كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم . .
ولكن تصور الحقيقة « الفعلية » كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني . وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها . . إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها . . وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية .
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية . . إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحا له . . هو من صنع الله قطعاً . . فالانشراح حدثٌ لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه . والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسرا . . هو من صنع الله قطعا . . لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك . . وكلاهما من إرادة الله بالعبد . . ولكنها ليست إرادة القهر . إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة . وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال .
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية . وحين يتم التعامل مع هذه القضايا . بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة ، والتجربة الواقعية في التعامل معها ، فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة . . وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي . . وفي غيره كذلك
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة . .
ثم نعود إلى السياق القرآني :
إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها؛ فترتبط هذه بتلك . حزمة واحدة في السياق ، وحزمة واحدة في الشعور ، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين . فقضية الذبائح هي قضية التشريع . وقضية التشريع هي قضية الحاكمية . وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان . . ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب .
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير . . فهذه وتلك صراط الله المستقيم . والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم . والاستقامة عليهما معاً . . العقيدة والشريعة . . هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام ، وولاية الله لعباده الذاكرين :
{ وهذا صراط ربك مستقيما . قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون } . .
هذا هو الصراط . . صراط ربك . . بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة؛ المبشرة بالنهاية . . هذه هي سنته في الهدى والضلال؛ وتلك هي شريعته في الحل والحرمة .

كلاهما سواء في ميزان الله ، وكلاهما لحمة في سياق قرآنه .
وقد فصل الله آياته وبينها . ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل . فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل . وقلب منشرح مبسوط مفتوح . وقلب حي يستقبل ويستجيب .
والذين يتذكرون ، لهم دار السلام عند ربهم . . دار الطمأنينة والأمان . . مضمونة عند ربهم لا تضيع . . وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم . . ذلك بما كانوا يعملون . . فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء .
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة . حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة . ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة . . إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين . .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

هذا المقطع بجملته ليس منفصلا عن الدرس السابق . إنما هو امتداد له . من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها . . فهو من ناحية استطراد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن - بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله - وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع . وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية؛ ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا - بعد النذارة والبشارة - وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم ، وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله . وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح - قبلها - ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد؛ وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون؛ فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعاً؛ وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين . وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء . لا فرق بينها في ميزان الله ، كما يقيمه في كتابه الكريم .
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام؛ فتبقى قلوبهم ذاكرة لا تغفل؛ وأنهم ماضون إلى دار السلام ، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته . . فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد - على طريقة القرآن الغالبة في عرض « مشاهد القيامة » - يعرض شياطين الإنس والجن ، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالا؛ ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي؛ ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام . . يعرضهم في مشهد شاخص حي ، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب ، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن .
{ ويوم يحشرهم جميعا : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيم عليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } . .
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل ، يوم يحشرهم جميعا . . ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة . وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة . فتقدير الكلام ، { ويوم يحشرهم جميعا } - فيقول - { يا معشر الجن والإنس . . . } ولكن حذف كلمة - يقول - ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة؛ ويحيل السياق من مستقبل ينتظر ، إلى واقع ينظر وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب .

. .
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض :
{ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } . .
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس ، المستمعين لإيحائكم ، المطيعين لوسوستكم ، المتبعين لخطواتكم . . وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس إنما يقصد به تسجيل الجريمة - جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء . . ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون :
{ وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } . .
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع؛ كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع . . لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار ، ومن المكابرة والاستهتار ، ومن الإثم ظاهره وباطنه فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال . . كانت تستهويهم وتعبث بهم؛ وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا ، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون ومن ثم يقولون :
{ ربنا استمتع بعضنا ببعض } . .
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة ، حتى حان الأجل ، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه؛ وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع :
{ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا }
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل ، بالجزاء العادل :
{ قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - }
فالنار مثابة ومأوى . والمثوى للإقامة . وهي إقامة الدوام . . { إلا ما شاء الله } لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي . فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور . والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد . ولا في مقرراتها هي .
{ إن ربك حكيم عليم } .
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم؛ ينفرد بهما الحكيم العليم . .
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد ، يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي :
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } . .
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء؛ وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير . . بمثل ذلك ، وعلى قاعدته ، نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . نجعل بعضهم أولياء بعض؛ بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة؛ وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف . وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير .
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة ، إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة .

فإن الظالمين - وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور - يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى؛ ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به . إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة - مهما اختلفت الأشكال - هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة ، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس ، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله .
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا - على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح - إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله . . فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة ، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء . . وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض
وإننا لنشهد في هذه الفترة - ومنذ قرون كثيرة - تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبيين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين - على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها - ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام ، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها .
وهو تجمع رهيب فعلا ، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام ، مع القوى المادية والثقافية ، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة . . وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } . . كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم : { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين ، وعلى المؤمنين . .
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير :
{ يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } . .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل ، وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين }

فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه؛ والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس ، أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه :
{ قالوا : شهدنا على أنفسنا } :
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول :
{ وغرتهم الحياة الدنيا؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ؛
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة؛ وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق ، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه ، ولا بكلمة الإنكار ولا بكلمة الدفاع
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً
إن هذا القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة؛ وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد
{ وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين } . .
وذلك من عجائب التخييل
وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من المؤمنين؛ وإلى الناس أجمعين ، ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن؛ وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار؛ وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم ، تقص عليهم آيات الله ، وتنذرهم لقاء يومهم هذا . . ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه ، بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار؛ وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم ( أي بشركهم ) إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم؛ وتقص عليهم الآيات ، وينذرهم المنذرون :
{ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى - بظلم - وأهلها غافلون } . .
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل ، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها - فقد تضل هذه الفطر- وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك - فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات - وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات - فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري .

لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام ، واستنقاذ العقل من الانحراف ، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس . وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار .
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله ، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل؛ وتقرر أنها - وحدها - لا تعصم من الضلال ، ولا تهدي إلى يقين ، ولا تصبر على ضغط الشهوات . . ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين . .
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء . . للمؤمنين وللشياطين سواء :
{ ولكل درجات مما عملوا . وما ربك بغافل عما يعملون } . .
فللمؤمنين درجات : درجة فوق درجة . وللشياطين درجات : درجة تحت درجة وفق الأعمال . والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء :
{ وما ربك بغافل عما يعملون } .
على أن الله - سبحانه - إنما يرسل رسله رحمة بالعباد ، فهو غني عنهم؛ وعن إيمانهم به وعبادتهم له . وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة . كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك ، وهو القادر على أن يهلكه ، وينشئ جيلا آخر يستخلفه :
{ وربك الغني ذو الرحمة . إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء . كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } .
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله؛ وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله؛ وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه . فليس هو سلطاناً أصيلا؛ ولا وجودا مختارا . فما لأحد في نشأته ووجوده من يد؛ وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة . وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله . كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر . واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله .
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون ، ويحرمون ويحللون ، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون . . وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء ، ويذهب بهم أنى شاء ، ويستخلف من بعدهم ما يشاء . . كما أنها إيقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة ، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم؛ ومن أذى المجرمين وعدائهم . . . فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون
ثم إيقاع تهديدي آخر :
{ إن ما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين } .
إنكم في يد الله وقبضته ، ورهن مشيئته وقدره . فلستم بمفلتين أو مستعصين . . ويوم الحشر الذي شاهدتم منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم؛ وأنه لآت لا ريب فيه ، ولن تفلتوا يومها ، ولن تعجزوا الله القوي المتين . وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف ، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب :
{ قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون } .

إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه ، والحق الذي وراءه؛ ومن القوة التي في الحق ، والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نافض يديه من أمرهم ، واثق مما هو عليه من الحق ، واثق من منهجه وطريقه ، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال ، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون :
{ إنه لا يفلح الظالمون } . .
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون ، الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة ، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة؛ كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر؛ وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم؛ كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة؛ لنرى كم يحفل المنهج القرآن بهذه الواقعيات العملية ، وهذه الجزيئات التطبيقية في الحياة البشرية؛ وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله؛ وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه؛ وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله .
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية؟
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية « العقيدة » في الإسلام؛ كما تلخص قضية « الدين » . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة : إن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثَمَّ مزاولة لحق الألوهية . يأباه المسلم إلا لله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله ، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين والتشريع هو مزاولة للألوهية ، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده؛ ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية ، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة؛ ولكنه كان يواجه قضية العقيدة والتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . . ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

هذا الشوط الطويل كله - بالإضافة إلى الشوط الذي سبقه والتعقيبات عليه - في سياق سورة مكية ، من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة؛ والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة - إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي - حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته؛ فصان الله هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن ، وموضو عات دراسة؛ قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة ، ويسلم نفسه لله جملة ، ويعبد الله بالطاعة لشريعته؛ وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان ، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا؛ وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه ، كما هي طبيعة هذا الدين ، وكما هو منهجه ، الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار . .
نقول : هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية؛ يتناول قضية التشريع والحاكمية . فيدل على طبيعة هذه القضية - إنها قضية عقيدية . . ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين . . إنها قضيته الرئيسية . .
وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا ، نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته . . لنرى محتوياته على وجه الإجمال . ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك . .
إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد - أي في شأن المال والاجتماع - في جاهليتهم . فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في :
1- تقسيمهم ما رزقهم الله من رزق ، وأنشأ لهم من زروع وأنعام ، إلى قسمين : قسم يجعلونه لله - زاعمين أن هذا مما شرعه الله - وقسم يجعلونه لشركائهم - وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون الله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقال : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا }
2- أنهم بعد ذلك ، يجورون على النصيب الذي قسموه لله . فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائهم ، ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم }
3- أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء - وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم - ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع ، بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية ، وحكم التأثير بالأساطير الدينية من ناحية - وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار . كما قد يتناول الذكور في النذور ، كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه الله عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم }
4- أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع؛ فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من الله - هكذا يزعمون - كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب .

ويمنعون أن يذكر اسم الله على بعضها عند الذبح أو الركوب أولا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر الله . مع الزعم بأن هذا كله قد أمر الله به : { وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه- } .
5- وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم ، ويجعلونه محرما على إناثهم . إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى الله : { وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم } . .
هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية ، والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل - في سورة مكية - للقضاء عليها ، وتطهير النفوس والقلوب منها ، وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي .
ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة :
* لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى الله بغير علم .
* ثم لفت أنظارهم إلى أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات . . هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات . وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام . . والذي يزرق هو وحده الذي يملك ، وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال . . وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات ، ومن نعمة الله عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشاً ، يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره . . كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان . فكيف يتبعون خطوات الشيطان ، وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين؟
* بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام ، وخلوها من كل منطق ، وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة . . وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل : علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ } فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم ويشنع بجريمة الافتراء على الله ، وإضلال الناس بغير علم . ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها . .
* وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع . ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم . سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله الله للمسلمين .

* ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية - الممثلة في الشرك بالله وتحريم ما أحل الله وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند الله - على إرادة الله وقولهم : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } . . فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل ، وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس الله : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } فالشرك كالتحريم بدون شرع الله ، كلاهما سمة المكذبين بآيات الله . ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها : { قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا . إن تتبعون إلا الظن ، وإن أنتم إلا تخرصون }
* ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة - تماماً كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد - مع استخدام نفس العبارات والأوصاف ، بل نفس الألفاظ ، للدلالة على أن القضية واحدة : قضية الشرك بالله ، وقضية التشريع بغير إذن من الله : { قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ، فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون } . . ونرى من الآية إلى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ ، أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم . وهم الذين كذبوا بآيات الله . وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة . فلو أنهم صدقوا بآيات الله وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى الله ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون الله . وما حرموا وحللوا بغير إذن من الله .
* وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه الله حقاً . . وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية ، في مقدمتها توحيد الله . وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب ، فجعلها عنواناً للكل :
لقد نهى الله عن الشرك . وأمر بالإحسان للوالدين . ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق . ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق . ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده . وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط . وأمر بالعدل في القول - في الشهادة والحكم - ولو كان ذا قربى . وأمر بالوفاء بعهد الله كله . وجعل هذا جميعه وصية من الله كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي .
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادئ الشريعة؛ اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق ، وتمتزجان هذا الامتزاج؛ وتعرضان جملة واحدة ، وكتلة واحدة ، بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه . . هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل :
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .

ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } . .
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله؛ وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم :
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام . بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة . . بل إن شريعته هي عقيدته . . إذ هي الترجمة الواقعية لها . . كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية ، وعرضها في المنهج القرآني . .
وهذه هي الحقيقة التي زُحزح مفهوم « الدين » في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة ، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة . . حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين ، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة . إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة ، قروناً طويلة ، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة؛ حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة ، إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات ، وكل هذه التقريرات؛ بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية . ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير . . أصل الحاكمية . . وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي . .
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك ، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك . ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك . . إن هؤلاء لا يقرأون القرآن ، ولا يعرفون طبيعة هذا الدين . . فليقرأوا القرآن كما أنزله الله؛ وليأخذوا قول الله بجد : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون ، أو هذا الإجراء ، أو هذا القول ، منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق . . وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك . . كأن الإسلام كله قائم ، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات
هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين ، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون . بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية . شهادة بأن هذا الدين قائم فيها ، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات . بينما الدين كله متوقف عن « الوجود » أصلا ، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع ، الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد .

إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله . فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين . . وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم ، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله ، وتغتصب سلطانه ، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد . . وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات ، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية ، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر ، وميزان الجاهلية أو الإسلام .
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر « وجوده » لم تكن هي المعركة مع الإلحاد ، حتى يكون مجرد « التدين » هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة « وجود » هذا الدين . . لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإٍسلام ليقرر « وجوده » هي معركة « الحاكمية » وتقرير لمن تكون . . لذلك خاضها وهو في مكة . خاضها وهو ينشئ العقيدة ، ولا يتعرض للنظام والشريعة . خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده؛ لا يدعيها لنفسه مسلم؛ ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم . . فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة ، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة . . . فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون . بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين
وحسبنا هذا القدر لنواجه النصوص بالتفصيل .
{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون } . .
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام؛ فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء . . ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم . إذا يجعلون له منه سبحانه جزءا ، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا ( وطبيعى أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير ) . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله . على النحو الذي تقرره الآية
عن ابن عباس قال : كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما ، جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتم . وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم . وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم ، أقروه ولم يردوه . فذلك قوله : { ساء ما يحكمون } .
وعن مجاهد قال : يسمون لله جزءا من الحرث ، ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه .

وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه . وقالوا : « الله عن هذا غني » والأنعام : السائبة والبحيرة التي سموا .
وعن قتادة قال : عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه . فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السنة ( يعني الجدب ) استعانوا بما جزأوا لله ، وأقروا ما جزأوا لشركائهم . قال الله ، { ساء ما يحكمون } .
وعن السدي قال : كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله ، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله . ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك . . فما خرج للآلهة أنفقوه عليها ، وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم ، وكثر الذي لله ، قالوا : « ليس بد لآلهتنا من نفقة » وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم . وإذا أجدب الذي لله ، وكثر الذي لآلهتهم ، قالوا : « لو شاء أزكى الذي له » فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة . قال الله . . لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا : أن يأخذوا مني ولا يعطوني فذلك حين يقول : { ساء ما يحكمون } .
وعن ابن جرير : وأما قوله : { ساء ما يحكمون } فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه : قد أساءوا في حكمهم ، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم ، وذهابهم عن سبيل الحق . بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم ، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ، ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه
هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع . وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم . فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء ، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس؛ وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة . . وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم ، ويفسدوا عليهم دينهم ، ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة
وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب ، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى : للإغريق والفرس والرومان ، والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا . . . هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله .

وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة . تلتقي في الأصل والقاعدة . فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله ، ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف . . فإن هي إلا أشكال . . { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون } .
يقول : وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم . . وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده ، إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه
وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية . العرف الذي وضعه الناس للناس . والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن . . من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس ، ومن القرناء الموسوسين من الجن ، بالتعاون والموالاة فيما بينهم
والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين :
{ ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم } .
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبسا غامضا لا يقفون منه على تصور واضح . . فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم؛ ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها ، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا ، وفق أهوائهم ومصالحهم حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك ، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع . لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها - بكل ثقلها وعمقها ، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها ، وتنشئ ثقلا ساحقا لا تقف له جماهير الناس . وما لم تعتصم منه بدين واضح؛ ما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت .
وهذه التصورات المبهمة الغامضة؛ وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها ، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق . . لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة . فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة . . هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا . . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا ، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم . ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها . . أزياء الصباح ، وأزياء بعد الظهر ، وأزياء المساء . . الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف . . . إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ . . من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء . وتقف وراءه شركات الإنتاج ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها .

. ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف ، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها ، ويؤصلونها بنظريات وثقافات؛ ويطلقونها تضغط على الناس في صورة ( عرف اجتماعي ) . فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم ، وأوضاع مجتمع ، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس ، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه
إنه فعل الشياطين . . شياطين الإنس والجن . . وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها ، وتتحد جذورها ومنابعها ، وتتماثل قوائمها وقواعدها . .
وإننا لنبخس القرآن قدره ، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم . .
ومع ضخامة الكيد ، وثقل الواقع ، فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية ، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر . . إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه . وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم . ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلا؛ بمشيئة الله وقدره ، تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده . ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه . ولكنه شاء للابتلاء فلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على المؤمنين . فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون :
{ ولو شاء الله ما فعلوه . فذرهم وما يفترون } . .
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا : إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم . إنما يفترون على الله ، فيزعمون أنه هو شرعها لهم . . ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم
كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهلية الحديثة . . إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين؛ فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية . إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب يقولون : إنهم يحترمون الدين ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين . . إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام . فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية . وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب
ثم يجيء « المتحمسون » لهذا الدين؛ فيفرغون جهدهم في استنكار جزئيات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية ، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة ، المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة . وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام . ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقا ، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها .

وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة ، التي تلبس مسوح الدين وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن
{ وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون } . .
قال ابو جعفر بن جرير الطبري : « وهذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين . إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم ، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك » .
والحجر : الحرام . . فهؤلاء المعتدون على سلطان الله ، الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة الله ، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام ، فعزلوها لآلهتم - كما تقدم - وقالوا : هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها . لا يطعمها إلا من شاء الله - بزعمهم - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء وعمدوا إلى أنعام قيل : إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } فجعلوا ظهورها حراما على الركوب . كما عمدوا إلى أنعام فقالوا : هذه لا يذكر اسم عليها عند ركوبها ولا عند حلبها ، ولا عند ذبحها . . إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها كل ذلك { افتراء على الله }
قال أبو جعفر بن جرير : « وأما قوله { افتراء على الله } فإنه يقول : فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا ، وقالوا ما قالوا من ذلك ، كذبا على الله ، وتخرصاً بالباطل عليه ، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك ، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه ، إلى أن الله هو الذي حرمه ، فنفى الله ذلك عن نفسه ، وأكذبهم . وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون » .
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية ، التي تتكرر في معظم الجاهليات ، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله ألبتة ، أن يجهروا بأن « الدين » مجرد « عقيدة » وليس نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا ، يهيمن على الحياة
وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً ، الحاكمية فيه للبشر لا لله ، ثم تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية . . أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله .

بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك . . لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض ، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة . لقد انخلعت من الدين ، فأصبحت أجنبية عن الجميع ، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم . . ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية ، التي تستهدف نفس الهدف ، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية . فتضع على هذه التجارب ستاراً من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة ، سواء بالدعاية المباشرة؛ أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين . .
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة ، وبكل تضامنها وتجمعها ، وبكل تجاربها وخبرتها ، تحاول أو تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها ، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها ( علمانية ) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً
ويجهد المستشرقون ( وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني ) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً . . ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا . . وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض . . ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية ومن تبديل الدين باسم الدين ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصلية باسم الدين أيضا . ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة؛ وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية . . الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام من الكيد للإسلام
. . { سيجزيهم بما كانوا يفترون } . .
{ وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم } . .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات ، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية ، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج ، محرمة على الإناث ، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل ، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام .

ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله :
{ سيجزيهم وصفهم } . .
{ إنه حكيم عليم } . .
يعلم حقائق الأحوال ، ويتصرف فيها بحكمة ، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
وإن الإنسان ليعجب ، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات ، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه ، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم ، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها ، والسير فيها بلا ضابط ، سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح؛ يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة؛ ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى؛ ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها؛ ويطلق « الإنسان » من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين ، وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة ، وتصورا واضحا ميسرا مريحا ، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة ، وانطلاقا من العبودية للعبيد ، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء
ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم؛ وتتردى في حمأة الجاهلية؛ وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد :
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين } . .
خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره؛ وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد؛ حين أسلموها لحاكمية العبيد وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة ، خسروا الخسارة المؤكدة ، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه :
{ قد ضلوا وما كانوا مهتدين } .
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة؛ ذرأها لهم ليشكروا له؛ ويعبدوه وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ، إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين - في النصيب الذي جعلوه لله؟
إن الخالق الرازق هو الرب المالك .

الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله
{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين } .
إن الله - سبحانه هو الذى خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذى أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التى يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط؛ ومنها البريات التى تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنموا بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذى أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذى خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذى خلق هذه الأنعام وجعل منها { حمولة } عالية القوائم بعيدة عن الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها { فرشاً } صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة فى هذه الأرض؛ ونّوعها هذا التنويع؛ وجعلها مناسبة للوظائف التى تتطلبها حياة الناس فىلأرض . . فكيف يذهب الناس - فى مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله فى شأن الزروع والأنعام والأموال؟
إن المنهج القرآنى يكثر من عرض حقيقة الرزق الذى يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية فى حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات فى صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل فى صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة فى العقيدة الإسلامية .
وعندما يذكر الزروع والثمار يقول :
{ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين } . .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدينة . وقد قلنا فى التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق فى الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت فى المدينة .

وهذا الأمر بإيتاء حق الرزع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات فى الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة . .
وقوله تعالى :
{ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } . .
ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } . .
وعندما يذكر الأنعام يقول :
{ كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين } . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين؟
ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية . ليلقي عليها الضوء ، ويستعرضها واحدا واحدا ، وجزئية جزئية؛ فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه؛ والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه ، حين يكشف له في النور؛ وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير :
{ ثمانية أزواج : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل؛ والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم ، هي ثمانية أزواج - وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عندما يكون مع رفيقه - زوج من الضأن وزوج من المعز . فأي منها حرمه الله على أي من الناس؟ أم إنه حرم أجنتها في البطون؟
{ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } . .
فهذه الشؤون لا يفتى فيها بالظن ، ولا يقضى فيها بالحدس ، ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم .
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل؛ وذكر وأنثى من البقر . فأيها كذلك حرم؟ أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس؟ ومن أين هذا التحريم :
{ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ } . .
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم . فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن . لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون .
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد . . وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه . لذلك يعالجهم بالتحذير والتهديد :
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم .

إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها ، ثم يقول : شريعة الله وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم ، إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن . . أولئك لن يهديهم الله؛ فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى . وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . . والله لا يهدي القوم الظالمين . .
والآن وقد كشف لهم عما في معقتداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم ، أو بوحي شياطينهم وشركائهم ، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم ، إنما الذي خلقها لهم هو الله ، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق ، وفيما أعطى من الأموال للعباد . .
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي ، لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية ، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام ، وإذا أحله فهو حلال؛ بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة ، وأحله للمسلمين ، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله
{ قل : لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل : ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } . .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري :
« يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قل ، يا محمد ، لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ، ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ، فأنبئونا به ، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له ، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك ، ولا يمكنكم دعواه ، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم .

فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله ، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون { ميتة } ، قد ماتت بغير تذكية ، أو { دماً مسفوحاً } ، وهو المنصبّ ، أو إلا أن يكون لحم خنزير { فإنه رجس } . . { أو فسقا } يقول : أو إلا أن يكون فسقاً ، يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق ، نهى الله عنه وحرمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .
« وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به ، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله ، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله » .
وقال في تأويل قوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } :
. . . « أن معناه : فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير ، أو ما أهل لغير الله به ، غير باغ في أكله إياه تلذذاً ، لا لضرورة حالة من الجوع؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله ، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . { فإن الله غفور } فيما فعل من ذلك ، فساتر عليه ، بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبه عليه . { رحيم } بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه » .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقط عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلا ت الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان - أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة؛ وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط . وحرم كذلك شحم البقر والغنم - إلا شحم الظهر ، أو الدهن الملتف بالأمعاء ، أو ما اختلط منه بالعظم . . وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه :
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر .

ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم ، وإنا لصادقون } .
والنص يبين سبب هذا التحريم ، وهو سبب خاص باليهود ، ويؤكد أن هذا هو الصدق ، لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل ، وهو يعقوب جدهم ، هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه . . لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب . ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا ، فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات .
{ فإن كذبوك فقل : ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } .
فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا ، وبمن كان مؤمنا من عباده ، وبغيرهم من خلقه . فرحمته - سبحانه - تسع المحسن والمسيء؛ وهو لا يعجل على من استحق العقاب؛ حلما منه ورحمة . فإن بعضهم قد يثوب إلى الله . . ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه ، وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم .
وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس . والله الذي خلق قلوب البشر؛ يخاطبها بهذا وذاك؛ لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب .
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم ، وسد الذرائع في وجوههم ، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليهم شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم . . إنهم يقولون : إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال . فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء :
{ سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن ، وإن أنتم إلا تخرصون . قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين } :
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة . . . وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل ، فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية . . ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد ، ما اشتد هذا الجدل ، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه .
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه ، فنجد قضية واضحة بسيطة محددة :
{ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } . . فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم ، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله ، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل . . يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم . فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا . .
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة؟
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله .

وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد :
{ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } . .
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر ، وتوقظ من الغفلة ، وتوجه إلى العبرة . .
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر . . إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات . . وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً . . فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه ، فكيف يعلمونه؟ وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه :
{ قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } . .
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً ، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية ، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟
هذا هو فصل القول في هذه القضية . . إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه . وإنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه ، ليكيفوا أنفسهم على حسبها . . وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه ، ويشرح صدورهم للإسلام . . وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ - في واقعها العملي - يسيرة واضحة ، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته
إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى ، أو يقهرهم على الهدى . أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر . . . ولكنه - سبحانه - شاء غير هذا شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال ، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى ، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته . . وجرت سنته بما شاء . .
{ قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين } .
قضية واضحة ، مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري . فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي . . ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة . لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها . .
إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها ، وأسلوب التعبير عنها كذلك . الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل . والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن . والحقيقة التي وراء هذا المدى ، لا بد أن تتناول بمنهج آخر . . هو كما قلنا من قبل : منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي . ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً .
وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً؛ تحدده أوامر ونواه واضحة . فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة ، يرتادها العقل بغير دليل ، ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود .
وأخيراً يوجه الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع ، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة :
في أوائل السورة قال له :

{ قل : أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } وهنا قال له :
{ قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون } . .
إنها مواجهة هائلة ، ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله؛ وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس . بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله ، ولا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون له أنداداً تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا :
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله- وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته؛ غير مؤمنين بالآخرة ، مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا إنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية ، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية ، واتخاذ شريعته وحدها قانونا ، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر . .
كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة ، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة ، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله ، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر .

ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره ، وفي شريعته وحكمه . .
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون
هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به ، بالتكذيب بآياته ، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك « مسلم » أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل « مسلم » كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .
وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات ، يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً . . وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم . وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول . . وهو الشرك بالله . . لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر ، لتقوم عليها المحرمات والنواهي ، لمن استسلم لها وأسلم :
{ قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحسانا ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ، نحن نرزقكم وإياهم . ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشده ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى - وبعهد الله أوفوا . . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . . } .
وننظر في هذه الوصايا - التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها - فإذا هي قوام هذا الدين كله . . إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد ، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة ، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات ، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات ، مرتبطة بعهد الله ، كما أنها بدئت بتوحيد الله . .
وننظر في ختام هذه الوصايا ، فإذا الله - سبحانه وتعالى - يقرر أن هذا صراطه المستقيم؛ وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل . . الوحيد . .
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث . . أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية؛ ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية؛ بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية . .
{ قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } .

.
قل : تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم - لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم- لقد حرمه عليكم { ربكم } الذي له وحده حق الربوبية - وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية - وإذن فهو اختصاصه ، وموضع سلطانه ، فالذي يحرم هو « الرب » والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا . .
{ ألا تشركوا به شيئاً } . .
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة؛ وترجع إليها التكاليف والفرائض ، وتستمد منها الحقوق والواجبات . . القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي؛ وقبل الدخول في التكاليف والفرائض ، وقبل الدخول في النظام والأوضاع؛ وقبل الدخول في الشرائع والأحكام . . يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم؛ لا يشركون معه أحداً في ألوهيته ، ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك . يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار؛ ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين؛ ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء . .
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك ، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة ، وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية ، وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد . .
إن الشرك - في كل صوره - هو المحرم الأول لانه يجر إلى كل محرم . وهو المنكر الأول الذي يجب حشد الإنكار كله له؛ حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله ، ولا رب لهم إلا الله ، ولا حاكم لهم إلا الله ، ولا مشرع لهم إلا الله . كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله . .
وإن التوحيد - على إطلاقه - لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر ، من عبادة أو خلق أو عمل . . من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة :
{ ألا تشركوا به شيئاً } . .
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا ، لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا - لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة - قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره - وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه :
{ قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون } . .
يجب أن نذكر هذه الآية ، وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً . . إنه الشرك في الاعتقاد ، كما أنه الشرك في الحاكمية . فالسياق حاضر ، والمناسبة فيه حاضرة . .
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر ، لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية ، قد آتت ثمارها - مع الأسف - فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة ، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام ، يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية؛ أو لاستنكار انحلال أخلاقي؛ أو لمخالفة من المخالفات القانونية .

ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية ، وموقعها من العقيدة الإسلامية يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية ، ولا يستنكرون المنكر الأكبر؛ وهو قيام الحياة في غير التوحيد؛ أي على غير إفراد الله - سبحانه - بالحاكمية . .
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية ، أوصاهم ألا يشركوا به شيئاً . في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا
إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة ، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ، وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية . . فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات ، واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات . .
{ وبالوالدين إحسانا ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } . .
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة - تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه - ولقد علم الله - سبحانه - أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء . فأوصى الأبناء بالآباء ، وأوصى الآباء بالأبناء؛ وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة ، والارتباط بربوبيته المتفردة . وقال لهم : إنه هو الذي يكفل لهم الرزق ، فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما؛ ولا تجاه الأولاد في ضعفهم ، ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً . .
{ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } . .
ولما وصاهم الله بالأسرة ، وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها - كما يقوم عليها المجتمع كله - وهي قاعدة النظافة والطهارة والعفة . فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها . . فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها . . وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا .
إنه لا يمكن قيام أسرة ، ولا استقامة مجتمع ، في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع . والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع .
والفواحش : كل ما أفحش - أي تجاوز الحد - وإن كانت أحياناً تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا . ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع . لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها ، فتكون هذه واحدة منها بعينها . ولا فقتل النفس فاحشة ، وأكل مال اليتيم فاحشة ، والشرك بالله فاحشة الفواحش . فتخصيص { الفواحش } هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق . وصيغة الجمع ، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها . فالتبرج ، والتهتك ، والاختلاط المثير ، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة ، والإغراء والتزيين والاستثارة . . . كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة . وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن .

منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح . منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف وكلها مما يحطم قوام الأسرة ، وينخر في جسم الجماعة ، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ، ويحقر من اهتماماتهم ، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد .
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية ، كان التعبير : { ولا تقربوا } . . للنهي عن مجرد الاقتراب ، سداً للذرائع ، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة . . لذلك حرمت النظرة الثانية - بعد الأولى غير المتعمدة - ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة . ولذلك كان التبرج - حتى بالتعطر في الطريق - حراماً ، وكانت الحركات المثيرة ، والضحكات المثيرة ، والإشارات المثيرة ، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة . . فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود ، ويوقع العقوبات . وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين ، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة ، من يزينون للناس الشهوات ، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . .
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة : الشرك ، والزنا ، وقتل النفس . . ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة؛ والثانية جريمة قتل للجماعة ، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة . . إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة ، منتهية حتماً إلى الدمار . والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية . شواهد من التاريخ . ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبئ بالمصير المرتقب لأمم ينخر فيها كل هذا الفساد . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات ، مجتمع مهدد بالدمار . . ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم في أقسى العقوبات ، لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق . فالآن ينهى عن قتل { النفس } عامة ، فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس { النفس } في عمومه . تؤيد هذا الفهم آية : { . . . أنه من قتل نفساً ، بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها ، وعلى النفس البشرية في عمومها . وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء . وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها ، وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته ، لا يُؤذى فيها إلا بالحق . والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته ، ولم يتركه للتقدير والتأويل . ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة ، وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة
وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة .

فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع ، لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف ، يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه :
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } .
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله . تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس ، وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس
كذلك تجيء في الإشارة إلى التعقل . فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها . وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس
وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس . وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس . فجعل هذه في آية ، وتلك في آية ، وبينهما هذا الإيقاع .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } . .
واليتيم ضعيف في الجماعة ، بفقده الوالد الحامي والمربي ، ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة- على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشياً في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه؛ حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه؛ فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة . وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه :
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } .
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه ، حتى يسلمه له كاملاً نامياً عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله ، ويحسن القيام عليه . وبذلك تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً؛ وسلمته حقه كاملا .
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك ، بلوغ الحلم ، وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون ، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
{ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - } .
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف ، والسياق يربطها بالعقيدة؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية ، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة ، وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .
ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات ، وبين الشرائع والمعاملات .

. من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب : { قالوا : يا شعيب ، أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء ، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة ، للدلالة على طبيعة هذا الدين ، وتسويته بين العقيدة والشريعة ، وبين العبادة والمعاملة ، في أنها كلها من مقومات هذا الدين ، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل .
{ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } . .
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه الله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد؛ بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل؛ وفي قوة القرابة سند لضعفه؛ وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أوعليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل ، على هدى من الاعتصام بالله وحده ، ومراقبة الله وحده ، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه؛ وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله :
{ وبعهد الله أوفوا } . .
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر ، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها ، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف :
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } . .
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل ، وهو يذكر عهد الله كله ، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .
. . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله ، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . . صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل :
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } . .
وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى :
{ أفغير الله أبتغي حكماً ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً }

وانتهى هذه النهاية ، بهذا الإيقاع العريض العميق . .
وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع ، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام ، والذبائح والنذور ، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية ، ليدل على أنها من هذه القضايا . التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة؛ وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل؛ وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد .
إنه صراط واحد - صراط الله - وسبيل واحدة تؤدي إلى الله . . أن يفرد الناس الله - سبحانه - بالربوبية ، ويدينوا له وحده بالعبودية؛ وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده؛ وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية . .
هذا هو صراط الله؛ وهذا هو سبيله . . وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله .
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } . .
فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل . والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل . .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

لم ينقطع تدفق السياق في الموضوع الأساسي الذي يعالجه شطر السورة الأخيرة - وهو موضوع الحاكمية والتشريع وعلاقتهما بالدين والعقيدة - وهذا الشوط الجديد هو امتداد في العرض ، وامتداد في الحشد ، لتقرير هذه الحقيقة .
وهو يتحدث عن المبادئ الأساسية في العقيدة - بصدد التشريع والحاكمية - كما كان الشطر الأول من السورة يتحدث عن هذه المبادئ في صدد قضية الدين والعقيدة . ذلك ليقرر أن قضية التشريع والحاكمية هي كذلك قضية الدين والعقيدة . وعلى ذات المستوى الذي يعرض به المنهج القرآني هذه الحقيقة . ومما يلاحظ أن السياق يستخدم في شطر السورة الثاني ذات المؤثرات والموحيات والمشاهد والتعبيرات التي حشدها في الشطر الأول منها :
* يتحدث عن الكتب والرسل والوحي والآيات التي يطلبونها .
* ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها .
* ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها .
* ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم ، ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة .
* ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعاً ، والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى .
* ويتحدث عن ملكية رب العالمين لكل شيء ، وتصريفها لكل شيء ، وعن استخلاف الله للناس كيف شاء ، وقدرته على الذهاب بمن يشاء منهم عندما يشاء .
وهذه هي ذاتها القضايا والحقائق ، والمؤثرات والموحيات التي حشدها في أول السورة عند عرض حقيقة العقيدة في محيطها الشامل . محيط الألوهية والعبودية وما بينهما من علائق . . ولا ريب أن لهذا دلالته التي لا تخفى على من يتعامل مع القرآن الكريم ومع المنهج القرآني .
يبدأ هذا المقطع الأخير في هذا الشطر من السورة بالحديث عن كتاب موسى . . وذلك تكملة للحديث السابق عن صراط الله المستقيم : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } للإيحاء بأن هذا الصراط ممتد من قبل في رسالات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وشرائعهم . وأقرب شريعة كانت هي شريعة موسى عليه السلام ، وقد أعطاه الله كتابا فصل فيه كل شيء ، وجعله هدى ورحمة لعل قومه يؤمنون بلقاء الله في الآخرة : { ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن ، وتفصيلاً لكل شيء ، وهدى ورحمة ، لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } .
ويستمر فيذكر الكتاب الجديد المبارك ، الملتحم بالكتاب الذي أنزل على موسى ، المتضمن للعقيدة وللشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها . رجاء أن ينال الناس - حين يتبعونها - رحمة الله في الدنيا والآخرة : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } . .
ولقد نزل هذا الكتاب قطعاً لحجة العرب ، كي لا يقولوا : إنه لم يتنزل علينا كتاب كالذي تنزل على اليهود والنصارى؛ ولو قد أوتينا الكتاب مثلما أوتوا لكنا أهدى منهم ، فها هو ذا كتاب يتنزل عليهم ، ويقطع هذه الحجة عليهم ، فيستحق الذين يكذبون العذاب الأليم : { أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا .

وإن كنا عن دراستهم لغافلين . أو تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم . . فقد جاءكم بينة من ربكم ، وهدى ورحمة ، فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } . .
لقد انقطعت المحجة بنزول هذا الكتاب؛ ولكنهم ما يزالون يشركون بالله؛ ويشرعون من عند أنفسهم ويزعمونه شريعة الله ، بينما كتاب الله قائم وليس فيه هذا الذي يفترونه . وما يزالون يطلبون الآيات والخوارق ليصدقوا بهذا الكتاب ويتبعوه . ولو جاءتهم الآيات التي يطلبون أو بعضها لكان فيها القضاء الأخير : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا . قل : انتظروا إنا منتظرون } .
وعند هذا الحد يفصل الله - سبحانه - بين نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسائر الملل المتفرقة التي لا تقوم على توحيد الله عقيدة وشريعة . ويقرر أن أمرهم إليه - سبحانه وتعالى - وأنه هو محاسبهم ومجازيهم وفق عدله ورحمته : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } .
وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا القطاع - وهو الإيقاع الأخير في السورة - في تسبيحة ندية رخية ، حازمة كذلك حاسمة ، تلخص أعمق أعماق الحقائق العقيدية في هذا الدين : التوحيد المطلق ، والعبودية الخالصة ، وجدية الآخرة ، وفردية التبعة والابتلاء في دار الدنيا . وسلطان الله المتمثل في ربوبيته لكل شي؛ وفي استخلافه للعباد في ملكه كيف شاء بلا شريك ولا معقب . . كما ترسم تلك التسبيحة المديدة صورة باهرة لحقيقة الألوهية ، وهي تتجلى في أخلص قلب ، وأصفى قلب ، وأطهر قلب . . قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . وذلك في مستوى من التجلي لا يصوره إلا التعبير القرآني ذاته : { قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم . ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً ، وما كان من المشركين . قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى؛ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون .

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ، إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم } . .
ونكتفي هنا بهذا القدر من الحديث المجمل ، لنأخذ في مواجهة النصوص بالتفصيل :
{ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ، وتفصيلاً لكل شيء ، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } . .
هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله . . وتأويله : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا . . } { وأن هذا صراطي مستقيماً } معطوفة على جملة : ألا تشركوا . . { ثم آتينا موسى الكتاب . . } معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم - صلى الله عليه وسلم - فالسياق مطرد كما أسلفنا .
وقوله { تماماً على الذي أحسن } . . تأويله - كما اختار ابن جرير- : « ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده ، وأيادينا قبله ، تتم به كرامتنا عليه ، على إحسانه وطاعته ربه ، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه . وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم » . .
وقوله : وتفصيلا لكل شيء . كما قال قتادة : فيه حلاله وحرامه .
وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه . .
. . هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى الكتاب ، جاء من أجله كتابكم ، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة :
{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } . .
وإنه لكتاب مبارك حقاً - كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون } [ الآية : 92 ] . . وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل؛ وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب ويؤمرون باتباعه؛ وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع . والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة ، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة .
وقد بطلت حجتكم ، وسقطت معذرتكم ، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم ، تفصيلاً لكل شيء . بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه؛ وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم :
{ أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا . وإن كنا عن دراستهم لغافلين . أو تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم . فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة . فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } . .
لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم . . حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمداً خاتم النبيين للناس كافة . فهو آخر رسول من الله للبشر ، فناسب أن يكون رسولاً إليهم أجمعين .

والله - سبحانه - يقطع الحجة على العرب أن يقولوا : إن كلا من موسى وعيسى إنما أرسلا إلى قومهما . ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم ، لا علم لنا به ولا اهتمام . ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا ، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب . . فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم - وإن كان رسولاً للناس أجمعين - وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه . وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض . وهو هدى لما هم فيه من ضلالة ، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة . .
فإذا كان ذلك كذلك ، فمن أشد ظلماً ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلماً لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم ، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها . . إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه؛ كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف - أي يميل - بجسمه ولا يستقيم إنهم { يصدفون } عن الحق والاستقامة ، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم :
{ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } . .
إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى . . فيستخدم هنا لفظ « يصدف » وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه كذلك يستخدم لفظ « يصعر خده » وهو مأخوذ من داء الصَّعَر الذي يصيب الإبل - كما يصيب الناس - فتعرض صفحة خدها ، اضطراراً ، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر ، ومثله استخدام لفظ { حبطت أعمالهم } من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسموماً فانتفخ بطنها ثم ماتت ومثلها كثير . .
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى ، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب . . وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد . وهو يتكرر هنا ، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله : فقد جاء في أول السورة : { وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون } وجاء هنا في آخرها :
{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ، أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : قل : انتظروا إنا منتظرون } . .
إنه التهديد الواضح الحاسم . فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتماً إذا جاءت الخارقة ثم لم يؤمن بها المكذبون .

. والله سبحانه يقول لهم : إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده . . وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولاعمل . . لنفس لم تؤمن من قبل ، ولم تكسب عملاً صالحاً في إيمانها . فالعمل الصالح هو دائماً قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام .
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك } هو أشراط الساعة وعلاماتها ، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . وعدوا من ذلك أشراطاً بعينها . . ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة الأولى . فقد سبق مثله في أول السورة ، وهو قوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية ، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة ، وأن هذا ملحوظ ومقصود ، لتقرير حقيقة بعينها . فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية . وهو كاف في التأويل ، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول . .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض - بما فيها ملة المشركين العرب - :
{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } . .
إنه مفرق الطريق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل . .
سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها ، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا . أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلاً ومعسكرات ودولاً . أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين .
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من هؤلاء كلهم في شيء . . إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز . . وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات . . وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام . . إسلامي . . وشيء آخر . . إن الإسلام إسلام فحسب . والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب . والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى .

وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده - وبالتعبير الآخر : ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده - إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى . . قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام
إن الدين عند الله الإسلام . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام .
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً ، وغير شريعة الله شرعا . .
الأمر هكذا جملة . وللنظرة الأولى . بدون دخول في التفصيلات
وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعاً ، وبرئ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم من الله تعالى . . أمرهم بعد ذلك إلى الله؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون :
{ إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } . .
وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده . فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن - فليس مع الكفر من حسنة - فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها؛ لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه :
{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها . وهم لا يظلمون } . .
وفي ختام السورة - وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية - تجيء التسبيحة الندية الرخية ، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب؛ وفي تقرير كذلك حاسم فاصل . . ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية : « قل » . . « قل » . . « قل » . . ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد . . توحيد الصراط والملة . توحيد المتجه والحركة . توحيد الإله والرب . توحيد العبودية والعبادة . . مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته .
{ قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي ربا ، وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم . إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم } . .
هذا التعقيب كله ، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحناً رائعاً باهراً متناسقاً ، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار ، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع ، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله .

. فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد . .
{ قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم . ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } . .
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر ، ويشي بالثقة ، ويفيض باليقين . . اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية ، والثقة بالصلة الهادية . . صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية . . والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي لا التواء فيه ولا عوج : { ديناً قيماً } . . وهو دين الله القديم منذ إبراهيم . أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب : { ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين } .
{ قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له . وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } . .
إنه التجرد الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . وبالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه .
إنها تسبيحة « التوحيد » المطلق ، والعبودية الكاملة ، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات ، وتخلصها لله وحده . لله { رب العالمين } . . القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين . . في « إسلام » كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله ، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في الواقع . . { وبذلك أمرت } . . فسمعت وأطعت : { وأنا أول المسلمين } .
{ قل : أغير الله أبغي ربا ، وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون؟ } . .
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن؛ وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل؛ وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية . . ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل؛ وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة .
ثم تعجب في استنكار :
{ أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } ؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن عليَّ ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي ، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية؟
أغير الله أبغي ربا . وهذا الكون كله في قبضته؛ وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ } . .
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعاً فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا ، وهو الذي استخلف الناس في الأرض ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق؛ ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا ، وهو سريع العقاب ، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا ، فأجعل شرعه شرعاً ، وأمره أمراً ، وحكمه حكماً . وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة؛ وكلها شاهدة؛ وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟؟؟
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية؛ يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع .

مشهد الحقيقة الإيمانية ، كما هي في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد . .
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة؛ يجيء متناسقاً مع الإيقاعات الأولى في السورة ، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان؛ من ذلك قوله تعالى : { قل : أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين } وغيرها في السورة كثير . .
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مراراً من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام . فهي صور متنوعة للحقيقة الواحدة . . الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير . وتبدو مرة في صورة منهج للحياة . . وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين . .
ولكننا نتلفت الآن - وقد انتهى سياق السورة - على المدى المتطاول ، والمساحة الشاسعة ، والأغوار البعيدة . . تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة - ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء - فإذا هو شيء هائل هائل . . وننظر إلى حجم السورة ، فإذا هي كذا صفحة ، وكذا آية ، وكذا عبارة . . ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات؛ في مثل هذه المساحة المحدودة . . وذلك فضلاً على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها ، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك . .
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد ، عميقة الأغوار ، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة . . رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة . . رحلة تكفي وحدها لتحصيل « مقومات التصور الإسلامي »
حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها . .
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون ، ومن قدر مجهول ، ومن مشيئة تمحو وتثبت ، وتنشئ وتعدم ، وتحيي وتميت ، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء .
وحقيقة النفس الإنسانية ، بأغوارها وأعماقها ، ودروبها ومنحنياتها ، وظاهرها وخافيها ، وأهوائها وشهواتها ، وهداها وضلالها ، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن . . وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال . .
ومشاهد قيامة ، ومواقف حشر ، ولحظات كربة وضيق ، ولحظات أمل واستبشار . ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض؛ ولقطات من تاريخ الكون والحياة .
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة . والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها ، في سياقها الفريد ، وفي أدائها العجيب .
إنه الكتاب « المبارك » . . وهذه - بلا شك - واحدة من بركاته الكثيرة . . والحمد لله رب العالمين . .

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

{ المص } . . ألف . لام . ميم . صاد . .
هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة وفي أول سورة آل عمران . وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل ، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر ، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلاماً كهذا القرآن ، وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها ، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله . فلا بد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات . . وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم . والله أعلم بمراده .
وعلى ذلك يصح القول بأن { المص } مبتدأ خبره : { كتاب أنزل إليك } . . بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب . . كما يصح القول بأن { المص } مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه . و { كتاب } خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو كتاب : أو هذا كتاب . .
{ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين } . .
كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير . . كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات . فالحرج في طريقه كثير ، والمشقة في الإنذار به قائمة . . لا يدرك ذلك - كما قلنا في التعريف بالسورة - إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها ، وفي مظاهرها وفروعها ، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة - صلى الله عليه وسلم - ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها . .
وهذا الموقف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك ، وما كان في الأرض من حولها . . إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . . إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة . . وهو يواجهها كما واجهها أول مرة ، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة . . إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها - وهذه هي « الرجعية » البائسة المرذولة - وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه « الرجعية » مرة أخرى كذلك؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأولى - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي ظلام التصورات .

وظلام الشهوات . وظلام الطغيان والذل . وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضاً ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج ، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية ، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم :
{ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين } . .
ويعلم - من طبيعة الواقع - من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار . ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة ، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً . .
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب ، مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر؛ وألا يكون في صدره حرج منه ، وهو يواجه الجاهلية ، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق . .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين ، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر ، والسطوح والأعماق .
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين ، المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق . .
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم ، وليقيم عالماً آخر ، يقر فيه سلطان الله وحده ، ويبطل سلطان الطواغيت . عالماً يعبد فيه الله وحده - بمعنى « العبادة » الشامل - ولا يعبد معه أحد من العبيد . عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادةِ الله وحده . عالماً يولد فيه « الإنسان » الحر الكريم النظيف . . المتحرر من شهوته وهواه ، تحرره من العبودية لغير الله .
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة : « أشهد أن لا إله إلا الله » التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر ، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره ، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . . وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه؛ ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده . ولا يتلقى الشرائع والقوانين ، والقيم والموازين ، والعقائد والتصورات إلا من الله ، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد . . فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية .
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلاً وهم الملحدون .

. فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله ، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة . كما في الهند ، وفي أواساط إفريقية ، وفي أجزاء متفرقة من العالم .
وشيعة « أهل كتاب » من اليهود والنصارى . وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله . كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع . وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً . . ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها « الرأسمالية » و « الاشتراكية » . . وما إليها . ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها « الديمقراطية » و « الديكتاتورية » . . . وما إليها . ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله ، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم ، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم .
وشيعة تسمي نفسها « مسلمة » وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوك النعل بالنعل - خارجة من دين الله إلى دين العباد . فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه . ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية . . شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً . . وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة ، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور . ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع . . وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية ، المستنيمة للمستنقع الآسن ، الضالة في تيه الجاهلية ، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه . . وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة : أشهد أن لا إله إلا الله . وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده ، ولا يعبد معه سواه . وتحقيق ميلاد للإنسان جديد . يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد ، ومن عبادة هواه
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . . إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة ، في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد . . . التي واجهها أول مرة .
إن الجاهلية حالة ووضع؛ وليست فترة تاريخية زمنية . . والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض ، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع . . إنها تقوم ابتداء على قاعدة : « حاكمية العباد للعباد » ، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد . تقوم على أساس أن يكون « هوى الإنسان » في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم ، ورفض أن تكون « شريعة الله » هي القانون المحكم .

. ثم تختلف أشكالها ومظاهرها ، وراياتها وشاراتها ، وأسماؤها وأوصافها ، وشيعها ومذاهبها . . غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها . .
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية . وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية . وأن الإسلام اليوم متوقف عن « الوجود » مجرد الوجود وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تماماً؛ ويواجهون ما كان يواجهه - صلى الله عليه وسلم - تماماً ، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله - سبحانه - له :
{ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين } . .
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل :
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية . وهي من ثم مجتمعات « متخلفة » أو « رجعية » بمعنى أنها « رجعت » إلى الجاهلية ، بعد أَن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها . والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية ، وقيادتها في طريق التقدم و « الحضارة » بقيمها وموازينها الربانية .
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد . وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان الله - لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد . ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد . . لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية . فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد . . كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين . . ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي : « مجتمع جاهلي مشرك »
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة . ويكون هذا كله صادراً من الله ، لا من هوى فرد ، ولا من إرادة عبد . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً . أَو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً ربانياً مسلماً . . لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في « الإنسان » من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . وما إلى ذلك من الروابط . . فإنه يكون مجتمعاً رجعيا متخلفا . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . . ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض .

. وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في « الإنسان » . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض . ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه . ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه ، ولا لونه ، ولا قومه . لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض . . فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها
وحين تكون « إنسانية الإنسان » هي القيمة العليا في مجتمع؛ وتكون « الخصائص الإنسانية » فيه موضع التكريم والرعاية ، يكون هذا المجتمع متحضراً متقدما . . أو بالاصطلاح الإسلامي : ربانياً مسلماً . . فأما حين تكون « المادة » - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا . . سواء في صورة « النظرية » كما في الماركسية ، أو في صورة « الإنتاج المادي » كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا ، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . .
. . إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة؛ لا في صورة « النظرية » باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه؛ ولا في صورة « الإنتاج المادي » والاستمتاع به . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص « الإنسان » ومقوماته كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية . . الملحدة أو المشركة . .
وحين تكون القيم « الإنسانية » والأخلاق « الإنسانية » - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع ، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي . . ربانياً مسلماً . . والقيم « الإنسانية » والأخلاق « الإنسانية » ليست مسألة غامضة ولا مائعة؛ وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين ، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان « خصائص الإنسان » التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً .

وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان . . وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت ، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها « التطوريون » عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة ، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها ، وحتمية في نشأتها وتقريرها . إنما تكون هناك فقط « قيم وأخلاق إنسانية » يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . « وقيم وأخلاق حيوانية » - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية ، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية إن المفهوم « الأخلاقي » ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحيانا في حدود مصلحة الدولة - والكتّاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان : إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر « الإنسانية » . وبمقياس خط التقدم الإنساني . . وهي كذلك غير إسلامية . . لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته ، وتنمية خصائصه الإنسانية ، وتغلبها على نزعاته الحيوانية . .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة ، وإغراقها في الجاهلية . . من العقيدة إلى الخلق . ومن التصور إلى أوضاع الحياة . . ونحسب أن هذه الإشارة المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . . إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام : عقيدة وخلقاً ونظاماً . . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه؛ وربه - سبحانه - يخاطبه :
{ كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين } . .
وفي الوقت الذي وجه الله - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله ، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب ، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله .

ذلك أن القضية في صميمها هي قضية « الاتباع » . . من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون . أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان :
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلاً ما تذكرون } .
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية . . إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله ، والاعتراف له بالربوبية ، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع ، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه . . وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك ، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة . . وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟
وفي الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه : { كتاب أنزل إليك } . . وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } . فأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر . وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه ، ولا يتبعوا أمر أحد غيره . . والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة . فالذي ينزل له ربه كتاباً ، ويختاره لهذا الأمر ، ويتفضل عليه بهذا الخير ، جدير بأن يتذكر وأن يشكر؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر .
ولأن المحاولة ضخمة . . وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية : تصوراتها وأفكارها ، وقيمها وأخلاقها ، وعاداتها وتقاليدها ، ونظمها ، وأوضاعها ، واجتماعها واقتصادها ، وروابطها بالله ، وبالكون ، وبالناس . .
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية ، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً . . وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا ، ومصائرهم كذلك في الآخرة :
{ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . . فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } . .
إن مصارع الغابرين خير مذكر ، وخير منذر . . والقرآن يستصحب هذه الحقائق ، فيجعلها مؤثرات موحية ، ومطارق موقظة ، للقلوب البشرية الغافلة .
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها . أهلكت وهي غارة غافلة . في الليل وفي ساعة القيلولة ، حيث يسترخي الناس للنوم ، ويستسلمون للأمن :
{ وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } .
وكلتاهما .

. البيات والقيلولة . . ساعة غرّة واسترخاء وأمان والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا . وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار
{ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين } . .
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى { إنا كنا ظالمين } . . فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف ، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك . فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن . . فالشرك هو الظلم . والظلم هو الشرك . وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟
وبينما المشهد معروض في الدنيا ، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه ، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه ، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف ، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة . فإن الندم قد فات موعده ، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب . .
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل ، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة . بلا توقف ولا فاصل . فالشريط المعروض موصول المشاهد ، والنقلة تتخطى الزمان والمكان ، وتصل الدنيا بالآخرة ، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة :
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق . فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } . .
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي ، خاصية من خواص القرآن . . إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة . وفي سطر من كتاب . لتلتحم الدنيا بالآخرة؛ ويتصل البدء بالختام
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء ، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون : { إنا كنا ظالمين } . .
ولكنه السؤال الجديد ، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود :
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم - وما كنا غائبين } .
فهو السؤال الدقيق الوافي ، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين . . وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق . . يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون . ويسأل الرسل فيجيبون . ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه يقصه عليهم - سبحانه - بعلم فقد كان حاضراً كل شيء . وما كان - سبحانه - غائباً عن شيء . . وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير
{ والوزن يومئذ الحق } . .
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين .

.
{ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } . .
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق . وجزاؤها إذن هو الفلاح . . وأي فلاح بعد النجاة من النار ، والعودة إلى الجنة ، في نهاية الرحلة المديدة ، وفي ختام المطاف الطويل؟
{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } . .
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ . وقد خسروا أنفسهم . فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه . فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله : { بما كانوا بآياتنا يظلمون } والظلم - كما أسلفنا - يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر : { إن الشرك لظلم عظيم } ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان - كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر « الإسلامي » . . فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل . مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء . . وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق . . من أن الحساب يومئذ بالحق ، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة ، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً .
{ ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلاً ما تشكرون } :
إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها ، وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادراً على تطويعها واستخدامها؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته .
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن « يقهر الطبيعة » كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية ، وكل تسخير لها « قهراً للطبيعة » في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني
إنها تصورات سخيفة ، فوق أنها تصورات خبيثة
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان ، عدوة له ، تتربص به ، وتعاكس اتجاهه ، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلاً وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون ، وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان ، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة
وفي ظل هذا التصور يعيش « الإنسان » في كون مأنوس صديق؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة .

. يعيش مطمئن القلب ، مستروح النفس ، ثابت الخطو ، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع .
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس ، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره ، ولا يمنع عنه مدده وعونه . . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله
إن مأساة « الوجودية » الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني ، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني والبؤس النفسي والعقلي ، والشرود في التيه : تيه التمرد ، أو تيه العدم . . وهما سواء . .
وهي ليست مأساة « الوجودية » وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها ، المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة ، التي تنشئ في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود ، وما وراءه من قوة مدبرة .
إن « الإنسان » هو ابن هذه الأرض؛ وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ، ومكنه فيها ، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش ، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان ، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . .
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :
{ قليلاً ما تشكرون } .
بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة . . تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب ، في رحاب الملأ الأعلى . . يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم؛ زيادة في الحفاوة والتكريم . وتحتشد له الملائكة - وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس - وتشهده السماوات والأرض؛ وما خلق الله من شيء . . إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود :
{ ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين .

قال : ما منعك أَلا تسجد إذ أمرتك؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين . قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين . قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين . قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } . .
هذا هو المشهد الأول . . وهو مشهد مثير . . ومشهد خطير . . ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء؛ ونرجئ التعليق عليها ، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها . .
{ ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين }
إن الخلق قد يكون معناه : الإنشاء . والتصوير قد يكون معناه : إعطاء الصورة والخصائص . . وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان . . فإن { ثم } قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للترقي المعنوي . والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود . فالوجود يكون للمادة الخامة؛ ولكن التصوير - بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص - يكون درجة أرقى من درجات الوجود . فكأنه قال : إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجوداً ذا خصائص راقية . وذلك كقوله تعالى : { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } فإن كل شيء أعطي خصائصه ووظائفه وهُدِي إلى أدائها عند خلقه . ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها . والمعنى لا يختلف إذا كان معنى « هَدى » : هداه إلى ربه . فإنه هُدي إلى ربه عند خلقه . وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه . . « وثم » . . للترقي في الرتبة ، لا للتراخي في الزمن . كما نرجح .
وعلى أية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام ، وفي نشأة الجنس البشري ، ترجح أَن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة ، كان مصاحباً لخلقه . وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية . ولم يكن ترقياً في « وجود » الإنسان . من تطورالأنواع حتى انتهت إلى الإنسان - كما تقول الداروينية .
ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً - بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء - هو مجرد نظرية « ظنية » وليست « يقينية » لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظناً مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها . وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها
على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود « أنواع » من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض؛ بفعل الظروف السائدة في الأرض ، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها ، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة .

ولكن هذا لا « يحتم » أن يكون بعضها « متطوراً » من بعض . . وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا . . لا تستطيع أن تثبت - في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنياً . . وهذا يمكن تعليله كما قلنا . . بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع . فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ . ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشاً من قبل في الظروف الأخرى فانقرض .
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة ، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع ، وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية .
وتفرد « الإنسان » من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية . هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون - وفيهم الملحدون بالله كلية - للاعتراف به ، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية ، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي
على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني؛ في حفل حافل من الملأ الأعلى :
{ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . فسجدوا . إلا إبليس لم يكن من الساجدين } . .
والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم؛ لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم - وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال - وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة . لقوله تعالى : { إن إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } والجن خلق غير الملائكة ، لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره - وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضاً - وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار . فهو من غير الملائكة قطعاً . وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة . في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل ، ميلاد هذا الكائن الفريد . .
فأما الملائكة - وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله ، لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير . . هذه طبيعتهم ، وهذه خصائصهم : وهذه وظيفتهم . . وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله ، كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله .

وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله - سبحانه - وعصاه . وسنعلم : ما الذي حاك في صدره ، وما التصور الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه . وهو يعرف أنه ربه وخالقه ، ومالك أمره وأمر الوجود كله؛ لا يشك في شيء من هذا كله
وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله : نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق . ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت . . وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية . وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء . فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله ، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق . وأما الطبيعتان الأخريان ، فسنعرف كيف تتجهان .
{ قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين } .
لقد جعل إبليس له رأياً مع النص . وجعل لنفسه حقاً في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر . . وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر ، ويبطل التفكر؛ وتتعين الطاعة ، ويتحتم التنفيذ . . وهذا إبليس - لعنه الله - لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره . . ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه . . بمنطق من عند نفسه :
{ قال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } . .
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه :
{ قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين } . .
إن علمه بالله لم ينفعه ، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه . . وكذلك كل من يتلقى أمر الله؛ ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية . . إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد . فإبليس لم يكن ينقصه العلم ، ولم يكن ينقصه الاعتقاد
لقد طرد من الجنة ، وطرد من رحمة الله ، وحقت عليه اللعنة ، وكتب عليه الصغار .
ولكن الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب ، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم . ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تمحضت فيه :
{ قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين } . .
فهو الإصرار المطلق على الشر ، والتصميم المطلق على الغواية . . وبذلك تتكشف هذه الطبيعة عن خصائصها الأولى . . شر ليس عارضاً ولا وقتياً . إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد . .
ثم هو التصوير المشخص للمعاني العقلية والحركات النفسية ، في مشاهد شاخصة حية :
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث .

وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلاّ بإرادة الله وقدره . ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار ، ولكن إلى { يوم الوقت المعلوم } كما جاء في السورة الأخرى . وقد وردت الروايات : أنه يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض - إلا من شاء الله - لا يوم يبعثون . .
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث - وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل - أنه سيرد على تقدير الله له الغواية وإنزالها به ، بسبب معصيته وتبجحه؛ بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله ، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه :
{ . . . لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم } . .
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم ، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه - والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً ، فالله سبحانه جل عن التحيز ، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله - وإنه سيأتي البشر من كل جهة : { من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم } للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة . . وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم ، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه ، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب :
{ ولا تجد أكثرهم شاكرين } . .
ويجيء ذكر الشكر ، تنسيقاً مع ما سبق في مطلع السورة : { قليلاً ما تشكرون } . . لبيان السبب في قلة الشكر ، وكشف الدافع الحقيقي الخفي ، من حيلولة إبليس دونه ، وقعوده على الطريق إليه ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى؛ وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين
لقد أجيب إبليس إلى ملتمسه . لأن مشيئة الله - سبحانه - اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه؛ بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر؛ وبما وهبه من عقل مرجح؛ وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل؛ ومن الضبط والتقويم بهذا الدين . كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية؛ وأن يصطرع في كيانه الخير والشر؛ وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين ، فتحق عليه سنة الله وتتحقق مشيئته بالابتلاء ، سواء اهتدى أو ضل ، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة ، تحقق الهدى أو الضلال .
ولكن السياق هنا لا يصرح بترخيص الله - سبحانه - لإبليس - عليه اللعنة - في إيعاده هذا الأخير ، كما صرح بإجابته في إنظاره . إنما يسكت عنه ، ويعلن طرد إبليس طرداً لا معقب عليه . طرده مذموماً مقهوراً ، وإبعاده بملء جهنم منه وممن يتبعه من البشر ويضل معه :
{ قال : اخرج منها مذؤوماً مدحوراً .

لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } . .
ومن يتبعه من البشر قد يتبعه في معرفته بالله واعتقاده بألوهيته ، ثم في رفض حاكمية الله وقضائه ، وادعاء أن له الحق في إعادة النظر في أوامر الله ، وفي تحكيم منطقه هو في تنفيذها أو عدم تنفيذها . . كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً . . وهذا وذلك كلاهما اتباع للشيطان؛ جزاؤه جهنم مع الشيطان
لقد جعل الله - سبحانه - لإبليس وقبيله فرصة الإغواء . وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقاً للابتلاء ، الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن؛ وتجعله به خلقاً متفرداً في خصائصه ، لا هو ملك ولا هو شيطان . لأن له دوراً آخر في هذا الكون ، ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان .
وينتهي هذا المشهد ، ليتلوه مشهد آخر في السياق :
ينظر الله - سبحانه - بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة - إلى آدم وزوجه . . وهنا فقط نعرف أن له زوجاً من جنسه ، لا ندري كيف جاءت . فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا الغيب بشيء . وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها ، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه ، فصارا زوجين اثنين؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة . وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء يمكث طويلاً بعد خلق آدم ، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم . .
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه ، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي ، الذي خلق الله له هذا الكائن . وهو دور الخلافة في الأرض - كما صرح بذلك في آية البقرة : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين } . .
ويسكت القرآن عن تحديد { هذه الشجرة } . لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها . مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود . . لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال ، ووصاهما بالامتناع عن المحظور . ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات ، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان ، فهذه هي خاصية « الإنسان » التي يفترق بها عن الحيوان ، ويتحقق بها فيه معنى « الإنسان » .

والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له . .
إن هذا الكائن المتفرد؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى . . إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة؛ مستعد للاتجاهين على السواء . وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها - ما لم يلتزم بأمر الله فيها - ومن هذه النقطة تمكن إصابته ، ويمكن الدخول إليه . . إن له شهوات معينة . . ومن شهواته يمكن أن يقاد
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات :
{ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما؛ وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ، أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } . .
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله ، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه . ولكننا نعلم - بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب - أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات . وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان . وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير . .
وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما . . فهذا كان هدفه . . لقد كانت لهما سوآت ، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها - وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية ، فكأنها عوراتهما - ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة :
{ وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } . .
بذلك داعب رغائب « الإنسان » الكامنة . . إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمراً أجلاً طويلاً . كالخلود ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد . .
وفي قراءة : { ملكين } بكسر اللام . وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه : { هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى } وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال : إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل - وعلى قراءة { ملكين } بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود . . ولكن القراءة الأولى - وإن لم تكن هي المشهورة - أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر ، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة .
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة؛ وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته؛ فقد استعان على زعزعته - إلى جانب مداعبة شهواتهما - بتأمينهما من هذه الناحية؛ فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح ، وفي نصحه صادق :
{ وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين } .

.
ونسي آدم وزوجه - تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر - أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله ، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه
نسيا هذا كله ، واندفعا يستجيبان للإغراء
{ فدلاهما بغرور . فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؛ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟ } . .
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة . لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته ، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا :
{ فدلاهما بغرور }
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت ، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما . فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض { يخصفان } ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما - مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها ، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية
{ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين؟ } . .
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة . . أما كيف كان النداء وكيف سمعاه ، فهو كما خاطبهما أول مرة . وكما خاطب الملائكة . وكما خاطب إبليس . كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع . وأن الله يفعل ما يشاء .
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد . . إنه ينسى ويخطئ . إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان . إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً . . ولكنه يدرك خطأه؛ ويعرف زلته؛ ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة . . إنه يثوب ويتوب؛ ولا يلح كالشيطان في المعصية ، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية
{ قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } . .
إنها خصيصة « الإنسان » التي تصله بربه ، وتفتح له الأبواب إليه . . الاعتراف ، والندم ، والاستغفار ، والشعور بالضعف ، والاستعانة به ، وطلب رحمته . مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته . . وإلا كان من الخاسرين . .
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت . وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى . وعرفها هو وذاقها . واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه . .
{ قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين .

قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون } . .
وهبطوا جميعاً . . هبطوا إلى هذه الأرض . . ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟ . . هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده . . وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة . وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم و « علمهم » الظني هو تبجح ، فهذا « العلم » يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة . ويتبجح حين ينفي الغيب كله ، والغيب محيط به في كل جانب ، والمجهول في « المادة » التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات
لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض . . آدم وزوجه ، وإبليس وقبيله . هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً . وليعادي بعضهم بعضاً؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين : إحداهما ممحضة للشر ، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر؛ وليتم الابتلاء ، ويجري قدر الله بما شاء .
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض؛ ويمكنوا فيها ، ويستمتعوا بما فيها إلى حين . وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا؛ ثم يخرجوا منها فيبعثوا . . ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره ، في نهاية الرحلة الكبرى . .
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات ، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه . وينهزم فيها ما تولى عدوه .
وبعد فإنها ليست قصة إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته ، والعوالم المحيطة به ، والقدر الذي يصرف حياته ، والمنهج الذي يرضاه الله له ، والابتلاء الذي يصادفه ، والمصير الذي ينتظره . . وكلها حقائق تشارك في تقرير « مقومات التصور الإسلامي » . .
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال ، ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن « خصائص التصور الإسلامي ومقوماته » . .
* إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية ، هي - كما قلنا من قبل - التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني . والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان؛ والذي يجعل هذه النشأة قدراً مرسوماً لا فلتة عارضة ، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة .
والذين لا يعرفون الله سبحانه ، ولا يقدرونه حق قدره ، يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة . فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقاً من مخلوقات هذه الأرض . ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون . قالوا : إنه ليس من « المعقول » أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد؛ فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة ، وأن الكون من حوله معادٍ لنشأته ونشأة الحياة جملة . . وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة
وحقاً لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض ، ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل؛ ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره ، والتنسيق بين جميع الأشياء فيه .

. غير أن الله - سبحانه - هو الله هو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . هو صاحب هذا الملك الكبير الذي لا يقوم شيء منه إلا برعايته؛ كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته . . إنما آفة هذا الإنسان ، حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه - ولو كان يسميه علماً - أن ينسى أنه الله . ويتصوره - سبحانه - على هواه ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة
يقول سير جيمس جينز - كمثل على التصورات البشرية الضالة الكثيرة - في كتاب : « الكون الغامض » : « ونحن إذ نقف على أرضنا - تلك الحبيبة الرملية المتناهية في الصغر - نحاول أن نكشف عن طبيعة الكون الذي يحيط بموطننا في الفضاء والزمن ، وعن الغرض من وجوده ، نحس في أول الأمر بما يشبه الذعر والهلع . وكيف لا يكون الكون مخيفاً مرعباً ، وهذه أبعاده هائلة لا تستطيع عقولنا إدراك مداها؟ وقد مرت عليه أحقاب طويلة لا يمكن تصورها؟ ويتضاءل إلى جانبها تاريخ الإنسان حتى يبدو وكأنه لمح البصر؟ . . وهو مخيف مرعب لما نشعر به من وحدة مرهوبة ، وما نعلمه من ضآلة موطننا في الفضاء . ذلك الموطن الذي لا يزيد على جزء من مليون جزء من إحدى حبيبات الرمال التي في بحار العالم؟ . . ولكن أخوف ما يُخاف العالم من أجله : أنه لا يُعنى - كما يلوح - بحياة مثل حياتنا . وكأن عواطفنا ومطامعنا وأعمالنا وفنوننا وأدياننا كلها غريبة عن نظامه وخطته . وقد يكون من الحق أن نقول : إن بينه وبين حياة كحياتنا عداء قوياً . ذلك بأن الفضاء في أكثر أجزائه بارد إلى حد تتجمد فيه كل أنواع الحياة . . كما أن أكثر المادة التي في الفضاء تبلغ من الحرارة حداً يجعل الحياة فيه مستحيلة؛ وأن الفضاء تذرعه إشعاعات مختلفة الأنواع ، لا تنفك تصدم ما فيه من أجرام فلكية؛ وقد يكون كثير من هذه الإشعاعات معادياً للحياة أو مبيداً لها .
» هذا هو الكون الذي ألقت بنا فيه الظروف . وإذا لم يكن حقاً أن ظهورنا حدث بسبب غلطة وقعت فيه . فلا أقل من أن يكون نتيجة لما يصح أن يوصف بحق أنه مصادفة « .
وقد بينا من قبل أن افتراض عداء الكون لنشأة الحياة مع افتراض عدم وجود تقدير وتدبير من قوة مهيمنة . . ثم وجود الحياة بعد ذلك فعلاً . . أمور لا يتصورها عقل عاقل فضلاً على أن يكون عقل عالم وإلا فكيف أمكن ظهور الحياة في الكون المعادي لها مع افتراض عدم وجود قوة مهيمنة مقدِّرة هل الحياة أقوى من الكون بحيث تظهر رغم أنفه؟ ورغم عدائه لها بطبيعة تكوينه؟ هل هذا الكائن الإنساني مثلاً - قبل أن ينشأ - أقوى من هذا الكون الموجود فعلاً ، ومن ثم طلع هكذا في الكون ، وأنف الكون راغم؟
إنها تصورات لا تستحق عناء النظر ولو أن هؤلاء » العلماء « يكتفون بأن يقولوا لنا فقط ما تصل إليه وسائلهم من وصف الموجودات ، دون أن يدخلوا في أمثال هذه التخرصات » الميتافيزيقية « التي لا تستند على أساس ، لأدوا دورهم - ولو ناقصاً - في تعريف الناس بالكون من حولهم ولكنهم يتجاوزون دائرة المعرفة المأمونة إلى تيه الفروض والظنون ، بلا دليل إلا الهوى الإنساني الصغير
ونحن - بحمد الله وبهداه - ننظرإلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه سير جيمس جينز إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارئ هذا الكون؛ ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه؛ ونشعر بالطمأنينة والأنس ، لهذا الكون الصديق ، الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق .

. وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته؛ ولكننا لا نفزع ولا نجزع ، ولا نشعر بالضياع ، ولا نتوقع الهلاك . . فإن ربنا وربه الله . . ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة؛ ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا . . ونرجو أن نكون من الشاكرين :
{ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش . قليلاً ما تشكرون } . .
* والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية : هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية؛ وضخامة دوره المنوط به؛ وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها؛ وتنوع العوالم التي يتعامل معها - في حدود عبوديته لله وحده - مما يتناقض تماماً مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدر قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون ، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية . ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل خصائصه الإنسانية المتميزة؛ أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقاً في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه . . إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد ، لا تجعل من الإنسان « إلهاً » كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول . إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم .
لقد أُعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد ، الذي نرجح من مجموعة النصوص القرآنية - ولا نجزم - أن نشأته كانت مستقلة - أعلن هذا الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى . وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله . . وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه؛ وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيداً وإعداداً لهذه الخلافة .

كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة ، أن الله جعل هذا الكون - لا الأرض وحدها - عوناً له في هذه الخلافة . وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . .
وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له . فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه - أياً كان حجم هذا الكوكب - إنها لأمر عظيم
والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها ، ولكن في الكون كله . فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لا يعلمه إلا الله من الخلق؛ لها وظائف أخرى ، كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف . وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه . يدل على ذلك قول الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوماً جهولاً } وإذن فهو متفرد في الكون كله بخصائص . . ومنها الظلم والجهل إلى جانب الاختيار النسبي والاستعداد للمعرفة المترقية ، والإرادة الذاتية . والمقدرة على العدل والعلم ، بقدر المقدرة على الظلم والجهل . . فهذا الازدواج ذاته هو ميزته التي تفرده .
كل أولئك يلغي تلك النظرة للإنسان القائمة على صغر حجم الكوكب الذي يعيش عليه؛ بالقياس إلى أحجام الكون الهائلة . فالحجم ليس هو كل شيء . وخصيصة العقل القابل للمعرفة ، والإرادة القابلة للاستقلال - في حدود العبودية لله - والاختيار والترجيح الذاتي . . كل أولئك يفوق في قيمته ، الحجم الذي يقيم عليه سير جيمس جينز وأمثاله نظرتهم إلى قيمة الإنسان ودوره .
هذه الأهمية التي تخلعها القصة ومجموع النصوص القرآنية على هذا الكائن الإنساني لا تقتصر على دوره في خلافة الأرض ، بهذه الخصائص المتفردة؛ ولكن صورتها تكمل بتأمل الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها ، والعوالم التي يتعامل معها .
إنه يتعامل تعاملاً مباشراً مع ربه الجليل سبحانه هو الذي أنشأه بيده ، وأعلن ميلاده في الملأ الأعلى وفي الوجود كله بنطقه ، وخوله الجنة يأكل منها حيث يشاء - إلا الشجرة المحظورة - ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره؛ وعلمه أساس المعرفة - كما في آية البقرة { وعلم آدم الأسماء كلها } وهو ما نرجح أنه القدرة على الرمز باللفظ والاسم للمدلول والمسمى ، وهو القاعدة التي يقوم عليها إمكان تبادل المعرفة وتعميمها في الجنس كله - كما قلنا في سورة البقرة - وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها ، وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تفرد جنسه بخصائصه ، وأرسل له الرسل - منه - بهداه؛ وكتب على نفسه الرحمة أن يقيل عثرته ويقبل توبته . . إلى آخر نعمة الله على هذا الكائن المتفرد في الكون كله .
ثم هو يتعامل مع الملأ الأعلى . . أسجد الله له الملائكة ، وجعل منهم حفظة عليه ، كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه ، وأنزلهم على الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا يثبتونهم ويبشرونهم ، وعلى المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك ، وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم منهم في تأنيب وتعذيب .

. إلى آخر ما بين الملائكة والإنسان من تعامل . في الدنيا وفي الآخرة كذلك .
ويتعامل مع الجن : صالحيهم وشياطينهم . . وقد شهدنا منذ لحظات تشخيص المعركة الأولى بينه وبين الشيطان . وهي معركة ممتدة إلى يوم الوقت المعلوم . كما أن تعامله مع صالحي الجن مذكور في نصوص قرآنية أخرى . وتسخير الجن أحياناً له ثابت كما في قصة سليمان عليه السلام .
كذلك هو يتعامل مع هذا الكون المادي - وبخاصة الأرض والكواكب والنجوم القريبة منها - وهو الخليفة في هذه الأرض عن الله؛ المسخرة له قواها وطاقاتها وأرزاقها ومدخراتها ، وعنده الاستعداد اللدني لفتح بعض مغاليق أسرارها ، والتعرف إلى بعض نواميسها التي تعينه معرفتها على أداء دوره العظيم . . ومن ثم يتعامل كذلك مع جميع الأحياء فيها . . وأخيراً فإنه بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك في مجال بعيد الآماد من نفسه ذاتها إنه يعرج إلى السماوات العلى ويتجاوز مراتب الملائكة ، حين يخلص عبوديته لله ويترقى فيها إلى منتهاها . كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة حين يتخذ إلهه هواه ويتخلى عن خصائص « إنسانيته » ويتمرغ في الوحل الحيواني . . وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السماوات والأرض في عالم الحس وأبعد مدى
وليس هذا كله لغير الإنسان كما تلهمه هذه القصة وبقية النصوص الأخرى . .
* والحقيقة الثالثة : أن هذا الكائن - على كل تفرده هذا أو بسبب تفرده هذا - ضعيف في بعض جوانب تكوينه ، حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل ، من خطام شهواته . . وفي أولها ضعفه تجاه حبِّ البقاء ، وضعفه تجاه حب الملك . . وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله ، ويستسلم لهواه ، أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه ، في جهد ناصب ، لا يكل ولا يدع وسيلة من الوسائل
وقد اقتضت رحمة الله به - من ثم - ألا يتركه لفطرته وحدها ، ولا لعقله وحده ، وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير - كما سيجيء في آية تالية في معرض التعقيب على القصة - وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له . . . النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله . والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه ، وتذكر رحمته وغضبه ، وثوابه وعقابه . .
وهذه كلها مقويات لإرادته ، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته . . وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض « المحظور » عليه؛ لتقوية هذه الإرادة ، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف . وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى ، فقد كانت هذه التجربة رصيداً له فيما سيأتي
ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة .

فإذا نسي ثم تذكر؛ وإذا عثر ثم نهض؛ وإذا غوى ثم تاب . . وجد الباب مفتوحاً له ، وقبل الله توبته ، وأقال عثرته . فإذا استقام على طريقه بدل الله سيئاته حسنات ، وضاعف له ما شاء . ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته . فليست هنالك خطيئة أبدية . وليست هنالك خطيئة موروثة - ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية؛ والتي يقوم عليها ركام هائل من الطقوس والتشكيلات فوق ما يقوم فوقها من الأساطير والخرافات . . خطيئة آدم التي تلازم البشرية كاللعنة المصلتة على الرقاب حتى يتمثل الإله في صورة ابن الإنسان ( المسيح ) ويصلب ويحتمل العذاب للتكفير عن هذه الخطيئة الموروثة؛ ومن ثم يكتب ( الغفران ) لمن يتحد بالمسيح الذي كفر بدمه عن خطيئة آدم التي ورثتها البشرية
إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير . لقد نسي آدم وأخطأ . . ولقد تاب واستغفر . . ولقد قبل الله توبته وغفر له . . وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى . ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى . .
أية بساطة وأي وضوح وأي يسر في هذه العقيدة
* والحقيقة الرابعة : هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها ، واستمرارها وضراوتها . .
لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة ، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة ، على اتباعه في كل ساعة ولحظة :
{ قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين } . .
لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد ، وأن يُنظر لمزاولته على المدى الطويل . . اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله لا يمكنهم من سلوكه؛ وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه .
وهو إنما يأيتهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة . ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوِّي بالإيمان والذكر والتقوِّي على إغوائه ووسوسته ، والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله .
والمعركة مع الشيطان هي المعركة الرئيسية . إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى . والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة . والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض . . والمعركة في الضمير والمعركة في الحياة الواقعية متصلتان لا منفصلتان . فالشيطان وراءهما جميعاً
والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها وقيمها وموازينها ، وتستبعد حاكمية الله وشرعه والقيم والموازين المنبثقة من دينه .

. إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن . والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه . وليست بعيدة عنها .
وهكذا تتركز المعركة الكبرى الطويلة الضارية في المعركة مع الشيطان ذاته . ومع أوليائه . ويشعر المسلم وهو يخوض المعركة مع هواه وشهواته؛ وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم؛ وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم . . يشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك كلها ، أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية ، لأن عدوه فيها مصرٌّ ماض في طريقه . . وأن الجهاد - من ثم - ماض إلى يوم القيامة . في كل صوره ومجالاته .
* وأخيراً فإن القصة والتعقيبات عليها - كما سيجيء - تشير إلى شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته . وهو الحياء من التعري وانكشاف سوأته :
{ فوسوس لهما الشيطان ، ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } . .
{ فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } . .
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ، وريشاً ، ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله } . . { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما } وكلها توحي بأهمية هذه المسألة ، وعمقها في الفطرة البشرية . فاللباس ، وستر العورة ، زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية . كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية .
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية ، وتحرص على سترها ومواراتها . . والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس ، وتعرية النفس من التقوى ، ومن الحياء من الله ومن الناس ، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة - هم الذين يريدون سلب « الإنسان » خصائص فطرته ، وخصائص « إنسانيته » التي بها صار إنساناً . وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة . وقد فقدت مقوماتها الإنسانية
إن العري فطرة حيوانية . ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان . وإن رؤية العري جمالاً هو انتكاس في الذوق البشري قطعاً . والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة . والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحاضرة اكتساء العراة فأما في الجاهلية الحديثة « التقدمية » فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها ، وينقلهم إلى مستوى « الحضارة » بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها .
والعري النفسي من الحياء والتقوى - وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام - هو النكسة والردة إلى الجاهلية . وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس
وقصة النشأة الإنسانية في القرآن توحي بهذه القيم والموازين الأصيلة وتبينها خير بيان .
والحمد لله الذي هدانا إليه وأنقذنا من وسوسة الشيطان ووحل الجاهلية

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

هذه وقفة من وقفات التعقيب في سياق السورة . وهي وقفة طويلة بعد المشهد الأول في قصة البشرية الكبرى . وفي سياق السورة وقفات كهذه عند كل مرحلة . كأنما ليقال : قفوا هنا نتدبر ما في هذه المرحلة من عبرة قبل أن نمضي قدماً في الرحلة الكبرى
وهي وقفة في مواجهة المعركة التي بانت طلائعها بين الشيطان والبشرية . وقفة للتحذير من أساليب الشيطان ومداخله؛ ولكشف خطته ما كان منها وما يكون متمثلاً في صور وأشكال شتى . .
ولكن المنهج القرآني لا يعرض توجيهاً إلا لمواجهة حالة قائمة؛ ولا يقص قصصاً إلا لأن له موقعاً في واقع الحركة الإسلامية . . إنه كما قلنا لا يعرض قصصاً لمجرد المتاع الفني ولا يقرر حقيقة لمجرد عرضها النظري . . إن واقعية الإسلام وجديته تجعلان توجيهاته وتقريراته ، لمواجهة حالات واقعة بالفعل في مواجهة الحركة الإسلامية .
وقد كان واقع الجاهلية العربية هو الذي يواجهه التعقيب هنا عقب المرحلة الأولى من قصة البشرية الكبرى . . كانت قريش قد ابتدعت لنفسها حقوقاً على بقية مشركي العرب الذين يفدون لحج بيت الله - الذي جعلوه بيتاً للأصنام وسدنتها - وأقامت هذه الحقوق على تصورات اعتقادية زعمت أنها من دين الله؛ وصاغتها في شرائع ، زعمت أنها من شرع الله وذلك لتخضع لها أعناق المشركين؛ كما يصنع السدنة والكهنة والرؤساء في كل جاهلية على وجه التقريب . . وكانت قريش سمت نفسها اسماً خاصاً وهو « الحُمس » وجعلوا لأنفسهم حقوقاً ليست لسائر العرب . ومن هذه الحقوق - فيما يختص بالطواف بالبيت - أنهم هم وحدهم لهم حق الطواف في ثيابهم . فأما بقية العرب فلا تطوف في ثياب لبستها من قبل . فلا بد أن تستعير من ثياب الحمس للطواف أو تستجد ثياباً لم تلبسها من قبل وإلا طافوا عرايا وفيهم النساء
قال ابن كثير في التفسير : ( كانت العرب - ما عدا قريشاً - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم . ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه؛ ومن معه ثوب جديد طاف فيه . ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ومن لم يجد ثوباً جديداً ، ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً وربما كانت امرأة فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر . . . وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع؛ فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } .

. فقال تعالى رداً عليهم : { قل } . أي يا محمد لمن ادعى ذلك . { إن الله لا يأمر بالفحشاء } أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك . { أتقولون على الله ما لا تعلمون } . . أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته . وقوله تعالى : { قل : أمر ربي بالقسط } . . أي بالعدل . والاستقامة : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين } . . أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله ، وما جاءوا به من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته . فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين : ( أي أن يكون صواباً موافقاً للشريعة ، وأن يكون خالصاً من الشرك ) .
ففي مواجهة هذا الواقع الجاهلي في شؤون التشريع للعبادة والطواف واللباس - مضافاً إليه ما يختص بتقاليد كهذه في الطعام يزعمون أنها من شرع الله وليست من شرع الله - في مواجهة هذا الواقع جاءت تلك التعقيبات على قصة البشرية الأولى . وجاء ذكر الأكل من ثمر الجنة - إلا ما حرم الله - وجاء ذكر اللباس خاصة ، ونزع الشيطان له عن آدم وزوجه بإغوائه لهما بتناول المحظور؛ وجاء ذكر حيائهما الفطري من كشف السوآت ، وخصفهما على سوآتهما من ورق الجنة . .
فما ذكر من أحداث القصة ، وما جاء في التعقيب الأول عليها ، هو مواجهة واقعية لواقع معين في الجاهلية . .
والقصة تذكر في مواضع أخرى من القرآن ، في سور أخرى ، لمواجهة حالات أخرى ، فتذكر منها مواقف ومشاهد ، وتذكر بعدها تقريرات وتعقيبات تواجه هذه الحالات الأخرى . . وكله حق . . ولكن تفصيل القرآن لمواجهة الواقع البشري هو الذي يقتضي هذا الاختيار والتناسق . بين حلقات القصص المعروض في كل معرض ، وطبيعة الجو والموضوع في كل معرض .
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً . ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } . .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله ، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير ( الكتاب المقدس ) والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات « فرويد » المسمومة . . لم تكن هي الأكل من « شجرة المعرفة » - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من « الإنسان » وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي ، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي .

.
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم ، وشرع لهم كذلك ، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة ، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً ، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول : { أنزلنا } أي : شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي . والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به ، وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة :
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً } . .
كذلك يذكر هنا { لباس التقوى } ويصفه بأنه { خير } :
{ ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله . } . .
قال عبد الرحمن بن أسلم : ( يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ) . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة ، وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى ، والعري من اللباس وكشف السوأة
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم لتدمير إنسانيتهم ، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر ، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل :
{ لعلهم يذَّكرون } . .
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ، والتعجيل بانحلالهم ، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس فحتى هذه توجه لها معاول السحق ، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان والزينة « الإنسانية » هي زينة الستر ، بينما الزينة « الحيوانية » هي زينة العري . . ولكن « الآدميين » في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة .

فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانتيهم وصيانتها
{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها . قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ قل : أمر ربي بالقسط ، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين ، كما بدأكم تعودون . فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون } . .
إنه النداء الثاني لبني آدم ، في وقفة التعقيب على قصة أبويهم ، وما جرى لهما مع الشيطان؛ وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما ، بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما .
وهذا النداء يصبح مفهوماً بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف بالبيت؛ وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه
لقد كان النداء الأول تذكيراً لبني آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم؛ وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة والرياش الذي يتجمل به . . أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة . أن يستسلموا للشيطان ، فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد؛ فيسلمهم إلى الفتنة - كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما - فالعري والتكشف الذي يزاولونه - والذي هو طابع كل جاهلية قديماً وحديثاً - هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية ، وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه؛ وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه . فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم؛ وأن ينتصر في هذه المعركة ، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف
{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما } .
وزيادة في التحذير ، واستثارة للحذر ، ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم . وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية؛ وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط ، وإلى مضاعفة اليقظة ، وإلى دوام الحذر ، كي لا يأخذهم على غرة :
{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } . .
ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي . . إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . . ويا ويل من كان عدوه وليه إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء ، بلا عون ولا نصير ، ولا ولاية من الله :
{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } . .
وإنها لحقيقة . . أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون؛ كما أن الله هو ولي المؤمنين . . وهي حقيقة رهيبة ، ولها نتائجها الخطيرة .

. وهي تذكر هكذا مطلقة؛ ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة؛ فنرى كيف تكون ولاية الشيطان؛ وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم . . وهذا نموذج منها :
{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } . .
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب؛ وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام - وفيهم النساء - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها . فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها ، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها
وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول : ما للدين وشؤون الحياة؟ وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله إنما كانوا يفترون الفرية ، ويشرعون الشريعة ، ثم يقولون : الله أمرنا بها وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث ، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية؛ فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله . . ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله
والله - سبحانه - يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفحشاء . فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها :
{ قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء . أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ } :
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً - والفاحشة : كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة ، فالله لا يأمر به . وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء . إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله . وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه . وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله ، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله . فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله . . وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه ، وهو يزعم أنه دين الله
إن الجاهلية هي الجاهلية . وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة . وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة ، على تباعد الزمان والمكان . . وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول : شريعة الله ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها ، وهو يقول : إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك ، .

. وحجته هي هواه
{ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ } . .
وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة ، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد . . لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز . وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر ، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل المسألة فوضى ، يقول فيها كل إنسان بهواه ، ثم يزعم أنه من الله . وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له ، والعبودية كاملة؛ فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته :
{ قل أمر ربي بالقسط ، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين } . .
هذا ما أمر الله به ، وهو يضاد ما هم عليه . . يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم ، مع دعواهم أن الله أمرهم بها . . ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك . . ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه ، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم . .
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار؛ ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء؛ وبمشهدهم في العودة وهم فريقان : الفريق الذي اتبع أمر الله ، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان :
{ كما بدأكم تعودون : فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون } . .
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية . نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء :
{ كما بدأكم تعودون } . .
وقد بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه . والشيطان وقبيله . . وكذلك سيعودون . . الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله . . والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله ، يملأ الله منهم جهنم ، بولائهم لإبليس وولايته لهم . وهم يحسبون أنهم مهتدون .
لقد هدى الله من جعل ولايته لله . وأضل من جعل ولايته للشيطان . . وها هم أولاء عائدين فريقين : { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة . إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } .
ها هم أولاء عائدين . في لمحة تضم طرفي الرحلة على طريقة القرآن ، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن
ثم يتكرر النداء إلى { بني آدم } في هذه الوقفة كذلك؛ قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة؛ في الطريق المرسوم :
{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين . قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون .

قل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . .
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة ، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة ، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى . .
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم ، ويقول على الله ما لا يعلم ، ويزعم من ذلك ما يزعم .
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم . وهو الرياش . عند كل عبادة؛ ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا ، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله ، بل أنعم به على العباد . فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم ، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه :
{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } . .
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف :
{ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . إنه لا يحب المسرفين } .
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب . وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك
وفي صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال : « كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت . كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً ، فيعطي الرجال الرجال ، والنساء النساء . وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة؛ وكان الناس يبلغون عرفات . ويقولون : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً ، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عرياناً وإما أن يطوف في ثيابه ، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد . وكان ذلك الثوب يسمى اللقى » . .
وجاء في تفسير القرطبي المسمى « أحكام القرآن » : « وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم ، ويكتفون باليسير من الطعام ، ويطوفون عراة . فقيل لهم : { خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ، ولا تسرفوا } أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم » . . والإسراف يكون بتجاوز الحد ، كما قد يكون بتحريم الحلال . كلاهما تجاوز للحد . هذا باعتبار ، وذاك باعتبار .
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد ، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب . بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده ، وتحريم الطيبات من الرزق . فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات .

فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله :
{ قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } ؟
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس ، وهذه الطيبات من الرزق ، هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا ، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا :
{ قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة } . .
ولن يكون الشأن كذلك ، ثم تكون محرمة عليهم؛ فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام
{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } .
والذين { يعلمون } حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان .
فأما الذي حرمه الله حقاً ، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس ، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً
{ قل : إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . .
هذا هو الذي حرمه الله . الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله . ظاهرة للناس أو خافية . والإثم . وهو كل معصية لله على وجه الإجمال . والبغي بغير الحق . وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضاً - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله - سبحانه - في خصائصه . ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية ، وهو الواقع في كل جاهلية . من إشراك غير الله ليشرع للناس؛ ويزاول خصائص الألوهية . وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم . ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين . .
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة؛ ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى : { قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده . . } ما رواه الكلبي قال :
« لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها . . فنزلت الآية . . »
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها ناس يطوفون ببيت الله عرايا؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين ، في زينة الله التي أنعم بها على البشر؛ لإرادته بهم الكرامة والستر؛ ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري ، وليتميزوا عن العري الحيواني . . الجسمي والنفسي . . إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله « عيروهم »
إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس .

. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟
ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس ، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات ، بأنهن « رجعيات » .
« تقليديات » . « ريفيات »
المسخ هو المسخ . والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس . وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين . والتبجح بعد ذلك هو التبجح . . { أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون } وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري ، وهذا الانتكاس ، وهذه البهيمية ، وهذا التبجح ، بالشرك ، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم ، لضمان السيادة لها في الجزيرة . . ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء . . فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك . . ولا يملكون لأمرهم رداً . .
إن بيوت الأزياء ومصمميها ، وأساتذة التجميل ودكاكينها ، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك إن هذه الأرباب تصدر أوامرها ، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه ، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح ، فهي تطيع صاغرة . . تطيع تلك الأرباب . وإلا « عيرت » من بقية البهائم المغلوبة على أمرها
ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص ، والمجلات والصحف ، التي تقود هذه الحملة المسعورة . . وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة؟
من الذي يقبع وراء هذا كله؟
الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها ، في العالم كله . . يهود . .
يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان . . أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار؛ وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه ، وإفساد الفطرة البشرية ، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه
إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة . . ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق .

إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى :
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية ، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور ، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة .
كذلك تتعلق بإبراز خصائص « الإنسان » في الجنس البشري ، وتغليب الطابع « الإنساني » في هذا الجنس على الطابع الحيواني .
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق . وتجعل العري - الحيواني - تقدماً ورقياً . والستر - الإنساني - تأخراً ورجعية وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان .
وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون : ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء . ؟ ما للدين والتجميل؟ . . إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان
ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية ، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام ، لارتباطها أولاً بقضية التوحيد والشرك؛ ولارتباطها ثانياً بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته ، أو بفساد هذا كله . . فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر؛ يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة . . إنه يعقب بتنبيه بني آدم ، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم؛ وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون :
{ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } .
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة . وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها . . وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون .
وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لاحظناه من التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم - في سورة الأنعام - ومواجهته للجاهلية - هنا في شأن اللباس والطعام . .
ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار ، بدأ أولاً بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلاً من هذه التقاليد؛ وعما تزعمه - افتراء على الله - من أن هذا الذي تزاوله هو من شرع الله . ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن الله حرم هذا الذي يحرمونه ، وأحل هذا الذي يحلونه : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر الله وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهية : { سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن ، وإن أنتم إلا تخرصون : قل : فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين . قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم ، ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون }

حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه ، قال لهم : تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم الله عليكم وحقيقة ما أمركم به : عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن؛ والذي لا يجوز الأخذ عن غيره : { قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ، ألا تشركوا به شيئاً . . الخ } وهنا كذلك سار على نفس النسق ، وعلى ذات الخطوات . . ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام . وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك ، وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل الشيطان وكيده؛ ونعمة الله عليهم في إنزال اللباس والرياش . . ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع الله وأمره : { قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا . خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } . مشيراً هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم . . حتىإذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلاً : { قل إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . . كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر الله به في شأن اللباس والطعام - لا ما يدعونه هم وينسبونه إلى الله - : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } . . { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين } . .
وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك . لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية ، ومن الذي يزاولها في حياة البشر . وقضية عبودية الناس ولمن تكون
ذات القضية ، وذات المنهج في مواجهتها . وذات الخطوات . . وصدق الله العظيم : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة . . فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية . . وسبحان منزل هذا القرآن . .

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى؛ ومواجهة واقع الجاهلية العربية - وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها - في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى؛ وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى . .
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم . . نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة . . قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه ، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها . وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها . . إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم . وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء ، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة :
{ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي : فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
هذا هو عهد الله لآدم وبنيه ، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه - سبحانه - في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها ، واستخلف فيها هذا الجنس ، ومكنه فيها ، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد؛ وإلا فإن عمله ردٌّ في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله؛ وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً .
{ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش - وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته - وتقودهم إلى الطيبات والطاعات؛ وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير .
{ والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . . لأن التكذيب والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار؛ حيث يحق وعد الله : { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } . .
ومن هنا يأخذ السياق في عرض مشهد الاحتضار - عند نهاية الأجل المشار إليه في نهاية الجولة الماضية : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } . . ثم مشهد الحشر والحساب . ومشهد الفصل والجزاء . . كأنها تفصيل لذلك الإجمال عن شأن المتقين المستكبرين؛ وتصوير لحال المتقين وحال المستكبرين؛ بعد الأجل المعلوم . تصوير على طريقة القرآن الفريدة التي تستحضر المشهد حياً متحركاً يراه قارئ القرآن وسامعه؛ ويشهده ، بكل كينونته .
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة . . البعث والحساب ، والنعيم والعذاب . . عناية واضحة . فلم يعد ذلك العالم الذي وعده الله الناس ، بعد هذا العالم الحاضر ، موصوفاً فحسب ، بل عاد مصوراً محسوساً ، وحياً متحركاً ، وبارزاً شاخصاً . . وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة . رأوا مشاهده وتأثروا بها ، وخفقت قلوبهم تارة ، واقشعرت جلودهم تارة ، وسرى في نفوسهم الفزع مرة ، وعاودهم الاطمئنان أخرى ، ولاح لهم من بعيد لفح النار ، ورفت إليهم من الجنة أنسام ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود .

. والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا؛ وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه ، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار ، ومن أرض إلى أرض ، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة . . ولم يكن ذلك العالم مستقبلاً موعوداً في حسهم ، وإنما كان واقعاً مشهوداً . .
وربما كانت هذه المشاهد - المعروضة هنا - أطول مشاهد القيامة في القرآن ، وأحفلها بالحركة ، وبالمناظر المتتابعة ، وبالحوار المتنوع ، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة
وهي تجيء في السورة - كما أسلفنا - تعقيباً على قصة آدم ، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما ، وتحذير الله لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس ، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة . . ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار ، ومشاهد القيامة - وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل ، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها . وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا الله ، قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا من الملأ الأعلى : { أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } . . فكأنما هي أوبة المهاجرين ، وعودة المغتربين ، إلى دار النعيم
وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها ، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه . فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى ، على مشهد من الملائكة - يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة ، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة ، وأخرجهما من الجنة - وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة . . فيتصل البدء بالنهاية . ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها . وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق .
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة .
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار . احتضار الذين افتروا على الله الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به الله ، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم . وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله ، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب :
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ، قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ قالوا : ضلوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } .

.
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم . فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار :
{ قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ } . .
أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه :
{ قالوا : ضلوا عنا }
غابوا عنا وتاهوا فلا نحن نعرف لهم مقراً ، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً . . فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها . في مثل هذا الأوان
{ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } . .
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا : { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين } فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار . . ويسكت السياق عما بينهما ، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر . وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار
{ قال : ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ، كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار . قال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } .
{ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } .
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس . . هنا في النار . . أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟ . . فادخلوا إذن جميعاً . . ادخلوا سابقين ولاحقين . . فكلكم أولياء . . وكلكم سواء
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها؛ ويملي متبوعها لتابعها . . فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها ، وكيف يكون التنابز فيها :
{ كلما دخلت أمة لعنت أختها }
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه
{ حتى إذا اداركوا فيها جميعاً } .

.
وتلاحق آخرهم وأولهم ، واجتمع قاصيهم بدانيهم ، بدأ الخصام والجدال :
{ قالت أخراهم لأولاهم : ربنا هؤلاء أضلونا ، فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } . .
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء ، وهم متناكرون أعداء؛ يتهم بعضهم بعضاً ، ويلعن بعضهم بعضاً ، ويطلب له من { ربنا } شر الجزاء . . من { ربنا } الذين كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء فيكون الجواب استجابة للدعاء . ولكن أية استجابة؟
{ قال : لكل ضعف ، ولكن لا تعلمون } .
لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب
وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين ، حينما سمعوا جواب الدعاء ، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة . . كلنا سواء . . في هذا الجزاء :
{ وقالت أولاهم لأخراهم : فما كان لكم علينا من فضل . فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون }
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم ، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل - وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم - :
{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وكذلك نجزي المجرمين . لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ، وكذلك نجزي الظالمين } . .
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب . . مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة . فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير ، فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين ، فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم أما الآن ، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط ، فهم هنا في النار ، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا ، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء ، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء
{ وكذلك نجزي المجرمين } . .
ثم إليك هيئتهم في النار :
{ لهم من جهنم مهادٌ ، ومن فوقهم غواشٍ } . .
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش ، يدعوه - للسخرية - مهاداً ، وما هو مهد ولا لين ولا مريح - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم
{ وكذلك نجزي الظالمين } . .
والظالمون هم المجرمون . والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله ، المفترون الكذب على الله . . كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن .
والآن فلننظرإلى المشهد المقابل :
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفساً إلا وسعها - أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . ونزعنا ما في صدورهم من غل ، تجري من تحتهم الأنهار ، وقالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لقد جاءت رسل ربنا بالحق . ونودوا : أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } . .
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم ، لا يكلفون إلا طاقتهم .

. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم إنهم أصحابها - بإذن الله وفضله - ورثها لهم - برحمته - بعملهم الصالح مع الإيمان . . جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان . وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم ، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم ولولا رحمة الله ما كفى عملهم - في حدود طاقتهم - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله » قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن ، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى . . وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين ، إنما ثار عن الهوى فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة . ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا . فكتب على نفسه الرحمة؛ وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف؛ وكتب لهم به الجنة ، فضلاً منه ورحمة ، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة . .
وبعد ، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون ، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد ، بعد أن كانوا أصفياء أولياء . . فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون ، يرف عليهم السلام والولاء :
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } . .
فهم بشر . وهم عاشوا بشراً . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه ، وغل يغالبونه ويغلبونه . . ولكن تبقى في القلب منه آثار .
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين » . . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } . .
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم . فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام :
{ تجري من تحتهم الأنهار } . .
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام ، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف :
{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق } . .
وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب : { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } . . فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم :
{ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } . .
إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار .

ثم يستمر العرض ، فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق . لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم؛ واستيقن أصحاب النار من مصيرهم . وإذا الألولون ينادون الآخرين ، يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم :
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار : أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قالوا : نعم فأذن مؤذن بينهم : أن لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون } . .
وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه . . إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده . ولكنهم يسألون .
ويجيء الجواب في كلمة واحدة . . نعم . .
وعندئذ ينتهي الجواب ، ويقطع الحوار :
{ فأذن مؤذن بينهم : أن لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة كافرون } . .
فيتحدد معنى { الظالمين } المقصود . وهو مرادف لمعنى { الكافرين } . فهم الذين يصدون عن سبيل الله ، ويريدون الطريق عوجاً لا استقامة فيه ، وهم بالآخرة كافرون .
وفي هذا الوصف : { ويبغونها عوجاً } . . إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله . إنهم يريدون الطريق العوجاء؛ ولا يريدون الطريق المستقيم . يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة . فالاستقامة لها صورة واحدة : صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه . وكل ما عداه فهو أعوج؛ وهو إرادة للعوج . وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة . فما يؤمن بالآخرة أحد ، ويستيقن أنه راجع إلى ربه؛ ثم يصد عن سبيل الله ، ويحيد عن نهجه وشرعه . . وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله . التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح .
ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره . فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار؛ عليها رجال يعرفون أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم . . فلننظر من هؤلاء ، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
{ وبينهما حجاب ، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم ، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون . أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } . .
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف - الحجاب الحاجز بين الجنة والنار - جماعة من البشر ، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة ، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار . . وهم بين بين ، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته . . وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم - ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم - ويعرفون أهل النار بسيماهم - ربما بسواد الوجوه وقترتها ، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا ، كالذي جاء في سورة القلم :

{ سنسمه على الخرطوم } وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام . . يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم . . فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار - وكأنما يصرفون إليهم صرفاً لا عن إرادة منهم - استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم
{ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } . .
ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم . فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيب :
{ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم ، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون }
فها أنتم هؤلاء في النار ، لا جمعكم نفعكم ، ولا استكباركم أغنى عنكم
ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون ، لا ينالهم الله برحمة :
{ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة }
انظروا الآن أين هم؟ وماذا قيل لهم :
{ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } . .
وأخيراً . ها نحن أولاء نسمع صوتاً آتياً من قبل النار ، ملؤه الرجاء والاستجداء :
{ ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }
وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير :
{ قالوا : إن الله حرمهما على الكافرين . الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا } . .
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى ، لينطق رب العزة والجلالة ، وصاحب الملك والحكم :
{ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . وما كانوا بآياتنا يجحدون . ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل . قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً . . لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا . لمحة مع المعذبين في النار ، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله ، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين . فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون . . ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل . فالمآل هو ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء . تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده ، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله ، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله ، حيث لا فسحة لتوبة ، ولا شفاعة في الشدة ، ولا رجعة للعمل مرة أخرى .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

بعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يأخذ السياق بأيدي البشر إلى رحلة أخرى في ضمير الكون ، وفي صفحته المعروضة للأنظار . فيعرض قصة خلق السماوات والأرض بعد قصة خلق الإنسان . ويوجه الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره ، وإلى ظواهره وأحواله - إلى الليل الذي يطلب النهار في ذلك الفلك الدوار . وإلى الشمس والقمر والنجوم وهن مسخرات بأمر الله . وإلى الرياح الدائرة في الجواء ، تقل السحاب إلى البلد الميت - بإذن الله - فإذا هو حي ، وإذا الموات يؤتي من كل الثمرات .
هذه السبحات في ملكوت الله ، يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية؛ وبعد تصوير طرفي الرحلة؛ وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله؛ وبعد عرض التصورات الجاهلية والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع . . يرتاد السياق هذه السبحات ليرد البشر إلى ربهم ، الذي خلق هذا الوجود وسخره ، والذي يحكمه وبنواميسه ويصرفه بقدره ، والذي له الخلق والأمر وحده . .
إنه الإيقاع القوي العميق بعبودية الوجود كلها لبارئه ، والذي يبدو استكبار الإنسان فيه عن هذه العبودية نشازاً في الوجود ، يجعل الناشز غريباً شائهاً في الوجود .
وفي ظل تلك المشاهد؛ وفي مواجهة هذا الإيقاع يدعوهم :
{ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ، إنه لا يحب المعتدين ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وادعوه خوفاً وطمعاً ، إن رحمة الله قريب من المحسنين } . .
إن إخلاص الدين لله ، وتقرير عبودية البشر له ، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله ، وعبودية الوجود كله لسلطانه . . وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري . . وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة ، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة . . لا بد يستشعر تأثيراً لا يرد سلطانه؛ ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر . . وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله؛ والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه .
ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية؛ وتعبيد البشر لربهم وحده ، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية ، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن؛ الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله ، يتجاوب وإياه
إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله ، وتسخيره بأمره ، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه . . إنما هو مذاق آخر - وراء البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي - مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب . ومذاق الطمأنينة واليسر؛ والانسياق مع موكب الإيمان الشامل .

إنه مذاق العبودية الراضية ، التي لا يسوقها القسر ، ولا يحركها القهر . . إنما تحركها - قبل الأمر والتكليف - عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله . . فلا تفكر في التهرب من الأمر ، ولا التفلت من القهر؛ لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح . . الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه . الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين . .
هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان ، ويعطيه طعمه ومذاقه . . وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام ، وتعطيه حيويته وروحه . . وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر ، قبل التكليف والأمر؛ وقبل الشعائر والشرائع . . ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم . .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين } . .
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه؛ ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه : كيف خلق الله السماوات والأرض؟ كيف استوى على العرش؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه؟ . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي ، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً : { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .
إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد .

. وكل حمل لهذا النص ومثله على « تخمينات » البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم « العلم » - هو محاولة تحكمية ، منشؤها الهزيمة الروحية أمام « العلم » الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور ، وفي أسراره المكنونة :
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين } . .
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدورة الدائبة : دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر ، هو { ربكم } . . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه ، ويجمعكم بنظامه ، ويشرع لكم بإذنه ، ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية ، وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض ، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار ، والليل يطلب النهار حثيثاً ، ويريده مجتهداً لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها؛ وألا يدور معها وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار ، بقلب مرتعش ونفس لاهث وكله حركة وتوفز ، وكله تطلع وانتظار
إن جمال الحركة وحيويتها و « تشخيص » الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق
إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس؛ وتطبع النظر إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى ، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة
كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم .

. إنها كائنات حية ذات روح إنها تتلقى أمر الله وتنفذه ، وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة ، تتلقى وتستجيب ، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله
ومن هنا يهتز الضمير البشري؛ وينساق للاستجابة ، في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .
وعندما يصل السياق إلى هذا المقطع ، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية ، التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة . وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره . . عندئذ يوجه البشرَ إلى ربهم - الذي لا رب غيره - ليدعوه في إنابة وخشوع؛ وليلتزموا بربوبيته لهم ، فيلتزموا حدود عبوديتهم له؛ لا يعتدون على سلطانه؛ ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم ، بعد أن أصلحها الله بمنهجه :
{ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ، إنه لا يحب المعتدين ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . وادعوه خوفاً وطمعاً ، إن رحمة الله قريب من المحسنين } .
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة ، إلى الدعاء والإنابة . . تضرعاَ وتذللاً؛ وخفية لا صياحاً وتصدية فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه .
أخرج مسلم - بإسناده عن أبي موسى - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر - وفي رواية غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أيها الناس أربعوا ( أي ارفقوا وهونوا ) على أنفسكم . إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً . إنكم تدعون سميعاً قريباً . وهو معكم » .
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً ، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء . ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه؛ والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح
وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء ، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله ، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله ، فيما يدعونه لأنفسهم - في الجاهلية - من الحاكمية التي لا تكون إلا لله . كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى ، وقد أصلحها الله بالشريعة . . والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب ، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها . . فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر . والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس . وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
{ وادعوه خوفاً وطمعاً } . .
خوفاً من غضبه وعقابه . وطمعاً في رضوانه وثوابه .
{ إن رحمة الله قريب من المحسنين } .

.
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم . . كما جاء في الوصف النبوي للإحسان .
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة؛ لا تسمع نطقها ، ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل ، والزرع النامي ، والحياة النابضة بعد الموت والخمود :
{ وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } . .
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشئ نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى { بلد ميت } . . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه ، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية ، التي تتصور الكون كأنه آلة ، فرغ صانعها منها ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء
إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية .

ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة ، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .
إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب ، يرى قدر الله المنفذ ، ويرى يد الله الفاعلة ، ويسبح لله ويذكره ويراقبه ، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه
هذا تصور يستحيي القلوب ، ويستجيش العقول ، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة؛ وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناءالليل وأطراف النهار .
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض ، وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة :
{ كذلك نخرج الموتى ، لعلكم تذكرون } . .
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة ، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض ، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض ، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا ، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى .
{ لعلكم تذكرون } . .
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام
ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود ، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب ، ينتزعه من جو المشهد المعروض ، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد ، وفي الطبائع والحقائق :
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } . .
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض الطيبة ، وبالتربة الطيبة ، والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة . فكلاهما . . القلب والتربة . . منبت زرع ، ومأتى ثمر . القلب ينبت نوايا ومشاعر ، وانفعالات واستجابات ، واتجاهات وعزائم ، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة . والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه . .
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } . .
طيباً خيراً ، سهلاً ميسراً .
{ والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } . .
في إيذاء وجفوة ، وفي عسر ومشقة . .
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة . فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب ، تفتح واستقبل ، وزكا وفاض بالخير . وإن كان فاسداً شريراً - كالذي خبث من البلاد والأماكن - استغلق وقسا ، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر . وأخرج الشوك والأذى ، كما تخرج الأرض النكدة
{ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } . .
والشكر ينبع من القلب الطيب ، ويدل على الاستقبال الطيب ، والانفعال الطيب . ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات . فهم الذين ينتفعون بها ، ويصلحون لها ، ويصلحون بها . .
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها . . كالإنذار والتذكير . وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق ، وسنصادفه فيما هو آت . . فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير ، كالإنذار والتذكير . .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

نحن مع موكب الإيمان . . هذه أعلامه . . وهذه علائمه . . وهذه هي معالم طريقه . . وهو يواجه البشرية في رحلتها الطويلة على هذا الكوكب الأرضي . . يواجهها كلما التوت بها الطريق؛ وكلما انحرفت عن صراط الله المستقيم؛ وكلما تفرقت بها السبل . تحت ضغط الشهوات ، التي يقودها الشيطان من خطامها ، محاولاً أن يرضي حقده؛ وأن ينفذ وعيده ، وأن يمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم؛ فإذا الموكب الكريم يواجه البشرية بالهدى ، ويلوّح لها بالنور ، ويستروح بها ريح الجنة ، ويحذرها لفحات السموم ، ونزغات الشيطان الرجيم ، عدوها القديم . .
. . إنه مشهد رائع . . مشهد الصراع العميق ، في خضم الحياة ، على طول الطريق . .
إن التاريخ البشري يمضي في تشابك معقد كل التعقيد . . إن هذا الكائن المزدوج الطبيعة ، المعقد التركيب . . الذي يتألف كيانه من أبعد عنصرين تؤلف بينهما قدرة الله وقدره . . عنصر الطين الذي نشأ منه ، وعنصر النفخة من روح الله ، التي جعلت من هذا الطين إنساناً . . إن هذا الكائن ليمضي في تاريخه مع عوامل متشابكة كل التشابك ، معقدة كل التعقيد . . يمضي بطبيعته هذه يتعامل مع تلك الآفاق والعوالم التي أسلفنا في قصة آدم الحديث عنها . . يتعامل مع الحقيقة الإلهية : مشيئتها وقدرها ، وقدرتها وجبروتها ، ورحمتها وفضلها . . الخ . . . ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكته . . ويتعامل مع إبليس وقبيله . . ويتعامل مع هذا الكون المشهود ونواميسه وسنن الله فيه . . ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض . . ويتعامل مع بعضه البعض . . يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك ، وباستعداداته المتوافقة والمتعارضة مع هذه الآفاق والعوالم . .
وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط ، يجري تاريخه . . ومن القوة في كيانه والضعف . ومن التقوى والهدى . ومن الالتقاء بعالم الغيب وعالم الشهود . ومن التعامل مع العناصر المادية في الكون والقوى الروحية ، ومن التعامل مع قدر الله في النهاية . . من هذا كله يتكون تاريخه . . وفي ضوء هذا التعقيد الشديد يفسر تاريخه .
والذين يفسرون التاريخ الإنساني تفسيراً « اقتصادياً » أو « سياسياً » . والذين يفسرونه تفسيراً « بيولوجياً » . والذين يفسرونه تفسيراً « روحياً » أو « نفسياً » . والذين يفسرونه تفسيراً « عقلياً » . . . كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة ، والعوالم المتباعدة ، التي يتعامل معها الإنسان؛ ويتألف من تعامله معها تاريخه . . والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع ، ويحيط به؛ وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله .
ونحن هنا أمام مشاهد صادقة من هذا الخضم . . لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية؛ وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر - الظاهرة والخفية - التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى .

. ولقد شهدنا هذا الكائن باستعداداته الأساسية . . شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له؛ والبارئ العظيم يعلن ميلاده . . وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه . . وشهدنا مهبطه إلى الأرض . . وانطلاقه في التعامل مع عناصرها ونواميسها الكونية . .
ولقد شهدناه يهبط إلى هذه الأرض مؤمناً بربه؛ مستغفراً لذنبه؛ مأخوذاً عليه عهد الخلافة : أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى ، مزوداً بتلك التجربة الأولى في حياته . .
ثم مضى به الزمن؛ وتقاذفته الأمواج في الخضم؛ وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته وفي الوجود من حوله . تفاعلت في واقعه وفي ضميره . ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية
إنه ينسى . . وقد نسي . . إنه يضعف . . وقد ضعف . . إن الشيطان يغلبه . . وقد غلبه . . ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى
لقد هبط إلى هذه الأرض مهتدياً تائباً موحداً . ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً
لقد تقاذفته الأمواج في الخضم . . ولكن هنالك معلماً في طريقه . . هنالك الرسالة ترده إلى ربه . فمن رحمة ربه به أن لا يتركه وحده
وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان ، يرفع أعلامه رسل الله الكرام : نوح . وهود . وصالح . ولوط . وشعيب . وموسى . ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً . . ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم - بتوجيه الله وتعليمه - إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان ، وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان . كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال . وبين الحق والباطل ، وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس . . ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة ، ونجاة المؤمنين ، بعد الإنذار والتذكير . .
والقصص في القرآن لا يتبع دائماً ذلك الخط التاريخي . ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط . ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى ، ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماماً عن معالم الطريق ، وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم
وفي وقفتنا أمام المشهد الكلي الرائع نلمح جملة معالم نلخصها هنا قبل مواجهة النصوص :
* إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة . . ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته ، وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها . . وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك . فيهلك من يهلك ، ويحيا من يحيا . والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة . هم الذين علموا أن لهم إلهاً واحداً . واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد . هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .

. فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين الله كله ، ويتعاقب بها الرسل جميعاً على مدار التاريخ . . فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها ، فنسوها وضلوا عنها ، وأشركوا مع الله آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل . . وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين . . والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات الله عليهم - مع اختلاف لغاتهم . . يوحد حكاية ما قالوه ، ويوحد ترجمته في نص واحد : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة ، ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويراً حسياً . . ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة . .
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج « الأديان المقارنة » مع المنهج القرآني . . يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا « تطور » في مفهوم العقيدة الأساسي ، الذي جاءت به الرسل كلها من عند الله ، وأن الذين يتحدثون عن « تطور » المعتقدات وتدرجها؛ ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج « والتطور » يقولون غير ما يقوله الله سبحانه فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائماً بحقيقة واحدة . وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو « رب العالمين » . . الذي يحاسب الناس في يوم عظيم . . فلم يكن هنالك رسول من عند الله دعا إلى رب قبيلة ، أو رب أمة ، أو رب جنس . . كما أنه لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة . . وكذلك لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى عبادة طوطمية ، أو نجمية ، أو « أرواحية » أو صنمية ولم يكن هناك دين من عند الله ليس فيه عالم آخر . . كما يزعم من يسمونهم « علماء الأديان » وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة ، ثم يزعمون أن معقتداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان ، دون غيرها
لقد جاءت الرسل - رسولاً بعد رسول - بالتوحيد الخالص ، وبربوبية رب العالمين وبالحساب في يوم الدين . . ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد ، مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة ، بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها . . هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية . . هي هذه التي يدرسها « علماء الأديان » ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها
وعلى أية حال فهذا هو قول الله - سبحانه - وهو أحق أن يتبع ، وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية ، أو صدد الدفاع عنها أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، فهم وما هم فيه .

.
والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
* إن كل رسول من الرسل - صلوات الله عليهم جميعاً - قد جاء إلى قومه ، بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه . . فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى . ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون . وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم . حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم . . حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم . . ثم تكررت القصة . . وهكذا . .
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه . فقال : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . وقال كل رسول لقومه : { إني لكم ناصح أمين } ، معبراًعن ثقل التبعة؛ وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة؛ ورغبته في هداية قومه ، وهو منهم وهم منه . . وفي كل مرة وقف « الملأ » من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه؛ ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين . وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت . . ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة . وتنبتُّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية؛ لتقوم وشيجة العقيدة وحدها . وإذا « القوم » الواحد ، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة . . وعندئذ يجيء الفتح . . ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة ، ويأخذ المكذبين المستكبرين ، وينجي الطائعين المستسلمين . . وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة ، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده . وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم . وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم . . وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ .
* إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد : هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية لله الواحد ، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه ، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر . ولم يذكر القرآن إلا قليلاً من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعاً .

ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين ، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها . وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا ، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان؛ بل في القرآن كله . . ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله؛ كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه .
إن لهذا الدين « حقيقة »؛ و « منهجاً » لعرض هذه الحقيقة . « والمنهج » في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن « الحقيقة » فيه . . وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين . كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة . . وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية . . ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة . .
* إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر؛ ويعرض نموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للإيمان ، ونموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للكفر أيضاً . . إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبارعن الاستسلام لله والطاعة لرسوله؛ ولم يعجبوا أن يختار الله واحداً منهم ليبلغهم وينذرهم . فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم ، فاستبكروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر ، وأن يسمعوا لواحد منهم . . كانوا هم « الملأ » من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم . . ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين . . إنها عقدة الحاكمية والسلطان . . فالملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسولهم لهم : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . { ولكني رسول من رب العالمين } . . كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم؛ ورده إلى صاحبه الشرعي . . إلى الله رب العالمين . . وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر ، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك ، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك . . إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لا تتبدل : نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه . إنذار من الله للغافلين على يد رسول . استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين . اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب . طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين . ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة . . ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ
* وأخيراً فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق .

. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل - تاركاً مصيرهما لفتح الله وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف . بل يتابع الحق وينازله ويطارده . . ولقد قال شعيب لقومه : { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين } . . ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة ، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش؛ ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } . . وهنا صدع شعيب بالحق رافضاً هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت : { قال : أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها . . }
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً ، وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها . فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية ، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها . وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده . . فلا مفر من خوض المعركة ، والصبر عليها ، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها؛ وأن يقولوا مع شعيب : { على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } . . ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ . .
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني ، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل :
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام ، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله . في الفقرة السابقة مباشرة : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين } وإن الدينونة لهذا الإله ، الذي خلق السماوات والأرض ، والذي استوى على العرش ، والذي يحرك الليل ليطلب النهار ، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، والذي له الخلق والأمر . إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة . هي التي يدعون إليها البشرية كلها ، كلما قعد لها الشيطان على صراط فأضلها عنه؛ وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى؛ ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية .
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله ، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه؛ والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله؛ والذي يتحرك مسخراً بأمره . ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزاً؛ وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة؛ فلا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله
إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ؛ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله؛ وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود .

. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر؛ والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات ، ولا يقودها الشيطان بعيداً عن حقيقتها الأصيلة . .
وهذه هي اللسمة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به .
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين . قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات رب ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون؟ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوماً عمين } . .
تعرض القصة هنا باختصار ، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات ، كالذي جاء في سورة هود ، وفي سورة نوح . . إن الهدف هنا هو تصوير : تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً . . طبيعة العقيدة . طريقة التبليغ . طبيعة استقبال القوم لها . حقيقة مشاعر الرسول . تحقق النذير . . لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم ، على منهج القصص القرآني .
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } . .
على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه ، وبلسانهم ، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم ، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف . وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة ، ولا يستجيبون ، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم ، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة وإن هي إلا تعلة . وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى ، مهما جاءهم من أي طريق
لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول :
{ فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
فهي الكلمة التي لا تتبدل ، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها ، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره ، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ، ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى ، والعبودية لأمثالهم من العبيد ، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد .
إن دين الله منهج للحياة ، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده ، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره .

وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامها على شريعته وأمره ، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك ، وهو عبادة غير الله معه ، أو من دونه
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه ، وفي صدق الرائد الناصح لأهله :
{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . .
وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم ، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة ، ومناهج الخابطين في الظلام من « علماء الأديان » وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن .
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟
{ قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين }
كما قال مشركو العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنه صبأ ، ورجع عن دين إبراهيم
وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر . . هكذا تنقلب الموازين ، وتبطل الضوابط ، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل .
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين ، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول . . أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه ، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما « رجعية » وتخلفاً وجموداً وريفية وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه : إنه « جامد » . ومغلق على نفسه ، وتنقصه المرونة والثقافة وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته . .
إن الجاهلية هي الجاهلية . . فلا تتغير إلا الأشكال والظروف
وينفي نوح عن نفسه الضلال ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها ، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه . إنما هو رسول من رب العالمين . يحمل لهم الرسالة . ومعها النصح والأمانة . ويعلم من الله ما لا يعلمون . فهو يجده في نفسه ، وهو موصول به ، وهم عنه محجوبون :
{ قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون } .

.
ونلمح هنا فجوة في السياق . . فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم ، يحمله رسالة إلى قومه ، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون ، الذين لم يختاروا هذا الاختيار . . هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها :
{ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون؟ } . .
وما من عجب في هذا الاختيار . فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب . . إنه يتعامل مع العوالم كلها ، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه . . فإذا اختار الله من بينه رسوله - والله أعلم حيث يجعل رسالته - فإنما يتلقى هذا المختار عنه ، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه ، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان ، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين .
ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة :
{ لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون } . .
فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى ، ليظفروا في النهاية برحمة الله . . ولا شيء وراء ذلك لنوح ، ولا مصلحة ، ولا هدف ، إلا هذا الهدف السامي النبيل .
ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد ، لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر ، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير :
{ فكذبوه ، فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوماً عمين } . .
ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير . . فبعماهم هذا كذبوا . . وبعماهم لاقوا هذا المصير
وتمضي عجلة التاريخ ، ويمضي معها السياق ، فإذا نحن أمام عاد قوم هود :
« وإلى عاد أخاهم هودا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أفلا تتقون؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك في سفاهة ، وإنا لنظنك من الكاذبين . قال : يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي ، وأنا لكم ناصح أمين . أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، وزادكم في الخلق بسطة ، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون . قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إنا كنت من الصادقين . قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ، أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين . فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين } .
إنها نفس الرسالة ، ونفس الحوار ، ونفس العاقبة . . إنها السنة الماضية ، والناموس الجاري ، والقانون الواحد . .
إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة ، وقيل : كان عددهم ثلاثة عشر . . وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام - وهو الإسلام - كانوا يعبدون الله وحده ، ما لهم من إله غيره ، وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين ، فهكذا قال لهم نوح : { ولكني رسول من رب العالمين } .

. فلما طال عليهم الأمد ، وتفرقوا في الأرض ، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية ، وقادهم من شهواتهم - وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع ، وفق الهوى لا وفق شريعة الله ، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد :
{ وإلى عاد أخاهم هودا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أفلا تتقون؟ } . .
القولة التي قالها نوح من قبله ، والتي كذب بها قومه ، فأصابهم ما أصابهم ، واستخلف الله عادا من بعدهم - ولا يذكر هنا أين كان موطنهم ، وفي سورة أخرى نعلم أنهم كانوا بالأحقاف ، وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضرموت - وقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح ، فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حل بمن ساروا في هذا الطريق ، لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله : { أفلا تتقون؟ } استنكاراً لقلة خوفهم من الله ومن ذلك المصير المرهوب .
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى ، وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة ، وتجاوزا للحد ، وسوء تقدير للمقام فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء :
{ قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك في سفاهة ، وإنا لنظنك من الكاذبين } . .
هكذا جزافاً بلا تروّ ولا تدبر ولا دليل
{ قال : يا قوم ليس بي سفاهة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } . .
لقد نفى عن نفسه السفاهة في بساطة وصدق - كما نفى عن نفسه الضلالة - وقد كشف لهم - كما كشف نوح من قبل - عن مصدر رسالته وهدفها؛ وعن نصحه لهم فيها وأمانته في تبليغها . وقال لهم ذلك كله في مودة الناصح وفي صدق الأمين .
ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا - كما عجب قوم نوح من قبل - من هذا الاختيار ، ومن تلك الرسالة ، فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل ، كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين :
{ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ } . .
ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم . . واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح ، وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية ، وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة :
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، وزادكم في الخلق بسطة . فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } . .
فلقد كان من حق هذا الاستخلاف ، وهذه القوة والبسطة ، أن تستوجب شكر النعمة ، والحذر من البطر ، واتقاء مصير الغابرين .

وهم لم يأخذوا على الله عهداً : أن تتوقف سنته التي لا تتبدل ، والتي تجري وفق الناموس المرسوم ، بقدر معلوم . وذكر النعم يوحي بشكرها؛ وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها؛ ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم ، واختصروا الجدل ، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح ، ويهزأ بالإنذار :
{ قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . .
لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه ، ولا يصبرون على النظر فيه :
{ أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ } ؛
إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول . هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة : حرية التدبر والنظر ، وحرية التفكير والاعتقاد . ويدعه عبداً للعادة والتقليد ، وعبداً للعرف والمألوف ، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله ، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور . .
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق ، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين :
{ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين }
ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول :
{ قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين } .
لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه ، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص . . إنه العذاب الذي لا دافع له ، وغضب الله المصاحب له . . ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه؛ يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم :
{ أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ } . .
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم؛ من عند أنفسكم ، لم يشرعها الله ولم يأذن بها ، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان .
والتعبير المتكرر في القرآن : { ما نزل الله بها من سلطان } . . هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة . . إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله ، خفيف الوزن ، قليل الأثر ، سريع الزوال . . إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف ، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق ، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه .
وكم من كلمات براقة ، وكم من مذاهب ونظريات ، وكم من تصورات مزوقة ، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين . . ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله ، فيها من سلطانه - سبحانه - سلطان وفي ثقة المطمئن ، وقوة المتمكن ، يواجه هود قومه بالتحدي :
{ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين } .

.
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .
ولا يطول الانتظار في السياق :
{ فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين } . .
فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد . وهو ما عبر عنه بقطع الدابر . والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين . وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير . . ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى . فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الاستعراض السريع؛ ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص .
{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . قد جاءتكم بينة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية ، فذروها تأكل في أرض الله ، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم . واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبوأكم في الأرض ، تتخذون من سهولها قصوراً ، وتنحتون الجبال بيوتاً ، فاذكروا آلاء الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ قالوا : إنا بما أرسل به مؤمنون ، قال الذين استكبروا : إنا بالذي آمنتم به كافرون . فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين } . .
وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية؛ وهي تمضي في خضم التاريخ ، وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية؛ ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل ، ومصرع جديد من مصارع المكذبين . .
{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . .
ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود ، وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ . .
ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح ، حين طلبها قومه للتصديق :
{ قد جاءتكم بيِّنة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية } . .
والسياق هنا ، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة ، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب ، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة ، بل يعلن وجودها عقب الدعوة . وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بيِّنة من ربهم ، وأنها ناقة الله وفيها آية منه .

ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية ، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي . مما يجعلها بينة من ربهم ، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى ، ويجعلها آية على صدق نبوته . . ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن - وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر - فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها :
{ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } . .
إنها ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض الله ، وإلا فهو النذير بسوء المصير . .
وبعد عرض الآية والإنذار بالعاقبة ، يأخذ صالح في النصح لقومه بالتدبر والتذكر ، والنظر في مصائر الغابرين ، والشكر على نعمة الاستخلاف بعد هؤلاء الغابرين :
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبوأكم في الأرض ، تتخذون من سهولها قصوراً ، وتنحتون الجبال بيوتاً . فاذكروا آلاء الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .
ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود ، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر - وهي بين الحجاز والشام . . ونلمح من تذكير صالح لهم ، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود ، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه . فهو سهل وجبل ، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور ، وينحتون في الجبال البيوت . فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير . . وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد ، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد ، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضاً . وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض ، محكمين فيها . وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد ، اغتراراً بالقوة والتمكين ، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين
وهنا كذلك نلمح فجوة في السياق على سبيل الإيجاز والاختصار . فقد آمنت طائفة من قوم صالح ، واستكبرت طائفة . والملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض ، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين ولا بد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده ، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد
وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد :
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ } . .
وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف ، ولاستنكار إيمانهم به ، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه .
ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافاً لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم ، والثقة في نفوسهم ، والاطمئنان في منطقهم . . إنهم على يقين من أمرهم ، فماذا يجدي التهديد والتخويف؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار . . من الملأ المستكبرين؟ :
{ قالوا : إنا بما أرسل به مؤمنون } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36