كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي
.
ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد :
{ إنا بالذي آمنتم به كافرون } . .
على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح . والتي لا تدع ريبة لمستريب . . إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق . . إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد . . إنها عقدة الحاكمية والسلطان ، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام
وأتبعوا القول بالعمل ، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه في دعواه؛ والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم :
{ فعقروا الناقة ، وعتوا عن أمر ربهم؛ وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين } . .
إنه التبجح الذي يصاحب المعصية . ويعبر عن عصيانهم بقوله : { عتوا } لإبراز سمة التبجح فيها ، وليصور الشعور النفسي المصاحب لها . والذي يعبر عنه كذلك ذلك التحدي باستعجال العذاب والاستهتار بالنذير :
ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة ، ولا يفصل كذلك :
{ فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين } . .
والرجفة والجثوم ، جزاء مقابل للعتو والتبجح . فالرجفة يصاحبها الفزع ، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك . وما أجدر العاتي أن يرتجف ، وما أجدر المعتدي أن يعجز . جزاء وفاقاً في المصير . وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير .
ويدعهم السياق على هيئتهم . . { جاثمين } . . ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه :
{ فتولى عنهم ، وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين } .
إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب .
. . وهكذا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين . ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين . .
وتمضي عجلة التاريخ ، فيظلنا عهد إبراهيم - عليه السلام - ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم . ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين؛ متناسقاً مع ما جاء في أول السورة : { وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير . . وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم - عليه السلام - لم يطلب من ربه هلاكهم . بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله . . إنما تجيء هنا قصة قوم لوط - ابن أخي إبراهيم - ومعاصره ، بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك . يتمشى مع ظلال السياق ، على طريقة القرآن :
{ ولوطاً إذ قال لقومه : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء . بل أنتم قوم مسرفون . وما كان جواب قومه إلا أن قالوا : أخرجوهم من قريتكم ، إنهم أناس يتطهرون . فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين . وأمطرنا عليهم مطراً ، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } . .
وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة؛ وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق .
ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد . . إن الاعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه . وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكراً وأنثى ، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما؛ وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل؛ وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى . . ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء ، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء ، مجهزين عضوياً ونفسياً لهذا الالتقاء . . وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة ، والرغبة في إتيانها أصيلة ، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة؛ ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعاً في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية . من حمل ووضع ورضاعة . ومن نفقة وتربية وكفالة . . ثم لتكون كذلك ضماناً لبقائهما ملتصقين في أسرة ، تكفل الأطفال الناشئين ، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان ، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم
هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره . ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلاً بالانحراف عن العقيدة ، وعن منهج الله للحياة .
ويبدو انحراف الفطرة واضحاً في قصة قوم لوط ، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها ، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين :
{ ولوطاً إذ قال لقومه : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } . .
والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية . والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها ، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة ، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب . فهي مجرد { شهوة } شاذة . لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية . فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة ، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري ، قبل أن يكون فساد الأخلاق . . ولا فرق في الحقيقة . فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية ، بلا انحراف ولا فساد .
إن التكوين العضوي للأنثى - كالتكوين النفسي - هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء ، الذي لا يقصد به مجرد « الشهوة » . إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة ، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة ، مصحوباً بلذة تعادل مشقة التكليف فأما التكوين العضوي للذكر - بالنسبة للذكر - فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة؛ بل إن شعور الاستقذار ليسبق ، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة .
وطبيعة التصور الاعتقادي ، ونظام الحياة الذي يقوم عليه ، ذو أثر حاسم في هذا الشأن . .
فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً . بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح ، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه .
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود ، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي . . كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات ولكن شهادة الواقع تخرق العيون . ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى - كما في عالم البهائم - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال؛ بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء . . ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ : « السلوك الجنسي عند الرجال » و « السلوك الجنسي عند النساء » في تقرير « كنزي » الأمريكي . . ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة ، وتسندها إلى حجاب المرأة . لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون ، ووصايا مؤتمرات المبشرين
ونعود إلى قوم لوط فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم :
{ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا : أخرجوهم من قريتكم ، إنهم أناس يتطهرون }
يا عجباً أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً ، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟
ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون ، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقدمية وتحطيماً للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟ إنه منطق الجاهلية في كل حين
وتعرض الخاتمة سريعاً بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى :
{ فأنجيناه وأهله - إلا امرأته كانت من الغابرين - وأمطرنا عليهم مطراً ، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } . .
إنها النجاة لمن تهددهم العصاة . كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج . فامرأته - وهي ألصق الناس به - لم تنج من الهلاك . لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد .
وقد أمطروا مطراً مهلكاً مع ما صاحبه من عواصف . . ترى كان هذا المطر المغرق ، والماء الدافق ، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه ، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟
على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين
ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ . . صفحة مدين وأخيهم شعيب :
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين .
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين } . .
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على الله توكلنا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ، فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين؟ } . .
إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة ، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع ، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات ، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق .
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل . . ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد : { قد جاءتكم بينة من ربكم } . .
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة - كما ذكرها في قصة صالح - ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى . ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها ، تثبت دعواه أنه مرسل من عند الله . ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان ، والنهي عن الإفساد في الأرض ، والكف عن قطع الطريق على الناس ، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه :
{ فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ، وتصدون عن سبيل الله من آمن به ، وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } . .
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب ، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون الله وحده ، إنما يشركون معه عباده في سلطانه؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل - ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة - وأنهم - لذلك - كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء؛ كما كانوا مفسدين في الأرض ، يقطعون الطريق على سواهم .
ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم ، ويصدونهم عن سبيل الله المستقيم؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل الله؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة ، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج الله .
ويبدأ شعيب - عليه السلام - بدعوتهم إلى عبادة الله وحده وإفراده سبحانه بالألوهية ، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله .
يبدأ شعيب - عليه السلام - في دعوتهم من هذه القاعدة؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل . ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة .
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة لله وحده ، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم ، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها الله بالشريعة . . يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية . . يذكرهم نعمة الله عليهم :
{ واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } .
ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم :
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } . .
كذلك يريد منهم أن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر؛ فلا يفتنوا المؤمنين الذين هداهم الله إليه عن دينهم ، ولا يقعدوا لهم بكل صراط ، ولا يأخذوا عليهم كل سبيل ، مهددين لهم موعدين ، وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين . إن كانوا هم لا يريدون أن يكونوا مؤمنين :
{ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين } . .
لقد دعاهم إلى أعدل خطة . ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة . . نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى ، وترك كلٍّ وما اعتنق من دين ، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت . . إن وجود جماعة مسلمة في الأرض ، لا تدين إلا لله ، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه ، ولا تحكم في حياتها شرعاً إلا شرعه ، ولا تتبع في حياتها منهجاً إلا منهجه . . إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت - حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها ، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده .
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة - حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة - إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل . وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل . . إنها سنة الله لا بد أن تجري .
.
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتعودن في ملتنا } .
هكذا في تبجح سافر ، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش
إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد . . لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة . . نقطة المسالمة والتعايش - على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء؛ وأن يدين للسلطان الذي يشاء : في انتظار فتح الله وحكمه بين الفريقين - وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة ، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت . . وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه . . فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم ، صدع شعيب بالحق ، مستمسكاً بملته ، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها ، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله :
{ قال : أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها . وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين } . .
وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان ، ومذاقه في نفوس أهله ، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه . كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع . . مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه .
{ قال : أو لو كنا كارهين؟ }
يستنكر تلك القولة الفاجرة : { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } . . يقول لهم : أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا الله منها؟
{ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } . .
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية ، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده ، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم الله له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه . شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود ، وشرعية في السلطان؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله . . وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ، ولم يرفع راية الإسلام .
شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة
وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم الله منها :
{ وما يكون لنا أن نعود فيها } . .
وما من شأننا أصلاً؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة ، التي تعلن خروجها عن سلطانه ، ودينونتها لله وحده بلا شريك معه أو من دونه .
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق - إنه تكاليف بطيئة طويلة مديدة تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه « الإنسانية » لا توجد ، والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟ . . وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه؟ . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟ وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . . حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله . إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . . ومهما تكن تكاليف العبودية لله ، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان الله . .
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب : الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية :
« . . . وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية ، لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها .
وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه ، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً ، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر ، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية ، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم ، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها ، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية ، وإنشاء النظام الجماعي ، وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه . . فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح ، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها ، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله ، واتبعوا الشهوات ، وانغمسوا في الفجور والطغيان ، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء ، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها ، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . . «
. . . » والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده ، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد ، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله الله تعالى ، وجاء به الرسول الأمي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد ، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم ، يذكرون الله قابعين في زواياهم ، منقطعين عن الدنيا وشؤونها ، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضى الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها .
. ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة ، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعره - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق ، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية ، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها ، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب « الجهاد » من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين ، حتى إن القرآن ليحكم « بالنفاق » على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن « الجهاد » هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ، ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل ، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فاعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك؟ « . . .
. . . » إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند الله الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها « . .
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله لله ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن . .
لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة :
{ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها . . } . .
ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه ، وبقدر ما يرفع صوته ، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه .
. بقدر ما يخفض هامته ، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل ، الذي وسع كل شيء علماً . فهو في مواجهة ربه ، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره ، ويدع له قياده وزمامه ، ويعلن خضوعه واستسلامه :
{ إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً } . .
إنه يفوض الأمر لله ربه ، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه . . إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت ، من العودة في ملتهم؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته . . ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة الله به وبهم . . فالأمر موكول إلى هذه المشيئة ، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون ، وربهم وسع كل شيء علماً . فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم .
إنه أدب ولي الله مع الله . الأدب الذي يلتزم به أمره ، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره . ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه .
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق ، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق .
{ على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . وأنت خير الفاتحين } . .
وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر : مشهد تجلي حقيقة « الألوهية » في نفس ولي الله ونبيه . .
إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان . ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان . ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مفر . إلا بفتح من ربه ونصر .
عندئذ يتوجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم . ليفتنوهم عن دينهم : { وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } . .
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير . . إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة . فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه ، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته ، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل . . تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد ، ثم بالبطش والعذاب . . إنهم لا يملكون حجة على باطلهم ، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب؛ ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم - وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل - ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان ، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان .
ولكنه من سنة الله الجارية أنه عندما يتمحض الحق والباطل ، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة الله التي لا تتخلف . . وهكذا كان . .
{ فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين } . .
الرجفة والجثوم ، جزاء التهديد والاستطالة ، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة . .
ويرد السياق على قولتهم : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون } . . وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة فيقرر - في تهكم واضح - أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً ، إنما كان من نصيب قوم آخرين :
{ الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها .
الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } . .
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين . لا حياة ولا حراك . كأن لم يعمروا هذه الدار ، وكأن لم يكن لهم فيها آثار
ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال ، والمفارقة والانفصال ، من رسولهم الذي كان أخاهم ، ثم افترق طريقه عن طريقهم ، فافترق مصيره عن مصيرهم ، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم ، وعلى ضيعتهم في الغابرين :
{ فتولى عنهم ، وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين؟ } . .
إنه من ملة وهم من ملة . فهو أمة وهم أمة . أما صلة الأنساب والأقوام ، فلا اعتبار لها في هذا الدين ، ولا وزن لها في ميزان الله . . فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين ، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل الله المتين . .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . . وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية - والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية - وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين؛ ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل . . أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء؛ لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله ، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة . فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء ، وفتح عليهم الأبواب ، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون . . كل ذلك للابتلاء . . حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص ، وإلى الغفلة وقلة المبالاة ، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية ، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء ، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير : { وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء } أخذهم الله بغتة ، وهم سادرون في هذه الغفلة . لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء ، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد ، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين ، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله . . ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال ، ولحلت عليهم البركات ، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض ، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة ، ولا يعقبه النكال والبوار . .
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها . . يحذرهم الغفلة والغرة ، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى ، ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم ، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل ، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون .
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { تلك القرى نقص عليك من أنبائها . . . } لإظهاره على سنة الله فيها ، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } . . فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها ، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها . .
{ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء . فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } . .
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة ، إنما يكشف عن سنة . ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر . . ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ « الإنسان » في هذه الأرض .
وأن الرسالة ذاتها - على عظم قدرها - هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس - وهو أكبر من الرسالة وأشمل - وأن الأمور لا تمضي جزافاً؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض - كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان - وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير ، ويصدر عن حكمة ، ويتجه إلى غاية . وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة ، وارتضت الناموس . .
ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان ، مما حكاه السياق . ويكون من أمر غيرها ما يكون
إن إرادة الإنسان وحركته - في التصور الإسلامي - عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً . ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل . . والله بكل شيء محيط . . وإرادة الإنسان وحركته - في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل - يتعاملان مع الوجود كله؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً . . فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة؛ مما يبدو إلى جانبه « التفسير الاقتصادي للتاريخ » ، و « التفسير البيولوجي للتاريخ » ، و « التفسير الجغرافي للتاريخ » . . . بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة . وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير .
{ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } . .
فليس للعبث - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم . وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة - كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء ، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له - والعبودية لله غاية الوجود الإنساني - وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً . ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على معصيته - سبحانه - ما نقصوا في ملكه شيئاً ( كما جاء في الحديث القدسي ) .
. ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك . . فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه . . تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم - كما جاء في أوائل السورة - وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم . وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون ، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم ، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد
لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه ، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم ، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم . استحياء لقلوبهم بالألم . والألم خير مهذب ، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة ، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية ، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق . . { لعلهم يضرعون } . .
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } . .
فإذا الرخاء مكان الشدة ، واليسر مكان العسر ، والنعمة مكان الشظف ، والعافية مكان الضر ، والذرية مكان العقر ، والكثرة مكان القلة ، والأمن مكان الخوف . وإذا هو متاع ورخاء ، وهينة ونعماء ، وكثرة وامتلاء . . وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء . .
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون ، ويحتمل مشقاته الكثيرون . فالشدة تستثير عناصر المقاومة . وقد تذكر صاحبها بالله - إن كان فيه خير - فيتجه إليه ويتضرع بين يديه ، ويجد في ظله طمأنينة ، وفي رحابه فسحه ، وفي فرَجه أملاً ، وفي وعده بشرى . . فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون . فالرخاء ينسي ، والمتاع يلهي ، والثراء يطغي . فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله .
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء } . .
أي حتى كثروا وانتشروا ، واستسهلوا العيش ، واستيسروا الحياة : ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه ، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه . . والتعبير : { عفوا } - إلى جانب دلالته على الكثرة - يوحي بحالة نفسية خاصة : حالة قلة المبالاة . حالة الاستخفاف والاستهتار . حالة استسهال كل أمر ، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء . . وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة ، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء - أفراداً وأمماً - كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً ، أو تحسب حساباً لشيء . فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر ، ويلهون في يسر ، ويبطشون كذلك في استهتار ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان ، في يسر واطمئنان وهم لا يتقون غضب الله ، ولا لوم الناس ، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة . وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون ، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس . ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً ، بلا سبب معلوم ، وبلا قصد مرسوم :
{ وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء } .
.
وقد أخذ دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء وها هي ذي ماضية بلا عاقبة ، فهي تمضي هكذا خبط عشواء
عندئذ . . وفي ساعة الغفلة السادرة ، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان ، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية :
{ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } . .
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان ، فما عادوا يتحرجون من فعل ، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال
هكذا تمضي سنة الله أبداً . وفق مشيئته في عباده . وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله - في إطار سنة الله ومشيئته - وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة؛ ويحذرهم الفتنة . . فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء . . وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة ، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف ، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم . فمن لم يتيقظ ، ومن لم يتحرج ، ومن لم يتق ، فهو الذي يظلم نفسه ، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد . ولن تظلم نفس شيئاً .
{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } . .
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية . فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب ، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض . . هكذا . . { بركات من السماء والأرض } مفتوحة بلا حساب . من فوقهم ومن تحت أرجلهم . والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر ، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات . .
وأمام هذا النص - والنص الذي قبله - نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء . وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان ، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال . بل تنكره كل الإنكار . .
إن العقيدة الإيمانية في الله ، وتقواه ، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة ، وعن خط تاريخ الإنسان . إن الإيمان بالله ، وتقواه ، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض . وعدا من الله . ومن أوفى بعهده من الله؟
ونحن - المؤمنين بالله - نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن ، فنصدقه ابتداء ، لا نسأل عن علله وأسبابه؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله . . نحن نؤمن بالله - بالغيب - ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان . .
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر - كما يأمرنا إيماننا كذلك - فنجد علته وسببه
إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية؛ وصدق في الإدراك الإنساني ، وحيوية في البنية البشرية ، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود . . وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية .
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة ، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها ، وتتجه بها إلى وجهة واحدة ، وتطلقها تستمد من قوة الله ، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها ، وفي دفع الفساد والفتنة عنها ، وفي ترقية الحياة ونمائها .
. وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية .
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد . وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله ، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة . من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً
وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور ، في دفعة الحركة ودفعة الحياة . . وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج ، فلا يعتدي ، ولا يتهور ، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح .
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح ، عاملة في الأرض ، متطلعة إلى السماء ، متحررة من الهوى والطغيان البشري ، عابدة خاشعة لله . . تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه ، فلا جرم تحفها البركة ، ويعمها الخير ، ويظلها الفلاح . . والمسألة - من هذا الجانب - مسألة واقع منظور - إلى جانب لطف الله المستور - واقع له علله وأسبابه الظاهرة ، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود . .
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون ، في توكيد ويقين ، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان ، النابع من كل مكان ، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان . فهي البركات بكل أنواعها وألوانها ، وبكل صورها وأشكالها ، ما يعهده الناس وما يتخيلونه ، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة ، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض ، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله - سبحانه - وكفى بالله شهيداً . ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس :
{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض . ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } . .
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً - يقولون : إنهم مسلمون - مضيقاً عليهم في الرزق ، لا يجدون إلا الجدب والمحق . . ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون ، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ . . فيتساءل : وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال
إن أولئك الذين يقولون : إنهم مسلمون . . لا مؤمنون ولا متقون إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله ، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم ، يتألهون عليهم ، ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين . فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه ، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره . . ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً . دانت لهم الدنيا ، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض ، وتحقق لهم وعد الله .
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق .
. فهذه هي السنة : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره . وهو أخطر من الابتلاء بالشدة . . وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون . فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به ، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح . . وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة ، مهددة في أمنها ، مقطعة الأواصر بينها ، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال . فهي قوة بلا أمن . وهو متاع بلا رضى . وهي وفرة بلا صلاح . وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد . وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال . .
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى ، بركات في الأشياء ، وبركات في النفوس ، وبركات في المشاعر ، وبركات في طيبات الحياة . . بركات تنمي الحياة وترفعها في آن . وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال .
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية . التي يشهد بها تاريخ القرى الخالية . وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر ، ويرتعش فيها الوجدان ، على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا؛ وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء ، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء . . في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين ، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار ، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع :
{ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون؟ أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } . .
أفأمن أهل القرى - وتلك سنة الله في الابتلاء بالضراء والسراء ، والبأساء والنعماء ، وتلك مصارع المكذبين السادرين ، الذين كانوا قبلهم يعمرون هذه القرى ثم تركوها فخلفوهم فيها - أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله في غفلة من غفلاتهم ، وغرة من غراتهم؟ أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله بالهلاك والدمار . . بياتاً وهم نائمون . . والإنسان في نومه مسلوب الإرادة ، مسلوب القوة ، لا يملك أن يحتاط ولا يملك أن يدفع عادية من حشرة صغيرة . . فكيف ببأس الله الجبار؟ الذي لا يقف له الإنسان في أشد ساعات صحوه واحتياطه وقوته؟
أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله . . ضحى وهم يلعبون . . واللعب يستغرق اليقظة والتحفز ، ويلهي عن الأهبة والاحتياط . فلا يملك الإنسان ، وهو غارٌّ في لعبه ، أن يدفع عن نفسه مغيراً . فكيف بغارة الله التي لا يقف لها الإنسان وهو في أشد ساعات جده وتأهبه للدفاع؟
وإن بأس الله لأشد من أن يقفوا له نائمين أم صاحين . لاعبين أم جادين . ولكن السياق القرآني يعرض لحظات الضعف الإنساني ، ليلمس الوجدان البشري بقوة ، ويثير حذره وانتباهه ، حين يترقب الغارة الطامة الغامرة ، في لحظة من لحظات الضعف والغرة والفجاءة .
وما هو بناج في يقظة أو غرة . فهذه كتلك أمام بأس الله سواء
{ أفأمنوا مكر الله؟ } .
وتدبيره الخفي المغيب على البشر . . ليتقوه ويحذروه .
{ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } . .
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار . وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار أفأمنوا مكر الله؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين ، الذين هلكوا بذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم؟
{ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } . .
إن سنة الله لا تتخلف؛ ومشيئة الله لا تتوقف . فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك ، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى ، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة . . ألا إن مصارع الخالين قبلهم ، ووراثتهم لهم ، وسنة الله الجارية . . كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب ، والاستهتار السادر ، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم . عسى ألا يكون فيهم . لو كانوا يسمعون
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار . فالفزع الدائم من المجهول ، والقلق الدائم من المستقبل ، وتوقع الدمار في كل لحظة . . قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض . . إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى ، ومراقبة النفس ، والعظة بتجارب البشر ، ورؤية محركات التاريخ الإنساني ، وإدامة الاتصال بالله ، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة .
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة ، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به ، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة . فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري . وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة . وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة .
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله . وما كان يركن إلى سواه . وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان ، مطمئناً بذكر الله ، قوياً على الشيطان وعلى هواه ، مصلحاً في الأرض بهدى الله ، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه .
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع ، ومن مكر الله الذي لا يدرك . لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة ، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية ، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان .
والمنهج القرآني - مع ذلك - إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة ، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة ، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم . فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله ، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة . ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
والآن - وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية ، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية - يتجه بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام :
{ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } . .
فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه .
{ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } . .
فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان . وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها . فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب :
{ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } . .
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة :
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } . .
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر ، الذي ورد ذكره في أواخر السورة :
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا } . .
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل . ثم انحرفت الخلائف . كما يقع في كل جاهلية . إذا تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان ، وترتد إلى الجاهلية .
وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به ، ويثبتون عليه . إنما هو الهوى المتقلب ، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم .
{ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } . .
منحرفين عن دين الله وعهده القديم . . وهذه ثمرة التقلب ، ونقض العهد ، واتباع الهوى . . ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله ، مستقيماً على طريقته ، مسترشداً بهداه . فلا بد أن تتفرق به السبل ، ولا بد أن ينحرف ، ولا بد أن يفسق . . وكذلك كان أهل تلك القرى . وكذلك انتهى بهم المطاف . .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
يتضمن هذا الدرس قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه . من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين ، إلى حلقة إغراقهم أجمعين . وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة . وغلبة الحق على الباطل . وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون . وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل . واستعلان الحق في نفوسهم على هذا التوعد وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة . ثم ماتلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل . وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات . ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب . حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه؛ وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات . حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك - ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة . . لتعقبها فتنة الرخاء . .
وقد اخترنا أن نجعل هذا القطاع من القصة درساً؛ ونجعل القطاع الآخر الخاص بقصة موسى - عليه السلام - مع قومه بعد ذلك درساً يليه لاختلاف طبيعة القطاعين ، واختلاف مجالهما كذلك . .
والقصة تبدأ هنا بمجمل عن بدئها ونهايتها ، يوحي بالغرض الذي جاءت من أجله في سياق هذه السورة :
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فظلموا بها ، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . .
فيصرح النص بالغرض من سياقة القصة في هذا الموضع . . إنه النظر إلى عاقبة المفسدين . . وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية ، تعرض الحلقات التي تفي بهذه الغاية ، وتصورها تفصيلاً .
والقصة تقطع إلى مشاهد حية ، تموج بالحركة وبالحوار ، وتزخر بالانفعالات والسمات ، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق ، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى « رب العالمين » وبين الطواغيت المتسلطة على عباد الله ، المدعية للربوبية من دون الله ، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن ، فلا تخشى سلطان الطواغيت ، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد . .
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فظلموا بها ، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . .
بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها ، كانت بعثة موسى . . والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة ، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها . كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها . لقد ظلموا بهذه الآيات - أي كفروا وجحدوا - والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة « الظلم » وكلمة « الفسق » في موضع كلمة « الكفر » أو كلمة « الشرك » .
وهذه من تلك المواضع التي يكثر ورودها في التعبير القرآني . ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم ، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق . . والذين يكفرون أو يشركون يظلمون الحقيقة الكبرى - حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد - ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة . ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية لله الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة . . وليس بعد ذلك ظلم . . ومن ثم فالكفر هو الظلم « والكافرون هم الظالمون » كما يقول التعبير القرآني الكريم . . وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسق ويخرج عن طريق الله وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه - سبحانه - إنما تؤدي إلى الجحيم
ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات الله : أي كفروا بها وجحدوا .
{ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . .
وهذه العاقبة ستجيء في السياق عن قريب . . أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة : { المفسدين } وهي مرادف لكلمة « الكافرين » أو « الظالمين » في هذا الموضع . . إنهم ظلموا بآيات الله : أي كفروا بها وجحدوا فانظر كيف كان عاقبة { المفسدين } هؤلاء .
إنهم مفسدون لأنهم « ظلموا » - أي « كفروا وجحدوا » . . ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد . وأشنع الإفساد . . إن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد ، والعبودية لإله واحد . . وإن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس . . إن العبودية لله وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد ، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك ، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة ، وشهوات البشر الصغيرة . . إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد - من دون الله - وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم لله وحده - عقيدة وعبادة وشريعة - وما تحرر « الإنسان » قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة . . ومن ثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه :
{ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . .
وكل طاغوت يُخضع العباد لشريعة من عنده ، وينبذ شريعة الله ، هو من { المفسدين } الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون
وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص . وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة ، وللمحور الذي تدور حوله . لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى - تحقيقاً للهدف من سياقتها - ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال ، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها .
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه؟
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما :
{ وقال موسى : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق .
قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . قال : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين . قال الملأ من قوم فرعون : إن هذا لساحر عليم ، يريد أن يخرجكم من أرضكم ، فماذا تأمرون؟ قالوا : أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين . يأتوك بكل ساحر عليم } . .
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر . . مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى { رب العالمين } وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين
{ وقال موسى : يا فرعون ، إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق . قد جئتكم ببينة من ربكم ، فأرسل معي بني إسرائيل } . .
{ يا فرعون } . . لم يقل له : يا مولاي كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز . ناداه ليقرر له حقيقة أمره ، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود :
{ إني رسول من رب العالمين } . .
لقد جاء موسى - عليه السلام - بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله . حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً . . ألوهية واحدة وعبودية شاملة . . لا كما يقول الخابطون في الظلام من « علماء الأديان » ومن يتبعهم في زعمهم عن « تطور العقيدة » إطلاقاً ، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين . . إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها . ولا تتطور من الآلهة المتعددة ، إلى التثنية ، إلى الوحدانية في نهاية المطاف . . فأما جاهليات البشر - حين ينحرفون عن العقيدة الربانية - فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية . . وسائر أنواع العقائد الجاهلية . . ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح ، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح .
ولقد واجه موسى - عليه السلام - فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة ، التي واجه بها كل نبي - قبله أو بعده - عقائد الجاهلية الفاسدة . . واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه . . إن ربوبية الله للعالمين تعني - أول ما تعني - إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له - من دون الله - بإخضاعهم لشرعه هو وأمره . . واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين . . ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله .
{ حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق } . .
فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله ، ليقول عليه إلا الحق ، وهو يعلم قدره؛ ويجد حقيقته - سبحانه - في نفسه .
.
{ قد جئتكم ببينة من ربكم } . .
تدلكم على صدق قولي : إني رسول من رب العالمين .
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة . . حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين . . طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل . .
إن بني إسرائيل عبيد لله وحده؛ فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه إن الإنسان لا يخدم سيدين ، ولا يعبد إلهين . فمن كان عبداً لله ، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه . وإذ كان فرعون إنما يعبد بني إسرائيل لهواه؛ فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله . وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل
إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان . تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله . تحريره من شرع البشر ، ومن هوى البشر ، ومن تقاليد البشر ، ومن حكم البشر .
وإعلان ربوبية الله للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله؛ ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس . . والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر - أي لربوبية غير ربوبية الله - واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون إنهم لا يكونون في دين الله لحظة واحدة وحاكمهم غير الله ، وقانونهم غير شريعة الله . إنما هم في دين حاكمهم ذاك . في دين الملك لا في دين الله
وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى - عليه السلام - أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل :
{ يا فرعون إني رسول من رب العالمين } . . . { فأرسل معي بني إسرائيل } . . .
مقدمة ونتيجة . . تتلازمان ولا تفترقان . .
ولم تغب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان . إعلان ربوبية الله للعالمين . . لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هدم ملك فرعون . وقلب نظام حكمه ، وإنكار شرعيته ، وكشف عدوانه وطغيانه . . ولكن كان أمام فرعون وملئه فرصة أن يظهروا موسى بمظهر الكاذب الذي يزعم أنه رسول من رب العالمين بلا بينة ولا دليل :
{ قال : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } . .
ذلك أنه إذا اتضح أن هذا الداعية إلى ربوبية رب العالمين كاذب في دعواه؛ سقطت دعوته ، وهان أمره؛ ولم يعد لهذه الدعوة الخطيرة من خطر - وصاحبها دعيّ لا بينة عنده ولا دليل
ولكن موسى يجيب :
{ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } . .
إنها المفاجأة إن العصا تنقلب ثعباناً لا شك في ثعبانيته . . { مبين } . . وكما قيل في سورة أخرى : { فإذا هي حية تسعى } ثم إن يده السمراء - وقد كان موسى عليه السلام « آدم » أي مائلاً إلى السمرة - يخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء ، بيضاء ليست عن مرض ، ولكنها المعجزة ، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء
هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى .
. إني رسول من رب العالمين .
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين؟ وعلام إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه؟ وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه؟
علام يقوم هذا كله إن كان الله هو { رب العالمين } ؟
إنه إن كان الله هو { رب العالمين } فلا حكم إلا لشريعة الله ، ولا طاعة إلا لأمر الله . . فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن ، وهو لا يقوم على شريعة الله ولا يرتكن إلى أمره؟ . . إن الناس لا يكون لهم { رب } آخر يعبدهم لحكمه وشرعه وأمره ، إن كان الله هو ربهم . . إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون . فالحاكم - بأمره وشرعه - هو رب الناس . وهم في دينه أياً كان
كلا إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب . ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة
وفرعون وملؤه لا يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى . بل إنهم ليعلنونها صريحة . ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة ، باتهام موسى بأنه ساحر عليم :
{ قال الملأ من قوم فرعون : إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون؟ } . .
إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة . إنها الخروج من الأرض . . إنها ذهاب السلطان . . إنها إبطال شرعية الحكم . . أو . . محاولة قلب نظام الحكم . . بالتعبير العصري الحديث
إن الأرض لله . والعباد لله . فإذا ردت الحاكمية في أرض لله ، فقد خرج منها الطغاة ، الحاكمون بغير شرع الله أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم . وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى ، فيعبدون الناس لهذه الأرباب
هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة . . وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة . . لقد قال الرجل العربي - بفطرته وسليقته - حين سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله : « هذا أمر تكرهه الملوك » . وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته : « إذن تحاربك العرب والعجم » . . لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته . كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حسن هؤلاء العرب ، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيداً . فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد ، ولا في أرض واحدة ، شهادة أن لا إله إلا الله ، مع الحكم بغير شرع الله فيكون هناك آلهة مع الله ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم « مسلمين » .
. ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل
وهكذا قال الملأ من قوم فرعون ، يتشاورون مع فرعون :
{ إن هذا لساحرعليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون؟ } . .
واستقر رأيهم على أمر :
{ قالوا : أرجه وأخاه ، وأرسل في المدائن حاشرين ، يأتوك بكل ساحر عليم } . .
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد . وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر . ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر؛ ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها « علماء الأديان » فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة ويقول الملحدون منهم : إن الدين سيبطل كما بطل السحر وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر . . إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه : « العلم »
وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون ، على أن يرجئ فرعون موسى إلى موعد . وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة . ذلك ليواجهوا « سحر موسى » - بزعمهم - بسحر مثله .
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون ، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين؛ في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة
ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن؛ ويسدل الستار على المشهد الأول ، ليرفعه على المشهد التالي . . وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص ، كأنه واقع منظور ، لا حكاية تروى
{ وجاء السحرة فرعون ، قالوا : إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال : نعم ، وإنكم لمن المقربين } . .
إنهم محترفون . . . يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله ، وإفراده - سبحانه - بالحاكمية؛ وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله ، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين ، وكافأهم على الاحتراف ، وتبادل وإياهم الصفقة : هم يقرون سلطانه باسم الدين وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين
ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم ، ووعدهم مع الأجر القربى منه ، زيادة في الإغراء ، وتشجيعاً على بذل غاية الجهد . . وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل؛ إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة ، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون
ولقد اطمأن السحرة على الأجر ، واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون ، واستعدوا للحلبة . . ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى - عليه السلام - بالتحدي .
. ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون ، ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون :
{ قالوا : يا موسى ، إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . . قال : ألقوا } . .
ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى . وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة . . وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى - عليه السلام - واستهانته بالتحدي : { قال ألقوا } . . فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة ، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى . على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال ، بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين .
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجئ به موسى - عليه السلام - وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة ، إذا بنا أمام مظهر السحر البارع ، الذي يرهب ويخيف :
{ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وجاءوا بسحر عظيم } . .
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم ، لندرك أي سحر كان . وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا { أعين الناس } وأثاروا الرهبة في قلوبهم : { واسترهبوهم } لنتصور أي سحر كان . ولفظ « استرهب » ذاته لفظ مصور . فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً . ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه ، أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان
ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه ، وتطالع السحرة الكهنة ، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم :
{ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ، فإذا هي تلقف ما يأفكون . فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون . فغلبوا هنالك ، وانقلبوا صاغرين } . .
إنه الباطل ينتفش ، ويسحر العيون ، ويسترهب القلوب ، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب ، وأنه جارف ، وأنه مُحيق وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة ، وينكمش كالقنفذ ، وينطفئ كشعلة الهشيم وإذا الحق راجح الوزن ، ثابت القواعد ، عميق الجذور . . والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال ، وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل : { فوقع الحق } . . وثبت ، واستقر . . وذهب ما عداه فلم يعد له وجود : { وبطل ما كانوا يعملون } . . وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون :
{ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } . .
ولكن المفاجأة لم تختم بعد . والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى . . مفاجأة كبرى . .
{ وألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون } . .
إنها صولة الحق في الضمائر . ونور الحق في المشاعر ، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين . . إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم ، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه . وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر ، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر . والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له ، لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة ، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور .
. ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق ، الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين . .
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر؛ ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان؛ ولا كيف تلمسها حرارة اليقين . فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب - وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء - . . ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس؛ ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر . . ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته : مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين . رب موسى وهارون . بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين . . والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت . . وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت :
{ قال فرعون : آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها . فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين } . .
هكذا . . { آمنتم به قبل أن آذن لكم } . . كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق - وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها - أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم - وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً - أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم - وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها . أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق . أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار . أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين
ولكن الطاغوت جاهل غبي مطموس؛ وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز :
{ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } . .
وفي نص آخر : { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } والمسألة واضحة المعالم . . إنها دعوة موسى إلى « رب العالمين » . . هي التي تزعج وتخيف . . إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين . وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته . وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون ، ويعبدون الناس لما يشرعون . . إنهما منهجان لا يجتمعان . . أو هما دينان لا يجتمعان . . أو هما ربان لا يجتمعان . . وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون . . ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين . فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارونَ والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون ، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع :
{ فسوف تعلمون .
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين } . .
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل . . وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق ، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان . . وعدة الباطل في وجه الحق الصريح . .
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان؛ تستعلي على قوة الأرض ، وتستهين ببأس الطغاة؛ وتنتصر فيها العقيدة على الحياة ، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم . إنها لا تقف لتسأل : ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ . . لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك ، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق . .
{ قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون . وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبراً ، وتوفنا مسلمين } . .
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع . كما أنه لا يخضع أو يخنع . الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها ، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره :
{ قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون } . .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت . . وأنها معركة العقيدة في الصميم . . لا يداهن ولا يناور . . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة ، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة :
{ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } . .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة ، وإلى من يتجه؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية ، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام :
{ ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين } . .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان ، وأمام الوعي ، وأمام الاطمئنان . . يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام . فإذا هي مستعصية عليه ، لأنها من أمر الله ، لا يملك أمرها إلا الله . . وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية . هذا الذي كان بين فرعون وملئه ، والمؤمنين من السحرة . . السابقين . .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار « الإنسان » على « الشيطان »
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية . فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة . والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح . ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز ، وتمنى بالقرب من السلطان . . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون؛ وتستهين بالتهديد والوعيد ، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب . وما تغير في حياتها شيء ، ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى . وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت ، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد . . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة ، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة ، ويتسمع الضمير أصداء الهداية ، وتتلقى البصيرة إشراقات النور . . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي؛ ولكنها هي تغير الواقع المادي؛ وترفع « الإنسان » في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال
ويذهب التهديد . . ويتلاشى الوعيد . . ويمضي الإيمان في طريقه . لا يتلفت ، ولا يتردد ، ولا يحيد
ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد . . إن روعة الموقف تبلغ ذروتها؛ وتنتهي إلى غايتها . وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض؛ مع الهدف النفسي للقصة ، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني ، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن .
ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ . . .
* نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين ، رب موسى وهارون ، يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم؛ لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان ، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان . . وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل . . ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها . . إنه لا يجتمع في قلب واحد ، ولا في بلد واحد ، ولا في نظام حكم واحد ، أن يكون الله رب العالمين ، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد ، يباشره بتشريع من عنده وقوانين . . فهذا دين وذلك دين . .
* ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم ، وجعل لهم فرقاناً في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة؛ وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين .
فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه؛ ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون . . أو بتعبير آخر مرادف : من ربوبية فرعون ، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله . . وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده . فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله . . إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين؛ وأن عدوهم على دين غير دينهم؛ لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين .
. فهو إذن من الكافرين . . وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشقيه : أنهم هم المؤمنون ، وأن أعداءهم هم الكافرون ، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين ، ولا ينقمون منهم إلا الدين .
*ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار « الإنسان » على الشيطان . وهو مشهد بالغ الروعة . . نعترف أننا نعجز عن القول فيه . فندعه كما صوره النص القرآني الكريم
ثم نعود إلى سياق القصة القرآني . . حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد . . إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض . بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان . مشهد الملأ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجياً والذين آمنوا معه - وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . كما جاء في موضع آخر من القرآن - فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم ، وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه؛ ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم؛ من ضياع الهيبة والسلطان؛ باستشراء العقيدة الجديدة ، في ربوبية الله للعالمين . فإذا هو هائج مائج ، مهدد متوعد ، مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه ، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه
{ وقال الملأ من قوم فرعون : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال : سنقتل أبناءهم ، ونستحيي نساءهم ، وإنا فوقهم قاهرون } . .
إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره؛ أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية . إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه؛ وأنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى الأمور . وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه ، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره - وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي - كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له - فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك ، كما هو ظاهر من قول الملأ له : { ويذرك وآلهتك } وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية . إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم ، لا يعصون له أمراً ، ولا ينقضون له شرعاً . . وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة . . فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه ، وذلك هو تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى عن اليهود والنصارى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . . الآية } عندما سمعها منه عدي بن حاتم - وكان نصرانياً جاء ليسلم - فقال : يا رسول الله ما عبدوهم .
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم » . . ( أخرجه الترمذي ) .
أما قول فرعون لقومه : { ما علمت لكم من إله غيري } فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه : { اليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين . ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟ } وظاهر أنه كان يوازي بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك ، وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة . وما قصد بقوله : { ما علمت لكم من إله غيري } إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء؛ والذي يتبعون كلمته بلا معارض والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي وهي في الواقع ألوهية . فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم سواء قالها أم لم يقلها وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملأ فرعون :
{ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ، ويذرك وآلهتك؟ } . .
فالإفساد في الأرض - من وجهة نظرهم - هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده؛ حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله . إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره - أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه - وإذن فهو - بزعمهم - الإفساد في الأرض ، بقلب نظام الحكم ، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر ، وإنشاء وضع آخر مخالف تماماً لهذه الأوضاع ، الربوبية فيه لله لا للبشر . ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه . .
ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة . . بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة وهي بنوة ليست حسية فلقد كان الناس يعرفون جيداً أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين . إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته . فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين ، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون ، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف؛ الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح . . وذلك كما يقول الله سبحانه : { فاستخف قومه فأطاعوه . . إنهم كانوا قوماً فاسقين } فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ . . وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه ، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله . . فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت ، ولا يمكن أن يطيع له أمراً ، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله . . ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى - عليه السلام - إلى « رب العالمين » وإيمان السحرة بهذا الدين ، وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين .
. ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده . . أو من شهادة أن لا إله إلا الله . . حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام . لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام
ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون ، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع :
{ قال : سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون } :
وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل - في إبان مولد موسى - مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص : { إن فرعون علا في الأرض ، وجعل أهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان . لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام . .
ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون ، ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد ، ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد . . إنه مشهد النبي موسى - عليه السلام - مع قومه ، يحدثهم بقلب النبي ولغته ، ومعرفته بحقيقة ربه؛ وبسنته وقدره ، فيوصيهم باحتمال الفتنة ، والصبر على البلية ، والاستعانة بالله عليها . ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني . فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده . والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحداً سواه . . فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم ، وهو يحل بهم كذلك بعدما جاءهم ، حيث لا تبدو له نهاية ، ولا يلوح له آخر أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم ، ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة :
{ قال موسى لقومه : استعينوا بالله واصبروا ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين . قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون } .
إنها رؤية « النبي » لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه . ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه . ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون . .
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد ، وهو الملاذ الحصين الأمين . وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين . وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه . وألا يعجلوا ، فهم لا يطلعون الغيب ، ولا يعلمون الخير . . .
وإن الأرض لله . وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها . والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين ، إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها .
فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها
وإن العاقبة للمتقين . . طال الزمن أم قصر . . فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير . ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيحسبونهم باقين . .
إنها رؤية « النبي » لحقائق الوجود الكبير . .
ولكن إسرائيل هي إسرائيل
{ قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } :
إنها كلمات ذات ظل وإنها لتشي بما وراءها من تبرم أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك . وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية
ويمضي النبي الكريم على نهجه . يذكرهم بالله ، ويعلق رجاءهم به ، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض . مع التحذير من فتنة الاستخلاف .
{ قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون } .
إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله ، تجري وفق وعده ، للصابرين ، وللجاحدين ويرى من خلال سنة الله هلاك الطاغوت وأهله ، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده . فيدفع قومه دفعاً إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد . . وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم . ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم وليس جزافاً بلا غاية . وليس خلوداً بلا توقيت . إنه استخلاف للامتحان : { فينظر كيف تعملون } . . وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون . ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان ، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم .
ويدع السياق موسى وقومه؛ ويسدل عليهم الستار ، ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس : مشهد فرعون وآله ، يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان؛ ويحقق وعد موسى لقومه ، ورجاءه في ربه؛ ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة ، وتساق القصة كلها لتصديقه .
ويبدأ المشهد هوناً؛ ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً ، فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة ، فدمرت كل شيء ، وعصفت بكل شيء ، وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية ، وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى ، وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده؛ وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء :
{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم .
. آيات مفصلات . . فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها؛ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل؛ بما صبروا . . ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } . .
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم؛ ونفذ فرعون وعيده وتهديده ، فقتل الرجال واستحيا النساء . ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب ، ويرجون فرج الله ، ويصبرون على الابتلاء . . وعندئذ . . عندما نمحص الموقف : إيمان يقابله الكفر . وطغيان يقابله الصبر . وقوة أرضية تتحدى الله . . عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين :
{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } . .
إنها إشارة التحذير الأولى . . الجدب ونقص الثمرات . . و « السنين » تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط . وهي في أرض مصر ، المخصبة المثمرة المعطاء ، تبدو ظاهرة تلفت النظر ، وتهز القلب ، وتثير القلق ، وتدعو إلى اليقظة والتفكر؛ لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت - بفسقهم عن دين الله - فيطيعونه ، لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا؛ ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات؛ ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده؛ ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية . . لأن هذه العلاقة من عالم الغيب . . وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس - الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه - شيئاً وإذا رأوا شيئاً من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة؛ وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة ، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده - حتى وهم يكفرون ويفجرون . كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم؛ وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون ، كما تصرف حياة الناس؛ والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً . . الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى ، ولا يمضي عبثاً ، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة . . وهذه هي « العقلية العلمية » الحقيقية . وهي عقلية لا تنكر « غيب الله » لأنه لا تعارض بين « العلمية » الحقيقية و « الغيبية »؛ ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة ، لأن وراءها الله الفعال لما يريد؛ الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض ، والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض .
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله ، وبغيهم وظلمهم لعباد الله . . وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات . . في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء ، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون
لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم . ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم .
{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } . .
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله ، فإنها لا ترى يده - سبحانه - في تصريف هذا الوجود؛ ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث . وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة . فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة . لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط؛ وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة؛ لا تلتقي عند قاعدة ، ولا تجتمع وفق نظام - وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية « العلمية » عن معاكسة « الطبيعة » لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات وكما يقول الذين يمضون مع هذه « العلمية » المدعاة في تعليل هذه الأحداث . . وهم ينكرون قدر الله . . وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه « مسلم » وهو ينكر أصول الإيمان بالله
وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث . الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها . والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم ، ومن تحت رأسهم
وأصل « التطير » في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه . . فقد كان الرجل منهم إذ اراد أمراً ، جاء إلى عش طائر فهيجه عنه ، فإذا طار عن يمينه - وهو السانح - استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده . وإذا طار الطائر عن شماله - وهو البارح - تشاءم به ورجع عما عزم عليه فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي؛ وأحل محله التفكير « العلمي » - العلمي الصحيح - وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود؛ وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها؛ وأقام الأمور على أسس « علمية » يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده؛ وتوضع في موضعها الصحيح ، في إطار المشيئة الإلهية الطليقة ، وقدره النافذ المحيط :
{ ألا إنما طائرهم عند الله؛ ولكن أكثرهم لا يعلمون } . .
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد . . إنه من أمر الله .
. ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء . . وتصيبهم السيئة للابتلاء : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } ويصيبهم النكال للجزاء . . ولكن أكثرهم لا يعلمون . . كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم « العقلية العلمية » وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم « الاشتراكية العلمية » كذلك وكلهم جهال . . وكلهم لا يعلمون
ويمضى آل فرعون في عتوهم ، تأخذهم العزة بالإثم؛ ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداً :
{ وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } . .
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة؛ ولا يرده برهان؛ ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر ، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعاً للطريق على البرهان - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق؛ وتجبههم البينة ، ويطاردهم الدليل . . بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم . . كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل
عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة :
{ فأرسلنا عليهم الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع والدم . . آيات مفصلات . . }
للإنذار والابتلاء . . آيات مفصلات . . واضحة الدلالة ، منسقة الخطوات ، تتبع الواحدة منها الأخرى ، وتصدق اللاحقة منها السابقة .
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة ، التي جاءتهم مفرقة . واحدة واحدة . وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها؛ ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها ، وإذا رفع عنهم هذا « الرجز » ، أي العذاب ، الذي لا قبل لهم بدفعه :
{ ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك - بما عهد عندك - لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل } . .
وفي كل مرة ينقضون عهدهم ، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم :
{ فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون } . .
جمع السياق الآيات كلها ، كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة ، وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها؛ ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة؛ لا يفيد منها شيئاً ، ولا يجد فيها عبرة . .
فأما كيف وقعت هذه الآيات ، فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه « الظلال » نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاً من الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها؛ والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها ، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير؛ وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة .
.
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس ، وعن سعيد بن جبير ، وعن قتادة ، وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها :
« حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأبى عليه ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً ، فخافوا أن يكون عذاباً ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل؛ فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا : هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع . فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فداسوا وأحرزوا في البيوت؛ فقالوا : قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينا هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، أو ما كان في أوعيتهم ، وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب فقال : إنه قد سحركم فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوه فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل » .
والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره ، في وقت معين ، ابتلاء لقوم معينين؛ وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم؛ وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم ، يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده ، ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر؛ وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله؛ . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلط الآفات على زروعهم ، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله أَلبتة وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات ، - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء ، قال لهم أصحاب « العلمية » الكاذبة : هذا الاتجاه خرافة « غيبية » وتندروا عليهم وسخروا منهم ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين
ثم تجيء الخاتمة - وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء - وتقع الواقعة . ويدمر الله على فرعون وملئه - بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه - ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين ، بعد إهلاك الطغاة المتجبرين :
{ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ، بأنهم كذبوا بآياتنا ، وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } . . . { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون } . .
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق ، ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور . ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل؛ فلا يعرض لشيء من التفصيل . . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس
{ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم } . .
ضربة واحدة ، فإذا هم هالكون . ومن التعالي والتطاول والاستكبار ، إلى الهويّ في الأعماق والأغوار ، جزاء وفاقاً :
{ بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } . .
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها ، وبين هذا المصير المقدور . ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة ، ولا تمضي فلتات عابرة ، كما يظن الغافلون
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر ، ولم يكن في مكان فرعون وآله .
إنما كان في أرض الشام ، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث ، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين :
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } . . { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون } . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول « قبل » و « بعد » لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها لذلك نقول : إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون ، كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما « قبل » عنده وما « بعد؟
والصفحة كلها معروضة له سواء ، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون ، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة ، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان ، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . وإذا هذا كله حطام ، في ومضة عين ، أو في بضع كلمات قصار
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة ، المطاردة من الشرك وأهله؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض ، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
في هذا الدرس تمضي قصة موسى - عليه السلام - في حلقة أخرى . . مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون . . إن موسى - عليه السلام - لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه؛ فقد انتهت المعركة مع الطاغوت . . ولكنه يواجه معركة أخرى - لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً - إنه يواجه المعركة مع « النفس البشرية » يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس؛ ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية؛ وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية . وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً . . فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب ، والحركة في الظلام ، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً؛ عاشوا في ظل الإرهاب؛ وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك . عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نسائهم . فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي ، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال .
وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب ، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر . . وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان .
لقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينظر بنور الله ، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس : « ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم » . . كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس . وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله . فالناس في مملكة الله أعزاء ، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ وألا يضربهم الحكام فيذلوهم ، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام . . إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله . .
ولقد ضربت أبشار بني إسرائل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا . بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني . . ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام ، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر . . فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهراً على ظهر ناقة ، ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر ، وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم ، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح .
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة - بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر - وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس ، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل؛ وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية؛ وتواجه موسى - عليه السلام - بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل
وسنرى متاعب موسى - عليه السلام - في المحاولة الضخمة التي يحاولها؛ وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلاً ، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلاً ، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره
وسنرى من خلال متاعب موسى - عليه السلام - متاعب كل صاحب دعوة ، يواجه نفوساً طال عليها الأمد ، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت - وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها ، ثم طال عليها الأمد ، فبهتت صورتها ، وعادت شكلاً لا روح فيه؟
إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف . ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك . . يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات ، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة ، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة ، في هذه الصورة المفصلة المكررة . لترى فيها هذه التجربة . كما قلنا من قبل . ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل .
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرٌما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين؟ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب : يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم .
. إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين- الذي أهلك عدوهم؛ وشق لهم البحر؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين ، عاكفين على أصنام لهم ، مستغرقين في طقوسهم الوثنية؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد ، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة }
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة ، ضعيفة الروح ، ما تكاد تهتدي حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد ، وتصلب عن الحق ، وقساوة في الحس والشعور وها هم أولاء على طبيعتهم تلك ، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين وهؤلاء كانوا وثنيين ، وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم : { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ } . . ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم : رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة؟ ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين ، لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب :
{ قال : إنكم قوم تجهلون } . .
ولم يقل تجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل .
. الجهل من الجهالة ضد المعرفة ، والجهل من الحماقة ضد العقل فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس ، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله ، أو يعرض عن ذلك كله ، إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا « العلم » كما يدعيه الكثيرون
ويمضي موسى - عليه السلام - يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون ، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم ، فأرادوا أن يقلدوهم :
{ إن هؤلاء متبر ما هم فيه ، وباطل ما كانوا يعملون } . .
إن ما هم فيه من شرك ، وعكوف على الآلهة ، وحياة تقوم على هذا الشرك ، وتتعدد فيها الأرباب ، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة ، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط . . إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة . . إن هذا كله هالك باطل؛ ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى - عليه السلام - على ربه والغضب له - سبحانه - والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم - وهي حاضرة ظاهرة- :
{ قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين؟ } . .
والتفضيل على العالمين - في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين . وليس وراء ذلك فضل ولا منة . فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة . كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة - التي كانت إذا ذاك في أيد مشركة - فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون؟
وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله - سبحانه - يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى - عليه السلام - موجه كذلك لقومه :
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم . وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . .
وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم ، بين كلام الله - سبحانه - وما يحكيه من كلام أوليائه ، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه
وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل - في هذا الموضع - كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم .
ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر . . والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة . . ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة . الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء . .
{ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . .
فما كان شيء في ذلك كله جزافاً بلا تقدير . ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير . وللتمحيص والتدريب . وللإعذار قبل الأخذ الشديد . إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب
وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه ، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه . . مشهد تهيؤ موسى - عليه السلام - للقاء ربه العظيم؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا؛ ووصيته لأخيه هارون - عليه السلام - قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم :
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وأتممناها بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة . . وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي ، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } . .
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها . انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة ، وفي طريقهم إلى الأرض المقدسة . . ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى . . مهمة الخلافة في الأرض بدين الله . . ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - ولم يمض إلا القليل فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم . . ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه . وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه ، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم ، ويستعد لتلقيه .
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة ، أضيفت إليها عشر ، فبلغت عدتها أربعين ليلة ، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة . .
وألقى موسى إلى أخيه هارون - قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه - بوصيته تلك :
{ وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } . .
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه . ولكن المسلم للمسلم ناصح . والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم . . ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة ، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل . . وقد تلقى هارون النصيحة . لم تثقل على نفسه فالنصحية إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار ، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم .
. إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير : « فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون : فصامها موسى - عليه السلام - وطواها ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين » . .
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع . المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى - عليه السلام - مشهد الخطاب المباشر بين الجليل - سبحانه - وعبد من عباده . المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض . . ولا ندري نحن كيف . . لا ندري كيف كان كلام الله - سبحانه - لعبده موسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله . فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة . ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء . ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية ، نريد أَن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود
{ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك ، قال : لن تراني ، ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني . فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، وخر موسى صعقاً . فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . قال : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي . فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . سأريكم دار الفاسقين . سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ } .
إننا لفي حاجة إلى اسحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله . . في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه . .
{ ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك } . .
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق فينسى من هو ، وينسى ما هو ، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض ، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض .
. يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود . . حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة :
{ قال : لن تراني } . .
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل ، فيعلمه لماذا لن يراه . . إنه لا يطيق . .
{ ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني } . .
والجبل أمكن وأثبت . والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري . . ومع ذلك فماذا؟
{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } . .
فكيف كان هذا التجلي؟ نحن لا نملك أن نصفه ، ولا نملك أن ندركه . . ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله ، حين تشف أرواحنا وتصفو ، وتتجه بكليتها إلى مصدرها . فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً . . لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي . . ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره؛ وليس منها رواية عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً .
{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } . .
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوًّى بالأرض مدكوكاً . . وأدركت موسى رهبة الموقف ، وسرت في كيانه البشري الضعيف :
{ وخر موسى صعقاً } .
مغشياً عليه ، غائباً عن وعيه .
{ فلما أفاق } . .
وثاب إلى نفسه ، وأدرك مدى طاقته ، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله :
{ قال : سبحانك } . .
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك .
{ تبت إليك } . .
عن تجاوزي للمدى في سؤالك
{ وأنا أول المؤمنين } . .
والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله ، وبما ينزله عليهم من كلماته . . وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا ، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى .
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى . . بشرى الاصطفاء ، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص . . وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص :
{ قال : يا موسى ، إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } . .
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى - عليه السلام - { اني اصطفيتك على الناس برسالاتي } . . أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه - فالرسل كانوا قبل موسى وبعده - فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة . أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى - عليه السلام - أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه ، والشكر على الاصطفاء والعطاء ، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله . والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - قدوة للناس؛ وللناس فيهم أسوة؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة؛ وإصلاحاً للقلب؛ وتحرزاً من البطر؛ واتصالاً بالله . .
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } .
.
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء
{ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم ، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ « الإنسان » وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ « الإنسان » . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، ولا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر . تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
{ سأريكم دار الفاسقين } . .
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : { يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها- : قالوا { إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ها هنا قاعدون } . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .
وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته ، يتضمن تصويراً دقيقاً لطبيعة هذا الصنف من الناس ، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس :
{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً . ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ } . .
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً . . إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها . . آياته في كتاب الكون المنظور ، وآياته في كتبه المنزلة على رسله . . ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين .
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية ، كأنما نراه بسماته وحركاته
{ الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } .
.
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً . فالكبرياء صفة الله وحده . لا يقبل فيها شريكاً . وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله ، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل ، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر . فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث . ومن ثم تجيء بقية الملامح :
{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً } . .
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته ، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها؛ كأَنما بآلية في تركيبها لا تتخلف وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير ، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر ، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً
وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه ، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه ، ودون تفكير ولا تدبير فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه ، وينشرح لطريق الغي ويتبعه وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها
وسبحان الله فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه : نعم . نعم . أعرف هذا الصنف من الخلق . . إنه فلان وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة . . إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها ، ويتكبر في الأرض بغير الحق ، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه ، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له فإنما بعمله جوزي؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك .
{ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } . .
{ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } . .
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم : حبطت الناقة . . إذا رعت نباتاً ساماً ، فانتفخ بطنها ثم نفقت . . وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة . فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوةَ ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة . . ولكن كيف تحبط هذه الأعمال؟
من ناحية الاعتقاد . . نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة؛ أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة . فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل ، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن .
.
ومن ناحية النظر . . نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر . . إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور ، أو آياته المصاحبة للرسالات ، أو التي يحملها الرسل؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر . . إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه . . لا تربطه بهذا الكون رابطة . وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه . وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع ، ولو بدا أنه قائم وناجح . لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود؛ ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله . شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول؛ فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم . . هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله - سبحانه - عن مشيئته في أمرهم ، بصرفهم عن رؤية آياته ، وتدبر سننه . . وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون . .
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود ، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة . . والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط
والأمم التي خلت شاهد واقع . ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم ، لا يأخذون منهم عبرة ، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف . . والله من ورائهم محيط . .
وبينما كان موسى - عليه السلام - في حضرة ربه ، في ذلك الموقف الفريد ، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار . . كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون ، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار - لا حياة فيه - يعبدونه من دون الله
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر . نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته :
{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسدا له خوار . ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ اتخذوه وكانوا ظالمين . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } . .
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد .
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً .
فلما خلوا إلى أنفسهم ، ورأوا عجلاً جسدا من الذهب - لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد - صنعه لهم السامري - رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه - واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران . . لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه ، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري : { هذا إلهكم وإله موسى } الذي خرج موسى لميقاته معه؛ فنسي موسى موعده معه - ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها ، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري : لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه - ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار - رب العالمين - ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم . . وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم . صورة يعجب منها القرآن الكريم؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام
{ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ اتخذوه وكانوا ظالمين؟ } . .
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر . والله خلقهم وما يصنعون؟
وكان فيهم هارون - عليه السلام - فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف . وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد - وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل
وأخيراً هدأت الهيجة ، وانكشفت الحقيقة ، وتبين السخف ، ووضح الضلال ، وجاءت نوبة الندم والإقرار :
{ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ، قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } . .
يقال : سقط في يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر . . ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا - بهذه النكسة - إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهىّ قالوا قولتهم هذه :
{ لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } . .
وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم - إلى ذلك الحين - بقية من استعداد صالح . فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد - فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم - فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته . . وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح .
كل ذلك وموسى - عليه السلام - بين يدي ربه ، في مناجاة وكلام ، لا يدري ما أحدث القوم بعده . . إلا أن ينبئه ربه . . وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر .
.
{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً . قال : بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم؟ وألقى الألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه . قال : ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني . فلا تشمت بي الأعداء ، ولا تجعلني مع القوم الظالمين . قال : رب اغفر لي ولأخي ، وأدخلنا في رحمتك ، وأنت أرحم الراحمين } . .
لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب . يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله . . يبدو في قوله لقومه :
{ بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم؟ } . .
ويبدو في فعله إذا يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه .
{ وأخذ برأس أخيه يجره إليه } . .
وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية . والنقلة بعيدة :
{ بئسما خلفتموني من بعدي } . .
تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال ، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار
{ أعجلتم أمر ربكم؟ } . .
أي استعجلتم قضاءه وعقابه أو ربما كان يعني : استعجلتم موعده وميقاته
{ وألقى الألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه } . .
وهي حركة تدل على شدة الانفعال . . فهذه الألوح هي التي كانت تحمل كلمات ربه . وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه . وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه . وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب
فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من غضبه ، ويكشف له عن طبيعة موقفه ، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم :
{ قال : ابن أم ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } . .
وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس :
{ ابن أم } . . بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة .
{ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } . . بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه .
{ فلا تشمت بي الأعداء } . . وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة ، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون
{ ولا تجعلني مع القوم الظالمين } . .
القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق؛ فأنا لم أضل ولم أكفر معهم ، وأنا بريء منهم
عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان . وعندئذ يتوجه إلى ربه ، يطلب المغفرة له ولأخيه ، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين :
{ قال : رب اغفر لي ولأخي ، وأدخلنا في رحمتك ، وأنت أرحم الراحمين } . .
وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانهّ ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى ، على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني :
{ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . وكذلك نجزي المفترين . والذين عملوا السيئات ، ثم تابوا من بعدها وآمنوا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم } . .
إنه حكم ووعد . . إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . . ذلك مع قيام القاعدة الدائمة : إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته .
. وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة؛ وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة . . وهكذا كان . فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة؛ ويسامحهم الله المرة بعد المرة . حتى انتهوا إلى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة :
{ وكذلك نجزي المفترين } . .
كل المفترين إلى يوم الدين . . فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله ، من بني إسرائيل ، ومن غير بني إسرائيل . .
ووعد الله صادق لا محالة . وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة . وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض؛ ويستعلون بنفوذهم على الأمميين - أو كما يقولون عنهم في التلمود : « الجوييم » - وأنهم يملكون سلطان المال ، وسلطان أجهزة الإعلام؛ وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون؛ وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية؛ والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم . . . إلى آخر ما نراه في هذا الزمان . . فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم ، ولا لما كتبه عليهم . . فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر؛ ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب . . إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلاً لأن الناس لم يعد لهم دين ولم يعودوا مسلمين . . إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية؛ ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الإسلامية وهم من ثم يخيبون ويفشلون؛ وتأكلهم إسرائيل غير أن هذه حال لن تدوم إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد ، والمنهج الوحيد ، والراية الوحيدة ، التي غلبوا بها ألف عام ، والتي بها يَغلبون ، وبغيرها يُغلبون إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة « الإسلامية » والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض « الإسلامية » . . ولكن هذا كله لن يدوم . . ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة . . وسيفيء أخلاف المسلمين إلى سلاح أسلافهم المسلمين . . ومن يدري فقد تصحو البشرية كلها يوماً على طغيان اليهود لتحقق وعيد الله لهم ، وتردهم إلى الذلة التي كتبها الله عليهم . . فإن لم تصح البشرية فسيصحوا أخلاف المسلمين . . هذا عندنا يقين . .
وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله ، تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد :
{ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ، وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } . .
والتعبير القرآني يشخص الغضب . فكأنما هو حي . وكأنما هو مسلط على موسى ، يدفعه ويحركه . . حتى إذا { سكت } عنه ، وتركه لشأنه عاد موسى إلى نفسه ، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه .
. ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى ، وأن فيها رحمة ، لمن يخشون ربهم ويرهبونه؛ فتتفتح قلوبهم للهدى ، وينالون به الرحمة . . والهدى ذاته رحمة . فليس أشقى من القلب الضال ، الذي لا يجد النور . وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين . . ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى؛ وتوقظها من الغفلة ، وتهيئها للاستجابة والاستقامة . . إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة . ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب؟
ويمضي السياق بالقصة ، فإذا نحن أمام مشهد جديد . المشهد الثاني عشر . مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه :
{ واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا . فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا ، وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } . .
وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات . وربما كان لإعلان التوبة ، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة - وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو : أن يقتلوا أنفسهم ، فيقتل المطيع منهم من عصى؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك ، وقبل كفارتهم - وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم . أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم ، فصيغة العبارة : { واختار موسى قومه سبعين رجلاً . . لميقاتنا } تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار . .
ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا . ذلك أنهم - كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة ، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح . . وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل ، التي تشمل خيارهم وشرارهم ، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار ، وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار
فأما موسى - عليه السلام - فقد توجه إلى ربه ، يتوسل إليه ، ويطلب المغفرة والرحمة ، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة :
{ فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } . .
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد ، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه؛ وأن يرد عنهم فتنته ، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم .
{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ } . .
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام . زيادة في طلب استبعاد الهلاك . . أي : رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا .
{ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } . .
يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين . وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :
{ أنت ولينا } . .
فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك ، ونيل مغفرتك ورحمتك :
{ فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } . .
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك } . .
رجعنا إليك ، والتجأنا إلى حماك ، وطلبنا نصرتك .
وهكذا قدم موسى - عليه السلام - لطلب المغفرة والرحمة ، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه ، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه . فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام .
ثم يجيئه الجواب :
{ قال : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } . .
تقريراً لطلاقة المشيئة ، التي تضع الناموس اختياراً ، وتجريه اختياراً : وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً ، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته ، لأنه هكذا أراد . . فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب . . وبذلك تجري مشيئته . . أما رحمته فقد وسعت كل شيء؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك : وبذلك تجري مشيئته ، ولا تجري مشيئته - سبحانه - بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل ، إذا يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء . . بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه ، والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله
{ فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد .
جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو « النبي الأمي » ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه { أولئك هم المفلحون } . .
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل- على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين
إنها الجريمة عن علم وعن بينة والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا؛ وما يزالون يصرون ويدأبون
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب ، والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد ( المستقلة ) لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية تنكر « الغيبية » لأنها « علمية » و « تطوّر » الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في « حرية » ، و « تطوّر » كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره .
كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد
وقبل أن يمضى السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة ، يقف عند هذا البلاغ المبكر ، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً ، تصديقاً لوعد الله القديم :
{ قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ، الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو يحيي ويميت . فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون } . .
إنها الرسالة الأخيرة ، فهي الرسالة الشاملة ، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل . . ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة ، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة . وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية . حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها ، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها ، وجاءت للبشر جميعاً ، لأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان . وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً . ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية - كما خرجت من يد الله - إلا تعليم الله . فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً :
{ قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } . .
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه برسالته الناس جميعاً ، هي آية مكية في سورة مكية . . وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب ، الذين يزعمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها ، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً ، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب .
ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها . . كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله . وما يزالون ماضين فيها
وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله . وأن يكون « المستشرقون » الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله . . إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم . المحاربين لهم ولعقيدتهم ، أساتذة لهم ، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه ، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه ، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم « مثقفون » . .
ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن رسالته للناس جميعاً . فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعاً بربهم الحق سبحانه :
{ الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت } . .
إنه - صلى الله عليه وسلم - رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله - وهم من هذا الوجود - والذي يتفرد بالألوهية وحده ، فالكل له عبيد . والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت . .
والذي يملك الوجود كله ، والذي له الألوهية على الخلائق وحده ، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً . هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه ، الذي يبلغه إليهم رسوله . . فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم ، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له ، وطاعتهم لرسوله :
{ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون } . .
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات :
* إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام . . ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى : { الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلا هو ، يحيي ويميت } . . فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة . كما سبقه التعريف برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعاً .
* ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه - يؤمن بالله وكلماته . . ومع أن هذه بديهية ، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها . فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه ، ووضوحه في نفسه ، ويقينه منه . لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه { الذي يؤمن بالله وكلماته } .
. وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه . .
* ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه . وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه ، واتباعه كذلك في سنته وعمله . وهو ما يقرره قول الله سبحانه : { واتبعوه لعلكم تهتدون } . . فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه فيه . ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي . . وهو الإسلام . .
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة . . إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير . . كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس . . إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه . . والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب . ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله . ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله . . فهذا هو دين الله . . وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة : { واتبعوه لعلكم تهتدون } بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله . . ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى ، لكان في قوله : { فآمنوا بالله ورسوله } الكفاية
ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل . . ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى - عليه السلام - وابتهالاته . ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة ، فعادوا إلى قومهم مؤمنين .
وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة ، يقرر حقيقة عن قوم موسى . . أنهم لم يكونوا جميعاً ضالين :
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } . .
هكذا كانوا على عهد موسى؛ وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى . . ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام ، لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي أولهم الصحابي الجليل : عبد الله بن سلام رضي الله عنه . الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي ، وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام .
وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة :
{ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً؛ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه : أن اضرب بعصاك الحجر ، فانبجست منه اثنتا عشر عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم .
وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . .
إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه - بعد أن كفروا فعبدوا العجل ، ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله ، فتاب عليهم . وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة ، فأَخذتهم الرجفة ، ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم . . تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة - أي جماعة كبيرة - ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب - وهو إسرائيل - وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية :
{ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } . .
وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم ، فلا يعتدي بعضهم على بعض .
{ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه : أن اضرب بعصاك الحجر ، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . . }
وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة ، وإنزال المن - وهو نوع من العسل البري - والسلوى ، وهو طائر السماني ، وتيسيره لهم ضماناً لطعامهم بعد ضمان شرابهم :
{ وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى } . .
وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم ، حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم :
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } . .
والرعاية واضحة في هذا كله؛ ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والاستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق : من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى . ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة . ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى :
{ وما ظلمونا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . .
وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم؛ بالمعصية عن أمر الله والالتواء عن طريقه . . وما يبلغون بهذا الالتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله - سبحانه - فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين . وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته؛ وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته . إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والالتواء ، في الدنيا وفي الآخرة سواء .
والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم؛ وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق :
{ وإذ قيل لهم : اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا : حطة ، وادخلوا الباب سجداً ، نغفر لكم خطيئاتكم ، سنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ، فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون } . .
لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل؛ وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل . ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم . . ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق ها هم أولاء يعصون الأمر ، ويبدلون القول ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها - أي مدينة كبيرة - لا يعين القرآن اسمها - لأنه لا يزيد في مغزى القصة شيئاً - وتباح لهم خيراتها جميعاً ، على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها؛ وعلى أن يدخلوا بابها سجداً ، إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء - وذلك كما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عام الفتح ساجداً على ظهر دابته - وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم .
. فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها ، ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها . . لماذا؟ تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة :
{ فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } . .
عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذاباً . . السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام . .
{ فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون } . .
وهكذا كان ظلم فريق منهم - أي كفرهم - ظلماً لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله . .
ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة . لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه . فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله ، وتحقيق النذر ، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة .
ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة . . وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه ، لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع :
{ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، إذ يعدون في السبت ، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون . وإذ قالت أمة منهم : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟ قالوا : معذرة إلى ربكم ، ولعلهم يتقون . فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم : كونوا قردة خاسئين . وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } . .
يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل ، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة . . والآيات من هنا إلى قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } آيات مدنية . نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها؛ وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع ، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى .
يأمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم .
وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال؛ ويذكرهم بعصيانهم القديم ، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا؛ وما جره عليهم جميعاً من كتابة الذل عليهم والغضب أبداً . . اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي ، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر؛ فهي معروفة للمخاطبين فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية . . وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة؛ ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش ، فجعل لهم السبت . . ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع؛ وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع . . وكان ذلك ضرورياً لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً؛ ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية ، لتعتاد الصمود والثبات . فضلاً على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله؛ ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض . . وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء . . فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض . . إنما يختلف شكل الابتلاء ، ولا تتغير فحواه
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل - في هذه المرة - للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم . . لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل ، قريبة المأخذ ، سهلة الصيد . فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم فإذا مضى السبت ، وجاءتهم أيام الحل . لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة . كما كانوا يجدونها يوم الحرم . . وهذا ما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يذكرهم به؛ ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا :
{ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر . إذ يعدون في السبت . إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } .
فأما كيف وقع لهم هذا ، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة ، وتداورهم هذه المداورة . . فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عندما يشاء الله . . والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم « قوانين الطبيعة » والأمر في التصور الإسلامي - وفي الواقع - ليس على هذا النحو . . إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون ، وأودعه القوانين التي يسيرعليها بمشيئته الطليقة . ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها . لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة .
. وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون . . وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين؛ فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين . . فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفاً لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر . . ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري فيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة . فهي لا تجري جرياناً آلياً لا تدخل لقدر الله فيه . . وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشأ الله أن تجري بغير ذلك . . وعلى أساس أن كل ما يقع - سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها - إنما يقع بقدر من الله خاص ، فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر . . ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة - كما يظن الذين لا يعلمون - ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير
على أية حال ، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل . . فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء ، فتتهاوى عزائمهم ، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم ، فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب ، وتقل التقوى ، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص ، ويراد التفلت من ظاهر النصوص . . إن القانون لا تحرسه نصوصه ، ولا يحميه حراسه . إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته ، فتحرس هي القانون وتحميه . وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية ولن تستطيع الدولة - كائناً ما كان الإرهاب فيها - أن تضع على رأس كل فرد حارساً يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته؛ ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس ، ومراقبتهم له في السر والعلن . .
من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية . وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله . . ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها . وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها
وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت ، الذي حرم عليهم الصيد فيه . . وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوّطون عليه في يوم السبت؛ حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه؛ وقالوا : إنهم لم يصطادوه في السبت ، فقد كان في الماء - وراء الحواجيز - غير مصيد
وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال
بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر : ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة ، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب؟
{ وإذ قالت أمة منهم : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟ } .
فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم ، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم . بعدما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد؛ بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله .
{ قالوا : معذرة إلى ربكم ، ولعلهم يتقون } . .
فهو واجب نؤديه : واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتخويف من انتهاك الحرمات ، لنبلغ إلى الله عذرنا ، ويعلم أن قد أدينا واجبنا . ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى .
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق . . أو ثلاث أمم . . فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة ، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث ، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام ، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة
وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم : أمة عاصية محتالة . وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة . وأمة تدع المنكر وأهله ، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي . . وهي طرائق متعددة من التصور والحركة ، تجعل الفرق الثلاث أمماً ثلاثاً
فلما لم يجد النصح ، ولم تنفع العظة ، وسدر السادرون في غيهم ، حقت كلمة الله ، وتحققت نذره . فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء . وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه . فأما الفرقة الثالثة - أو الأمة الثالثة - فقد سكت النص عنها . . ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي ، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي . فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب :
{ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم : كونوا قردة خاسئين } . .
لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين ، جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر ، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق؛ وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر - كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية لقد تنازلوا هم عن آدميتهم ، حين تنازلوا عن أخص خصائصها - وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة - وانتكسوا إلى عالم « الحيوان » حين تخلوا عن خصائص « الإنسان » .
فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان
أما كيف صاروا قردة؛ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟ . . . إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير . . . فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم؛ وليس وراءه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء . . فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه .
لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء؛ كما يجري بها التحوير والتغيير . . كلمة « كن » .
{ قلنا لهم : كونوا قردة خاسئين } . .
فكانوا قردة مهينين . كما جرى القول الذي لا راد له؛ ولا يعجز قائله عن شيء سبحانه
ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع - إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه - بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي؛ وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه :
{ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم } . .
فهو إذْنُ الأبد الذي تحقق منذ صدروه؛ فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب . والذي سيظل نافذاً في عمومه ، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب . وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا ، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة ، الناكثة العاصية ، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية؛ ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف . .
ولقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توقفت ، وأن يهود قد عزت واستطالت وإن هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ . . ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية ، وما بعدها إلى يوم القيامة .
لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة - كما أخبر الله نبيه في قرآنه - معقباً على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة .
{ إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم } . .
فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب - كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر - وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل ، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، في التوراة والإنجيل . . فليس عذابه - سبحانه - عن نقمة ولا إحنة . إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه ، ووراءه المغفرة والرحمة . .
ثم تمضي خطوات القصة مع خطوات التاريخ ، من بعد موسى وخلفائه ، مع الأجيال التالية في بني إسرائيل إلى الجيل الذي كان يواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة :
{ وقطعناهم في الأرض أمماً .
. منهم الصالحون ومنهم دون ذلك . . وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون : سيغفر لنا . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه ، والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة ، إنا لا نضيع أجر المصلحين } . .
وهذه بقية الآيات المدنية الواردة في هذا السياق تكملة لقصة بني إسرائيل من بعد موسى . . ذلك حين تفرق اليهود في الأرض؛ جماعات مختلفة المذاهب والتصورات ، مختلفة المشارب والمسالك . فكان منهم الصالحون وكان منهم من هم دون الصلاح . وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات . تارة بالنعماء وتارة بالبأساء ، لعلهم يرجعون إلى ربهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويستقيمون على طريقهم :
{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } . .
والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد ، وتذكير دائم لهم ، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار . .
{ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون : سيغفر لنا . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } . .
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى : أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه . . ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم . . شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ . . وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ، ثم تأولوا وقالوا : { سيغفر لنا } . . وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد
ويسأل سؤال استنكار :
{ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق؟ ودرسوا ما فيه؟ } .
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص ، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق . . فما بالهم يقولون : { سيغفر لنا } ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم ، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً؛ ويقلعون عن المعصية فعلاً؛ وليس هذا حالهم ، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه
بلى ولكن الدراسة لا تجدي ما لم تخالط القلوب . وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد . إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا . . وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة؛ ولا يأخذونه عقيدة؛ ولا يتقون الله ولا يرهبونه؟
{ والدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون؟ } .
نعم إنها الدار الآخرة إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة .
وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا . . نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها . . وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي؟ وما الذي يهدئ فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى؟ والشر يتبجح والباطل يطغى؟
لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى ، إلا اليقين في الآخرة ، وأنها خير للذين يتقون ، ويعفون ، ويترفعون ، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن ، ويمضون في الطريق لا يتلفتون . . مطمئنين واثقين ، ملء قلوبهم اليقين . .
وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة « الاشتراكية العلمية » أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا؛ ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه : « العلمية » . .
ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة ، وتفسد النفوس؛ وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين . . ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان . وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال . .
إن « العلمية » التي تناقض « الغيبية » جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر . جهالة يرجع عنها « العلم البشري » ذاته ، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال جهالة تناقض فطرة « الإنسان » ومن ثم تفسد « الحياة » ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها . ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف والذي تردده الببغاوات هنا وهناك ، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك
ولأن قضية الآخرة ، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة ، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى . . عرض الحياة الدنيا . . إلى العقل :
{ والدار الآخرة خير للذين يتقون . . أفلا تعقلون؟ } . .
ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى . . ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هو الذي يقضي . . لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى . ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً :
{ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة ، إنا لا نضيع أجر المصلحين } .
وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه؛ ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه ، ولا يعملون به ، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم؛ ولا في سلوكهم وحياتهم .
. غير أن الآية تبقى - من وراء ذلك التعريض - مطلقة ، تعطي مدلولها كاملاً ، لكل جيل ولكل حالة .
إن الصيغة اللفظية : { يمسكون } . . تصور مدلولاً يكاد يحس ويرى . . إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة . . الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه . . في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت . . فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر . . إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون « الواقع » هو الحكم في شريعة الله فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله
والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة . . والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً . إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة ، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس . فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس ، ولا تصلح بسواه . . والإشارة إلى الإصلاح في الآية :
{ إنا لا نضيع أجر المصلحين } . .
يشير إلى هذه الحقيقة . . حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً ، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين .
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني . . ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص ، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب ، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله . .
إنه منهج متكامل . يقيم الحكم على أساس الكتاب؛ ويقيم القلب على أساس العبادة . . ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب ، وتصلح الحياة .
إنه منهج الله ، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر ، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب
وفي ختام حلقات القصة في هذه السورة يذكر كيف كان الله قد أخذ على بني إسرائيل الميثاق :
{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم . خذوا ما آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } .
إنه ميثاق لا ينسى . . فقد أخذ في ظرف لا ينسى أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق؛ فأعطوه في ظل خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس . ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية ، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة ، وألا يتخاذلوا ولا يتهاونوا ولا يتراجعوا في ميثاقهم الوثيق ، وأن يظلوا ذاكرين لما فيه ، لعل قلوبهم تخشع وتتقي . وتظل موصولة بالله لا تنساه
ولكن إسرائيل هي إسرائيل نقضت الميثاق ، ونسيت الله ، ولجت في المعصية ، حتى استحقت غضب الله ولعنته . وحق عليها القول ، بعدما اختارها الله على العالمين في زمانها ، وأفاء عليها من عطاياه . فلم تشكر النعمة ، ولم ترع العهد ، ولم تذكر الميثاق . . وما ربك بظلام للعبيد . .
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
هذا الدرس كله يدور حول قضية التوحيد والشرك . . بعدما دار قصص السورة كله حول هذه القضية ، متخذاً صورة التذكير من الرسل جميعاً بحقيقة التوحيد ، والتحذير من عاقبة الشرك؛ ثم تحقق النذر بعد التذكير والتحذير .
فالآن في هذا الدرس تعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة ، وزاوية عميقة . . تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر؛ وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم ، وذات تكوينهم؛ وهم بعد في عالم الذر . . إن الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري . فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته ، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة . أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى ، فيحتاجون إلى التذكير والتحذير . . إن التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى ، فلا حجة لهم في نقض الميثاق - حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم - ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف؛ وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل؛ وأن يبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
ومن هذه الزاوية ، التي تعرض منها قضية التوحيد في هذا الدرس ، يتخذ السياق خطوطاً شتى حول هذه القضية الكبرى .
منها خط قصصي عن حالة ترد بعض الروايات بأنها وقعت في تاريخ بني إسرائيل . . ولكن الأرجح أنها نموذج غير مقيد بزمان ولا مكان ، إنما هو تصوير لحالة مكرورة في النفوس والتاريخ . كلما أوتي بعض الناس نصيباً من العلم كان خليقاً أن يقوده إلى الحق والهدى ، فإذا هو ينسلخ مما أوتي من العلم ، فلا ينتفع به شيئاً ، ويسير في طريق الضلالة كمن لم يؤتوا من العلم شيئاً . بل يصير أنكد وأضل وأشقى بهذا العلم الذي لم تخالطه بشاشة الإيمان ، الذي يحول هذا العلم إلى مشكاة هادية في ظلام الطريق
ومنها خط قصصي آخر عن حالة تصويرية لخطوات انحراف الفطرة من التوحيد إلى الشرك . . ممثلة في زوجين من البشر ، يرجوان الخير في الجنين القادم لهما؟ وتتجه فطرتهما إلى الله ربهما ، ويقطعان لله العهود لئن آتاهما خلفاً صالحاً ليكونن من الشاكرين . . ثم تزيغ قلوبهما بعد أن يستجيب الله لهما ، فإذا هما يجعلان لله شركاء فيما آتاهما
ومنها خط تصويري لتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية في الكينونة البشرية ، حتى تنتهي إلى الضلال الذي يهبط بالبشر عن مرتبة الأنعام ، ويجعلهم وقوداً لجهنم عن جدارة واستحقاق . . فتكون لهم قلوب لا يفقهون بها ، وتكون لهم أعين لا يبصرون بها ، وتكون لهم آذان لا يسمعون بها . . ويكون وراء ذلك الضلال الذي لا رجعة منه ولا مآب
ومنها خط إيحائي لاستجاشة هذه الأجهزة المعطلة ، وإيقاظها للتدبر والتفكر ، وتوجيهها إلى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ، ولمسها بالأجل المغيب الذي يكمن وراءه الموت ، ودعوتها إلى النظر في حال هذا الرسول الكريم الذي يدعو إلى الهدى ، فيرميه الضالون بالجنون
ومنها خط جدلي حول آلهتهم المدعاة ، وهي مجردة من خصائص الألوهية ، بل من خصائص الحياة
وينتهي هذا كله بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تحديهم وتحدي آلهتهم ، وإعلان مفاصلته ومفارقته لهم ولمعبوداتهم وعبادتهم ، والالتجاء إلى الولي الذي لا ولي غيره : { الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } .
.
ولقد كانت نهاية الدرس السابقة في قصة بني إسرائيل هي مشهد الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظل الجبل المرفوع . فهذا الدرس الجديد يتابعه فيبدأ بقضية الميثاق الأكبر الذي أخذه الله على فطرة البشر . في مشهد لا يدانيه في الجلال والروعة مشهد الجبل المرفوع
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل . وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ . . وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } . .
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد - على طريقة القرآن الغالبة - وإنه لمشهد فريد . . مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق ، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود ، تؤخذ في قبضة الخالق المربي ، فيسألها : { ألست بربكم؟ } . . فتعترف له - سبحانه - بالربوبية؛ وتقر له - سبحانه - بالعبودية؛ وتشهد له - سبحانه - بالوحدانية؛ وهي منثورة كالذر؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم
إنه مشهد كوني رائع باهر ، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى ، وهي تجمع وتقبض . وهي تخاطب خطاب العقلاء - بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع - وهي تستجيب استجابة العقلاء ، فتعترف وتقر وتشهد؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب
وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد . وهو يتمثل الذر السابح . وفي كل خلية حياة . وفي كل خلية استعداد كامن . وفي كل خلية كائن إنسان مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول ، ويقطع على نفسه العهد والميثاق ، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد ، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود .
. عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان ، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة . فإذا « العلم » يقرر أن الناسلات ، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل « الإنسان » وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب . . أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها - لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال وصدق الله العظيم : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال : « مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : { ألست بربكم؟ قالوا : بلى } . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم : { ألست بربكم } وكيف أجابوا : { بلى شهدنا } ؟ . . فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . . } { ثم استوى على العرش } { يمحو الله ما يشاء ويثبت } { والسماوات مطويات بيمينه } { وجاء ربك والملك صفاً صفا } { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطاً شديداً
على أن هناك تفسيراً لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا : ولهذا قال : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } ولم يقل : من آدم . . { من ظهورهم } . . ولم يقل من ظهره . . { ذرياتهم } أي جعل نسلهم جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، كقوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض } وقال : { ويجعلكم خلفاء الأرض } وقال : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } ثم قال : { وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى } أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : { قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } وتارة تكون حالاً كقوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالى : { وإنه على ذلك لشهيد } كما أن السؤال تارة يكون بالمقال وتارة يكون بالحال . كقوله : { وآتاكم من كل ما سألتموه } قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال : { أن تقولوا } . . أي لئلا تقولوا { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } . أي التوحيد . . { غافلين ، أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا } . . . الآية ) .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي :
في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية . » على هذه الملة « - فأَبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ » .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى ، أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتد عليه ، ثم قال :
« ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ » فقال رجل : يا رسول الله . أليسوا أبناء المشركين؟ فقال : « إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة . فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها » . قال الحسن : لقد قال في كتابه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } . . . الآية .
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم . . الآيات } على وجهه لا على سبيل الحال . لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه . وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه . . ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير ، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية . . والله أعلم أي ذلك كان . .
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده . وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة؛ يخرج بها كل مولود إلى الوجود؛ فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال . وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة « الإنسان » وحده؛ ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله - وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله . موصولة به غير منقطعة عنه ، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه - بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة . .
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود ، واضح الأثر في شكل الكون ، وتنسيقه ، وتناسق أجزائه ، وانتظام حركته ، واطراد قوانينه ، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين . . وأخيراً - حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر - وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته ، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها . .
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون ، وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته - في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة - ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني - الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية - في تقرير هذا الناموس . إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس . واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة ، على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق . والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة ، الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه .
كما أنه لا يدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه ، واعترافه بوحدانيته ، وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به؛ وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله - بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة - سارٍ كذلك في كيان الإنسان - بوصفه من كائنات هذا الكون - مستقر في فطرته ، لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به؛ فهو مدرك بالفطرة ، مستقر في صميمها ، تستشعره بذاتها ، وتتصرف وفقه ، ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد ، فتنحرف عن إدراكها الذاتي له ، وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها ، بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم .
هذا الناموس - بذاته - هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها . ميثاق مودع في كيانها ، مودع في كل خلية حية منذ نشأتها . وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات . وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد ، ذي المشيئة الواحدة ، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها . فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها - سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار - لا سبيل إلى أن يقول أحد : إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد . وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد . أو يقول : إنني خرجت إلى هذا الوجود ، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد . إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة :
{ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ } .
ولكن الله - سبحانه - رحمة منه بعباده ، - لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أُضلوا ، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف - كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعل شياطين الجن والإنس؛ الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف . .
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا؛ كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به؛ حتى يرسل إليهم الرسل ، ويفصل لهم الآيات ، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف ، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات . ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات؛ ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها . ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة :
{ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } . .
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله؛ وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك .
فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب؛ وردها إلى بارئها الوحيد ، الذي فطرها على عقيدة التوحيد . ثم رحمها فأرسل إليها بالآيات للتذكير والتحذير .
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة ، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها ، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها . . ذلك الذي آتاه الله آياته ، فكانت في متناول نظره وفكره؛ ولكنه انسلخ منها ، وتعرى عنها ولصق بالأرض ، واتبع الهوى؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول ، ولا بالآيات الهادية؛ فاستولى عليه الشيطان؛ وأمسى مطروداً من حمى الله ، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار . .
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة إنما يصوره في مشهد حي متحرك ، عنيف الحركة ، شاخص السمات ، بارز الملامح ، واضح الانفعالات؛ يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة ، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية .
{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان ، فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب . . إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } . .
إنه مشهد من المشاهد العجيبة ، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات . .
إنسان يؤتيه الله آياته ، ويخلع عليه من فضله ، ويكسوه من علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً . ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه؛ فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة ، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه . . أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان؟ . . ها هو ذا ينسلخ من آيات الله؛ ويتجرد من الغطاء الواقي ، والدرع الحامي؛ وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى؛ ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم؛ فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق ، ولا يحميه منه حام؛ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . . إذا نحن بهذا المخلوق ، لاصقاً بالأرض ، ملوثاً بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب ، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى؛ والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع . . سمع التعليق المرهوب الموحي ، على المشهد كله :
{ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } . .
ذلك مثلهم فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان ، هابطون عن مكان « الإنسان » إلى مكان الحيوان . . مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين .
. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم ، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين
{ ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } . .
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض ، الحائر القلق ، اللاهث لهاث الكلب أبداً
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد؛ إلا هذا القرآن العجيب الفريد
وبعد . . فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً . فهو من هذا الجانب خبر يروى؟
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحاً في فلسطين - قبل دخول بني إسرائيل - وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره؛ على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير ، أن يكون واحدة منها؛ ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها؛ ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر . . فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل ( بلعام بن باعوراء ) ، وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة . وروي أنه كان من العرب ( أمية بن الصلت ) . وروي أنه كان من المعاصرين لبعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( أبو عامر الفاسق ) وروي أنه كان معاصراً لموسى عليه السلام . وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول ، وقولهم لموسى - عليه السلام - ما حكاه القرآن الكريم : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان ( اسم الله العظيم ) الذي يدعو به فيجاب؛ كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبياً . . ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى . .
لذلك رأينا - على منهجنا في ظلال القرآن - ألا ندخل في شيء من هذا كله . بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء . ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه شيء . وأن نأخذ من النبأ ما وراءه . فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها . . وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر؛ ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ، ثم لا يهتدون به ، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه .
واتباع الهوى به . . هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا .
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها . ويعلن غيرها . ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة ، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول : إن التشريع حق من حقوق الله - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية . ومن ادعى الألوهية فقد كفر . ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً . . ومع ذلك . . مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع ، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . . ممن حكم عليهم هو بالكفر ويسميهم « المسلمين » ويسمي ما يزاولونه إسلاماً لإ إسلام بعده . . ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً؛ ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر . . ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس ، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه . .
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟ وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ : { ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } . . ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته . ولكنه - سبحانه - لم يشأ ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، ولم يتبع الآيات . .
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله؛ فلم ينتفع بهذا العلم؛ ولم يستقم على طريق الإيمان . وانسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها . ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً . والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه؛ فهو منطلق فيه أبداً
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة . . حتى إنه لتمر فترات كثيرة ، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله . فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله ، ممن لا ينسلخون من آيات الله ، ولا يخلدون إلى الأرض؛ ولا يتبعون الهوى؛ ولا يستذلهم الشيطان؛ ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان . . فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده؛ وما هو بمحصور في قصة وقعت ، في جيل من الزمان
وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله ، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها .
ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى ، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة؛ وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً؛ وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو . فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة
ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه؛ أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا
اللهم اعصمنا ، وثبت أقدامنا ، وأفرغ علينا صبراً ، وتوفنا مسلمين . .
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى . .
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها؛ وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى . .
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية ، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة؛ ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً . .
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة « نظرية » للدراسة . . فهذا مجرد علم لا ينشئ في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً . . إنه علم بارد لا يعصم من الهوى ، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً . ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في « النظام الإسلامي » ولا في « الفقه الإسلامي » ولا في « الاقتصاد الإسلامي » ولا في « العلوم الكونية » ولا في « العلوم النفسية » ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية .
إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية؛ تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل؛ وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع؛ وتوقظ أَجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول؛ وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً .
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر؛ يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر ، لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء ، وثقلة الأبدان ، وإغواء الشيطان
ويقدمه ميزاناً للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم ، وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم ، فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه؛ وما رفضه هذا الميزان كان خاطئاً يجب الإقلاع عنه .
ويقدمه منهجاً للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة . وفق خطاه هو ووفق تقديراته . . وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم ، وأصول شريعتهم ، وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم . ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية ، وعلومهم الكونية والنفسية ، وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية . . يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها ، وجدية الشريعة وواقعيتها؛ واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها .
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية . . أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة . فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان؛ ولا يقدم للحياة البشرية خيراً
ويقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب على ذلك المثل الشاخص في ذلك المشهد ، للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، بأن الهدى هدى الله . فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً؛ ومن أضله الله فهو الخاسر الذي لا يربح شيئاً :
{ من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } . .
والله سبحانه يهدي من يجاهد ليهتدي ، كما قال تعالى في السورة الأخرى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وكما قال : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وكما قال : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } كذلك يضل الله من يبغي الضلال لنفسه ويعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها . وذلك كما جاء في الآية التالية في السياق : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون } . . وكما قال تعالى : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً } وكما قال : { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ، ولا ليهديهم طريقاً ، إلا طريق جهنم خالدين فيها . . . } ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال ، والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية ، والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً . .
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني ، هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال . . وذلك مع إيداع فطرته إدراك الحقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها . ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل . . ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به ، وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره .
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى . وأن يجري قدر الله كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل وما أعطاه من أجهزة الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون ، وفي رسالات الرسل ، الموحية بالهدى .
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة الله ولا يتحقق سواها ، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقوة سواه . وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن الله شاءه هكذا . وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر الله . فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور ، كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر الله ينشئ الأحداث . . وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه ، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً . .
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة ، حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل ، وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر ، على سبيل الاحتجاج والجدل
وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا :
{ من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } .
يقرر أن من يهديه الله - وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة - فهو المهتدي حقاً ، الواصل يقيناً ، الذي يعرف الطريق ، ويسير على الصراط ، ويصل إلى الفلاح في الآخرة . . وأن الذي يضله الله - وفق سنته تلك - فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً . . مهما ملك ، ومهما أخذ؛ فكل ذلك هباء أو هواء وإنه لكذلك إذا نظرنا إليه من زواية أن هذا الضال قد خسر نفسه . وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه؟
ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية :
{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون } . .
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم وهم مهيأون لها فما بالهم كذلك؟
هنالك اعتباران :
الاعتبار الأول : أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني : أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية :
{ لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها } .
.
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذاتهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون :
{ أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون } . .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة؛ والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها؛ ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها؛ ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك ، وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا
وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد؛ واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها . . يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين - الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام بالشرك - الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها ، فيسمون بها الشركاء المزعومين :
{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون } . .
والإلحاد هو الانحراف أو التحريف . . وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى ، فسموا بها آلهتهم المدعاة . . حرفوا اسم « الله » فسموا به « اللات » . واسم « العزيز » فسموا به « العزى » . . فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده . وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها ، دون تحريف ولا ميل؛ وأن يدعوا المحرفين المنحرفين؛ فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد . فأمرهم موكول إلى الله؛ وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه . . وياله من وعيد . .
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله؛ لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية ، ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة . . إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره . . ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق . كالذين يدّعون له الولد . وكالذين يدّعون أن مشيئته - سبحانه - مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر - وهو سبحانه ليس كمثله شيء - وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء ، وفي تصريف نظام الكون ، وفي حساب الناس في الآخرة .
ولكنه ليس إلهاً في الأرض ، ولا في حياة الناس ، فليس له - في زعمهم - أن يشرع لحياة الناس؛ إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم . أو بعضهم آلهة بعض . . وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته . . والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله ، والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون
ثم يمضي السياق يفصل صنوف الخلق . . بعدما ذكر منهم من قبل أولئك الذين ذرأهم الله لجهنم { لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . . } ومنهم هؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها . . ثم إن منهم أمة يستمسكون بالحق ، ويدعون الناس إليه ، ويحكمون به ولا ينحرفون عنه . . وأمة - على الضد - ينكرون الحق ، ويكذبون بآيات الله فأما الأولون فيقرر وجودهم في الأرض وجوداً ثابتاً لا شك فيه؛ وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون ، ويزيغ عنه الزائغون؛ وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين . وأما الآخرون فيكشف عن مصير لهم مخيف ، وكيد لله إزاءهم متين :
{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ، وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين } . .
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائماً - وفي أحلك الظروف - تلك الجماعة - التي يسميها الله { أمة } بالمصطلح الإسلامي للأمة وهي : الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها؛ وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة - فهذه الأمة الثابتة على الحق؛ العاملة به في كل حين ، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض ، الشاهدة بعهده على الناس ، التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل .
ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة :
{ يهدون بالحق . وبه يعدلون } . .
إن صفة هذه الأمة - التي لا ينقطع وجودها من الأرض أياً كان عددها - أنهم { يهدون بالحق } . . فهم دعاة إلى الحق ، لا يسكتون عن الدعوة به ، وإليه ، ولا يتقوقعون على أنفسهم؛ ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه . ولكنهم يهدون به غيرهم . فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق المتنكرين لذلك العهد؛ ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق؛ إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه .
{ وبه يعدلون } . . فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم ، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق . . فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس .
ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرَّف إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله . يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه . ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه . ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة . ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه . ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه . . . وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس ، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق . . وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به . .
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس صلبة لا تقبل التمييع والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة . . وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهوداً لا تكل ، وحملات لا تنقطع ، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته ، كل الوسائل وكل الأجهزة ، وكل التجارب . . هم يسحقون سحقاً وحشياً كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرضَ وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويحلون ما حرم الله ، ويميعون ما شرعه ، ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية ، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع ، ورفع شعاراتها ، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا تمكن إعادته ، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين ، ثم ليقولوا لهم - في ظل هذا التخدير- : إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة ، لا شريعة ونظاماً ، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم هذا وإلا فإن على هذا الدين أن « يتطور » فيصبح محكوماً بواقع البشر ، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين . وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم - الذي كان إسلامياً - نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين ، لتحل محل ذلك الدين القديم وينزّلون لها قرآناً يتلى ويدرس ، ليحل محل ذلك القرآن القديم وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات - كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين - كوسيلة أخيرة ، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به؛ فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور ، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد ، كي لا يفيق ، بعد اللقمة والجنس ، ليستمع إلى هدى ، أو يفيء إلى دين
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به .
. المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج ، وجميع الوسائل بلا حساب؛ والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية؛ والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية؛ والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوماً واحداً لولا هذه الكفالة العالمية
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية . والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق - على قلة العدد وضعف العدة - وما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية . . والله غالب على أمره .
{ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأملي لهم إن كيدي متين } . .
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته . . هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله . . إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون . ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين . . فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين . . إنهم يتولى بعضهم بعضاً ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى . . إنها سنة الله مع المكذبين . . يرخى لهم العنان ، ويملى لهم في العصيان والطغيان ، استدراجاً لهم في طريق الهلكة ، وإمعاناً في الكيد لهم والتدبير . ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين ولكنهم غافلون والعاقبة للمتقين . الذين يهدون بالحق وبه يعدلون . .
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصلطح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول ، وهم غافلون :
{ أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون } ؟ .
إن القرآن يهزهم من غفوتهم ، ويوقظهم من غفلتهم ، ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها ، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنياً بارداً؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها :
{ أو لم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين } . .
لقد كانوا يقولون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير : إن محمداً به جنة .
وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة ، ليالي ثلاثاً ، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تأمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما معه من القرآن؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود : إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري على العموم
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم ، عن الصلة بين التنبؤ والجنون والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد ، إنما يقوله عن جنة به؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول ، لأنه مجنون
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاً عن السواء؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق ، كما شهدوا له بالحكمة؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله ، المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة؟ . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون؟ . . كلا :
{ ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين } . .
لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين . ولا تشتبه حاله بحال المجانين .
ثم . .
{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟ } . .
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب .
. والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم ، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام ، وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه ، والإبداع الذي يشهد به ، والإعجاز الذي يدل على البارئ الواحد القدير . . والنظر إلى ما خلق الله من شيء - وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء - يدهش القلب ويحير الفكر ، ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله ، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور .
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به؛ ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة؟ لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى؟ لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها؟ ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد ، الصادر عن الإرادة الواحدة ، التي يجري بها قدر مطرد مقصود؟
إن الجسم الحي . لا بل الخلية الحية . لمعجزة لا ينقضي منها العجب . . وجودها . تركيبها . تصرفها . عمليات التحول الدائمة التي تتم فيها كل لحظة مع محافظتها على وجودها؛ وتضمنها كذلك لوسيلة التجدد في أنسال منها؛ ومعرفتها لوظيفتها ولامتداد هذه الوظيفة في أنسالها . . فمن ذا الذي ينظر إلى هذه الخلية الواحدة ، ثم يطمئن عقله - بل فطرته وضميره - إلى أن هذا الكون بلا إله ، أو أن هناك آلهة مع الله؟
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهداً يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر . . وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائماً في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج؟ لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكوراً فقط أو إناثاً فقط . . ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل . . فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائماً في الأجيال جميعاً؟
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعاً - لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها - إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء . . ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائماً لحظة فمن الذي يمسك بعجله التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعاً؟
وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء . . ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها؛ وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق . ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقياً موحياً هادياً .
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته - وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه - إلى أن له إلهاً . ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة . إنما كان يخطئ في تحديد صفة الإله الحق ، حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة . . فأما الملحدون الجدد - أصحاب « الاشتراكية العلمية » - فهم أمساخ شائهو الفطرة . بل إنهم إنما ينكرون الفطرة ، ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها . . وعندما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي ، ورأى ذلك المشهد الباهر - مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء - هتفت فطرته : ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء؟ ولكنه حين هبط إلى الأرض ، وتذكر إرهاب الدولة ، قال : إنه لم يجد الله هناك وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه ، أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض
إن الله الذي يخاطب الإنسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الإنسان ، والذي يعلم فطرة هذا الإنسان
وأخيراً يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون مخبأ لهم - من قريب - في عالم المجهول المغيب؛ وهم عنه غافلون :
{ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } . .
فما يدريهم أن أجلهم قريب؟ وما يبقيهم في غفلتهم سادرين؛ وهم عن غيب الله محجوبون؟ وهم في قبضته لا يفلتون؟
إن هذه اللسمة بالأجل المغيب - الذي قد يكون قد اقترب - لتهز القلب البشري هزة عميقة لعله أن يستيقظ ويتفتح ويرى . . والله منزل هذا القرآن وخالق هذا الإنسان يعلم أن هذه اللمسة لا تبقي قلباً غافلاً . . ولكن بعض القلوب قد يعاند بعد ذلك ويكابر
{ فبأي حديث بعده يؤمنون؟ }
وما بعد هذه الحديث من حديث تهتز له القلوب أو تلين . .
إن هذه اللمسات التي تعددت في الآية الواحدة؛ لتكشف لنا عن منهج هذا القرآن في خطاب الكينونة البشرية . . إنه لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه ، ولا يدع وتراً منها واحداً لا يوقع عليه؛ إنه لا يخاطب الذهن ولكنه لا يهمله؛ ففي الطريق - وهو يهز الكيان البشري كله - يلسمه ويوقظه . إنه لا يسلك إليه طريق الجدل البارد ، ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر وحرارة الحياة تسري فيه وتيارها الدافق . . وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة إلى الله دائماً . . فالإنسان هو الإنسان لم يتبدل خلقاً آخر . والقرآن هو القرآن كلام الله الباقي ، وخطاب الله لهذا الإنسان لا يتغير . . مهما تعلم ومهما « تطور » . .
وهنا يقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب . . يقرر فيها سنة الله الجارية بالهدى والضلال؛ وفق ما أرادته مشيئته من هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه؛ وإضلال من يصرف قلبه عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان . وذلك بمناسبة ما عرضه السياق قبل ذلك من حال أولئك القوم الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن؛ على طريقة القرآن الكريم في عرض القاعدة العامة بمناسبة المثل الفريد؛ ومن بيان السنة الثابتة بمناسبة الحادث العابر :
{ من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون } .
.
إن الذين يضلون ، إنما يضلون لأنهم غافلون عن النظر والتدبر . ومن يغفل عن النظر في آيات الله وتدبرها يضله الله؛ ومن يضله الله لا يهديه أحد من بعده :
{ من يضلل الله فلا هادي له } . .
ومن يكتب الله عليه الضلال - وفق سنته تلك - يظل في طغيانه عن الحق وعماه عنه أبداً :
{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون } . .
وما في تركهم في عماهم من ظلم ، فهم الذين أغلقوا بصائرهم وأبصارهم ، وهم الذين عطلوا قلوبهم وجوارحهم ، وهم الذين غفلوا عن بدائع الخلق وأسرار الوجود ، وشهادة الأشياء - التي يوجههم إليها في الآية السابقة - وحيثما امتد البصر في هذا الكون وجد عجيبة ، وحيثما فتحت العين وقعت على آية ، وحيثما التفت الإنسان إلى نفسه أو إلى ما يحيط به ، لمس الإعجاز في تكوينه وفيما حوله من شيء . فإذا عمه - أي عمي - عن هذا كله ، ترك في عماه ، وإذا طغى بعد هذا كله وتجاوز الحق ترك في طغيانه حتى يسلمه إلى البوار :
{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون } . .
هؤلاء الغافلون عما حولهم ، العميُ عما يحيط بهم . . يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول . كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد
{ يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } . .
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجئ المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة . . ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم - عليه السلام - وهو جد هؤلاء المشركين؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل . حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم ، فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم . حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : { وقال الذين كفروا : هل ندلكم على رجل ينبئكم ، إذا مزقتم كل ممزق ، إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذباً؟ أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد }
[ سبأ : 7 - 8 ] .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها - كما هي وظيفة الأمة المسلمة - إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها . . فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشئ أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة . . كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة . . وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة . .
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس « الإنسان » ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك « الحيوان » وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة
لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله . . ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح . . . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً . . وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
{ يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ }
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه . . ولكن المشركين يسألون الرسول عنها . . إما سؤال المختبر الممتحن وإما سؤال المتعجب المستغرب وإما سؤال المستهين المستهتر { أيان مرساها؟ } . . أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو؟
والرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يدعي علم الغيب ، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه ، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية ، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها ، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء :
{ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو } .
فهو - سبحانه - مختص بعلمها ، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها ، ولا يكشف غيره عنها .
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها ، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها ، وإلى الشعور بهولها وضخامتها .
. ألا وإن أمرها لعظيم ، ألا وإن عبئها لثقيل . ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين . وهي - بعد ذلك - لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون :
{ ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة } . .
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة؛ فلا ينفع معها الحذر ، ولا تجدي عندها الحيطة ، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها ، وما لم يستعدوا لها ، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية . وما يدري أحد متى تجيء ، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع ، وألا يضيع بعد ساعة ، قد تفجؤه بعدها الساعة
ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة . . إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية ، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم .
{ يسألونك كأنك حفي عنها }
أي كأنك دائم السؤال عنها مكلف أن تكشف عن موعدها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه :
{ قل : إنما علمها عند الله } . .
قد اختص سبحانه به؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . .
وليس الأمر أمر الساعة وحده . إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب . لا يطلع على شيء منه إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء ، في الوقت الذي يشاء . . لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . . فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم ، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم . وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } والشاعر الذي يقول :
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ... ومن أين والغايات بعد المذاهب
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول . ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم ، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد ، وأمام ستر الغيب المسدل ، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو؛ وقربه من ربه هو قربه ، مأمور أن يعلن للناس أنه أمام غيب الله بشر من البشر ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، لأنه لا يطلع على الغيب ، ولا يعرف الغايات قبل المذاهب ، ولا يرى مآل أفعاله؛ ومن ثم لا يملك أن يختار عاقبة فعله بحيث إن رأى العاقبة المغيبة خيراً أقدم ، وإن رآها سوءاً أحجم . إنما هو يعمل ، والعاقبة تجيء كما قدر الله في غيبه المكنون :
{ قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } .
.
وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامي كل خصائص التجريد المطلق ، من الشرك في أية صورة من صوره . وتتفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شيء منها . ولو كان هذا البشر محمداً رسول الله وحبيبه ومصطفاه - عليه صلوات الله وسلامه - فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشري . وعند حدود البشرية يقف شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتحدد وظيفته :
{ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } . .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - نذير وبشير للناس أجمعين . ولكن الذين { يؤمنون } هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة؛ فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه؛ وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به . ثم هم بعد ذلك خلاصة البشرية كلها ، كما أنهم هم الذين يخلص بهم الرسول من الناس أجمعين . .
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها ، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها ، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه ، ولا يكشف أسراره ، ولا يعطي ثماره ، إلا لقوم يؤمنون . ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن . . وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق ، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك ، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان .
لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن ، ومن نوره ، ومن فرقانه ، ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل . ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان ، لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان
لقد عاشوا بهذا القرآن ، وعاشوا له كذلك . . ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر - بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى - في التاريخ كله . . اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب
لقد خلصوا لهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، فلم تشب نبعه الرائق شائبة من قول البشر ، اللهم إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه . . وقد كان من نبع القرآن ذاته كذلك . . ومن ثم كان ذلك الجيل المتفرد ما كان .
وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه ، فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان ، لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان
ثم جولة جديدة في قضية التوحيد . تأخذ في أولها صورة القصة ، لتصوير خطوات الانحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس . وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم .
ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها ، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير . وتختم بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده ، وليه وناصره :
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون؟ }
{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها؟ أم لهم أيد يبطشون بها؟ أم لهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } . .
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال؛ ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى؛ وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به . فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين } . .
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها . . أن يتوجهوا إلى الله ربهم ، معترفين له بالربوبية الخالصة ، عند الخوف وعند الطمع . . والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة ، وتركيب الزوجية وطبيعتها :
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها } . .
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى . وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها . . وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان . ووظيفة الزوجية في تكوينه . وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً . يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني ، وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً ، ويوم أن كانت الوثنيات - ولا تزال - تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار . ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب ، وينتج فيه المحصول البشري الثمين .
ويؤهل فيه الجيل الناشيء لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه . ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة . كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً ، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف ، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء
وبعد ذلك تبدأ القصة . . تبدأ من المرحلة الأولى . .
{ فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به } . .
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين . . { فلما تغشاها } . . تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين . إيحاء « للإنسان » بالصورة « الإنسانية » في المباشرة . وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة . . كذلك تصوير الحمل في أول أمره . . { خفيفاً } . . تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه .
ثم تأتي المرحلة الثانية :
{ فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين } . .
لقد تبين الحمل ، وتعلقت به قلوب الزوجين ، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً . إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم ، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب . . وعند الطمع تستيقظ الفطرة ، فتتوجه إلى الله ، تعترف له بالربوبية وحده ، وتطمع في فضله وحده ، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود . لذلك { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين } . .
{ فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون } . .
إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء . . إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين . فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها « عبد الحارث » . . والحارث اسم لإبليس . ليولد صحيحاً ويعيش؛ ففعلت وأغرت آدم معها وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي . . ذلك أن التصور الإسرائيلي المسيحي - كما حرفوا ديانتهم - هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء ، وهو مخالف تماماً للتصور الإسلامي الصحيح .
ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني . . فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية . . ولقد كان المشركون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبله ، ينذرون بعض أبنائهم للآلهة ، أو لخدمة معابد الآلهة تقرباً وزلفى إلى الله ومع توجههم في أول الأمر لله ، فإنهم بعد دحرجة من قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون لهذه الآلهة أبناءهم لتعيش وتصح وتوقى المخاطر كما يجعل الناس اليوم نصيباً في أبدان أبنائهم للأولياء والقديسين . كأن يستبقوا شعر الغلام لا يحلق أول مرة إلا على ضريح ولي أو قديس . أو أن يستبقوه بلا ختان حتى يختن هناك . مع أن هؤلاء الناس اليوم يعترفون بالله الواحد .
ثم يتبعون هذا الاعتراف بهذه الاتجاهات المشركة . والناس هم الناس
{ فتعالى الله عما يشركون } .
وتنزه عن الشرك الذي يعتقدون ويزاولون
على أننا نرى في زماننا هذا صنوفاً وألواناً من الشرك؛ ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له ، ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص .
إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها « القوم » ويسمونها « الوطن » ، ويسمونها « الشعب » . . إلى آخر ما يسمون . وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون . ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله - سبحانه - في خلقه ، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع
إن الناس يعترفون بالله ربا . ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً ، بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها « مقدسة » . تخالف في سبيلها أوامر الله وشرائعه ، بل تنبذ نبذاً . فكيف تكون الآلهة؟ وكيف يكون الشرك؟ . وكيف يكون نصيب الشركاء في الأبناء . . إن لم يكن هو هذا الذي تزاوله الجاهلية الحديثة
ولقد كانت الجاهلية القديمة أكثر أدباً مع الله . . لقد كانت تتخذ من دونه آلهة تقدم لها هذه التقدمات من الشرك في الأبناء والثمار والذبائح لتقرب الناس من الله زلفى فكان الله في حسها هو الأعلى . فأما الجاهلية الحديثة فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله عندها . فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً
إننا نخدع أنفسنا حين نقف بالوثنية عند الشكل الساذج للأصنام والآلهة القديمة ، والشعائر التي كان الناس يزاولونها في عبادتها واتخاذها شفعاء عند الله . . إن شكل الأصنام والوثنية فقط هو الذي تغير . كما أن الشعائر هي التي تعقدت ، واتخذت لها عنوانات جديدة . . أما طبيعة الشرك وحقيقته فهي القائمة من وراء الأشكال والشعائر المتغيرة . .
وهذا ما ينبغي ألا يخدعنا عن الحقيقة
إن الله - سبحانه - يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة . ولكن « الوطن » أو « الإنتاج » يأمر بأن تخرج المرأة وتتبرج وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق في صورة فتيات الجيشا في اليابان الوثنية فمن الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه؟ أم إنها الآلهة المدعاة؟
إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة . . ولكن « القومية » أو « الوطن » يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع؛ وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة . . فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله - سبحانه - أم هي الآلهة المدعاة؟
إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة . ولكن عبداً من العبيد - أو مجموعة من « الشعب » - تقول : كلا إن العبيد هم الذين يشرعون وشريعتهم هي الحاكمة .
. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة؟
إنها أمثلة لما يجري في الأرض كلها اليوم؛ ولما تتعارف عليه البشرية الضالة . . أمثلة تكشف عن حقيقة الوثنية السائدة ، وحقيقة الأصنام المعبودة ، المقامة اليوم بديلاً من تلك الوثنية الصريحة ، ومن تلك الأصنام المنظورة ويجب ألا تخدعنا الأشكال المتغيرة للوثنية والشرك عن حقيقتها الثابتة
ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة ، وتلك الجاهلية الصريحة؛ ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري - أياً كانت طفولته - فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم ، وصور فيه مدارج الشرك في النفس :
{ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } . .
إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد وآلهتهم المدعاة - كلها - لا تخلق شيئاً بل هي تخلق فكيف يشركون بها؟ كيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد . فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية . . وآلهتهم المدعاة - كلها - لا قوة لها ولا سلطان؛ فهم لا يستطيعون نصرهم ، ولانصر أنفسهم؛ فكيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة ، فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة إنهم يقيمون لهم أصناماً أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به؛ ويجعلون لها شركاً في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم . . فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئاً؟ ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصراً؟
إن العقل البشري - لو خلي بينه وبين هذا الواقع - لا يقره ، ولا يرضاه ولكنها الشهوات والأهواء والتضليل والخداع . . هي التي تجعل البشرية بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن ترتد إلى هذه الجاهلية - في صورتها الجديدة - فتشرك ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون
إن هذه البشرية لفي حاجة اليوم - كما كانت في حاجة بالأمس - إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى . في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام؛ ومن يخرجها من الظلمات إلى النور؛ ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية الجديدة؛ بل من هذا السخف الجديد الذي تلج فيه؛ كما أنقذها هذا الدين أول مرة
إن صيغة التعبير القرآنية توحي بأنه كان يعني كذلك تقريعهم على اتخاذ آلهة من البشر :
{ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون؟ } .
.
فهذه الواو والنون تشير إلى أن من بين هذه الآلهة على الأقل بشراً من « العقلاء » الذين يعبر عنهم بضمير « العاقل » . . وما علمنا أن العرب في وثنيتهم كانوا يشركون بآلهة من البشر - بمعنى أنهم يعتقدون بألوهيتهم أو يقدمون الشعائر التعبدية لهم - إنما هم كانوا يشركون بأمثال هؤلاء من ناحية أنهم يتلقون منهم الشرائع الاجتماعية والأحكام في النزاعات - أي الحاكمية الأرضية - وأن القرآن يعبر عن هذا بالشرك ، ويسوي بينه وبين شركهم الآخر بالأوثان والأصنام سواء . وهذا هو الاعتبار الإسلامي لهذا اللون من الشرك . فهو شرك كشرك الاعتقاد والشعائر لا فرق بينه وبينه ، كما اعتبر الذين يتقبلون الشرائع والأحكام من الأحبار والرهبان مشركين . مع أنهم لم يكونوا يعتقدون بألوهيتهم ولم يكونوا يقدمون لهم الشعائر كذلك . . فكله شرك وخروج عن التوحيد الذي يقوم عليه دين الله؛ والذي تعبر عنه شهادة أن لا إله إلا الله . مما يتفق تماماً مع ما قررناه من شرك الجاهلية الحديثة
ولما كان الحديث عن قصة الانحراف في النفس - ذلك المتمثل في قصة الزوجين - هو حديث كل شرك والمقصود به هو تنبيه أولئك الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، إلى سخف ما هم عليه من الشرك ، واتخاذ تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً بل هي تخلق ، ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصراً ، سواء أكانت القصة ومن أسلوب الحكاية في الفقرة السابقة ، إلى مواجهة مشركي العرب وإلى أسلوب الخطاب انتقالاً مباشراً ، كأنه امتداد للحديث السابق عليه عن تلك الآلهة
{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أَدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم . فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها؟ أم لهم أيد يبطشون بها؟ أم لهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ } . .
لقد كانت وثنية مشركي العرب وثنية ساذجة - كما أسلفنا - سخيفة في ميزان العقل البشري في أية مرحلة من مراحلة ومن ثم كان القرآن ينبه فيهم هذا العقل؛ وهو يواجههم بسخافة ما يزاولونه من الشرك بمثل هذه الآلهة .
إن أصنامهم هذه الساذجة بهيئتها الظاهرة : ليس لها أرجل تمشي بها ، وليس لها أيد تبطش بها . وليس لها أعين تبصر بها ، وليس لها آذان تسمع بها . . هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم . فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه الأحجار الهامدة؟
فأما ما يرمزون إليه بهذه الأصنام من الملائكة حيناً ، ومن الآباء والأجداد حيناً . . فهم عباد أمثالهم من خلق الله مثلهم . لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون
والازدواج في عقائد مشركي العرب بين الأصنام الظاهرة ، والرموز الباطنة هو - فيما نحسب - سبب مخاطبتهم هكذا عن هذه الآلهة : مرة بضمير العاقل ملحوظاً فيها ما وراء الأصنام من الرمز ، ومرة بالإشارة المباشرة إلى الأصنام ذاتها ، وأنها فاقدة للحياة والحركة وهي في مجموعها ظاهرة البطلان في منطق العقل البشري ذاته ، الذي يوقظه القرآن ، ويرفعه عن هذه الغفلة المزرية
وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يتحداهم ويتحدى آلهتم العاجزة - كلها - وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله - وحده - له :
{ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون .
إن وليي الله الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } . .
إنها كلمة صاحب الدعوة ، في وجه الجاهلية . . ولقد قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه؛ وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة :
{ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } . .
لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي . . وقال لهم : ألا يألوا جهداً في جمع كيدهم وكيد آلهتهم؛ بلا إمهال ولا إنظار وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه ، ويحتمي به من كيدهم جميعاً :
{ إن وليي الله ، الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين } . .
فأعلن بها عمن إليه يرتكن . إنه يرتكن إلى الله . . الذي نزل الكتاب . فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه؛ كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين . . وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه .
وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وفي كل زمان :
{ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } . . { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } .
إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض؛ وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض . .
إنها في ذاتها واهية واهنة ، مهما بدت قوية قادرة : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب } { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله . فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن؟ وماذا تساوي في حسه؛ حتى لو قدرت على أذاه؟ إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاه . لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها - سبحانه وتعالى - ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه .
. ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب . واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد ، والمشركون يتناولونه بالأذى؛ ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه ، حتى تركوه وما يعرف له فم من عين . . كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رب ما أحلمك رب ما أحلمك رب ما أحلمك . . » كان يعرف في قرارة نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدميرعلى أعدائه؛ كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه
ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول ، وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته . . كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله : « والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك » . . كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله . فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله .
ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول ، وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك ، لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فيكف عنه الأذى ، وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله . وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه . . كان يقول لعتبة وهو يراه في هذا الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره : « لأنا في جوار من هو أعز منك » . . وكان يرد على عتبة إذ قال له : « يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها » . . يقول : « لا والله وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله » . . كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد . وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه ، ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب : « لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله » . .
هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم :
{ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين } . .
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين . وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؟
كان ما يعرفه التاريخ كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله ، وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون .
وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين ، الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع ، وبعزمة في الله لا تلين
إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة ، وإلا بمثل هذه العزمة ، وإلا بمثل ذلك اليقين :
{ إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } . .
لقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى المشركين . فتحداهم . وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم :
{ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } . .
{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } . .
وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة . . فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة . .
إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرضَ ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون . حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم .
وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع ، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر . . الوطن . والقوم . والإنتاج . والآلة . وحتمية التاريخ إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر ، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرعٍ بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر . . هي من الذين يقول الله فيهم : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون }
إن صاحب الدعوة إلى الله ، إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة . . وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول :
{ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } . . فإنما هم هم . . في كل أرض وفي كل حين
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة ، من الله سبحانه إلى أوليائه . . رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه . . وهم بعد في مكة؛ وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة . . هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة ، وفي مواجهة هذه البشرية الضالة ، تدعو صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - إلى السماحة واليسر ، والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها ، بغير تعقيد ولا تشديد . والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم ، ولا يجادلهم ، ولا يحفلهم . . فإذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه بالعناد والصد ، ونفخ الشيطان في هذا الغضب ، فليستعذ بالله ليهدأ ويطمئن ويصبر : { خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين ، وإما ينزغنك من الشيطان فاستعذ بالله إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . .
ثم يعرفه بطبيعة أولئك الجاهلين؛ والوسوسة التي وراءهم والتي تمدهم في الغي والضلال . ويذكر طرفاً من سلوكهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم الخوارق؛ ليوجهه إلى ما يقول لهم ، ليعرفهم بطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ، وليصحح لهم تصوراتهم عنها وعنه وعن علاقته بربه الكريم : { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي . هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . .
وبمناسبة هذه الإشارة إلى ما أوحاه إليه ربه من القرآن ، يجيء توجيه المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن؛ وأدب ذكر الله؛ مع التنبيه إلى مداومة هذا الذكر ، وعدم الغفلة عنه . فإن الملائكة الذين لا يخطئون يذكرون ويسبحون ويسجدون ، فما أولى البشر الخطائين أن لا يغفلوا عن الذكر والتسبيح والسجود : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } . .
{ خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين ، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . .
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة ، ولا تطلب إليهم الكمال ، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق . واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم . . كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية . فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح . ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار . وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة . فالإغضاء عن الضعف البشري ، والعطف عليه ، والسماحة معه ، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راع وهاد ومعلم ومرب . فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء . . وكذلك كان صلى الله عليه وسلم . . لم يغضب لنفسه قط . فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء . . وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر ، وسماحة طبع ، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله . .
{ وأمر بالعرف } . . وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال؛ والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة . . والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك ، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادتها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين . .
{ وأعرض عن الجاهلين } . . من الجهالة ضد الرشد ، والجهالة ضد العلم . . وهما قريب من قريب . . والإعراض يكون بالترك والإهمال؛ والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال؛ والمرور بها مر الكرام؛ وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب ، وإضاعة الوقت والجهد . . وقد ينتهي السكوت عنهم ، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها ، بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد . فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم ، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير . إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو ، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون
وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر . وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى . . وإذا قدر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة . . وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس ، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام . . لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله؛ لينفثىء غضبه ، ويأخذ على الشيطان طريقه :
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } . .
وهذا التعقيب : { إنه سميع عليم } . . يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم؛ عليم بما تحمله نفسك من أذاهم . . وفي هذا ترضية وتسرية للنفس . . فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم وماذا تبتغي نفس بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟
ثم يتخذ السياق القرآني طريقاً آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول ، وذكر الله عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم :
{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } .
.
وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة ، وحقائق عميقة ، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل . . إن اختتام الآية بقوله : { فإذا هم مبصرون } ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية . ليس لها ألفاظ تقابلها هناك . . إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة . ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه . . تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه . . تذكر المتقين . فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم؛ وتكشفت الغشاوة عن عيونهم : { فإذا هم مبصرون } . . إن مس الشيطان عمى ، وإن تذكر الله إبصار . . إن مس الشيطان ظلمة ، وإن الاتجاه إلى الله نور . . إن مس الشيطان تجلوه التقوى ، فما للشيطان على المتقين من سلطان . .
ذلك شأن المتقين : { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . . جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين؛ وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين ، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون . . فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين :
{ وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها . قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . .
وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن . . وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً . . إنهم يزيدون لهم في الضلال ، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون وهم من ثم يحمقون ويجهلون ويظلون فيما هم فيه سادرين .
ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :
{ وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها } . .
أي . . لولا ألححت على ربك حتى ينزلها . . أو هلا فعلتها أنت من نفسك؟ ألست نبياً؟
إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه . . والله يأمره أن يبين لهم :
{ قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } . .
فلا أقترح ، ولا أبتدع ، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي . ولا آتي إلا ما يأمرني به . .
لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم ، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :
كذلك يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به ، وحقيقته التي يغفلون عنها ، ويطلبون الخوارق المادية ، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه :
{ هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .
.
إنه هذا القرآن . . بصائر تهدي ، ورحمة تفيض . . لمن يؤمن به ، ويغتنم هذا الخير العميم .
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب - في جاهليتهم - يعرضون عنه ، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل ، في طفولة البشرية ، وفي الرسالات المحلية غير العالمية ، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها ، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها ، فكيف بمن بعدهم من الأجيال ، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة
إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه . . من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان . . لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان
فهذا جانبه التعبيري . . ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه - بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني ، ويتفاخرون به في أسواقهم - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر . تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً . والذين يزاولون فن التعبير من البشر ، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه ، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز . . سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون . . فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون . . وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون
ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد . . يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب ، وثقل فوقها الركام ، تنتفض قلوبهم أحياناً؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن
إن الذين يقولون كثيرون . . وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات . . ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب . . ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة - : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } . . لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب غير أن هذا القرآن يظل - مع ذلك كله - غلاباً . . وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر ، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها ، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين ، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون
ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه .
. وما تتسع صفحات عابرة - في ظلال القرآن - للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه . . فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد
وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟
منهج هذا القرآن العجيب ، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود . . وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها ، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد ، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها؛ ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه ، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يتناول قضايا هذا الوجود ، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق ، والتجاوب الحي ، والرؤية الواضحة . وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة ، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة ، ويوجهها الوجهة الصحيحة .
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة؛ ويصعد بها - في هينة ورفق ، وفي حيوية كذلك وحرارة ، وفي وضوح وعلى بصيرة - درجات السلم في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . . في المعرفة والرؤية ، وفي الانفعال والاستجابة ، وفي التكيف والاستقامة ، وفي اليقين والثقة ، وفي الراحة والطمأنينة . . إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة . .
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يلمس الفطرة الإنسانية ، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة أو أن يكون هذا وتر استجابة فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب . ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد
ذلك المنهج؟ . . أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج . . وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً . . { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مدداً } { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } إن الذي يكتب هذه الكلمات ، قضى - ولله الحمد والمنة - في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً . يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية - ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه - ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب . . ويرى . . يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة ، وتلك النقر الصغيرة . . وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً
في النظرة الكلية في هذا الوجود ، وطبيعته ، وحقيقته ، وجوانبه ، وأصله ، ونشأته ، وما وراءه من أسرار؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها « فلسفة » البشر .
.
في النظرة الكلية إلى « الإنسان » ونفسه ، وأصله ، ونشأته ، ومكنونات طاقاته ، ومجالات نشاطه؛ وطبيعة تركيبه وانفعالاته ، واستجاباته ، وأحواله وأسراره . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع والعقائد والأديان . .
في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك ، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . .
وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة
إنني لم أجد نفسي مرة واحدة - في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية - في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن - فيما عدا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من آثار هذا القرآن - بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلاً - حتى لو كان صحيحاً - إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب . .
إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات . . وما بي أن أثني على هذا الكتاب . . ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء
لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد . . جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية - لا من قبل ولا من بعد - جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد ، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن . .
لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ - بمشيئة الله وقدره - هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر . وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً . . وهي معجزة واقعة مشهودة . . أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة . .
ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة ، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام ، تحكمه الشريعية التي جاء بها هذا الكتاب ، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه ، وتوجيهاته وإيحاءاته . . كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية . حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى ، التي تفوقه في الإمكانيات المادية - بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة - ولكنها لا تطاوله في « الحضارة الإنسانية »
إن الناس اليوم - في الجاهلية الحديثة - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن . . فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة ، وجهالتهم العميقة - كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك - دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب .