كتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي

{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] ومن قدر قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضاً أفعل من الرباعي ، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ ، { وأدنى } معناه أقرب ، و { ترتابوا } معناه ، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي « يسأموا » و « يكتبوا » و « يرتابوا » كلها بالياء على الحكاية عن الغائب .
قوله عز وجل :
{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه في كثير كالأملاك ونحوها . وقال السدي والضحاك : هذا فيما كان يداً بيد تأخذ وتعطي ، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقول تعالى : { تديرونها بينكم } يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده « تجارةً » نصباً ، وقرأ الباقون « تجارةٌ » رفعاً ، قال أبو علي وأشك في ابن عامر ، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت عن خبر ، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب ، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع ، وأما من نصب فعلى خبر كان ، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها ، وإما { إلا أن تكون } التجارة { تجارة } ، ويكون ذلك مثل قول الشاعر : [ الطويل ] .

فدىً لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي ... إذا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي إذا كان اليوم يوماً .
قال القاضي أبو محمد : هكذا أنشد أبي علي البيت ، وكذلك أبو العباس المبرد ، وأنشده الطبري : [ الطويل ]
ولله قومي أيُّ قومٍ لحرّةٍ ... إذَا كَان يوماً ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب .
وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره ، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما : ذلك علىلندب ، وقال ابن عمرو والضحاك : ذلك على الوجوب ، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها ، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري .
قال القاضي أبو محمد : والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحيي من العالم والرجل والكبير الموقر فلا يشهد عليه ، فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا .
وحكى المهدي عن قوم أنهم قالوا : { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله { فإن أمن } [ البقرة : 283 ] ، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شيهد } فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم . المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها ، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا : لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول ، والأصل في يضار على هذين القولين « يضارِر » بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم : معنى الآية { ولا يضار كاتب ولا شهيد } بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما ، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول ، ولفظ المضارة إذا هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها ، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأصل { يضار } على القول الثاني « يضارَر » بفتح الراء ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون « ولا يضارَر » بالفك وتفح الراء الأولى ، وهذا على معنى ، أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة ، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا ، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد « ولا يضارْ » بجزم الراء ، قال أبو الفتح : تسكين الراء مع التشديد فيه نظر ، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقرأ عكرمة « ولا يضارر » بكسر الراء الأولى « كاتباً ولا شهيداً » بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر ، ووجوه المضارة لا تنحصر ، ورى مقسم عن عكرمة أنه قرأ « ولا يضارُ » بالإدغام وكسر الراء للالتقاء ، وقرأ ابن محيصن « ولا يضارِ » برفع الراء مشددة ، قال ابن مجاهد : ولا أدري ما هذه القراءة؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف ، وذلك على أن تجعل { لا } نفياً أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر : [ الطويل ]

على الْحَكَم الْمَأْتِيّ يوماً إذَا انْقَضَى ... قَضيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ وَيَقْصِدُ
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع « ولا يضارُّ » على معنى وينبغي أن لا يضار ، قال : وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من النظر الأول .
وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر ، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار ، وفيه إبطال الحق ، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكتاب والمشاهد بأن يقال لهما : أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة ، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع ، وقوله { بكم } تقديره فسوق حال بكم ، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره ، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه .

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر ، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضاً فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن .
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير ، فقال : إنما يريد محمد أن يذهب بمالي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ، ولو ائتمنني لأديت ، اذهبوا إليه بدرعي » .
وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن ، وفي الحضر ثابت في الحديث .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، إلا أنه لم يمعن فيه النظر لفظ السفر في الآية ، وإذا كان السفر في الآية مثالاً من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى ، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر ، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته ، وقوي قولهما في الائتمان ، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيراً ويحسن ، وقرأ جمهور القراء « كاتباً » بمعنى رجل يكتب ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس « كتاباً » بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر ، قال مكي : وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام .
قال القاضي أبو محمد : ومثله صاحب وصاحب ، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة ، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة ، فنفي الكتاب يعمها ، ونفي الكاتب أيضاً يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ « كُتاباً » بضم الكاف على جمع كاتب ، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب ، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتاباً ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ « كاتباً » ، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ « كتباً » وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ « كتباً » .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء « فرهان » ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير « فرُهُن » بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء .

وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : رهن الشيء في كلام العرب معناه : دام واستمر ، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده : ورهنه أي أدامه ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر : [ السريع ]
اللحمُ والخبزُ لَهمْ راهِنٌ ... وقهوةٌ راووقُها ساكِبُ
أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهين بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له ، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها ، حتى أخذها بكثير الثمن ، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة : [ البسيط ]
يطوي ابن سلمى بها من راكب بُعُداً ... عيديةً أُرْهنَتْ فيها الدَّنَانِيرُ
العيد بطن من مهرة ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق : أرهنت إرهاناً فيما حكى بعضهم ، وقال أبو علي يقال : أرهنت في المغالاة ، وأما في القرض والبيع فرهنت .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال بلا خلاف في البيع والقرض : رهنت رهناً ، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع ، ونقل إلى التسمية ، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر ، تقول : رهنت رهناً فذلك كما تقول رهنت ثوباً ، لا كما تقول : رهنت الثوب رهناً وضربت ضرباً ، قال أبو علي : وقد يقال في هذا المعنى أرهنت ، وفعلت فيه أكثر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
يراهِنُني ويُرْهِنُني بنيه ... وَأُرْهِنُه بنيَّ بِمَا أَقُولُ
وقال الأعشى : [ الكامل ]
حتّى يُقِيدَكَ مِنْ بنِيهِ رَهِينَةً ... نَعْشٌ ويُرْهِنَكَ السِّماكَ الفَرْقَدا
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة : [ المتقارب ]
ولمّا خَشِيتُ أَظافِرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأَرْهنْتُهُمْ مَالِكا
قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت ، وقاله ابن الأعرابي ، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أهنت .
قال القاضي أبو محمد : فمن قرأ « فرِهَان » فهو جمع رَهْن ، ك « كبْش » و « كِباش » ، و « كَعْب » وكِعاب ، ونَعْل ونِعَال ، وَبَغْل وبِغَال ، ومن قرأ « فُرُهُنٌ » بضم الراء والهاء فهو جمع رَهْن ، ك « سقف وسقف ، وأسد وأُسْد ، إذ فَعْل وفُعُل يتقاربان في أحكامهما ، ومن قرأ » فرهْن « بسكون الهاء فهو تخفيف رهن ، وهي لغة في هذا الباب كله ، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك ، قال أبو علي : وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال ، فمما جاء على » فُعْل « قول الأعشى : [ الكامل ]

آليتُ لا أُعْطيهِ مِنْ أبنائِنا ... رَهْناً فَيُفْسِدهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدا
قال الطبري : تأول قوم أن « رُهُناً » بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء ، ووجه أبو علي قياساً يقتضي أن يكون رهاناً جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالاً على فعائل في قول ذي الرمة : [ الطويل ]
وَقَرَّبْنَ بالزرْقِ الْجَمَائِلَ بَعْدَما ... تَقَوَّبَ عَنْ غِرْبَانِ أوراكِها الْخَطَر
ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعاً .
وقوله عز وجل : { مقبوضة } يقتضي بينونة المرتهن بالرهن ، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت .
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض ، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما : ليس قبض العدل بقبض ، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن .
وقوله تعالى : { فإن آمن } الآية ، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء ، وقوله { فليُؤد } أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير ، وقوله { أمانته } مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر ، كأنه قال : فليحفظ مروءته ، فيجيء التقدير : فليؤد ذا أمانته ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي أؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة ، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط ، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره ، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وهذا خطأ أيضاً لا يجوز ، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له ، وقرأ ابن محيصن « الذي ايتمن » بياء ساكنة مكان الهمزة ، وكذلك ما كان مثله .
وقوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي على الوجوب بعدة قرائن ، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق ، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر ، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة ، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام ، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سبباً لتخدم باطلاً ينطمس به الحق ، و { آثم } معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة ، وإعرابه أنه خبر « إن » ، و { قلبه } فاعل ب { آثم } ، ويجوز أن يكون ابتداء و { قلبه } فاعل يسد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، ويجوز أن يكون { قلبه } بدلاً على بدل البعض من الكل .

وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام ، وقرأ ابن أبي عبلة « فإنه آثم قلبَه » بنصب الباء ، قال مكي هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة .
وفي قوله تعالى : { والله بما تعملون عليم } توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد .

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة ، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره ، وعبر ب { ما } وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد ، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه ، إذ هي ثلاثة : ملائكة ، وإنس ، وجن ، وأجناس الغير كثيرة .
وقوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } معناه أن الأمر سواء ، لا تنفع فيه المواراة والكتم ، بل يعلمه ويحاسب عليه ، وقوله : { في أنفسكم } تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز .
واختلف الناس في معنى هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا ، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا ، فقالوها ، فأنزل الله بعد ذلك { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك ، هذا معنى الحديث المروي ، لأنه تطرق من جهات ، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة . وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية ، { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ثم قال : والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن ، ثم بكى حتى سالت دموعه ، وسمع نشيجه ، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } الآية فنسخت الوسوسة ، وثبت القول والفعل ، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى ، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة ، قال الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها ، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى ، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وذلك أن قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه ، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم ، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها ، ونص على حكمه أنه { لايكلف نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هو أمر غالب ، وليست مما يكسب ولا يكتسب ، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم ، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها .
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم : « قولوا سمعنا وأطعنا » يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران ، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه ، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه : التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك .
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين ، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي « فيغفرْ » ، و « ويعذبْ » ، جزماً ، وقرأ ابن عامر وعاصم « فيغفرُ » و « ويعذبُ » رفعاً ، فوجه الجزم أنه أتبعه منا قبله ولم يقطعه ، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم ، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول ، وقطعه على أحد وجهين ، إما أن تجعل الفعل خبراً لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها ، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة « فيغفرَ » و « يعذبَ » بالنصب على إضمار « أن » ، وهو معطوف على المعنى كما في قوله : { فيضاعفه } [ البقرة : 11 ] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء ، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال ابن جني هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة ، وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
رويداً بني شيبانَ بعضَ وعيدِكُمْ ... تُلاقُوا غداً خيلي عَلى سَفَوَانِ
تلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغَى ... إذا ما غَدَتْ في المأزقِ المتدانِ

فهذا على البدل ، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول .
وقوله تعالى : { ويعذب من يشاء } يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد ، قال النقاش يغفر لمن يشاء ، أي لمن ينزع عنه ، { ويعذب من يشاء } أي من أقام عليه ، وقال سفيان الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير .
قال القاضي أبو محمد : وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق ، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ، وإنما كان أمر الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت تكليفاً إلا على الوجه ذكرنا من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك .
ومسألة تكليف ما لا يطاق ، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى .
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء ، إذ ما ذكر جزء منها .

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

سبب هذه الآية أنه لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية التي قبلها . وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على ان { قالوا سمعنا وأطعنا } ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه ، و { آمن } معناه صدق ، و { الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم ، و { بما أنزل إليه من ربه } هو القرآن وسائر ما أوحي إليه ، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن ، وقرأ ابن مسعود « وآمن المؤمنون » ، و { كل } لفظة تصلح للإحاطة ، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام ، ولما وردت هنا بعد قوله { والمؤمنون } دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر .
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه .
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباداً الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم .
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ما أخبر هو به ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر « وكتبه » على الجمع ، وقرؤوا في التحريم و « كتابه » على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم « وكتبه » على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي « وكتابه » على التوحيد فيهما ، وروى حفص عن عاصم ها هنا وفي التحريم « وكتبه » مثل أبي عمرو ، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، فمن جمع أراد جمع كتاب ، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى ، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا : نسج اليمن ، وقال أبو علي في صدر كلامه : أما الإفراد في قول من قرأ « وكتابه » فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير ، كقوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] ونحو ذلك ، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك ، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة ، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل

{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها ، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف ، ومنه قول ابن الرقاع :
يَدَعُ الْحَيَّ بالعشيِّ رَعَاهَا ... وَهُم عَنْ رَغِيفِهِمْ أَغْنِيَاءُ
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، وقرأت الجماعة « ورسُله » بضم السين ، وكذلك « رسُلنا » و « رسُلكم » و « رسُلك » إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف « رسلنا » و « رسلكم » ، وروي عنه في « رسلك » التثقيل والتخفيف ، قال أبو علي من قرأ « على رسلك » بالتثقيل فذلك أصل الكلمة ، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب ، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل ، وقرأ يحيى بن يعمر « وكتْبه ورسْله » بسكون التاء والسين ، وقرأ ابن مسعود « وكتابه ولقائه ورسله » ، وقرأ جمهور الناس « لا نفرق » بالنون ، والمعنى يقولون لا نفرق ، وقرأ سعيد بن جبير ويحيي بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب « لا يفرق » بالياء ، وهذا على لفظ { كل } ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود « لا يفرقون » ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
وقوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا } مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر ، والطاعة قبول الأوامر ، و { غفرانك } مصدر كالكفران والخسران ، ونصبه على جهة نصب المصادر ، والعامل فيه فعل مقدر ، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، { وإليك المصير } إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل إلى آخر السورة .

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف ، وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر ، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضاً يدفعه اللفظ ، ولذلك ساغ الخلاف .
وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { واتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] .
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم . على أنه ليس واقعاً الآن في الشرع ، وأن هذه الآية آذنت بعدمه ، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يحرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع ، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعاً به .
قال القاضي أبو محمد : وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث .
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار ، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن ، وتكليف الشرع له الإيمان راتب ، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة { تبت يدا أبي لهب } [ المسد : 1 ] ، وقالت فرقة لم يقع قط ، وقوله تعالى : { سيصلى ناراً } [ المسد : 3 ] إنما معناه إن وافى على كفره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما لا يطاق ينقسم أقساماً : فمنه المحال عقلاً كالجمع بين الضدين ، ومنه المحال عادة ، كرفع الإنسان جبلاً ، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه ، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره ، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير ، و { يكلف } يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره « عبادة » أو شيئاً ، وقرأ ابن أبي عبلة « إلا وَسِعها » بفتح الواو وكسر السين ، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ إلا وسعته ، كما قال { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 255 ] وكما قال { وسع كل شيء علماً } [ طه : 98 ] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر .
وقوله تعالى : { لها ما كسبت } يريد من الحسنات ، { وعليها ما اكتسبت } يريد من السيئات ، قاله السدي وجماعة من المفسرين ، لا خلاف في ذلك ، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان .

وجاءت العبارة في الحسنات ب { لها } من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات ب { عليها } ، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة ، وهذا كما تقول لي مال وعلي دين ، وكما قال المتصدق باللقطة : اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليَّ ، وكرر فعل الكسب فخالف والذي التصريف حسناً لنمط الكلام . كما قال { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } [ الطلاق : 17 ] هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى ، وقال المهدوي وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا صحيح في نفسه ، لكن من غير هذه الآية .
وقوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } معناه قولوا في دعائكم .
واختلف الناس في معنى قوله { نسينا أو أخطأنا } فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك ، أي إن تركنا شيئاً من طاعتك وأنه الخطأ المقصود . قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضع عن المرء ، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به ، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود ، وهذا هو الصحيح عندي . قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها . وقال السدي نزلت هذه الآية فقالوها؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر قوليهما ما صححته ، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ ، « والإصر » الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه ، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق ، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب . ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز ، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات . والخطأ هو المقصود من العصيان ، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة . وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز ، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان ، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك { ما لا طاقة لنا به } من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره .

وأما لفظة « أخطأ » فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد ، قال قتادة : الإصر العهد والميثاق الغليظ . وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء : الإصر المسخ قردة وخنازير . وقال ابن زيد أيضاً : الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه . وقال مالك رحمه الله : الإصر : الأمر الغليظ الصعب .
قال القاضي أبو محمد : والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام أوقرابة أو عهد ونحوه ، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه ، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، والقد يضم عضدي الرجل يقال أصر يأصر والإصر بكسر الهمزة من ذلك ، وفي هذا نظر . وروي عن عاصم أنه قرأ أُصراً بضم الهمزة ، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود . قال الضحاك : والنصارى ، وأما عبارات المفسرين في قوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا . وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ، وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال سلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك في غلمة ليس لها عدة ، وقال السدي : هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم ، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله : { واعف عنا } أي فيما واقعناه وانكشف { واغفر لنا } أي استر علينا ما علمت منا { وارحمنا } أي تفضل مبتدئاً برحمة منك لنا .
قال القاضي أبو محمد : فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحداً وهو دخول الجنة و { أنت مولانا } مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه ، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية ، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات .
وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { قل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، فقالها فقال جبريل قد فعل ، فقال : قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل : قد فعل إلى آخر السورة ، وتظاهرت بهذه المعنى أحاديث ، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن ، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه ، » يعني من قيام الليل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي » .

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة ، ومن حيث جاء في هذه السورة { الله لا أله إلا هو الحي القيوم } جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في { الم } في هذه السورة ، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول : هذه الحروف كتابك أو نحو هذا ، ويدل قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال : وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 21 ] وترك الجواب لدلالة قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } [ الزمر : 21 ] تقديره : كمن قسا قلبه . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ
قال : تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر .
قال القاضي رحمه الله : يحسن في هذا القول أن يكون { نزل } خبر قوله { الله } حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى . وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا : إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما ممن ذكر السير رووا أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم ، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة ، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام : دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال وسيأتي تفسير ذلك .

وقرأ السبعة « المَ الله » بفتح الميم والألف ساقطة ، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف ، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر ، وذكرها الفراء عن عاصم ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي وأبو حيوة بكسر الميم للالتقاء وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . قال أبو علي : حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك : « من الله ومنَ المسلمين » إلى غير ذلك .
قال أبو محمد : ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته ، قاله أبو علي ، وقد تقدم تفسير قوله : { الحي القيوم } في آية الكرسي ، والآية هنالك إخبار لجميع الناس ، وكررت هنا إخباراً لحجج هؤلاء النصارى ، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محاله إذ من البين أنه ليس بقيوم ، وقرأ جمهور القراء « القيوم » وزنه فيعول ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس « القيام » وزنه - فيعال - وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ « القيم » وزنه فيعل ، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده ، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه .
وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه السلام ، و { الكتاب } في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين ، وقرأ جمهور الناس « نزَّل عليك » بشد الزاي « الكتابَ » بنصب الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي « نزَل عليك الكتابُ » بتخفيف الزاي ورفع الباء ، وهذه الآية تقتضي أن قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } جملة مستقلة منحازة ، وقوله { بالحق } يحتمل معنيين : إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه ، فالباء على حدها في قوله : جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه ، والثاني : أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله ، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } [ المائدة : 116 ] وقال محمد بن جعفر بن الزبير : معنى قوله : { بالحق } أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون ، وهذا داخل في المعنى الأول ، و { مصدقاً } حال مؤكدة وهي راتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتاب الله فهو كقول ابن دارة : [ البسيط ]

أنا ابْنُ دارةَ معروفاً بها نسبي ... وَهَلْ بِدَارَة يا للناسِ مِنْ عارِ؟
وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف ، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن .
و { التوراة والإنجيل } اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة : إنها من ورى الزناد يري إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري ، ومنه قوله تعالى : { فالموريات } [ العاديات : 2 ] وقوله : { أفرأيتم النار التي تورون } [ الواقعة : 70 ] قال أبو علي ، فأما قولهم : وريت بك زنادي على وزن ، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره ، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من : ولجت ، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين : أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين ، من : وريت بك زنادي ، وإنما ينبغي أن تكون من : أوريت قال فهي تورية ، وقال بعضهم : يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين ، قال الزجاج وكأنه يجيز ي توصية توصأة وذلك غير مسموع ، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفاً فقيل توراة ، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم « التورَاة » مفتوحة الراء ، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله { من الأبرار } و { من الأشرار } [ ص : 62 ] و { قرار } إذا كان الحرف مخفوضاً ، وروى المسيبي عن نافع فتح الراء من التوراة ، وروى ورش عنه كسرها ، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من { الأبرار } وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع .
وقالوا في الإنجيل : إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض ، قال الخليل : استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضاً والولد والنسل قاله الخليل وغيره ، ونجله أبوه أي ولده ، ومن ذلك قول الأعشى : [ المنسرح ]
أنجبُ أيّام والداه به ... أذ نَجَلاهُ فَنِعمَ مَا نَجَلا
قال ابن سيده عن أبي علي : معنى قوله أيام والداه به كما تقول : أنا بالله وبك ، وقال أبو الفتح : معنى البيت ، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ . ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه ، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضاً من معنى الظهور وفراق شيء شيئاً ، وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الوالد يقال له ، نجل وأن اللفظة من لأضداد ، وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه :

وكل فحل له نجل ... أي ولد كريم ونسل ، وروى الأصمعي فيما حكى : وكل فرع له نجل ، وهذا لا يتجه إلى على تسمية الوالد نجلاً . وقال الزجاج : { الإنجيل } مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح : ف { التوراة } من وري الزناد ، إذا ظهرت ناره ، و { الإنجيل } من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة ، و { الفرقان } من الفرق بين الحق والباطل ، فحروفها مختلفة ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، إذ كلها معناه ، ظهور الحق ، وبيان الشرع ، وفصله من غيره من الأباطيل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « الأنجيل » بفتح الهمزة ، وذلك لا يتجه في كلام العرب ، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة ، وإنه لا يقرأ إلا بما روى ، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية .
وقوله تعالى : { من قبل } يعني من قبل القرآن ، وقوله : { هدى للناس } معناه دعاء ، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع ، لأنهم المدعوون بهما لا غير ، وإن أراد أنهما { هدى } في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره ، منصوب لمن اهتدى به ، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر .
قال القاضي رحمه الله : وقال هنا { للناس } ، وقال في القرآن { هدى للمتقين } ، وذلك عندي ، لأن هذا خبر مجرد ، وقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ، ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس ، فسمي { هدى } لذلك ، وقال ابن فورك : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، و { الفرقان } : القرآن ، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال محمد بن جعفر ، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة والربيع وغيرهما ، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ونحوه ، و { الفرقان } يعم هذا كله ، وقال بعض المفسرين ، { الفرقان } هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب ، ثم توعد تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد ، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة ، وعذاب الآخرة بالنار ، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران ، وقال النقاش : إلى اليهود ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم ، و { عزيز } ، معناه غالب ، وقد ذل له كل شيء ، والنقمة والانتقام ، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء على التفصيل ، وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من المخلوقين ، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات ، وهذا أمر لا ينكره عاقل ، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه ، ولا ينكر أن عيسى عليه السلام من المصورين في الأرحام ، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران ، وفي قوله : { إن الله لا يخفى عليه شيء } وعيد ما لهم ، فسر بنحو هذا محمد بن جعفر بن الزبير والربيع ، وفي قوله : { هو الذي يصوركم } رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الحرم مكثت نطفة أربعين يوماً ثم تكون علقة أربعين يوماً ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكاً فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه ، وفي مسند ابن سنجر حديث : إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة ، وصور بناء مبالغة من : صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما ، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة ، والرحم موضع نشأة الجنين ، و { كيف يشاء } يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الأختلافات . و { العزيز } الغالب و { الحكيم } ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير .
و { الكتاب } في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين ، والمحكمات ، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام ، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادىء النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل ، إلى غير من أنواع التشابه ، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب { متشابهات } ، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر ، وهذا نحو الحديث الصحيح ، عن النبي عليه السلام ، الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله ، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية ، ألا اترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام ، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال نعم ، قالوا : فحسبنا إذاً .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا التشابه ، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية ، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } [ الأنعام : 151 ] إلى ثلاثة آيات ، وقوله في بني إسرائيل { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات ، وقال ابن عباس أيضاً : المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل ، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات .
قال الفقيه الإمام : وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا ، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات ، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك ، وقال مجاهد وعكرمة : المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً ، وذلك مثل قوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } [ البقرة : 26 ] وقوله : { كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ] .
قال الفقيه أبو محمد : وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية ، وقال ابن زيد : المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته ، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله : { حية تسعى } [ طه : 20 ] و { ثعبان مبين } [ الأعراف : 107 ] ونحو : اسلك يدك ، وأدخل يدك ، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري ، وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهمو معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور .
قال القاضي رحمه الله : أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات ، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً ، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام ، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات ، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق ، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً .

وقوله تعالى : { أم الكتاب } فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه ، قال يحيى بن يعمر : هذا كما يقال لمكة -أم القرى- ولمرو أو خراسان ، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان ، قال المهدوي والنقاش : كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها { أم الكتاب } ، وهذا مردود بل جميع المحكم هو { أم الكتاب } ، وقال النقاش : وذلك كما تقول : كلكم عليَّ أسد ضار .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا المثال غير محكم ، وقال ابن زيد : { أم الكتاب } معناه جماع الكتاب ، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال : { هن أم الكتاب } يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن { الم ذلك الكتاب } منه استخرجت سورة البقرة { الم الله لا إله إلا هو } منه استخرجت سورة آل عمران ، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والأشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن ، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالاً منه ونعمة ، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه ، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله . ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم ، فهكذا تتوجه المذمة عليهم ، و { أخر } جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة ، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع ، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه ، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة ، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين ، وليس عدل { أخر } عن الألف واللام مؤثراً في التعريف كما هو عدل - سحر- بل أخر نكرة ، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله ، جئت يوم الجمعة سحر ، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله .
قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { الذين في قلوبهم زيغ } بعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة ، والزيغ الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام ، قاله الربيع ، وإلى اليهود ، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر ، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم ، و { ما تشابه منه } هو الموصوف آنفاً - بمتشابهات - وقال قتادة في تفسر قوله تعالى { وأما الذين في قلوبهم زيغ } : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج ، فلا أدري من هم؟ وقالت عائشة : إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم ، وقال الطبري : الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور ، وهؤلاء هم اليهود ، و { ابتغاء } نصب على المفعول من أجله ، ومعناه طلب الفتنة ، وقال الربيع ، { الفتنة } هنا الشرك ، وقال مجاهد : { الفتنة } الشبهات واللبس على المؤمنين ، ثم قال : { وابتغاء تأويله } والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني ، وهو من آل يؤول ، إذا رجع ، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة .

هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه ، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه . وقال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، ثم قال : { وما يعلم تأويله إلا الله } فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع ، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه ، فمعنى الآية : وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله .
واختلف العلماء في قوله تعالى : { والراسخون في العلم } فرأت فرقة ، أن رفع { والراسخون } هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به ، { يقولون آمنا به } الآية . قال بهذا القول ابن عباس ، وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم ، و { يقولون } على هذا التأويل نصب على الحال ، وقالت طائفة أخرى : { والراسخون } رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره { يقولون } ، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم { آمنا به } قالته عائشة وابن عباس أيضاً ، وقال عروة بن الزبير : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون ، { آمنا به } ، وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم { آمنا به كل من عند ربنا } وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس .

قال القاضي رحمه الله : وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين : - محكماً ومتشابهاً - فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب ، فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى { وروح منه } [ النساء : 171 ] إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً ، وقوله تعالى : { وما يعلم تأويله } الضمير عائد على جميع متشابه القرآن ، وهو نوعان كما ذكرنا ، فقوله { الا الله } مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء ، يعلم نوعيه جميعاً ، فإن جعلنا قوله : { والراسخون } عطفاً على اسم الله تعالى ، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال ، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه ، وبديهة العقل تقضي بهذا ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول : ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان ، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك ، والآخر إنما أعانك بكلام فقط ، إلى كثير من المثل ، فالمعنى { وما يعلم } تأويل المتشابه إلا الله { والراسخون } كل بقدره ، وما يصلح له ، { والراسخون } بحال قول في جميعه { آمنا به } ، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله ، وإن جعلنا قوله : { والراسخون } ، رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم ، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ، وذلك كله بقريحة معدة ، فالمعنى { وما يعلم تأويله } على الاستيفاء إلى الله ، والقوم الذي يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه { آمنا به كل من عند ربنا } وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه ، وهو ترجمان القرآن ، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله . فإعراب { الراسخون } يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما ، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه ، فأما من يقول : إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، بل الصحيح في ذلك قول من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً ، وهذا هو متبع أهل الزيغ ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته ، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال ، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره ، وفسر باقي الآية على ذلك ، فهذا أيضاً تخصيص لا دليل عليه ، وأما من يقول ، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس : « إلا الله ويقول : الراسخون في العلم آمنا به » ، وقرأ ابن مسعود « وابتغاء تأويله » ، إن تأويله إلا عند الله ، - { والراسخون في العلم } يقولون { آمنا به } - والرسوخ في الثبوت في الشيء ، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن « الراسخين في العلم » ، فقال : هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام ، وقوله : { كل من عند ربنا } فيه ضمير عائد على كتاب الله ، محكمه ومتشابهه ، والتقدير ، كله من عند ربنا ، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه ، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . ثم قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب } أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلاذو لب ، وهو العقل ، و { أولو } : جمع ذو .

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم ، أنهم يقولون هذا مع قولهم { آمنا به } [ آل عمران : 7 ] ويحتمل أن يكون المعنى منقطعاً من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم ، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عبادة الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم ، إن الله لا يضل العباد ، ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله و { تزغ } معناه ، تمل قلوبنا عن الهدى والحق ، وقرأ أبو واقد ، والجراح « ولا تزغ قلوبُنا » بإسناد الفعل إلى القلوب ، وهذه أيضاً رغبة إلى الله تعالى . وقال أبو الفتح : ظاهر هذا ونحوه الرغبة إلى القلوب وإنما المسؤول الله تعالى ، وقوله الرغبة إلى القلوب غير متمكن ، ومعنى الآية على القراءتين ، أن لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي . قال الزجاج : وقيل : إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا .
قال الفقيه الإمام : وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد ، و { من لدنك } معناه : من عندك ومن قبلك ، أن تكون تفضلاً لا عن سبب منا ولا عمل ، وفي هذا استسلام وتطارح ، والمراد هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة .
وقوله تعالى : { ربنا إنك جامع الناس } إقراب بالبعث ليوم القيامة ، قال الزجاج : هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به ، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه ، والريب : الشك ، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم ، وقوله تعالى : { إن الله لا يخلف الميعاد } يحتمل أن يكون إخباراً منه محمداً عليه السلام وأمته ، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين ، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى ، و { الميعاد } مفعال من الوعد .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

هم الكفار الذين لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية ، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئاً ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه ، و { من } في قوله : { من الله } لابتداء الغاية ، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي - بعد - متناولة كل كافر ، وقرأ أبو عبد الرحمن : « لن يغني » بالياء ، على تذكير العلامة ، والوقود بفتح الواو ما يحترق في النار من حطب ونحوه ، وكذلك هي قراءة جمهور الناس ، وقرا الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما { وُقُود } بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره ، حطب { وقود النار } ، والوقود بضم الواو المصدر ، وقدت النار تقد إذا اشتعلت ، والدأْب والدأَب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب - إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة - دأب - فالمعنى في الآية ، تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين ، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب .
والكاف في قوله { كدأب } في موضع رفع ، التقدير : دأبهم { كدأب } ، ويصح أن يكون الكاف في موضع نصب ، قال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف تقديره كفراً { كدأب } ، فالعامل فيه { كفروا } ، ورد هذا القول الزجاج بأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة .
قال القاضي رحمه الله : ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ « الوقود » ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ، أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] ، والقول الأول أرجح الأقوال أن يكون الكاف في موضع رفع ، والهاء في { قبلهم } عائدة على { آل فرعون } ، ويحتمل أن تعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكافر ، وقوله : { بآياتنا } يحتمل أن يريد بالآيات المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة ، واختلفت عبارة المفسرين ، في تفسير الدأب ، وذلك كله راجع إلى المعنى الذي ذكرناه .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، « ستغلبون وتحشرون » بالتاء من فوق و « يرونهم » بالياء من تحت ، وحكى أبان عن عاصم « تُرونهم » بالتاء فمن فوق مضمومة ، وقرا نافع ثلاثتهن بالتاء من فوق ، وقرا حمزة ثلاثتهن بالياء من تحت ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، وقرأ ابن عباس ، وطلحة بن مصرف وأبو حيوة ، « يُرُونهم » بالياء المضمومة ، وقرا أبو عبد الرحمن ، بالتاء من فوق مضمومة ، واختلف من الذين أمر بالقول لهم من الكفار ، فقيل هم جميع معاصريه من الكفار ، أمر بأن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب ووعيد ، قد صدق بحمد الله غلب الكفر وصار من مات عليه إلى جهنم ، ونحا إلى هذا أبو علي في - الحجة - وتظاهرت روايات بأن المراد يهود المدينة ، قال ابن عباس وغيره : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا يا محمد : لا يغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، فأنزل الله في قولهم هذه الآية ، وروي حديث آخر ذكره النقاش ، وهو أن النبي عليه السلام لما غلب قريشاً ببدر قالت اليهود : هذا هو النبي المبعوث الذي في كتابنا وهو الذي لا تهزم له راية ، وكثرت فتنتهم بالأمر ، فقال لهم رؤساؤهم وشياطينهم : لا تعجلوا وأمهلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى ، فلما وقعت أحد كفر جميعهم وبقوا على أولهم ، وقالوا : ليس محمد بالنبي المنصور فنزلت الآية في ذلك ، أي قل لهؤلاء اليهود سيغلبون يعني قريشاً ، وهذا التأويل إنما يستقيم على قراءة « سيغلبون ويحشرون » بالياء من تحت ، ومن قرأ بالتاء فمعنى الآية : قل للكفار جميعاً هذه الألفاظ ، ومن قرأ بالياء من تحت ، فالمعنى قل لهم كلاماً هذا معناه ، ويحتمل قراءة التاء التأويل الذي ذكرناه آنفاً ، أي قل لليهود ستغلب قريش ، ورجح أبو علي قراءة التاء على المواجهة ، وأن الذين كفروا يعم الفريقين ، المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف والجزية والذلة ، والحشر : الجمع والإحضار ، وقوله { وبئس المهاد } يعني جهنم ، هذا ظاهر الآية ، وقال مجاهد : المعنى بس ما مهدوا لأنفسهم ، فكأن المعنى ، وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم .
وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفه المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ « ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في « ترونهم » تجمع المشركين ، وفي « مثلهم » تجمع المؤمنين ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارة من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر فكان الكفار ثلاثة من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس « فئةٌ تقاتل » برفع « فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ « بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ « ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً « بالنصب وكذلك » كافرة « قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

قرأ جمهور الناس « زُين » على بناء الفعل للمفعول ورفع « حبُّ » على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وقرأ الضحاك ومجاهد « زَين » على بناء الفعل للفاعل ونصب « حبَّ » على أنه المفعول ، واختلف الناس من المزين؟ فقالت فرقة : الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] ، وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن ، فإنه قال من زينها؟ ما أحد أشد لها ذماً من خالقها .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا قيل زين الله ، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء ، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها . والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر ، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم ، و { الشهوات } ذميمة واتباعها مردٍ وطاعتها مهلكة ، وقد قال عليه السلام : « حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره » فحسبك أن النار حفت بها ، فمن واقعها خلص إلى النار ، و { والقناطير } جمع قنطار ، وهو العقدة الكبيرة من المال ، واختلف الناس في تحرير حده كم هو؟ فروى أبي بن كعب ، عن النبي عليه السلام أنه قال : القنطار ألف ومائتا أوقية ، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء ، وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية ، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن : القنطار ألف ومائتا مثقال ، وروى الحسن ذلك مرفوعاً عن النبي عليه السلام ، قال الضحاك وهو من { الفضة } ألف ومائتا مثقال ، وروي عن ابن عباس أنه قال : القنطار من { الفضة } اثنا عشر ألف درهم ، ومن { الذهب } ألف دينار ، وروي بذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب : القنطار ثمانون ألفاً ، وقال قتادة : القنطار مائة رطل من { الذهب } أو ثمانون ألف درهم من { الفضة } ، وقال السدي : القنطار ثمانيه آلاف مثقال وهي مائة رطل ، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال أبو نضرة : القنطار ملء مسك ثور ذهباً .
قال ابن سيده : هكذا هو بالسريانية ، وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وحكى النقاش عن ابن الكلبي ، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهباً ، وقال النقاش : { القناطير } ثلاثة ، { والمقنطرة } تسعة لأنه جمع الجمع ، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح ، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال : لا تكون { المقنطرة } أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء ، لا تكون { المقنطرة } أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم .

قال أبو هريرة : القنطار اثنا عشر ألف أوقية ، وحكى مكي قولاً إن القنطار أربعون أوقية ذهباً أو فضة ، وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بربر ألف مثقال ، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً } [ النساء : 20 ] قال ألف دينار ذكره الطبري ، وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أوفضة وأظنها وهماً ، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل ، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به ، كما هو الرطل والربع ، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار ، والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار ، وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه ، فكأن القنطار عقدة مال .
واختلف الناس في معنى قوله : { المقنطرة } فقال الطبري : معناه المضعفة ، وكأن { القناطير } ثلاثة و { المقنطرة } تسع ، وقد تقدم ذكر هذا النظر ، وقال الربيع : معناه المال الكثير بعضه فوق بعض ، وقال السدي : معنى { المقنطرة } ، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم ، وقال مكي : { المقنطرة } المكملة ، والذي أقول : إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً ، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك : فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير ، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها ، أي قنطرت فهي مقنطرة ، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال . وقد قال مروان بن الحكم ، ما المال إلا ما حازته العياب ، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكاً ، أو غير مسكوك ، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه ، ولكن لا تعطي ذلك لفظة { المقنطرة } .
{ والخيل } : جمع خائل عند أبي عبيدة ، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير ، وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، واختلف المفسرون في معنى { المسومة } فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد ، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول : سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « في سائمة الغنم الزكاة » ومنه قوله عز وجل : { فيه تسيمون } [ النحل : 10 ] وروي عن مجاهد أنه قال : { المسومة } معناه المطهمة الحسان ، وقاله عكرمة ، سومها الحسن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : { المسومة } معناه المعلمة ، شيات الخيل في وجوهها وقاله قتادة ، ويشهد لهذا القول بيت لبيد : [ الكامل ]

وَغَدَاةَ قاعِ الْقرْنَتينِ أتيْنَهُمْ ... زُجْلاً يلوحُ خِلالها التَّسْوِيمُ
وأما قوله النابغة : [ الوافر ] :
بسمرٍ كَالْقِداحِ مُسَوَّمَاتٍ ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جنِّ
فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان ، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة ، وقد فسر الناس قوله تعالى : { مسومة عند ربك } [ هود : 83 ] بمعنى معدة ، وقال ابن زيد في قوله تعالى : { والخيل المسومة } معناه : المعدة للجهاد .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : قوله : للجهاد ليس من تفسير اللفظة ، { والأنعام } الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز { والحرث } هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ، تقول : حرث الرجل إذا أثار ألأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة . وقوله تعالى : { إذ يحكمان في الحرث } [ الأنبياء : 78 ] قال جمهور المفسرين ، كان كرماً ، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة ، و { المآب } المرجع ، تقول : آب الرجل يؤوب ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
رضيتُ من الْغَنِيمَةِ بالإيَابِ ... وقول الآخر [ بشر بن أبي خازم ] : [ الوافر ]
إذا ما القَارِظُ العنَزِيّ آبا ... وقول عبيد : [ مخلع البسيط ]
وَغَائِبُ الموتِ لا يؤوبُ ... وأصل مآب مأوب ، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل مقال ، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها ، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة ، وفي قوله : { زين للناس } تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام : تتزوج المرأة لأربع -الحديث- وقوله تعالى : { قل أؤنبئكم } [ آل عمران : 15 ] بمثابة قول النبي عليه السلام : « فاظفر بذات الدين » .

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك ، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل ، وأنبىء : معناه أخبر ، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي صلى عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى : { عند ربهم } و { جنات } على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره : ذلك جنات ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله : { من ذلكم } وأن قوله { للذين } خبر متقدم ، و { جنات } رفع بالابتداء ، وعلى التأويل الأول يجوز في { جنات } الخفض بدلاً من خير ، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني ، والتأويلان محتملان ، وقوله { من تحتها } يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و { خالدين } نصب على الحال ، وقوله : { وأزواج } عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان ، وقد يقال زوجة ، ولم يأت في القرآن ، و { مطهرة } ، معناه من المعهود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق ، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه ، والرضوان ، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام : أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم : أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول الله تعالى : « أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً » ، هذا سياق الحديث ، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض ، وفي قوله تعالى : { والله بصير بالعباد } وعد ووعيد .

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

{ الذين } بدل من { الذين اتقوا } [ آل عمران : 15 ] ، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات ، ويحتمل أن يكون إعراب قوله : { الذين } في هذه الآية على القطع وإضمار الابتداء ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله : { الصابرين } والخفض في ذلك كله على البدل أوجه . ويجوز في { الذين } ، وما بعده النصب على المدح؟ والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات ، والصدق معناه في الأقوال والأفعال ، والقنوت ، الطاعة والدعاء أيضاً وبكل يتصف المتقي ، والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها ، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة ، والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ، ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر .
وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام : سوف أستغفر لكم ربي ، أنه أخر الأمر إلى السحر ، وروي إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد يقول : رب امرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا ابن مسعود ، وقال أنس بن مالك : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة ، وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع آسحرنا؟ فأقول -لا- فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر ، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة ، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة ، وقال قتادة : المراد بالآية المصلون بالسحر ، وقال زيد بن أسلم : المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار ، والسحر والسحر ، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل ، قال الزجاج وغيره : هو قبل طلوع الفجر ، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة ، وقال بعض اللغوين : السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر .
قال الفقيه الإمام : والحديث في التنزل هذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا ، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول امرىء القيس : [ المتقارب ]
يَعُلُّ بهِ بَرْدَ أنْيابِها ... إذا غَرَّدَ الطَّائِرُ المُسْتَحِرْ
يقال : أسحر واستحر إذا دخل في السحر ، وكذلك قولهم : نسيم السحر ، يقع لما بعد الفجر ، وكذلك قول الشاعر : [ ربيع بن زياد ]
تجد النساء حواسراً يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار
فقد قضى أن السحر يتبلج بطولع الفجر ، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود ، ومن سحور الصائم ، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

أصل { شهد } في كلام العرب حضر ، ومنه قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره : شهد يشهد فمعنى { شهد الله } أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه ، وقال أبو عبيدة : { شهد الله } معناه ، قضى الله وهذا مردود من جهات ، وقرأ جميع القراء : { أنه لا إله } بفتح الألف من { أنه } وبسكرها من قوله : { إن الدين } [ آل عمران : 19 ] واستئناف الكلام ، وقرأ الكسائي وحده « أن الدين » بفتح الألف ، قال أبو علي : « أن » بدل من { أنه } الأولى ، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلت « إن الدين » بدلاً من القسط لأنه هو في المعنى ، ووجه الطبري هذه القراءة ، بأن قدر في الكلام ، واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال : { وإن الدين } [ آل عمران : 19 ] وهذا ضعيف ، وقرأ عبد الله بن العباس : « إنه لا إله إلا هو » بكسر الألف من « إنه » ، وقرأ « أن الدين » بفتح الألف ، فأعمل { شهد } في « أن الدين وجاء قوله : » إنه لا إله إلا هو « اعتراضاً جميلاً في نفس الكلام المتصل ، وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال : الله وملائكته والعلماء يشهدون : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار ، » شهداء الله « على وزن فعلاء ، وبالإضافة إلى المكتوبة ، قال أبو الفتح ، هو نصب على الحال من الضمير في { المستغفرين } [ آل عمران : 17 ] وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء ، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ » شهدُ الله « برفع الشهداء ، وروي عنه أنه قرأ » شُهُد « الله » على وزن - فُعُل- بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال ، وحكى النقاش أنه قرىء « شُهُد الله » بضم الشين والهاء ، والإضافة إلىلمكتوبة قال : فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها ، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور ، وإيقاع الشهادة على التوحيد ، و { الملائكة وأولو العلم } عطف على اسم الله تعالى ، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله : { والملائكة وأولو العلم } ايتداء وخبره مقدر ، كأنه قال : { والملائكة وأولو العلم } يشهدون و { قائماً } نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله : { شهد الله } أو من قوله { إلا هو } وقرأ ابن مسعود « القائم بالقسط » والقسط العدل .

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من { إن الذين } وفتحها ، و { الدين } في هذه الآية الطاعة والملة ، والمعنى ، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر ، و { الإسلام } في هذه الآية هو الإيمان والطاعة ، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان .
قال أبو محمد رحمه الله : ومرادهما ، أنه من الأعمال ، و { الإسلام } هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث وجواب النبي له في الإيمان الإسلام يفسر ذلك ، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام : بني الإسلام على خمس ، الحديث ، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة ، وفي قراءة ابن مسعود « إن الدين عند الله للإسلام » باللام ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب ، أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا ، قاله ابن عمر وغيره .
و { والذين أوتوا الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ، لكن الربيع بن أنس قال ، المراد بهذه الآية اليهود ، وذلك أن موسى عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون ، وقعت الفرقة بينهم ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران ، و { بغياً } نصب على المفعول من أجله أو على الحال من { الذين } ثم توعد عز وجل الكفار ، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع ، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عد ولا فكرة ، قاله مجاهد .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

{ حاجوك } فاعلوك من الحجة والضمير في { حاجوك } لليهود ولنصارى نجران والمعنى : إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة ، والمغالطات فاسند إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك ، وقوله { وجهي } يحتمل أن يراد به المقصد كما تقول خرج فلان في وجه كذا فيكون معنى الآية : جعلت مقصدي لله ، ويحتمل أن يكون معنى الآية ، أسلمت شخصي وذاتي وكليتي وجعلت ذلك لله ، وعبر بالوجه إذ الوجه أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس ، وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } [ الرحمن : 27 ] أنها عبارة عن الذات ، و { أسلمت } في هذا الموضع بمعنى دفعت وأمضيت وليست بمعنى دخلت في السلم لأن تلك لا تتعدى ، وقوله تعالى { ومن اتبعن } في موضع رفع عطف على الضمير في { أسلمت } ويجوز أن يكون مبتدأ أي { ومن اتبعن } أسلم وجهه ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون في موضع خفض عطفاً على اسم الله تعالى كأنه يقول : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعن بالحفظ له والتحفي بتعليمه وصحبته لك في { اتبعن } حذف الياء وإثباتها وحذفها أحسن اتباعاً لخط المصحف ، وهذه النون إنما هي لتسليم فتحة لام الفعل فهي مع الكسرة تغني عن الياء لا سيما إذا كانت رأس آية ، فإنها تشبه قوافي الشعر كما قال الأعشى : [ المتقارب ]
وَهَلْ يَمْنَعَنّ ارتياد البِلا ... دِ منْ حَذَرِ الْمَوت أنْ يَأْتِيَنْ
فمن ذلك قوله تعالى : { ربي أكرمن } [ الفجر : 15 ] فإذا لم تكن نون فإثبات الياء أحسن ، لكنهم قد قالوا : هذا غلام قد جاء فاكتفوا بالكسرة دلاله على الياء ، و { الذين أوتوا الكتاب } في هذا الموضع يجمع اليهود والنصارى باتفاق ، والأميون هم الذين لا يكتبون وهم العرب في هذه الآية ، وهذه النسبة هي إلى الأم أو إلى الأمة أي كما هي الأم ، أو على حال خروج الإنسان عن الأم أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق ، وقوله : { أأسلمتم } تقرير في ضمنه الأمر كذا قال الطبري وغيره ، وذلك بين ، وقال الزجاج { أأسلمتم } تهديد ، وهذا حسن ، لأن المعنى أأسلمتم أم لا؟ وقوله تعالى : { فقد اهتدوا } وجاءت العبارة بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وتحصله .
وقوله تعالى : { فإنما عليك البلاغ } ذكر بعض الناس أنها آية موادعة وأنها مما نسخته آية السيف .
قال أبو محمد : وهذا يحتاج أن يقترن به معرفة تاريخ نزولها ، وأما على ظاهر نزول هذه الآية في وقت وفد نجران فإنما المعنى { فإنما عليك البلاغ } بما فيه قتال وغيره ، و { البلاغ } مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل ، وفي قوله تعالى : { والله بصير بالعباد } وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتعم كل من كان بهذه لحال ، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوىء أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوىء لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه السلام ، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وقامت سوق البقل بعد ذلك ، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه السلام : أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد وذلك معنى قوله تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } وقوله تعالى : { بغير حق } مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أوغير ذلك ، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك بينهما .
وقرأ جمهور الناس : « ويقتلون الذين » وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة « ويقاتلون الذين » وفي مصحف ابن مسعود « وقاتلوا الذين » ، وقرأها الأعمش ، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور ، والقسط العدل ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن ، ودخلت الفاء في قوله : { فبشرهم } لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك : الذي يفعل كذا فله إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل ، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي ، و { حبطت } معناه بطلت وسقط حكمها ، وحبطها في الدنيا بقاء الذم واللعنة عليهم ، وحبطها في الآخرة كونها هباء منبثاً وتعذيبهم عليها ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال العدوي : « حبَطت » فتح الباء وهي لغة ، ثم نفى النصر عنهم في كلا الحالين .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا على ملة إبراهيم » فقالا : فإن إبراهيم كان يهودياً ، فقال لهما النبي عليه السلام : « فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم » فأبيا عليه فنزلت ، وذكر النقاش : أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فقال لهم النبي عليه السلام : « هلموا إلى التوراة ففيها صفتي » فأبوا .
قال القاضي أبو محمد : فالكتاب في قوله : { من الكتاب } هو اسم الجنس ، و { الكتاب } في قوله : { إلى كتاب الله } هو التوراة ، وقال قتادة وابن جريج : { الكتاب } في قوله { إلى كتاب الله } هو القرآن ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون ، ورجح الطبري القول الأول ، وقال مكي : الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة ، وقرأ جمهور الناس « ليَحكم » بفتح الياء أي ليحكم الكتاب ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وعاصم الجحدري « ليُحكم » بضم الياء وبناء الفعل للمفعول ، وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم } الإشارة فيه إلى التولي والإعراض ، أي إنما تولوا وأعرضوا لاغترارهم بهذه الأقوال والافتراء الذي لهم في قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] إلى غير ذلك من هذا المعنى ، وكان من قول بني إسرائيل : إنهم لن تمسهم النار إلا أربعين يوماً عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، قاله الربيع وقتادة ، وحكى الطبري أنهم قالوا : إن الله وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحداً من ولده النار إلا تحله القسم ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود : من أول من يدخل النار؟ فقالوا نحن فترة يسيرة ثم تخلفوننا فيها فقال : كذبتم الحديث بطوله ، و { يفترون } معناه ، يشققون ويختلقون من الأحاديث في مدح دينهم وأنفسهم وادعاء الفضائل لها ، ثم قال تعالى خطاباً لمحمد وأمته على جهة التوقيف والتعجيب فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل إذا حشروا يوما القيامة واضمحلت تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم وأعمالهم القبيحة؟ قال النقاش : واليوم الوقت ، وكذلك قوله : { في ستة أيام } [ الأعراف : 54 ] [ السجدة : 4 ] إنما هي عبارة عن أوقات فإنها الأيام والليالي والصحيح في يوم القيامة أنه يوم لأن قبله ليلة وفيه شمس ، واللام في قوله تعالى : { ليوم } طالبة لمحذوف ، قال الطبري تقديره لما يحدث في يوم .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

قال بعض العلماء : إن هذه الآية لباطل نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها ، وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي عليه السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك . وقال مجاهد : { الملك } في هذه الآية النبوة ، والصحيح أنه { مالك الملك } كله مطلقاً في جميع أنواعه ، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبى عليه السلام بشّر أمته بفتح ملك فارس وغيره فقالت اليهود والمنافقون : هيهات وكذبوا ذلك ، واختلف النحويون في تركيب لفظة { اللهم } بعد إجماعهم على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى ، ودليل ذلك أنها لا تأتي مستعملة في معنى خبر ، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين ، أن الأصل « يالله » فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو- يا- جعلوا بدل حرف النداء هذه الميم المشددة ، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد ، وذهب حرفان فعوض بحرفين ، ومذهب الفراء والكوفيين ، أن أصل { اللهم } يا لله أم : أي أم بخير وأن ضمة الهاء ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت ، ورد الزجاج على هذا القول وقال : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غلو من الزجاج ، وقال أيضاً : إن هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحياناً قالوا : « ويلمه » في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة ، وما سمع قط « يالله أم » في هذا اللفظ ، وقال أيضاً : ولا تقول العرب « ياللهم » ، وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على { اللهم } وأنشدوا على ذلك : [ الرجز ]
وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت ياللهم ما
اردُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّما ... قالوا : فلو كانت الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعا ، قال الزجاج ، وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب ، قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في « فم وابنم » ونحوه فأما ميم مشددة فلا تزاد ، قال البصريون : لما ذهب حرفان عوض بحرفين ، ومالك نصب على النداء ، نص سيبويه ذلك في قوله تعالى : { قل اللهم فاطر السماوات والأرض } [ الزمر : 46 ] وقال : إن { اللهم } لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم ، قال الزجاج : ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك { فاطر السموات } قال أبو علي : وهو مذهب أبي العباس ، وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد { اللهم } لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو ، غاق وما أشبهه ، وكأن حكم الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو ، « حيهل » فلم يوصف ، قال النضر بن شميل : من قال { اللهم } فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها ، وقال الحسن : { اللهم } مجمع الدعاء .

وخص الله تعالى : { الخير } بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى { بيدك الخير } فأجزل حظي منه ، وقيل المراد { بيدك الخير } والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر ، كما قال { تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] قال النقاش : { بيدك الخير } أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما : وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } الآية : أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأباً كل فصل من السنة ، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت } الآية ، فقال الحسن : معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وروي نحوه عن سلمان الفارسي ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال : من هذه ؟ قالت أحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ، أي خالاتي هي؟ قالت : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال النبي عليه السلام : سبحان الذي يخرج الحي من الميت ، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام .
قال أبو محمد : فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران ، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة ، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة : هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله ، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج ، وقد يحتمل قوله تعالى : { ويخرج الميت من الحي } أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :

أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ ... وفي اللَّهِ -إنْ لَمْ يُنْصِفُوا- حَكَمٌ عَدْلُ
وروى السدي عن أبي مالك قال في تفسير الآية : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه ، وقوله تعالى : { بغير حساب } قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه ، هذا قول الربيع وغيره ، وقيل معنى { بغير حساب } أي من أحد لك ، لأنه تعالى لا معقب لأمره ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : الميْت « بسكون الياء في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم » من الميّت « بتشديد الياء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي » الميّت « بتشديد الياء في هذه الآية ، وفي قوله : { لبلد ميت } [ الأعراف : 57 ] ، و { إلى بلد ميت } [ فاطر : 9 ] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف ، قال أبو علي : { الميت } هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذهب قوم إلى أن » الميْت « بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات ، وأما » الميّت « بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم ، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فقال ابن عباس : كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك ، وقال قوم : نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة ، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة ، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه السلام لعمار { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
وقوله تعالى : { من دون } عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه { دون } غائباً متنحياً ليس من الأمر الأول { في شيء } ، وفي المثل ، وأمر دون عبيدة الوذم كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه ، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون فيما قاله نظر ، قوله : { فليس من الله في شيء } معناه ، في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي عليه السلام من غشنا فليس منا ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره ، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا ، وقوله { في شيء } هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله { ليس من الله } ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الأتقاء ، فأما إباطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال ، وقرأ جمهور الناس « تقاة » أصله وقية -على وزن فعلة - بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء { تقاة } قال أبو علي يجوز أن تكون { تقاة } مثل رماة حالاً من { تتقوا } وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل ، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة « تقية » بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في { تقاة } في الموضعين ، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله : { حق تقاته }

[ آل عمران : 102 ] وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعاً كان يقرأها بين الفتح والكسر ، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } من جهة صلة الرحم أي ملامة ، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرآبة من الكفار ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية ، إلا أن تخافوا منهم خوفاً وهذا هو معنى التقية .
واختلف العلماء في التقية ممن تكون؟ وبأي شيء تكون؟ وأي شيء تبيح؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه ، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، قال مالك رحمه الله : وزوج المرأة قد يكره ، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب ، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفاً متمكناً فهو مكره وله حكم التقية ، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية ، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه ، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه ، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه ، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال ، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق ، وإطلاق القول بهذا كله ، ومن مداراة ومصانعة ، وقال ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به . واختلف الناس في الأفعال ، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق : يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك ، وقال مسروق : فإن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون : بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله ، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له ، نهيت بن الحارث ، أخذته الفرس أسيراً ، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار ، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر ، فقال : واما كان عليّ نهيت أن يأكل ، وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال ، فأما الأفعال فلا ، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك ، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه ، قال ابن حبيب : وهذا قول حسن .
قال القاضي : وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبله ، وفي كتاب الله { فأين ما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة : 115 ] وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ، هذه قواعد مسألة التقية ، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه .
وقوله تعالى : { ويحذركم الله } إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة ، وقوله : { نفسه } نائبه عن إياه ، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات ، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه ، فقال ابن عباس والحسن ، ويحذركم الله عقابه .

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

الضمير في { تخفوا } هو للمؤمنين الذين نهوا عن اتخاذ الكافرين أولياء ، والمعنى أنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم فإن الله يعمل ذلك ويكرهه منكم ، وقوله تعالى : { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } ، معناه على التفصيل ، وقوله { على كل شيء قدير } عموم والشيء في كلام العرب الموجود .
و { ويوم } نصب على الظرف ، وقد اختلف في العامل فيه ، فقال مكي بن أبي طالب ، العامل فيه { قدير } ، وقال الطبري : العامل فيه قوله : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] وقال الزجّاج ، وقال أيضاً العامل فيه { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] يوم ورجحه وقال مكي : حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره ، « اذكر يوم » ، و { ما } بمعنى الذي و { محضراً } قال قتادة : معناه موفراً ، وهذا تفسر بالمعنى ، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر ، وقوله تعالى : { ماعملت من سوء } يحتمل أن تكون { ما } معطوفة على { ما } الأولى فهي في موضع نصب وتكون { تود } في موضع الحال ، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره ، ويحتمل أن تكون رفعاً بالابتداء ويكون الخبر في قوله : { تود } وما بعده كأنه قال : وعملها السيىء مردود عندها أن بينها وبينه أمداً ، وفي قراءة ابن مسعود « من سوء ودت » وكذلك قرأ ابن أبي عبلة ، ويجوز على هذه القراءة أن تكون { ما } شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة « تود » لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلى أن يقدر في الكلام محذوف « فهي تود » وفي ذلك ضعف ، و « الأمد » الغاية المحدودة من المكان أو الزمان ، قال النابغة : [ البسيط ]
سَبْق الْجَوادِ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ ... فهذه غاية في المكان ، وقال الطرماح : [ الخفيف ]
كُلُّ حيّ مُسْتَكْمِلٌ عُدَّةَ الْعُمْ ... رِ وَمُودٍ إذا انقضَى أَمَدُهْ
فهذه غاية في الزمان ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية ، يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها ، وقوله : { والله رؤوف بالعباد } يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده ، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن ، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى : { إن ربك لشديد العقاب ، وإنه لغفور رحيم } [ الأعراف : 167 ] لأن قوله : { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] والله محذورالعقاب .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

اختلف المفسرون فيمن أمر محمداً عليه السلام أن يقول له هذه المقالة ، فقال الحسن بن أبي الحسن وابن جريج : إن قوماً قالوا للنبي عليه السلام : يا محمد إنا نحب ربنا ، فنزلت هذه الآية في قولهم ، جعل الله فيها أتباع محمد علماً لحبه ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران ، أي إن كان قولكم في عيسى وغلوكم في أمره حباً لله ، { فاتبعوني } ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله ويحبهم ، ألا ترى أن جميعهم قالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ولفظ أحباؤه إنما يعطي أن الله يحبهم لكن يعلم أن مرادهم « ومحبوه » فيحسن أن يقال لهم { قل إن كنتم تحبون الله } وقرأ الزهري « فاتبعوني » بتشديد النون ، وقرأ أبو رجاء « يحببكم » بفتح الياء وضم الباء الأولى من « حب » وهي لغة ، قال الزجاج : حببت قليلة في اللغة ، وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت وعليها استعمل محبوب والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد ، وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد والله تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه ، ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه وتكون أعماله بحسب إقبال النفس ، وقد تمثل بعض العلماء حين رأى الكعبة فأنشد : [ الخفيف ]
هذِهِ دارُهُ وأَنْتَ مُحِبٌّ ... مَا بَقَاءُ الدُّموعِ في الآمَاقِ
ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهدياً مسدداً ذا قبول في الأرض ، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته ، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل ، وذكر الزجاج : أن أبا عمرو قرأ « يغفر لكم » بإدغام الراء في اللام وخطأ القراء وغلط من رواها عن أبي عمرو فيما حسبت ، وذهب الطبري إلى أن قوله : { قل أطيعوا الله والرسول } خطاب لنصارى نجران وفي قوله : { فإن الله لا يحب الكافرين } وعيد ، ويحتمل أن يكون بعد الصدع بالقتال .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه ، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت ، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى { آل عمران } منها ثم خص { امرأة عمران } بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان و { اصطفى } معناه : اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدراً ، و { آدم } هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم { إن الله اصطفى آدم } عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله : { أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] وهذا ضعيف ، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار ، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم ، كهود ولوط ، و { آل إبراهيم } يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام والآل في اللغة ، الأهل والقرابة ، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل ، فمنه آل فرعون ، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو : [ الطويل ]
فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجنَّهُ ... عليٌّ وَعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
أراد جميع المؤمنين ، و « الآل » في هذه الآية يحتمل الوجهين ، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير { إن الله اصطفى } هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاماً يقدر محمداً عليه السلام من آل إبراهيم ، وإن قلنا أرد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم ، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن « الآل » الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى ، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم ، و { آل عمران } أيضاً يحتمل من التأويل ما تقدم في { آل إبراهيم } ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري ، قال مكي : هو عمران بن ماثال ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم ، وقال ابن عباس : « اصطفى الله » هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له .
وقوله تعالى : { ذرية } نصب على البدل ، وقيل على الحال لأن معنى { ذرية بعضها من بعض } متشابهين في الدين والحال ، وهذا أظهر من البدل ، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلاً ، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض ، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى :

{ أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها ، وكذلك إن جعلناها من « ذرى » وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل ، قال أبو الفتح : الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة ، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلاً لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة { من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] قال الزجّاج : أصلها فعليه من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، قال أبو الفتح : هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حرمي بكسرالحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج : وقيل أصل { ذرية } ذرورة ، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت { ذرية } .
قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر ، أو من ذرى ، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق ، وفي كوكب دري ، في قول من رآه من -درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه .
وقرأ جمهور الناس « ذُرية » بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك ، « ذِرية » بكسر الذال ، وقوله تعالى : { بعضها من بعض } أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة .
واختلف الناس في العامل في قوله { إذ قالت } فقال أبو عبيدة معمر : { إذ } زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في { إذ } قوله { سميع } و { امرأة عمران } اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : { نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاماً محرراً ، وفي هذا نظر ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس .
قال ابن إسحاق : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحلمت بمريم وهلك عمران ، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : { محرراً } معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة ، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك ، فقالت { ما في بطني } ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها { فتقبل مني } أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها .

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والوضع الولادة ، وأنث الضمير في { وضعتها } ، حملاً على الموجودة ورفعاً للفظ { ما } التي في قولها { ما في بطني } [ آل عمران : 33 ] وقولها ، { رب إني وضعتها أنثى } لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف ، وبيّن الله ذلك بقوله : { والله أعلم بما وضعت } : وقرأ جمهر الناس « وضعَتْ » بفتح العين وإسكان التاء ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر « وضعْتُ » ، بضم التاء وإسكان العين ، وهذا أيضاً مخرج قولها ، { رب إني وضعتها أنثى } من معنى الخبر إلى معنى التلهف ، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم ، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره ، وقرأ ابن عباس « وضعتِ » بكسر التاء على الخطاب من الله لها ، وقولها { وليس الذكر كالأنثى } تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم ، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول : وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد ، وفي قولها { وإني سميتها مريم } سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى ، قال مالك رحمه الله : ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية ، قال ابن حبيب : أحب إلي أن يسمى ، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته ، و { مريم } ، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه ، وباقي الآية إعادة ، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال : « كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب » ، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته .
وقوله تعالى : { فتقبلها } إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها ، ولذلك جعلوها كما نذرت ، وقوله { بقبول } مصدر جاء على غير الصدر ، وكذلك قوله { نباتاً } بعد أنبت ، وقوله { وأنبتها نباتاً حسناً } ، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق ، وقوله تعالى : { وكفلها زكريا } معناه : ضمها إلى إنفاقه وحضنه ، والكافل هو المربي الحاضن ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم ، وقال السدي وغيره : إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران ، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة ، قال مكي : وهو زكريا بن آذن ، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم : أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه ، وأنهم فعلوا في مريم ذلك ، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر ، وقيل أقلاماً بروها من عود كالسهام والقداح ، وقيل عصياً لهم ، وهذه كلها تقلم ، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن ، وروي أنهم ألقوه في عين ، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية ، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته ، وروي أن أقلام القوم عامت علىلماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزاً واقفاً كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام ، وحكى الطبري عن ابن إسحاق ، أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء : إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق .

قال أبو محمد : وهذا الاستفهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها ، والأول المراد منه أخذها ، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام ، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته ، وهكذا قال ابن إسحاق ، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيما يكفل المحرر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر { وكلفها زكرياء } مفتوحة الفاء ، خفيفة « زكرياء » مرفوعاً ممدوداً ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، وكفلها مشددة الفاء ممدوداً منصوباً في جميع القرآن ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ، « كفَّلها » مشددة الفاء مفتوحة ، « زكريا » مقصوراً في جميع القرآن ، وفي رواية أبي بن كعب ، و « أكفلها زكرياء » بفتح الفاء على التعدية بالهمزة ، وقرأ مجاهد ، « فتقبلْها » بسكون اللام على الدعاء « ربَّها » بنصب الباء على النداء و « أنِبتها » بكسر الباء على الدعاء ، و « كفِلها » بكسرالفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوباً ممدوداً ، وروي عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله المزني ، و « وكفِلها » بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال : كفل يكفُل بضم العين في المضارع ، وكفِل بكسر العين يكفَل بفتحها في المضارع ، « زكرياء » اسم أعجمي يمد ويقصر ، قال أبو علي : لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصرب ، قال الزجاج : فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث ، قال أبو علي : ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق ، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه ، ولا يجوز أن تكون منقلبه ، ويقال في لغة زكرى منون معرب ، قال أبو علي : هاتان ياءا نسب ولو كانتا اللتين في { زكريا } لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب ، وحكى أبو حاتم ، زكرى بغير صرف وهو غلظ عند النحاة ، ذكره مكي .

وقوله تعالى : { كلما } ظرف والعامل فيه { وجد } ، و { المحراب } المبنى الحسن كالعرف والعلالي ونحوه ، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب ، وقال الشاعر : [ وضاح اليمن ] [ السريع ]
رَبَّة مِحْرابٍ إذَا جئْتُهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أرتقي سُلَّما
ومثل قول الآخر : [ عدي بن زيد ] [ الخفيف ]
كَدُمَى العاجِ في المحاريبِ أَوْ كال ... بيضِ في الرَّوضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وقوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } ، معناه طعاماً تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها وكانت فيما ذكر الربيع ، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها ، بسلم ، وقال ابن عباس : وجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه ، وقاله ابن جبير ومجاهد ، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً وقتادة : كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقال ابن عباس : كان يجد عندها ثمار الجنة : فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وقال الحسن : كان يجد عندها رزقاً من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه ، وقال ابن إسحاق : هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله { كلما دخل عليها } إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيراً ، وذلك أن جريجاً كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره ، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال : { يا مريم أنّى لك هذا } والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق ، وقوله { أنى } معناه كيف ومن أين؟ وقولها : { هو من عند الله } ، دليل على أنه ليس من جلب بشر ، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب ، قال الزجاج : وهذا من الآية التي قال تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] وروي أنها لم تلقم ثدياً قط ، وقولها : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله ، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والله تعالى لا تنتقص خزائنه ، فليس يحسب ما يخرج منها ، وقد يعبر بهذا العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب ، وذلك مجاز وتشبيه ، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى .

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان ، و { هنالك } باللام أبلغ في الدلالة على البعد ، ولا يعرب { هنالك } لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى ، ومعنى هذه الآية : أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصاحلات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، و « الذرية » اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك ، وقال الطبري : إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء ، وأنث « الطيبة » حملاً على لفظ الذرية كما قال الشاعر : [ الوافر ]
أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ
وكما قال الآخر :
فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة؟ ... سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام ، و { طيبة } معناه سليمة في الخلق والدين نقية ، و { سميع } في هذه الآية بناء اسم فاعل .
ثم قال تعالى : { فنادته الملائكة } وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه ، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته ، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة ، وذكر جمهور المفسرين : أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء ، وقال قوم : بل نادرت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية ، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته « فناداه جبريل وهو قائم يصلي » ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : « فنادته » بالتاء « الملائكة » ، وقرأ حمزة والكسائي « فناداه الملائكة » بالألف وإمالة الدال ، قال أبو علي : من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل ، ألا ترى أنك تقول : هي الرجال كما تقول : هي الجذورع وهي الجمال ، ومثله : { قالت الأعراب } [ الحجرات : 14 ] .
قال الفقيه الإمام : ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة ، والقراءة بالتاء على قول من يقول : المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة ، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم ، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى :

{ الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] قال أبو علي : ومن قرأ « فناداه الملائكة » ، فهو كقوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة } [ يوسف : 30 ] .
قال القاضي : وهذا على أن المنادي كثير ، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى ، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه ، وقوله تعالى : { فنادته } عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل ، وقوله تعالى : { وهو قائم } جملة في موضع الحال ، و { يصلي } صفة لقائم ، و { المحراب } في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ، وقرأ ابن عامر وحمزة : « إن الله » بكسر الألف ، قال أبو علي : وهذا على إضمار القول ، كأنه قال { فنادته الملائكة } فقالت وهذا كقوله تعالى : { فدعا ربه أني مغلوب } [ القمر : 10 ] على قراءة من كسر الألف ، وقال بعض النحاة : كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال ، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله : { أن الله يبشرك } قال أبو علي : المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها ، ف « إن » في موضع نصب ، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر ، وفي قراءة عبد الله « في المحراب ، يا زكرياء إن الله » ، قال أبو علي : فقوله « يا زكرياء » في موضع نصب بوقوع النداء عليه ، ولا يجوز فتح الألف في « إن » على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير ، والآخر المنادى ، فإن فتحت « إن » لم يبق لها شيء متعلق به ، قال أبو علي : وكلهم قرأ { في المحراب } بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها ، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره ، وقال غير ابن مجاهد : إنما نميله في الجر فقط .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : « يبشرك » ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في « عسق » فإنهما قرآ { ذلك الذي يبشر الله عباده } [ الشورى : 23 ] بفتح الياء ، وسكون الباء ، وضم الشين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ، « يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن ، وقرأ حمزة » يبشُر « خفيفاً بضم الشين مما لم يقع في كل القرآن إلا قوله تعالى ، { فبم تبشرون } [ الحجر : 54 ] وقرأ الكسائي » يبشر « مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف ، ويبشر المؤمنين ، وفي » عسق « { يبشر الله عباده } ، قال غير واحد من اللغويين : في هذه اللفظة ثلاث لغات ، بشّر بشد الشين ، وبشر بتخفيفها ، وأبشر يبشر إبشاراً ، وهذه القراءات كلها متجهه فصيحة مروية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود » يُبشِرك « بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من - أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن .

و { يحيى } اسم سماه الله به قبل أن يولد ، قال أبو علي : هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء ، والمعنى من العربية ، قال الزجاج : لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل ، وقال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان { مصدقاً } نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقوله تعالى : { بكلمة من الله } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم ، « الكلمة » هنا يراد بها عيسى ابن مريم .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر ، وروى ابن عباس : أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان : إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك ، وفي بعض الروايات ، يسجد لما في بطنك قال ، فذلك تصديقه .
قال الفقيه أبو محمد : أي أول التصديق ، وقال بعض الناس : { بكلمة من الله } ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع ، فكلمة اسم جنس ، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة ، وقوله تعالى : { وسيداً } قال فيه قتادة : أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع ، وقال مرة : معناه في العلم والعبادة ، وقال ابن جبير : { وسيداً } أي حليماً ، وقال مرة : السيد التقي وقال الضحاك : { وسيداً } أي تقياً حليماً ، وقال ابن زيد : السيد الشريف ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وقال ابن عباس : { وسيداً } يقول ، تقياً حليماً ، وقال عكرمة : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب ، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل { مصدقاً بكلمة من الله } وتحصل التقى بباقي الآية ، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، هذا لفظ يعم السؤدد ، وتفصيله أن يقال : بذل الندى ، وهذا هو الكرم وكف الأذى ، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترقد ، والإنقاذ من الهلكات ، وانظر أن النبي عليه السلام قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين ، وذكر حديث شفاعته في إطلاق الموقف ، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك ، وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة ، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له ، وأبو بكر وعمر؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما ، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً ، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها ، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد ، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام ، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد ، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد ، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة ، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا ، ومثال ذلك ، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس ، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز ، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان .

وقوله تعالى : { وحصوراً } أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً ، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر ، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور ، قال الأخطل : [ البسيط ]
وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني ... لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر ، قال جرير : [ الكامل ]
وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها ، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد الله وإما أبوه عن النبي عليه السلام ، أنه قال : « كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء » ، قال : ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً ، ثم قال : « وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً » ، وقال ابن مسعود « الحصور » العنين ، وقال مجاهد وقتادة : « الحصور » الذي لا يأتي النساء ، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء .

قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء ، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح ، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه ، وباقي الآية بيّن ، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

اختلف المفسرون لم قال زكرياء { رب أنّى يكون لي غلام } فقال عكرمة والسدي : إنه نودي بهذه البشارة ، جاء الشيطان يكدر عليه نعمة ربه فقال هل تدري من ناداك؟ قال : نادتني ملائكة ربي قال بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك قال : فخالطت قلبه وسوسة وشك مكانه ، فقال : { أنّى يكون لي غلام } وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام ، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟
قال الفقيه أبو محمد : وهذا تأويل حسن يليق بزكرياء عليه السلام وقال مكي : وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا قول ضعيف المعنى ، و { أنّى } معناها كيف ومن أين ، وقوله { بلغني الكبر } استعارة كأن الزمان طريق والحوادث تتساوق فيه فإذا التقى حادثان فكأن كل واحد منهما قد بلغ صاحبه وحقيقة البلوغ في الأجرام أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه ، وحسن في الآية : { بلغني الكبر } من حيث هي عبارة واهن منفعل وبلغت عبارة فاعل مستعل ، فتأمله ولا يعترض على هذا بقوله : { وقد بلغت من الكبر عتياً } [ مريم : 8 ] لأنه قد أفصح بضعف حاله في ذكر العتيّ ، والعاقر الإنسان الذي لا يلد ، يقال ذلك للمرأة والرجل ، قال عامر بن الطفيل :
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقراً ... جباناً فما عذري لدى كل مشهد؟
و « عاقر » بناء فاعل وهو على النسب وليس بجار على الفعل ، والإشارة بذلك في قوله : { كذلك الله } ، يحتمل أن تكون إلى هذه الغريبة التي بشر بها أي كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، والكلام تام في قوله : { كذلك الله } وقوله : { يفعل ما يشاء } شرح الإبهام الذي في ذلك ، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكرياء وحال امرأته كأنه قال : ربِّ على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام على هذا التأويل في قوله : { كذلك } وقوله : { والله يفعل ما يشاء } جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

« الآية » العلامة ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إن زكرياء قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق ، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرفة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له { كذلك الله يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى .
واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه متقطع ، وقرأ جمهور الناس { رَمْزاً } بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس : « رُمزاً » بضمها ، وقرأ الأعمش « رَمْزاً » بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جوية بن عائد : [ الوافر ]
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزاً ... وَغَمْغَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ
وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعاً من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : { إلا رمزاً } معناه إلا تحريكاً بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : { إلا رمزاً } ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : { ألا تكلم الناس } بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، « ألا تكلمُ » برفع الميم ، وهذا على أن تكون « أن » مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام : لا صمت يوماً إلى الليل قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيراً لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال : « آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً » ، لكنه قال له : { واذكر ربك كثيراً } ، وقوله تعالى : { وسبح } معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و « العشي » في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي ، و « العشي » من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيِّ تذوق
و « العشي » اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين ، و { الإبكار } مصدر أبكر الرجل « إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس ، وتتمادى البكرة شيئاً بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة : [ الطويل ]
أَمِنْ آلِ نُعْمى أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ ... ومن الثاني قول جرير : [ الطويل ]
أَلاَ بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا ... وشقَّ العَصَا بَعْدَ اجتماعٍ أمِيرُها
وقال مجاهد في تفسير { الإبكار } : أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

قال الطبري : العامل في { إذ } قوله { سميع } فهو عطف على قوله : { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ، وقال كثير من النحاة : العامل في { إذ } في هذه الآية فعل مضمر تقديره « واذكر » وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه السلام ، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام ، وقرأ عبد الله بن عمر وابن مسعود ، « وإذ قال الملائكة » ، واختلف المفسرون هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده أو جمع من الملائكة؟ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى : { فنادته الملائكة } [ آل عمران : 39 ] و { اصطفاك } مأخوذ من صفا يصفو وزنه - افتعل - وبدلت التاء طاء التناسب الصاد ، فالمعنى تخيرك لطاعته وقوله تعالى : { وطهرك } معناه من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين قاله مجاهد وغيره ، وقال الزجّاج ، قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه .
وقوله تعالى : { واصطفاك على نساء العالمين } إن جعلنا { العالمين } عاماً فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصاً في أمر عيسى عليه السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل ، وإن جعلنا الاصطفاء عاماً جعلنا قوله تعالى : { العالمين } مخصوصاً في عالم ذلك الزمان ، قاله ابن جريج وغيره ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خير نساء الجنة مريم بنت عمران ، وخير نساء الجنة ، خديجة بنت خويلد » وروي عنه أنه قال : « خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد » ، فذهب الطبري وغيره إلى أن الضمير في قوله - نسائها - يراد به الجنة ، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا ، أي كل امرأة في زمانها ، وقال النبي عليه السلام ، « خير نساء ركبن الإبل ، صالح نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه إلى زوج في ذات يده » ، وقال أبو هريرة راوي الحديث : ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط ، وهذا الزيادة فيها غيب ، فلا يتأول أن أبا هريرة رضي الله عنه ، قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، « خير نساء العالمين أربع ، مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » ، وقد أسند الطبري ، أن النبي عليه السلام ، قال لفاطمة بنته ، « أنت سيدة نساء أهل الجنة ، إلا مريم بنت عمران ، البتول » ، وأنه قال ، « فضلت خديجة على نساء أمتي ، كما فضلت مريم على نساء العالمين » .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها ، وجدت مريم فيها متقدمة ، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على { العالمين } عموماً أيضاً ، وقد قال بعض الناس ، إن مريم نبية ، قال ابن إسحاق ، كانت الملائكة تقبل على مريم فتقول ، { يا مريم إن الله اصطفاك } ، الآية ، فيسمع ذلك زكريا فيقول ، إن لمريم لشأناً ، فمن مخاطبة الملائكة لها ، جعلها هذا القائل نبية ، وجمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة .
و { اقنتي } معناه اعبدي وأطيعي ، قاله قتادة والحسن ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي عليه السلام قال ، كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله ، ويحتمل أن يكون معناه ، أطيلي القيام في الصلاة ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو المناسب في المعنى لقوله ، { واسجدي واركعي } وبه قال مجاهد ، وابن جريج ، والربيع وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا ، قامت حتى ورمت قدماها ، وروى الأوزاعي ، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها ، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها ، تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها ، وقال سعيد بن جبير ، { اقنتي لربك } ، معناه أخلصي لربك ، واختلف المتأولون ، ثم قدم السجود على الركوع؟ فقال قوم : كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم : الواو لا تعطي رتبة ، وإنما المعنى ، افعلي هذا وهذا ، وقد علم تقديم الركوع ، وهذه الآية أكثر إشكالاً من قولنا ، قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك ، فالقول عندي في ذلك ، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة ، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى : وهذان يختصان بصلاتها مفردة ، وإلا فيمن يصلي وراء إمام ، فليس يقال له أطل قيامك ، ثم أمرت -بعد - بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها ، { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم من معالم الصلاة ، لئلا يتكرر لفظ ، ولم يرد بالآية السجود والركوع ، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام ، والإشارة ب { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من القصص ، والأنباء الأخبار ، و { الغيب } ما غاب عن مدارك الإنسان ، و { نوحيه } معناه نلقيه في نفسك في خفاء ، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، ثم تختلف أنواعه ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب ، كما قال كعب بن زهير : [ الطويل ]
أتَى الْعَجم والآفاق مِنْهُ قصائدٌ ... بَقينَ بقاءَ الوحْيَ في الْحَجَرِ الأصمْ
تقول العرب : أوحى ، وتقول وحى ، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام ، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين ، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم ، ولديهم معناه عندهم ومعهم ، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل ، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، وقال ابن إسحاق : إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعاً منها لتحمل مؤونتها ، و { يختصمون } معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها ، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه ، وقال عليه السلام : لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه ، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قماراً ، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص ، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث ميت فجوزها الجمهور ومعنها أبو حنيفة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة أعبد ، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة ، وقوله : { أيهم يكفل مريم } ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره ، ينظرون ، { أيهم يكفل مريم } والعامل في قوله { إذ قالت الملائكة } فعل مضمر تقديره اذكر { إذ قالت الملائكة } وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب ، وقال الزجّاج ، العامل فيها { يختصمون } ، ويجوز أن يتعلق بقوله : { وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة } وهذا كله يرده المعنى ، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر : « إذ قال الملائكة » واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفاً ، { فنادته الملائكة } [ آل عمران : 39 ] فتأمله ، وتقدم ذكر القراءات في قوله { يبشرك } .
واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليه السلام { بكلمة } ؟ فقال قتادة : جعله « كلمة » إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى : لمرادته - كن - وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله ، وترجم الطبري فقال : وقال آخرون : بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : « الكلمة » هي عيسى ، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعي الطبري رحمه الله ، وقال قوم من أهل العلم : سماه الله « كلمة » من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون ، فهذه كلمة سبقت فيه من الله ، فمعنى الآية ، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه ، و { اسمه } في هذا الموضع ، معناه تسميته ، وجاء الضمير مذكراً من أجل المعنى ، إذ « الكلمة » عبارة عن ولد .

واختلف الناس في اشتقاق لفظة { المسيح } فقال قوم ، هو من ساح يسيح في الأرض ، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل ، وقال جمهور الناس : هو من - مسح- فوزنه - فعيل ، واختلفوا - بعد - في صورة اشتقاقه من - مسح - فقال قوم من العلماء ، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برىء ، فهو على هذين القولين - فعيل- بمعنى - فاعل - وقال ابن جبير : سمي بذلك لأنه مسح بالبركة ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين - فعيل- بمعنى مفعول ، وكذلك هو في قول من قال : مسحه الله ، فطهره من الذنوب ، قال إبراهيم النخعي : المسيح الصديق ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : { المسيح } الملك ، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى ، وغير ذلك من الآيات ، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس .
وقوله : { عيسى } يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه ، البدل من { المسيح } ، وعطف البيان ، وأن يكون خبراً بعد خبر ، ومنع بعض النحاة أن يكون خبراً بعد خبر وقال : كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة ، ويتجه أن يكون { عيسى } خبر ابتداء مضمر ، تقديره ، هو عيسى ابن مريم ، ويدعو إلى هذا كون قوله ، { ابن مريم } صفة ل { عيسى } إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف ، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون { ابن مريم } صفة ل { عيسى } لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص ، هذه النزعة لأبي علي ، وفي صدر الكلام نظر ، و { جيهاً } ، نصب على الحال وهو من الوجه ، أي له وجه ومنزلة عند الله والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه ، عظم وروعي أمره ، وتقول العرب : فلان له وجه في الناس وله وجاه ، وهذا على قلب في اللفظة ، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به ، وجاه عيسى عليه السلام في الدنيا نبوته وذكره ، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته ، { ومن المقربين } ، معناه من الله تعالى .

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

قوله : { ويكلم } نائب عن حال تقديرها ومكلماً وذلك معطوف على قوله : { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر : [ الرجز ] .
بتُّ أُعشّيها بِعَضْبٍ باترِ ... يَفْصِدُ في أسْوقِها وَجَائِرِ
وقوله : { في المهد } حال من الضمير في { يكلم } ، و { كهلاً } حال معطوفة على قوله : { في المهد } ، وقوله : { من الصالحين } ، حال معطوفة على قوله ، { ويكلم } ، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان ، و { المهد } موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته ، وأخبر تعالى عنه أنه أيضاً يكلم الناس { كهلاً } ، وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة ، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين ، وقال ابن زيد : فائدة قوله { كهلاً } الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلاً ، وقال جمهور الناس : الكهل الذي بلغ سن الكهولة ، وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب ، واختلف الناس في حد الكهوله : فقيل : الكهل ابن أربعين سنة ، وقيل : ابن خمس وثلاثين ، وقيل ، ابن ثلاث وثلاثين ، وقيل : ابن اثنين وثلاثين ، وهذا حد أولها . وأما آخرها فاثنتان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة .
وقول مريم : { ربِّ أنّى يكون لي ولد } استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و { يمسسني } ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : { كذلك } ، يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : { إذا قضى } معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في { له } عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة « فيكونُ » بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده « فيكونَ » بالنصب ، فوجه الرفع العطف على { يقول } ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : { فيكون } ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى :

{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [ ابراهيم : 31 ] أنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال : امتلأ الحوض وقال قطني وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية غفر الله له .

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }
قرأ نافع وعاصم « ويعلمه » بالياء ، وذلك عطف على { يبشرك بكلمة } [ آل عمران : 45 ] كذا قال أبو علي : ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفاً على { ويكلم } [ آل عمران : 46 ] ، وقرأ الباقون ، و « نعلمه » بالنون ، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة ، قال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله : { يخلق ما يشاء } [ آل عمران : 47 ] ، وقراءة النون عطف على قوله : { نوحيه إليك } [ آل عمران : 43 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى و { الكتاب } هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب . هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين ، وقال بعضهم : هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها ، وأما { الحكمة } ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء ، في الشرعيات ، والمواعظ ، ونحو ذلك ، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك ، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه ، وقد عبر بعض العلماء عن { الحكمة } بأنها الإصابة في القول والعمل ، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة ، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثوراً عمن تقدم عيسى من نبي وعالم ، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك ، و { التوراة } هي المنزلة على موسى عليه السلام ، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها ، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة ، موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام ، وذكر { الإنجيل } لمريم وهو ينزل - بعد - لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء وأنه سيزل .
وقوله : { ورسولاً } حال معطوفة على { ويعلمه } إذ التقدير ، ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولاً ، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها ، كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير ، ومن أول القول لمريم إلى قوله { إسرائيل } خطاب لمريم ، ومن قوله ، { إني قد جئتكم } إلى قوله { مستقيم } يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل ، كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره ، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله ، { إلا بني إسرائيل } فيكون تقديره ، فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : { إني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر ، وقرأ جمهور الناس « أني قد جئتكم » بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ ، « إني قد جئتكم » ، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود « بآيات » وكذلك في قوله بعد هذا { وجئتكم بآيات من ربكم } واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : { أني أخلق } ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، « إني » بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، « أني » بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، « إني » كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله ، خلقه من تراب إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : « وجئتكم بأني أخلق » ، وقيل : هي بدل من { أني } الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و { أخلق } معناه ، أقدر وأُهيىء بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الكامل ]

وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يُفْري
وقوله { لكم } تقييد لقوله ، { أخلق } لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح بذلك قوله { بإذن الله } وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : { وتخلقون إفكاً } [ العنكبوت : 17 ] ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ « كهيئة » على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري « كهِيَّئة الطير » ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، « كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً » على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائراً من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، « كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً » بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون « كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً » بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و { الطير } اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن ، وقوله { فأنفخ فيه } ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ . ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث المضير في سورة المائدة في قوله ،

{ فتنفخ فيها } [ المائدة : 110 ] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله { الطير } وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له .
وقوله { بإذن الله } ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى : { فهزموهم بإذن الله } [ البقرة : 251 ] ، وقول النبي عليه السلام ، وإذنها صماتها ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر .
قوله تعالى :
{ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
{ أبرىء } ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين ، واختلف المفسرون في { الأكمه } فقال مجاهد : { الأكمه } هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : { الأكمه } الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : { الأكمه } الأعمش ، وحكى النقاش قولاً : أن { الأكمه } هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : { الأكمه } الذي يولد أعمى مضموم العين .
قال القاضي : وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الإحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في { الأكمه } إلا القول الأخير ، إذ { الأكمه } في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به ، { والأبرص } معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص علىلتحدي بها ، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه السلام .

ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وأنبئكم } الآية ، فقال السدي وسيعد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق ، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم . وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة . فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله { بما تأكلون } يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك { وما تدخرون } ، وقرأ الجمهور ، « تدّخِرون » بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، « تذخرون » استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [ زهير ] [ البسيط ]
إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ ... عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ
بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال « تدْخَرون » - بدال - ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : { إن في ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن مسعود « لآيات » على الجمع ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو كما كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال .

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

قوله : { مصدقاً } حال معطوفة على قوله : { إني قد جئتكم بآية } [ آل عمران : 49 ] ، لأن قوله { بآية } في موضع الحال ، وكان عيسى عليه السلام مصدقاً للتوراة متبعاً عاملاً بما فيها ، قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس ، وقال قتادة في تفسير قوله : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ، كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى ، وقال ابن جريج ، أحل لكم لحوم الإبل والشحوم ، قال الربيع : وأشياء من السمك ، وما لا صيصة له من الطير ، وكان في التوراة محرمات تركها شرع عيسى على حالها ، فلفظة « البعض » على هذا متمكنة ، وقال أبو عبيدة : « البعض » في هذه الآية بمعنى الكل ، وخطأه الناس في هذه المقالة وأنشد أبو عبيدة شاهداً على قوله بيت لبيد : [ الكامل ]
ترَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذا لمْ يَرْضَها ... أو يخترمْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وليست في البيت له حجة لأن لبيداً أراد نفسه فهو تبعيض صحيح ، وذهب بعض المفسرين إلى أن وقوله تعالى : { حرم عليكم } إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى رد أحكام التوراة « إلى حقائقها التي نزلت من عند الله تعالى ، وقال عكرمة : » حرم عليكم « بفتح الحاء والراء المشددة ، وإسناد الفعل إلى الله تعالى أو إلى موسى عليه السلام ، وقرأ الجمهور { وجئتكم بآية } وفي مصحف عبد الله بن مسعود ، » وجئتكم بآيات « من ربكم ، وقوله تعالى : { فاتقوا الله وأطيعون } تحذير ودعاء إلى الله تعالى .
وقرأ جمهور الناس { إن الله ربي وربكم } بكسر الألف على استئناف الخبر ، وقرأه قوم » أن الله ربي وربكم « بفتح الألف قال الطبري : » إن « بدل من » آية « ، في قوله { جئتكم بآية } ، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون ، لأن الله ربي وربكم ، أو يكون المعنى ، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه ، وقوله { هذا صراط مستقيم } إشارة إلى قوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ، وهو لأن ألفاظه جمع الإيمان والطاعات ، والصراط ، الطريق ، والمستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات ، تقديره ، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل ، { فلما أحس } ومعنى أحس ، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض يقال أحسست بالشيء وحسيت به ، أصله ، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء ، { والكفر } هو التكذيب به ، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله ، فحينئذ طلب النصر ، والضمير في { منهم } لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : { قال من أنصاري إلى الله } عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم ، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها يقال { من أنصاري إلى الله } ، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله الناس ، والأنصار جمع نصير ، كشهيد وأشهاد وغير ذلك ، وقيل جمع ناصر ، كصاحب وأصحاب وقوله : { إلى الله } يحتمل معنيين ، أحدهما : من ينصرني في السبيل إلى الله؟ فتكون { إلى } دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها ، والمعنى الثاني ، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي؟ فيكون بمنزلة قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 1 ] فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء ، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم ، إن - مع - تسد في هذه المعاني مسد « إلى » لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن { إلى } فقال { إلى } بمعنى مع حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } [ المائدة : 6 ] فقال { إلى } بمعنى مع وهذه عجمة بل { إلى } في هذه الآية ، غاية مجردة ، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر ، و { الحواريون } ، قوم مر بهم عيسى عليه السلام ، فدعاهم إلى نصرة ، واتباع ملته ، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام ، وصبروا في ذات الله ، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك ، واختلف الناس لم قيل لهم { الحواريون } ؟ فقال سعيد بن جبير ، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها ، وقال أبو أرطأة ، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي يبيضونها ، وقال قتادة ، الحواريون أصفياء الأنبياء ، الذين تصلح لهم الخلافة ، وقال الضحاك نحوه .
قال الفقيه الإمام أبو أحمد : وهذا تقرير حال القوم ، وليس بتفسير اللفظة ، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام ، ابن عمته بهم في قوله : وحواريَّ الزبير ، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ ، إذ هي من الحور ، وهو البياض ، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري ، قد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار ، الحواريات ، لغلبة البياض عليهن ، ومنه قول أبي جلدة اليشكري :

فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وحكى مكي : أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألواناً شتى من ماء واحد ، وقرأ جمهور الناس « الحواريّون » بتشديد الياء ، واحدهم - حواريّ - وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي ، وقرأ إبراهيم النخعي وأبو بكر الثقفي : « الحواريون » مخففة الياء في جميع القرآن ، قال أبو الفتح : العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها ، ومتى جاءت في نحو قولهم ، العاديون القاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه ، فكان يجب على هذا أن يقال ، الحوارون ، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالاً لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد محتمل للضمة ، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة يا البتة وحملها الضمة تذكر الحال المرادة فيها .
وقول الحواريين : { واشهد } يحتمل أن يكون خطاباً لعيسى عليه السلام ، أي اشهد لنا عند الله ، ويحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى كما تقول : أنا أشهد الله على كذا ، إذا عزمت وبالغت في الالتزام ، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع : اللهم اشهد ، قال الطبري : وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران ، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى ، لا ما تقولونه أنتم ، يا من يدعي له الألوهية .
وقوله : { ربنا آمنا بما أنزلت } يريدون الإنجيل وآيات عيسى ، و { الرسول } عيسى عليه السلام ، وقوله : { فاكتبنا مع الشاهدين } عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم ، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب ، عبروا عن فعل الله بهم ذلك وقال ابن عباس : قولهم { مع الشاهدين } معناه اجعلنا من أمة محمد عليه السلام في أن نكون ممن يشهد على الناس .
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال : { ومكروا } يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم ، ويروى أنهم تحيلوا له ، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتاً فأخذوهم فيه ، فهذا مكر بني إسرائيل ، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى ، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهواناً في الدنيا والآخرة ، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكراً في قوله { ومكر الله } وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه ، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية ، وعلى أن عيسى قال للحواريين : من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحدهم - أنا - فكان ذلك ، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهودياً جاسوساً علىعيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب ، فهذا معنى قوله : { ومكروا ومكر الله } وهذه أيضاً تسمية عقوبة باسم الذنب ، والمكر في اللغة ، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك ، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي ، وقوله { والله خير الماكرين } معناه في أنه فاعل في حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل ففي الأغلب ، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل ، والله سبحانه أشد بطشاً وأنفذ إرادة ، فهو خير من جهات لا تحصى ، لا إله إلا هو ، وذكر حصر عيسى عليه السلام ، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

قال الطبري : العامل في { إذ } قوله تعالى { ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] وقال غيره من النحاة : العامل فعل مضمر تقديره اذكر .
قال القاضي أبو محمد : هذا هو الأصوب ، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم ، و { عيسى } اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية - ايسوع - عدلته العرب إلى { عيسى } واختلف المفسرون في هذا التوفي ، فقال الربيع : هي وفاة نوم ، رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء : المعنى أني قابضك من الأرض ، ومحصنك أني مميتك ، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك ، عنده في السماء وفي بعض الكتب ، سبع ساعات ، وقال الفراء : هي وفاة موت ولكن المعنى ، { إني متوفيك } في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، وقال مالك في جامع العتبية : مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، ووقع في كتاب مكي عن قوم : أن معنى { متوفيك } متقبل عملك ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ .
قال القاضي أبو محمد : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، ثم يميته الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فقول ابن عباس رضي الله عنه : هي وفاة موت لا بد أن يتمم ، إما على قول وهب بن منبه ، وإما على قول الفراء ، وقوله تعالى : { ورافعك إليّ } عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله { إلى } إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة ، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة ، وقوله تعالى : { ومطهرك } حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه ، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم ، تشبيهاً لذلك كله بالأدناس ، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له ، وقوله تعالى : { وجاعل } اسم فاعل للاستقبال ، وحذف تنوينه تخفيفاً ، وهو متعد إلى مفعولين ، لأنه بمعنى مصيَّر فأحدهما { الذين } والآخرة في قوله : { فوق الذين كفروا } وقال ابن زيد : الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود ، والآية مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكماً دنيوياً لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط ، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى ، نص على ذلك قتادة وغيره ، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين ، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة ، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله ، وقوله تعالى { ثم إليّ مرجعكم } الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له : { ثم إلي } ، أي إلى حكمي وعدلي ، يرجع الناس ، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى ، وفي قوله تعالى : { فأحكم } إلى آخر الآية ، وعيد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين .

وقوله تعالى : { فأما الذين كفروا } الآية ، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة ، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل ، وإنما المعنى ، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون { عذاباً شديداً في الدنيا } بالأسر والقتل والجزية والذل ، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك ، وقد أبرز الوجود هذا ، وفي { الآخرة } معناه ، بعذاب النار ، ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال ودعاء إليها ، وقرأ حفص عن عاصم « فيوفيهم » بالياء على الغيبة ، والفعل مسند إلى الله تعالى ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم « فنوفيهم » بالنون ، وهي نون العظمة ، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال ، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله ، وتقدم نظير قوله { والله لا يحب الظالمين } في قوله قبل { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران : 32 ]
.

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

{ ذلك } رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء ، و { نتلوه عليك } خبر ابتداء وقوله { من الآيات } لبيان الجنس ، ويجوز ان تكون للتبعيض ، ويصح أن يكون { نتلوه عليك } حالاً ويكون الخبر في قوله من { الآيات } وعلى قول الكوفيين يكون قوله { نتلوه } صلة لذلك ، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري :
وهذا تحملين طليق ... ويكون الخبر في قوله : { من الآيات } ، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير ، وهذا محمولاً ، و { نتلوه } معناه نسرده ، و { من الآيات } ظاهره آيات القرآن ، ويحتمل أن يريد بقوله { من الآيات } من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب ، فالمعنى أنها آيات لنبوتك ، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون { نتلوه } حالاً ، و { الذكر } ما ينزل من عند الله ، و { الحكيم } يجوز أن يتأول بمعنى المحكم ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة ، فيكون بناء اسم الفاعل ، قال ابن عباس ، { الذكر } القرآن ، و { الحكيم } الذي قد كمل في حكمته .
وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ، قالوا سبب نزول قوله تعالى : { إن مثل عيسى } الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد ، فقال النبي عليه السلام ، وما يضر ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقالوا فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية . قوله تعالى { إن مثل } عبر عنه بعض الناس ، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] قالوا : معناه صفة الجنة .
قال الإمام أبو محمد : وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى : « أن المثل » الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل ، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها ، وفي هذه الآية صحة القياس ، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله : { كمثل } اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله { عند الله } عبارة عن الحق في نفسه ، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ، وقوله : { خلقه من تراب } تفسير لمثل آدم ، الذي ينبغي أن يتصور ، والمثل والمثال بمعنى واحد ، ولا يجوز أن يكون { خلقه } صلة لآدم ولا حالاً منه ، قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه ، مضمنه تفسر المثل ، قوله عز وجل : { ثم قال } ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام ، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قاله له { كن } وقت كذا ، وعلى مذهب أبي علي الفارسي ، في أن القول مجازي ، مثل وقال قطني ، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين ، ف { ثم } على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين ، وقراءة الجمهور « فيكونُ » ، بالرفع على معنى فهو يكون ، وقرأ ابن عامر « فيكونَ » بالنصب ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ، وقد تقدم توجيهها آنفاً في مخاطبة مريم .

وقوله تعالى : { الحق من ربك } ، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به ، قوله { من ربك } ، أو الحق ذلك ، أو ما قلناه لك ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء ، تقديره هذا الحق و { الممترين } هم الشاكون ، والمرية الشك ، ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين ، وهذا يدل على ان المراد بالامتراء غيره ، ولو قيل : فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل ، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله .
وقوله تعالى : { فمن حاجك فيه } معناه جادلك ونازعك الحجة ، والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على { عيسى } ، ويحتمل أن يعود على { الحق } ، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى : { فقل تعالوا } الآية ، استدعاء المباهلة و { تعالوا } تفاعلوا من العلو ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و { نبتهل } معناه نلتعن ، ويقال عليهم بهلة الله معنى اللعنة ، والابتهال : الجد في الدعاء بالبهلة .
وروي في قصص هذه الآية : أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله ، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن النبي عليه السلام أنه قال : ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك ، فروى الشعبي وغيره ، أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم : إن كان نبياً ثم دعا عليكم هلكتم ، وإن كان ملكاً فظهر لم يبق عليكم ، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه؟ قال : إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً حسيناً آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الميعاد ، فقالوا : نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

« فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء » ، قالوا : لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال : فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً آميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال عليه السلام : « لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة » ، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا : دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : يا معشر النصارى ، والله لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه ، فأتوا النبي عليه السلام ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له : ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى ، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض ، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض ، وقال أيضاً لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ، وروى علباء بن احمر اليشكري قال : لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم ، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ فلا تلاعنوا فانتهوا ، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

{ هذا } خبر من الله تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة ب { هذا } هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام ، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم : و { القصص } معناه الأخبار ، تقول : قص يقص ، قصاً وقصصاً ، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئاً بعد شيء ، قال قوم : هو مأخوذ من قص الأثر ، وقوله { لهو } يحتمل أن يكون فصلاً ويحتمل أن يكون ابتداء ، و { من } قوله { من إله } مؤكدة بعد النفي ، وهي التي يتم الكلام دونها لكنها تعطي معنى التأكيد ، وقوله تعالى : { فإن الله عليم بالمفسدين } وعيد .
واختلف المفسرون من المراد بقوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا } فقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وقاله الربيع وابن جريج ، وقال : محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت الآية في وفد نجران ، وقاله السدي ، وقال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي « الكلمة السواء » والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران ، لكن لفظ { أهل الكتاب } يعمهم وسواهم من النصارى واليهود ، فدعى النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية ، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم ، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة ، وقرأ جمهور الناس « إلى كَلِمة » بفتح الكاف وكسر اللام ، وروى أبو السمال : « كَلْمة » بفتح الكاف وسكون اللام ، وروي عنه أنه قرأ « كِلْمة » بكسر الكاف وسكون اللام ، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد ، كبد بكسر الكاف وسكون الباء ، و « الكلمة » هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها ، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله { ألا نعبد } الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة ، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد ، وقال أبو العالية : « الكلمة السواء » ، لا إله إلا الله .
قال الفقيه الإمام : وقوله : { سواء } نعت للكلمة ، قال قتادة والربيع وغيرهما : معناه إلى كلمة عدل ، فهذا معنى « السواء » ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : « إلى كلمة عدل بيننا وبينكم » ، كما فسر قتادة والربيع ، وقال بعض المفسرين : معناه إلى كلمة قصد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قريب في المعنى من الأول ، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها ، والذي أقوله في لفظة { سواء } انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، ف { سواء } على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه .

والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، وعلى هذا الحد جاءت لفظة { سواء } في قوله تعالى : { فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] على بعض التأويلات ، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك ، لكنت قد دعوته إلى السواء ، الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب برحمته .
وقوله { ألا نعبد } يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى ، إلى { ألا نعبد } ، فذلك على البدل من { كلمة } ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى ، هي { ألا نعبد } وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع { نعبد } إكثار منهم فاختصرته ، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب ، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية ، وعبادتهم لهم على ذلك ، كعزير وعيسى ابن مريم ، وبهذا فسر عكرمة ، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ، ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً ، وبهذا فسر ابن جريج ، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام ، وقوله تعالى : { فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون } أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

اختلف المفسرون فيمن نلزت هذه الآية ، فقال ابن عباس : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي عليه السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى ، ما كان إبراهيم إلا نصرانياً ، فأنزل الله الآية ، وقال السدي وقتادة : وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضاً : أنهما قالا نزلت الآية بسبب دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهودياً ، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له ، والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحداً ، وأن الآية في اليهود والنصارى ، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك؟ وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى ، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها ، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلاً لم تحدث في الأرض ، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة ، ولما كان الدليل عقلياً قال الله تعالى لهم موبخاً { أفلا تعقلون } ؟
واختلف القراء في قوله { ها أنتم } في المد والهمز وتركه ، فقرأ ابن كثير ، « هأنتم » ، في وزن هعنتم ، وقرأ نافع وأبو عمرو « هانتم » استفهاماً بلا همز ، وقرأ الباقون ، « ها أنتم » ممدواً مهموزاً ، ولم يختلفوا في مد { هؤلاء } وأولاء ، فوجه قراءة ابن كثير ، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء ، أراد « أأنتم » ، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين ، يجوز أن تكون « ها » التي للتنبيه دخلت على « أنتم » ، ويكون التنبيه داخلاً على الجملة ، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت - يا - التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا ، وفي قول الشاعر : [ البسيط ]
يَا قَاتَلَ صِبياناً تجيءُ بِهِمْ ... أمُّ الهُنَيِّدِ مِنْ زَنْدٍ لها وَاري
وقول الآخر : [ البسيط ]
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِم ... والصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ
وخففت الهمزة من « أنتم » ولم تحقق بعد الألف ، كما قالوا في هباءة هباة ، ويجوز أن تكون الهاء في { هأنتم } بدلاً من همزة الاستفهام ، كوجه قراءة ابن كثير ، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين ، لتفصل بينهما ، ووجه قراءة الباقين « ها أنتم » مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو ، وحققوا الهمزة التي بعد الألف ، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع ، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو ، فينبغي أن تكون « ها » في قوله للتنبيه ولا تكون بدلاً من همزة الاستفهام ، وأما { هؤلاء } ففيه لغتان ، المد والقصر ، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات : [ الخفيف ] .
هؤلا ثُمَّ هؤلاءِ قَدِ اعْطيتَ ... نِعالاً مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ
وأما إعراب { ها أنتم هؤلاء } فابتداء وخبر ، و { حاججتم } في موضع الحال لا يستغنى عنها ، وهي بمنزلة قوله تعالى :

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون } [ البقرة : 85 ] ويحتمل أن يكون { هؤلاء } بدلاً أو صفة ويكون الخبر { حاججتم } وعلى مذهب الكوفيين { حاججتم } ، صلة لأولاء والخبر في قوله : { فلم تحاجون } ومعنى قوله تعالى : { فيما لكم به علم } أي على زعمكم ، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته .
قال الفقيه الإمام : وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم ، كما كان هنالك على حقيقته ، وباقي الآية بين .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

أخبر الله تعالى في هذه الآية ، عن حقيقة أمر إبراهيم ، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية ، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة ، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً بل حفظته ، وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ .
ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكداً أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهنا يدخل كل ما اتبع الحنيفية في الفترات { وهذا النبي } محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة ، { والنبي } في الإعراب نعت أو عطف بيان ، أبو بدل ، وفي كونه بدلاً نظر ، { والذين آمنوا } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين ، ثم أخبر أن الله تعالى { ولي المؤمنين } ، وعداً منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة ، و « الحنيف » مأخوذ من الحنف ، وهو الاستقامة وقيل هو الميل ، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف ، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم ، ومن الميل معناه المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق ، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة الحنيف ، حتى قال بعضهم : الحنيف الحاج ، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه كالحج وغيره ، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينه ، وقال له : إني أريد أن أكون على دينكم ، فقال اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال : ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً ، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلا الله ، فخرج من عند فلقي عالماً من النصارى ، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي ، إلا أن النصراني قال : بنصيبك من لعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعاً يديه إلى الله ، وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم ، ورى عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ، ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم } الآية .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين ، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله : { من أهل الكتاب } فتحتمل { من } أن تكون للتبعيض ، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم ، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وقال الطبري : { يضلونكم } معناه يهلكونكم ، واستشهد ببيت جرير .
كنْتَ القَذَى في موج أَخْضَرَ مُزْبدٍ ... قذف الأتيُّ بِهِ فَضَلَّ ضلالا
وقول النابغة : [ الطويل ]
فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك ، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم ، قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون ، ثم أعلم أنهم لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم .
ثم وقفهم تعالى موبخاً لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : قل لهم يا محمد ، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن؟ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم ، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي ، وتحتمل الآية أن يريد « بالآيات » ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجماعات وغير ذلك و { تشهدون } على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون ، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله ، فلما ظهر كفروا به حسداً ، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها ، قال مكي : وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران .
وقوله تعالى : { لم تلبسون الحق } معناه تخلطون ، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته ، ومنه قوله تعالى : { وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 9 ] وتقول : لبست الثوب بكسر الباء ، قال ابن زيد : { الحق } الذي لبسوه هو التوراة المنزلة ، و « الباطل » الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة ، وقال ابن عباس : { الحق } إسلامهم بكرة ، و « الباطل » كفرهم عشية ، والآية نزلت في قول عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف ، تعالو نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار ، ونكفر آخره ، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم ، وقال قتادة وابن جريج : { لم تلبسون الحق بالباطل } معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها؟ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين ، وقال بعض المفسرين : { الحق } الذي لبسوه قولهم : محمد نبي مرسل ، و « الباطل » الذي لبسوه به قول أحبارهم : لكن ليس إلينا بل ملة موسى مؤبدة ، وقوله تعالى : { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } يريد شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم ، وفي قوله : { وأنتم تعلمون } توقيف على العناد ظاهر ، قال أبو إسحاق الزجّاج : ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك ، لم تجمعون ذا وذا ، على أن تكتموا في موضع نصب على الصرف في قول الكافرين ، وبإضمار « أن » ، في قول أصحابنا ، قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار « أن » ، لأن { تكتمون } ، معطوف على موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : أتأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي : [ الرجز ]
وألحقُّ بالحِجَازِ فاسْتَرِيحَا ... وقد قال سيبويه في قولك : أسرت حتى تدخل المدينة؟ لا يجوز إلا النصب في تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب ، وإذا قلت : أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت ، لأن السير موجب والاسفهام إنما وقع عن غيره .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ }
أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع ، قال الحسن : قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم : قال بعض الأحبار لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار ، فسيقول المسلمون عند ذلك : ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون ، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم ، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك ، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة ، فقالوا : يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا ، ولكن أمهلنا إلىلعشي حتى ننظر في أمرنا ، ثم رجعوا بالعشي ، فقالوا : قد نظرنا ولست به { وجه } على هذا التأويل منصوب بقوله { آمنوا } والمعنى أظهروا الإيمان في { وجه النهار } ، والضمير في قوله { آخره } عائد على { النهار } ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم : نزلت الآية ، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين ، فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار ، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
قال الفقيه الإمام : وهذا القول قريب من القول الأول ، وقال جماعة من المفسرين : نزلت هذه الآية في أمر القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام ، كما كان يصلي ، ثم حولت القبلة ، فصلى الظهر ، وقيل العصر إلى مكة ، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب : آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة .
قال الفقيه الإمام : والعامل في قوله { وجه النهار } على هذا التأويل قوله : { أنزل } والضمير في قوله : { آخره } يحتمل أن يعود على { النهار } أو يعود على « الذي أنزل » ، و { يرجعون } في هذا التأويل ، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل ، { وجه النهار } أوله الذي يواجه منه ، تشبيهاً بوجه الإنسان ، وكذلك تقول : صدرالنهار وغرة العام والشهر ، ومنه قول النبي عليه السلام أقتلته في غرة الإسلام؟ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]
من كان مسروراً بِمَقْتَل مالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّساءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبلُّجِ الأَسْحَارِ

يقول هذا في مالك بن زهير بن جذيمة العبسي وكانوا قد أخذوا بثأره ، وكان القتيل عندهم لا يناح عليه ولا يندب إلا بعد أخر ثأره ، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما يدله على أنّا قد أدركنا ثأره ، فيكمد لذلك ويغتم ، ومن استعارة الوجه قولهم : فعلت كذا على وجه الدهر ، أي في القديم .
وذكر الله تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، أنهم قالوا : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة ، واختلف الناس في قوله تعالى : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم } ، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل . الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله تعالى : { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض بين الكلامين .
قال القاضي : والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني : أحدها : ولا تصدقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذاراً أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم ، وحذراً أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر ، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون التقدير ، أن لا يؤتى فحذفت - لا - لدلالة الكلام ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه ، ولا تصدقوا وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضداً له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم ، { أو يحاجوكم عند ربكم } ، بمعنى : إلا أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل ، ويحتمل الكلام أن يكون معناه : ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته ، إذ قد علمتم صحتها ، إلا لليهود الذين هم منكم ، و { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ، صفة لحال محمد فالمعنى ، تستروا بإقراركم ، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب يحاجوكم بالإقرار عند ربكم ، قال أبو علي و { تؤمنوا } تعدى بالباء المقدرة في قوله { أن يؤتى } كما تعدى أول الآية في قوله ، { بالذي أنزل } واللام في قوله ، { لمن اتبع } ، لا يسهل أن تعلق ب { تؤمنوا } ، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل جارين ، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين أذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد ، وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى ، والمعنى : لاتقروا بأن الله يؤتي أحداً مثل ما أوتيتم إلا لمن ، فهذا كما تقول : أقررت لزيد بألف فتكون اللام متعلقة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد

{ إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] ولا تتعلق على حد المفعول ، قال أبو علي : وقد تعدى « آمن » باللام في قوله { فما آمن لموسى إلا ذرية } [ يونس : 83 ] وقوله { آمنتم له } [ طه : 71 ] [ الشعراء : 49 ] وقوله { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } [ التوبة : 61 ] واحد ، إنما دخل في هذا الكلام بسبب النفي الواقع في أوله ، قوله : { لا تؤمنوا } كما دخلت - من - في قوله { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } [ البقرة : 105 ] فكما دخلت - من - في صلة أن ينزل ، لأنه مفعول النفي اللاحق لأول الكلام ، فكذلك دخل { أحد } في صلة - أن - في قوله { أن يؤتى أحد } لدخلو النفي في أول الكلام .
قال القاضي : وهذا لأن أحداً الذي فيه الشياع ، لا يجيء في واجب من الكلام ، لأنه لا يفيد معنى ، وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة « آن يؤتى » بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير ، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة ، إلا الاعتراض الذي هو : { قل إن الهدى هدى الله } فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال : فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل { أن يؤتى } على ما قبله من الفعل ، لأن الاستفهام قاطع ، فيجوز أن تكون - أن - في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون { يحاجوكم } على هذا معطوفاً على { أن يؤتى } قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع - أن - منصوباً ، فيكون المعنى : أتشيعون أو أتذكرون { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ؟ ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } [ البقرة : 76 ] فعلى كل الوجهين معنى الآية ، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث ، ويكون قوله تعالى : { أو يحاجوكم } في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم . قال أبو علي : و { أحد } على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة ، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلا أن يقدر أن أحداً الذي في قولك ، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى واحد ، وجمع ضميره في قوله { أو يحاجوكم } حملاً على المعنى ، إذ لأحد لامراد بمثل النبوة اتباع ، فهو في معنى الكثرة ، قال أبو علي : وهذا موضع ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة .
قال القاضي : إلا أن أحداً في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع ، وقرأ الأعمش ، وشعيب بن أبي حمزة - « إن يؤتى » - بكسر الهمزة بمعنى ، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي ، ويحتمل أن تكون بمعنى ، إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له ، فهذا ترتيب التفسير والقراءات على قول من قال : الكلام كله من قول الطائفة .

وقال السدي وغيره : الكلام كله من قوله { قل إن الهدى هدى الله } ، إلى آخر الآية هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله لأمته ، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى : قل إن الهدى هو هذا الهدى ، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وحكي عن بعض النحويين أن المعنى : أن لا يؤتى أحداً ، وحذفت -لا- لأن في الكلام دليلاً عليها ، كما في قوله تعالى : { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي أن لا تضلوا ، وحكي عن أبي العباس المبرد : لا تحذف لا ، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا كراهة « أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، أي ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاسفتهام والمد ، وتحمل عليه قراءة الأعمش وابن أبي حمزة - إن يؤتى- ، بكسر الألف ، كأنه عليه السلام يخبر أمته أن الله لا يعطي أحداً ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد عليه السلام لكونها وسطاً ويكون قوله تعالى : { أو يحاجوكم } على هذه المعاني التي ترتبت في قول السدي ، تحتمل معنيين أحدهما « أو فليحاجوكم عند ربكم » ، يعني اليهود ، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك ، والمعنى الثاني : أن يكون قوله ، { أو يحاجوكم } بمعنى التقرير والإزراء باليهود ، كأنه قال : أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله وفضلكم به؟ وقوله : { هدى الله } على جميع ما تقدم خبران .
وقال قتادة والربيع : الكلام من قوله { قل إن الهدى هدى الله } إلى آخر الآية ، هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله للطائفة التي قالت { لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد ، وتقدير الخبر المحذوف { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } ، حسدتم وكفرتم ، ويكون قوله { أو يحاجوكم } محمولاً على المعنى ، كأنه قال : أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ { أو يحاجوكم } على ما أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة ، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد ، فيحتمل أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام ، وذلك هو الظاهر من لفظ قتادة فإنه قال : يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك ، ويحتمل أن يكون قوله : { أن يؤتى } بدلاً من قوله { هدى الله } ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله { أو يحاجوكم } بمعنى ، أو فليحاجوكم ، فإنه يغلبونكم ، ويحتمل قوله ، { أن يؤتى } خبر - « إن » ويكون قوله { هدى الله } بدلاً من الهدى ، وهذا في المعنى قريب من الذي قبله ، وقال ابن جريج ، قوله تعالى : { أن يؤتى } هو من قول محمد صلى الله عليه وسلم لليهود ، وتم الكلام في قوله { أوتيتم } وقوله تعالى : { أو يحاجوكم } متصل بقول الطائفة { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ومنه ، وهذا القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان .

وقرا ابن مسعود : « أن يحاجوكم » بدل { أو } ، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم مع بعضها ، وقوله { عند ربكم } يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة ، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم ، والعلم الذي جعل في العباد ، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق ، وقرأ الحسن « إن يؤتى » أحد بكسر الهمزة والتاء ، على إسناد الفعل إلى { أحد } ، والمعنى : أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطاباً من محمد عليه السلام لأمته ، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحداً .
قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأَمْنَهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمَا }
في قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله } إلى قوله { العظيم } ، تكذيب لليهود في قولهم : نبوءة موسى مؤبدة ، ولن يؤتي الله أحداً مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف ، وسائر ما في الآية من لفظة { واسع } وغير ذلك قد تقدم نظيره .
ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة ، ومقصد الآية ذم الخونة منهم ، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله ، في استحلالهم أموال العرب ، وفي قراءة أبي بن كعب « تيمنه » بتاء وياء في الحرفين وكذلك -تيمنا- في يوسف ، قال أبو عمرو الداني : وهي لغة تميم .
قال القاضي : وما أراها إلا لغة قرشية ، وهي كسر نون الجماعة كنستعين ، وألف المتكلم كقول ابن عمر ، لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في « تيمنا » وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب ، وقد تقدم القول في « القنطار » في صدر السورة وقرأ جمهور الناس ، « يؤدهِ إليك » بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار ، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير « الدينار » ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء ، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن ، نحو

{ نصله جهنم } [ النساء : 115 ] و { نؤته } { نوله } إلا حرفاً حكي عن أبي عمرو أنه كسره ، وهو قوله تعالى : { فألقه إليهم } [ النمل : 28 ] قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأرأه كان يختلس الكسرة فغلط عليه ، كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا : أنه يكسر كسراً خفيفاً ، و « القنطار » في هذه الآية : مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل ، وأما « الدينار » فيحتمل أن يكون كذلك ، مثالاً لما قل ، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد ، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة ، وقرأ جمهور الناس « دُمت » بضم الدال ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان وغيرهم : « دِمت ودِمتم » ، بكسر الدال في جميع القرآن ، قال أبو إسحاق : من قوله : « دمت » ، تدام ، نمت ، تنام ، وهي لغة ، ودام معناه ثبت على حال ما ، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشي ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
والشمس حَيرَىَ لهَا في الْجوَّ تَدْوِيمْ ... والدوام ، الدوار يأخذ في رأس الإنسان ، فيرى الأشياء تدور له ، وتدويم الطائر في السماء ، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه ، وقوله { قائماً } يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد : معناه قائماً على اقتضاء دينك .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام ، فعلى هذا التأويل ، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله ، أي اجتهاده فيها ، وقال السدي وغيره : { قائماً } في هذه الآية معناه : قائماً على رأسه ، على الهيئة المعروفة ، وتلك نهاية الحفز ، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر ، يريد أن يستقبله ، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن ، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي ، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب ، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود : نحن لا نؤدي إليكم شيئاً حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه ، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية حامية من ذلك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر » .

قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِى الأَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
الإشارة ب { ذلك } إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه ، على أحد التأويلين ، والضمير في ، { قالوا } ، يعني به لفيف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أهل الكتاب ، والعرب أميون أصحاب أوثان ، فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك ، و « الأميون » القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة ، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل ، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور :
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود عليَّ طريق
وقوله تعالى : { فأولئك ما عليهم من سبيل } [ الشورى : 41 ] هو من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب ، وروي أن رجلاً قال لابن عباس : إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال : وتقولون ماذا؟ قال نقول : ليس علينا بأس ، فقال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، وقوله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء ، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها ، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول جماعة من المتأولين ، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما : أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذباً منها وهي عالمة بكذبها في ذلك قالا : والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل .
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم ، ليس علينا بقوله { بلى } أي عليهم سبيل وحجة وتبعة ، ثم أخبر على جهة الشرط أن { من أوفى } بالعهد { واتقى } عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله ، وتقول العرب : وفى بالعهد ، وأوفى به بمعنى ، وأوفى ، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره ، على أن الضمير في قوله { بعهده } عائد على الله تعالى ، وقال بعض المفسرين : هو عائد على { من } .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان ، وقال ابن عباس : { اتقى } في هذه الآية ، معناه : اتقى الشرك ، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفاً للتقوى وحضّاً عليها .
وقوله تعالى : { الذين يشترون بعهد الله } الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فيما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق ، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته ، واختلف المفسرون في سبب نزولها ، فقال عكرمة : نزلت في أحبار اليهود ، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها ، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث : إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي ، فنزلت الآية ، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلاً قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية ، فنكل الأشعث عن اليمين ، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضاً أخرى ، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس ، وقال الشعبي : نزلت الآية في رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار ، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثاً لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها ، فنزلت الآية بسببه ، وقال سعيد بن المسيب ، اليمين الفاجرة من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود : كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر ، إذا فجر فيها صاحبها ، وقد جعل الله « الأيمان » في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضاً ، والخلاق : الحظ والنصيب والقدر ، وهو مستعمل في المستحبات ، وقال الطبري : { ولا يكلمهم الله } معناه بما يسرهم وقال غيره : نفى تعالى أن يكلمهم جملة لانه يكلم عباده المؤمنين المتقين ، وقال قوم من العلماء : وهي عبارة عن الغضب ، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم { ولا يزكيهم } يحتمل معنيين ، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها ، والآخر ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة و { أليم } فعيل بمعنى ، مفعل ، فالمعنى ، مؤلم .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

الضمير في { منهم } ، عائد على أهل الكتاب ، و « الفريق » ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء ، و { يلوون } معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ ... لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا
وقال الآخر : [ الرجز ]
ألْفَيْتَني ألوي بعيداً مستمر ... وقرأ جمهور الناس ، « يلوون » ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، « يلوّون » بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد « يلُوْن » بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل « يلون » مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء « يلوون » فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء « يلون » و { الكتاب } في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله { لتحسبوه } هو للمسلمين قوله { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .
وقوله تعالى : { ما كان لبشر } معناه لأحد من الناس ، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه ، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه ، كقوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران : 145 ] وقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النحل : 60 ] فهذا منتف عقلاً ، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين ، و { الكتاب } في هذه الآية اسم جنس ، و { الحكم } بمعنى الحكمة ، ومنه قول النبي عليه السلام : إن من الشعر لحكماً ، و { ثم } في قوله تعالى : { ثم يقول } معطية تعظيم الذنب في القول ، بعد مهلة من هذا الإنعام ، وقوله { عباداً } هو جمع عبد ، ومن جموعه عبيد وعبدى ، قال بعض اللغويين ، وهذه الجموع بمعنى ، وقال قوم ، العباد لله ، العبيد والعبدى للبشر ، وقال قوم : العبدى ، إنما تقال في العبيد بني العبيد ، وكأنه بناء مبالغة ، تقتضي الإغراق في العبودية .

قال القاضي أبو محمد : والذي استقريت في لفظة العباد ، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } [ البقرة : 207 ] [ آل عمران : 30 ] و { عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] فنوه بهم ، وقال بعض اللغويين : إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد ، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله ، وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ] .
قُولا لِدُوَدان عبيدِ العَصَى ... مَا غَرَّكُمْ بالأَسَد الباسلِ
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلاّم للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] .
قال الإمام أبو محمد : فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً .
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى : { ما كان لبشر } فقال النقاش وغيره : الإشارة إلى عيسى عليه السلام ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره ، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين : بل الإشارة إلى محمد عليه السلام ، وسبب نزول الآية ، أن أبا رافع القرظي ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت ، فنزلت الآية ، في ذلك ، قال بعض العلماء : أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمداً صلى الله عليه وسلم ، لما تلا عليهم { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] وإنما معنى الآية ، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله ، فحرفوها بتأويلهم ، وهذا من نوع ليِّهم الكتاب بألسنتهم ، وقرأ جمهور القراء « ثم يقولَ » بالنصب ، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو « ثم يقولُ » برفع اللام وهذا على القطع وإضمار مبتدأ ، وقرأ عيسى بن عمر ، « عباداً ليَ » بتحريك الياء مفتوحة .

وقوله تعالى :
{ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْملاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنَصُرُنَّهُ }
المعنى { ولكن } يقول : { كونوا ربانيين } وهو جمع رباني ، واختلف النحاة في هذه النسبة ، فقال قوم : هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه ، العمل بطاعته ، المعلم للناس ما أمر به ، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا ، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر ، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس ، وعالمهم السائس لأمرهم ، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى ، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه رباني ، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني ، فقال أبو رزين : الرباني : الحيكم العالم ، وقال مجاهد : الرباني الفقيه ، وقال قتادة وغيره : الرباني العالم الحليم ، وقال ابن عباس : هو الحكيم الفقيه ، وقال الضحاك : هو الفقيه العالم ، وقال ابن زيد : الرباني والي الأمر ، يرب الناس أي يصلحهم ، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
قال الفقيه أبو محمد : فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس ، وقوله { بما كنتم } معناه : بسبب كونكم عالمين دارسين ، فما مصدرية ، ولا يجوز أن تكون موصولة ، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه : { كنتم تعلمون } ، ولا يصح شيء من ذلك لأن « كان » قد استوفت خبرها ظاهراً ، وهو { تعلمون } وكذلك { تعلمون } قد استوفى مفعوله وهو { الكتاب } ظاهراً ، فلم يبق إلا أن { ما } مصدرية ، إذ لا يمكن عائد ، و { تعلمون } بمعنى تعرفون ، فهي متعدية إلى مفعول واحد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : « تعْلمون » بسكون العين ، وتخفيف اللام ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي « تُعلِّمون » مثقلاً ، بضم التاء وكسر اللام ، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، تقديره : تعلمون الناس الكتاب .
قال الفقيه الإمام : والقراءتان متقاربتا المعنى ، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم { تدرسون } وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانياً ، وليس التعليم شرطاً في ذلك ، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم ، والعلم لا يتضمن التعليم ، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح .

قال الفقيه الإمام : ومن حيث العالم بحال من يعلم ، فالتعليم كأنه في ضمن العلم ، وقراءة التخفيف عندي أرجح ، وقرأ مجاهد والحسن « تَعَلَّمون » بفتح التاء والعين ، وشد اللام المفتوحة ، وقرأ جمهور الناس ، « تدرُسون » بضم الراء ، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره ، وقرأ أبو حيوة « تدرِسون » بكسر الراء ، وهذا على أنه يقال في مضارع درس ، يدرُس ويدرِس وروي عن أبي حيوة ، أنه قرأ « تُدرِّسون » بضم التاء ، وكسر الراء وشدها ، بمعنى تدرسون غيركم .
وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي : « ولا يأمرُكم » برفع الراء ، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفاً ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة : « ولا يأمرَكم نصباً » ، ولا خلاف في الراء من قوله : { أيأمركم } إلا اختلاس أبي عامر ، فمن رفع قوله : « ولا يأمرُكم » فهو على القطع ، قال سيبويه : المعنى ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وغيره : المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي قراءة ابن مسعود : « ولن يأمركم » ، فهذه قراءة تدل على القطع ، وأما قراءة من نصب الراء ، فهي عطف على قوله : { أن يؤتيه } [ آل عمران : 79 ] والمعنى ولا له أن يأمركم ، قاله أبو علي وغيره ، وقال الطبري : قوله { ولا يأمركم } بالنصب ، معطوف على قوله ، { ثم يقول } [ آل عمران : 79 ] .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى ، والأرباب في هذه الآية قوله تعالى : { أيأمركم بالكفر } تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده .
وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الآية ، المعنى واذكر يا محمد « إذ » ويحتمل أن يكون « أخذ » هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ ، في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهره براهينهم والنصرة له ، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحب أبي بن كعب وابن مسعود : « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات « النبيين » خطأ من الكتاب .
قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما { أخذالله ميثاق النبيين } على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : { ثم جاءكم } مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم . وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : « لما » بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما أتيناكم ، إذ أنتم القادة الرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و « ما » في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و « من » لبيان الجنس ، وقوله ، { ثم جاءكم } الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [ الفرقان : 41 ] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : { لما معكم } . هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ يوسف : 90 ] لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } [ الكهف : 30 ] وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في { لتؤمِننَّ } ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز .
وقرأ سائر السبعة : « لَما » بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون « ما » موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق } وخبر الابتداء قوله { لتؤمنن } ، و { لتؤمنن } متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو { لتؤمنن } فهو قوله تعالى : { به } فالهاء من { به } عائدة على « ما » ، ولا يجوز أن تعود على { رسول } فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء « لما » بفتح اللام ، هو أن تكون « ما » للجزاء شرطاً ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و { جاءكم } معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على « ما » ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى :

{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] لانها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : { لتؤمِننَّ } وهذه اللام الداخلة على « أن » لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } [ المائدة : 73 ] . قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جئتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد .
والضمير في قوله تعالى : { لتؤمِننَّ به } عائد على { رسول } ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله { ولَتنصرنَه } فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله { لتؤمنن } عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم } فقال : « ما » هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أرد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون « ما » حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى : { وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم } [ هود : 111 ] وفي قوله { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] ، الله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل ، : أن خبر الابتداء فيمن جعل « ما » ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : { من كتاب وحكمة } ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، { لتؤمنن } كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : « لمّا آتيناكم » بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن « لما » هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني في « لما » في هذه الآية إلى أن أصلها « لمن ما » ، وزيدت « من » في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي « لما » ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر « لما » بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، « آتيناكم » بالنون ، وقرأ الباقون ، « آتيتكم » بالتاء ، و { رسول } في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : « مصدقاً » بالنصب على الحال .
قوله تعالى :
{ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، { وأخذتم } في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم ايضاً وقال الطبري : { أخذتم } في هذه الآية معناه : قبلتم ، و « الإصر » ، العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى { فاشهدوا } يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وفي التي في قوله { وأنا معكم من الشاهدين } هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره .
قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها ، وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله ، { فاشهدوا } أمر بالأداء وقرا أبو عمرو : « يَبغون » بالياء مفتوحة ، « تُرجعون » بالتاء مضمومة ، وقرأ عاصم ، « يبغون » و « يرجعون » بالياء معجمة من تحت فيهما ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل و { تبغون } معناه : تطلبون ، و { أسلم } في هذه الآية بمعنى : استسلم عند جمهور المفسرين ، و { من } في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين ، واختلفوا في معنى قوله { طوعاً وكرهاً } فقال مجاهد : هذه الآية كقوله تعالى :

{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله } [ الزمر : 38 ] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرهاً .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا عموم في لفظ الآية ، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و { أسلم } فيه بمعنى استسلم ، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع ، وعبارته رحمه الله : كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعاً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق ، وروي عن مجاهد أنه قال : الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعاً ويسجد الكافر وهو كاره ، وقال الشعبي : الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره ، وذلك هو الذي يسجد كرهاً .
قال الفقيه الإمام : وهذا هو مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات ، وقال الحسن بن أبي الحسن : معنى الآية : أنه أسلم قوم طوعاً ، وأسلم قوم خوف السيف ، وقال مطر الوراق : أسلمت الملائكة طوعاً ، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف .
قال الفقيه الإمام : وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان ، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص ، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعاً ولا كرهاً على هذا حد ، وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه .
قال الفقيه الإمام : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلا في أفراد ، والمعنى في هذه الآية ، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة ، والتوقيف بقوله { أفغَير } إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، « أُصري » ، بضم الألف وهي لغة .

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

المعنى : قل يا محمد أنت وأمتك : { آمنا بالله وما أنزل علينا } وهو القرآن وأمر محمد صلى الله عليه وسلم والإنزال على نبي الأمة إنزال عليها ، وقدم إسماعيل لسنة ، وسائر الآية بين ، ثم حكم تعالى في قوله { ومن يبتغ } الآية بأنه لا يقبل من آدمي ديناً غير دين الإسلام ، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء ، وهو الحنيفة السمحة ، وقال عكرمة : لما نزلت قال أهل الملل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : فجحهم يا محمد وأنزل عليه { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] فحج المسلمون وقعد الكفار ، وأسند الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } إلى قوله { ولا هم يحزنون } [ البقرة : 62 ] فأنزل الله بعدها ، { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } الآية .
قال الفقيه الإمام : فهذه إشارة إلى نسخ ، وقوله { في الآخرة } متعلق بمقدر ، تقديره خاسر في الآخر لأن الألف واللام في { الخاسرين } في معنى الموصول ، وقال بعض المفسرين : إن قوله { من يبتغ } الآية ، نزلت في الحارث بن سويد ، ولم يذكر ذلك الطبري .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآيات من قوله : { كيف يهدي الله } نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، كان مسلماً ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟
قال : فنزلت { كيف يهدي الله } الآيات ، إلى قوله { إلا الذين تابوا } فأرسل إليه قومه فأسلم ، وقال مجاهد : حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال له الحارث ، إنك والله لما علمت لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه ، وقال السدي : نسخ الله تعالى ، بقوله : { إلا الذين تابوا } قوله { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله } .
قال الفقيه أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير ، وليس هذا بموضع نسخ ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً ، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة؟ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضاً والحسن بن أبي الحسن : إن هذه الآيات نزلت في اليهود والنصارى ، شهدوا بنعت الرسول صلىلله عليه وسلم وآمنوا به ، فما جاء من العرب حسدوه ، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول ، وقال النقاش : نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق .
وقال الفقيه القاضي : وكل من ذكر فألفاظ الآية تعممه .
وقوله تعالى : { كيف } سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قال عليه السلام : كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها؟ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله تعالى ، وقوله تعالى : { وشهدوا } عطف على { كفروا } بحكم اللفظ ، والمعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، والواو لا ترتب ، وقال قوم : معنى قوله { بعد إيمانهم } بعد أن آمنوا فقوله { وشهدوا } عطف على هذا التقدير ، وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الظالمين } عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه ، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم ، و « اللعنة » الإبعاد وعدم الرحمة والعطف ، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار ، ولعنة الملائكة قول ، و { الناس } : بنو آدم ، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه ، أن الجن يدخلون في لفظة الناس ، وأنشد على ذلك ، [ الوافر ]
فقلتُ إلى الطَّعامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... أُناسٌ يَحْسُدُ الأَنَسَ الطَّعاما
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يظهر ، أن لفظة { الناس } إذا جاءت مطلقة ، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير ، فإذا جاءت مقيدة بالجن ، فذلك على طريقة الاستعارة ، إذ هي جماعة كجماعة ، وكذلك

{ برجال من الجن } [ الجن : 6 ] وكذلك { نفر من الجن } [ الجن : 1 ] ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس ، وقوله تعالى : { من الجنة والناس } [ الناس : 6 ] قاض بتباين الصنفين ، وقوله تعالى : { والناس أجمعين } إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بضعهم بعضاً ، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس ، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته ، وكل من هذه صفته - وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها ، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم ، لكن على غير تعيين ، والضمير في قوله : { خالدين فيها } قال الطبري : يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى اللعنة ، وقال قوم من المفسرين : الضمير عائد على اللعنة .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم : فالضمير عائد على النار ، وإن كان لم يجر لها ذكر ، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى : { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] أنها الأرض ، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] إن الضمير عائد على النار و { ينظرون } في هذه الآية ، بمعنى يؤخرون ، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم ، ولا يجوز أن يكون { ينظرون } هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى وقوله جل وعز { إلا الذين تابوا } استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى : { من بعد ذلك } التوبة : الرجوع ، والإصلاح عام في القول والعمل ، وقوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } وعد ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « والناس أجمعون » .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان ، ثم زيادة كفر ، فقال الحسن وقتادة وغيرهما : الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم { ازدادوا كفراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أبو محمد : وفي هذا القول اضطراب ، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين ، وقال أبو العالية رفيع : الآية في اليهود ، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة . ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك .
قال الإمام أبو محمد : وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم ، وقال مجاهد : معنى قوله { ثم ازدادوا كفراً } أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون ، وقال السدي نحوه ، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل ، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل ، سواء كفر بعد إيمان وازداد كفراً ، أو كان كافراً من أول أمره ، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوب فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة الغرغرة والمعاينة ، فالمعنى { لن تقبل توبتهم } عند المعاينة ، وقال أبو العالية : معنى الآية : لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان : نحن نتوب من هذه الأفعال ، وهم مقيمون على كفرهم ، فأخبر الله تعالى ، أنه لا يقبل تلك التوبة .
قال الفقيه الإمام : وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر ، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين ، وهم الذي أشار إليهم بقوله { كيف يهدي الله قوماً } [ آل عمران : 86 ] فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها ، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر :
( على لا حب لا يهتدى بمناره ) ... أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم ، فهم لا محالة يموتون على الكفر ، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفاراً بعقب الآية ، فبانت منزلة هؤلاء ، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين ، أنهم يموتون كفاراً ، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافراً و { الضالون } المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال ، وقرأ عكرمة : « لن نقبل » بنون العظمة « توبتَهم » بنصب التاء .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } الآية ، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة ، وقرأ عكرمة : « فلن نقبل » بنون العظمة « ملء الأرض » بالنصب ، و « الملء » ما شحن به الوعاء ، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر ، تقول ملأت الشيء أملؤه مَلأً والملء اسم ما ملأت به ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال : « مل » دون همزة ، ورويت عن نافع و { ذهباً } نصب على التمييز ، وقرأ ابن أبي عبلة : « ذهباً لو افتدى به » ، دون واو ، واختلف الناس في هذه الآية في قوله { ولو افتدى } فقال الطبري : هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو ، كما دخلت في قوله

{ وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] لمتروك من الكلام ، تقديره ، وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض .
قال الفقيه الإمام : وفي هذا التمثيل نظر فتأمله ، وقال الزّجاج : المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا « ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ولو افتدى » أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه ، قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قول حسن : وقال قوم : الواو زائدة وهذا قول مردود ، ويحتمل أن يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه ، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول ، كما تقول : أنا لا أفعل لك كذا بوجه ، ولو رغبت إليَّ ، وباقي الآية وعيد بيّن .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض ، من حيث أخبر تعالى : أنه لا يقبل من الموافي على الكفر { ملء الأرض ذهباً } [ آل عمران : 91 ] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير ، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه ، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام ، بتحريم ما كان يحب على نفسه ، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب ، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات ، على أنها معان منحازة ، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم ، وقوله تعالى { لن تناولوا } الآية ، خطاب لجميع المؤمنين ، وقال السدي وعمر بن ميمون : { البر } الجنة .
قال الفقيه الإمام : وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من افاعيل الخير ، فتحتمل الآية أن يريد : لن تنالو بر الله تعالى بكم ، أي رحمته ولطفه ، ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً ، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم ، وبسبب نزول هذه الآية ، تصدق أبو طلحة بحائطه ، المسمى بيرحاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه ، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي : أما إن الله قد قبل صدقتك ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال : إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فأعتقها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى : { مما تحبون } أي من رغائب الأموال التي يضن بها ، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى - الحديث - وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية ، فكان عبد الله بن عمر ، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت جميع الطاعات ، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان ، إما من ماله ، وإما من صحته ، وإما من دعته وترفهه ، وهذه كلها محبوبات ، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، أي الأعمال أفضل؟ فقال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب ، فقال له الرجل : أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام ، فقال أبو ذر : قربة وليس هناك ، ثم تلا { لن تنالوا البر } الآية ، وقوله تعالى { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } شرط وجواب فيه وعد ، أي عليم مجاز به وإن قل .

قوله تعالى : { كل الطعام } الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها .
قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : { حرمنا عليهم } [ الأنعام : 146 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : { حِلاًّ } معناه : حلالاً ، و { إسرائيل } هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليس عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم؟ والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله ان شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عاقاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا : اللهم نعم ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران .

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

قوله : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } تحتمل الإشارة -بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء : أحدها : أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة ، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه ، والآخر : أن تكون الإشارة إلىستقرار التحريم في التوراة ، لأن معنى الآية : { كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [ آل عمران : 93 ] ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم ، { فمن افترى على الله الكذب } ، وزاد في المحرمات فهو الظالم ، والثالث : أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وقبل نزول التوراة ، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله ، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم ، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ، قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم ، كما فعلوا في أمر البقرة ، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا ، وقوله : دين الله يسر وقوله : بعثت بالحنيفية ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله { قل صدق الله } أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم ، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله ، وقرأ أبان بن تغلب : « قل صدق » ، بإدغام اللام في الصاد ، وكذلك : قل سيروا ، قرأها بإدغام اللام في السين ، قال أبو الفتح : علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامهما فيهما ، وقرأ جمهور الناس : « وُضع » على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله ، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول ، وقرأ عكرمة ، « وَضع » بفتح الواو والضاد ، فيحتمل أن يريد : وضع الله ، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام ، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله ، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته ، في الحج وغيره على ما روى عكرمة : أنه لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } الآية : قال اليهود : نحن على الإسلام فقرئت ، { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] قيل له : أحجهم يا محمد ، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما؟ قال أربعون سنة ، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً ، ويضعف ما قال الزجّاج : من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود ، اللهم إلا أن يكون جدده ، وأين مدة سليمان ، من مدة إبراهيم؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة ، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله : { إن أول } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى ، وقال قوم : بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض .

قال الفقيه القاضي أبو محمد : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً ، قال قتادة : ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان ، واختلف الناس في { بكة } ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء : « بكة » هي مكة ، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم ، على لغة مازن وغيرهم ، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله ، و « بكة » مزدحم الناس حيث يتباكون ، وهو المسجد وما حول البيت ، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية : « بكة » موضع البيت ، ومكة غيره من المواضع ، قال ابن القاسم : يريد القرية ، قال الطبري : ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة ، وقال قوم : « بكة » ، ما بين الجبلين ومكة ، الحرم كله ، و { مباركاً } نصب على الحال ، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال ، قوله : { وضع } والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله { ببكة } تقديره : استقر ببكة مباركاً ، وفي وصف البيت ب { هدى } مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، { وهدى } بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون { هدى } في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه .

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

الضمير في قوله : { فيه } عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون « الآيات » خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه ، وقرأ جمهور الناس : « آيات بينات » بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس : « آية بينة » على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلف عبارة المفسرين عن « الآيات البينات » فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته « آية » بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : « الآيات البينات » مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمناً ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : { ومن دخله كان آمناً } كلام آخر .
قال القاضي أبو محمد : فرفع { مقام } على قول الحسن ومجاهد على البدل من { آيات } ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن { مقام إبراهيم } .
قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم نم تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باقي في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب : [ الطويل ]
ومَوْطِىءُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ ... على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول ، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه ، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة ، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره ، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم ، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً ، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له ، وأنه يعظم ماؤها في الموسم ، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار ، ومن آياته ، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر ، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم ، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه ، وسلامة الشجر ، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها ، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله ، اجعل هذا بلداً آمناً ، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه ، ولا زاجر ، آية عظمى تقوم بها الحجة ، وهي التي فسرت بقوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد ، ومن آياته ، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله ، قال في النوادر ، وغيرها : سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم .

قال القاضي أبو محمد : هذا والله أعلم ، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له ، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر . مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العرق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال ، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال ، إلى موضع يقال له أضاة ، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتى الحديبية ، قال مالك في العتبية : والحديبية في الحرم ، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره ، أن الطير لا تعلوه ، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به ، فهو يستشفي بالبيت ، وهذا كله عندي ضعيف ، والطير تعاين تعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً ، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد ، أخصبت آفاق الأرض ، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام ، واختلف الناس في { مقام إبراهيم } ، فقال الجمهور : هو الحجر المعروف ، وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره ، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم ، وقال قوم : الحرم كله مقام إبراهيم ، والضمير في قوله : { ومن دخله } عائد على الحرم في قول من قال : مقام إبراهيم هو الحرم ، وعائد على البيت في قول الجمهور ، إذ لم يتقدم ذكر الغيره ، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن ، إذا الحرم جزء من البيت ، إذ هو بسببه ولحرمته .

واختلف الناس في معنى قوله { كان آمناً } فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم : هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم ، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار ، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى رجم ، ومن قتل قتل ، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية ، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً ، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه ، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم ، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، فأما من يقتل في الحرم ، فإنه يقام عليه الحد في الحرم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع ، فليس بآمن ، وقال يحيى بن جعدة : معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار ، وحكى النقاش عن بعض العباد قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت : يا رب إنك قلت : { ومن دخله كان آمناً } ، فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد .
وقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } الآية ، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع ، وقال مالك رحمه الله : الحج كله في كتاب الله ، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام ، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث ، وشروط وجوبه خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، واستطاعة السبيل ، والحج في اللغة ، القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عصام : « حِج البيت » بكسر الحاء ، وقرأ الباقون : « حَج البيت » قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد ، كما قيل حجة .
قال القاضي : بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة ، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له ، قال أبو علي : قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل ، ولكن كسروه فجعلوه اسماً لهذا المعنى ، كما أن غزاة كذلك ، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس .

قال القاضي : وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحِجة ، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل ، وقال الزجّاج وغيره ، « الحَج » : بفتح الحاء المصدر ، وبكسرها اسم العمل ، وقال الطبري : هما لغتان الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية .
وقوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } ، { من } في موضع خفض بدل من { الناس } ، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره : هي شرط في موضع رفع بالابتداء ، والجواب محذوف تقديره : من استطاع فعليه الحج ، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله : { ومن كفر } ، وقال بعض البصريين : { من } رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو { حج البيت } ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول ، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراحلة ، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل : يا رسول الله ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة ، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً » ، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي عليه السلام ، فقال : ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة .
قال القاضي : وضعّف قوم هذا الحديث ، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره ، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم ، وقال بعض البغداديين ، هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشياً .
قال القاضي : والذي أقول : إن هذه الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيراً ، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث ، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة ، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة ، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب ، وقد ذكره الله تعالى في قوله : { يأتوك رجالاً } [ الحج : 27 ] وكذلك أيضاً معنى الحديث : الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه ، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه ، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع ، فمقصد الحديث : أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار ، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر ، وإن كان الحج غير واجب عليه ، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه ، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى ، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك ، بل إذا كان مستطعياً غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج ، قال ذلك ابن الزبير والضحاك ، وقال الحسن : من وجد شيئاً يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً ، وقال عكرمة : استطاعة السبيل الصحة ، وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه ، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه ، في سماع أشهب من العتبية ، وفي كتاب محمد ، وقد قيل له : أتقول إن السبيل الزاد والراحلة؟ فقال : لا والله ، قد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر على مسير ، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً ، وربَّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى .

قال القاضي : وهذا أنبل كلام ، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضاً ، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد ، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام ، والاستطاعة - متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره ، فإذا فرضنا رجلاً مستطيعاً للسفر ماشياً معتاداً لذلك ، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة ، فالحج عليه واجب دون زاد ولا رحلة ، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال ، وكان الشافعي يقول : الاستطاعة على وجهين : بنفسه أولاً ، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك .
واختلف الناس هل وجوب الحج علىلفور أو على التراخي؟ على قولين ، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين ، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه : لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين ، فهذا على التراخي ، وقال في كتاب ابن المواز : لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة ، فليخرج وليدعهما ، فهذا علىلفور ، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج : لا تخرج في أيام عدتها ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي : فجعله على التراخي .
قال القاضي : وهذا استقراء فيه نظر ، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائياً وذاهباً ممن ليست تلك عادته في إقامته ، فروى عنه ابن وهب أنه قال : لا بأس بذلك ، قيل له فإن مات في الطريق قال : حسابه على الله ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : لا أرى اللذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو ، ويسألوا وإني لأكره ذلك ، لقول الله سبحانه ، { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } [ التوبة : 91 ] قال ابن القاسم : وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة ، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بداً ، وقال في كتاب محمد وغيره : قال الله تعالى :

{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } [ الحج : 27 ] وما أسمع للبحر ذكراً .
قال الفقيه القاضي : وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر ، وليس تقتضي الآية سقوط البحر ، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ناس من أمتي عرضوا عليَّ ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله » .
قال القاضي أبو محمد : ولا فرق بين الغزو والحج ، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك ، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشياً فتمشي وتعجز في بعض الطريق : إنها تعود ثانية ، قال : والرجال والنساء في ذلك سواء ، فعلى هذا ، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لان حجة الفريضة أكد من النذر ، وقال في كتاب محمد : لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه ، لأن مشيهن عورة ، إلا أن يكون المكان القريب من مكة .
قال القاضي : وهذا ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة ، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته ، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه : المحرم من السبيل ، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم .
قال القاضي : وهذا وقوف مع لفظ الحديث ، وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة ثقة مسلمة ، وقال ابن سيرين : تخرج مع رجل ثقة من المسلمين ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل .
قال القاضي : وهذه الأقوال راعت معنى الحديث : وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها ، واضطرب قول الشافعي في ذلك ، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة ، فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس ، وقال عبد الوهاب ، إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض ، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط ، وعلى هذا لمنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار ، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة ، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان .
والسبيل - تذكر وتؤنث ، والأغلب والأفصح التأنيث ، قال الله تعالى : { تبغونها عوجاً } [ آل عمران : 99 ] وقال : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ومن التذكير قول كعب بن مالك .
قضى يوم بدر أن تلاقي معشراً ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائز

والضمير في { إليه } ، عائد على البيت ، ويحتمل أن يعود على الحج ، وقوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس : المعنى ، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه ، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية ، فقال له رجل من هذيل : يا رسول الله من تركه كفر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذه الحديث ابن عباس ومجاهد أيضاً ، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة ، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية ، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول ، وقال ابن زيد : معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت ، وقال السدي وجماعة من أهل العلم : معنى الآية : ومن كفر أبن وجد ما يحج به ثم لم يحج ، قال السدي : من كان بهذه الحال فهو كافر .
قال القاضي أبو محمد : فهذا كفر معصية ، كقوله عليه السلام ، من ترك الصلاة فقد كفر وقوله : لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، على أظهر محتملات هذا الحديث . وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة ، ومعنى قوله تعالى : { غني عن العالمين } الوعيد لمن كفر ، والقصد بالكلام ، فإن الله غني عنهم ، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى ، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا رَبَّ سواه .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

هذه الايات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم و { الكتاب } التوراة ، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم ، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون ، و « آيات الله » يحتمل أن يريد بها القرآن ، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { الله شهيد على ما تعملون } وعيد محض : أي يجازيكم به ويعاقبكم ، قال الطبري : هاتان الآيتان قوله ، { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون } وما بعدهما ، إلى قوله { أولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] ، نزلت بسبب رجل من يهود ، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج ، قال ابن إسحاق : حدثني الثقة عن زيد بن أسلم ، قال شاش ابن قيس اليهودي ، وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، والحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، وهم مجلس يتحدثون ، فغاظه ما رأى من جماعتهم ، وصلاح ذات بينهم ، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً من يهود ، فقال أمد إليهم ، واجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس ين قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما : لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان : وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، يريدون الحرة ، فخرجوا إليها ، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضاً من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات ، وقال الحسن وقتادة والسدي : إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام ، بأن يقولوا لهم ، إن محمداً ليس بالموصوف في كتابنا .
قال الفقيه الأمام : ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم ، فنزلت الآيات في جميع ذلك و « صد » معناه : أعرض عن الشيء وانصرف عنه ، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد ، تقول : صددت عن كذا ، وصددت غيري عنه ، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « تُصِدون » بضم التاء وكسر الصاد ، وهذا هو الفعل الواقف ، نقل بالهمزة فعدي ، و { سبيل الله } في هذه الآية ، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته ، و { من } مفعولة ب { تصدون } والضمير في { تبغونها } عائد على السبيل ، ومعنى « تبغون » على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما : تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج ، أي الاعوجاج والانفساد ، تقول العرب : أبغني كذا بألف موصولة ، بمعنى اطلبه لي ، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي ، قطعوا الألف مفتوحة وقيل : إن تبغون هنا ، من البغي الذي هو التعدي ، أي تبغون عليها ، ويكون ، { عوجاً } على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في « تبغون » أي « عوجاً » منكم وعدم استقامة ، والعوج بكسر العين : ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام ، والعَوج بفتح العين ، ما كان في الأجرام ، كالجدار والعصا ونحو ذلك ، قال ابن قتيبة : والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها : عِوج بكسر العين ، ومنه قول الله تعالى : { لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [ طه : 107 ] قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد ، وقوله تعالى : { وأنتم شهداء } ، يريد جمع شاهد ، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه ، وباقي الآية وعيد .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27