاً تركتموه؛ لا يفلح قومٌ فعلوا هذا أبداً! وقال رجالٌ من ذوي رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أمية والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي صلى الله عليه وسلم التي قال، وما عرض على قريشٍ من المدة، فقال عروة: يا معشر قريش تتهمونني؟ ألست الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظٍ لنصركم، فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني! فقالوا: قد فعلت! فقال: وإني ناصحٌ لكم شفيقٌ عليكم، لا أدخر عنكم نصحاً، وإن بديلاً قد جاءكم بخطة رشدٍ لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من معه وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره. فبعثته قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى جاءه، ثم قال: يا محمد، إني تركت قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، قد استنفروا لك أحابيشهم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم. وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين، أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال عروة: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديةٍ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فطفق عروة وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس لحيته - والمغيرة قائمٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، على وجهه المغفر - فطفق المغيرة كلما مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قرع يده ويقول: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك! فلما أكثر عليه غضب عروة فقال: ليت شعري من أنت يا محمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: وأنت بذلك يا غدر؟ والله ما غسلت عنك عذرتك إلا بعلابط أمس! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر! يا محمد، أتدري كيف صنع هذا؟ إنه خرج في ركبٍ من قومه، فلما كانوا بيننا وناموا فطرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم وفر منهم. وكان المغيرة خرج مع نفرٍ من بني مالك بن حطيط بن جشم بن قسي
- والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل: والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل:
تحمل عروة الأحلاف لما ... رأى أمراً تضيق به الصدور
ثلاث مئين عاديةً والفاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قال الواقدي: فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه وكما عرض عليهم من المدة، ركب عروة بن مسعود حتى أتى قريشاً فقال: يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيءٍ؛ وقد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم؛ وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم؛ والله لقد رأيت نسياتٍ معه إن كن ليسلمنه أبداً على حال؛ فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي ، وقد عرض عليكم خطةً فمادوه! يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه! رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي ينحره وينصرف! فقالت قريش: لا تلكم بهذا يا أبا يعفور ! لو غيرك تكلم بهذا للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع إلى قابلٍ.
قالوا: ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف، فلما طلع ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا رجلٌ غادر! فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه بنحوٍ مما كلمه أصحابه، فلما انتهى إلى قريشٍ أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بن علقمة - وهو يومئذٍ سيد الأحابيش - فلما طلع الحليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يعظمون الهدي ويتألهون ، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فبعثوا الهدي، فلما نظر إلى الهدي يسيل في الوادي عليه القلائد، قد أكل أوباره يرجع الحنين. واستقبله القوم في وجهه يلبون، قد أقاموا نصف شهر قد تفلوا وشعثوا، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، حتى رجع إلى قريش فقال: إني قد رأيت ما لا يحل صده، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره، معكوفاً عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً لحرمته مؤدياً لحقه، وساق الهدي معكوفاً أن يبلغ محله؛ والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد! قالوا: إنما كل ما رايت مكيدةٌ من محمدٍ وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وكان أول من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريشٍ خراش بن أمية الكعبي على جملٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين، معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله، فمنعه من هناك من قومه حتى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكد ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي فقال: يا رسول الله ابعث رجلاً أمنع مني! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريشٍ، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريشٌ عداوتي لها، وليس بها من بني عديٍّ من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجلٍ أعز بمكة مني، وأكثر عشيرةً وأمنع، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فقال: اذهب إلى قريشٍ فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت، معظيمن لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف. فخرج عثمان حتى أتى بلدح، فيجد قريشاً هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافةً، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه! وأخرى تكفون، ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمدٍ فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمدٌ كنتم بالخيار، أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون؛ إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت بالأماثل منكم! وأخرى، إن رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، إنما جاء معتمراً، معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف. فجعل عثمان رضي الله عنه يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذاأبداً، ولا دخلها علينا عنوةً، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سعد بن العاص، فرحب به وأجازه وقال: لا تقصر عن حاجتك! ثم نزل عن فرسٍ كان عليه فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية وغيرهم، منهم من لقي ببلدح ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إنم محمداً لا يدخلها علينا أبداً! قال عثمان رضي الله عنه: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجالٍ ونساءٍ مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: " أظلكم حتى لا يستخفى بمكة الإيمان " . فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة نتتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما خبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: أقرأ على رسول الله منا السلام؛ إن الذي أنزله بالحديبيية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكة! وقال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت فطاف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. قالوأ: يا رسول الله، وما يمنعه وقد
وصل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.صل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، وكان الرجل من أصحابه يبيت على الحرس حتى يصبح يطيف بالعسكر، فكان ثلاثةٌ من أصحابه يتناوبون الحراسة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر، ومحمد بن مسلمة. فكان محمد بن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً من تلك الليالي وعثمان بمكة بعد، وقد كانت قريشٌ بعثت ليلاً خمسين رجلاً، عليهم مكرز بن حفص، وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثاً يدعو قريشاً، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم؛ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة. وبلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمعٌ من قريشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، واسروا أيضاً من المشركين حينئذٍ أسرى؛ ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يؤم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية جميعاً. قالت أم عمارة: والرسل تختلف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منزلنا. قالت: فظننت أنه يريد حاجةً فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل، فجلس في رحالنا ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة. قالت: فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تدارك الناس، فما بقي لنا متاعٌ إلا وطىء! وزوجها غزية بن عمرو. وقالت: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يومئذٍ. قالت: فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح، وهو معنا قليلٌ؛ إنما خرجنا عماراً، فأنا أنظر إلى غزية ابن عمرو وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمودٍ كنا نستظل به فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحدٌ رجوت أن أقتله. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذٌ بيده، فبايعهم على ألا يفروا. وقال قائل: بايعهم على الموت. ويقال: أول الناس بايع سنان بن أبي سنان ابن محصن، فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان بن أبي سنان، وكان المسلمون الذين دخلوا على أهليهم عشرةً من المهاجرين؛ كرز بن جابر الفهري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد الشمس، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير، وعمير بن وهب الجمحي، وعبد الله بن أمية بن وهب حليف سهيل في بني أسد بن عبد العزى.
فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: سهل أمرهم! قال: من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منا؛ بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا! فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي. قال سهيل: أنصفتنا! فبعث سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى قريشٍ الشتيم بن عبد مناف التيمي: إنكم حبستم رجالاً من أصحاب محمدٍ بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين! وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمداً يطلق لكم أصحابكم. فبعثوا إليه بمن كان عندهم، وكانوا أحد عشر رجلاً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم الذين أسروا أول مرة وآخر مرة، فكان فيمن أسر أول مرة عمرو بن أبي سفيان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يومئذٍ تحت شجرةٍ خضراء، وقد كان مما صنع الله للمسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه فنادى: إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. قال ابن عمر: فخرجت مع أبي وهو ينادى للبيعة، فلما فرغ من النداء أرسلني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أني قد أذنت الناس. قال عبد الله: فأرجع فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، فبايعته الثانية. قال عبد الله لعمر أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له فرجع؛ وكان يمسك بيد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع. فلما نظرت قريش - سهيل بن عمرو، وحويطب ابن عبد العزى ومن كان معه، وعيون قريش - إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية. فلما رجع عثمان رضي الله عنه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة فبايعه؛ وقد كان قبل ذلك حين بايع الناس قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له! فضرب يمينه على شماله.
قال الواقدي: حدثني جابر بن سليم، عن صفوان بن عثمان، قال: فكانت قريش قد أرسلت إلى عبد الله بن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل. وابنه جالس عنده فقال له ابنه: يا أبت، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛ تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟ فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذلك فسر به. ورجع حويطب بن عبد العزى وسهيل بن عمرو ومكرز بن حفص إلى قريش، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وما جعلوا له، فقال أهل الرأي منهم: ليس خيرٌ من أن نصالح محمداً على أن ينصرف عنا عامة هذا ويرجع قابل، فيقيم ثلاثاً وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا. فأجمعوا على ذلك، فلما أجمعت قريشٌ على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص وقالوا: ائت محمداً فصالحه، وليكن في صلحك لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوةً. فأتى سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين طلع قال: أراد القوم الصلح. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال الكلام، وتراجعوا، وترافعت الأصوات وانخفضت.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث ابن عبد الله بن كعب، قال: سمعت أم عمارة تقول: إني لأنطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يومئذٍ متربعاً، وإن عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش مقنعان بالحديد، قائمان على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته قالا: اخفض من صوتك عند رسول الله! وسهيل باركٌ على ركبتيه، رافعٌ صوته كأني أنظر إلى علم في شفته وإلى أنيابه، وإن المسلمين لحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس.
قالوا: فلما اصطلحوا فلم يبق إلا الكتاب، وثب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ألسنا بالمسلمين؟ فقال: بلى! فقال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزه ! فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله! ولقي عمر من القضية أمراً كبيراً، وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني قال: فجعل يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الكلام. قال: يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟ تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك! قال عمر رضي الله عنه: فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياءً، فما أصابني قط شيءٌ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذٍ. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية: ارتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذٍ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعةً تخرج عنهم رغبةً عن القضية لخرجت. ثم جعل الله تبارك وتعالى عاقبتها خيراً ورشداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
قال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذٍ من الشك، وراجعت النبي صلىالله عليه وسلم يومئذٍ مراجعةً ما رجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذٍ رقاباً، وصمت دهراً، وإني لأذكر ما صنعت خالياً فيكون أكبر همي، ثم جعل الله عاقبة القضية خيراً، فينبغي للعباد أن يتموا الرأي؛ والله لقد دخلني يومئذٍ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً! فلما وقعت القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحديبية، وما كان في الإسلام فتحٌ أعظم من الحديبية. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت، فأخذ مفتاح الكعبة، وعرف مع المعرفين! فلما رأوا الصلح دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون. فبينا الناس على ذلك قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل، قد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلا له أسفل مكة؛ فخرج من أسفلها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكاتب سهيلاً، فرفع سهيلٌ رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه سهيل فضرب وجهه بغصن شوكٍ وأخذ بلبته وصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. قال: يقول حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوماً قط اشد حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمدٍ لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا تأخذ من محمدٍ نصفاً أبداً بعد هذا اليوم، حتى يدخلها عنوةً! فقال مكرز: أنا أرى ذلك. وقال سهيل: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردوه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيءٍ حتى ترده إلي. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً أن يتركه فأبى سهيل، فقال مكرز بن حفص وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطاً فأجاراه، وكف أبوه عنه. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لا نغدر! وعاد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال رسول الله: إني رسول الله، ولن أعصيه ولن يضيعني. فانطلق عمر حتى جاء إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يعصيه ولن يضيعه، ودع عنك ما ترى يا عمر! قال عمر: فوثبت إلى أبي جندل أمشي إلى جنبه. وسهيل بن عمرو يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، وإنما هو رجل وأنت رجل ومعك السيف! فرجوت أن يأخذ السيف ويضرب أباه، فضن الرجل بأبيه. فقال عمر: يا أبا جندل، إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجلٌ برجلٍ! قال: وأقبل أبو جندل على عمر فقال: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره. قال أبو جندل: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله مني! وقال عمر ورجالٌ معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرف مع المعرفين! ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم أموراً - أنسيتم يوم كذا؟
فقال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة!قال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة! فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو، ولما التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن. وقالوا: لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيءٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون منها ضجةً هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا نكتب إلا محمدٌ رسول الله!
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي فروة، عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب! فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة ؛ وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمدٍ وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريشٍ وعقدها فعل؛ وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم ترده؛ وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفا، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب، فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي! فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده. ووثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمدٍ وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريشٍ في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عهد محمدٍ وعقده! قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمنا قد دخلوا مع محمد، قومٌ اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه. قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه! فقال سهيل: ترى أخوالي أعز علي من بني بكر؟ ولن والله لا تفعل قريش شيئاً إلا فعلته، فإذا أعانت بني بكر على خزاعة فإنما أنا رجلٌ من قريش، وبنو بكر أقرب إلي في قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وبنو بكر من قد عرفت، لنا منهم مواطن كلها ليست بحسنةٍ، منها يوم عكاظ.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يجبه منهم رجلٌ إلى ذلك، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يأمرهم، فلم يفعل واحدٌ منهم ذلك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على أم سلمة زوجته مغضباً شديد الغضب، وكانت معه في سفره ذلك، فاضطجع فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مراراً لا تجيبني . ثم قال: عجباً يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مراراً، فلم يجبني أحدٌ من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي! قالت، فقلت: يا رسول الله، انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك. قالت: فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه، ثم خرج وأخذ الحربة ينهم هديه. قالت أم سلمة: فكأني أنظر إليه حين يهوي بالحربة إلى البدنة رافعاً صوته: بسم الله والله أكبر! قالت: فما هذا إلا أن رأوه نحر، فتواثبوا إلى الهدي، فازدحموا عليه حتى خشيت أن يغم بعضهم بعضاً.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعاً بثوبه والحربة في يديه ينحر بها.
حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة. وكان جمل أبي جهل قد غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فكان المسلمون يغزون عليه المغازي، وكان قد ضرب في لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم التي استاق عيينة بن حصن، ولقاحه التي كانت بذي الجدر التي كان ساقها العرنيون، وكان جمل أبي جهل نجيباً مهرياً كان يرعى مع الهدي، فشرد قبل القضية فلم يقف حتى انتهى إلى دار أبي جهل وعرفوه، وخرج في أثره عمرو بن عنمة السلمي فأبى أن يعطيه له سفهاءٌ من سفهاء مكة، فقال سهيل بن عمرو: ادفعوه إليه. فأعطوا به مائة ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا. فنحر الجمل عن سبعة، أحدهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وكان ابن المسيب يقول: كان الهدي سبعين، وكان الناس سبعمائة، وكان كل بدنةٍ عن عشرة. والقول الأول أثبت عندنا أنه ست عشرة مائة. قال: وقام طلحة بن عبيد الله ينحر بدناتٍ له ساقها من المدينة، وعبد الرحمن أيضاً، وعثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم. وحضره يومئذٍ من يسأل من لحوم البدن معتراً غير كبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيم من لحوم البدن وجلودها. قالت أم كرز الكعبية: جئت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحوم الهدي حين نحر بالحديبية، فسمعته يقول: عن الغلام شاتان مكافئتان والجارية شاة. وأكل المسلمون من هديهم الذي نحروا يومئذٍ وأطعموا المساكين ممن حضرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بعشرين بدنةً لتنحر عند المروة مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وقسم لحمهها.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: فأنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من نحر البدن فدخل قبةً له من أدمٍ حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إليه قد أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين! قيل: يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين - ثلاثاً. ثم قال: والمقصرين.
فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأنا أنظر إليه حين حلق رأسه، ورمى بشعره على شجرةٍ كانت إلى جنبه من سمرة خضراء. قالت أم عمارة: فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصون فيه، وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقاتٍ من شعرٍ. فكانت عندها حتى ماتت تغسل للمريض. قال: وحلق يومئذٍ ناسٌ، وقصر آخرون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: وقصرت يومئذٍ أطراف شعري. وكانت أم عمارة تقول: قصرت يومئذ - بمقص معي - الشعر وما شد.
حدثني خراش بن هنيد، عن أبيه، قال: كان الذي حلقه خراش ابن أمية.
قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزل بمر الظهران ثم نزل عسفان، فأرملوا من الزاد، فشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد بلغوا من الجوع - وفي الناس ظهر - وقالوا: فننحر يا رسول الله وندهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاءً! فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لا تفعل فإن يك في الناس بقية ظهرٍ يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم ثم ادع الله فيها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقيةٌ من زاد فلينثره على الأنطاع. قال أبو شريح الكعبي: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيءٍ، ويأتي بالكف من الدقيق، والكف من السويق، وذلك كله قليل. فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فدعا بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم! فجاءوا بأوعيتهم. قال أبو شريح: فأنا حاضرٌ، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد حتى إن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملاً؛ ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من الماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفرٍ، فجلس اثنان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب واحدٌ معرضاً، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فتاب، فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه.
فحدثني معاذ بن محمد قال، سمعت شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصرفه من الحديبية، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني. قال عمر: فقلت: ثكلتك أمك يا عمر! نذرت رسول الله ثلاثاً، كل ذلك لا يجيبني! قال: فحركت بعيري حتى تقدمت الناس، وخشيت أن يكون نزل في قرآنٌ، فأخذني ما قرب وما بعد، ولما كنت راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وكراهتي القضية، فإني لأسير مهموماً متقدماً للناس، فإذا منادٍ! ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسي ما الله به أعلم، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت فرد علي السلام وهو مسرور، ثم قال: أنزلت علي سورةٌ هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ فإذا هو يقرأ " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " . فبشره بمغفرته، وإتمام نعمته ونصره، وطاعة من أطاع الله تعالى، ونفاق من نافق؛ فأنزل الله على ذلك عشر آيات.
وحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قال: لما كنا بضجنان راجعين من الحديبية رأيت الناس يركضون فإذا هم يقولون: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن، فركضت مع الناس، حتى توافينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، فلما نزل بها جبريل عليه السلام قال: يهنيك يا رسول الله! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.
وكان مما نزل في الحديبية: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " قال: قضينا لك قضاءً مبيناً؛ فالفتح قريش وموادعتهم، فهو أعظم الفتح. " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " قال: ما كان قبل النبوة وما تأخر. قال: ما كان قبل الموت إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. " ويتم نعمته عليك " ، بصلح قريش؛ " ويهديك صراطاً مستقيماً " ، قال: الحق؛ " وينصرك الله نصراً عزيزاً " حتى تظهر فلا يكون شرك. " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ، قال: الطمأنينة؛ " ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم " ، قال: يقيناً وتصديقاً؛ " ولله جنود السموات والأرض " . قال عز وجل: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم " ، قال: ما اجترحوا؛ " وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً " ، يقول: فوزاً لهم أن يغفر لهم سيئاتهم؛ " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء " ، يعني الذين مر عليهم بين مكة والمدينة؛ من مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه. " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً " ، قال: شاهداً عليهم ومبشراً لهم بالجنة ونذيراً لهم من النار. " وتعزروه " ، قال: تنصروهه وتوقره وتعظموه؛ " وتسبحوه بكرةً وأصيلاً " ، قال: تصلوا لله بكرةً وعشياً. " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه يومئذٍ على ألا يفروا، ويقال: على الموت؛ " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " ، يقول: من بدل أو غير ما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما ذلك على نفسه، ومن أوفى فإن له الجنة، " سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، قال: هم الذين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنفرهم واستعان بهم في بدايته فتشاغلوا بأهليهم وأموالهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إلى المدينة جاءوه يقولون استغفر لنا إباءنا أن نسير معك. يقول الله عز وجل: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، يقول: سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً " ، إلى قوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، قال: قولهم حين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة " فأبوا أن ينفروا، " وزين ذلك في قلوبكم " ، قال: كان يقيناً في قلوبهم. وقوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، يقول: هلكى. وقوله: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها... " إلى آخر الآية. قال: هم الذين تخلفوا عنه وأبوا أن ينفروا معه، هؤلاء العرب من مزينة وجهينة وبكر، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجه إلى خيبر قالوا: نحن نتبعكم. يقول الله عز وجل، " يريدون أن يبدلوا كلام الله " . قال: الذي قضى الله، قضى ألا تتبعونا، وهو كلام الله، يقال قضاءه: يقول: " قل للمخلفين من الأعراب " يعني هؤلاء الذين تخلفوا عنك في عمرة الحديبية. " ستدعون إلى قومٍ أولي باسٍ شديد " . قال: هم فارس والروم؛ ويقال: هوازن، ويقال: بني حنيفة يوم اليمامة؛ " تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً اليماً " ، قال: إن أبيتم أن تقاتلوا كما أبيتم أن تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة الحديبية.
" ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ " قال: لما نزلت العورات الثلاث. " ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم " أخرجوا العميان والمرضى والعرجان من بيوتهم. فأنزل الله عز وجل: " ليس على الأعمى حرجٌ " ، ويقال: هذا في الغزو.
وحدثني محمد ومعمر، عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين كانوا إذا نفروا للغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الزمنى من ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك رخصةً لهم بالإذن في كل. " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " ، قال: وهي سمرة خضراء؛ " فعلم ما في قلوبهم " ، قال: صدق نياتهم. " فأنزل السكينة عليهم " ، يعني الطمأنينة، وهو بيعة الرضوان؛ " فتحاً قريباً " ، قال: صلح قريش، " ومغانم كثيرةً تأخذونها " إلى يوم القيامة. وفي قوله عز وجل: " فعجل لكم هذه " ، قال: فتح خيبر؛ " وكف أيدي الناس عنكم " ، قال: الذين كانوا طافوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين رجاء أن يصيبوا من المسلمين غرة، فأسرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسراً؛ " ولتكون آيةً للمؤمنين " . قال: عبرة ، صلح قريش وحكمٌ لم يكن فيه سيفٌ، وكان فتحاً عظيماً. " وأخرى لم تقدروا عليها " ، قال: فارس والروم، ويقال مكة. " ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً " ، يقول: لو قاتلتكم قريش انهزموا ثم لم يكن لهم من الله ولي، يعني حافظ، ولا نصير من العرب. " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ، قال: قضاء الله الذي قضى ولا تبديل أن رسله يظهرون ويغلبون. " وهو الذي طف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " ، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسروا من المشركين بالحديبية أسرى، فكف الله أيدي المسلمين عن قتلهم؛ " وأيديهم عنكم " ، من كانوا حبسوا بمكة، فذلك الظفر. " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله " ، يقول: حيث لم يصل إلى البيت وحبس بالحديبية؛ " ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً " ، يقول: لولا رجال ونساءٌ مستضعفون بمكة؛ " أن تطؤهم " ، يقول: أن تقتلوهم ولا تعرفوهم فيصيبكم من ذلك بلاءٌ عظيمٌ؛ حيث قتلتم المسلمين وأنتم لا تعلمون؛ " لو تزيلوا " ، يقول: لو خرجوا من عندهم؛ " لعذبنا الذين كفروا " ، يقول: سلطناكم عليهم بالسيف. " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " حيث أبى سهيل بن عمرو أن يكتب " محمدٌ رسول الله " وحيث أبى أن يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " . " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ، يقول: بينهم؛ " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " ، يقول: لا إله إلا الله هم أحق بها وأولى من المشركين. " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " إلى قوله: " فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً " ، والفتح القريب صلح الحديبية. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فحلق وحلق معه قومٌ، وقصر من قصر، ودخل في حجته ومعه أصحابه آمنين لا يخاف إلا الله عز وجل. " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " قال: يبتغون بذلك الركوع والسجود الفضل من الله والرضوان. " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، قال: أثر الخشوع والتواضع؛ " مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " ، فهذا في الإنجيل، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، ثم ازدادوا، ثم كثروا، ثم استغلظوا، وقال: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " ، قال: هي مفصولة بأنهم آمنوا بالله ورسله يصدقونهم. قال بعد: " والشهداء عند ربهم " وفي قوله عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ " يعني ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.
كانت الحرب قد حجزت بين الناس وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضاً، فلم يكن أحدٌ تكلم بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين الذين يقومون بالشرك وبالحرب - عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأشباهٌ لهم، وإنما كانت الهدنة حتى نقضوا العهد اثنين وعشرين شهراً، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحيةٍ من نواحي العرب.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير - وهو عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة - مسلماً، قد انفلت من قومه فسار على قدميه سعياً، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر ابن عبد عوف الزهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، استأجراه ببكرٍ؛ ابن لبون - وهو خنيس بن جابر - وخرج مع العامري مولىً له يقال له كوثر، وحملا خنيس بن جابر على بعيرٍ، وكتبا يذكران الصلح بينهم، وأن يرد إليهم ابا بصير، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقال خنيس: يا محمد، هذا كتابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فقرأ عليه الكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بيننا وبينك، من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً، قال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجاً. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العامري وصاحبه؛ فخرج معهما؛ وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، أبشر! فإن الله جاعلٌ لك مخرجاً، والرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل! يأمرونه بالذين معه. فخرجوا حتى كانوا بذي الحليفة - انتهوا إليها عند صلاة الظهر - فدخل أبو بصير مسجد ذي الحليفة فصلى ركعتين صلاة المسافر؛ ومعه زا دٌ له يحمله من تمر، فمال إلى أصل جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى، وقال لصاحبيه: ادنوا فكلا! فقالا: لا حاجة لنا في طعامك. فقال: ولكن لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم. فاستحييا فدنوا ووضعا أيديهما في التمر معه، وقدما سفرةً لهما فيها كسرٌ، فأكلوا جميعاً، وآنسهم، وعلق العامري بسيفه على حجرٍ في الجدار، فقال أبو بصير للعامري: يا أخا بني عامر، ما اسمك؟ فقال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. فقال: يا أبا جابر أصارمٌ سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله العامري وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فأخذ أبو بصير بقائم السيف، والعامري ممسكٌ بالجفن، فعلاه به حتى برد، وخرج كوثر هارباً يعدو نحو المدينة، وخرج أبو بصير في أثره، فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو بصير: والله لو أدركته لأسلكته طريق صاحبه! فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه بعد العصر إذ طلع المولى يعدو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجلٌ قد رأى ذعراً! فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد! وكان الذي حبس أبا بصير احتمال سلبهما على بعيرهما، فلم يبرح مكانه قائماً حتى طلع أبو بصبر، فأناخ البعير بباب المسجد فدخل متوشحاً بالسيف - سيف العامري - فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله: وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، وتبغيت بي أن أكذب بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ أمه، محش حربٍ لو كان معه رجال!
وجاء أبو بصير بسلب العامري خنيس بن جابر ورحله وسيفه، فقال: خمسه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه؛ ولكن شأنك بسلب صاحبك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكوثر: ترجع به إلى أصحابك. فقال: يا محمد، قد أهمتني نفسي، ما لي به قوةٌ ولا يدان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: اذهب حيث شئت! فخرج أبو بصير حتى أتى العيص، فنزل منه ناحيةً على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام. قال أبو بصير: فخرجت وما معي من الزاد إلا كفٌّ من تمرٍ فأكلتها ثلاثة أيام، وكنت آتي الساحل فأصيب حيتاناً قد ألقاها البحر فآكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير " ويل أمه، محش حربٍ لو كان له رجال " فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير. وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما ورد عليهم كتاب عمر جعلوا يتسللون رجلاً رجلاً حتى انتهوا إلى أبي بصير فاجتمعوا عنده، قريب من سبعين رجلاً، فكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحدٍ منهم إلا قتلوه، ولا تمر عيرٌ إلا اقتطعوها، حتى أحرقوا قريشاً، لقد مر ركبٌ يريدون الشام معهم ثلاثون بعيراً، وكان هذا آخر ما اقتطعوا، لقد أصاب كل رجلٍ منهم، ما قيمته ثلاثون ديناراً. فقال بعضهم: ابعثوا بالخمس إلى رسول الله. فقال أبو بصير: لا يقبله رسول الله؛ قد جئت بسلب العامري، فأبى أن يقبله، وقال " إني إذا فعلت هذا لم أف لهم بعهدهم " . وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم ويفرضهم ويجمعهم، وهم سامعون له مطيعون. فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير للعامري اشتد ذلك عليه وقال: والله ما صالحنا محمداً على هذا. قالت قريش: قد برىء محمدٌ منه، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق، فما على محمدٍ في هذا؟ فقال سهيل: قد والله عرفت أن محمداً قد أوفى، وما أوتينا إلا من قبل الرسولين. قال: فأسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله، لا أؤخر ظهري حتى يودي هذا الرجل. قال أبو سفيان: إن هذا لهو السفه! والله لا يود! ثلاثاً. وأنى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال سهيل: قد والله صدقت، ما ديته إلا على بني زهرة، وهم بعثون ولا يخرج ديته غيرهم قصرةً ؛ لأن القاتل منهم، فهم أولى من عقله. فقال الأخنس: والله لا نديه، ما قتلنا ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف لديننا متبع لمحمد فأرسلوا إلى محمدٍ يديه. قال أبو سفيان: لا، ما على محمد دية ولا غرم؛ قد برىء محمد؛ ما كان على محمدٍ أكثر مما صنع، لقد أمكن الرسولين منه. فقال الأخنس: إن ودته قريشٌ كلها كانت زهرة بطناً من قريشٍ تديه معهم، وإن لم تده قريشٌ فلا نديه أبداً. فلم تخرج له دية حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح. فقال موهب بن رياح، فيما قال سهيل في بني زهرة، وما أراد أن يغرمهم من الدية:
أتاني عن سهيلٍ ذرو قولٍ ... ليوقظني وما بي من رقاد
فإن كنت العتاب تريد مني ... فما بيني وبينك من بعاد
متى تغمز قناتي لا تجدني ... ضعيف الرأي في الكرب الشداد
يسامي الأكرمين بعز قومٍ ... هم الرأس المقدم في العباد
أنشدنيها عبد الله بن أبي عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
فلما بلغ أبو بصير من قريش ما بلغ من الغيظ، بعثت قريش رجلاً، وكتبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يسألونه بأرحامهم: الا تدخل أبا بصير وأصحابه، فلا حاجة لنا بهم؟ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه؛ فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأ وهو يموت، فمات وهو في يديه، فقبره أصحابه هناك وصلوا عليه، وبنوا على قبره مسجداً، وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون رجلاً، فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. فلما دخل الحرة عثر فانقطعت إصبعه فربطها وهو يقول:
هل أنت إلا إصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فدخل المدينة فمات بها. فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ايذن لي أبكي على الوليد. قال: ابكي عليه! قال: فجمعت النساء وصنعت لهن طعاماً، فكان مما ظهر من بكائها:
يا عين فابكي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
مثل الوليد بن الولي ... د أبي الوليد كفى العشيره
فحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترداد الوليد قال: ما اتخذوا إلا حناناً.
وقالوا: لا نعلم قرشيةً خرجت بين أبويها مسلمةً مهاجرةً إلى الله إلا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحدث تقول: كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم - أو قالت بالحصحاص - ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السيرن فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين؟ فقلت: حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت؟ فقال: رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأةٌ من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق. فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة. ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب! فكانت تقول: نعم الحي خزاعة! قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن " الممتحنة " ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط، فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيد صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان كتب يسأله عن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " ، فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه، فكان يرد الرجال، فلما هاجر النساء أبى الله ذلك أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبةً فيه، وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، وأن يردون عليهم إن فعلوا، فقال: " وليسئلوا ما أنفقوا " وصبحها أخواها من الغد فطلباها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها إليهم، فرجعا إلى مكة، فأخبرا قريشاً، فلم يبعثوا في ذلك أحداً، ورضوا بأن تحبس النساء " وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليمٌ حكيمٌ " " وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " ، قال: فإن فات أحداً منهم أهله إلى الكفار، فإن أتتكم امرأةٌ منهم فأصبتم فعوضوهم مما أصبتم صداق المرأة التي أتتكم؛ فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأبى المشركون أن يقروا بذلك، وأن ما ذاب للمشركين على المسلمين من صداق من هاجر من أزاواج المشركين " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم " من مال المشركين في أيديكم. ولسنا نعلم امرأةً من المسلمين فاتت زوجها باللحوق بالمشركين بعد إيمانها، ولكنه حكم حكم الله به لأمرٍ كان، والله عليمٌ حكيم. " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " ، يعني من غير أهل الكتاب، فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زينب بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وطلق عمر أيضاً بنت جرول الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض ابن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان يومئذٍ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن بن أم الحكم.
غزوة خيبرحدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه لفظاً، سنة سبعٍ وسبعين وثلثمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عيسى بن أبي حية، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال: حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن أبي حبيبة، وعبد الرحمن ابن عبد العزيز، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعائذ ابن يحيى، وعبد الحميد بن جعفر، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، ومعاذ بن محمد، وإبراهيم بن جعفر، ويونس ويعقوب ابنا محمد الظفريان، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وسعيد بن أبي زيد بن المعلى الزرقي، وربيعة بن عثمان، ومحمد بن يعقوب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الملك وعبد الرحمن ابنا محمد بن أبي بكر، ومعمر بن راشد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث خيبر بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني من حديث خيبر، فكتب ما حدثوني.
قالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية في ذي الحجة تمام سنة ست ، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وخرج في صفر سنة سبعٍ - ويقال خرج لهلال ربيع الأول - إلى خيبر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ للغزو فهم مجدون، وتجلب من حوله يغزون معه، وجاءه المخلفون يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقالوا: نخرج معك! وقد كانوا تخلفوا عنه في غزوة الحديبية، وأرجفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فقالوا: نخرج معك إلى خيبر، إنها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. وبعث منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغبٌ في الجهاد، فأما الغنيمة فلا! فلما تجهز الناس إلى خيبر شق ذلك على يهود المدينة الذين هم موادعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنهم إذا دخلوا خيبر أهلك الله خيبر كما أهلك بني قينقاع والنضير وقريظة. قال: فلما تجهزنا لم يبق أحدٌ من يهود المدينة له على أحدٍ من المسلمين حقٌّ إلا لزمه، وكان لأبي الشحم اليهودي عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم في شعيرٍ أخذه لأهله، فلزمه، فقال: أجلني فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقك إن شاء الله، إن الله عز وجل قد وعد نبيه خيبر أن يغنمه إياها. وكان عبد الله بن أبي حدرد ممن شهد الحديبية، فقال: يا أبا الشحم، إنا نخرج إلى ريف الحجاز في الطعام والأموال. فقال أبو الشحم حسداً وبغياً: تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها والتوراة عشرة آلاف مقاتل! قال ابن أبي حدرد: أي عدو الله! تخوفنا بعدونا وأنت في ذمتنا وجوارنا؟ والله لأرفعنك إلى رسول الله! فقلت: يا رسول الله ألا تسمع إلى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبرته بما قال أبو الشحم. فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليه شيئاً، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بشيءٍ لم أسمعه، فقال اليهودي: يا أبا القاسم، هذا قد ظلمني وحبسني بحقي وأخذ طعامي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطه حقه. قال عبد الله: فخرجت فبعت أحد ثوبي بثلاثة دراهم، وطلبت بقية حقه فقضيته، ولبست ثوبي الآخر، وكانت علي عمامةٌ فاستدفأت بها. وأعطاني سلمة بن أسلم ثوباً آخر، فخرجت في ثوبين مع المسلمين، ونفلني الله خيراً، وغنمت امرأةً بينها وبين أبي الشحم قرابةٌ فبعتها منه بمال.
وجاء أبو عبس بن جبر فقال: يا رسول الله، ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب أخرج فيه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقةٌ سنبلانيةٌ، فباعها بثمانية دراهم، فابتاع تمراً بدرهمين لزاده وترك لأهله نفقةً درهمين، وابتاع بردةً بأربعة دراهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق خيبر في ليلةٍ مقمرةٍ إذ أبصر برجل يسير أمامه، عليه شيءٌ يبرق في القمر كأنه في الشمس وعليه بيضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقيل: أبو عبس بن جبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدركوه! قال: فأدركوني فحبسوني، وأخذني ما تقدم وما تأخر، وظننت أنه قد نزل في أمرٌ من السماء، فجعلت أتذكر ما فعلت حتى لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك تقدم الناس لا تسير معهم؟ قلت: يا رسول الله، إن ناقتي نجيبة. قال: فأين الشقيقة التي كسوتك؟ فقلت: بعتها بثمانية دراهم، فتزودت بدرهمين تمراً، وتركت لأهلي نفقةً درهمين، واشتريت بردةً بأربعة دراهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء! والذي نفسي بيده لئن سلمتم وعشتم قليلاً ليكثرن زادكم، وليكثرن ما تتركون لأهليكم، ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم، وما ذاك بخيرٍ لكم! قال أبو عبس: فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتاً من دوس، فقال قائل: رسول الله بخيبر وهو قادمٌ عليكم. فقلت: لا أسمع به ينزل مكاناً أبداً إلا جئته. فتحملنا حتى جئناه بخيبر فنجده قد فتح النطاة وهو محاصرٌ أهل الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا. وكنا قدمنا المدينة فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة بالمدينة، فقرأ في الركعة الأولى سورة مريم وفي الآخرة: " ويلٌ للمطففين " ، فلما قرأ " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " قلت: تركت عمي بالسراة له مكيالان، مكيال يطفف به ومكيال يتبخس به . ويقال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، والثبت عندنا سباع بن عرفطة.
وكانت يهود خيبر لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم؛ كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثم يقولون: محمدٌ يغزونا؟ هيهات! هيهات! وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون حين تجهز النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر: ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم؛ حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن ، إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر؟ فجعلوا يوحون بذلك إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قد وعدها الله نبيه أن يغنمه إياها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فعمى الله عليهم مخرجه إلا بالظن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحاتهم ليلاً. وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم حيث أحسوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشار عليهم الحارث أبو زينب اليهودي بأن يعسكروا خارجاً من حصونهم ويبرزوا له، فإني قد رأيت من سار إليه من الحصون، لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه، ومنهم من سبي ومنهم من قتل صبراً. فقالت اليهود: إن حصوننا هذه ليست مثل تلك، هذه حصون منيعة في ذرى الجبال. فخالفوه وثبتوا في حصونهم، فلما صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوه أيقنوا بالهلكة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك ثنية الوداع، ثم أخذ على الزغابة، ثم على نقمي، ثم سلك المستناخ، ثم كبس الوطيح ، ومعهم دليلان من أشجع يقال لأحدهما حسيل بن خارجة، والآخر عبد الله بن نعيم، خرج على عصر وبه مسجد، ثم على الصهباء . فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره قال لعامر بن سنان: انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك . فاقتحم عامر عن راحلته، ثم ارتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجبت والله يا رسول الله! فقال رجل من القوم: لولا متعتنا به يا رسول الله! فاستشهد عامر يوم خيبر. فكان سلمة بن الأكوع يقول: لما كنا دون خيبر نظرت إلى ظبيٍ حاقفٍ في ظل شجرة، فأتفرد له بسهمٍ فارميه فلم يصنع سهمي شيئاً، وأذعر الظبي فيلحقني عامر ففوق له السهم فوضع السهم في جنب الظبي، وينقطع وتر القوس فيعلق رصافه بجنبه، فلم يخلصه إلا بعد شد. ووقع في نفسي يومئذٍ طيرةٌ ورجوت له الشهادة فبصرت رجلاً من اليهود فيصيب نفسه فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب! فنزل عبد الله عن راحلته فقال:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمه! فقال عمر رضي الله عنه: وجبت يا رسول الله. قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيداً.
قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصهباء فصلى بها العصر ثم دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق والتمر، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلوا معه، ثم قام إلى المغرب فصلى بالناس ولم يتوضأ، ثم صلى العشاء بالناس، ثم دعا بالأدلاء فجاء حسيل بن خارجة الأشجعي، وعبد الله بن نعيم الأشجعي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسيل: امض أمامنا حتى تأخذنا صدور الأودية، حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام، فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل: أنا أسلك بك. فانتهى به إلى موضع له طرق، فقال له: يا رسول الله، إن لها طرقاً يؤتى منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمها لي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ويكره الطيرة والاسم القبيح. فقال الدليل: لها طريق يقال لها حزن. قال: لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها شاش. قال لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها حاطب. قال: لا تسلكها! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما رأيت كالليلة أسماء أقبح! سم لرسول الله! قال: لها طريقٌ واحدةٌ لم يبق غيرها. فقال عمر: سمها. قال: اسمها مرحب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم اسلكها! قال عمر: ألا سميت هذا الطريق أول مرة!
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر في فوارس طليعةً، فأخذ عيناً لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ أبتغي أبعرةً ضلت لي، أنا على أثرها. قال له عباد: ألك علمٌ بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاحٌ وطعامٌ كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماءٌ واتنٌ يشربون في حصونهم، ما أرى لأحدٍ بهم طاقة. فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عينٌ لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك! فقال الأعرابي: أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال عباد: نعم. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وإن يهود يثرب بعثوا ابن عمٍّ لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعةٍ يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبي الحقيق يخبرونه بقلتكم وقلة خيلكم وسلاحكم. ويقولون له: فاصدقوهم الضرب ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق قوماً يحسنون القتال! وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم لما يعلمون من موادكم وكثرة عددكم وسلاحكم وجودة حصونكم! وقد تتابعت قريش وغيرهم ممن يهوى هوى محمد، تقول قريش: إن خيبر تظهر! ويقول آخرون: يظهر محمد، فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر! قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا، فقال لي كنانة: اذهب معترضاً للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا فإنهم لن يدعوا سؤالك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم. فأتى به عباد النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب: اضرب عنقه. قال عباد: جعلت له الأمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكه معك يا عباد! فأوثق رباطاً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عرض عليه الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني داعيك ثلاثاً، فإن لم تسلم لم يخرج الحبل عن عنقك إلا صعداً! فأسلم الأعرابي، وخرج الدليل يسير برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى به، فيسلك بين حياض والسرير ، فاتبع صدور الأودية حتى هبط به الخرصة ، ثم نهض به حتى سلك بين الشق والنطاة. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا! ثم قال: قولوا: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. ثم قال: ادخلوا على بركة الله! فسار حتى انتهى إلى المنزلة، وعرس بها ساعةً من الليل، وكان اليهود يقومون كل ليلة قبل الفجر فيتلبسون السلاح ويصفون الكتائب، وهم عشرة آلاف مقاتل. وكان كنانة بن أبي الحقيق قد خرج في ركبٍ إلى غطفان يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمر خيبر سنةً، وذلك أنه بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرٌ إليهم. وكان رجلٌ من بني فزارة حليفٌ لهم قدم بسلعةٍ إلى المدينة فباعها، ثم رجع فقدم عليهم فقال: تركت محمداً يعبىء أصحابه إليكم. فبعثوا إلى حلفائهم من غطفان، فخرج كنانة بن أبي الحقيق في أربعة عشر رجلاً من اليهود يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمرٍ خيبر سنةً. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديلكٌ حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم معهم المساحي والكرازين والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بساحتهم قالوا: محمدٌ والخميس ! فولوا هاربين حتى رجعوا إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزلة جعل مسجداً فصلى إليه من آخر الليل نافلةً. فثارت راحلته تجر زمامها، فأدركت توجه إلى الصخرة لا تريد تركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة! حتى بركت عند الصخرة، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وأمر برحله فحط ، وأمر الناس بالتحول إليها، ثم ابتنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.لله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.
وحدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت نخلاً بخيبر في النطاة مقطعةً، فكان ذلك مما قطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة قال: قطع المسلمون في النطاة أربعمائة عذق، ولم تقطع في غير النطاة.
فكان محمد بن مسلمة ينظر إلى صور من كبيس، قال: أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالاً ينادي عزمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا. قال: وكان محمود بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذٍ، وكان يوماً صائفاً شديد الحر، وهو أول يومٍ قاتل فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملةً جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، وهو أآول حصنٍ بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثاً ومتاعاً - وناعم يهودي، وله حصون ذوات عدد فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب رحى فأصاب رأسه. فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه، وأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد الجلدة فرجعت كما كانت، وعصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول إلى الرجيع وخاف على أصحابه البيات، فضرب عسكره هناك وبات فيه، وكان مقامه بالرجيع سبعة أيام، يغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم متسلحين ويترك العسكر بالرجيع، ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع. وكان قاتل أول يومٍ من أسفل النطاة، ثم عاد بعد فقاتلهم من أعلاها حتى فتح الله عليه. وكان من جرح من المسلمين حمل إلى المعسكر فدووي، وإن كان به انلاق انطلق إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أول يوم قاتلوا فيه جرح من المسلمين خمسون رجلاً من نبلهم، فكانوا يداوون من الجراح. ويقال: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وباء المنزل فأمرهم بالتحول إلى الرجيع، وقدموا خيبر على ثمرة خضراء وهي وبئةٌ وخيمة، فأكلوا من تلك الثمرة، وأهمدتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قرسوا الماء في الشنان، فإذا كان بين الأذانين فاحدروا الماء عليكم حدراً واذكروا اسم الله. ففعلوا فكأنما أنشطوا من عقال .
وكان كعب بن مالك يحدث: إن رجلاً من اليهود من أهل النطاة نادانا بعد ليلٍ ونحن بالرجيع: أنا آمنٌ وأبلغكم؟ قلنا: نعم. قال: فابتدرناه فكنت أول من سبق إليه فقلت: من أنت؟ فقال: رجلٌ من اليهود. فأدخلناه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: يا أبا القاسم: تؤمني وأهلي على أن أدلك على عورة من عورات اليهود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدله على عورة اليهود. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تلك الساعة فحضهم على الجهاد، وخبرهم أن اليهود قد أسلمها حلفاؤها وهربوا، وأنها قد تجادلت واختلفوا بينهم. قال كعب: فغدونا عليهم فظفرنا الله بهم، فلم يكن في النطاة شيءٌ غير الذرية فلما انتهينا إلى الشق وجدنا فيه ذرية، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي زوجته وكانت في الشق، فدفعها إليه فرأيته أخذ بيد امرأةٍ حسناء.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام. فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر بن الخطاب على العسكر، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر وفرقهم أو فرق منهم، فأتي برجلٍ من اليهود في جوف الليل فامر به عمر أن يضرب عنقه، فقال اليهودي: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسكه عمر وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، ودخل عمر باليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ما وراءك ومن أنت ؟ فقال اليهودي: تؤمني يا أبا القاسم وأصدقك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال اليهودي: خرجت من حصن النطاة من عند قومٍ ليس لهم نظام، تركتهم يتسللون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذل مما كانوا فيه، إلى الشق، وقد رعبوا منك حتى إن أفئدتهم لتخفق. وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيتٍ من حصونهم تحت الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو؟ قال: منجينق مفككة ودبابتان وسلاح من دروع وبيضٍ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. قال اليهودي: إن شاء الله أوقفك عليه، فإنه لا يعرفه أحدٌ من اليهود غيري. وأخرى! قيل: ما هي؟ قال: تستخرجه، ثم أنصب المنجنيق على حصن الشق، وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصن الكتيبة. فقال عمر: يا رسول الله، إني أحسبه قد صدق. قال اليهودي: يا أبا القاسم، احقن دمي. قال: أنت آمن قال: ولي زوجة في حصن النزار فهبها لي. قال: هي لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لليهود حولوا ذراريهم من النطاة؟ قال: جردوها للمقاتلة، وحولوا الذراري إلى الشق والكتيبة.
قالوا: ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياماً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بالمسلمين إلى النطاة، ففتح الله الحصن، واستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق أن تصلح وتنصب على الشق على حصن النزار، فهيئوا، فما رموا عليها بحجرٍ حتى فتح الله عليهم حصن النزار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إليه حصب الحصن فساخ في الأرض حتى أخذ أهله أخذاً، وأخرجت زوجته، يقال لها نفيلة، فدفعها إليه. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطيح وسلالم أسلم اليهودي، ثم خرج من خيبر فلم يسمع له بذكر، وكان اسمه سماك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى حصن ناعم في النطاة وصف أصحابه نهى عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجلٌ من أشجع فحمل على يهودي، وحمل عليه مرحب فقتله. فقال الناس: يا رسول الله، استشهد فلان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعد ما نهيت عن القتال؟ فقالوا: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: لا تحل الجنة لعاصٍ. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال وحث عليه، ووطن المسلمون أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشي - عبدٌ أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه، فلما رأى أهل خيبر يتحصنون ويقاتلون سألهم، فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه، فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعو إلى الإسلام، فاشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: فما لي؟ قال: الجنة إن ثبت على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إن غنمي هذه وديعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك. ففعل العبد فخرجت الغنم إلى سيدها، وعلم اليهودي أن عبده قد أسلم. ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وفرق بينهم الرايات، وكانت ثلاث رايات، ولم تكن راية قبل يوم خيبر، إنما كانت الألوية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من بردٍ لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفع رايةً إلى عليٍّ رضي الله عنه بالراية وتبعه العبد الأسود فقاتل حتى قتل، فاحتمل فأدخل خباءً من أخبية العسكر، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخباء فقال: لقد كرم الله هذا العبد الأسود وساقه إلى خيبر، وكان الإسلام من نفسه حقاً، قد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين.
قالوا: وكان رجلٌ من بني مرة يقال له أبو شييم يقول: أنا في الجيش الذين كانوا مع عيينة من غطفان؛ أقبل مدد اليهود، فنزلنا بخيبر ولم ندخل حصناً. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو رأس غطفان وقائدهم أن ارجع بمن معك ولك نصف تمر خيبر هذه السنة، إن الله قد وعدني خيبر. فقال عيينة: لست بمسلمٍ حلفائي وجيراني. فأقمنا فبينا نحن على ذلك مع عيينة إذ سمعنا صائحاً، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم، أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثة - فإنكم قد خولفتم إليهم! ويقال: إنه لما سار كنانة بن أبي الحقيق فيهم حلفوا معه، وارتأسهم عيينة بن حصن وهم أربعة آلاف، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة وهم في الحصن، فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أن أكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً. فأبى مرحب أن يدخله، فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنةً. فقال عيينة: إنا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيءٍ، وإنا لنعلم ما لك ولمن معك مما ها هنا طاقة، هؤلاء قومٌ أهل حصونٍ منيعة، ورجالٍ عددهم كثير، وسلاح. إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله، ما هؤلاء كقريش، قوم ساروا إليك، إن أصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحضرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك، فلا نعطيك إلا السيف، وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب، كيف مزقوا كل ممزق! فرجع سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال، وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يوجهوا إلى حصنهم الذي فيه غطفان، وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح، لا يدرون من السماء أو من الأرض: يا معشر غطفان، أهلكم أهلكم! الغوث، الغوث بحيفاء - صيح ثلاثة - لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله عز وجل لنبيه. فلما أصبحوا أخبر كنانة بن أبي الحقيق وهو في الكتيبة بانصرافهم، فسقط في يديه ، وذل وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرونا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمداً بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبداً فإنا قد بلوناهم. وجلبهم لنصر بني قريظة ثم غروهم. فلم نر عندهم وفاءً لنا، وقد سار فيهم حيي بن أخطب وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمد إلى بني قريظة وانكشفت غطفان راجعةً إلى أهلها.
قالوا: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء وجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا والله. فقالوا: لقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمةً ولا خيراً! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكائد محمد وأصحابه، خدعنا والله! فقال له الحارث بن عوف: بأي شيءٍ؟ قال عيينة: إنا في حصن النطاة بعد هدأةٍ إذ سمعنا صائحاً يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثةً - فلا تربة ولا مال! قال الحارث بن عوف: يا عيينة، والله لقد غبرت إن انتفعت. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد. فأقام عيينة أياماً في أهله ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف فقال: يا عيينة أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود، مع أني لا أراك ترجع إلى خيبر إلا وقد فتحها محمد ولا آمن عليك. فأبى عيينة أن يقبل قوله وقال: لا أسلم حلفائي لشيءٍ. ولما ولى عيينة إلى أهله هجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصون حصناً حصناً، فلقد انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن ناعم ومعه المسلمون، وحصون ناعم عدة، فرمت اليهود يومئذ بالنبل، وترس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ درعان ومغفرٌ وبيضة، وهو على فرسٍ يقال له الظرب ، في يده قناةٌ وترس، وأصحابه محدقون به، وقد كان دفع لواءه إلى رجلٍ من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً، ثم دفعه إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئاً، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء الأنصار إلى رجلٍ منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئاً، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وسالت كتائب اليهود، أمامهم الحارث أبو زينب يقدم اليهود يهد الأرض هداً، فأقبل صاحب راية الأنصار فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير اليهودي يقدم أصحابه معه عاديته وكشف راية أصحاب الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه حدةً شديدة، وقد ذكر لهم الذي وعدهم الله، فأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحاً وجعل يستبطىء أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطىء أصحابه ويقول: أنتم، وأنتم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إن محمداً يقاتلكم على أموالكم! نادوهم: قولوا لا إله إلا الله، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم، وحسابكم على الله. فنادوهم بذلك فنادت اليهود: إنا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غداً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، أبشر يا محمد بن مسلمة غداً، إن شاء الله يقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود. فلما أصبح أرسل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد، فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما. قال علي رضي الله عنه: فما رمدت حتى الساعة. ثم دفع إليه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانكشف المسلمون وثبت علي رضي الله عنه فاضطربا ضرباتٍ فقتله علي رضي الله عنه، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم، وخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
فحمل علي رضي الله عنه فقطره على الباب وفتح الباب. وكان للحصن بابان.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن شيوخٍ من بني ساعدة قالوا: قتل أبو دجانة الحارث أبا زينب، وكان يومئذٍ معلماً بعمامة حمراء، والحارث معلمٌ فوق مغفره، وياسر وأسير وعامر معلمين.
حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيٌّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر، قتله يوم خيبر رجلٌ من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة يوم نزل محمد خيبر، وكنا ممن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أعير، تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابن سيد اليهود لم يترك اليهودية، قتل عليها أبوك وتخالفه؟ وقال أبو رافع: كنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بالراية، فلقي علي رضي الله عنه رجلاً على باب الحصن، فضرب علياً واتقاه بالترس عليٌّ، فتناول عليٌ باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده حتى فتح الله عليه الحصن. وبعث رجلاً يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الحصن؛ حصن مرحب ودخولهم الحصن. ويقال: إن مرحب برز وهو كالفحل الصؤول يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
يدعو للبراز. فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس فائذن لي في قتال مرحب وهو قاتل أخي. فأذن له رسولالله صلى الله عليه وسلم في مبارزته، ودعا له بدعوات، وأعطاه سيفه، فخرج محمد فصاح: يا مرحب، هل لك في البراز؟ فقال: نعم. فبرز إليه مرحب وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب
وخرج محمد بن مسلمة وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ماض ... حلوٌ إذا شئت وسمٌّ قاض
ويقال: إنه جعل يومئذٍ يرتجز ويقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... لا صبر لي بعد أبي النبيت
وكان أخوه محمود يكنى بأبي النبيت. قال: وبرز كل واحد منهما إلى صاحبه. قال: فحال بينهما عشرات أصلها كمثل أصل الفحل من النخل وأفنانٌ منكرة، فكلما ضرب أحدهما صاحبه استتر بالعشر حتى قطعا كل ساقٍ لها، وبقي أصلها قائماً كأنه الرجل القائم. وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، وبدر مرحب محمداً، فيرفع السيف ليضربه، فاتقاه محمد بالدرفة فلحج سيفه، وعلى مرحب درعٌ مشمرة، فيضرب محمد ساقي مرحب فقطعهما. ويقال: لما اتقى محمدٌ بالدرفة وشمرت الدرع عن ساقي مرحب حين رفع يديه بالسيف، فطأطأ محمد بالسيف فقطع رجليه ووقع مرحب، فقال مرحب: أجهز يا محمد! قال محمد: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود! وجاوزه ومر به عليٌّ فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، والله ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق مر السلاح وشدة الموت كما ذاق أخي؛ مكث ثلاثاً يموت، وما منعني من الإجهاز عليه شيء، قد كنت قادراً بعد أن قطعت رجليه أن أجهز عليه. فقال علي رضي الله عنه: صدق، ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يدرى ما هو حتى قرأه يهوديٌّ من يهود تيماء فإذا فيه:
هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب
حدثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر، وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمع ابن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن حارثة، قالوا جميعاً: محمد بن مسلمة قتل مرحباً.
قالوا: وبرز أسير، وكان رجلاً أيداً، وكان إلى القصر، فجعل يصيح؛ من يبارز؟ فبرز له محمد بن مسلمة فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد ابن مسلمة. ثم برز ياسر وكان من أشدائهم، وكانت معه حربةٌ يحوش بها المسلمين حوشاً، فبرز له علي رضي الله عنه فقال الزبير: أقسمت عليك ألا خليت بيني وبينه. ففعل عليٌّ وأقبل ياسر بحربته يسوق بها الناس، فبرز له الزبير، فقالت صفية: يا رسول الله واحزني! ابني يقتل يا رسول الله! فقال: بل ابنك يقتله. قال: فاقتتلا فقتله الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فداك عمٌّ وخال! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير وابن عمتي. فلما قتل مرحب وياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا، قد ترحبت خيبر وتيسرت! وبرز عامر وكان رجلاً طويلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع عامر: أترونه خمسة أذرع؟ وهو يدعو إلى البراز، يخطر بسيفه وعليه درعان، مقنع في الحديد يصيح: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، فبرز إليه عليٌّ رضي الله عنه فضربه ضرباتٍ، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه فأخذ سلاحه.
فلما قتل الحارث، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، مع ناسٍ من اليهود كثير - ولكن إنما سمي هؤلاء المذكورين لأنهم كانوا أهل شجاعة، وكان هؤلاء في حصن ناعم جميعاً. ولما رمي محمود بن مسلمة من حصن ناعم حمل إلى الرجيع فمكث ثلاثة أيام يموت، وكان الذي دلى عليه الرحا مرحب، فجعل محمود يقول لأخيه: يا أخي، بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ؛ يسألن الناس. فيقول محمد بن مسلمة: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ومحمود كان أكثرهما مالاً - ولم ينزل يومئذٍ فرائض البنات - فلما كان اليوم الذي مات فيه محمود وهو اليوم الثالث، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله؟ فخرج جعال بن سراقة إليه فأخبره فسر بذلك، وأمره أن يقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام منه. قال: فاقرأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال محمود. لا أراه يذكرني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت في موضعه بالرجيع فمات خلافه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلة، وقد جرح عامر بن الأكوع نفسه، حمل إلى الرجيع فمات، فقبر عامر بن الأكوع معه في غار. فقال محمد: يا رسول الله اقطع لي عند قبر أخي. قال: لك حضر الفرس فإن عملت فلك حضر فرسين.
وكان حصن الصعب بن معاذ في النطاة، وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع، وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان الناس قد أقاموا أياماً يقاتلون وليس عندهم طعامٌ إلا العلف . قال معتب الأسلمي: أصابنا معشر أسلم خصاصةٌ حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت محمداً رسول الله فقل: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون إنا قد جهدنا من الجوع والضعف. فقال بريدة بن الحصيب: والله إن رأيت كاليوم قط أمراً بين العرب يصنعون فيه هذا! فقال عند بن حارثة: والله إنا لنرجو أن تكون البعثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير. فجاءه أسماء بن حارثة فقال: يا رسول الله، إن أسلم تقول: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع الله لنا. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما بيدي ما أقريهم . ثم صاح بالناس فقال: اللهم افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاماً وأكثره ودكاً. ودفعوا باللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وندب الناس، فما رجعنا حتى فتح الله علينا الحصن - حصن الصعب بن معاذ. فقالت أم مطاع الأسلمية، وكانت قد شهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء، قالت: لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكوا من شدة الحال، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ، وإن عليه لخمسمائة مقاتل، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله، وكان عليه قتال شديد. برز رجلٌ من اليهود يقال له يوشع يدعو إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضرباتٍ فقتله الحباب. وبرز آخر يقال له الزيال، فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري فبدره الغفاري فيضربه ضربةً على هامته، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاري! فقال الناس: بطل جهاده. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بأسٌ به، يؤجر ويحمد.
وكان أبو اليسر يحدث أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصناً منيعاً، وأقبلت غنمٌ لرجلٍ من اليهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يطعمنا من هذه الغنم؟ فقلت: أنا يا رسول الله، فخرجت أسعى مثل الظبي، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: اللهم متعنا به! فأدركت الغنم وقد دخل أولها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو كأن ليس معي شيء حتى أتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحتا ثم قسمهما، فما بقي أحدٌ من أهل العسكر الذين هم معه محاصرين الحصن إلا أكل منها. فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال: كانوا عدداً كثيراً. فيقال: أين بقية الناس؟ فيقول: في الرجيع بالمعسكر. فسمع أبو اليسر - وهو شيخ كبير - وهو يبكي في شيءٍ غاظه من بغض ولده، فقال: لعمري بقيت بعد أصحابي ومتعوا بي وما أمتع بهم! لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم متعنا به! فبقي فكان من آخرهم.
وكان أبو رهم الغفاري يحدث قال: أصابنا جوعٌ شديدٌ، ونزلنا خيبر زمان البلح، وهي أرض وخيمة حارةٌ شديدٌ حرها. فبينا نحن محاصرون حصن الصعب بن معاذ فخرج عشرون حماراً منه أو ثلاثون، فلم يقدر اليهود على إدخالها، وكان حصنهم له منعةٌ، فأخذها المسلمون فانتحروها، وأوقدوا النيران وطبخوا لحومها في القدور والمسلمون جياع، ومر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على تلك الحال فسأل فأخبر فأمر منادياً: إن رسول الله ينهاكم عن الحمر الإنسية - قال: فكفوا القدور - وعن متعة النساء، وعن كل ذي ناب ومخلب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، فذبح قومٌ من المسلمين خيلاً من خيلهم قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ، فقيل لجابر: أرأيت البغال، أكنتم تأكلونها؟ قال: لا.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذبحنا بخيبر لبني مازن بن النجار فرسين، فكنا نأكل منهما قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ.
وحدثني ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر يقول: حرامٌ أكل الحمر الأهلية والخيل والبغال. قالوا: وكل ذي نابٍ من السباع، ومخلب من الطير. قال الواقدي: الثبت عندنا أن خالداً لم يشهد خيبر، وأسلم قبل الفتح هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة أول يومٍ من صفر سنة ثمان.
وكان ابن الأكوع يقول: كنا على حصن الصعب بن معاذ، أسلم بأجمعها، والمسلمون قد حصروا أهل الحصن، فلقد رأيتنا وصاحب رايتنا سعد بن عبادة، فانكشف المسلمون، فأخذ الراية فغدونا معه. وغدا عامر ابن سنان فلقي رجلاً من اليهود، وبدره اليهودي فضرب عامراً، قال عامر: فاتقيته بدرقتي فنبا سيف اليهودي عنه. قال عامر: فأضرب رجل اليهودي فأقطعها، ورجع السيف على عامر فأصابه ذبابه فنزف فمات. فقال أسيد ابن حير: حبط عمله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب من قال ذلك! إن له لأجرين، إنه جاهدٌ مجاهدٌ، وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص .
حدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمد، عن محمد ابن مسلمة قال: كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلاً منهم،وتبسم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرجوا ودخلوا الحصن.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انتهينا إلى حصن الصعب بن معاذ، والمسلمون جياع والأطعمة فيه كلها، وغزا بنا الحباب ابن المنذر بن الجموح ومعه رايتنا وتبعه المسلمون، وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في يده حربةٌ له، وخرج وعاديته معه فرموا بالنبل ساعةً سراعاً، وترسنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمطروا علينا بالنبل، فكان نبلهم مثل الجراد حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، قد نزل عن فرسه ومدعم يمسك فرسه. وثبت الحباب برايتنا، والله ما يزول، يراميهم على فرسه، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال: فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر فانكشفوا سراعاً، ودخلوا الحصن وغلقوا عليهم، ووافوا على جدره - وله جدر دون جدر - فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول. ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم. فخرجوا مستميتين، ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجلٌ منهم بالسيف فأطن قحف رأسه؛ وعدي بن مرة بن سراقة، طعنه أحدهم بالحربة بين ثديه فمات؛ والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه. وقد قتلنا منهم على الحصن عدة، كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن. ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم، وهربوا في كل وجهٍ يركبون الحرة يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون، وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً، ففتتنا أعضاد اليهود بالتكبير، لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أن هناك؛ من الشعير، والتمر، والسمن، والعسل، والزيت، والودك. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحتملوا. يقول: لا تخرجوا به إلى بلادكم. فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مقامهم طعامهم وعلف دوابهم، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ولا يخمس الطعام. ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي، السكر، فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها. وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: وجدنا فيه آنيةً من نحاسٍ وفخارٍ كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلةً كثيرةً للحرب، ومنجنيقاً ودبابات وعدة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لقد خرج من أطمٍ من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكماً محزومةً من غليظ متاع اليمن، وألفٌ وخمسمائة قطيفة؛ يقال: قدم كل رجل بقطيفةٍ على أهله، ووجدوا عشرة أحمال خشب، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق، فمكث أياماً يحترق، وخوابي سكرٍ كسرت، وزقاق خمر فأهريقت. وعمد يومئذٍ رجل من المسلمين فشرب من الخمر، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكره حين رفع إليه فخفقه بنعليه؛ ومن حضره، فخفقوه بنعالهم. وكان يقال له عبد الله الخمار، وكان رجلاً لا يصبر عن الشراب قد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم العنه! ما أكثر ما يضرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل يا عمر، فإنه يحب الله ورسوله. قال: ثم راح عبد الله فجلس معهم كأنه أحدهم حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: لقد وجدنا في حصن الصعب بن معاذ من الطعام ما كنت أظن أنه لا يكون بخيبر، جعل المسلمون يأكلون مقامهم شهراً وأكثر من ذلك الحصن، فيعلفون دوابهم، ما يمنع أحدهم ولم يكن فيه خمس، وأخرج من البزور شيءٌ كثيرٌ يباع في المقسم، ووجد فيه خرز من خرز اليهود. فقيل لها: فمن الذي يشتري ذلك في المقسم؟ قالت: المسلمون، واليهود الذين كانوا في الكتيبة فآمنوا، ومن حضر من الأعراب، فكل هؤلاء يشتري، فأما من يشتري من المسلمين فإنما يحاسب به مما يصيبه من المغنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: لما نظر عيينة بن حصن إلى حصن الصعب بن معاذ والمسلمون ينقلون منه الطعام والعلف والبز قال: ما أحدٌ يعلف لنا دوابنا ويطعمنا من هذا الطعام الضائع، فقد كان أهله عليه كراماً! فشتمه المسلمون وقالوا: لك الذي جعل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو الرقيبة ، فاسكت! وبينما المسلمون يجولون في حصن الصعب بن معاذ، وله مداخل، فأخرجوا رجلاً من اليهود فضربوا عنقه فتعجبوا لسواد دمه، ويقول قائلهم: ما رأينا مثل سواد هذا الدم قط - قال: يقول متكلم: في رفٍّ من تلك الرفاف الثوم والثريد - وأنزل فقدموه فضربوا عنقه.
قال: وتحولت اليهود من حصن ناعم كلها، ومن حصن الصعب ابن معاذ، ومن كل حصون النطاة، إلى حصنٍ يقال له قلعة الزبير، فزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم والمسلمون، فحاصروهم وغلقوا عليهم حصنهم وهو حصين منيع، وإنما هو في رأس قلعة لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال لصعوبته وامتناعه، وبقيت بقايا لا ذكر لهم في بعض حصون النطاة، الرجل والرجلان. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزائهم رجالاً يحرسونهم، لا يطلع أحدٌ عليهم إلا قتلوه. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاصرة الذين في قلعة الزبير ثلاثة أيام، فجاء رجلٌ من اليهود يقال له غزال فقال: أبا القاسم، تؤمني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟ قال: فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله وماله. فقال اليهودي: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبولٌ تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجوا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم لم يطيقوا المقام على العطش، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذٍ نفرٌ، وأصيب من اليهود ذلك اليوم عشرةٌ، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخر حصون النطاة. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النطاة أمر بالانتقال، والعسكر أن يحول من منزله بالرجيع إلى مكانه الأول بالمنزلة، وأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيات ومن حرب اليهود وما يخاف منهم، لأن أهل النطاة كانوا أحد اليهود وأهل النجدة منهم. ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشق.
فحدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشق، وبه حصونٌ ذات عدد، كان أول حصنٍ بدأ منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعةٍ يقال لها سمران ، فقاتل عليها أهل الحصن قتالاً شديداً. وخرج رجلٌ من اليهود يقال له غزال فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزال فكان أعزل، ورجع مبادراً منهزماً إلى الحصن، وتبعه الحباب فقطع عرقوبه، فوقع فذفف عليه. وخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز إليه رجلٌ من المسلمين من آل جحش فقتل الجحشي. وقام مكانه يدعو إلى البراز ويبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفف عليه وأخذ سلبه، درعه وسيفه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثاً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظباء حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق، وجعل يأتي من بقي من قلل النطاة إلى حصن النزار فعلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع. وزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلوهم، فكانوا أشد أهل الشق قتالاً، رموا المسلمين بالنبل والحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، حتى أصابت النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها ثم أخذ لهم كفاً من حصا فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض.
قال إبراهيم بن جعفر: استوى بالأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذاً . وكانت فيه صفية بنت حيي وابنة عمها. فكان عمير مولى آبى اللحم يقول: شهدت صفية أخرجت وابنة عمها وصبياتٌ من حصن النزار، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن النزار بقيت حصونٌ في الشق، فهرب أهلها منها حتى انتهوا إلى أهل الكتيبة والوطيح وسلالم. وكان محمد بن مسلمة يقول: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن النزار فقال: هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال؛ لما فتحنا هذا الحصن لم يكن بعده قتالٌ حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر قال، قلت لجعفر بن محمود: كيف صارت صفية في حصن النزار في الشق وحصن آل أبي الحقيق بسلالم، ولم يسب في حصون النطاة من النساء والذرية أحدٌ ولا بالشق، إلا في حصن النزار، فإنه قد كان فيه ذرية ونساء؟ فقال: إن يهود خيبر أخرجوا النساء والذرية إلى الكتيبة وفرغوا حصن النطاة للمقاتلة فلم يسب أحدٌ منهم إلا من كان في حصن النزار، صفية وابنة عمها ونسيات معها. وكان كنانة قد رأى أن حصن النزار أحصن ما هنالك، فأخرجها في الليلة التي تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبيحتها إلى الشق حتى أسرت وبنت عمها ومن كان معهما من ذراري اليهود، وبالكتيبة من اليهود ومن نسائهم وذراريهم أكثر من ألفين؛ فلما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتيبة أمن الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال، والبيضاء والصفراء، والحلقة، والثياب، إلا ثوباً على إنسان. فلقد كان من اليهود حين أمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون ويدبرون، ويبيعون ويشترون، لقد أنفقوا عامة المغنم مما يشترون من الثياب من الثياب والمتاع، وكانوا قد غيبوا نقودهم وعين مالهم.
قالوا: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة والوطيح وسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه، فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فل كان قد انهزم من النطاة والشق، فتحصنوا معهم في القموص وهو في الكتيبة، وكان حصناً منيعاً، وفي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون من حصونهم مغلقين عليهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم لما رأى من تغليقهم، وأنه لا يبرز منهم بارز. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. قال أبو عبد الله، قلت لإبراهيم بن جعفر: وجد في الكتيبة خمسمائة قوس عربية. وقال: أخبرني أبي عمن رأى كنانة بن أبي الحقيق يرمي بثلاثة أسهم في ثلثمائة - يعني ذراع - فيدخلها في هدف شبراً في شبر، فما هو إلا أن قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل، فنهض كنانة إلى قوسه فما قدر أن يوترها من الرعدة، وأومأ إلى أهل الحصون: لا ترموا! وانقمع في حصنه، فما رئي منهم أحدٌ، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. فأرسل كنانة رجلاً من اليهود يقال له شماخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنزل إليك أكلمك! فلما نزل شماخ أخذه المسلمون فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره برسالة كنانة. فأنعم له، فنزل كنانة في نفر من اليهود، فصالحه على ما صالحه، فأحلفه على ما أحلفه عليه. قال إبراهيم: تلك القسي والسلاح إنما كان لآل أبي الحقيق جماعة يعيرونه العرب، والحلي يعيرونه العرب. ثم يقول: كانوا شر يهود يثرب.
قالوا: وأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مالٍ أو أرضٍ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز، إلا ثوباً على ظهر إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً. فصالحه على ذلك، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأموال فقبضها، الأول فالأول، وبعث إلى المتاع والحلقة فقبضها، فوجد من الدروع مائة درع، ومن السيوف أربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق عن كنز آل أبي الحقيق وحليٍ من حليهم، كان يكون في مسك الجمل، كان أسراهم يعرف به، وكان العرس يكون بمكة فيقدم عليهم، فيستعار ذلك الحلي الشهر فيكون فيهم، وكان ذلك الحلي يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق. فقال: يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم، فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئاً. وحلفا على ذلك فوكدا الأيمان واجتهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما! قالا: نعم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل ما أخذت من أموالكما وأصبت من دمائكما فهو حلٌّ لي ولا ذمة لكما! قالا: نعم. وأشهد عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر، وعلياً، والزبير رضوان الله عليهم وعشرةً من اليهود. فقام رجلٌ من اليهود إلى كنانة بن أبي الحقيق فقال: إن كان عندك ما يطلب منك محمدٌ أو تعلم علمه فأعلمه فإنك تأمن على دمك، وإلا فوالله ليظهرن عليه، قد اطلع على غير ذلك بما لم نعلمه. فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق - وكان رجلاً ضعيفاً - عن كنزهما، فقال: ليس لي علم غير أني قد كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة - قال: وأشار إلى خربة - فإن كان شيءٌ دفنه فهو فيها. وكان كنانة بن أبي الحقيق لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على النطاة أيقن بالهلكة - وكان أهل النطاة أخذهم الرعب - فذهب بمسك الجمل، فيه حليهم، فحفر له في خربةٍ ليلاً ولا يراه أحد، ثم سوى عليه التراب بالكتيبة، وهي الخربة التي رآه ثعلبة يدور بها كل غداة. فأرسل مع ثعلبة الزبير بن العوام ونفراً من المسلمين إلى تلك الخربة، فحفر حيث أراه ثعلبة فاستخرج منه ذلك الكنز. ويقال: إن الله عز وجل دل رسوله على ذلك الكنز. فلما أخرج الكنز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أن يعذب كنانة بن أبي الحقيق حتى يستخرج كل ما عنده. فعذبه الزبير حتى جاءه بزندٍ يقدحه في صدره، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى محمد بن مسلمة يقتله بأخيه، فقتله محمد بن مسلمة. وأمر بابن ابي الحقيق الآخر، فعذب ثم دفع إلى ولاة بشر بن البراء فقتل به، ويقال: ضرب عنقه. واستحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أموالهما وسبى ذراريهما.
فحدثني خالد بن الربيعة بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عمن نظر إلى ما في مسك الجمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به، فإذا جله أسورة الذهب، ودمالج الذهب، وخلاخل الذهب، وقرطة الذهب، ونظمٌ من جوهرٍ وزمردٍ، وخواتم ذهب، وفتخٌ بجزع ظفار مجزعٌ بالذهب. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظاماً من جوهرٍ فأعطاه بعض أهله، إما عائشة أو إحدى بناته، فانصرفت فلم تمكث إلا ساعةً من نهارٍ حتى فرقته في أهل الحاجة والأرامل، فاشترى أبو الشحم ذرةً منها. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار إلى فراشه لم ينم، فغدا في السحر حتى أتى عائشة، ولم تكن ليلتها، أو بنته، فقال: ردي علي النظام فإنه ليس لي، ولا لك فيه حق. فخبرته كيف صنعت به، فحمد الله وانصرف.
وكانت صفية بنت حيي تقول: كان ذلك النظام لبنت كنانة. وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباها قبل أن ينتهي إلى الكتيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بها مع بلال إلى رحله. فمر بها وبابنة عمها على القتلى، فصاحت ابنة عمها صياحاً شديداً، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع بلال فقال: أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السن على القتلى!، فقال بلال: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عم صفية: ما هذا إلا شيطان. وكان دحية الكلبي قد نظر إلى صفية فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إنه وعده جاريةً من سبي خيبر، فأعطاه ابنة عمها.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن أبي حرملة، عن أخته أم عبد الله، عن ابنة أبي القين المزني، قالت: كنت آلف صفية من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحدثني عن قومها وما كانت تسمع منهم قالت: خرجنا من المدينة حيث أجلانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا بخيبر، فتزوجني كنانة بن أبي الحقيق فأعرس بي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام، وذبح جزراً ودعا باليهود، وحولني في حصنه بسلالم، فرأيت في النوم كأن قمراً أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لكنانة زوجي فلطم عيني فاخضرت، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلت عليه فسألني فأخبرته. قالت: وجعلت اليهود ذراريها في الكتيبة، وجردوا حصن النطاة للمقاتلة، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وافتتح حصون النطاة، ودخل علي كنانة فقال: قد فرغ محمدٌ من النطاة، وليس ها هنا أحدٌ يقاتل، قد قتلت اليهود حيث قتل أهل النطاة وكذبتنا العرب. فحولني إلى حصن النزار بالشق، - قال: وهو أحصن مما عندنا - فخرج حتى أدخلني وابنة عمي ونسيات معنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قبل الكتيبة فسبيت في النزار قبل أن ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني، فجئت وأنا مقنعة حيية، فجلست بين يديه فقال: إن أقمت على دينك لم أكرهك، وإن اخترت الله ورسوله فهو خيرٌ لك. قالت: أختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وعل عتق مهري، فلما أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه: اليوم نعلم أزوجةٌ أم سريةٌ، فإن كانت امرأته فسيحجبها وإلا فهي سرية. فلما خرج أمر بستر فسترت به فعرف أنى زوجة، ثم قدم إلى البعير وقدم فخذه لأضع رجلي عليها، فأعظمت ذلك ووضعت فخذي على فخذه، ثم ركبت. وكنت ألقى من أزواجه، يفخرن علي يقلن: يا بنت اليهودي. وكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلطف بي ويكرمني، فدخل علي يوماً وأنا أبكي فقال: ما لك؟ فقلت: أزواجك يفخرن علي ويقلن: يا بنت اليهودي. قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هرون وعمي موسى
قالوا: وكان أبو شييم المزني - قد أسلم فحسن إسلامه - يحدث يقول: لما نفرنا أهلها بحيفاء مع عيينة - قدمنا عليهم وهم قارون هادئون لم يهجهم هائج - رجع بنا عيينة، فلما كان دون خيبر بمكانٍ يقال له الحطام عرسنا من الليل ففزعنا، فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة - جبلاً بخيبر - قد والله قد أخذت برقبة محمد. قال: فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وغنمه الله ما فيها، فقال عيينة: أعطني يا محمد مما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وعن قتالك وخذلت حلفائي ولم أكثر عليك، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفرك إلى أهلك. قال: أجزني يا محمد. قال: لك ذو الرقيبة. قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال: الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته. فانصرف عيينة فجعل يتدسس إلى اليهود ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً؛ والله ما كنت أرى أحداً يصيب محمداً غيركم. قلت: أهل الحصون والعدة والثروة، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الصحون المنيعة، وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل، والماء الواتن. قالوا: قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير ولكن الدبول قطعت عنا، وكان الحر، فلم يكن لنا بقاءٌ على العطش. قال: قد وليتم من حصون ناعم منهزمين حتى صرتم إلى حصن قلعة الزبير. وجعل يسأل عمن قتل منهم فيخبر، قال: قتل والله أهل الجد والجلد، لا نظام ليهود بالحجاز أبداً. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق، وكانوا يقولون إنه ضعيف العقل مختلط، فقال: عيينة، أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمد، وقبل ذلك ما صنعت ببني قريظة! فقال عيينة: إن محمداً كادنا في أهلنا، فنفرنا إليهم حيث سمعنا الصريخ ونحن نظن أن محمداً قد خالف إليهم، فلم نر شيئاً فكررنا إليكم لننصركم. قال ثعلبة: ومن بقي تنصره؟ قد قتل من قتل وبقي من بقي فصار عبداً لمحمد، وسبانا، وقبض الأموال! قال: يقول رجل من غطفان لعيينة: لا أنت نصرت حلفاءك فلم يعدوا عليك حلفنا! ولا أنت حيث وليت - كنت أخذت تمر خيبر من محمدٍ سنةً! والله إني لأرى أمر محمدٍ أمراً ظاهراً، ليظهرن على من ناوأه. فانصرف عيينة إلى أهله يفتل يديه، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف، قال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء؟ والله ليظهرن محمدٌ على من بين المشرق والمغرب، اليهود كانوا يخبروننا هذا. أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هرون، وهو نبي مرسل واليهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر. قال الحارث، قلت لسلام: يملك الأرض جميعاً؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم اليهود بقولي فيه!
قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن جعلت زينب بنت الحارث تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع والكتف. فعمدت إلى عنزٍ لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سمٍّ لابطى ، قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين. فلما غابت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب وانصرف إلى منزله، ويجد زينب جالسةً عند رحله فيسأل عنها فقالت: أبا القاسم، هدية أهديتها لك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم حضور، أو من حضر منهم: ادنوا فتعشوا! فدنوا فمدوا أيديهم، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، وتناول بشر بن البراء عظماً، وأنهش رسول الله صلى الله عليه وسلم نهشاً وانتهش بشر، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلته ازدرد بشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة. فقال بشر بن البراء: قد والله يا رسول الله وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغص إليك طعامك، فلما تسوغت ما في يدك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدردتها وفيها نعى . لم يرم بشرٌ من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه سنةً لا يتحول إلا ما حول، ثم مات منه. ويقال لم يقم من مكانه حتى مات، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب فقال: سممت الذراع؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: الذراع: قالت: نعم. قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبياً فستخبره الشاة ما صنعت، وإن كان ملكاً استرحنا منه. فاختلف علينا فيها، فقال قائلٌ رواية: أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ثم صلبت. وقال قائلٌ رواية: عفا عنها. وكان نفرٌ ثلاثةٌ قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كتفه اليسرى. ويقال: احتجم على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
وقالوا: وكانت أم بشر بن البراء تقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو محموم فمسسته فقلت: ما وجدت مثل ما وعك عليك على أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف لنا البلاء؛ زعم الناس أن برسول الله ذات الجنب! ما كان الله ليسلطها علي، إنما هي همزةٌ من الشيطان، ولكنه من الأكلة التي أكلت أنا وابنك يوم خيبر. ما زال يصيبني منها عدادٌ حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري . فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. ويقال: إن الذي مات في الشاة مبشر بن البراء. وبشر أثبت عندنا، وهو المجتمع عليه.
قال عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عن قول زينب ابنة الحارث قتلت أبي قال: قتل يوم خيبر أبوها الحارث وعمها يسار، وكان أخبر الناس، هو الذي أنزل من الشق، وكان الحارث أشجع اليهود، وأخوه زبير قتل يومئذٍ، فكان زوجها سيدهم وأشجعهم سلام بن مشكم، كان مريضاً وكان في حصون النطاة فقيل له: إنه لا قتال فيكم فكن في الكتيبة. قال: لا أفعل أبداً. فقتل وهو مريض، وهو أبو الحكم الذي يقول فيه الربيع بن أبي الحقيق:
ولما تداعوا بأسيافهم ... فكان الطعان دعونا سلاما
وكنا إذا ما دعونا به ... سقينا سراة العدو السماما
وهو كان صاحب حربهم ولكن الله شغله بالمرض.
قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم يوم خيبر فروة بن عمرو البياضي، وكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة وحصون الشق وحصون الكتيبة، لم يترك على أحدٍ من أهل الكتيبة إلا ثوباً على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، وجمعوا أثاثاً كثيراً وبزاً وقطائف وسلاحاً كثيراً، وغنماً وبقراً، وطعاماً وأدماً كثيراً. فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاحٍ يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح الله عليهم فرد ذلك المغنم. فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهمٍ منها لله وسائر السهمان أغفال. فكان أول ما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يريد، فجعل فروة يبيعها فيمن يريد، فدعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وقال: اللهم ألق عليها النفاق! قال فروة بن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حيناً لكثرته. وكان الخمس الذي صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم يعطى منه على ما أراد الله من السلاح والكسوة، فأعطى منه أهل بيته من الثياب والخرز والأثاث، وأعطى رجالاً من بني عبد المطلب ونساءً، وأعطى اليتيم والسائل. وجمعت يومئذٍ مصاحف فيها التوراة من المغنم، فجاءت اليهود تطلبها وتكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ترد عليهم. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة. فباع يومئذٍ فروة المتاع، فأخذ عصابةً فعصب بها رأسه ليستظل بها من الشمس، ثم رجع إلى منزله وهي عليه فذكر فخرج فطرحها. وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عصابةٌ من نارٍ عصبت بها رأسك. وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الفيء شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لي من الفيء خيطٌ ولا مخيطٌ، لا آخذ ولا أعطي. فسأله رجلٌ عقالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى نقسم الغنائم ثم أعطيك عقالاً، وإن شئت مراراً . وكاىن رجلٌ أسود مع النبي صلى الله عليه وسلم يمسك دابته عند القتال يقال له كركرة، فقتل يومئذ، فقيل: يا رسول الله استشهد كركرة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها. فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله، أخذت شراكين يومئذٍ كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراكان من نار. وتوفي يومئذٍ رجل من أشجع، وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال زيد بن خالد الجهني: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يسوى درهمين. وكان نفرٌ من المسلمين أصابوا خرزاً من خرز اليهود وكانوا رفقاء؛ فقال المحدث لهذا الحديث: لو كان الخرز عندكم اليوم لم يسو درهمين. فأتي بذلك الخرز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم، فقالوا: يا رسول الله، نسينا! هذا الخرز عندنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم يحلف بالله أنه نسيه؟ قالوا: نعم. فحلفوا بالله جميعاً أنهم نسوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرير الموتى فسجن عليهم بالربطان، ثم صلى عليهم صلاة الموتى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد الغلول في رحل الرجل فلا يعاقبه، ولم يسمع أنه أحرق رحل أحدٍ وجد في رحله، ولكنه يعنف ويؤنب ويؤذي ويعرف الناس به.
قالوا: واشترى يوم خيبر تبراً بذهبٍ جزافاً، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فضالة بن عبيد يحدث يقول: اصبت يومئذٍ قلادةً فبعتها بثمانية دنانير، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللهعليه وسلم، فقال: بع الذهب وزناً بوزنٍ. وكان في القلادة ذهبٌ وغيره فرجعت فيها. واشترى السعدان تبراً بذهب أحدهما أكثر وزناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربيتما فردا! ووجد رجلٌ يومئذٍ في خربةٍ مائتي درهم، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ودفعها إليه.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ولا يبع شيئاً من المغنم حتى يعلم، ولا يركب دابةً من المغنم حتى إذا براها ردها، ولا يلبس ثوباً من المغنم حتى إذا أخلقه رده، ولا يأت من السبي حتى تستبرىء وتحيض حيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع حملها. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على امرأةٍ مجح فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان. قال: فلعله يطؤها؟ قالوا: نعم. قال: كيف بولدها يرثه وليس بابنه، أو يسترقه وهو يعدو في سمعه وبصره؟ لقد هممت أن ألعنه لعنةً تتبعه في قبره.
قالوا: وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر قال: ما أدري بأيهما أنا أسر، بقدوم جعفر أو فتح خيبر! ثم ضمه رسول الله وقبل بين عينيه.
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفرٌ من الأشجعيين، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة. قالوا: نعم يا رسول الله. ونظر أبان بن سعيد بن العاص إلى أبي هريرة فقال: أما أنت فلا. فقال أبو هريرة: يا رسول الله، هذا قاتل ابن قوقل. قال أبان بن سعيد: يا عجباه لوبرٍ تدلى علينا من قدوم ضأنٍ ! ينعى علي قتل امرىءٍ مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يده.
قالوا: وكان الخمس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غاب عنه. وكان لا يقسم لغائبٍ في مغنمٍ لم يشهده، إلا أنه في بدرٍ ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلهم مستحقٌّ فيها. وكانت خيبر لأهل الحديبية، من شهدها منهم أو غاب عنها قال الله عز وجل: " وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجل لكم هذه " يعني خيبر. وقد تخلف عنها رجال: مري بن سنان، وأيمن بن عبيد، وسباع بن عرفطة الغفاري، خلفه على المدينة، وجابر بن عبد الله وغيرهم. ومات منهم رجلان، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تخلف منهم ومن مات، وأسهم لمن شهد خيبر من الناس ممن لم يشهد الحديبية. وأسهم لرسلٍ كانوا يختلفون إلى أهل فدك، محيصة بن مسعود الحارثي وغيره، فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحضروا. وأسهم لثلاثة مرضى لم يحضروا القتال: سويد بن النعمان، وعبد الله بن سعد بن خيثمة، ورجل من بني خطامة، وأسهم للقتلى الذين قتلوا من المسلمين.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة ذلك. وقد قال قائل: إنما كانت خيبر لأهل الحديبية، لم يشهدها غيرهم ولم يسهم فيها لغيرهم. والقول الأول أثبت عندنا أن قوماً شهدوا خيبر فأسهم لهم ولم يكونوا شهدوا الحديبية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن قطير الحارثي، عن حزام بن سعد بن محيصة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم إلى خيبر، فأسهم لهم كسهمان المسلمين. ويقال: أحذاهم ولم يسهم لهم، وكان معهم مملوكون، منهم عمير مولى آبي اللحم. قال عمير: ولم يسهم لي وأعطاني خرثى متاع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محذيهم . وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عشرون امرأة: أم سلمة زوجته، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وامرأة عاصم بن عدي ولدت سهلة بنت عاصم بخيبر، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم متاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو ابن حزام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: إنا نريد يا رسول الله أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله! قالت: فخرجنا معه وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فنزل الصبح فأناخ وإذا أنا بالحقيبة عليها دمٌ مني؛ وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: لعلك نفست! قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناءً من ماءٍ، ثم اطرحي فيه ملحاً واغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي. ففعلت، فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء ولم يسهم، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً. وكانت في عنقها حتى ماتت وأوصت أن تدفن معها، وكانت لا تطهر إلا وجعلت في طهورها ملحاً، وأوصت أن يجعل في غسلها ملحٌ حين غسلت.
حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجي حبلى، فنفست بالطريق فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقع لها تمراً فإذا أنعم بله فامرثه ثم تشربه. ففعلت فما رأت شيئاً تكرهه. فلما فتحنا خيبر أحذى النساء ولم يسهم لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد. قال عبد السلام: لست أدري غلام أم جارية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، عن أم العلاء الأنصارية قالت: فأصابني ثلاث خرزات، وكذلك أصاب صواحبي، وأتي يومئذٍ برعاث من ذهب، فقال: هذا لبنات أخي سعد بن زرارة، فقدم بها عليهن فرأيت ذلك الرعاث عليهن، وذلك من خمسه يوم خيبر.
حدثني عبد الله بن أبي يحيى، عن ثبيتة بنت حنظلة الأسلمية، عن أمها أم سنان قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج جئته فقلت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المرضى والجريح إن كانت جراح - ولا يكون - وأنظر الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجي على بركة الله فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك وإن شئت فمعنا. قلت: معك! قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي. قالت: فكنت معها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو من الرجيع كل يومٍ عليه الدرع، فإذا أمسى رجع إلينا، فمكث على ذلك سبعة أيام حتى فتح الله النطاة، فلما فتحها تحول إلى الشق وحولنا إلى المنزلة، فلما فتح خيبر رضخ لنا من الفيء، فأعطاني خرزاً وأوضاحاً من فضة أصيبت في المغنم، وأعطاني قطيفةً فدكية، وبرداً يمانياً، وخمائل ، وقدراً من صفر . وكان رجالٌ من أصحابه قد جرحوا فكنت أداويهم بدواءٍ كان عند أهلي فيبرأون، فرجعت مع أم سلمة فقالت لي حين أردنا ندخل المدينة، وكنت على بعيرٍ من إبل النبي صلى الله عليه وسلم منحه لي، فقالت: بعيرك الذي تحتك لك رقبته أعطاكيه رسول الله. قالت: فحمدت الله وقدمت بالبعير فبعته بسبعة دنانير. قالت: فجعل الله في وجهي ذلك خيراً.
قالوا: فأسهم للنساء، وأسهم لسهلة بنت عاصم، ولدت بخيبر، وولد لعبد الله بن أنيس بخيبر، فأسهم للنساء والصبيان. ويقالك رضخ للنساء والصبيان ولم يجعلهم كأهل الجهاد.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، قال: رأيت في رقبة أم عمارة خرزاً حمراً فسألتها عن الخرز فقالت: أصاب المسلمون خرزاً في حصن الصعب بن معاذ دفن في الأرض، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به بمن معه من النساء فأحصين، فكنا عشرين امرأة، فقسم ذلك الخرز بيننا هذا وأرضخ لنا من الفيء، قطيفةً وبرداً يمانياً ودينارين، وكذلك أعطى صواحبي. قلت: فكم كانت سهمان الرجال؟ قالت: ابتاع زوجي غزية بن عمرو متاعاً بأحد عشر ديناراً ونصف، فلم يطالب بشيءٍ، فظننا أن هذه سهمان الفرسان - وكان فارساً - وباع ثلاثة أسهم في الشق زمن عثمان بثلاثين ديناراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد في خيبر ثلاثة أفراس، لزاز والظرب والسكب ؛ وكان الزبير بن العوام قد قاد أفراساً، وكان خراش بن الصمة قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف - أبو إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أرضعه - قد قاد فرسين؛ وكان أبو عمرو الأنصاري قد قاد فرسين. قال: فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان له فرسان خمسة أسهم، اربعة لفرسيه وسهماً له، وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له. ويقال إنه لم يسهم إلا لفرسٍ واحد، واثبت ذلك أنه أسهم لفرسٍ واحد. ويقال: إنه عرب العربي يوم خيبر وهجن الهجين؛ فأسهم للعربي وألقى الهجين. وقال بعضهم: لم يكن الهجين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كانت العراب حتى كان زمن عمر بن الخطاب وفتح العراق والشام، ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لمن كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرسٍ واحد، هو معروف، سهم الفرس. وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة ثلاثة أسهم، لفرسه سهمان وله سهم، كان مع عاصم بن عدي.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: خرج سويد بن النعمان على فرس، فلما نظر إلى بيوت خيبر في الليل وقع به الفرس، فعطب الفرس وكسرت يد سويد، فلم يخرج من منزله حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم فارس.
قالوا: وكانت الخيل مائتي فرس. ويقال: ثلاثمائة، ومائتان أثبت عندنا. وكان الذي ولي إحصاء المسلمين زيد بن ثابت، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم الذين غنموا من المتاع الذي بيع، ثم أحصاهم ألفاً وأربعمائة، والخيل مائتي فرس. فكانت السهمان على ثمانية عشر سهماً، وهم الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهمان، ولخيلهم أربع عشرة مائة، والخيل مائتي فارس لها أربعمائة سهم. فكانت سهمان المسلمين التي أسهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة أو في الشق ثلاثة أسهمٍ فوضى لم تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحد ولم تقسم، إنما لها رؤساءٌ مسمون، لكل مائةٍ رأسٌ يعرف يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان رؤساؤهم في الشق والنطاة: عاصم بن عدي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضوان الله عليهم. وسهم بني ساعدة، وسهم بني النجار لهم رأس، وسهم حارثة بن الحارث، وسهم أسلم وغفار، وسهم بني سلمة - وكانوا أكثر ورأسهم معاذ بن جبل - وسهم عبيدة رجل من اليهود، وسهم أوس، وسهم بني الزبير، وسهم أسيد بن حضير، وسهم بلحارث بن الخزرج، رأسه عبد الله بن رواحة، وسهم بياضة، رأسه فروة بن عمرو، وسهم ناعم. فهذه ثمانية عشر سهماً في الشق والنطاة فوضى يقبض رؤساءهم الغلة منه، ثم يفض عليهم، ويبيع الرجل سهمه فيجوز ذلك. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من رجلٍ من بني غفار سهمه بخيبر ببعيرين ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلم أن الذي آخذ منك خير من الذي أعطيك، والذي أعطيك دون الذي أخذ منك، وإن شئت فخذ وإن شئت فأمسك! فأخذ الغفاري. وكان عمر بن الخطاب يشتري من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم، وأخذ من أصحابه وهم مائة، وهو سهم أوس كان يسمى سهم اللفيف حتى صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابتاع محمد بن مسلمة من سهم أسلم سهماناً، ويقال: إن أسلم كانوا بضعة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين فكانوا مائة، ويقال: كانت أسلم مائة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين، وهذا مائتا سهم، والقول الأول أثبت عندنا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله اليهود فقالوا: يا محمد، نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها. فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطرٍ من التمر والزرع، وكان يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله. فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر، وكان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص عليهم النخل، فكان يخرصها فإذا خرص قال: إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا ونضمن لكم ما خرصت. وإنه خرص عليهم أربعين ألف وسقٍ، فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك، وتجاوز في القسم. فقال: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم. قالوا: بهذا قامت السموات والأرض! فكان عبد الله بن رواحة يخرص عليهم، فلما قتل يوم مؤتة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا الهيثم بن التيهان يخرص عليهم، ويقال: جبار بن صخر، فكان يصنع بهم مثل ما كان يصنع عبد الله بن رواحة، ويقال: الذي خرص بعد ابن رواحة عليهم فروة بن عمرو. قالوا: وجعل المسلمون يقعون في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة وبعد أن صار ليهود نصفه، فشكت اليهود ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ويقال: عبد الرحمن بن عوف، فنادى: إن الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم. فاجتمع الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن اليهود شكوا إلي أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم والذي في أيديهم من أراضيهم، وعاملناهم، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها. وكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئاً إلا بثمن، فربما قال اليهودي للمسلم: أنا أعطيكه باطلاً ! فيأبى المسلم إلا بثمن.
قال ابن واقد: وقد اختلف علينا في الكتيبة، فقال قائل: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصةً ولم يوجف! عليها المسلمون، إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الله بن نوح، عن ابن غفير، وموسى بن عمرو بن عبد الله ابن رافع، عن بشير بن يسار. وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال قائل: هي خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، من الشق والنطاة. وحدثني قدامة بن موسى، عن ابي بكر بن محمد بن محمد بن عمرو بن حزام، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افحص لي عن الكتيبة. قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق والكتيبة خمسة أجزاء، وكانت الكتيبة جزءاً منها، ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بعراتٍ، وأعلم في بعرةٍ منها، فجعل لله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل سهمك في الكتيبة. فكان أول ما خرج منها الذي فيه مكتوبٌ على الكتيبة، فكانت الكتيبة خمس النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السهمان أغفالاً ليس عليها علامات، وكانت فوضى للمسلمين على ثمانية عشر سهماً. قال أبو بكر: فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي مالك، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: لما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الشق والنطاة أربعة الأخماس للمسلمين فوضى.
وحدثني عبد الله بن عون، عن أبي مالك الحميري، عن سعيد بن المسيب، وحدثني محمد ، عن الزهري، قال: الكتيبة خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم من أطعم في الكتيبة وينفق على أهله منها. قال ابن واقد: والثبت عندنا أنها خمس النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطعم من الشق والنطاة أحداً وجعلها سهماناً للمسلمين، وكانت الكتيبة التي أطعم فيها. كانت الكتيبة تخرص ثمانية آلاف وسق تمر، فكان لليهود نصفها أربعة آلاف، وكان يزرع في الكتيبة شعير، فكان يحصد منها ثلاثة آلاف صاع، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نصفه؛ ألف وخمسمائة صاع شعير، وكان يكون فيها نوى فربما اجتمع ألف صاع فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفه، فكل هذا قد أعطى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من الشعير والتمر والنوى.
تسمية سهمان الكتيبةخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وسلالم، والجاسمين، وسهما النساء، وسهما مقسم - وكان يهودياً - وسهما عوان، وسهم غريث، وسهم نعيم، وهو اثنا عشر سهماً.
ذكر طعم النبي في الكتيبة أزواجه وغيرهمأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل امرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً. وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق، ولفاطمة وعلي رضي الله عنهما من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وسقاً، لفاطمة من ذلك مائتا وسق. ولأسامة بن زيد مائة وخمسون، منها أربعون شعيراً وخمسون وسقاً نوىً، ولأم رمثة بنت عمر بن هاشم بن المطلب خمسة أوساق شعير، وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، قالت: بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر خمسة عشر وسقاً شعيراً من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد رسول الله لأبي بكر بن أبي قحافة مائة وسق. ولعقيل بن أبي طالب مائة وأربعين، ولبني جعفر بن أبي طالب خمسين وسقاً، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مائة وسق، وللصلت بن مخرمة بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولأبي نبقة خمسين وسقاً، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقاً، وللقاسم بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولمسطح بن أثاثة بن عباد وأخته هند ثلاثين وسقاً، ولصفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً، ولبحينة بنت الحارث بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أربعين وسقاً، وللحصين، وخديجة، وهند بن عبيدة بن الحارث مائة وسق، ولأم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقاً، ولأم هانىء بنت أبي طالب أربعين وسقاً، ولجمانة بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولأم طالب بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولقيس بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولأبي أرقم خمسين وسقاً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر أربعين وسقاً، ولأبي بصرة أربعين وسقاً، ولابن أبي حبيش ثلاثين وسقاً، ولعبد الله بن وهب وابنيه خمسين وسقاً، لابنيه أربعين وسقاً، ولنميلة الكلبي من بني ليث خمسين وسقاً، ولأم حبيبة بنت جحش ثلاثين وسقاً، ولملكان بن عبدة ثلاثين وسقاً، ولمحيصة بن مسعود ثلاثين وسقاً، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم للرهاويين بطعمةٍ من خمس خيبر بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وهم عشرة من الداريين قدموا من الشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى لهم بطعمة مائة وسق: هانىء بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن بر وأخوه الطيب بن بر، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، ويزيد بن قيس، وعزيز بن مالك، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وأخوه مرة بن مالك، وأوصى للأشعريين بجاد مائة وسق.
أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: حدثنا ابن الثلجي قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أشياء، للداريين بجاد مائة وسق، وللأشعريين بجاد مائة وسق، وللرهاويين بجاد مائة وسق، وأن ينفذ جيش أسامة بن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد له إلى مقتل أبيه، والا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالوا: ثم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في قسم خمس خيبر فأشار عليه أن يقسمه في بني هاشم وبني المطلب وبني عبد يغوث.
وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال جبير ابن مطعم: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بخيبر من بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني المطلب لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أفرأيت إخواننا من بني المطلب، إنما نحن وهم منك بمنزلةٍ واحدة، أعطيتهم وتركتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام؛ دخلوا معنا في الشعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ! وشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
قالوا: وكان عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث يحدث قال: اجتمع العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين - لي وللفضل بن عباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا ما يصيبون من المنفعة. فبعث بي والفضل فخرجنا حتى جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقناه، وانصرف إلينا من الظهر وقد وقفنا له عند حجرة زينب، فأخذ بمناكبهما فقال: أخرجا ما تسران ! فلما دخل دخلا عليه فكلماه فقالا: يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدى ما يؤدى الناس، ونصيب ما يصيبون من المنفعة. فسكت ورفع رأسه إلى سقف البيت ثم أقبل علينا فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادع لي محمية بن جزء الزبيدي وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال لمحمية: زوج هذا ابنتك - للفضل . وقال لأبي سفيان: زوج هذا ابنتك - لعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث. وقال لمحمية: أصدق عنهما مما عندك من الخمس! وكان يكون على الخمس. فكان ابن عباس يقول: قد دعانا عمر إلى أن ينكح فيه أيامانا ويخدم منه عائلنا، ويقضي منه غارمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه كله، وابى ذلك علينا.
حدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم جعلوا هذين السهمين على اليتامى والمساكين. وقال بعضهم: في السلاح والعدة في سبيل الله. وكانت تلك الطعمة تؤخذ بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفي خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، رضي الله عنهم، حتى كان يحيى بن الحكم فزاد في الصاع سدس المد، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عثمان فزاد فيه فأعطاهم بذلك، وكان من مات من المطعمين أو قتل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فإنه يرثه تلك الطعمة من ورث ماله. فلما ولي عمر بن الخطاب قبض طعمة كل من مات ولم يورثه، فقبض طعمة زيد بن حارثة، وقبض طعمة جعفر بن أبي طالب، وكلمه فيه علي بن أبي طالب فأبى؛ وقبض طعمة صفية بنت عبد المطلب، فكلمه الزبير في ذلك حتى غالظه فأبى عليه برده، فلما ألح عليه قال: أعطيك بعضه. قال الزبير: لا والله، لا تخلف تمرةً واحدةً تحبسها عني! فأبى عمر تسليمه كله إليه. قال الزبير: لا آخذه إلا جميعاً! فأبى عمر وأبى أن يرد على المهاجرين. وقبض طعمة فاطمة، فكلم فيها فأبى أن يفعل. وكان يجيز لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعن، فماتت زينب بنت جحش في خلافته فخلى بين ورثتها وبين تلك الطعمة، وأجاز ما صنعن فيه من بيع أو هبة، وورث ذلك كل من ورثهن ولم يفعل بغيرهن. وأبى أن يجيز بيع من باع تلك الطعمة، وقال: هذا شيء لا يعرف، إذا مات المطعم بطل حقه فكيف يجوز بيعه؟ إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أجاز ما صنعن، فلما ولي عثمان كلم في تلك الطعمة فرد على أسامة ولم يرد على غيره. فكلمه الزبير في طعمة صفية أمه فأبى يرده وقال: أنا حاضرك حين تكلم عمر، وعمر يأبى عليك يقول خذ بعضه، فأنا أعطيك بعضه الذي عرض عليك عمر، أنا أعطيك الثلثين وأحتبس الثلث. فقال الزبير: لا والله، لا تمرة واحدة حتى تسلمه كله أو تحتبسه.
حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: لما توفي أبو بكر رضي الله عنه كان ولده ورثته يأخذون طعمته من خيبر؛ مائة وسق في خلافة عمر وعثمان، ورثت امرأته أمر ومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، فلم يزل جارياً عليهن حتى كان زمن عبد المللك أو بعده فقطع.
قال أبو عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عمن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس خيبر فقال: لا تسأل عنه أحداً أبداً أعلم مني؛ كان من أعطي منه طعمةً جرت عليه حتى يموت، ثم يرثه من ورثته، يبيعون ويطعمون ويهبون؛ كان هذا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان. قلت: ممن سمعت ذلك. قال: من أبي وغيره من قومي. قال أبو عبد الله: فذكرت لعبد الرحمن بن عبد العزيز هذا الحديث فقال: أخبرني من أثق به أن عمر كان يقبض تلك الطعمة إذا مات الميت في حياة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ثم يقول: توفيت زينب بنت جحش في سنة عشرين في خلافة عمر فقبض طعمتها، فكلم فأبى أن يعطيها الورثة. قال: إنما كانت من النبي صلى الله عليه وسلم طعمةً ما كان المرء حياً، فإذا مات فلا حق لورثته. قال: فكان الأمر على ذلك في خلافة عمر حتى توفي، ثم ولي عثمان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أطعم زيد بن حارثة طعمةً من خيبر لم يكن له بها كتاب، فلما توفي زيد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. قلت: فإن بعض من يروي يقول: كلم أسامة بن زيد عمر وعثمان في طعمة أبيه فأبى، قال: ما كان إلا كما أخبرتك. قال أبو عبد الله: هذا الأمر.
تسمية من استشهد بخيبر مع رسول اللهمن بني أمية من حلفائهم: ربيعة بن أكثم، قتل بالنطاة، قتله الحارث اليهودي؛ وثقف بن عمرو بن سميط، قتله أسير اليهودي؛ ورفاعة بن مسروح، قتله الحارث اليهودي. ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليفٌ لهم وهو ابن أختهم، قتل بالنطاة. ومن الأنصار محمود بن مسلمة دلى عليه مرحب رحىً من حصن ناعم بالنطاة. ومن بني عمرو بن عوف: أبو الضياح بن النعمان، شهد بدراً؛ والحارث بن حاطب قد شهد بدراً، وعدي بن مرة بن سراقة؛ وأوس بن حبيب، قتل على حصن ناعم؛ وأنيف بن وائلة ، قتل على حصن ناعم. ومن بني زريق: مسعود بن سعد، قتله مرحب. ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسمومة؛ وفضيل بن النعمان، وهو من العرب، من أسلم؛ وعامر بن الأكوع، أصاب نفسه على حصن ناعم فدفن هو ومحمود بن مسلمة في غارٍ واحدٍ بالرجيع. ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار، العبد الأسود، ورجلٌ من أشجع؛ فجميع من استشهد خمسة عشر رجلاً. وقد اختلف في الصلاة عليهم فقال قائلٌ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال قائلٌ: لم يصل عليهم. وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلة بن جوال الثعلبي كل داجن بخيبر، ويقال: أعطاه كل داجن في النطاة، ولم يعطه من الكتيبة ولا من الشق شيئاً.
ذكر ما قيل من الشعر في خيبرقال ناجية بن جندب الأسلمي:
يا عباد الله فيما نرغب ... ما هو إلا مأكلٌ مشرب
وجنةٌ فيها نعيمٌ معجب
وقال أيضاً:
أنا لمن أبصرني ابن جندب ... يا رب قرنٍ قد تركت أنكب
طاح عليه أنسرٌ وثعلب
أنشدني هذا عبد الملك بن وهب من ولد ناجية قال: مازلت أرويها لأبي وأنا غلام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أنه سئل عن الرهان التي كانت بين قريش حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال: كان حويطب بن عبد العزى يقول: انصرفت من صلح الحديبية وأنا مستيقن أن محمداً سيظهر على الخلق، وتأبى حمية الشيطان إلا لزوم ديني، فقدم علينا عباس بن مرداس السلمي فخبرنا أن محمداً سار إلى خيابر، وأن خيابر قد جمعت الجموع فمحمدٌ لا يفلت، إلى أن قال عباس: من شاء بايعته لا يفلت محمد. فقلت: أنا أخاطرك. فقال صفوان بن أمية: أنا معك يا عباس. وقال نوفل بن معاوية: أنا معك يا عباس. وضوى إلي نفرٌ من قريش، فتخاطرنا مائة بعير خماساً إلى مائة بعير، أقول أنا وحيزي يظهر محمد. ويقول عباس وحيزه: تظهر غطفان. فاضطرب الصوت، فقال أبو سفيان بن حرب: خشيت واللات حيز عباس بن مرداس، فغضب صفوان وقال: أدركتك المنافية! فأسكت أبو سفيان، وجاءه الخبر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حويطب وحيزه الرهن.
قالوا: وكانت الأيمن تحلف عن خيبر؛ وكان أهل مكة حين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قد تبايعوا بينهم، منهم من يقول: يظهر الحليفان أسد وغفار واليهود بخيبر، وذلك أن اليهود أوعبت في حلفاءها، فاستنصروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، فكانت بينهم في ذلك بيوعٌ عظامٌ.
وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد خرج يغير في بعض غاراته، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسلم وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وكانت أم شيبة بنت عمير بن هاشم أخت مصعب العبدي امرأته، وكان الحجاج مكثراً، له مال كثير، معادن الذهب التي بأرض بني سليم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي حتى أذهب فآخذ ما لي عند امرأتي، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئاً، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لابد لي يا رسول الله من أن أقول. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. قال الحجاج: فخرجت فلما انتهيت إلى الحرم هبطت فوجدتهم بالثنية البيضاء، وإذا بهم رجالٌ من قريش يتسمعون الأخبار، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً وسلاحاً، فهم يتحسبون الأخبار مع ما كان بينهم من الرهان، فلما رأوني قالوا: الحجاج ابن علاط عنده والله الخبر! يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر بلد اليهود وريف الحجاز. فقلت: بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم. فالتبطوا بجانبي راحلتي يقولون: يا حجاج أخبرنا. فقلت: لم يلق محمدٌ وأصحابه قوماً يحسنون القتال غير أهل خيبر. كانوا قد ساروا في العرب يجمعون له الجموع وجمعوا له عشرة آلاف، فهزم هزيمة لم يسمع قط بمثلها، وأسر محممد أسراً، فقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فنقتله بين أظهرهم بمن قتل منا ومنهم! ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه، فلا تقبلوا منهم وقد صنعوا بكم ما صنعوا. قال: فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما ينتظر أن يقدم به عليكم. وقلت: أعينوني على جمع مالي على غرمائي فأنا أريد أن أقدم فأصيب من محمد وأصحابه قبل أن تسبقني التجار إلى ما هناك. فقاموا فجمعوا إلي مالي كأحث جمعٍ سمعت به، وجئت صاحبتي وكان لي عندها مال فقلت لها: مالي، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من البيع قبل أن يسبقني التجار إلى من انكسر هناك من المسلمين . وسمع ذلك العباس فقام، فانخذل ظهره فلم يستطع القيام، فأشفق أن يدخل داره فيؤذى، وعلم أن سيؤذى عند ذلك، فأمر بباب داره يفتح وهو مستلق، فدعا بابنه قثم وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته ألا يشمت به الأعداء. وحضر باب العباس بين مغيظ محزون، وبين شامت، وبين مسلم ومسلمة، مقهورين بظهور الكفر والبغي، فلما رأى المسلمون العباس طيبةً نفسه طابت أنفسهم واشتدت منتهم ، ودعا غلاماً له يقال له أبو زبينة فقال له: اذهب إلى الحجاج فقل، يقول العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تخبر حقاً. فجاءه فقال الحجاج: قل لأبي الفضل: أحلني في بعض بيوتك حتى آتيك ظهراً ببعض ما تحب، فاكتم عني. فأقبل أبو زبينة يبشر العباس أبشر بالذي يسرك فكأنه لم يمسه شيءٌ، ودخل عليه أبو زبينة فاعتنقه العباس وأعتقه وأخبره بالذي قال، فقال العباس: لله علي عتق عشر رقاب! فلما كان ظهراً جاءه الحجاج فناشده الله: لتكتمن علي ثلاثة أيام. فواثقه العباس على ذلك، قال: فإني قد أسلمت ولي مال عند امرأتي ودين على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوا إلي؛ تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله ورسوله فيها وانتثل ما فيها، وتركته عروساً بابنة حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق. قال: فلما أمسى الحجاج من يومه خرج، وطال على العباس تلك الليالي، ويقال: إنما استنظر العباس يوماً وليلة، وجعل العباس يقول: يا حجاج، انظر ما تقول فإني عارف بخيبر؛ هي ريف الحجاز أجمع، وأهل المنعة والعدة في الرجال. أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله، فاكتم عني يوماً وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس يموجون في شأن ما تبايعوا عليه، عمد العباس إلى حلةٍ فلبسها، وتخلق الخلوق وأخذ في يده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى وقف على باب الحجاج بن علاط، فقرعه فقالت زوجته: لا تدخل، أبا الفضل! قال: فأين الحجاج. قالت: انطلق إلى غنائم محمد ليشتري منها التي أصابت اليهود منهم قبل أن تسبقه التجار إليها. فقال لها العباس: فإن الرجل ليس لك بزوجٍ إلا أن تتبعي دينه؛ إنه قد أسلم وحضر الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب بماله
هارباً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.ً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.
باب شأن فدكقالوا: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدكٍ يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحل بساحتهم. قال محيصة: جئتهم فأقمت عندهم يومين، وجعلوا يتربصون ويقولون: بالنطاة عامر، وياسر، وأسير، والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمداً يقرب حراهم ، إن بها عشرة آلاف مقاتل. قال محيصة: فلما رأيت خبثهم أردت أرحل راجعاً، فقالوا: نحن نرسل معك رجالاً يأخذون لنا الصلح - ويظنون أن اليهود تمتنع. فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم وأهل النجدة منهم، ففت ذلك أعضادهم وقالوا لمحيصة: اكتم عنا ما قلنا لك ولك هذا الحلي! لحلي نسائهم، جمعوه كثيراً. فقال محيصة: بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمعت منكم. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا. قال محيصة: وقدم معي رجلٌ من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفرٍ من اليهود، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم ويخلوا بينه وبين الأموال. ففعل، ويقال: عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الأموال شيءٌ، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذوها، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك وقال لهم محيصة: ما لكم منعة ولا رجال ولا حصون، لو بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم مائة رجل لساقوكم إليه. فوقع الصلح بينهم أن لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفها، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا أثبت القولين. فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يبلغهم، فلما كان عمر ابن الخطاب وأجلى يهود خيبر، بعث عمر إليهم من يقوم أرضهم، فبعث أبا الهيثم بن التيهان وفروة بن عمرو بن حيان بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموها لهم؛ النخل والأرض، فأخذها عمر بن الخطاب ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد - كان ذلك المال جاءه من العراق - وأجلاهم عمر إلى الشام. ويقال: بعث أبا خيثمة الحارثي فقومها.
انصراف رسول الله من خيبر إلى المدينة
قال أنس: انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وهو يريد وادي القرى، ومعه أم سلمة بنت ملحان، وكان بعض القوم يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية حتى مر بها فألقى عليها رداءه، ثم عرض عليها الإسلام فقال: إن تكوني على دينك لم نكرهك، فإن اخترت الله ورسوله اتخذتك لنفسي. قالت: بل أختار الله ورسوله. قال: فأعتقها فتزوجها وجعل عتقها مهرها. فلما كان بالصهباء قال لأم سليم: انظري صاحبتك هذه فامشطيها! وأراد أن يعرس بها هناك، فقامت أم سليم - قال أنس: وليس معنا فساطيط ولا سرادقات - فأخذت كسائين وعباءتين فسترت بهما عليها إلى شجرة فمشطتها وعطرتها، وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من خيبر، وقرب بعيرها وقد سترها النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، أدنى فخذه لتضع رجلها عليه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، فلما بلغ ثباراً أراد أن يعرس بها هناك، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، حتى بلغ الصهباء فمال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل بثبار - وثبار على ستة أميال والصهباء على اثني عشر ميلاً - قالت: يا رسول الله خفت عليك قرب اليهود، فلما بعدت أمنت. فزادها عند النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وعلم أنها قد صدقته، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأولم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عليها بالحيس والسويق والتمر، وكان قصاعهم الأنطاع قد بسطت، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معهم على تلك الأنطاع. قالوا: وبات أبو أيوب الأنصاري قريباً من قبته آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبر أبو أيوب فقال: ما لك يا أبا أيوب؟ فقال: يا رسول الله، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفاً.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل صفية في منزل الحارثة بن النعمان، وانتقل حارثة عنها. وكانت عائشة وحفصة يداً واحدةً فأرسلت عائشة بريرة إلى أم سلمة تسلم عليها - وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر - وتسألها عن صفية أظريفةٌ هي؟ فقالت أم سلمة: من أرسلك، عائشة؟ فسكتت فعرفت أم سلمة أنها أرسلتها، فقالت أم سلمة: لعمري إنها لظريفة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لمحبٌّ. فجاءت بريرة فأخبرت عائشة خبرها، فخرجت عائشة متنكرةً حتى دخلت على صفية وعندها نسوةٌ من الأنصار، فنظرت إليها وهي منتقبة، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: يا عائشة كيف رأيت صفية؟ قالت: ما رأيت طائلاً، رأيت يهودية بين يهوديات - تعني عماتها وخالاتها - ولكني قد أخبرت أنك تحبها، فهذا خيرٌ لها من لو كانت ظريفةً. قال: يا عائشة، لا تقولي هذا فإني عرضت عليها الإسلام فأسرعت وأسلمت وحسن إسلامها. قال: فرجعت عائشة فأخبرت حفصة بظرفها، فدخلت عليها حفصة فنظرت إليها ثم رجعت إلى عائشة فقالت: إنها لظريفة وما هي كما قلت.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصهباء سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من اليهود. وكان أبو هريرة يحدث قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، وكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضوى إليها أناسٌ من العرب، فبينا مدعم يحط رحل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبيةٍ وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهمٌ عائرٌ فأصاب مدعماً فقتله، فقال الناس: هنيئاً لك الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم يصبها المقسم تشتعل عليه ناراً. فلما سمع بذلك الناس جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراكٍ أو بشراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شراك من نار! أو شراكان من نار.
وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ورايةً إلى الحباب بن المنذر، ورايةً إلى سهل بن حنيف، ورايةً إلى عباد بن بشر. ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأخبرهم إن أسلمواأحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. فبرز رجلٌ منهم وبرز إليه الزبير بن العوام فقتله؛ ثم برز آخر فبرز إليه الزبير فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له علي رضي الله عنه فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله، ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله؛ حتى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل رجلٌ دعا من بقي إلى الإسلام. ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذٍ فيصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك النخل والأرض بأيدي اليهود وعاملهم عليها. فلما بلغ يهود تيماء ما وطىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجازٌ، وأن ما وراء ذلك من الشام. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وادي القرى راجعاً بعد أن فرغ من خيبر ومن وادي القرى وغنمه الله، فلما كان قريباً من المدينة سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته، حتى إذا كان قبيل الصبح بقليلٍ نزل وعرس. وقال: ألا رجلٌ صالحٌ حافظٌ لعينه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله! قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ووضع الناس رءوسهم، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول لبلال: يا بلال احفظ عينك! قال: فاحتبيت بعباءتي واستقبلت الفجر، فما أدري متى وضعت جنبي إلا أني لم أستيقظ إلا باسترجاع الناس وحر الشمس، وأخذتني الألسنة باللوم؛ وكان أشدهم علي أبو بكر. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهون لائمةً من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له حاجة فليقضها. فتفرق الناس في أصول الشجر، وقال صلى الله عليه وسلم: أذن يا بلال بالأذان الأول. قال بلال: وكذلك كنت أفعل في أسفاره، فأذنت فلما اجتمع الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركعوا ركعتي الفجر. فركعوا ثم قال: أقم يا بلال! فأقمت فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس. قال بلال: فما زال يصلي بنا حتى إن الرجل ليسلت العرق من جبينه من حر الشمس، ثم سلم فأقبل على القوم فقال: كانت أنفسنا بيد الله، ولو شاء قبضها وكان أولى بها، فلما ردها إلينا صلينا. ثم أقبل على بلال فقال: مه يا بلال! فقال: بأبي وأمي، قبض نفسي الذي قبض نفسك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه؛ اللهم إني أحرم ما بين لابتي المدينة! قال: وانتهى إلى الجرف ليلاً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله بعد صلاة العشاء.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالجرف: لاتطرقوا الناسء بعد صلاة العشاء. قالت: فذهب رجلٌ من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلى سبيله ولم يهجه ، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما يكره.
حدثني عبد الله بن نوح الحارثي، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن سعد بن حزام بن محيصة، عن أبيه، قال: كنا بالمدينة والمجاعة تصيبنا، فنخرج إلى خيبر فنقيم بها ما أقمنا ثم نرجع، وربما خرجنا إلى فدك وتيماء. وكانت اليهود قوماً لهم ثمار لا يصيبها قطعة ، أما تيماء فعينٌ جاريةٌ تخرج من أصل جبلٍ لم يصبها قطعه منذ كانت، وأما خيبر فماءٌ واتنٌ، فهي مغفرة في الماء، وأما فدك فمثل ذلك. وذلك قبل الإسلام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفتح خيبر قلت لأصحابي: هل لكم في خيبر فإنا قد جهدنا وقد أصابنا مجاعة؟ فقال أصحابي: إن البلاد ليس كما كانت، نحن قوم مسلمون وإنما نقدم على قومٍ أهل عداوةٍ وغشٍّ للإسلام وأهله، وكنا قبل ذلك لا نعبد شيئاً. قالوا: قد جهدنا، فخرجنا حتى قدمنا خيبر، فقدمنا على قومٍ بأيديهم الأرض والنخل ليس كما كانت؛ قد دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على النصف؛ فأما سراة اليهود وأهل السعة منهم قد قتلوا - بنو أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وابن الأشرف - وإنما بقي قومٌ لا أموال لهم وإنما هم عمال أيديهم. وكنا نكون في الشق يوماً وفي النطاة يوماً وفي الكتيبة يوماً، فرأينا الكتيبة خيراً لنا فأقمنا بها أياماً، ثم إن صاحبي ذهب إلى الشق فبات عني وقد كنت أحذره اليهود، فغدوت في أثره أسأل عنه حتى انتهيت إلى الشق فقال لي أهل أبيات منهم: مر بنا حين غابت الشمس يريد النطاة. قال: فعمدت إلى النطاة، إلى أن قال لي غلام منهم: تعال أدلك على صاحبك! فانتهى بي إلى منهر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من المنهر. قال: فتدليت في المنهر فإذا صاحبي قتيل، فقلت لأهل الشق: أنت قتلتموه! قالوا: لا والله، ما لنا به علم! قال: فاستعنت عليه بنفرٍ من اليهود حتى أخرجته وكفنته ودفنته، ثم خرجت سريعاً حتى قدمت على قومي بالمدينة فأخبرتهم الخبر. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عمرة القضية، فخرج معي من قومي ثلاثون رجلاً، أكبرنا أخي حويصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سهل أخو المقتول - والمقتول عبد الله بن سهل - وكان عبد الرحمن ابن سهل أحدث مني، فهو مستعبرٌ على أخيه رقيقٌ عليه، فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله إن أخي قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر! فتكلمت فقال: كبر، كبر! فسكت. وتكلم أخي حويصة فتكلم بكلمات وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا ثم سكت، فتكلمت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك فكتبوا إليه: ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ولمن معهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم نحضر ولم نشهد. قال: فتحلف لكم اليهود؟ قالوا: يا رسول الله، ليسوا بمسلمين. فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة، خمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين بنت لبون، وخمسة وعشرين بنت مخاض. قال سهل بن أبي حثمة: رأيتها أدخلت عليهم مائة ناقة، فركضتني منها ناقةٌ حمراء وأنا يومئذٍ غلام.
حدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كانت القسامة في الجاهلية ثم أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد بخيبر قتيلاً في جب من جباب اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: تحلف لكم اليهود؛ خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله ما قتلنا؟ قالوا: يا رسول الله، كيف تقبل أيمان قوم كفار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحلفون خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله أنهم قتلوا صاحبكم وتستحقوا الدم؟ قالوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته على اليهود لأنه قتل بحضرتهم.
حدثني مخرمة بن بكير، عن خالد بن يزيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته على اليهود، فإن لم يعطوا فليأذنوا بحربٍ من الله ورسوله. وأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببضعة وثلاثين بعيراً - فهي أول ما كانت القسامة. وكان الناس يطلعون إلى أموالهم بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرجت أنا والزبير، والمقداد بن عمرو، وسعيد بن زيد بن عمر بن نفيل إلى أموالنا بخيبر فطلعنا نتعاهدها، وكان أبو بكر يبعث من يطلعها وينظر إليها، وكان عمر يفعل ذلك أيضاً، فلما قدمنا خيبر تفرقنا في أموالنا. فعدى علينا من جوف الليل وأنا نائمٌ على فراشي فصرعت يداي فسالوني: من صنع هذا بك؟ فقلت: لا أدري، فاصلحوا أمر يدي! وقال غير سالم، عن ابن عمر، قال: سحروه بالليل وهو نائمٌ على فراشه فكوع حتى أصبح كأنه كان في وثاقٍ، وجاء أصحابه فأصلحوا من يديه، فقدم ابن عمر المدينة فأخبر أباه بما صنع به.
حدثني محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: أقبل مظهر بن رافع الحارثي بأعلاج من الشام يعملون بأرضه وهم عشرة، فأقبل حتى نزل بهم خيبر فأقام بها ثلاثة أيام، فيدخل بهم رجلٌ من اليهود فقال: أنتم نصارى ونحن يهود وهؤلاء قوم عرب قد قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال أقبل رجلٌ واحدٌ منهم يسوقكم من أرض الخمر والخير إلى الجهد والبؤس، وتكونون في رقٍّ شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه. قالوا: ليس معنا سلاح. فدسوا إليهم سكينين أو ثلاثة. قال: فخرجوا فلما كانوا بثبار قال لأحدهم، وكان الذي يخدمه منهم: ناولني كذا وكذا. فأقبلوا إليه جميعاً قد شهروا سكاكينهم، فخرج مظهر يعدو إلى سيفه وكان في قراب راحلته، فلما انتهى إلى القراب لم يفتحه حتى بعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعاً حتى قدموا خيبر على اليهود فآووهم وزودوهم وأعطوهم قوة فلحقوا بالشام. وجاء عمر الخبر بمقتل مظهر بن رافع وما صنعت اليهود، فقام عمر خطيباً بالناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن اليهود فعلوا بعبد الله ما فعلوا، وفعلوا بمظهر بن رافع مع عدوتهم على عبد الله بن سهل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أشك أنهم أصحابه ليس لنا عدو هناك غيرهم؛ فمن كان له بها مالٌ فليخرج فأنا خارج، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودها، ومورفٌ أرفها ومجلي اليهود منها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أقركم ما أقركم الله " وقد أذن الله في جلائهم إلا أن يأتي رجلٌ منهم بعهدٍ أو بينةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقره فأقره. فقام طلحة بن عبيد الله فقال: قد والله أصبت يا أمير المؤمنين ووفقت! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقركم ما أقركم الله " ، وقد فعلوا ما فعلوا بعبد الله بن سهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما حرضوا على مظهر بن رافع حتى قتله أعبده، وما فعلوا بعبد الله بن عمر، فهم أهل تهمتنا وظنتنا . فقال عمر رضي الله عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال: المهاجرون جميعاً والأنصار. فسر بذلك عمر.
حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " لا يجتمع بجزيرة العرب دينان " . ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت من لا يتهم، فأرسل إلى يهود الحجاز فقال: من كان منكم عنده عهد من النبي صلى الله عليه وسلم فإني مجليه، فإن الله عز وجل قد أذن في جلائهم. فأجلى عمر يهود الحجاز.
قالوا: فخرج عمر بأربعة قسام: فروة بن عمرو البياضي، قد شهد بدراً، وحباب بن صخر السلمي، قد شهد بدراً، وأبو الهيثم بن التيهان، قد شهد بدراً، وزيد بن ثابت؛ فقسموا خيبر على ثمانية عشر سهماً، على الرءوس التي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سمى ثمانية عشر سهماً وسمى رؤساءها. ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمى الرؤساء ثم جزأوا الشق والنطاة، فجزأوها على ثمانية عشر سهماً، جعلوا ثمانية عشر بعرة فألقين في العين جميعاً، ولكل رأس علامةٌ في بعرته، فإذا خرجت أول بعرة قيل سهم فلان وسهم فلان. وكان في الشق ثلاثة عشر سهماً، وفي النطاة خمسة أسهم. حدثني بذلك حكيم بن محمد من آل مخرمة، عن أبيه. فكان أول سهم خرج في النطاة سهم الزبير بن العام؛ ثم سهم بياضة، يقال: إن رأسه فروة بن عمرو؛ ثم سهم أسيد بن حضير؛ ثم سهم بلحارث بن الخزرج، يقال: رأسه عبد الله بن رواحة؛ ثم سهم ناعم؛ يهودي. ثم ضربوا في الشق، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عاصم بن عدي، إنك رجلٌ محدود، فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمك. فخرج سهم عاصم أول سهم في الشق، ويقال: إنه سهم النبي صلى الله عليه وسلم كان في بني بياضة، والثبت أنه كان مع عاصم بن عدي. ثم خرج سهم علي رضي الله عنه على أثر سهم عاصم؛ ثم سهم عبد الرحمن بن عوف؛ ثم سهم طلحة بن عبيد الله؛ ثم سهم بني ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عبادة؛ ثم سهم بني النجار؛ ثم سهم بني حارثة بن الحارث؛ ثم سهم أسلم وغفار، يقال: رأسهم بريدة بن الحصيب؛ ثم سهما سلمة جميعاً؛ ثم سهم عبيد السهام؛ ثم سهم عبيد؛ ثم سهم أوس، صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن واقد: فسألت ابن أبي حبيبة: لم سمى عبيد السهام؟ قال: أخبرني داود بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، ولكنه جعل يشتير من السهام بخيبر فسمي عبيد السهام.
حدثني إسماعيل بن عبد الملك ابن نافع مولى بني هاشم، عن يحيى ابن شبل، عن أبي جعفر قال: أول ما ضرب في الشق خرج سهم عاصم ابن عدي فيه سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت أحب أن يخرج سهمي مع سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخطأني قلت: اللهم اجعل سهمي في مكانٍ معتزلٍ لا يكون لأحدٍ على طريق. فكان سهمه معتزلاً وكان شركاؤه أعراباً، فكان يستخلص منهم سهامهم؛ يأخذ حق أحدهم بالفرس والشيء اليسير حتى خلص له سهم أوس كله.
حدثني عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قسم عمر رضي الله عنه خيبر خيروا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في طعمهن الذي أطعمهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة، إن أحببن أن يقطع لهن من الأرض و الماء مكان طعمهن، أو يمضى لهن الوسوق وتكون مضمونة لهن. فكانت عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها ممن اختار الأرض والماء، وكان سائرهن أخذن الوسوق مضمونة.
حدثني أفلح بن حميد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول يوماً: رحم الله ابن الخطاب! قد خيرني فيما صنع، خيرني في الأرض والماء وفي الطعمة، فاخترت الأرض والماء، فهن في يدي، وأهل الطعم مرة ينقصهم مروان، ومرة لا يعطيهم شيئاً، ومرة يعطيهم. ويقال: إنما خير عمر رضي الله عنه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه الناس كلهم؛ فمن شاء أخذ الطعمة كيلاً، ومن شاء أخذ الماء والتراب، وأذن لمن شاء باع، ومن أحب أن يمسك أمسك من الناس كلهم، فكان من باع الأشعريين، من عثمان بن عفان مائة وسق بخمسة آلاف دينار، وباع الرهاويون من معاوية بن أبي سفيان بمثل ذلك. قال أبو عبد الله: هذا الثبت عندنا والذي رأيت عليه أهل المدينة.
وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه من كانت له طعمة أن يعطيه من الماء والأرض أو الطعم مضمونةً، فكان أسامة ابن زيد اختار الطعمة مضمونة. ولما فرغ عمر رضي الله عنه من القسمة أخرج يهود خيابر، ومضى عمر رضي الله عنه من خيبر في المهاجرين والأنصار إلى وادي القرى. وخرج معاوية بالقسام الذين قسموا: جبار بن صخر، وأبو الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمرو، وزيد بن ثابت، فقسموها على أعداد السهام، وأعلموا أرفها، وحدوا حدودها، وجعلوها السهام تجرى. فكان ما قسم عمر من وادي القرى لعثمان بن عفان خطر، ولعبد الرحمن ابن عوف خطر، ولعمر بن أبي سلمة خطر - الخطر هو السهم - ولعامر بن ربيعة خطر، ولمعيقب خطر، ولعبد الله بن الأرقم خطر، ولبني جعفر خطر، ولعمرو بن سراقة خطر، ولعبد الله وعبيد الله خطران، ولشييم خطر، ولابن عبد الله بن جحش خطر، ولابن أبي بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثابت خطر، ولأبي بن كعب خطر، ولمعاذ بن عفراء خطر، ولأبي طلحة وجبير خطر، ولجبار بن صخر خطر، ولجبار بن عبد الله بن رباب خطر، ولمالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله بن عمر خطر، ولسلمة بن سلامة خطر، ولعبد الرحمن بن ثابت وابن أبي شريق خطر، ولأبي عبس بن جبر خطر، ولمحمد بن مسلمة خطر، ولعباد بن طارق خطر، ولجبر بن عتيك نصف خطر، ولابن الحارث بن قيس نصف خطر، ولابن جرمة والضحاك خطر.
حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن مكنف الحارثي، قال: إنما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القسام برجلين، جبار بن صخر وزيد بن ثابت، هما قاسما المدينة وحاسباها، فقسما خيبر وأقاما نخل فدك وأرضها، ودفع عمر إلى يهود فدك نصف القيمة؛ وقسما السهمان بوادي القرى، ثم أجلى عمر رضي الله عنه يهود الحجاز، وكان زيد بن ثابت قد تصدق بالذي صار له من وادي القرى مع غيره.
سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة
في شعبان سنة سبع
حدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة ، فخرج عمر رضي الله عنه ومعه دليلٌ من بني هلال، فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً. وانصرف راجعاً إلى المدينة حتى سلك النجدية، فلما كان بالجدر قال الهلالي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل لك في جمعٍ آخر تركته من خثعم، جاءوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني أصمد لقتال هوازن بتربة. فانصرف عمر راجعاً إلى المدينة.سرية أبي بكر إلى نجد
في شعبان سنة سبع
حدثني حمزة بن عبد الواحد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه وأمره علينا، فبيتنا ناساً من هوازن، فقتلت بيدي سبعةً أهل أبيات ، وكان شعارنا: أمت! أمت!سرية بشير بن سعد إلى فدك
في شعبان سنة سبع
حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء فسأل: أين الناس؟ فقالوا: هم في بواديهم . والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه الدهم منهم عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا وحمل المريون عليهم فأصابوا أصحاب بشير وولى منهم من ولى. وقاتل بشير قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشاءهم. وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي. وأمهل بشير بن سعد وهو في القتلى، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقم عند يهودي بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.وهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير، فإن ظفرك الله بهم فلا تبق فيهم. وهيأ معه مائتي رجلٍ وعقد له اللواء، فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفر الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: اجلس! وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، فخرج أسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد.
حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب عقبة بن عمرو أبو مسعود، وكعب بن عجرة، واسامة بن زيد، وعلبة بن زيد؛ فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعةٍ منهم ثم رجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير حتى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطنوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنه لا رأي لمن لا يطاع. ثم ألف بينهم فقال: يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان - لا يفارق كل رجلٍ زميله - وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول: أين فلان صاحبك؟ فيقول: لا أدري؛ وإذا كبرت فكبروا. قال: فكبر وكبروا، وأخرجوا السيوف. قال: فأحطنا بالحاضر وفي الحاضر نعمٌ وقد عطنوا مواشيهم، فخرج إلينا الرجال فقاتلوا ساعةً، فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم ونحن نصيح بشعارنا: أمت! أمت! وخرج أسامة بن زيد في إثر رجلٍ منهم يقال له نهيك بن مرداس فأبعد، وحوينا على الحاضر وقتلنا من قتلنا، ومعنا النساء والماشية، فقال أميرنا: أين أسامة بن زيد؟ فجاء بعد ساعة من الليل، فلامه أمرينا لائمةً شديدةً وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال: إني خرجت في إثر رجلٍ جعل يتهكم بين حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال: لا إله إلا الله! فقال أميرنا: أغمدت سيفك؟ قال: لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب. قال: قلنا: والله بئس ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءاً يقول لا إله إلا الله! فندم وسقط في يديه. قال: واستقنا النعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرةٍ كل رجلٍ، أو عدلها من الغنم. وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.
وحدثني شبل بن العلاء، عن إبراهيم بن حويصة، عن أبيه عن أسامة بن زيد، قال: كان أميرنا آخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال أسامة: فلما أصبته وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني وما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني واعتنقته، ثم قال لي: يا أسامة، خبرني عن غزاتك. قال: فجعل أسامة يخبره الخبر حتى انتهى إلى صاحبه الذي قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلته يا أسامة، وقد قال لا إله إلا الله؟ قال: فجعلت أقول: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم أصادقٌ هو أم كاذب ؟ قال أسامة: لا أقتل أحداً يقول لا إله إلا الله. قال أسامة: وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الجبار، عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رجلاً من الكفار يقاتلني، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله! قال: فإني قتلته فماذا؟ قال: فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
سرية بني عبد بن ثعلبة
عليها غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع
حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر أقام أياماً ما شاء الله أن يقيم، فقال له يسار مولاه: يا رسول الله، إني قد علمت غرةً من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معي إليهم. فأرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلاً، خرج بهم يسار، فظعن بهم في غير الطريق حتى فنيت أزوادهم وجهدوا، واقتسموا التمر عدداً، فبينا القوم ذات ليلة بعد ما ساء ظنهم بيسار، وظن القوم أن إسلامه لم يصح، وقد انتهوا إلى مكان قد فحصه السيل، فلما رآه يسار كبر قال: والله قد ظفرتم بحاجتكم، اسلكوا في هذا الفحص حتى ينقطع بكم. فسار القوم فيه ساعة بحسٍّ خفي لا يتكلمون إلا همساً حتى انتهوا إلى ضرس من الحرة، فقال يسار لأصحابه: لو صاح رجلٌ شديد الصوت لأسمع القوم، فارتأوا رأيكم! قال غالب: انطلق بنا يا يسار أنا وأنت، وندع القوم كميناً، ففعلا، فخرجنا حتى إذا كنا من القوم بمنظر العين سمعنا حس الناس والرعاء والحلب، فرجعا سريعين فانتهيا إلى أصحابهما، فأقبلوا جميعاً حتى إذا كانوا من الحي قريباً، وقد وعظهم أميرهم غالب ورغبهم في الجهاد، ونهاهم عن الإمعان في الطلب، وألف بينهم وقال: إذا كبرت فكبروا. فكبر وكبروا جميعاً معه، ووقعوا وسط محالهم فاستاقوا نعماً وشاءً، وقتلوا من أشرف لهم، وصادفوهم تلك الليلة على ماءٍ يقال له الميفعة. قال: واستاقوا النعم فحدروه إلى المدينة، ولم يسمع أنهم جاءوا بأسرى.
سرية بشير بن سعد إلى الجناب
سنة سبع
حدثني يحيى بن عبد العزيز، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم رجلٌ من أشجع يقال له حسيل بن نويرة، وقد كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين يا حسيل؟ قال: قدمت من الجناب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: تركت جمعاً من غطفان بالجناب، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم: إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعاً، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً فعقد له لواء؛ وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلاً؛ فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر فنزلوا بسلاح ، ثم خرجوا من سلاح حتى دنوا من القوم، فقال لهم الدليل: بينكم وبين القوم ثلثا نهارٍ أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم وخرجت طليعةً لكم حتى آتيكم بالخبر، وإن أحببتم سرنا جميعاً. قالوا: بل نقدمك. فقدموه، فغاب عنهم ساعةً ثم كر عليهم فقال: هذا أوائل سرحهم فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرجال والعطن. وقال آخرون: نغنم ما ظهر لنا ثم نطلب القوم. فشجعوا على النعم، فأصابوا نعماً كثيراً ملأوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء وخرجوا سراعاً، ثم حذروا الجمع فتفرق الجمع وحذروا، ولحقوا بعلياء بلادهم، فخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم فيجدها وليس بها أحد. فرجع بالنعم حتى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عيناً لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة، وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسراً، فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم.قالوا: وكان الحارث بن عوف المري حليفاً لعيينة ولقيه منهزماً على فرسٍ له عتيقٍ يعدو به عدواً سريعاً، فاستوقفه الحارث فقال: لا، ما أقدر! الطلب خلفي! أصحاب محمد! وهو يركض. قال الحارث بن عوف: أما لك بعد أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطىء البلاد وأنت موضعٌ في غير شيءٍ. قال الحارث: فتنحيت عن سنن خيل محمد حتى أراهم ولا يروني، فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل، ما أرى أحداً - وما طلبوه إلا الرعب الذي دخله. قال: فلقيته بعد ذلك، فقال الحارث: فلقد أقمت في موضعٍ حتى الليل، ما رأيت من طلب. قال عيينة: هو ذاك، إني خفت الإسار وكان أثري عند محمد ما تعلم في غير موطن. قال الحارث: أيها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بيناً في بني النضير، ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل؛ والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم. لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس، ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. فقال عيينة: هو والله ذاك، ولكن نفسي لا تقرني. قال الحارث: فادخل مع محمد. قال: أصير تابعاً! قد سبق قوم إاليه فهم يزرون بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها. قال الحارث: وإنما هو على ما ترى، فلو تقدمنا إليه لكنا من علية أصحابه، قد بقي قومه بعدهم منه في موادعة وهو موقعٌ بهم وقعةً، ما وطىء له الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتعدا يريدان الهجرة والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بهما فروة ابن هبيرة القشيري يريد العمرة وهما يتقاولان، فأخبراه بما كانا فيه وما يريدان. قال فروة: لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المدة التي هم فيها وآتيكم بخبرهم! فأخروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى فروة حتى قدم مكة فتحسب من أخبارهم، فإذا القوم على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يريدون أن يدخلوا طائعين أبداً، فخبرهم بما أوقع محمد بأهل خيابر. قال فروة: وقد تركت رؤساء الضاحية على مثل ما أنتم عليه من العداوة لمحمد. قالت قريش: فما الرأي، فأنت سيد أهل الوبر؟ قال: نقضي هذه المدة التي بينكم وبينه ونستجلب العرب ، ثم نغزوه في عقر داره. وأقام أياماً يجول في مجالس قريش، ويسمع به نوفل بن معاوية الديلي، فنزل من باديته فأخبره بما قال لقريش، فقال نوفل: إذاً لأجد عندكم شيئاً! قدمت الآن لمقدمك حيث بلغني، ولنا عدوٌ قريبٌ داره، وهم عيبة نصح محمد لا يغيبون عليه حرفاً من أمورنا. قال: من هم؟ قال: خزاعة. قال: قبحت خزاعة؛ قعدت بها يمينها! قال فروة: فماذا؟ قال: استنصر قريشاً أن يعينونا عليهم. قال فروة: فأنا أكفيكم. فلقي رؤساءهم، صفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال: ألا ترون ماذا نزل بكم! إنكم رضيتم أن تدافعوا محمداً بالراح. قالوا: فما نصنع؟ قال: تعينون نوفل بن معاوية على عدوه وعدوكم. قالوا: إذاً يغزونا محمدٌ في ما لا قبل لنا به فيوطئنا غلبةً، وننزل على حكمه، ونحن الآن في مدة وعلى ديننا. فلقي نوفل بن معاوية فقال: ليس عند القوم شيء. ورجع فلقي عيينة والحارث فأخبرهم وقال: رأيت قومه قد أيقنوا عليه فقاربوا الرجل وتدبروا الأمر. فقدموا رجلاً وأخروا أخرى.
غزوة القضيةحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، ومعاذ بن محمد، عن محمد بن يحيى بن حباب، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وأبو معشر؛ فكلٌّ قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني قالوا: لما دخل هلال ذي القعدة سنة سبع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا - قضاء عمرتهم - وألا يتخلف أحدٌ ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحدٌ شهدها إلا رجالٌ استشهدوا بخيبر ورجالٌ ماتوا. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين سوى أهل الحديبية ممن لم يشهد صلح الحديبية عماراً، فكان المسلمون في عمرة القضية ألفين.
فحدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع، بعد مقدمه بأربعة أشهر، وهو الشهر الذي صدته المشركون، لقول الله عز وجل: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ " يقول: كما صدوكم عن البيت فاعتمروا في قابلٍ. فقال رجال من حاضر المدينة من العرب: والله يا رسول الله، ما لنا من زادٍ وما لنا من يطعمنا . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. قالوا: يا رسول الله، بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بما كان، ولو بشق تمرةٍ، ولو بمشقصٍ يحمل به أحدكم في سبيل الله. فأنزل الله عز وجل في ذلك: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . قال: نزلت في ترك النفقة في سبيل الله.
حدثني الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: متع في سبيل الله ولو بمشقص، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
حدثني الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: نزلت هذه الآية في ترك النفقة في سبيل الله.
وحدثني ابن موهب، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضية ستين بدنة.
حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبيد الله بن ينار، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه، يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيانٍ من أسلم.
فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبيد بن أبي رهم، قال: أنا كنت ممن يسوق الهدي وأركب على البدن.
حدثني محمد بن نعيم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنت ممن صاحب البدن أسوقها.
حدثني يونس بن محمد، عن شعبة مولى ابن عباس، قال: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بيده هو بنفسه.
حدثني معاذ بن محمد، عن عاصم بن عمر، قال: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وهي مائة فرسٍ عليها محمد ابن مسلمة. وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، فقيل: يا رسول الله! حملت السلاح وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا، فإن هاجنا هيجٌ من القوم كان السلاح قريباً منا. قيل: يا رسول الله! تخاف قريشاً على ذلك؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم البدن.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن جابر بن عبد الله، قال: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب المسجد لأنه سلك إلى طريق الفرع، ولولا ذلك لأهل من البيداء.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سلكنا في عمرة القضية على الفرع، وقد أحرم أصحابي غيري، فرأيت حماراً وحشياً فشددت عليه فعقرته، فأتيت أصحابي، فمنهم الآكل والتارك. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كل! قال أبو قتادة: ثم حج حجة الوداع. فأحرم من البيداء، وهذه العمرة من المسجد؛ لأن طريقه ليس على البيداء. قال ابن واقد: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي، والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد عليها نفراً من قريش فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله، يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله. فرأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش فقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريشٌ مكرز بن حفص بن الأحنف في نفرٍ من قريشٍ حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك. ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاحٍ، وهو على الشرط الذي شرط لكم. فلما جاء مكرز بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريشٌ من مكة إلى رءوس الجبال، وخلوا مكة، وقالوا: ولا ننظر إليه ولا إلى أصحابه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، وأصحابه محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشحو السيوف يلبون؛ فلما انتهى إلى ذي طوى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته.
فحدثني سعيد بن مسلم، عن زيد بن قسيط، عن عبيد بن خديج، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع التلبية حتى جاء عروش مكة.
حدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى استلم الركن.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي رجل على السلاح، عليهم أوس بن خولي.
حدثني يعقوب بن محمد بن عدب الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: شهدت عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى البيت، وهو على راحلته وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته - وقد صف له المسلمون - حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، فاستلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، على راحلته، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم، وعبد الله بن رواحة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله
حقاً وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر، إن أسمع! فأسكت عمر.
فحدثني إسماعيل بن عباس، عن ثابت بن العجلان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المشركين على الجبل وهم يرونكم، امشوا ما بين اليماني والأسود. ففعلوا.
وحدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند المروة عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر! فنحر عند المروة. وقال ابن واقد: وكان قد اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، فأما من كان شهد الحديبية وخرج في القضية فإنهم شركوا في الهدي.
حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: لم يتخلف أحدٌ من أهل الحديبية إلا اعتمر عمرة القضية، إلا من مات أو قتل؛ فخرجت ونسوةٌ معي في الحديبية فلم نصل إلى البيت، فقصرن من أشعارهن بالحديبية ثم اعتمرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، قضاءً لعمرتهن، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. وكان ممن شهد الحديبية وقتل بخيبر ولم يشهد عمرة القضية: ربيعة بن أكثم، ورفاعة بن مسروح ، وثقف بن عمرو، وعبد الله بن أبي أمية بن وهب الأسدي، وأبو صياح، والحارث بن حاطب، وعدي بن مرة بن سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائل، ومسعود بن سعد الزرفي، وبشر بن البراء، وعامر بن الأكوع.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم في القضية أن يهدوا، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص لهم في البقرة؛ فقدم فلان ببقرٍ اشتراه الناس منه.
حدثني حزام بن هشام، عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن الذي حلقه معمر بن عدب الله العدوي.
حدثني علي بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سعيد ابن المسيب، قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلالٌ بالظهر فوق ظهر الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! وقال صفوان بن أمية: الحمد الله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا! وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! وأما سهيل بن عمرو ورجالٌ معه، فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.
حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية، قد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك. وأمر بلالاً فأذن فوق الكعبة يومئذٍ مرةً ولم يعد بعد، وهو الثبت.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ميمونة وهو محرم، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
حدثني هشام بن سعد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، قال: لما حل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمةً بين ظهري المشركين؟ فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها؛ فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصى حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها، ابنة أخي! فلما سمع ذلك جعفر قال: الخالة والدةٌ، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس. فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي ، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسبٌ دوني، وأنا أحق بها منكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بينكم! أما أ،ت يا زيد فمولى الله ورسوله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أحق بها! تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها فقضى بها لجعفر. قال ابن واقد: فلما قضى بها لجعفر قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها! فقال: ابنة أخي من الرضاعة! فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هل جزيت سلمة؟ حدثني عبيد الله بن محمد قال: فلما كان عند الظهر يوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ من مجالس الأنصار يتحدث معه سعد بن عبادة - فقال: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، فصنعت لكم طعاماً؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا! ننشدك الله يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا؛ فهذه الثلاث قد مضت! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتاً، وضربت له قبةٌ من الأدم بالأبطح، فكان هناك حتى خرج منها، لم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها. فغضب سعد ابن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك! والله لا يبرح منها إلا طائعاً راضياً. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا. قال: وأسكت الرجلان عن سعد. قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: لا يميسين بها أحدٌ من المسلمين. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل سرف، وتتام الناس، وخلف أبا رافع ليحمل إليه زوجته حين يمسي، وأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها، فلقوا عناءً من سفهاء المشركين، آذوا بألسنتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لها أبو رافع - وانتظر أن يبطش أحدٌ منهم فيستخلى به ، فلم يفعلوا - ألا إني قد قلت لهم: " ما شئتم! هذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج! " وإذا الخيل قد قربت فوقفت لنا هنالك والسلاح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما انتهينا إلى بطن يأجج ساروا معنا، فلم نأت سرف حتى ذهب عامة الليل، ثم أتينا سرف، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدلج حتى قدم المدينة.
سرية ابن أبي العوجاء السلمي
في ذي الحجة سنة سبع
حدثني محمد، عن الزهري، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء سنة سبع - رجع في ذي الحجة سنة سبع - بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلاً، فخرج إلى بني سليم. وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم، فجمعوا جمعاً كثيراً. وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون له، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل ولم يسمعوا قولهم، وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه. فراموهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب صاحبهم ابن أبي العوجاء جريحاً مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إسلام عمرو بن العاصحدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانباً معانداً، فحضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فقلت في نفسي: كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش! فخلفت مالي بالرهط وأفلت - يعني من الناس - فلم أحضر الحديبية ولا صلحها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ورجعت قريش إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه؛ ما مكة بمنزلٍ ولا الطائف، وما من شيءٍ خير من الخروج. وأنا بعد ناتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم. فقدمت مكة فجمعت رجالاً من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا ، مع يمن نفسٍ وبركة أمر . قال، قلت: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً. قالوا: ما هو؟ قال: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن كان يظهر محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد؛ وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قال: فاجمعوا ما تهدونه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. قال: فجمعنا أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتابٍ كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي من بلادك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً. ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به. فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا؛ قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله! فرفع يده فضرب بها أنفي ضربةً ظننت أنه كسره، وابتدر منخاري، فجعلت أتلقى الدم بثيابي، وأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت له: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما فعلت ما سألتك. قال: واستحيى وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله - من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم - لتقتله؟
قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه؛ والله إنه لعلى الحق، وليظهرن على كل دينٍ خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أفتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ودعا لي بطستٍ فغسل عني الدم وكساني ثياباً، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل أدركت صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه. قالوا: الرأي ما رأيت! وفارقتهم كأني أعمد لحاجة فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينةً قد شحنت برقعٍ ، فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة ، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقةٌ، فابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى خرجت على مر الظهران، ثم مضيت حتى كنت بالهدة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلاً، وأحدهما داخلٌ في خيمة، والآخر قائمٌ يمسك الراحلتين، فنظرت وإذا خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمعٌ ؛ والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام. وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين! فظننت أنه يعنيني وخالد بن الوليد، ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعاً حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه، وإن لوجهه تهللاً، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها. قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمرٍ حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب فقال: أخبرني راشدٌ مولى حبيب بن أبي أويس، عن حبيب بن أوس الثقفي، عن عمرو، نحو ذلك. قال عبد الحميد: فقلت ليزيد: فلم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال: لا، إلا أنه قبيل الفتح، قلت: وإن أبي أخبرني أن عمراً، وخالداً، وعثمان بن طلحة، قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أبي حبيبة، قراءةً عليه، حدثنا محمد بن شجاع قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، فحدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، سمعت أبي يحدث يقول: قال خالد بن الوليد: لما أراد اللهبي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمدٍ، فليس موطنٌ اشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيءٍ وأن محمداً سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيلٍِ من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان؛ فقمت بإزاءه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمناً منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرةٌ - فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعاً وقلت: الرجل ممنوع! وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين؛ فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريشٌ بالرواح قلت في نفسي: أي شيءٍ بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانيةٍ أو يهودية، فأقيم مع عجمٍ تابعاً، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبةً في الإسلام وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خالد: وارى في النوم كأني في بلادٍ ضيقةٍ جديبة، فخرجت إلى بلدٍ أخضر واسع، فقلت إن هذه لرؤيا. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر. قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأسٍ ، وقد ظهر محمدٌ على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمدٍ فاتبعناه فإن شرف محمدٍ لنا شرفٌ. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبداً. فافترقنا وقلت: هذا رجلٌ موتور يطلب وتراً، قد قتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاطو ما ذكرت لك. قال: لا أذكره وخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي لصديقٌ ولو ذكرت له ما أريد! ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحلٌ من ساعتي. فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحرٍ، لو صب عليه ذنوب من ماءٍ لخرج. قال: وقلت له نحواً مما قلت لصاحبيه، فاسرع الإجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخٍ مناخةٌ. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج؛ فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها فقال: مرحباً بالقوم! فقلنا: وبك! قال: فأين مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك الذي أقدمني. قال: فاصطحبنا جميعاً حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا؛ فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام
بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .هٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .
قال أبو عبد الله: سألت عبد الله بن عمرو بن زهير الكعبي: متى كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة كتابه؟ فقال: أخبرني أبي، عن قبيصة بن ذؤيب أنه كتب لهم في جمادة الآخرة سنة ثمان. وذلك أنه أسلم قوم من العرب كثيرٌ، ومنهم من هو بعد مقيمٌ على شركه، ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية لم يبق من خزاعة أحدٌ إلا مسلمٌ مصدق بمحمد، قد أتوا بالإسلام وهو فيمن حوله قليلٌ، حتى قدم علقمة بن علاثة وابنا هوذة وهاجروا، فذلك حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بديل، وبشر ، وسروات بني عمرو، سلامٌ عليكم، فإني أحمد الله إليكم، الله لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني لم آثم بإلكم، ولم أضع في جنبكم، وإن أكرم تهامة علي أنتم، وأقربهم رحماً أنتم ومن تبعكم من المطيبين. فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي - ولو هاجر بأرضه - غير ساكن مكة إلا معتمراً أو حاجاً؛ وإني لم أضع فيكم إذ سالمت ، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصورين. أما بعد: فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابناه، وتابعا وهاجرا على من تبعهما من عكرمة؛ أخذت لمن تبعني منكم ما آخذ لنفسي، وإن بعضنا من بعض أبداً في الحل والحرم، وإنني والله ما كذبتكم وليحبكم ربكم.
حدثني عبد الله بن بديل، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسلمة، عن أبيه، عن بديل بن ورقاء مثل ذلك.
سريةٌ أميرها غالب بن عبد الله بالكديد
في صفر سنة ثمان
حدثنا الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي أحد بني كلب بن عوف، في سريةٍ كنت فيهم ، وأمره أن يشن الغارة على بني الملوح بالكديد، وهم من بني ليث. فخرجنا حتى إذا كنا بقديدٍ لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء، فأخذناه فقال: إنما جئت أريد الإسلام. فقلنا: لا يضرك رباط ليلةٍ إن كنت تريد الإسلام، وإن يكن غير ذلك نستوثق منك. فشددناه وثاقاً، وخلفنا عليه رجلاً منا يقال له سويد بن صخر، وقلنا: إن نازعك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمن ناحية الوادي، فبعثني أصحابي ربيئةً لهم، فخرجت فأتيت تلاً مشرفاً على الحاضر يطلعني عليهم، حتى إذا أسندت فيه وعلوت على رأسه انبطحت، فوالله إني لأنظر إذ خرج رجل منهم، من خباءٍ له فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما رأيته عليه صدر يومي هذا، فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب أخذت منها شيئاً. فنظرت فقالت: والله ما أفقد من أوعيتي شيئاً. فقال: ناوليني قوسي ونبلي! فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهماً، فوالله ما أخطأ به جنبي، فانتزعته فوضعته وثبت مكاني. ثم رماني الآخر فخالطني به أيضاً، فأخذته فوضعته وثبت مكاني. فقال لامرأته: والله لو كان زائلةً لتحرك بعد، لقد خالطه سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما؛ لا تمضغهما الكلاب. ثم دخل خباءه وراحت ماشية الحي من غبلهم وأغنامهم، فحلبوا وعطنوا ، فلما اطمأنوا وهدأوا شننا عليهم الغارة، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدرها قبل المدينة حتى مررنا بأبي البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا. وخرج صريخ القوم في قومهم فجاءنا ما لا قبل لنا به، ونظروا إلينا وبيننا وبينهم الوادي وهم موجهون إلينا، فجاء الله الوادي من حيث شاء بماءٍ ملأ جنبيه؛ وأيم الله ما رأينا قبل ذلك سحاباً ولا مطراً، فجاء بما لا يستطيع أحدٌ أن يجوزه، فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا وقد أسندنا في المشلل وفتناهم، فهم لا يقدرون على طلبنا، فما أنسى رجز أميرنا غالب:
أبى أبو القاسم أن تعز بي ... وذاك قول صادقٍ لم يكذب
في خضلٍ نباته مغلولب ... صفرٍ أعاليه كلون المذهب
ثم قدمنا المدينة.
فحدثني عبد العزيز بن عقبة، عن محمد بن حمزة بن عمر الأسلمي، عن أبيه، قال: كنت معهم ونا بضعة عشر رجلاً، شعارنا: أمت! أمت!
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
في شهر ربيع الأول سنة ثمان
قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فأفلت منهم رجلٌ جريحٌ في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: كان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم، فرآه عينٌ لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا على الخيول فقتلوهم.
سرية شجاع بن وهب
إلى السي من أرض بني عامر من ناحية ركبة
في ربيع الأول سنة ثمان؛ وسرية إلى خثعم بتبالة
حدثني الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمعٍ من هوازي بالسي، وأمره أن يغير عليهم، فخرج؛ فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه قبل ذلك ألا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاءً، فاستاقوا ذلك كله حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة ، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ كل رجلٍ، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة.قال ابن أبي سبرة: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان فقال: كانوا قد أصابوا في الحاضر نسوةً فاستاقوهن، وكانت فيهن جاريةٌ وضيئةٌ فقدموا بها المدينة. ثم قدم وفدهم مسلمين، فلما قدموا كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعاً وأصحابه في ردهن، فسلموهن وردوهن إلى أصحابهن.
قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخاً من الأنصار بذلك فقال: أما الجارية الوضيئة فكان شجاع بن وهب قد أخذها لنفسه بثمنٍ فأصابها، فلما قدم الوفد خيرها، فاختارت المقام عند شجاع بن وهب، فلقد قتل يوم اليمامة وهي عنده، ولم يكن له منها ولدٌ. فقلت لابن أبي سبرة: ما سمعت أحداً قط يذكر هذه السرية. فقال ابن أبي سبرة: ليس كل العلم سمعته. قال: أجل والله.
فقال ابن أبي سبرة: لقد حدثني إسحاق بن عبد الله سريةً أخرى، قال إسحاق: حدثني ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حيٍّ من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يغذ السير. فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، قد غيبوا السلاح؛ فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحب ، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر، فقدمه قطبة فضرب عنقه ثم أقاموا حتى كان ساعة من الليل، فخرج رجلٌ منهم طليعةً فيجد حاضر نعمٍ، فيه النعم والشاء؛ فرجع إلى أصحابه فأخبرهم، فأقبل القوم يدنون دبيباً يخافون الحرس، حتى انتهوا إلى الحاضر وقد ناموا وهدأوا؛ فكبروا وشنوا الغارة، فخرج إليهم رجال الحاضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت الجراح في الفريقين. وأصبحوا وجاء الخثعميون الدهم ، فحال بينهم سيلٌ أتى، فما قدر رجلٌ واحدٌ منهم يمضي حتى أتى قطبة على أهل الحاضر، فأقبل بالنعم والشاء والنساء إلى المدينة، فكان سهامهم أربعة أربعة، والبعير بعشرة من الغنم بعد أن خرج الخمس. وكان في صفر سنة تسع
غزوة مؤتةحدثنا الواقدي قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي ثم أحد بني لهب، إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمدٍ؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر،فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر جلس وجلس أصحابه، وجاء النعمان بن فنحص اليهودي، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم. فقال النعمان بن فنحص: أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان، فلو سمى مائة أصيبوا جميعاً. ثم جعل اليهودي يقول لزيد ابن حارثة: اعهد، فلا ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبياً! فقال زيد: فأشهد أنه نبيٌّ صادقٌ بارٌ. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة - لواء أبيض - مشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين. قال ابن رواحة عند ذلك:
لكني أسال الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرعٍ تقذف الزبدا
وهي أبياتٌ أنشدنيها شعيب بن عبادة.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. أو قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لاتغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث؛ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. وإن حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خيرٌ لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
حدثني أبو صفوان، عن خالد بن يزيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأةً ولا صغيراً ولا مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً.
حدثني أبو القاسم بن عمارة بن غزية، عن أبيه، عن عطاء بن أبي مسلم؛ قال: لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيءٍ أحفظه عنك! قال: إنك قادمٌ غداً بلداً، السجود به قليلٌن فأكثر السجود. قال عبد الله: زدني يا رسول الله! قال: اذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب. فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر! قال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدةً. فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيءٍ بعدها. قال أبو عبد الله: وكان زيد بن أرقم يقول: كنت في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيمٍ كان خيراً منه؛ خرجت معه في وجهه إلى مؤتة، وصب بي وصببت به فكان يردفني خلف رحله، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي الرحل، وهو يتمثل أبيات شعر
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسافة أربعٍ بعد الحساء
فزادك أنعمٌ وخلاك ذمٌّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء
هنالك لا أبالي طلع نخلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء
فلما سمعت هذه الأبيات بكيت، فخفقني بيده وقال: ما يضرك يا لكع أن يرزقن الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأحداثها. ويرجع بين شعبتي الرحل، ثم نزل نزلة من الليل فصلى ركعتين وعاقبهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام! فقلت: لبيك! قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى المسلمون من المدينة، فسمع العدو بمسيرهم عليهم قبل أن ينتهوا إلى مقتل الحارث بن عمير، فلما فصل المسلمون من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع. وقام فيهم رجلٌ من الأزد يقال له شرحبيل بالناس، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس وقتل سدوس وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن، وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا أرض معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألفٍ، عليهم رجلٌ من بلى يقال له مالكٌ. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاحٍ، ولا بكثرة خيولٍ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. انطلقوا والله لقد رأيتنا يوم بدرٍ ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرسٌ واخدٌ؛ وإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهورٌ عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وليس لوعده خلفٌ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس على مثل قول ابن رواحة.
فحدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين راينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت ابن أرقم. يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعاً كثيرةً. قلت: نعم، قال: تشهدنا ببدر؟ إنا لم ننصر بالكثرة! حدثني بكير بن مسمار، عن ابن كعب القرظي، وابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أحدهما يزيد على الآخر في الحديث، قال: لما التقى المسلمون والمشركون، وكان الأمراء يومئذٍ يقاتلون على أرجلهم، أخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، فقتل زيد بن حارثة. قال ابن كعب القرظي، أخبرني من حضر يومئذٍ قال: لا، ما قتل إلا طعناً بالرمح. ثم أخذه جعفر، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ، ثم قاتل حتى قتل.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: ضربه رجلٌ من الروم فقطعه، نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرمٍ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضعٌ وثلاثون جرحاً.
حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وجد مما قتل من بدن جعفر ما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربةً بسيف أو طعنةٍ برمح.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن صالح، عن عاصم بن عمر، قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً، ووجد به طعنةٌ قد أنفذته.
حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن عبد الله بن أبي بكر، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث قالا: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا! فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو يسعى! ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيدٌ، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة. ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد ودخل الجنة معترضاً. فشق ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابه الجراح. قيل: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة. فسري عن قومه.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً دون ذلك فقلت: ما كنت أظن أن زيداً دون دعفر. فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفر لقرابته منك.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن المقبري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرجالة سلمة بن الأكوع.
حدثني نافع بن ثابت، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن رجلاً من بني مرة كان في الجيش. قيل له: إن الناس يقولون إن خالداً انهزم من المشركين. فقال: لا والله ما كان ذلك! لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط، واختلط المسلمون والمشركون، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً، واتبعناه فكانت الهزيمة.
حدثني محمد بن صالح، عن رجل من العرب، عن أبيه، قال: لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط. في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم، فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه. قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ، وقد شهدت بدراً. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فوالله ما أخذته إلا لك! فأخذه خالدٌ فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه. فثبت حتى تكركر المشركون. وحمل بأصحابه ففض جمعاً من جمعهم، ثم دهمه منهم بشرٌ كثيرٌ. فانحاش المسلمون فانكشفوا راجعين.
حدثني ابن أبي سبرة. عن إسحاق بن عبد الله. عن ابن كعب بن مالك. قال: حدثني نفرٌ من قومي حضروا يومئذٍ قالوا: لما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة. وقتل المسلمون. واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم. يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزماً.
حدثني إسماعيل بن مصعب، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد، قال: لما أخذ اللواء ثابت بن أرقم، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، قال ثابت: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم. فأخذه خالد فانكشف بالناس.
حدثني عطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم وقالوا: قد جاءهم مددٌ! فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قومٌ.
حدثني عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما أخذ خالد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس! قال أبو عبد الله: والأول أثبت عندنا؛ أن خالداً انهزم بالناس. قال ابن أبي الزناد: بلغت الدماء بين الخيل موضع الأشاعر من الحافر ؛ والوطيس أيضاً ذاك، وإذا حمي ذلك الموضع من الدابة كان أشد لعدوها.
حدثني داود بن سنان قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به.
حدثني خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري، قال: أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزماً، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرارٌ إن شاء الله! حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة، يقول: ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة؛ لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ فأما من كان كبيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته استحياءً حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلاً رجلاً، يقول: أنتم الكرار في سبيل الله!
حدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ آشتكى شيئاً؟ قالت امرأته: لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج؛ إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟. حتى قعد في البيت. فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، هم الكرار في سبيل الله، فليخرج! فخرج.
حدثني خالد بن إلياس، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس، لقد كان بيني وبين ابن عمرٍّ لي كلام، فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى بن الحزار، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد هيأت أربعين منا من أدم ، وعجنت عجيني، وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم؟ فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله، لعلك بلغك عن جعفر شيءٌ؟ فقال: نعم، قتل اليوم. قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أسماء، لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً! قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مثل جعفر فلتبك الباكية! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم.
حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله ابن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال: اللهم، إن جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك؟ قالت: بلى، بأبي أنت وأمي! قال: فإن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثيرٌ بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفراً قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعامٍ فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداءً طيباً مباركاً؛ عمدت سلمى خادمته إلى شعيرٍ فطحنته، ثم نسفته، ثم أنضجته وأدمته بزيت. وجعلت عليه فلفلاً. فتغديت أنا وأخي معه فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار في إحدى بيوت نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخٍ لي، فقال: اللهم بارك في صفقته. قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه.
حدثني عمر بن أبي عاتكة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم نعي جعفر عرفنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. قالت: قديماً ما ضر الناس التكلف ؛ فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن النساء قد عنيننا بما يبكين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجع إليهن فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب. فقلت في نفسي: أبعدك الله! ما تركت نفسك، وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أنا أطلع من صير الباب فأسمع هذا.
حدثني عبد الله بن محمد، عن ابن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: أصيب بها ناسٌ من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين، فكان مما غنموا خاتماً جاء به رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت صاحبه يومئذٍ!فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.