كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْغَنِيِّ الْمُغْنِي الْكَرِيمِ الْفَتَّاحِ .
الَّذِي شَرَحَ صُدُورَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ .
بِسُلُوكِ الْمِنْهَاجِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَنَوَّرَ بِهِمْ سُبُلَ الْفَلَاحِ .
وَأَلْبَسَهُمْ حُلَلَ الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَلْوِيَةَ الصَّلَاحِ .
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ أَشْرَقَتْ كَوَاكِبُ مَجْدِهِ وَسَعْدِهِ فِي سَمَاءِ الْإِسْعَادِ ، وَكَانَ هَادِيًا مَهْدِيًّا إمَامًا لِأَئِمَّةِ قِبْلَةِ الْإِرْشَادِ ، الْمَحْمُودِ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ .
الْمَسْعُودِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، الْقَائِلِ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } : أَيْ وَلَمْ يُوَرِّثُوا الْمَالَ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ بِهِمْ يُقْتَدَى فِي الْأَعْمَالِ ، مَا أَزْهَرَتْ وَتَلَأْلَأَتْ فِي سَمَاءِ الصَّحَائِفِ ، وَلَاحَتْ أَنْوَارُ نُجُومِ الْفَضَائِلِ الْفَرَائِدِ ، وَأَزْهَرَتْ رَوْضَةُ اللَّطَائِفِ ، وَفَاحَتْ أَنْوَارُ نُجُومِ الْمَسَائِلِ وَالْفَوَائِدِ .
أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لِحَدِّهَا ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مِنَنِهِ الَّتِي تَقْصُرُ الْأَلْسُنُ عَنْ حَصْرِهَا وَعَدِّهَا .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى إخْوَانِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ ، وَآلِ كُلٍّ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ ، وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَبَعْدُ : فَيَقُولُ فَقِيرُ رَحْمَةِ رَبِّهِ الْقَرِيبِ ( مُحَمَّدٌ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ ) لَمَّا يَسَّرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ وَالْفَرَاغُ مِنْ شَرْحِي عَلَى التَّنْبِيهِ ، لِلْعَلَّامَةِ الْقُطْبِ الرَّبَّانِيِّ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُهِمَّاتِ الشُّرُوحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ ، وَفَوَائِدِهَا وَنَفَائِسِهَا الْمُفْرَدَاتِ ، حَمِدْتُ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى إتْمَامِهِ ، وَسَأَلْتُهُ الْمَزِيدَ مِنْ

فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ .
ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنْ أَجْعَلَ مِثْلَهُ عَلَى مِنْهَاجِ الْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي : مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ ، فَتَرَدَّدْت فِي ذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ ، لِأَنِّي أَعْرِفُ أَنِّي لَسْتُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الشَّأْنِ ، حَتَّى يَسَّرَ اللَّهُ لِي زِيَارَةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ ، وَالْآلِ وَالصَّحْبِ أَجْمَعِينَ ، فِي أَوَّلِ عَامِ تِسْعِمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ .
اسْتَخَرْت اللَّهَ فِي حَضْرَتِهِ ، بَعْدَ أَنْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ فِي رَوْضَتِهِ ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُيَسِّرَ لِي أَمْرِي ، فَشَرَحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِذَلِكَ صَدْرِي .
فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ سَفَرِي ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ الِانْشِرَاحُ مَعِي ، شَرَعْتُ فِي شَرْحٍ يُوَضِّحُ مِنْ مَعَانِي مَبَانِي مِنْهَاجِ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ مَا خَفَا ، وَيُفْصِحُ عَنْ مَفْهُومِ مَنْطُوقِهِ بِأَلْفَاظٍ تُذْهِبُ عَنْ الْفَهْمِ جَفَاءً ، وَتُبْرِزُ الْمَكْنُونَ مِنْ جَوَاهِرِهِ ، وَتُظْهِرُ الْمُضْمَرَ فِي سَرَائِرِهِ ، خَالٍ عَنْ الْحَشْوِ وَالتَّطْوِيلِ ، حَاوٍ لِلدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ ، مُبَيِّنٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْأَصْحَابِ ، عُمْدَةٌ لِلْمُفْتِي وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَحَرَّى الصَّوَابَ ، مُهَذَّبُ الْفُصُولِ ، مُحَقَّقُ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ ، مُتَوَسِّطُ الْحَجْمِ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ، لَا تَفْرِيطُهَا وَلَا إفْرَاطُهَا .
هَذَا ، وَلِسَانُ التَّقْصِيرِ فِي طُولِ مَدْحِهِ قَصِيرٌ ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ .
وَلَمَّا كَانَ مُطَالِعُهُ بِمُطَالَعَتِهِ يُذْهِبُ عَنْهُ تَعَبًا وَعَنَاءً ، وَيَنْفِي عَنْهُ فَقْرَ الْحَاجَةِ وَيَجْلِبُ لَهُ رَاحَةً وَغِنًى .
سَمَّيْتُهُ : مُغْنِيَ الْمُحْتَاجِ إلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْمِنْهَاجِ ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَهُ عَمَلًا مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ وَالْقَبُولِ وَالْإِقْبَالِ ، وَفِعْلًا مُتَقَبَّلًا مَرْضِيًّا زَكِيًّا يُعَدُّ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَيُنْشَرُ

ذِكْرُهُ كَمَا نُشِرَ أَصْلُهُ فِي كُلِّ نَادٍ ، وَيَعُمُّ نَفْعُهُ لِكُلِّ عَاكِفٍ وَبَادٍ ، وَيُبَلِّغُنِي وَأَصْحَابِي وَأَحْبَابِي وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَلَنَا ، وَيَخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ قَوْلَنَا وَعَمَلَنَا ، إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .

وَقَدْ تَلَقَّيْت الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ رِوَايَةً وَدِرَايَةً : عَنْ أَئِمَّةٍ ظَهَرَتْ وَبَهَرَتْ مَفَاخِرُهُمْ ، وَاشْتُهِرَتْ وَانْتَشَرَتْ مَآثِرُهُمْ ، جَمَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ ، بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحَابَتِهِ ، وَحَيْثُ أَقُولُ شَيْخُنَا فَهُوَ الْمُخْلِصُ الَّذِي طَارَ صِيتُهُ فِي الْآفَاقِ ، وَكَانَ تَقِيًّا نَقِيًّا زَكِيًّا ، وَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَبِتَلَامِذَتِهِ ، ذُو الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا .
أَوْ شَيْخِي فَهُوَ فَرِيدُ دَهْرِهِ ، وَوَحِيدُ عَصْرِهِ ، سُلْطَانُ الْعُلَمَاءِ ، وَلِسَانُ الْمُتَكَلِّمِينَ ، عُمْدَةُ الْمُعَلِّمِينَ ، وَهِدَايَةُ الْمُتَعَلِّمِينَ ، حَسَنَةُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِيِ شِهَابُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الشَّهِيرُ بِالرَّمْلِيِّ .
أَوْ الشَّارِحُ : فَالْجَلَالُ الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ الْمَحَلِّيُّ .
أَوْ الشَّيْخَانِ أَوْ قَالَا أَوْ نَقَلَا : فَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَحَيْثُ أُطْلِقُ التَّرْجِيحُ فَهُوَ فِي كَلَامِهِمَا غَالِبًا ، وَإِلَّا عَزَوْتُهُ لِقَائِلِهِ .
وَأَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ ، وَمِنْ أَجْلِهِ ، وَأَنْ يُعِيذَنَا وَأَئِمَّةَ الدِّينِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيْطَانِ وَخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى أَسْتَعِينُ فَهُوَ نِعْمَ الْمُعِينُ .

قَالَ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) أَيْ أَبْتَدِئُ أَوْ أَفْتَتِحُ أَوْ أُؤَلِّفُ ، وَهَذَا أَوْلَى ، إذْ كُلُّ فَاعِلٍ يَبْدَأُ فِي فِعْلِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ يُضْمِرُ مَا جَعَلَ التَّسْمِيَةَ مَبْدَأً لَهُ كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا حَلَّ أَوْ ارْتَحَلَ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ أَحُلُّ ، أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْحَلُ ، وَيُسَمَّى فِعْلَ الشُّرُوعِ : أَيْ الْفِعْلَ الَّذِي يَشْرَعُ فِيهِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ مَصْدَرًا كَابْتِدَائِي ، وَلَا يَضُرُّ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهِمَا ، وَأَنْ يُقَدَّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا ، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِعْلًا وَمُؤَخَّرًا أَوْلَى كَمَا فِي { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَلِأَنَّهُ - تَعَالَى - مُقَدَّمٌ ذَاتًا ؛ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَقُدِّمَ ذِكْرًا .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فَقُدِّمَ الْفِعْلُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَعْلِيمِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ أَهَمَّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَارِضِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ ، وَذَكَرْتُ أَجْوِبَةً غَيْرَ ذَلِكَ فِي مُقَدِّمَتِي عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ ، وَقِيلَ : إنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ فَاسْمٌ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ عَكْسُهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَصْلِيٌّ ، وَالْبَاءُ هُنَا لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ .
فَإِنْ قِيلَ : مِنْ حَقِّ حُرُوفِ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ أَنْ تُبْنَى عَلَى الْفَتْحَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ السُّكُونِ نَحْوَ وَاوِ الْعَطْفِ وَفَائِهِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إنَّمَا كُسِرَتْ لِلُزُومِهَا الْحَرْفِيَّةَ وَالْجَرَّ وَلِتُشَابِهَ حَرَكَتُهَا عَمَلَهَا ، وَالِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ

، وَهُوَ الْعُلُوُّ فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْأَعْجَازِ كَيَدٍ وَدَمٍ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، بُنِيَتْ أَوَائِلُهَا عَلَى السُّكُونِ ، وَأُدْخِلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَعَذُّرِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ .
وَقِيلَ : مِنْ الْوَسْمِ ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ فَوَزْنُهُ عَلَى الْأَوَّلِ افْعِ مَحْذُوفُ اللَّامِ ، وَعَلَى الثَّانِي اُعْلُ مَحْذُوفُ الْفَاءِ ، وَفِيهِ عَشْرُ لُغَاتٍ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي بَيْتٍ فَقَالَ : [ الطَّوِيلُ ] سُمٌ وَسَمَا وَاسْمٌ بِتَثْلِيثِ أَوَّلَ لَهُنَّ سَمَاءٌ عَاشِرٌ ثَمَّتَ انْجَلَى وَالِاسْمُ إنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ فَغَيْرُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنْ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ غَيْرِ قَارَّةٍ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالْأَعْصَارِ ، وَيَتَعَدَّدُ تَارَةً ، وَيَتَّحِدُ أُخْرَى ، وَالْمُسَمَّى لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أُرِيدُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ فَهُوَ الْمُسَمَّى لَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ كَمَا هُوَ رَأْيُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ انْقَسَمَ انْقِسَامَ الصِّفَةِ عِنْدَهُ إلَى مَا هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى كَالْوَاحِدِ وَالْقَدِيمِ ، وَإِلَى مَا هُوَ غَيْرُهُ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ ، وَإِلَى مَا لَيْسَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ : أَيْ فَإِنَّهُمَا زَائِدَانِ عَلَى الذَّاتِ ، وَلَيْسَا غَيْرَ الذَّاتِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ مَا يَنْفَكُّ عَنْ الذَّاتِ وَهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ .
وَاَللَّهُ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ سِوَاهُ ، تَسَمَّى بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى آدَمَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ .
قَالَ تَعَالَى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } .
أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى اللَّهَ غَيْرَ اللَّهِ ، وَأَصْلُهُ إلَهٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ : ( الْعِلَاوَةِ وَالتَّذْنِيبِ ) كَإِمَامٍ ثُمَّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ ، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إلَى اللَّامِ ، فَصَارَ الِلَاهَ بِلَامَيْنِ مُتَحَرِّكَيْنِ ثُمَّ سُكِّنَتْ

الْأُولَى وَأُدْغِمَتْ فِي الثَّانِيَةِ لِلتَّسْهِيلِ ا هـ .
وَقِيلَ : حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ ، وَعُوِّضَ عَنْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ ثُمَّ جُعِلَ عَلَمًا ، وَالْإِلَهُ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ كَمَا أَنَّ النَّجْمَ اسْمٌ لِكُلِّ كَوْكَبٍ ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الثُّرَيَّا ، وَهَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ أَوْ مُرْتَجَلٌ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنْ شَيْءٍ بَلْ وُضِعَ عَلَمًا ابْتِدَاءً ، فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَا يُحِيطُ بِهَا شَيْءٌ ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى شَيْءٍ فَكَذَلِكَ اسْمُهُ - تَعَالَى - وَهُوَ عَرَبِيٌّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فِي أَلْفَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْضِعًا ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، قَالَ : وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي الْبَقَرَةِ ، وَآلِ عِمْرَانَ ، وَطَهَ ، وَ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ بُنِيَتَا لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَحِمَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ ، أَوْ بِجَعْلِهِ لَازِمًا ، وَنَقْلِهِ إلَى فَعُلَ بِالضَّمِّ .
وَ الرَّحْمَةُ لُغَةً : رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ ، فَالتَّفَضُّلُ غَايَتُهَا ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَأْخُوذَةُ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تُؤْخَذُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي تَكُونُ انْفِعَالَاتٍ ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - إرَادَةُ إيصَالِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ أَوْ نَفْسُ إيصَالِ ذَلِكَ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ عَلَى الْأَوَّلِ وَمِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ عَلَى الثَّانِي ، وَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَطَعَ بِالتَّخْفِيفِ وَقَطَّعَ بِالتَّشْدِيدِ ، فَإِنْ قِيلَ : حَذِرٌ أَبْلَغُ مِنْ حَاذِرٍ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ ، وَبِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ

الْمُتَلَاقِيَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ مُتَّحِدَيْ النَّوْعِ فِي الْمَعْنَى كَغَرَثٍ وَغَرْثَانَ لَا كَحَذِرٍ وَحَاذِرٍ لِلِاخْتِلَافِ ، وَقُدِّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ ذَاتٍ ، وَهُمَا اسْمَا صِفَةٍ ، وَالذَّاتُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الصِّفَةِ ، وَالرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ ، إذْ لَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِمْ : عَالِمٌ نِحْرِيرٌ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ الْبَالِغُ فِي الرَّحْمَةِ غَايَتَهَا ، وَذَلِكَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلِذَلِكَ رَجَّحَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ عَلَمٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى جَلَائِلِ النِّعَمِ وَأُصُولِهَا ذَكَرَ الرَّحِيمَ ، كَالتَّابِعِ وَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي بَلْ مِنْ بَابِ التَّعْمِيمِ وَالتَّكْمِيلِ وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ .

فَائِدَةٌ : قَالَ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : قِيلَ : الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الدُّنْيَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ : صُحُفُ شِيثٍ سِتُّونَ ، وَصُحُفُ إبْرَاهِيمَ ثَلَاثُونَ ، وَصُحُفُ مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَةٌ ، وَالتَّوْرَاةُ لِمُوسَى ، وَالْإِنْجِيلُ لِعِيسَى ، وَالزَّبُورُ لِدَاوُدَ ، وَالْفُرْقَانُ لِمُحَمَّدٍ ، وَمَعَانِي كُلِّ الْكُتُبِ مَجْمُوعَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعَانِي كُلِّ الْقُرْآنِ مَجْمُوعَةٌ فِي الْفَاتِحَةِ ، وَمَعَانِي الْفَاتِحَةِ مَجْمُوعَةٌ فِي الْبَسْمَلَةِ ، وَمَعَانِي الْبَسْمَلَةِ مَجْمُوعَةٌ فِي بَائِهَا ، وَمَعْنَاهَا : بِي كَانَ مَا كَانَ ، وَبِي يَكُونُ مَا يَكُونُ ، زَادَ بَعْضُهُمْ : وَمَعَانِي الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْبَرِّ الْجَوَادِ ، الَّذِي جَلَّتْ نِعَمُهُ عَنْ الْإِحْصَاءِ بِالْأَعْدَادِ ، الْمَانُّ بِاللُّطْفِ وَالْإِرْشَادِ ، الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، الْمُوَفِّقُ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ مَنْ لَطَفَ بِهِ وَاخْتَارَهُ مِنْ الْعِبَادِ .
أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ حَمْدٍ وَأَكْمَلَهُ ، وَأَزْكَاهُ وَأَشْمَلَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْغَفَّارُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَزَادَهُ فَضْلًا وَشَرَفًا لَدَيْهِ .
( أَمَّا بَعْدُ ) ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ ، وَأَوْلَى مَا أُنْفِقَتْ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَوْقَاتِ ، وَقَدْ أَكْثَرَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ التَّصْنِيفِ مِنْ الْمَبْسُوطَاتِ وَالْمُخْتَصَرَاتِ ، وَأَتْقَنَ مُخْتَصَرَ " الْمُحَرَّرِ " لِلْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّافِعِيِّ .
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِي التَّحْقِيقَاتِ ، وَهُوَ كَثِيرُ الْفَوَائِدِ ، عُمْدَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ ، مُعْتَمَدٌ لِلْمُفْتِي وَغَيْرِهِ مِنْ أُولِي الرَّغَبَاتِ ، وَقَدْ الْتَزَمَ مُصَنِّفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَنُصَّ عَلَى مَا صَحَّحَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ وَوَفَّى بِمَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أَوْ أَهَمِّ الْمَطْلُوبَاتِ لَكِنْ فِي حَجْمِهِ كِبَرٌ يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَصْرِ إلَّا بَعْضَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ ، فَرَأَيْت اخْتِصَارَهُ فِي نَحْوِ نِصْفِ حَجْمِهِ ، لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ مَعَ مَا أُضَمِّنُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النَّفَائِسِ الْمُسْتَجِدَّاتِ : مِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى قُيُودٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ هِيَ مِنْ الْأَصْلِ مَحْذُوفَاتٌ ، وَمِنْهَا مَوَاضِعُ يَسِيرَةٌ ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ فِي الْمَذْهَبِ كَمَا سَتَرَاهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاضِحَاتٍ ، وَمِنْهَا إبْدَالُ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِهِ غَرِيبًا ، أَوْ مُوهِمًا خِلَافَ الصَّوَابِ بِأَوْضَحَ وَأَخْصَرَ مِنْهُ بِعِبَارَاتٍ جَلِيَّاتٍ ، وَمِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَالطَّرِيقَيْنِ وَالنَّصِّ ،

وَمَرَاتِبُ الْخِلَافِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ .
فَحَيْثُ أَقُولُ : فِي الْأَظْهَرِ أَوْ الْمَشْهُورِ فَمِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ ، فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ قُلْت الْأَظْهَرُ وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ ، وَحَيْثُ أَقُولُ الْأَصَحُّ أَوْ الصَّحِيحُ فَمِنْ الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْأَوْجُهِ ، فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ قُلْت : الْأَصَحُّ وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ ، وَحَيْثُ أَقُولُ : الْمَذْهَبُ فَمِنْ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ الطُّرُقِ ، وَحَيْثُ أَقُولُ : النَّصُّ فَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيَكُونُ هُنَاكَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَوْ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ ، وَحَيْثُ أَقُولُ : الْجَدِيدُ فَالْقَدِيمُ خِلَافُهُ ، أَوْ الْقَدِيمُ ، أَوْ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ فَالْجَدِيدُ خِلَافُهُ ، وَحَيْثُ أَقُولُ : وَقِيلَ كَذَا فَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ أَوْ الْأَصَحُّ خِلَافُهُ ، وَحَيْثُ أَقُولُ : وَفِي قَوْلٍ كَذَا فَالرَّاجِعُ خِلَافُهُ .
وَمِنْهَا مَسَائِلُ نَفِيسَةٌ أَضُمُّهَا إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَلَّى الْكِتَابُ مِنْهَا وَأَقُولُ فِي أَوَّلِهَا قُلْت ، وَفِي آخِرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا وَجَدْتَهُ مِنْ زِيَادَةِ لَفْظَةٍ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا فِي الْمُحَرَّرِ فَاعْتَمِدْهَا فَلَا بُدَّ مِنْهَا ، وَكَذَا مَا وَجَدْتَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فَاعْتَمِدْهُ فَإِنِّي حَقَّقْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ ، وَقَدْ أُقَدِّمُ بَعْضَ مَسَائِلِ الْفَصْلِ لِمُنَاسَبَةٍ أَوْ اخْتِصَارٍ ، وَرُبَّمَا قَدَّمْت فَصْلًا لِلْمُنَاسَبَةِ ، وَأَرْجُو إنْ تَمَّ هَذَا الْمُخْتَصَرُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْحِ لِلْمُحَرَّرِ ، فَإِنِّي لَا أَحْذِفُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَلَا مِنْ الْخِلَافِ وَلَوْ كَانَ وَاهِيًا مَعَ مَا أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ النَّفَائِسِ وَقَدْ شَرَعْت فِي جَمْعِ جُزْءٍ لَطِيفٍ عَلَى صُورَةِ الشَّرْحِ لِدَقَائِقِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ، وَمَقْصُودِي بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْ عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ ، وَفِي إلْحَاقِ قَيْدٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ شَرْطٍ لِلْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا

بُدَّ مِنْهَا .
وَعَلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ اعْتِمَادِي ، وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي وَاسْتِنَادِي ، وَأَسْأَلُهُ النَّفْعَ بِهِ لِي وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَرِضْوَانَهُ عَنِّي ، وَعَنْ أَحِبَّائِي وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ .

( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) بَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ثُمَّ بِالْحَمْدَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَعَمَلًا بِخَبَرِ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ - أَيْ حَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ - لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ } أَيْ نَاقِصٌ غَيْرُ تَامٍّ ، فَيَكُونُ قَلِيلَ الْبَرَكَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد { بِالْحَمْدُ لِلَّهِ } وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَغَيْرِهِ بَيْنَ الِابْتِدَاءَيْنِ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ ، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا ، إذْ الِابْتِدَاءُ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ ، فَالْحَقِيقِيُّ حَصَلَ بِالْبَسْمَلَةِ ، وَالْإِضَافِيُّ بِالْحَمْدَلَةِ ، أَوْ أَنَّ الِابْتِدَاءَ لَيْسَ حَقِيقِيًّا بَلْ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ الْأَخْذِ فِي التَّأْلِيفِ إلَى الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ ، فَالْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ مَبْدَؤُهَا الْخُطْبَةُ بِتَمَامِهَا ، وَ الْحَمْدُ اللَّفْظِيُّ لُغَةً الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ : أَيْ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَتَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ ، وَهِيَ النِّعَمُ الْقَاصِرَةُ أَمْ بِالْفَوَاضِلِ ، وَهِيَ النِّعَمُ الْمُتَعَدِّيَةُ ، فَدَخَلَ فِي الثَّنَاءِ الْحَمْدُ وَغَيْرُهُ ، وَخَرَجَ بِاللِّسَانِ الثَّنَاءُ بِغَيْرِهِ كَالْحَمْدِ النَّفْسِيِّ ، وَبِالْجَمِيلِ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى غَيْرِ الْجَمِيلِ ، إنْ قُلْنَا بِرَأْيِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الثَّنَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَإِنْ قُلْنَا بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَيْرِ فَقَطْ ، فَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَحْقِيقُ الْمَاهِيَّةِ أَوْ دَفْعُ تَوَهُّمِ إرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ كَالشَّافِعِيِّ ، وَبِالِاخْتِيَارِيِّ الْمَدْحُ فَإِنَّهُ يَعُمُّ الِاخْتِيَارِيَّ وَغَيْرَهُ ، تَقُولُ : مَدَحْت اللُّؤْلُؤَةَ عَلَى حُسْنِهَا دُونَ حَمِدْتُهَا ، وَعَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ مُخْرِجٌ لِمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ نَحْوُ { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَمُتَنَاوِلٌ لِلظَّاهِرِ

وَالْبَاطِنِ ؛ إذْ لَوْ تَجَرَّدَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ عَنْ مُطَابَقَةِ الِاعْتِقَادِ أَوْ خَالَفَ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ لَمْ يَكُنْ حَمْدًا بَلْ تَهَكُّمٌ أَوْ تَمْلِيحٌ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَوَارِحِ وَالْجَنَانِ فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُمَا اُعْتُبِرَا فِيهِ شَرْطًا لَا شَطْرًا .
وَعُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذِكْرًا بِاللِّسَانِ أَمْ اعْتِقَادًا وَمَحَبَّةً بِالْجَنَانِ أَمْ عَمَلًا وَخِدْمَةً بِالْأَرْكَانِ كَمَا قِيلَ : [ الطَّوِيلُ ] أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءَ مِنِّي ثَلَاثَةٌ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرُ الْمُحَجَّبُ مَوْرِدُ اللُّغَوِيِّ هُوَ اللِّسَانُ وَحْدَهُ ، وَمُتَعَلَّقُهُ يَعُمُّ النِّعْمَةَ وَغَيْرَهَا ، وَمَوْرِدُ الْعُرْفِيِّ يَعُمُّ اللِّسَانَ وَغَيْرَهُ ، وَمُتَعَلَّقُهُ تَكُونُ النِّعْمَةَ وَحْدَهَا ، فَاللُّغَوِيُّ أَعَمُّ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلَّقِ ، وَأَخَصُّ بِاعْتِبَارِ الْمَوْرِدِ ، وَالْعُرْفِيُّ بِالْعَكْسِ .
وَالشُّكْرُ لُغَةً هُوَ الْحَمْدُ عُرْفًا ، وَعُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ ، وَهَذَا يَكُونُ لِمَنْ حَفَّتْهُ الْعِنَايَةُ الرَّبَّانِيَّةُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } .
وَالْمَدْحُ لُغَةً : الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ مُطْلَقًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ ، وَعُرْفًا مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَمْدُوحِ بِنَوْعٍ مِنْ الْفَضَائِلِ ، فَبَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَبَيْنَ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ .
وَالشُّكْرُ عُرْفًا أَخَصُّ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ وَالشُّكْرِ لُغَةً ، وَجُمْلَةُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً شَرْعًا لِلْإِنْشَاءِ ، وَالْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ ، سَوَاءٌ

أَجَعَلْتَ فِيهِ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَمْ لِلْجِنْسِ كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ لِأَنَّ لَامَ لِلَّهِ لِلِاخْتِصَاصِ فَلَا فَرْدَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ - تَعَالَى - وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِتَحَقُّقِ الْجِنْسِ فِي الْفَرْدِ الثَّابِتِ لِغَيْرِهِ أَمْ لِلْعَهْدِ كَاَلَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى : { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَأَجَازَهُ الْوَاحِدِيُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَمْدَ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ ، وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ ، وَالْعِبْرَةُ بِحَمْدِ مَنْ ذَكَرَ فَلَا فَرْدَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ ، وَأَوْلَى الثَّلَاثَةِ الْجِنْسُ .

( الْبَرِّ ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ : أَيْ الْمُحْسِنِ ، وَقِيلَ الصَّادِقُ فِيمَا وَعَدَ ، وَقِيلَ خَالِقُ الْبِرِّ بِكَسْرِ الْبَاءِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ ، وَقِيلَ : اللَّطِيفُ ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي إذَا عُبِدَ أَثَابَ وَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ ، وَقِيلَ هُوَ الْعَطُوفُ عَلَى عِبَادِهِ بِبِرِّهِ وَلُطْفِهِ ( الْجَوَادِ ) بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ : أَيْ الْوَاسِعِ الْعَطَاءِ .
وَقِيلَ : الْمُتَفَضِّلُ بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا الْمُتَكَفِّلُ لِلْأُمَمِ بِأَرْزَاقِهَا .
وَقِيلَ : الْكَثِيرُ الْجُودِ : أَيْ الْعَطَاءِ ، وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا ذَكَرَ فِيهِ عَنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ : { وَذَلِكَ أَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ } وَيُجْمَعُ عَلَى : أَجْوَادٍ وَأَجَاوِيدَ ، وَجُودٍ ( الَّذِي جَلَّتْ ) أَيْ عَظُمَتْ ، وَالْجَلِيلُ : الْعَظِيمُ ( نِعَمُهُ ) بِمَعْنَى إنْعَامِهِ : أَيْ إحْسَانِهِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نِعْمَتُهُ بِالْإِفْرَادِ ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } وَأَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى ، وَالنِّعْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْإِحْسَانُ ، وَبِفَتْحِ النُّونِ التَّنَعُّمُ ، وَبِضَمِّهَا الْمَسَرَّةُ ( عَنْ الْإِحْصَاءِ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ الضَّبْطِ وَالْإِحَاطَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } ( بِالْأَعْدَادِ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ عَدَدٍ : أَيْ نِعَمُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُحْصِيهَا عَدَدٌ لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْأَعْدَادُ جَمْعُ قِلَّةٍ ، وَالشَّيْءُ لَا يَضْبِطُهُ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ ، وَيَضْبِطُهُ الْكَثِيرُ ؛ وَلِذَا قِيلَ : لَوْ عَبَّرَ بِالتَّعْدَادِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ عَدَّ لَكَانَ أَوْلَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الْعُمُومَ ( الْمَانِّ ) أَيْ الْمُنْعِمِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وُجُوبًا عَلَيْهِ ، وَقِيلَ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ ، وَالْحَنَّانُ هُوَ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ، وَالْمَنُّ وَالْمِنَّةُ يُطْلَقَانِ عَلَى

النِّعْمَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ ، وَيُطْلَقَانِ عَلَى تَعْدَادِ النِّعَمِ ، تَقُولُ : فَعَلْتُ مَعَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ تَعَالَى : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } وَالْمَانُّ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - صَحِيحَانِ ؛ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ ذَمًّا ( بِاللُّطْفِ ) وَهُوَ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الطَّاءِ : أَيْ الرَّأْفَةِ وَالرِّفْقِ ، وَهُوَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ بِأَنْ يَخْلُقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَفَتْحُهُمَا لُغَةٌ فِيهِ .

فَائِدَةٌ : قَالَ السُّهَيْلِيُّ : لَمَّا جَاءَ الْبَشِيرُ إلَى يَعْقُوبَ أَعْطَاهُ فِي الْبِشَارَةِ كَلِمَاتٍ كَانَ يَرْوِيهَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ : يَا لَطِيفًا فَوْقَ كُلِّ لَطِيفٍ اُلْطُفْ بِي فِي أُمُورِي كُلِّهَا كَمَا أُحِبُّ ، وَرَضِّنِي فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي ( وَالْإِرْشَادِ ) مَصْدَرُ أَرْشَدَهُ : أَيْ وَفَّقَهُ وَهَدَاهُ ( الْهَادِي ) أَيْ الدَّالِّ ( إلَى سَبِيلِ ) أَيْ طَرِيقِ ( الرَّشَادِ ) أَيْ الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةِ ، وَهُوَ الرُّشْدُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَبِفَتْحِهِمَا نَقِيضُ الْغَيِّ ( الْمُوَفِّقِ ) أَيْ الْمُقَدِّرِ ( لِلتَّفَقُّهِ ) أَيْ التَّفَهُّمِ ( فِي الدِّينِ ) أَيْ الشَّرِيعَةِ ، وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الْأَحْكَامِ ( مَنْ لَطَفَ بِهِ ) أَيْ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ ( وَاخْتَارَهُ ) أَيْ اصْطَفَاهُ لَهُ ( مِنْ الْعِبَادِ ) أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } أَيْ وَيُلْهِمْهُ الْعَمَلَ بِهِ .
وَفِي الْإِحْيَاءِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَلِيلٌ مِنْ التَّوْفِيقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " الْعَقْلُ " بَدَلَ الْعِلْمِ .
وَلَمَّا كَانَ التَّوْفِيقُ عَزِيزًا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَ { إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } وَ { إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } .
قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : وَ التَّوْفِيقُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُتَعَلِّمِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : شِدَّةُ الْعِنَايَةِ ، وَمُعَلِّمٌ ذُو نَصِيحَةٍ ، وَذَكَاءُ الْقَرِيحَةِ ، وَاسْتِوَاءُ الطَّبِيعَةِ : أَيْ خُلُوُّهَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَالتَّفَقُّهُ أَخْذُ الْفِقْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَهُوَ لُغَةً : الْفَهْمُ ، وَاصْطِلَاحًا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ ، وَمَوْضُوعُهُ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ

عُرُوضُ الْأَحْكَامِ لَهَا .
وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَفَائِدَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ الْمُحَصِّلَانِ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ ( أَحْمَدُهُ ) - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ وَتَفَضَّلَ ( أَبْلَغَ حَمْدٍ ) أَنْهَاهُ ( وَأَكْمَلَهُ ) أَتَمَّهُ ( وَأَزْكَاهُ ) أَنْمَاهُ ( وَأَشْمَلَهُ ) أَعَمَّهُ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ عُمُومُ الْحَمْدِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ النِّعَمُ لَا يُتَصَوَّرُ حَصْرُهَا كَمَا مَرَّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُنْسَبَ عُمُومُ الْمَحَامِدِ إلَيْهِ - تَعَالَى - عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ مَثَلًا بِاشْتِمَالِهِ - تَعَالَى - عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدُّ الْحَمْدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدِهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ حَمْدٌ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ بِرِعَايَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ ، وَذَاكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَهِيَ الْمَالِكِيَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ الْأَبْلَغِيَّةُ بِأَنْ يُرَادَ الثَّنَاءُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ فَذَاكَ الْبَعْضُ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ لِصِدْقِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا الْكَثِيرِ ، فَالثَّنَاءُ بِهَذَا أَبْلَغُ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا ، نَعَمْ الثَّنَاءُ بِالْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلُهُ ، أَيْ تَعَيُّنُهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ هَذَا ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ أَبْلَغَ مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ اُفْتُتِحَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْدَ فِيهِ لِمَقَامِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعْيِينُ لَهُ أَوْلَى .

( وَأَشْهَدُ ) أَيْ أُعْلِمُ وَأُبَيِّنُ ( أَنْ لَا إلَهَ ) أَيْ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ ( إلَّا اللَّهُ ) الْوَاجِبُ الْوُجُودِ ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ } أَيْ الْمَقْطُوعَةِ الْبَرَكَةِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ " قِيلَ لِوَهْبٍ : أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إلَّا ، وَلَهُ أَسْنَانٌ ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فَتَحَ لَكَ ، وَإِلَّا لَمْ يَفْتَحْ لَكَ " أَيْ مَعَ السَّابِقِينَ ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ ، وَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : صَدَقَ ، وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الْأَسْنَانِ مَا هِيَ فَذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ( الْوَاحِدُ ) أَيْ الَّذِي لَا تَعَدُّدَ لَهُ فَلَا يَنْقَسِمُ بِوَجْهٍ ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِوَجْهٍ ( الْغَفَّارُ ) اسْمُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الْغَفْرِ ، وَهُوَ السَّتْرُ - أَيْ السَّتَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُظْهِرُهَا بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَقُلْ بَدَلَ الْغَفَّارِ الْقَهَّارَ اسْتِبْشَارًا وَتَرَجِّيًا ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقَهْرِ مَأْخُوذٌ مِمَّا قَبْلَهُ إذْ مِنْ شَأْنِ الْوَاحِدِ فِي مُلْكِهِ الْقَهْرُ .

فَائِدَةٌ : قَالَ الدَّمِيرِيُّ : فِي كَلِمَةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَسْرَارٌ : مِنْهَا أَنَّ جَمِيعَ حُرُوفِهَا جَوْفِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا حَرْفٌ شَفَهِيٌّ إشَارَةً إلَى الْإِتْيَانِ بِهَا مِنْ خَالِصِ الْجَوْفِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ : أَيْ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ } .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَرْفٌ مُعْجَمٌ إشَارَةً إلَى التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ : أَيْ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ } .
وَمِنْهَا أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ حَرْفًا كَشُهُورِ السَّنَةِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ : وَهِيَ الْجَلَالَةُ حَرْفٌ فَرْدٌ ، وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ ، وَهِيَ أَفْضَلُ كَلِمَاتِهَا كَمَا أَنَّ الْحُرُمَ أَفْضَلُ السَّنَةِ ، فَمَنْ قَالَهَا مُخْلِصًا كَفَّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبَ سَنَةٍ : أَيْ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ .
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً ، وَهِيَ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَاعَةٍ .

( وَأَشْهَدُ ) أَيْ وَأُعْلِمُ وَأُبَيِّنُ ( أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي التَّشَهُّدِ ، وَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولٍ الْمُضَعَّفِ سُمِّيَ بِهِ بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَكْثُرُ حَمْدُ الْخَلْقِ لَهُ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْجَمِيلَةِ ، كَمَا رُوِيَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ سَمَّاهُ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَهَا لِمَ سَمَّيْتَ ابْنَكَ مُحَمَّدًا وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكَ وَلَا قَوْمِكَ ؟ قَالَ رَجَوْتُ أَنْ يُحْمَدَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَلْفُ اسْمٍ وَلِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ ، وَوُصِفَ بِالْعُبُودِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ صِفَةٌ أَتَمُّ وَلَا أَشْرَفُ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ ، قِيلَ : [ الرَّجَزَ ] لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَلِهَذَا دُعِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْرَفِ الْمَوَاطِنِ كَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وَ الرَّسُولُ أَخَصُّ مِنْ النَّبِيِّ ، فَإِنَّهُ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ لِلْعَمَلِ وَالتَّبْلِيغِ ، وَالنَّبِيُّ فَقَطْ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ لِلْعَمَلِ خَاصَّةً ، فَالْأَوَّلُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ ( الْمُصْطَفَى ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ الصَّفْوَةِ ، وَهُوَ الْخُلُوصُ .
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ } ( الْمُخْتَارُ ) اسْمُ مَفْعُولٍ أَصْلُهُ مُخْتَيَرٌ ، اخْتَارَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى سَائِرِ

خَلْقِهِ لِيَدْعُوَهُمْ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } .

وَحَذَفَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ إيذَانًا مِنْهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلَكٍ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ ، وَقَرَنَ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ بِالثَّنَاءِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أَيْ : لَا أُذْكَرُ إلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي ، كَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ ، وَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْمَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ خِطْبَتِهِ أَيْ : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَكُلِّ أَمْرٍ طَلَبَهُ غَيْرَهَا حَمْدَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ خُرُوجًا مِنْ الْكَرَاهَةِ إذْ يُكْرَهُ إفْرَادُ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ كَمَا قَالَهُ فِي الْأَذْكَارِ أَيْ : وَكَذَا عَكْسُهُ .
وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِتَعْظِيمٍ ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ وَمِنْ الْآدَمِيِّينَ أَيْ وَمِنْ الْجِنِّ تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا كُلُّ صَلَاةٍ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنْهَا .
وَالثَّانِي : فِي الْعُمُرِ مَرَّةً .
وَالثَّالِثُ كُلَّمَا ذُكِرَ .
وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَاللَّخْمِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ، وَابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ .
الرَّابِعُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ .
وَالْخَامِسُ فِي أَوَّلِ كُلِّ دُعَاءٍ وَآخِرِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ اجْعَلُونِي ، فِي أَوَّلِ كُلِّ دُعَاءٍ وَفِي وَسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ .

( وَزَادَهُ فَضْلًا وَشَرَفًا لَدَيْهِ ) أَيْ : عِنْدَهُ .
وَ الْفَضْلُ : ضِدُّ النَّقْصِ .
وَالشَّرَفُ : الْعُلُوُّ .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَطْلُبُ لَهُ زِيَادَةً وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ كَمَا قِيلَ فِيهِ : [ الْوَافِرُ ] وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدْ النِّسَاءُ خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ أُجِيبَ بِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - شَامِلَةٌ لِكُلِّ مُمْكِنٍ فَيُرَقَّى الْكَامِلُ مِنْ رُتْبَةٍ عَلِيَّةٍ إلَى رُتْبَةٍ عَلِيَّةٍ فَهُوَ أَبَدًا فِي عُلُوٍّ .

فَائِدَةٌ : اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ مُحَمَّدٍ ثَلَاثِمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَسُولًا فَقَالَ فِيهِ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ وَإِذَا بَسَطْتَ كُلًّا مِنْهَا قُلْتَ فِيهِ " م ي م " وَعِدَّتُهَا بِحِسَابِ الْجُمَّلِ الْكَبِيرِ تِسْعُونَ فَيَحْصُلُ مِنْهَا مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ ، وَإِذَا بَسَطْتَ الْحَاءَ وَالدَّالَ قُلْتَ : دَارٌ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ ، وَحَاءٌ بِتِسْعَةٍ ، فَالْجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ ، وَالِاسْمُ وَاحِدٌ ، فَتَمَّ عَدَدُ الرُّسُلِ كَمَا قِيلَ : إنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ كَمَا قِيلَ فِيهِمْ : [ الطَّوِيلُ ] مُحَمَّدٌ إبْرَاهِيمُ مُوسَى كَلِيمُهُ فَعِيسَى فَنُوحٌ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ فَاعْلَمْ

( أَمَّا بَعْدُ ) أَيْ : بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَمْدِ وَالتَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ وَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ لَهَا بَابًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً .
وَفِي الْمُبْتَدِئِ بِهَا أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا فَصْلُ الْخِطَابِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْآيَةِ .
وَالثَّانِي : قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ .
وَالثَّالِثُ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ .
وَالرَّابِعُ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ .
وَالْخَامِسُ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ : [ الطَّوِيلُ ] لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي إذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا وَالْمَشْهُورُ بِنَاءُ " بَعْدُ " هُنَا عَلَى الضَّمِّ فَإِنَّ لَهَا أَرْبَعَ حَالَاتٍ : إحْدَاهَا : أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً فَتُعْرَبَ إمَّا نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ خَفْضًا بِمِنْ : وَثَانِيهَا : أَنْ يُحْذَفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَيُنْوَى ثُبُوتُ لَفْظِهِ فَتُعْرَبَ الْإِعْرَابَ الْمَذْكُورَ وَلَا تُنَوَّنُ لِنِيَّةِ الْإِضَافَةِ .
وَثَالِثُهَا : أَنْ تُقْطَعَ عَنْ الْإِضَافَةِ لَفْظًا وَلَا يُنْوَى الْمُضَافُ إلَيْهِ فَتُعْرَبَ أَيْضًا الْإِعْرَابَ الْمَذْكُورَ وَلَكِنْ تُنَوَّنُ ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ اسْمٌ تَامٌّ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ .
وَرَابِعُهَا : أَنْ يُحْذَفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَيُنْوَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ فَتُبْنَى عَلَى الضَّمِّ ، وَدَخَلَتْ الْفَاءُ فِي حَيِّزِهَا لِتَضَمُّنِ أَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَمَّا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ نَفْسُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَالْأَصْلُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ .

( فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ ) الْمَعْهُودِ شَرْعًا الصَّادِقِ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَمَا كَانَ آلَةً لِذَلِكَ كَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ ، فَلَا يَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا يُعْتَبَرُ تَقْدِيمُهُ ( مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ ) لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ ، وَالْمَفْرُوضُ أَوْلَى مِنْ الْمَنْدُوبِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ مِنْ الْمَفْرُوضِ .
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَتَوَاتَرَتْ وَتَطَابَقَتْ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ وَتَوَافَقَتْ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ .
قَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ - تَعَالَى - : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا } وَالْمُرَادُ بِالْحَسَدِ الْغِبْطَةُ ، وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَهُ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ بِكَ اللَّهُ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ

أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا } وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } .
وَعَنْ أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا ، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ } ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ .
وَمِنْ الْآثَارِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ ، وَيَفْرَحَ بِهِ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ ، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ

كَمَا قِيلَ : فَلِلَّهِ دَرُّ الْعِلْمِ وَمَنْ بِهِ تَرَدَّى ، وَتَعْسًا لِلْجَهْلِ وَمَنْ فِي أَوْدِيَتِهِ تَرَدَّى .
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ : مَثَلُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مَثَلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ إذَا بَرَزَتْ لِلنَّاسِ اهْتَدَوْا بِهَا ، وَإِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا .
وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لَكَ حَسَنَةٌ ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ ، الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَنْ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ لَا خَيْرَ فِيهِ ، فَلَا يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ وَلَا صَدَاقَةٌ فَإِنَّهُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِصْبَاحُ الْبَصَائِرِ ، وَقَالَ : طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ ، وَقَالَ : لَيْسَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ ، يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ } قَالَ عَطَاءٌ : مَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَيْفَ تَشْتَرِي وَتَبِيعُ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتَنْكِحُ وَتُطَلِّقُ وَتَحُجُّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ : مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ : أَيْ : فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا : وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً ، يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَسِيرُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ } وَأَقَاوِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي فَضْلِ

الْعِلْمِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ طَلَبَهُ مُرِيدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَنْ أَرَادَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَمَالٍ أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ اسْتِمَالَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ .
قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ يُرِيدُ بِهِ غَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } أَيْ : لَمْ يَجِدْ رِيحَهَا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يُكَاثِرَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ يَجْلِسُونَ حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - .
وَقَالَ سُفْيَانُ : مَا ازْدَادَ عَبْدٌ عِلْمًا فَازْدَادَ فِي الدُّنْيَا رَغْبَةً إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا .
وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى - أَنْ يُوَفِّقَنَا بِفَضْلِهِ وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ ( وَ ) إذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ ، فَيَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهِ مِنْ ( أَوْلَى

مَا أُنْفِقَتْ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ( فِيهِ ) أَيْ تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ ( نَفَائِسُ الْأَوْقَاتِ ) أَيْ : الْأَوْقَاتُ النَّفِيسَةُ ، إذْ الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُ مَا يَفُوتُ مِنْهَا بِلَا عِبَادَةٍ ، وَأَضَافَ إلَيْهَا صِفَتَهَا لِلسَّجْعِ ، فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ ، كَقَوْلِهِمْ : جَرْدُ قَطِيفَةٍ أَيْ : قَطِيفَةٌ مَجْرُودَةٌ ، أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفَائِسِ الْأَوْقَاتِ أَزْمِنَةُ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ فِيهِ مُخَصَّصَةً .
قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : يُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَنْفَقْتُ ، وَفِي الْبَاطِلِ ضَيَّعْتُ وَخَسِرْتُ وَغَرِمْت ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِنْفَاقِ مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِهِ .
لَكِنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ أَنْ يُوقِعَ فِيهِ الشَّيْءَ دُونَ غَيْرِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِنْفَاقِ ، وَنَفَائِسُ جَمْعٌ لِنَفِيسَةٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِنَفِيسٍ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمُصَنِّفُ قَدْ وَصَفَ الْأَوْقَاتَ بِالنَّفِيسَةِ ثُمَّ جَمَعَ النَّفِيسَةَ عَلَى النَّفَائِسِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا مُفْرَدُهُ مُؤَنَّثٌ كَالسَّاعَاتِ وَنَحْوِهَا لَكَانَ أَظْهَرَ ا هـ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ أَوْلَى عَلَى مِنْ أَفْضَلِ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : أَيْ : لَوْ قُدِّرَ عَطْفُ أَوْلَى عَلَى مِنْ أَفْضَلِ كَانَ كَوْنُهُ أَوْلَى مَا أُنْفِقَتْ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَوْقَاتِ مُنَافِيًا لِكَوْنِهِ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَوْلَى يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ أَفْضَلَ وَكَوْنَهُ مِنْ أَفْضَلِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مِنْ أَوْلَى لَا كَوْنَهُ أَوْلَى ، فَالْإِشَارَةُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ إلَى تَقْدِيرِ عَطْفِ أَوْلَى عَلَى مِنْ أَفْضَلِ .

( وَقَدْ أَكْثَرَ أَصْحَابُنَا ) أَيْ : أَتْبَاعُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَالصُّحْبَةُ هُنَا الِاجْتِمَاعُ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَجَازٌ سَبَبُهُ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمْ ، وَشِدَّةُ ارْتِبَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَالصَّاحِبِ حَقِيقَةً ( رَحِمَهُمْ اللَّهُ ) - تَعَالَى - دُعَاءٌ لَهُمْ ( مِنْ التَّصْنِيفِ ) مَصْدَرُ صَنَّفَ الشَّيْءَ : إذَا جَعَلَهُ أَصْنَافًا بِتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، فَمُؤَلِّفُ الْكِتَابُ يُفْرِدُ الصِّنْفَ الَّذِي هُوَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَيُفْرِدُ كُلَّ صِنْفٍ مِمَّا هُوَ فِيهِ عَنْ الْآخَرِ ، فَالْفَقِيهُ يُفْرِدُ مَثَلًا الْعِبَادَاتِ عَنْ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَلِكَ الْأَبْوَابُ .
قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الْكُتُبَ الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ .
وَقِيلَ : سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ .
وَقِيلَ : ابْنُ جُرَيْجٍ ( مِنْ الْمَبْسُوطَاتِ ) فِي الْفِقْهِ ، وَهِيَ مَا كَثُرَ لَفْظُهَا وَمَعْنَاهَا ( وَالْمُخْتَصَرَاتِ ) فِيهِ ، وَهِيَ مَا قَلَّ لَفْظُهَا وَكَثُرَ مَعْنَاهَا .
قَالَ الْخَلِيلُ : الْكَلَامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ ، وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ .

( وَأَتْقَنُ ) أَيْ : أَحْكَمُ ( مُخْتَصَرٍ الْمُحَرَّرُ ) أَيْ : الْمُهَذَّبُ الْمُنَقَّى : وَهُوَ هُنَا عِلْمُ الْكِتَابِ ( لِلْإِمَامِ ) الْحَبْرِ الْهُمَامِ عَبْدِ الْكَرِيمِ إمَامِ الدِّينِ ( أَبِي الْقَاسِمِ ) اعْتَرَضَ عَلَى تَكْنِيَتِهِ لَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَوْ لِغَيْرِ مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقِيلَ : إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ وَقِيلَ : يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِزَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَّحَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا رَجَّحَاهُ : وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ .

( الرَّافِعِيِّ ) قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى رَافِعَانِ بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ بِلَادِ قَزْوِينَ ، وَكَانَ إمَامًا بَارِعًا فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالزُّهْدِ وَالْكَرَامَاتِ وَاللَّطَائِفِ لَمْ يُصَنَّفْ فِي الْمَذْهَبِ مِثْلُ كِتَابِهِ الشَّرْحِ ا هـ .
وَاعْتَرَضَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِبِلَادِ قَزْوِينَ بَلْدَةٌ يُقَالُ لَهَا رَافِعَانِ ، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى جَدٍّ مِنْ أَجْدَادِهِ ، وَرُبَّمَا يُقَالُ : إنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ .
وَقَالَ الشَّارِحُ : مَنْسُوبٌ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الصَّحَابِيِّ كَمَا وُجِدَ بِخَطِّهِ فِيمَا حُكِيَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ) وَرَضِيَ عَنْهُ ( ذِي التَّحْقِيقَاتِ ) الْكَثِيرَةِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّدْقِيقَاتِ الْغَزِيرَةِ فِي الدِّينِ : ذِي الْخَاطِرِ الْعَاطِرِ ، وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ وَالْمَفَاخِرِ وَالْمَنَاقِبِ ، كَانَ مِنْ بَيْتِ عِلْمٍ : أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَجَدَّتُهُ .
قِيلَ .
إنَّهَا كَانَتْ تُفْتِي النِّسَاءَ .
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتّمِائَةٍ ، وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَضَاءَتْ لَهُ الْكُرُومَ .
وَحُكِيَ أَنَّ شَجَرَةً أَضَاءَتْ لَهُ لَمَّا فَقَدَ وَقْتَ التَّصْنِيفِ مَا يُسْرِجُهُ عَلَيْهِ .
وَمِنْ أَشْعَارِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ وَعَفَا عَنْهُ : الطَّوِيلُ أَقِيمَا عَلَى بَابِ الْكَرِيمِ أَقِيمَا وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِهِ فَتَهِيمَا هُوَ الرَّبُّ مَنْ يَقْرَعْ عَلَى الصِّدْقِ بَابَهُ يَجِدْهُ رَءُوفًا بِالْعِبَادِ رَحِيمَا فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَبِيرُ مَدْحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَمَعَ تَحْقِيقَهُ : وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ التَّحْقِيقِ وَهُوَ جَمْعٌ وَسَلَامَةٌ وَهُوَ لِلْقِلَّةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ، وَلَوْ أَتَى بِجَمْعِ كَثْرَةٍ لَكَانَ أَنْسَبَ .
وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْدَادِ مِنْ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الْعُمُومَ .

فَائِدَةٌ : مِنْ كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي الْمَوَاهِبِ يُعْرَفُ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ .
قَالَ : إثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ بِدَلِيلِهَا تَحْقِيقٌ ، وَإِثْبَاتُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ تَدْقِيقٌ ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِفَائِقِ الْعِبَارَةِ الْحُلْوَةِ تَرْقِيقٌ ، وَبِمُرَاعَاةِ عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَدِيعِ فِي تَرْكِيبِهَا تَنْمِيقٌ ، وَالسَّلَامَةُ فِيهَا مِنْ اعْتِرَاضِ الشَّرْعِ تَوْفِيقٌ ( وَهُوَ ) أَيْ : الْمُحَرَّرُ ( كَثِيرُ الْفَوَائِدِ ) جَمْعُ فَائِدَةٍ ، وَهِيَ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ ، وَحَقَّ لَهُ أَنْ يَصِفَهُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ ، وَلَا يُنْزَفُ غَمْرُهُ ( عُمْدَةٌ ) أَيْ : يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ( فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ ) أَيْ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْمَسَائِلِ مَجَازًا عَنْ مَكَانِ الذَّهَابِ ( مُعْتَمَدٌ لِلْمُفْتِي ) أَيْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَالْمُفْتِي وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ وَمُوَضِّحُ الدَّلَالَةِ ، وَالْمُبَيِّنُ بِجَوَابِهِ حَرَامَ الشَّرْعِ وَحَلَالَهُ ، وَيَكْفِيهِ هَذَا الْوَصْفُ تَعْظِيمًا لَهُ وَجَلَالَةً ( وَغَيْرِهِ ) أَيْ : الْمُفْتِي مِمَّنْ يُصَنِّفُ أَوْ يَدْرُسُ ( مِنْ أُولِي ) أَيْ : أَصْحَابِ ( الرَّغَبَاتِ ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ جَمْعُ رَغْبَةٍ بِسُكُونِهَا .
قَالَ تَعَالَى : { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } تَقُولُ : رَغِبْتُ عَنْ الشَّيْءِ تَرَكْتُهُ ، وَرَغِبْتُ فِيهِ أَرَدْتُهُ ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دَلِيلٌ عَلَى إنْصَافِهِ فِي الْعِلْمِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ وَآدَابِهِ الْإِنْصَافُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : مَا فِي زَمَانِنَا أَقَلُّ مِنْ الْإِنْصَافِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : هَذَا فِي زَمَانِ مَالِكٍ فَكَيْفَ بِهَذَا الزَّمَانِ : أَيْ : وَمَا بَعْدَهُ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ كُلُّ هَالِكٍ ( وَقَدْ الْتَزَمَ مُصَنِّفُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَنُصَّ ) فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ( عَلَى مَا

صَحَّحَهُ ) فِيهَا ( مُعْظَمُ ) أَيْ أَكْثَرُ ( الْأَصْحَابِ ) لِأَنَّ نَقْلَ الْمَذْهَبِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ فَيُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ : قَالَهُ تِلْمِيذُ الْمُصَنِّفِ ابْنُ الْعَطَّارِ : وَلَكِنْ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلٌ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي بِأَنَّ الْخَطَأَ إلَى الْقَلِيلِ أَقْرَبُ ( وَوَفَى ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ ( بِمَا الْتَزَمَهُ ) حَسْبَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِدْرَاكُهُ عَلَيْهِ التَّصْحِيحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْآتِيَةِ ، لَكِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّ مَنْ فَهِمَ عَنْ الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنُصُّ إلَّا مَا عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ فَقَدْ أَخْطَأَ فَهْمُهُ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ فِي خُطْبَةِ الْمُحَرَّرِ : إنَّهُ نَاصٌّ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْمُعْظَمُ مِنْ الْوُجُوهِ وَالْأَقَاوِيلِ ، وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَا يَنُصُّ إلَّا عَلَى ذَلِكَ ، وَكَيْفَ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ كَقَوْلِهِ : إنَّ مَوْضِعَ التَّحْذِيفِ مِنْ الْوَجْهِ ، وَإِنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ رُكْنٌ قَصِيرٌ ، وَمَنَعَ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَجْزِمُ فِي الْمُحَرَّرِ بِشَيْءٍ ، وَهُوَ بَحْثٌ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ فِي انْصِرَافِ الْمَعْذُورِ إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَفِي الزَّكَاةِ فِي الْعَلَفِ الْمُؤَثِّرِ ، بَلْ الْكُتُبُ الَّتِي لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا مَشْحُونَةٌ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ ، مِنْ النُّصُوصِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي لِلنَّاظِرِ الْعَجَبَ مِنْ كَثْرَتِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ : مَا الْتَزَمَهُ ( مِنْ أَهَمِّ أَوْ ) هُوَ ( أَهَمُّ الْمَطْلُوبَاتِ ) لِطَالِبِ الْفِقْهِ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُصَحَّحِ مِنْ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلِهِ ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لِلْمُصَنِّفِ : لَمَّا كَانَ الْمُحَرَّرُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَخْتَصِرُهُ ؟ فَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( لَكِنْ فِي حَجْمِهِ ) أَيْ :

الْمُحَرَّرِ ( كِبَرٌ ) وَحَجْمُ الشَّيْءِ مَلْمَسُهُ النَّاتِئُ تَحْتَ الْيَدِ ، وَالْكِبَرُ نَقِيضُ الصِّغَرِ ( يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَصْرِ ) الرَّاغِبِينَ فِي حِفْظِ مُخْتَصَرٍ فِي الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ الْهِمَمَ قَدْ تَقَاصَرَتْ عَنْ حِفْظِ الْمُطَوَّلَاتِ ، بَلْ وَالْمُخْتَصَرَاتِ ، وَصَارَتْ عَلَى النَّذْرِ الْيَسِيرِ مُقْتَصِرَاتٍ ( إلَّا بَعْضَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ ) مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ ، وَهُوَ مَنْ سَهَّلَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا يَكْبُرُ : أَيْ : يَعْظُمُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ ( فَرَأَيْتُ ) مِنْ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ لَا مِنْ الرُّؤْيَةِ ( اخْتِصَارَهُ ) بِأَنْ لَا يَفُوتَ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِهِ .
وَالِاخْتِصَارُ إيجَازُ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى ، وَقِيلَ : مَا دَلَّ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ ( فِي نَحْوِ نِصْفِ حَجْمِهِ ) هُوَ صَادِقٌ بِمَا وَقَعَ فِي الْخَارِجِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ بِيَسِيرٍ بَلْ هُوَ إلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ أَقْرَبُ كَمَا قِيلَ ، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ حِينَ شَرَعَ فِي اخْتِصَارِهِ ثُمَّ احْتَاجَ إلَى زِيَادَةٍ .
وَقِيلَ : إنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَرَّرِ دُونَ الزَّوَائِدِ ، وَنُونُ النِّصْفِ مُثَلَّثَةٌ ، وَفِيهِ لُغَةٌ رَابِعَةٌ نَصِيفٌ بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } ( لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ ) أَيْ : الْمُخْتَصَرِ لِكُلِّ مَنْ يَرْغَبُ فِي حِفْظِ مُخْتَصَرٍ ، وَتَقَدَّمَ عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : الْكَلَامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ .
وَالْحِفْظُ نَقِيضُ النِّسْيَانِ ( مَعَ مَا ) أَيْ : مَصْحُوبًا ذَلِكَ الْمُخْتَصَرُ بِمَا ( أَضُمُّهُ إلَيْهِ ) فِي أَثْنَائِهِ ( إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) وَبِذَلِكَ قَرُبَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أَصْلِهِ كَمَا مَرَّ ( مِنْ النَّفَائِسِ الْمُسْتَجَادَاتِ ) أَيْ الْمُسْتَحْسَنَاتِ ( مِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى قُيُودٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ) بِأَنْ تُذْكَرَ فِيهَا ( هِيَ ) أَيْ : تِلْكَ الْقُيُودُ ( مِنْ الْأَصْلِ )

أَيْ : الْمُحَرَّرِ ( مَحْذُوفَاتٌ ) أَيْ : مَتْرُوكَاتٌ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهَا فِي الْمَبْسُوطَاتِ ( وَمِنْهَا مَوَاضِعُ يَسِيرَةٌ ) نَحْوُ الْخَمْسِينَ مَوْضِعًا أَذْكُرُهَا عَلَى الْمُخْتَارِ ( ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ فِي الْمَذْهَبِ ) الْآتِي ذِكْرُهُ فِيهَا مُصَحَّحًا ( كَمَا سَتَرَاهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ) فِي خِلَافِهَا لَهُ نَظَرًا لِلْمُدْرِكِ ( وَاضِحَاتٍ ) فَذِكْرُ الْمُخْتَارِ فِيهَا هُوَ الْمُرَادُ وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ أَوَّلًا كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى ( وَمِنْهَا إبْدَالُ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِهِ غَرِيبًا ) أَيْ : غَيْرَ مَأْلُوفِ الِاسْتِعْمَالِ ( أَوْ مُوهِمًا ) أَيْ : مُوقِعًا فِي الْوَهْمِ : أَيْ الذِّهْنِ ( خِلَافَ الصَّوَابِ ) أَيْ : الْإِتْيَانَ بَدَلَ ذَلِكَ ( بِأَوْضَحَ وَأَخْصَرَ مِنْهُ بِعِبَارَاتٍ جَلِيَّاتٍ ) أَيْ ظَاهِرَاتٍ لَا خَفَاءَ فِيهَا فِي أَدَاءِ الْمُرَادِ ، وَإِدْخَالُ الْبَاءِ بَعْدَ لَفْظِ الْإِبْدَالِ عَلَى الْمَأْتِيِّ بِهِ مُوَافِقَةٌ لِلِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمَعْرُوفِ لُغَةً مِنْ إدْخَالِهَا عَلَى الْمَتْرُوكِ ، فَلَوْ قَالَ : وَمِنْهَا إبْدَالُ الْأَوْضَحِ وَالْأَخْصَرِ بِمَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِهِ غَرِيبًا أَوْ مُوهِمًا خِلَافَ الصَّوَابِ كَانَ أَوْلَى نَحْوُ : أَبْدَلْتُ الْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ : أَيْ : أَخَذْتُ الْجَيِّدَ بَدَلَ الرَّدِيءِ ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَائِدَةٌ : قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْأَبْدَالُ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ ، إذَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَكَانَهُ آخَرَ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ ، وَالنُّجَبَاءُ بِمِصْرَ ، وَالْعَصَائِبُ بِالْعِرَاقِ : أَيْ : الزُّهَّادُ ، وَعَلَامَةُ الْأَبْدَالِ أَنْ لَا يُولَدَ لَهُمْ ، وَكَانَ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ تَزَوَّجَ بِسَبْعِينَ امْرَأَةً فَلَمْ يُولَدْ لَهُ .

( وَمِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَالطَّرِيقَيْنِ وَالنَّصِّ وَ مَرَاتِبِ الْخِلَافِ ) قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْمَسَائِلِ ( فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ ) هَذَا الِاصْطِلَاحُ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ الْمُصَنِّفَ أَحَدٌ ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَسَنٌ بِخِلَافِ الْمُحَرَّرِ فَإِنَّهُ تَارَةً يُبَيِّنُ نَحْوَ أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ ، وَتَارَةً لَا يُبَيِّنُ نَحْوَ الْأَصَحِّ وَالْأَظْهَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُوفِ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَمَا سَتَقِفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَقَدْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : مَا ادَّعَاهُ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ مَرْدُودٌ ، فَأَمَّا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا عَبَّرَ فِيهِ بِالْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ لَا اصْطِلَاحَ لَهُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَأَمَّا بَيَانُ الطَّرِيقَيْنِ وَالنَّصِّ فَلَمْ يَسْتَوْعِبْ بِهِمَا الْمَسَائِلَ وَالْأَقَارِبَ .
وَأَمَّا مَرَاتِبُ الْخِلَافِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ فِيهِ أَنْوَاعٌ سَلَكَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَوْفَاهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مَرْدُودًا ا هـ مُلَخَّصًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا ذَكَرَهُ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي مَا لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ مَرَاتِبَ الْخِلَافِ كَقَوْلِهِ : وَحَيْثُ أَقُولُ : وَقِيلَ كَذَا فَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ، وَالصَّحِيحُ أَوْ الْأَصَحُّ خِلَافُهُ ، أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا أَوْلَى ( فَحَيْثُ أَقُولُ فِي الْأَظْهَرِ أَوْ الْمَشْهُورِ فَمِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ ) لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ( فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ ) لِقُوَّةٍ مَدْرَكِهِ ( قُلْتُ : الْأَظْهَرُ ) الْمُشْعِرُ بِظُهُورِ مُقَابِلِهِ ( وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ ) الْمُشْعِرُ بِغَرَابَةِ مُقَابِلِهِ لِضَعْفِ مَدْرَكِهِ ( وَحَيْثُ أَقُولُ : الْأَصَحُّ أَوْ الصَّحِيحُ فَمِنْ الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْأَوْجُهِ ) لِلْأَصْحَابِ يَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهُ فَيَسْتَخْرِجُونَهَا عَلَى أَصْلِهِ وَيَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ قَوَاعِدِهِ وَقَدْ يَجْتَهِدُونَ فِي بَعْضِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ أَصْلِهِ ( فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ قُلْتُ الْأَصَحُّ ) الْمُشْعِرُ بِصِحَّةِ مُقَابِلِهِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقْوَ الْخِلَافُ ( فا ) قَوْلُ ( الصَّحِيحُ ) الْمُشْعِرُ بِفَسَادِ مُقَابِلِهِ لِضَعْفِ مَدْرَكِهِ ، وَلَمْ يُعَبِّرْ بِذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ تَأَدُّبًا مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، كَمَا قَالَ : فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ مُشْعِرٌ بِفَسَادِ مُقَابِلِهِ كَمَا مَرَّ ( وَحَيْثُ أَقُولُ : الْمَذْهَبُ فَمِنْ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ الطُّرُقِ ) وَهِيَ اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِي حِكَايَةِ الْمَذْهَبِ كَأَنْ يَحْكِيَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ لِمَنْ تَقَدَّمَ وَيَقْطَعَ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَذْهَبِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الرَّاجِحِ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ أَوْ الْخِلَافِ ، وَكَوْنُ الْخِلَافِ قَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا اصْطِلَاحَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا اسْتِقْرَاءَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ ، بَلْ الرَّاجِحُ تَارَةً يَكُونُ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ ، وَتَارَةً طَرِيقَةَ الْخِلَافِ فَاعْلَمْهُ فَإِنِّي اسْتَقْرَيْتُهُ ( وَحَيْثُ أَقُولُ : النَّصُّ ) أَيْ الْمَنْصُوصُ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ( فَهُوَ نَصُّ ) الْإِمَامِ ( الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ) .
وَسَمَّى مَا قَالَهُ نَصًّا ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَدْرِ لِتَنْصِيصِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ إلَى الْإِمَامِ ، مِنْ قَوْلِكَ نَصَصْتُ الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ : إذَا رَفَعْتَهُ إلَيْهِ ( وَيَكُونُ هُنَاكَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ) أَيْ خِلَافُ الرَّاجِحِ لَا الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ عَنْهُ قَوْلُهُ : الْأَصَحُّ أَوْ الصَّحِيحُ أَوْ الْأَظْهَرُ أَوْ الْمَشْهُورُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : (

أَوْ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ ) فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُخَرَّجَ لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيَانُ مَرَاتِبِ الْخِلَافِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ا هـ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ لَا مُطْلَقًا .
وَالتَّخْرِيجُ أَنْ يُجِيبَ الشَّافِعِيُّ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي صُورَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ ، وَلَمْ يُظْهِرْ مَا يَصْلُحُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَيَنْقُلُ الْأَصْحَابُ جَوَابَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ إلَى الْأُخْرَى ، فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ : مَنْصُوصٌ وَمُخَرَّجٌ ، الْمَنْصُوصُ فِي هَذِهِ الْمُخَرَّجُ فِي تِلْكَ ، وَالْمَنْصُوصُ فِي تِلْكَ هُوَ الْمُخَرَّجُ فِي هَذِهِ ، فَيُقَالُ فِيهِمَا قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ .
وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ هَذَا عَدَمُ إطْبَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَى التَّخْرِيجِ ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُخَرِّجُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْدِي فَرْقًا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَرَّجَ لَا يُنْسَبُ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا رُوجِعَ فِيهِ ، فَذَكَرَ فَارِقًا ، قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِي الرَّوْضَةِ فِي الْقَضَاءِ .

وَإِذْ قَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَلْنَتَعَرَّضْ إلَى طَرَفٍ مِنْ أَخْبَارِهِ تَبَرُّكًا بِهَا فَنَقُولُ : هُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَسُلْطَانُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ إدْرِيس بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ جَدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
وَهَذَا نَسَبٌ عَظِيمٌ كَمَا قِيلَ : الْكَامِلُ نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودًا مَا فِيهِ إلَّا سَيِّدٌ مِنْ سَيِّدٍ حَازَ الْمَكَارِمَ وَالتُّقَى وَالْجُودَا وَشَافِعُ بْنُ السَّائِبِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَرَعْرِعٌ ، وَأَسْلَمَ أَبُوهُ السَّائِبُ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ ، فَأُسِرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ ، وَفَدَى نَفْسَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ .
وَعَبْدُ مَنَافِ بْنُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ - بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ - بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نَزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ .
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى هَذَا النَّسَبِ إلَى عَدْنَانَ ، وَلَيْسَ فِيمَا بَعْدَهُ إلَى آدَمَ طَرِيقٌ صَحِيحٌ فِيمَا يُنْقَلُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ إذَا انْتَهَى فِي النَّسَبِ إلَى عَدْنَانَ أَمْسَكَ ، ثُمَّ يَقُولُ كَذَبَ النَّسَّابُونَ } أَيْ : بَعْدَهُ .
قَالَ تَعَالَى : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ بِغَزَّةَ ، الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا هَاشِمٌ جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقِيلَ : بِعَسْقَلَانَ .
وَقِيلَ : بِمِنًى

سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ ، ثُمَّ حُمِلَ إلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ وَنَشَأَ بِهَا ، وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَالْمُوَطَّأَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ مُفْتِي مَكَّةَ الْمَعْرُوفِ بِالزِّنْجِيِّ لِشِدَّةِ شُقْرَتِهِ ، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ ، وَأُذِنَ لَهُ فِي الْإِفْتَاءِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَعَ أَنَّهُ نَشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ فِي قِلَّةٍ مِنْ الْعَيْشِ وَضِيقِ حَالٍ ، وَكَانَ فِي صِبَاهُ يُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ ، وَيَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُهُ فِي الْعِظَامِ وَنَحْوِهَا حَتَّى مَلَأَ مِنْهَا خَبَايَا ، ثُمَّ رَحَلَ إلَى مَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَازَمَهُ مُدَّةً ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَأَقَامَ بِهَا سَنَتَيْنِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهَا ، وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ مَذَاهِبَ كَانُوا عَلَيْهَا إلَى مَذْهَبِهِ ، وَصَنَّفَ بِهَا كِتَابَهُ الْقَدِيمَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً ثُمَّ عَادَ إلَى بَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِصْرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا نَاشِرًا لِلْعِلْمِ مُلَازِمًا لِلِاشْتِغَالِ بِجَامِعِهَا الْعَتِيقِ إلَى أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ شَدِيدَةٌ فَمَرِضَ بِسَبَبِهَا أَيَّامًا عَلَى مَا قِيلَ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ قُطْبُ الْوُجُودِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَلَخَ رَجَبَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِهِ ، وَانْتَشَرَ عِلْمُهُ فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ ، وَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ قَرَّرَ نَاسِخَ الْأَحَادِيثِ وَمَنْسُوخَهَا ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفِقْهِ مَعْرُوفَةٍ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ { عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا } .
قَالَ لِلرَّبِيعِ : أَنْتَ رَاوِيَةُ كُتُبِي فَعَاشَ بَعْدَهُ قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً حَتَّى صَارَتْ الرَّوَاحِلُ تُشَدُّ إلَيْهِ مِنْ

أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِسَمَاعِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَعَ هَذَا قَالَ : وَدِدْتُ أَنْ لَوْ أُخِذَ عَنِّي هَذَا الْعِلْمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ لَا تُعْرَفُ لَهُ كَبِيرَةٌ وَلَا صَغِيرَةٌ .
وَمِنْ كَلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْوَافِرُ أَمَتُّ مَطَامِعِي فَأَرَحْت نَفْسِي فَإِنَّ النَّفْسَ مَا طَمِعَتْ تَهُونُ وَأَحْيَيْتُ الْقُنُوعَ وَكَانَ مَيْتًا فَفِي إحْيَائِهِ عِرْضِي مَصُونُ إذَا طَمَعٌ يَحُلُّ بِقَلْبِ عَبْدٍ عَلَتْهُ مَهَانَةٌ وَعَلَاهُ هُونُ قَوْلُهُ : الْكَامِلُ مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكَ فَتَوَلَّ أَنْتَ جَمِيعَ أَمْرِكَ وَإِذَا قَصَدْتَ لِحَاجَةٍ فَاقْصِدْ لِمُعْتَرِفٍ بِقَدْرِكَ وَقَدْ أَفْرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَنَسَبِهِ وَأَشْعَارِهِ كُتُبًا مَشْهُورَةً ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَذْكِرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَلَلِ لَشَحَنْت كِتَابِي هَذَا مِنْهَا بِأَبْوَابٍ .

( وَحَيْثُ أَقُولُ الْجَدِيدُ فَالْقَدِيمُ خِلَافُهُ أَوْ الْقَدِيمُ أَوْ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ فَالْجَدِيدُ خِلَافُهُ ) الْجَدِيدُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ تَصْنِيفًا أَوْ إفْتَاءً ، وَرُوَاتُهُ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ وَحَرْمَلَةُ .
وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الَّذِي انْتَقَلَ أَخِيرًا إلَى مَذْهَبِ أَبِيهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ هُمْ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِذَلِكَ وَقَامُوا بِهِ ، وَالْبَاقُونَ نُقِلَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءُ مَحْصُورَةٌ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ ، وَالْقَدِيمُ مَا قَالَهُ بِالْعِرَاقِ تَصْنِيفًا : وَهُوَ الْحُجَّةُ أَوْ أَفْتَى بِهِ ، وَرُوَاتُهُ جَمَاعَةٌ أَشْهَرُهُمْ : الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالْكَرَابِيسِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَدْ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ ، وَقَالَ : لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَاهُ عَنِّي .
وَقَالَ الْإِمَامُ لَا يَحِلُّ عَدُّ الْقَدِيمِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الصَّدَاقِ : غَيَّرَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجَدِيدِ إلَّا الصَّدَاقَ فَإِنَّهُ ضَرَبَ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهُ وَزَادَ مَوَاضِعَ .
وَأَمَّا مَا وُجِدَ بَيْنَ مِصْرَ وَالْعِرَاقِ ، فَالْمُتَأَخِّرُ جَدِيدٌ ، وَالْمُتَقَدِّمُ قَدِيمٌ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ : قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ فَالْجَدِيدُ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ نَحْوِ السَّبْعَةَ عَشْرَ أَفْتَى فِيهَا بِالْقَدِيمِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَقَدْ تُتُبِّعَ مَا أَفْتَى فِيهِ بِالْقَدِيمِ فَوُجِدَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ جَدِيدَانِ فَالْعَمَلُ بِآخِرِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَبِمَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنْ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا كَانَ إبْطَالًا لِلْآخَرِ عِنْدَ الْمَازِنِيِّ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يَكُونُ إبْطَالًا بَلْ تَرْجِيحًا ، وَهَذَا أَوْلَى ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ

فِي نَحْوِ سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ قَالَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتِّبًا لَزِمَ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ تُوُقِّفَ فِيهِ .
وَنَبَّهَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ هُنَا عَلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ إفْتَاءَ الْأَصْحَابِ بِالْقَدِيمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ أَدَّاهُمْ إلَى الْقَدِيمِ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نِسْبَتُهُ إلَى الشَّافِعِيِّ .
قَالَ : وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ لَهَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى بِالْجَدِيدِ ، وَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ وَالِاجْتِهَادِ فَالْمَذْهَبُ يُلْزِمُهُ اتِّبَاعَ مَا اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ فِي الْعَمَلِ وَالْفَتْوَى بِهِ مُبَيِّنًا أَنَّ هَذَا رَأْيُهُ ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ فِي قَدِيمٍ لَمْ يَعْضُدْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ ، فَإِنْ اعْتَضَدَ بِدَلِيلٍ فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ : " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي " .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُمْ الْقَدِيمَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَحَلُّهُ فِي قَدِيمٍ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى خِلَافِهِ : أَمَّا قَدِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْجَدِيدِ لِمَا يُوَافِقُهُ وَلَا لِمَا يُخَالِفُهُ فَإِنَّهُ مَذْهَبُهُ .

( وَحَيْثُ أَقُولُ : وَ قِيلَ كَذَا فَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ .
وَالصَّحِيحُ أَوْ الْأَصَحُّ خِلَافُهُ ) لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ ( وَحَيْثُ أَقُولُ : وَفِي قَوْلِ كَذَا فَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِهِ ، وَيَتَبَيَّنُ قُوَّةُ الْخِلَافِ وَضَعْفُهُ مِنْ مَدْرَكِهِ ، فَمُرَادُهُ بِالضَّعِيفِ هُنَا خِلَافُ الرَّاجِحِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ مُقَابِلَهُ الْأَصَحَّ تَارَةً وَالصَّحِيحَ أُخْرَى فَلَا يُعْلَمُ مَرَاتِبُ الْخِلَافِ مِنْ هَذَيْنِ وَلَا مِنْ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُمَا ، وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ ( وَمِنْهَا مَسَائِلُ نَفِيسَةٌ أَضُمُّهَا إلَيْهِ ) أَيْ الْمُخْتَصَرِ فِي مَظَانِّهَا ( يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَلَّى الْكِتَابُ ) أَيْ : الْمُخْتَصَرُ وَمَا يُضَمُّ إلَيْهِ ( مِنْهَا ) .
قَالَ الشَّارِحُ : صَرَّحَ بِوَصْفِهَا الشَّامِلِ لَهُ مَا تَقَدَّمَ : أَيْ : فِي قَوْلِهِ مِنْ النَّفَائِسِ الْمُسْتَجَادَاتِ ، وَزَادَ عَلَيْهِ يَنْبَغِي إلَخْ ؛ إظْهَارًا لِلْعُذْرِ فِي زِيَادَتِهَا فَإِنَّهَا عَارِيَّةٌ عَنْ التَّنْكِيتِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا ا هـ .
أَيْ : أَنَّهُ لَا تَنْكِيتَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي زِيَادَةِ فُرُوعٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفُرُوعِ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيعَابِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ حَتَّى يُنَكِّتَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَسْأَلَةَ كَذَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهَا بِخِلَافِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْقُيُودِ وَاسْتِدْرَاكِ التَّصْحِيحِ ، فَإِنَّ التَّنْكِيتَ يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ أَوْ مَشَى عَلَى خِلَافِ الْمُصَحِّحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَأَقُولُ فِي أَوَّلِهِمَا : قُلْتُ وَفِي آخِرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِتَتَمَيَّزَ عَنْ مَسَائِلِ الْمُحَرَّرِ ، وَقَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي اسْتِدْرَاكِ التَّصْحِيحِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَزِيدَةِ كَقَوْلِهِ : قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ ضَبَّةِ الذَّهَبِ مُطْلَقًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ زَادَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ كَقَوْلِهِ فِي فَصْلِ الْخَلَاءِ وَلَا يَتَكَلَّمُ ، وَمَعْنَى : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيْ : مِنْ كُلِّ عَالِمٍ .

( وَمَا وَجَدْتَهُ ) أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ ( مِنْ زِيَادَةِ لَفْظَةٍ ) أَيْ : بِدُونِ قُلْتُ ( وَنَحْوِهَا عَلَى مَا فِي الْمُحَرَّرِ فَاعْتَمِدْهَا فَلَا بُدَّ مِنْهَا ) كَزِيَادَةِ " كَثِيرٌ " وَ " فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ " فِي قَوْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ بِجُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ أَوْ الشَّيْنُ الْفَاحِشُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ ( وَكَذَا مَا وَجَدْتَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فَاعْتَمِدْهُ فَإِنِّي حَقَّقْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ ) فِي نَقْلِهِ ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِهِ الْمُعْتَمَدَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَنُونَ بِلَفْظِهِ بِخِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَعْتَنُونَ غَالِبًا بِمَعْنَاهُ .
( وَقَدْ أُقَدِّمُ بَعْضَ مَسَائِلِ الْفَصْلِ لِمُنَاسَبَةٍ أَوْ اخْتِصَارٍ ) مُرَاعَاةً لِتَسْهِيلِ حِفْظِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَتَسْهِيلِ فَهْمِهِ وَتَقْرِيبِهِ ، وَالْمُنَاسَبَةُ الْمُشَاكَلَةُ ( وَرُبَّمَا قَدَّمْتُ فَصْلًا لِلْمُنَاسَبَةِ ) كَمَا فَعَلَ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ فَإِنَّهُ أَخَّرَهُ عَنْ الْكَلَامِ عَلَى الْجَزَاءِ ، وَالْمُحَرَّرُ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ وَمَا فَعَلَهُ فِي الْمِنْهَاجِ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ وَأَخَّرَهَا عَنْ الِاصْطِيَادِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَصْلَ التَّخْيِيرِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مُنَاسِبٌ لَهُ لِتَعَلُّقِهِ بِالِاصْطِيَادِ ، فَتَقْدِيمُ الْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَأَرْجُو إنْ تَمَّ هَذَا الْمُخْتَصَرُ ) وَقَدْ تَمَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ( أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْحِ ) وَهُوَ الْكَشْفُ وَالتَّبْيِينُ ( لِلْمُحَرَّرِ ) أَيْ : لِدَقَائِقِهِ وَخَفِيِّ أَلْفَاظِهِ وَبَيَانِ صَحِيحِهِ وَمَرَاتِبِ خِلَافِهِ ، وَمَحْمَلُ خِلَافِهِ هَلْ هُوَ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ أَوْ طَرِيقَانِ ؟ وَمَا يَحْتَاجُ مِنْ مَسَائِلِهِ إلَى قَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ تَصْوِيرٍ وَمَا غَلِطَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا صَحَّحَ فِيهِ خِلَافَ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا

وَنَحْوِ ذَلِكَ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الدَّقَائِقِ ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ شَرْحٌ لِلْمُحَرَّرِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ ( فَإِنِّي لَا أَحْذِفُ ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ : أَيْ : لَا أُسْقِطُ ( مِنْهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَلَا مِنْ الْخِلَافِ وَلَوْ كَانَ ) أَيْ : الْخِلَافُ ( وَاهِيًا ) أَيْ ضَعِيفًا جِدًّا مَجَازًا عَنْ السَّاقِطِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ حَذَفَ مِنْ الْمُحَرَّرِ أَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّهُ بَيَّنَ فِي الْمُحَرَّرِ مَجْلِسَ الْخُلْعِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ حَذَفَ التَّفْرِيعَ عَلَى الْقَدِيمِ فِي ضَمَانِ مَا سَيَجِبُ وَذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأُصُولُ فَلَا يُنَافِي حَذْفَ الْمُفَرَّعَاتِ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ، وَهَذَا أَوْلَى كَمَا مَرَّ ( مَعَ مَا ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا : أَيْ : آتِي بِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَصْحُوبًا بِمَا ( أَشَرْتُ إلَيْهِ مِنْ النَّفَائِسِ ) الْمُتَقَدِّمَةِ ( وَقَدْ شَرَعْتُ ) مَعَ الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ ( فِي جَمْعِ جُزْءٍ لَطِيفٍ عَلَى صُورَةِ الشَّرْحِ لِدَقَائِقِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ) مِنْ حَيْثُ الِاخْتِصَارُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ دَقَائِقِ الْمِنْهَاجِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ تَسْمِيَتَهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْرُوفِ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ وَلَكِنَّهُ سَمَّاهُ بِالْمِنْهَاجِ فِي مَوْضِعِ التَّرْجَمَةِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى ظَهْرِ الْخُطْبَةِ .
وَالْمِنْهَاجُ وَالْمَنْهَجُ وَالنَّهْجُ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ سَاكِنَةٍ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ : قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ( وَمَقْصُودِي بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْ عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ ) لِأَيِّ شَيْءٍ عَدَلَ عَنْهَا ( وَفِي إلْحَاقِ قَيْدٍ أَوْ حَرْفٍ ) أَيْ : كَلِمَةٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ ( أَوْ شَرْطٍ لِلْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) مِمَّا بَيَّنَهُ ( وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ) فَيُخِلُّ خُلُوُّهَا

بِالْمَقْصُودِ ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ ، وَلَكِنَّهُ حَسَنٌ ، كَمَا قَالَهُ فِي زِيَادَةِ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَيْضِ : فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَحِلَّ قَبْلَ الْغُسْلِ غَيْرُ الصَّوْمِ وَالطَّلَاقِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ

( وَعَلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ اعْتِمَادِي ) فِي جَمِيعِ أُمُورِي ، وَمِنْهَا إتْمَامُ هَذَا الْمُخْتَصَرِ بِأَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَى إتْمَامِهِ كَمَا أَقْدَرَنِي عَلَى ابْتِدَائِهِ .
قَالَ الشَّارِحُ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَى وَضْعِ الْخُطْبَةِ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ صَنَّفَ بَعْضَ الْمِنْهَاجِ قَبْلَ خُطْبَتِهِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا مَرَّ أَوْ إلَى تَوَفُّرِ الْآلَاتِ مَعَ التَّهْيِيءِ فَإِنَّهُ كَرِيمٌ جَوَادٌ لَا يَرُدُّ مَنْ سَأَلَهُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } ( وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي ) أَيْ : رَدُّ أُمُورِي ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ رَدُّ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ ( وَاسْتِنَادِي ) فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخِيبُ مَنْ قَصَدَهُ وَاسْتَنَدَ إلَيْهِ ثُمَّ قَدَّرَ وُقُوعَ الْمَطْلُوبِ بِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ ( وَأَسْأَلُهُ النَّفْعَ ) وَهُوَ ضِدُّ الضُّرِّ ( بِهِ ) أَيْ : الْمُخْتَصَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ( لِي ) بِتَأْلِيفِهِ ( وَلِسَائِرِ ) أَيْ : بَاقِي ( الْمُسْلِمِينَ ) وَيُطْلِقُ سَائِرَ أَيْضًا عَلَى الْجَمِيعِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوْهَرِيُّ غَيْرَهُ بِأَنْ يُلْهِمَهُمْ الِاعْتِنَاءَ بِهِ ، بَعْضُهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ كَكِتَابَةٍ وَقِرَاءَةٍ وَتَفَهُّمٍ وَشَرْحٍ ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ بِوَقْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَنَفْعُهُمْ يَسْتَتْبِعُ نَفْعَهُ أَيْضًا : لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ ( وَرِضْوَانَهُ عَنِّي ) الرِّضَا وَالرِّضْوَانُ ضِدُّ السُّخْطِ ( وَعَنْ أَحِبَّائِي ) بِالتَّشْدِيدِ وَالْهَمْزِ جَمْعُ حَبِيبٍ : أَيْ : مَنْ أُحِبُّهُمْ ( وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ تَكَرَّرَ بِهِ الدُّعَاءُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي مِنْهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَايَرَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ، فَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَا يَنْعَكِسُ ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ ، وَقِيلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَاحِدٌ ، وَفِي الْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقِ مُخْتَلِفَانِ ،

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ إيمَانٌ بِغَيْرِ إسْلَامٍ ، وَلَا إسْلَامَ بِغَيْرِ إيمَانٍ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَشَرْطٌ عَلَى الثَّانِي ، وَسُؤَالُ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِكِتَابِهِ مِمَّا يُرَغِّبُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ عُمْدَةً فِي الْمَذْهَبِ .

وَإِذْ قَدْ انْتَهَى الْكَلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا قَصَدْنَاهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُطْبَةِ فَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ أَخْبَارِ الْمُصَنِّفِ تَبَرُّكًا بِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ : هُوَ الْحَبْرُ الْإِمَامُ قُطْبُ دَائِرَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ الشَّيْخُ يَحْيَى مُحْيِي الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا بْنِ شَرَفٍ الْحِزَامِيُّ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ مُعْجَمَةٌ النَّوَوِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ مُحَرِّرُ الْمَذْهَبِ ، وَمُهَذِّبُهُ ، وَمُحَقِّقُهُ ، وَمُرَتِّبُهُ ، الْمُتَّفَقُ عَلَى أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ وَوَرَعِهِ وَزَهَادَتِهِ وَسُؤْدُدِهِ وَسِيَادَتِهِ كَانَ ذَا كَرَامَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَآيَاتٍ بَاهِرَةٍ وَسَطَوَاتٍ قَاهِرَةٍ ، فَلِذَلِكَ أَحْيَا اللَّهُ - تَعَالَى - ذِكْرَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَاعْتَرَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِعَظِيمِ بَرَكَاتِهِ وَنَفَعَ بِتَصَانِيفِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَكَادُ يَسْتَغْنِي عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا تَزَالُ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا أَلَّفَهُ مُؤْتَلِفَةً قَدْ دَأَبَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى فَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ ، وَدَعَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ .
حَفِظَ التَّنْبِيهَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ ، وَحَفِظَ رُبْعَ الْمُهَذَّبِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ ، وَمَكَثَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَضَعُ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ دَرْسًا فِي عِدَّةٍ مِنْ الْعُلُومِ ، وَكَانَ يُدِيمُ الصِّيَامَ وَلَا تَزَالُ مُقْلَتُهُ سَاهِرَةً ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ فَوَاكِهِ دِمَشْقَ لِمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الشُّبَهِ الظَّاهِرَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ تَنَعُّمًا وَانْخَرَطَ فِي سِلْكِ { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَكَانَ يَقْتَاتُ مِمَّا يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ أَبَوَيْهِ كَفَافًا ، وَيُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَزَوَّجْ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا مُعَافًى ، وَلَا يَأْكُلُ إلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

الْآخِرَةِ ، وَلَا يَشْرَبُ إلَّا شَرْبَةً وَاحِدَةً عِنْدَ السَّحَرِ وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ الْمُبَرَّدَ الْمُلْقَى فِيهِ الثَّلْجُ ، وَكَانَ كَثِيرَ السَّهَرِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّصْنِيفِ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ يُوَاجِهُ الْمُلُوكَ فَمَنْ دُونَهُمْ ، وَحَجَّ حَجَّتَيْنِ مَبْرُورَتَيْنِ لَا رِيَاءَ فِيهِمَا وَلَا سُمْعَةَ ، وَطَهَّرَ اللَّهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَسَمْعَهُ وَتَوَلَّى دَارَ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتّمِائَةٍ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَعْلُومِهَا شَيْئًا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ، وَكَانَ يَلْبَسُ ثَوْبًا قُطْنًا وَعِمَامَةً سُخْتِيَانِيَّةً وَفِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ ، وَعَلَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ فِي حَالِ الْبَحْثِ مَعَ الْفُقَهَاءِ وَفِي غَيْرِهِ .
وُلِدَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتّمِائَةٍ بِنَوَى ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى دِمَشْقَ ، ثُمَّ سَافَرَ إلَى بَلَدِهِ ، وَزَارَ الْقُدْسَ وَالْخَلِيلَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فَمَرِضَ بِهَا عِنْدَ أَبَوَيْهِ وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسِتّمِائَةٍ وَدُفِنَ بِبَلَدِهِ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ ذَكَرْنَاهَا مِنْ بَعْضِ مَنَاقِبِهِ تَبَرُّكًا بِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَحَلَّهُ رِضَا رِضْوَانِهِ ، وَمَتَّعَهُ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَبِالدَّانِي مِنْ ثِمَارِ جِنَانِهِ .
وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمِنْ أَعْظَمِ شُرُوطِهَا الطَّهَارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ } وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا فَقُدِّمَ وَضْعًا بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِهَا فَقَالَ : هَذَا :

كِتَابُ الطَّهَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ

( كِتَابُ ) بَيَانِ أَحْكَامِ ( الطَّهَارَةِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لُغَةً مَعْنَاهُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، يُقَالُ : كَتَبْتُ كَتْبًا وَكِتَابَةً وَكِتَابًا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَكَتَّبَتْ بَنُو فُلَانٍ : إذَا اجْتَمَعُوا ، وَكَتَبَ : إذَا خَطَّ بِالْقَلَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ ، فَهُوَ إمَّا مَصْدَرٌ لَكِنْ لِضَمٍّ مَخْصُوصٍ ، أَوْ اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى مَكْتُوبٍ ، كَقَوْلِهِمْ : هَذَا دِرْهَمُ ضَرْبِ الْأَمِيرِ : أَيْ مَضْرُوبِهِ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْجَامِعِ لِمَا أُضِيفَ إلَيْهِ .
قَالَ أَبُو حَيَّانَ : وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْكَتْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْتَقُّ مِنْ الْمَصْدَرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَزِيدَ يُشْتَقُّ مِنْ الْمُجَرَّدِ .
وَاصْطِلَاحًا اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مُخْتَصَّةٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْبَابِ وَبِالْفَصْلِ أَيْضًا ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ قِيلَ : الْكِتَابُ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مُخْتَصَّةٍ مِنْ الْعِلْمِ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَبْوَابٍ وَفُصُولٍ غَالِبًا .
وَالْبَابُ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مُخْتَصَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فُصُولٍ غَالِبًا .
وَالْفَصْلُ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مُخْتَصَّةٍ مِنْ الْبَابِ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى مَسَائِلَ غَالِبًا .
وَالْبَابُ لُغَةً : مَا يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَالْفَصْلُ لُغَةً هُوَ الْحَاجِزُ ، وَالْكِتَابُ هُنَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مُضَافٌ إلَى مَحْذُوفَيْنِ كَمَا قَدَّرْتُهُ ، وَكَذَا كُلُّ كِتَابٍ وَبَابٍ وَفَصْلٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ .
وَإِذَا قَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِي كُلِّ كِتَابٍ أَوْ بَابٍ كَمَا فَعَلْتُ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ بَعْدَ مَا ذُكِرَ اخْتِصَارًا .
وَالطَّهَارَةُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ طَهُرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ يَطْهُرُ بِالضَّمِّ فِيهِمَا .
وَهِيَ : لُغَةً : النَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنْ الْأَدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَالْأَنْجَاسِ أَوْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ ، يُقَالُ : تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ : أَيْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الْعَيْبِ .
وَشَرْعًا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى

زَوَالِ الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ ، وَبِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمَوْضُوعِ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ أَوْ لِإِفَادَةِ بَعْضِ آثَارِهِ كَالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ جَوَازَ الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي لَا جَرَمَ .
وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ مُدْخِلًا فِيهَا الْأَغْسَالَ الْمَسْنُونَةَ وَنَحْوَهَا بِأَنَّهَا رَفْعُ حَدَثٍ أَوْ إزَالَةُ نَجَسٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَعَلَى صُورَتِهِمَا .
وَقَوْلُهُ : وَعَلَى صُورَتِهِمَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا فِي مَعْنَاهُمَا مَا يُشَارِكُهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا قَالَ : وَقَوْلُنَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَرَدْنَا بِهِ التَّيَمُّمَ وَالْأَغْسَالَ الْمَسْنُونَةَ ، وَتَجْدِيدَ الْوُضُوءِ ، وَالْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ وَمَسْحَ الْأُذُنِ وَالْمَضْمَضَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ نَوَافِلِ الطَّهَارَةِ ، وَطَهَارَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَسَلَسَ الْبَوْلِ ا هـ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَبِمَا تَقَرَّرَ انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ قِسْمِ الْأَفْعَالِ ، وَالرَّفْعُ مِنْ قِسْمِهَا فَلَا تُعَرَّفُ بِهِ ، وَبِأَنَّ مَا لَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا نَجَسًا لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا يَرْفَعُهُمَا ، وَبِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَشْمَلُ الطَّهَارَةَ بِمَعْنَى الزَّوَالِ ا هـ .
وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا كَمَا قَالَ الْقَايَاتِيُّ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ أَفْرَادَ وَضْعٍ آخَرَ .
وَقَدَّمَ الْأَصْحَابُ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ اهْتِمَامًا بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، وَالْمُعَامَلَاتِ عَلَى النِّكَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا ، وَالْمُنَاكَحَةِ عَلَى الْجِنَايَاتِ ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا فِي الْحَاجَةِ ، وَأَخَّرُوا الْجِنَايَاتِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا .
وَالطَّهَارَةُ فِي التَّرْجَمَةِ شَامِلَةٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَالتَّيَمُّمِ الْآتِيَةِ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَبَدَأَ بِبَيَانِ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي

آلَتِهَا مُفْتَتِحًا بِآيَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [ الْفُرْقَانُ ] أَيْ مُطَهِّرًا وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُطْلَقِ ، وَافْتَتَحَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِإِمَامِهِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، إذْ مِنْ عَادَتِهِ إذَا كَانَ فِي الْبَابِ آيَةٌ تَلَاهَا ، أَوْ خَبَرٌ رَوَاهُ ، أَوْ أَثَرٌ ذَكَرَهُ ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ مَسَائِلَ الْبَابِ وَتَبِعَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَاقِي الْأَبْوَابِ اخْتِصَارًا .
وَإِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ أَصْلًا فِي آلَتِهَا ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ آلَةٍ ، وَتِلْكَ الْآلَةُ مِنْهَا أَصْلٌ ، وَهُوَ الْمَاءُ .
وَمِنْهَا بَدَلٌ وَهُوَ غَيْرُهُ كَالتُّرَابِ وَأَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمَدْلُولِ فَمَا بَالُهُ عَكَسَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ اسْتِدْلَالًا بَلْ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا كَمَا مَرَّ ، وَبِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى غَالِبِ مَسَائِلِ الْبَابِ ، وَالدَّلِيلُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى لِيَنْطَبِقَ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ قَوْله تَعَالَى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } [ الْأَنْفَالُ ] مَعَ أَنَّهُ أَصَرْحُ فِي الدَّلَالَةِ كَمَا قِيلَ ؟ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ يُفِيدُ أَنَّ الطَّاهِرَ غَيْرُ الطَّهُورِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً } [ الْفُرْقَانُ ] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ : وَهُوَ تَعَالَى لَا يَمُنُّ بِنَجَسٍ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الطَّاهِرُ غَيْرَ الطَّهُورِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّأْكِيدُ ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى ، وَهَلْ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ فِي الْآيَةِ الْجِرْمُ الْمَعْهُودُ أَوْ السَّحَابُ ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي دَقَائِقِ الرَّوْضَةِ وَلَا مَانِعَ أَنْ يُنَزِّلَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ( يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ

الْحَدَثِ ) وَهُوَ فِي اللُّغَةِ : الشَّيْءُ الْحَادِثُ ، وَفِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى أَمْرٍ اعْتِبَارِيٍّ يَقُومُ بِالْأَعْضَاءِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ .
وَعَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الطُّهْرُ ، وَعَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْمَاءُ ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الْأَمْرِ الِاعْتِبَارِيِّ فَهُوَ غَيْرُهُ ، فَإِنَّ الْمَنْعَ هُوَ الْحُرْمَةُ : وَهِيَ تَرْتَفِعُ ارْتِفَاعًا مُقَيَّدًا بِنَحْوِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَلَا فَرْقَ فِي الْحَدَثِ بَيْنَ الْأَصْغَرِ - وَهُوَ مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ - وَالْمُتَوَسِّطِ - وَهُوَ مَا أَوْجَبَ الْغُسْلَ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ إنْزَالٍ - وَالْأَكْبَرِ ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ ( وَ ) لِإِزَالَةِ ( النَّجَسِ ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الشَّيْءِ النَّجِسِ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا يُسْتَقْذَرُ ، وَفِي الشَّرْعِ مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُخَفَّفِ كَبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ ، وَالْمُتَوَسِّطِ كَبَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نَحْوِ الْكَلْبِ ، وَالْمُغَلَّظِ كَبَوْلِ نَحْوِ الْكَلْبِ ، وَلِسَائِرِ الطِّهَارَاتِ وَاجِبَةً كَطَهَارَةِ دَائِمِ الْحَدَثِ ، وَمَنْدُوبَةً كَالْوُضُوءِ الْمُجَدَّدِ غَيْرَ الِاسْتِحَالَةِ وَالتَّيَمُّمِ

مَاءٌ مُطْلَقٌ ، وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ .

( مَاءٌ مُطْلَقٌ ) أَيْ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْإِزَالَةِ كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ لَا يُوصَفُ بِالرَّفْعِ فِي الِاصْطِلَاحِ ، لَكِنْ سَهَّلَهُ تَقَدُّمُ الْحَدَثِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الطَّهَارَاتِ كَمَا ذَكَرْتُهُ ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الطَّهَارَةِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عَلَى عَادَةِ الْمَشَايِخِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأُصُولِ ( وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ ) بِإِضَافَةٍ .
كَمَاءِ وَرْدٍ ، أَوْ بِصِفَةٍ كَمَاءٍ دَافِقٍ أَوْ فَاللَّامُ عَهْدٍ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ } يَعْنِي الْمَنِيَّ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَلَا يُحْتَاجُ لِتَقْيِيدِ الْقَيْدِ بِكَوْنِهِ لَازِمًا ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ الَّذِي لَيْسَ بِلَازِمٍ كَمَاءِ الْبِئْرِ مَثَلًا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَةَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْقَيْدِ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِنَا : غَيْرُ الْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ بِقَيْدٍ لَازِمٍ ا هـ .
وَيَدْخُلُ فِي التَّعْرِيفِ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ : الْمَطَرُ ، وَذَوْبُ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَمَا نَبَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ : مَاءُ الْعُيُونِ ، وَالْآبَارِ ، وَالْأَنْهَارِ ، وَالْبِحَارِ ، وَمَا نَبَعَ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِنْ ذَاتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ ، وَالْأَرْجَحُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْمِيَاهِ مُطْلَقًا ، أَوْ نَبَعَ مِنْ الزُّلَالِ ، وَهُوَ شَيْءٌ يَنْعَقِدُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ ، وَمَا يَنْعَقِدُ مِلْحًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدُ ، أَوْ كَانَ رَشْحَ بُخَارِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ حَقِيقَةً ، وَيَنْقُصُ بِقَدْرِهِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ : نَازَعَ فِيهِ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ وَقَالُوا :

يُسَمُّونَهُ بُخَارًا وَرَشْحًا لَا مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ الْخَلُّ وَنَحْوُهُ ، وَمَا لَا يُذْكَرُ إلَّا مُقَيَّدًا كَمَا مَرَّ ، وَتُرَابُ التَّيَمُّمِ وَحَجَرُ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَأَدْوِيَةُ الدَّبَّاغِ وَالشَّمْسُ وَالنَّارُ وَالرِّيحُ وَغَيْرُهَا حَتَّى التُّرَابُ فِي غَسَلَاتِ الْكَلْبِ ، فَإِنَّ الْمُزِيلَ هُوَ الْمَاءُ بِشَرْطِ امْتِزَاجِهِ بِالتُّرَابِ فِي غَسْلَةٍ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْمَاءُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } [ النِّسَاءُ ] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، فَلَوْ رَفَعَ غَيْرُ الْمَاءِ لَمَا وَجَبَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِهِ .
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْحَدَثِ وَفِي إزَالَةِ : النَّجَسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ حِينَ بَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْمَسْجِدِ { صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } وَالذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ : الدَّلْوُ الْمُمْتَلِئَةُ مَاءً ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ كَمَا مَرَّ ، فَلَوْ كَفَى غَيْرُهُ لَمَا وَجَبَ غَسْلُ الْبَوْلِ بِهِ ، وَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ بِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ تَعَبُّدٌ وَعِنْدَ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ، وَحُمِلَ الْمَاءُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْمُطْلَقِ لِتَبَادُرِ الْأَذْهَانِ إلَيْهِ .
فَائِدَةٌ : اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ : كُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ فَالتَّطْهِيرُ بِهِ جَائِزٌ بِأَنَّهُ لَحْنٌ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَاءٌ مِلْحٌ ، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلُ ] فَلَوْ تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبَا بَلْ فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ ، مِلْحٌ وَمَالِحٌ وَمَلِيحٌ وَمِلَاحٌ وَلَكِنَّ فَهْمَهُ السَّقِيمَ أَدَّاهُ إلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْوَافِرُ ] وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ وَلَكِنْ تَأْخُذُ الْآذَانُ

مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرِيحَةِ وَالْفُهُومِ وَعَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ : لَا يَجُوزُ لِيُشْتَرَطَ .
قَالَ فِي الدَّقَائِقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ الِاشْتِرَاطُ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي مَجْمُوعِهِ بِأَنَّ - يَجُوزُ - يُسْتَعْمَلُ تَارَةً بِمَعْنَى يَصِحُّ ، وَتَارَةً بِمَعْنَى يَحِلُّ ، وَتَارَةً يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ ، وَهُوَ هُنَا يَصْلُحُ لَهُمَا ا هـ .
أَيْ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادَ ، فَنَفْيُ الْجَوَازِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَعًا بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ كَمَا وَجَّهَ بِهِ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْمُهَذَّبِ فِي شَرْحِهِ أَيْ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِيُشْتَرَطُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِمَا بِالْمَنْطُوقِ ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّعْبِيرُ بِلَا يَجُوزُ أَوْلَى كَمَا قِيلَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَةَ يُشْتَرَطُ تَقْتَضِي تَوَقُّفَ الرَّفْعِ عَلَى الْمَاءِ ، وَلَفْظَةُ لَا يَجُوزُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي وَلَا قَرِينَةَ ، فَالتَّعْبِيرُ بِيُشْتَرَطُ أَوْلَى ، وَرُدَّ بِمَنْعِ التَّرَدُّدِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ الْمُشْتَرَكُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ عُمُومًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَظَاهِرٌ ، وَإِلَّا حُمِلَ عَلَى جَمِيعِهَا هُنَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالتَّبْوِيبِ .
وَأَوْرَدَ عَلَى التَّعْرِيفِ الْمُتَغَيِّرِ كَثِيرًا بِمَا لَا يُؤْثِرُ فِيهِ كَطِينٍ وَطُحْلُبٍ وَبِمَا فِي مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعَرَّ عَمَّا ذُكِرَ .
.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ ، وَإِنَّمَا أُعْطِيَ حُكْمَهُ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ لِلضَّرُورَةِ ، فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ غَيْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَالَ : أَهْلُ اللِّسَانِ وَالْعُرْفِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ إيقَاعِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ لَا إيرَادَ ، وَلَا يَرِدُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ، وَلَمْ تُغَيِّرْهُ ، وَلَا الْمُسْتَعْمَلُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ .
فَائِدَةٌ : الْمَاءُ مَمْدُودٌ عَلَى الْأَفْصَحِ ، وَأَصْلُهُ مَوَهٌ

، تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً ، وَمِنْ عَجِيبِ لُطْفِ اللَّهِ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَلَمْ يُحْوِجْ فِيهِ إلَى كَثِيرِ مُعَالَجَةٍ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ

فَالْمُتَغَيِّرُ بِمُسْتَغْنًى عَنْهُ كَزَعْفَرَانٍ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ غَيْرُ طَهُورٍ ، وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرٌ لَا يَمْنَعُ الِاسْمَ ، وَلَا مُتَغَيِّرٌ بِمُكْثٍ وَطِينٍ وَطُحْلُبٍ ، وَمَا فِي مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ ، وَكَذَا مُتَغَيِّرٌ بِمُجَاوِرٍ كَعُودٍ وَدُهْنٍ ، أَوْ بِتُرَابٍ طُرِحَ فِيهِ فِي الْأَظْهَرِ .

( فَالْمُتَغَيِّرُ ) بِشَيْءٍ ( مُسْتَغْنًى ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا ( عَنْهُ ) طَاهِرٌ مُخَالِطٌ ( كَزَعْفَرَانٍ ) وَمَاءِ شَجَرٍ وَمَنِيٍّ وَمِلْحٍ جَبَلِيٍّ ( تَغَيُّرًا يَمْنَعُ ) لِكَثْرَتِهِ ( إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ ) عَلَيْهِ ( غَيْرُ طَهُورٍ ) سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً فَشَرِبَ ذَلِكَ أَوْ وَكَّلَ فِي شِرَائِهِ فَاشْتَرَاهُ لَهُ وَكِيلُهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَمْ يَقَعْ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّغَيُّرُ حِسِّيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ مَائِعٌ يُوَافِقُهُ فِي الصِّفَاتِ كَمَاءِ الْوَرْدِ الْمُنْقَطِعِ الرَّائِحَةِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَوْ قَدَّرْنَاهُ بِمُخَالِفٍ وَسَطٍ كَلَوْنِ الْعَصِيرِ وَطَعْمِ الرُّمَّانِ وَرِيحِ اللَّاذِنِ لِغَيْرِ ضُرٍّ بِأَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا الْمُنَاسِبُ لِلْوَاقِعِ فِيهِ فَقَطْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَلَا يُقَدَّرُ بِالْأَشَدِّ كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ بِخِلَافِ الْخَبَثِ لِغِلَظِهِ فَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْخَلِيطُ حِسًّا وَلَا تَقْدِيرًا اسْتَعْمَلَهُ كُلَّهُ .
وَكَذَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ النَّجَاسَةُ الْمَائِعَةُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَضُرَّ وَإِذَا لَمْ يَكْفِهِ الْمَاءُ وَحْدَهُ وَلَوْ كَمَّلَهُ بِمَائِعٍ يُسْتَهْلَكُ فِيهِ لَكَفَاهُ وَجَبَ تَكْمِيلُ الْمَاءِ بِهِ إنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ مَاءِ مِثْلِهِ ، أَمَّا الْمِلْحُ الْمَائِيُّ فَلَا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِهِ وَإِنْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ مِنْ الْمَاءِ ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ كَمَائِعٍ فَيُفْرَضُ مُخَالِفًا وَسَطًا لِلْمَاءِ فِي صِفَاتِهِ لَا فِي تَكْثِيرِ الْمَاءِ ، فَلَوْ ضُمَّ إلَى مَاءٍ قَلِيلٍ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ صَارَ طَهُورًا ، وَإِنْ أَثَّرَ فِي الْمَاءِ بِفَرْضِهِ مُخَالِفًا ( وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرٌ ) يَسِيرٌ بِطَاهِرٍ ( لَا يَمْنَعُ الِاسْمَ ) لَتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْهُ ، وَلِبَقَاءِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَكَّ فِي أَنَّ تَغَيُّرَهُ كَثِيرٌ أَوْ يَسِيرٌ ، نَعَمْ إنْ تَغَيَّرَ كَثِيرًا ثُمَّ

شَكَّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ الْآنَ يَسِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ لَمْ يَطْهُرْ عَمَلًا بِالْأَصْلِ فِي الْحَالَتَيْنِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ ( 1 ) ، ( وَلَا ) يَضُرُّ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ ( مُتَغَيِّرٌ بِمُكْثٍ ) بِتَثْلِيثِ مِيمِهِ مَعَ إسْكَانِ كَافِهِ وَإِنْ فَحُشَ التَّغَيُّرُ ( وَطِينٍ وَطُحْلُبٍ ) بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِهَا شَيْءٌ أَخْضَرُ يَعْلُو الْمَاءَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ ( وَمَا فِي مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ ) كَكِبْرِيتٍ وَزِرْنِيخٍ وَنُورَةٍ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَضُرُّ أَوْرَاقُ شَجَرٍ تَنَاثَرَتْ وَتَفَتَّتَتْ وَاخْتَلَطَتْ وَإِنْ كَانَتْ رَبِيعِيَّةً أَوْ بَعِيدَةً عَنْ الْمَاءِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْهَا فَلَا يَمْنَعُ التَّغَيُّرُ بِهِ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَشْبَهَ التَّغَيُّرُ بِهِ فِي الصُّورَةِ التَّغَيُّرَ الْكَثِيرَ بِمُسْتَغْنًى عَنْهُ لَا إنْ طُرِحَتْ وَتَفَتَّتَتْ أَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ الطُّحْلُبُ أَوْ الزَّرْنِيخُ وَدُقَّ نَاعِمًا وَأُلْقِيَ فِيهِ فَغَيَّرَهُ فَإِنَّهُ يَضُرُّ أَوْ تَغَيَّرَ بِالثِّمَارِ السَّاقِطَةِ فِيهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهَا غَالِبًا .
( وَكَذَا ) لَا يَضُرُّ فِي الطَّهَارَةِ ( مُتَغَيِّرٌ بِمُجَاوِرٍ ) طَاهِرٍ ( كَعُودٍ وَدُهْنٍ ) وَلَوْ مُطَيَّبَيْنِ وَكَافُورٍ صَلْبٍ ( أَوْ بِتُرَابٍ ) وَلَوْ مُسْتَعْمَلًا ( طُرِحَ ) بِقَصْدٍ فِي غَيْرِ تُرَابِ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَنَحْوِهَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ التُّرَابِ تَرَوُّحًا ، وَفِي التُّرَابِ كُدُورَةٌ لَا يُمْنَعُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، نَعَمْ إنْ تَغَيَّرَ حَتَّى صَارَ لَا يُسَمَّى إلَّا طِينًا رَطْبًا ضَرَّ .
وَالثَّانِي : يَضُرُّ كَالْمُتَغَيِّرِ بِنَجَسٍ مُجَاوِرٍ فِي الْأَوَّلِ وَبِزَعْفَرَانٍ فِي الثَّانِي ، وَفَرْقُ الْأَوَّلِ بِغِلَظِ أَمْرِ النَّجَاسَةِ وَبِطَهُورِيَّةِ التُّرَابِ ، وَلِأَنَّ تَغَيُّرَهُ بِهِ مُجَرَّدُ كُدْرَةٍ ، وَمَا تَقَرَّرَ فِي التُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ بَعْضُ

الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَلَوْ صَبَّ الْمُتَغَيِّرُ بِمُخَالِطٍ لَا يَضُرُّ عَلَى مَا لَا تَغَيُّرَ فِيهِ فَتَغَيَّرَ بِهِ كَثِيرًا ضَرَّ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ ( 1 ) .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ مُتَّجِهٌ ، وَعَلَيْهِ يُقَالُ لَنَا مَاءَانِ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا ، وَلَا تَصِحُّ بِهِمَا مُخْتَلِطَيْنِ ، وَالْمَخَالِطُ : هُوَ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ .
وَقِيلَ : مَا لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ بِخِلَافِ الْمُجَاوِرِ فِيهِمَا .
وَقِيلَ : الْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ ، فَالتُّرَابُ مُخَالِطٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَمُجَاوِرٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فَصْلُهُ بَعْدَ رُسُوبِهِ ، أَمَّا التَّغَيُّرُ بِتُرَابِ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَنَحْوِهَا أَوْ بِتُرَابٍ تَهُبُّ بِهِ الرِّيحُ أَوْ طُرِحَ بِلَا قَصْدٍ كَأَنْ أَلْقَاهُ صَبِيٌّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فَلَا يَضُرُّ جَزْمًا .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَحْسَنُ أَنَّ الْمُصَنِّفُ يَحْذِفُ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَا مُتَغَيِّرٌ بِمُكْثٍ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : وَكَذَا مُتَغَيِّرٌ بِمُجَاوِرٍ فَيَقُولُ : وَلَا تَغَيُّرٌ بِمُكْثٍ ، وَكَذَا تَغَيُّرٌ بِمُجَاوِرٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَصِحُّ التَّغَيُّرُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ نَفْسَهُ ، بَلْ الْمُضِرُّ التَّغَيُّرُ ، وَيَنْدَفِعُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّرْتُهُ بِقَوْلِي فِي الطَّهَارَةِ تَبَعًا لِلشَّارِحِ : فَائِدَةٌ : الْكَافُورُ نَوْعَانِ : خَلِيطٌ وَمُجَاوِرٌ وَكَذَا الْقَطْرَانُ .
وَاخْتُلِفَ فِي التَّغَيُّرِ بِالْكَتَّانِ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِشَيْءٍ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ فَيَكُونُ كَالتَّغَيُّرِ بِمُخَالِطٍ

وَيُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ .

( وَيُكْرَهُ ) شَرْعًا تَنْزِيهًا الْمَاءُ ( الْمُشَمَّسُ ) أَيْ : مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ أَيْ : اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الِاغْتِسَالَ بِهِ ، وَقَالَ : إنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادٍ حَارَّةٍ : أَيْ تَقْلِبُهُ الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إلَى حَالَةٍ أُخْرَى كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، فِي آنِيَةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ ، وَهِيَ كُلُّ مَا طُرِقَ كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَالِ حَرَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِلُ مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ فَإِذَا لَاقَتْ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُلُ الْبَرَصُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ كَغَسْلِ ثَوْبِهِ فَلَا يُكْرَهُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَبِخِلَافِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّارِ الْمُعْتَدِلَةِ ، وَإِنْ سُخِّنَ بِنَجِسٍ ، وَلَوْ بِرَوْثِ نَحْوِ كَلْبٍ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ : فِيهِ وَقْفَةٌ فَلَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي بِلَادٍ بَارِدَةٍ أَوْ مُعْتَدِلَةٍ ، وَبِخِلَافِ الْمُشَمَّسِ فِي غَيْرِ الْمُنْطَبِعِ كَالْخَزَفِ وَالْحِيَاضِ أَوْ فِي مُنْطَبِعِ نَقْدٍ لِصَفَاءِ جَوْهَرِهِ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ .
وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ بِهِ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : إنَّهُ إنْ بَقِيَ مَائِعًا كُرِهَ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَائِعًا كَالْخُبْزِ وَالْأَرُزِّ الْمَطْبُوخِ بِهِ لَمْ يُكْرَهْ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ إذَا سُخِّنَ بِالنَّارِ لَمْ تَزُلْ الْكَرَاهَةُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْأَبْرَصِ لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ وَكَذَا فِي الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ ( 1 ) : وَغَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحَيَوَانِ إنْ كَانَ الْبَرَصُ يُدْرِكُهُ كَالْخَيْلِ أَوْ

يَتَعَلَّقُ بِالْآدَمِيِّ مِنْهُ ضَرَرٌ اتَّجَهَتْ الْكَرَاهَةُ ، وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَفِي سَقْيِ الْحَيَوَانِ مِنْهُ نَظَرٌ ا هـ .
وَيَنْبَغِي فِيهِ التَّفْصِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ( 2 ) .
وَغَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ : قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ الْمُشَمَّسُ كَالسُّمِّ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مَظْنُونٌ بِخِلَافِ السُّمِّ ، وَقِيلَ : لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ عُمَرَ لَمْ يَثْبُتْ .
وَقِيلَ : إنْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا .
وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ رَوَى الْأَثَرَ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } ( 3 ) وَالْأَثَرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ حَصَلَ بِهِ رَيْبٌ ، وَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ فَقَدْ غَيْرِهِ : أَيْ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَلَا يَتَيَمَّمُ بَلْ يَجِبُ شِرَاؤُهُ حَيْثُ يَجِبُ شِرَاءُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ ، وَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ ، وَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا فُقِدَ غَيْرُهُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَمَا مَرَّ ، وَيَحْرُمُ إنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا ، وَيُكْرَهُ مِيَاهُ ثَمُودَ وَكُلُّ مَاءٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِ كَمَاءِ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ : وَهِيَ بِرْكَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مَوْضِعِ دِيَارِهِمْ الَّتِي خُسِفَتْ ، وَمَاءِ الْبِئْرِ الَّتِي وُضِعَ فِيهَا السِّحْرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مَسَخَ مَاءَهَا حَتَّى صَارَ كَنُقَاعَةِ الْحِنَّاءِ ، وَمَسَخَ طَلْعَ النَّخِيلِ الَّتِي حَوْلَهَا حَتَّى صَارَ كَرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ ، وَمَاءِ دِيَارِ بَابِلَ لَا مَاءِ بِئْرِ النَّاقَةِ وَلَا مَاءِ بَحْرٍ وَلَا مَاءٍ مُتَغَيِّرٍ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا مَاءِ زَمْزَمَ

لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ فِيهِ ، نَعَمْ يُكْرَهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : مَاءُ زَمْزَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْكَوْثَرِ : أَيْ فَيَكُونُ أَفْضَلَ الْمِيَاهِ ؛ لِأَنَّ بِهِ غُسِلَ صَدْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَكُونُ يُغْسَلُ صَدْرَهُ إلَّا بِأَفْضَلِ الْمِيَاهِ ، لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْمِيَاهِ مَا نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمُرَادُ بِالْمُشَمَّسِ الْمُتَشَمِّسُ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ تَشْمِيسُهُ كَمَا حُوِّلَتْ الْعِبَارَةُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ الْعِبَارَةِ

وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ .
قِيلَ وَنَفْلُهَا غَيْرُ طَهُورٍ فِي الْجَدِيدِ ، فَإِنْ جُمِعَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الْأَصَحِّ .

( وَ ) الْمَاءُ الْقَلِيلُ ( الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ ) عَنْ حَدَثٍ كَالْغَسْلَةِ الْأُولَى فِيهِ ( قِيلَ : وَنَفْلُهَا ) كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، وَالْغُسْلُ الْمَسْنُونُ وَالْوُضُوءُ الْمُجَدَّدُ طَاهِرٌ ( غَيْرُ طَهُورٍ فِي الْجَدِيدِ ) ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ جَابِرًا فِي مَرَضٍ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيْهِ مِنْ وَضُوئِهِ } وَكَانُوا مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ لَمْ يَجْمَعُوا الْمُسْتَعْمَلَ لِلِاسْتِعْمَالِ ثَانِيًا ، بَلْ انْتَقَلُوا إلَى التَّيَمُّمِ ، وَلَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ طَهُورٌ لِوَصْفِ الْمَاءِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِلَفْظِ طَهُورٍ الْمُقْتَضِي تَكَرُّرَ الطَّهَارَةِ بِهِ كَضَرُوبٍ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الضَّرْبُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَعُولًا يَأْتِي اسْمًا لِلْآلَةِ كَسَحُورٍ لِمَا يُتَسَحَّرُ بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَهُورٌ كَذَلِكَ ، وَلَوْ سُلِّمَ اقْتِضَاؤُهُ التَّكْرَارَ ، فَالْمُرَادُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِجِنْسِ الْمَاءِ أَوْ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ .
وَالْمُرَادُ بِالْفَرْضِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَثِمَ الشَّخْصُ بِتَرْكِهِ كَحَنَفِيٍّ تَوَضَّأَ بِلَا نِيَّةٍ أَمْ لَا كَصَبِيٍّ إذْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ صَلَاتِهِمَا مِنْ وُضُوءٍ وَلَا أَثَرَ لِاعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَاءَ الْحَنَفِيِّ فِيمَا ذَكَرَ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا بِخِلَافِ اقْتِدَائِهِ بِحَنَفِيٍّ مَسَّ فَرْجَهُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّابِطَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الِاقْتِدَاءِ دُونَ الطَّهَارَاتِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِاسْتِعْمَالِ قَدْ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ كَمَا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الِاقْتِدَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ ، وَنِيَّةُ الْإِمَامِ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي ظَنِّ الْمَأْمُومِ .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ

الْمُسْتَعْمَلِ فَقِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ : إنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْقِيقِهِ وَغَيْرِهِ ، وَقِيلَ مُطْلَقٌ وَلَكِنْ مُنِعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ تَعَبُّدًا كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَسَيَأْتِي الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَاسَةِ فِي بَابِهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي نَفْلِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْجَدِيدِ طَهُورٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ، وَخَرَجَ بِنَفْلِ الطَّهَارَةِ تَجْدِيدُ الْغُسْلِ ، فَالْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ طَهُورٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَنُّ تَجْدِيدُهُ ، وَمِنْ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءُ غَسْلٍ بَدَلَ مَسْحٍ مِنْ رَأْسٍ أَوْ خُفٍّ وَمَاءُ غُسْلِ كَافِرَةٍ لِتَحِلَّ لِحَلِيلِهَا الْمُسْلِمِ ، وَمَاءُ غُسْلِ مَيِّتٍ ، وَمَاءُ غُسْلِ مَجْنُونَةٍ لِتَحِلَّ لِحَلِيلِهَا الْمُسْلِمِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ الْغَسْلَةُ الْأُولَى مِنْ الْوُضُوءِ الْمُجَدَّدِ وَمِنْ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَرْضٌ وَسُنَّةٌ فَيَصْدُقُ عَلَى الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنْهُمَا أَنَّهَا فَرْضُ الطَّهَارَةِ وَلَيْسَتْ مَحَلَّ جَزْمٍ عَلَى الْجَدِيدِ ، بَلْ هِيَ مِنْ مَحَلِّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا أَدَّى بِهِ عِبَادَةً غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا قَدَّرْتُهُ تَبَعًا لِلشَّارِحِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ كَانَ أَوْلَى .
وَأُورِدَ عَلَى ضَابِطِ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءٌ غُسِلَ بِهِ الرِّجْلَانِ بَعْدَ مَسْحِ الْخُفِّ ، وَمَاءٌ غُسِلَ بِهِ الْوَجْهُ قَبْلَ بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ ، وَمَاءٌ غُسِلَ بِهِ الْخَبَثُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فَإِنَّهَا لَا تَرْفَعُ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي فَرْضٍ .
وَأَجَابَ شَيْخُنَا عَنْ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ عَدَمِ رَفْعِهِ ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ شَيْئًا ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْبَغَوِيِّ ( 1 ) ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي فَرْضٍ ، وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ الْمُسْتَفَادِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَرِيضَةٍ ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي فَرْضٍ أَصَالَةً ( فَإِنْ جُمِعَ )

الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ ( فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ ، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسِ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ : أَيْ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا ، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى .
وَالثَّانِي لَا يَعُودُ طَهُورًا ؛ لِأَنَّ قُوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالِاسْتِعْمَالِ فَالْتُحِقَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ : وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ ( ا ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْمَحَلِّ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ مَا بَقِيَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِعْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِلضَّرُورَةِ ، فَلَوْ نَوَى جُنُبٌ رَفْعَ الْجَنَابَةِ ، وَلَوْ قَبْلَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْحَدَثِ ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الِاسْتِعْمَالِ بَاقِيَةٌ إلَى الِانْفِصَالِ ، وَالْمَاءُ فِي حَالِ اسْتِعْمَالِهِ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْحَدَثِ ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا لَوْ كَانَ بِهِ خَبَثٌ بِمَحَلَّيْنِ فَمَرَّ الْمَاءُ بِأَعْلَاهُمَا ثُمَّ بِأَسْفَلِهِمَا طَهَرَا مَعًا كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ نَزَلَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَنَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ قَبْلَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ ثُمَّ اغْتَرَفَ الْمَاءَ بِإِنَاءٍ أَوْ بِيَدِهِ وَصَبَّهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تَرْتَفِعُ جَنَابَةُ ذَلِكَ الْعُضْوِ الَّذِي اغْتَرَفَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي ( 2 ) وَالرُّويَانِيُّ ( 3 ) وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ ، وَلَوْ نَوَى جُنُبَانِ مَعًا بَعْدَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ طَهَرَا أَوْ مُرَتَّبًا ، وَلَوْ قَبْلَ تَمَامِ الِانْغِمَاسِ ، فَالْأَوَّلُ فَقَطْ أَوْ نَوَيَا مَعًا فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُمَا عَنْ بَاقِيهِمَا ، وَلَوْ

شَكَّا فِي الْمَعِيَّةِ قَالَ شَيْخُنَا : فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا يَطْهُرَانِ ؛ لِأَنَّا لَا نَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ بِالشَّكِّ ، وَسَلْبُهَا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَقَطْ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وَالْمَاءُ الْمُتَرَدِّدُ عَلَى عُضْوِ الْمُتَوَضِّئِ وَعَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ وَعَلَى الْمُتَنَجِّسِ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَهُورٌ ، فَإِنْ جَرَى الْمَاءُ مِنْ عُضْوِ الْمُتَوَضِّئِ إلَى عُضْوِهِ الْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَأَنْ جَاوَزَ مَنْكِبَهُ أَوْ تَقَاطَرَ مِنْ عُضْوٍ ، وَلَوْ مِنْ عُضْوِ بَدَنِ الْجُنُبِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا ، نَعَمْ مَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ كَمِنْ الْكَفِّ إلَى السَّاعِدِ وَعَكْسِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِلْعُذْرِ ، وَإِنْ خَرَقَهُ الْهَوَاءُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ ، وَلَوْ غَرَفَ بِكَفِّهِ جُنُبٌ نَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ أَوْ مُحْدِثٌ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ الْغَسْلَةَ الْأُولَى عَلَى مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ أَوْ الْغَسَلَاتِ الثَّلَاثَ كَمَا قَالَهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَهُوَ أَوْجَهُ إنْ لَمْ يُرِدْ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْوِ الِاغْتِرَافَ بِأَنْ نَوَى اسْتِعْمَالًا أَوْ أَطْلَقَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا ، فَلَوْ غَسَلَ بِمَا فِي كَفِّهِ بَاقِيَ يَدِهِ لَا غَيْرَهَا أَجْزَأَهُ ، أَمَّا إذَا نَوَى الِاغْتِرَافَ بِأَنْ قَصَدَ نَقْلَ الْمَاءِ مِنْ الْإِنَاءِ وَالْغَسْلَ بِهِ خَارِجَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ نَفْيُ رَفْعِ الْحَدَثِ

وَلَا تَنْجُسُ قُلَّتَا الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ .

( وَلَا تَنْجُسُ قُلَّتَا الْمَاءِ ) الصِّرْفِ ( بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ ) جَامِدٍ أَوْ مَائِعٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } .
قَالَ الْحَاكِمُ ( 1 ) عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { فَإِنَّهُ لَا يَنْجَسُ } وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } : أَيْ يَدْفَعُ النَّجَسَ وَلَا يَقْبَلُهُ ، وَفَارَقَ كَثِيرُ الْمَاءِ كَثِيرَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ بِأَنَّ كَثِيرَهُ قَوِيٌّ ، وَيَشُقُّ حِفْظُهُ عَنْ النَّجَسِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَثُرَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الصِّرْفِ مَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ مَائِعٌ يُوَافِقُهُ فِي الصِّفَاتِ وَفَرَضْنَاهُ مُخَالِفًا فَلَمْ يُغَيِّرْهُ فَحَكَمْنَا بِطَهُورِيَّتِهِ وَكَأَنَّ الْمَاءَ الصِّرْفَ يَنْقُصُ عَنْ قُلَّتَيْنِ بِقَدْرِ الْمَائِعِ الْوَاقِعِ فِيهِ فَصَارَ قُلَّتَيْنِ وَوَقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ قُلَّتَيْنِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاتِهَا ، وَإِنَّمَا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ قُلَّتَانِ مِنْ مَحْضِ الْمَاءِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِتَصْحِيحِهِمْ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ ذَلِكَ الْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ غَيْرَ كَافٍ لِلطَّهَارَةِ ، وَنَزَّلُوا الْمَائِعَ الْمُسْتَهْلَكَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ وَإِزَالَةَ النَّجَسِ مِنْ بَابِ الرَّفْعِ ، وَدَفْعُ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ .
قَاعِدَةٌ : وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّفْعِ ، وَالدَّافِعُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الرَّافِعِ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إذَا وَرَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ طَهَّرَهَا ، وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ .
وَبِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ كَانَ فِي عَوْدِهِ طَهُورًا وَجْهَانِ ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ قُلَّتَيْنِ ابْتِدَاءً لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا اُسْتُعْمِلَ ، وَهُوَ قُلَّتَانِ كَانَ دَافِعًا لِلِاسْتِعْمَالِ ،

وَإِذَا جُمِعَ كَانَ رَافِعًا ، وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّفْعِ كَمَا مَرَّ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحُكْمِ بِتَنْجِيسِهِ أَنَّهُ لَوْ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ صَارَ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ لَا يَدْفَعُ الِاسْتِعْمَالَ : نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ ، وَلَوْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ قُلَّتَيْنِ ، وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ هَلْ يَنْجُسُ أَوْ لَا ؟ الْمُعْتَمَدُ الثَّانِي ، بَلْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ ؛ إذْ الْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةٍ مُنَجِّسَةٍ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ ، وَصَوَّبَ فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ إنْ جَمَعَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَشَكَّ فِي وُصُولِهِ قُلَّتَيْنِ فَالْأَصْلُ الْقِلَّةُ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَأَخَذَ مِنْهُ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْكَثْرَةِ ، وَإِنْ وَرَدَ نَجَسٌ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ فَهَذَا مَحَلُّ التَّرَدُّدِ .
وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ تَأَخَّرَ ؟ وَالتَّفْصِيلُ هُنَاكَ ضَعِيفٌ فَكَذَا هُنَا ( فَإِنْ غَيَّرَهُ ) أَيْ : غَيَّرَ النَّجَسُ الْمُلَاقِي الْمَاءَ الْقُلَّتَيْنِ وَلَوْ يَسِيرًا حِسًّا أَوْ تَقْدِيرًا ( فَنَجِسٌ ) بِالْإِجْمَاعِ الْمُخَصِّصِ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ .
وَلِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } كَمَا خَصَّصَهُ مَفْهُومُ خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ السَّابِقِ ، فَالتَّغْيِيرُ الْحِسِّيُّ طَاهِرٌ ، وَالتَّقْدِيرِيُّ بِأَنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ تُوَافِقُهُ فِي الصِّفَاتِ كَبَوْلٍ انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ ، وَلَوْ فُرِضَ مُخَالِفًا لَهُ فِي أَغْلَظِ الصِّفَاتِ كَلَوْنِ الْحِبْرِ ، وَطَعْمِ الْخَلِّ ، وَرِيحِ الْمِسْكِ لَغَيَّرَهُ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ ، وَاكْتُفِيَ هُنَا بِأَدْنَى تَغَيُّرٍ وَاعْتُبِرَ الْأَغْلَظُ فِي الصِّفَاتِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّغَيُّرِ بِالطَّاهِرِ فِيهِمَا لِغِلَظِ النَّجَاسَةِ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ بَعْضُ الْمَاءِ فَالْمُتَغَيِّرُ كَنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ لَا يَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْهَا بِقُلَّتَيْنِ وَالْبَاقِي إنْ

قَلَّ فَنَجِسٌ ، وَإِلَّا فَطَاهِرٌ ، فَلَوْ غَرَفَ دَلْوًا مِنْ مَاءِ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَلَمْ يَغْرِفْهَا مَعَ الْمَاءِ فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ لِانْفِصَالِ مَا فِيهِ عَنْ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ لَا ظَاهِرُهَا لِتَنَجُّسِهِ بِالْبَاقِي الْمُتَنَجِّسِ بِالنَّجَاسَةِ لِقِلَّتِهِ ، فَإِنْ دَخَلَتْ مَعَ الْمَاءِ أَوْ قَبْلَهُ فِي الدَّلْوِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ ، وَتَأْنِيثُ الدَّلْوِ أَفْصَحُ مِنْ تَذْكِيرِهِ

فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِمَاءٍ طَهُرَ ، أَوْ بِمِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ فَلَا ، وَكَذَا تُرَابٌ وَجِصٌّ فِي الْأَظْهَرِ ، وَدُونَهُمَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ .

( فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ ) الْحِسِّيُّ أَوْ التَّقْدِيرِيُّ ( بِنَفْسِهِ ) بِأَنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ شَيْءٌ كَأَنْ زَالَ بِطُولِ الْمُكْثِ ( أَوْ بِمَاءٍ ) انْضَمَّ إلَيْهِ بِفِعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوْ نَجِسًا أَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي الْمُهَذَّبِ : أَيْ نَقَصَ وَالْبَاقِي قُلَّتَانِ ، وَصَوَّرَهُ فِي شَرْحِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنَاءُ مُخْتَنِقًا لَا يَدْخُلُهُ الرِّيحُ ، فَإِذَا نَقَصَ دَخَلَتْهُ وَقَصَّرَتْهُ ( طَهُرَ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّهَا لِزَوَالِ سَبَبِ التَّنْجِيسِ ، وَلَا يَضُرُّ عَوْدُ تَغَيُّرِهِ إنْ خَلَا عَنْ نَجَسٍ جَامِدٍ ، وَيُعْرَفُ زَوَالُ تَغَيُّرِهِ التَّقْدِيرِيِّ بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَنٌ لَوْ كَانَ تَغَيُّرُهُ حِسِّيًّا لَزَالَ تَغَيُّرُهُ : وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِجَنْبِهِ غَدِيرٌ فِيهِ مَاءٌ مُتَغَيِّرٌ فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ أَوْ بِمَاءٍ صُبَّ عَلَيْهِ ، فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا زَالَ تَغَيُّرُهُ ( أَوْ ) زَالَ تَغَيُّرُهُ ظَاهِرًا كَأَنْ زَالَ رِيحُهُ ( بِمِسْكٍ وَ ) لَوْنُهُ بِنَحْوِ ( زَعْفَرَانٍ ) وَطَعْمُهُ بِنَحْوِ خَلٍّ ( فَلَا ) يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ أَوْصَافَ النَّجَاسَةِ زَالَتْ أَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَطْرُوحُ فَسَتَرَهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ عَوْدِ الطَّهُورِيَّةِ احْتِمَالُ أَنَّ التَّغَيُّرَ اسْتَتَرَ وَلَمْ يَزُلْ فَكَيْفَ يَعْطِفُهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا جَزَمَ فِيهِ بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ وَذَلِكَ تَهَافُتٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ زَوَالُهُ ظَاهِرًا كَمَا قَدَّرْتُهُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِتَارُهُ بَاطِنًا ، فَلَوْ طُرِحَ مِسْكٌ عَلَى مُتَغَيِّرِ الطَّعْمِ فَزَالَ تَغَيُّرُهُ طَهُرَ ، إذْ الْمِسْكُ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ ، وَكَذَا يُقَالُ فِي الْبَاقِي ( وَكَذَا ) لَا يَطْهُرُ ظَاهِرًا إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ ( تُرَابٌ وَجِصٌّ ) أَيْ جِبْسٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَنَوْرَةٍ لَمْ تُطْبَخْ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِلشَّكِّ الْمَذْكُورِ .
وَالثَّانِي : يَطْهُرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يُسْتَرُ

التَّغْيِيرُ ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ يُكَدِّرُ الْمَاءَ ، وَالْكُدْرَةُ مِنْ أَسْبَابِ السَّتْرِ ، فَإِنْ صَفَا الْمَاءُ ، وَلَا تَغَيُّرَ فِيهِ طَهُرَ هُوَ وَالتُّرَابُ مَعَهُ جَزْمًا .
فَائِدَةٌ : الْجِصُّ : مَا يُبْنَى بِهِ وَيُطْلَى ، وَكَسْرُ جِيمِهِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا : وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ بِالْجِبْسِ ، وَهُوَ لَحْنٌ ( وَدُونَهُمَا ) أَيْ وَالْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ( يَنْجُسُ ) هُوَ وَرُطَبُ غَيْرِهِ كَزَيْتٍ وَإِنْ كَثُرَ ( بِالْمُلَاقَاةِ ) لِلنَّجَاسَةِ الْمُؤَثِّرَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَإِنْ كَانَتْ مُجَاوِرَةً : أَمَّا الْمَاءُ فَلِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ السَّابِقِ الْمُخَصِّصِ لِمَنْطُوقِ حَدِيثِ { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } السَّابِقِ وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } نَهَاهُ عَنْ الْغَمْسِ خَشْيَةَ النَّجَاسَةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إذَا خَفِيَتْ لَا تُغَيِّرُ الْمَاءَ ، فَلَوْلَا أَنَّهَا تُنَجِّسُهُ بِوُصُولِهَا لَمْ يَنْهَهُ : نَعَمْ إنْ وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي فِي بَابِهَا .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَاءِ فَبِالْأَوْلَى ، وَفَارَقَ كَثِيرُ الْمَاءِ كَثِيرَ غَيْرِهِ بِأَنَّ كَثِيرَهُ قَوِيٌّ وَيَشُقُّ حِفْظُهُ مِنْ النَّجَسِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَثُرَ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ تَنَجَّسَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مَثَلًا ثُمَّ غَسَلَ إحْدَى يَدَيْهِ وَشَكَّ فِي الْمَغْسُولِ أَهُوَ يَدُهُ الْيُمْنَى أَمْ الْيُسْرَى ثُمَّ أَدْخَلَ الْيُسْرَى فِي مَائِعٍ لَمْ يَنْجُسْ الْمَائِعُ بِغَمْسِ الْيَدِ الْيُسْرَى فِيهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخِي .
قَالَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ وَقَدْ اعْتَضَدَ بِاحْتِمَالِ طَهَارَةِ الْيَدِ الْيُسْرَى ، وَيُعْفَى عَمَّا تُلْقِيهِ الْفِئْرَانُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي حِيَاضِ الْأَخْلِيَةِ ، وَعَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ الْوَاقِعِ فِيهَا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ مَا ذُكِرَ ، وَخَرَجَ بِالرَّطْبِ الْجَامِدُ الْخَالِي عَنْ رُطُوبَةٍ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ بِالْمُؤَثِّرَةِ

غَيْرُهَا كَمَا سَيَأْتِي ، وَقَدَّرْتُ الْمَاءَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِلشَّارِحِ لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ ؛ لِأَنَّ دُونَ عِنْدَهُمْ ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا أُضِيفَ إلَى مَبْنِيٍّ كَالْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفُ ، فَقَالَ الْأَخْفَشُ : يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إلَى مَبْنِيٍّ ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَجِبُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ ( فَإِنْ بَلَغَهُمَا ) أَيْ : الْمُتَنَجِّسُ قُلَّتَيْنِ ( بِمَاءٍ ) وَلَوْ مُسْتَعْمَلًا وَمُتَنَجِّسًا وَمُتَغَيِّرًا بِنَحْوِ زَعْفَرَانٍ ( وَ ) الْحَالُ أَنَّهُ ( لَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ ) لِزَوَالِ الْعِلَّةِ .
وَهِيَ الْقِلَّةُ حَتَّى لَوْ فُرِّقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ ، وَيَكْفِي الضَّمُّ وَإِنْ لَمْ يَمْتَزِجْ صَافٍ بِكَدِرٍ لِحُصُولِ الْقُوَّةِ بِالضَّمِّ ، لَكِنْ إنْ انْضَمَّا بِفَتْحِ حَاجِزٍ اُعْتُبِرَ اتِّسَاعُهُ وَمُكْثُهُ زَمَنًا يَزُولُ فِيهِ التَّغَيُّرُ لَوْ كَانَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ : وَغَمْسُ كُوزِ مَاءٍ وَاسِعِ الرَّأْسِ فِي مَاءٍ كَمَّلَهُ قُلَّتَيْنِ وَسَاوَاهُ بِأَنْ كَانَ الْإِنَاءُ مُمْتَلِئًا أَوْ امْتَلَأَ بِدُخُولِ الْمَاءِ فِيهِ وَمَكَثَ قَدْرًا يَزُولُ فِيهِ تَغَيُّرٌ لَوْ كَانَ وَاحِدُ الْمَاءَيْنِ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا طَهُرَ ؛ لِأَنَّ تَقَوِّي أَحَدِ الْمَاءَيْنِ بِالْآخَرِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ضَيِّقَ الرَّأْسِ أَوْ وَاسِعَهُ بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ مَا فِيهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ تَحَرُّكًا عَنِيفًا ، لَكِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ كَمُلَ لَكِنْ لَمْ يَمْكُثْ زَمَنًا يَزُولُ فِيهِ التَّغَيُّرُ لَوْ كَانَ أَوْ مَكَثَ ، لَكِنْ لَمْ يُسَاوِهِ الْمَاءُ لَمْ يَطْهُرْ وَلَا يَنْجُسُ أَسْفَلُ مَا يَفُورُ بِتَنَجُّسِ أَعْلَاهُ كَعَكْسِهِ ، وَلَوْ وُضِعَ كُوزٌ عَلَى نَجَاسَةٍ ، وَمَاؤُهُ خَارِجٌ مِنْ أَسْفَلِهِ لَمْ يَنْجُسْ مَا فِيهِ مَا دَامَ يَخْرُجُ ، فَإِنْ تَرَاجَعَ تَنَجَّسَ كَمَا لَوْ سُدَّ بِنَجَسٍ .

فَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا لَمْ يَطْهُرْ ، وَقِيلَ طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ وَيُسْتَثْنَى مَيْتَةٌ لَا دَمَ لَهَا سَائِلٌ فَلَا تُنَجِّسُ مَائِعًا عَلَى الْمَشْهُورِ .

مُهِمَّةٌ : إذَا قَلَّ مَاءُ الْبِئْرِ وَتَنَجَّسَ لَمْ يَطْهُرْ بِالنَّزْحِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى ، نَجِسًا وَقَدْ تَنْجُسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا بِالنَّزْحِ بَلْ بِالتَّكْثِيرِ كَأَنْ يُتْرَكَ أَوْ يُصَبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ لِيَكْثُرَ ، وَلَوْ كَثُرَ الْمَاءُ وَتَفَتَّتَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَهُوَ طَهُورٌ تَعَسَّرَ اسْتِعْمَالُهُ بِاغْتِرَافِ شَيْءٍ مِنْهُ كَدَلْوٍ ؛ إذْ لَا تَخْلُو مِمَّا تَمَعَّطَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مَعَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فَوَّارَةً وَتَعَسَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ نُزِحَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ كُلَّهُ خَرَجَ مَعَهُ ، فَإِنْ اغْتَرَفَ مِنْهُ قَبْلَ النَّزْحِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ فِيمَا اغْتَرَفَهُ شَعْرًا لَمْ يَضُرَّ ( فَلَوْ كُوثِرَ ) الْمُتَنَجِّسُ الْقَلِيلُ ( بِإِيرَادِ ) مَاءٍ ( طَهُورٍ ) أَيْ أُورِدَ عَلَيْهِ طَهُورٌ أَكْثَرُ مِنْهُ ( فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا لَمْ يَطْهُرْ ) لِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيل فِيهِ نَجَاسَةٌ ، وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْمَاءِ أَنْ يَكُونَ غَاسِلًا لَا مَغْسُولًا ( وَقِيلَ ) هُوَ ( طَاهِرٌ ) بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ قِيَاسًا لِلْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَفِي الْكِفَايَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مُتَغَيِّرًا أَمْ لَا ( لَا طَهُورٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مَغْسُولٌ فَهُوَ كَالثَّوْبِ ، فَلَوْ انْتَفَتْ الْكَثْرَةُ أَوْ انْتَفَى الْإِيرَادُ أَوْ الطَّهُورِيَّةُ أَوْ كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ لَمْ يَطْهُرْ جَزْمًا ، فَهَذِهِ الْقُيُودُ شَرْطٌ لِلْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ لَا لِلْقَوْلِ بِعَدَمِهَا ، فَلَوْ قَالَ : فَلَوْ لَمْ يَبْلُغْهُمَا لَمْ يَطْهُرْ ، وَقِيلَ إنْ كُوثِرَ إلَخْ فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ كَانَ أَوْلَى .
قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا هُنَا اسْمٌ بِمَعْنَى غَيْرٍ ظَهَرَ إعْرَابُهَا فِيمَا بَعْدَهَا لِكَوْنِهَا عَلَى صُورَةِ الْحَرْفِ ، وَهِيَ مَعَهُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا .
أَيْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَطْفِ بِلَا أَنْ يَكُونَ

مَا بَعْدَهَا مُغَايَرًا لِمَا قَبْلَهَا كَقَوْلِكَ : جَاءَ رَجُلٌ لَا امْرَأَةٌ بِخِلَافِ قَوْلِكَ : جَاءَ رَجُلٌ لَا زَيْدٌ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ عَلَى زَيْدٍ ( وَيُسْتَثْنَى ) مِنْ النَّجَسِ ( مَيْتَةٌ لَا دَمَ لَهَا ) أَصَالَةً ( سَائِلٌ ) أَيْ لَا يَسِيلُ دَمُهَا عِنْدَ شِقِّ عُضْوٍ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا كَزُنْبُورٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَعَقْرَبٍ وَوَزَغٍ وَذُبَابٍ وَقَمْلٍ وَبَرْغُوثٍ لَا نَحْوِ حَيَّةٍ وَضُفْدَعٍ وَفَأْرَةٍ ( فَلَا تُنَجِّسُ مَائِعًا ) مَاءً أَوْ غَيْرَهُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطْرَحَهَا طَارِحٌ ، وَلَمْ تُغَيِّرْهُ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا ، وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً أَيْ : وَهُوَ الْيَسَارُ كَمَا قِيلَ وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً } زَادَ أَبُو دَاوُد { وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ } وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إلَى مَوْتِهِ ، فَلَوْ نَجِسَ الْمَائِعُ لَمَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَزَعَهَا بِأُصْبُعِهِ أَوْ عُودٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَتَنَجَّسْ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْكَمَالِ بْنِ أَبِي شَرِيفٍ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَدَّ مَا نَزَعَ بِهِ فِي الْمَائِعِ وَنَزَعَ بِهِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لَمْ يَنْجُسْ الْمَائِعُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى أُصْبُعِهِ أَوْ الْعُودِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَائِعِ انْفَصَلَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ ، وَقِيسَ بِالذُّبَابِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ لَا يَسِيلُ دَمُهَا فَلَوْ شَكَكْنَا فِي سَيْلِ دَمِهَا امْتَحَنَ بِجِنْسِهَا فَتُجْرَحُ لِلْحَاجَةِ .
قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَسِيلُ دَمُهَا ، لَكِنْ لَا دَمَ فِيهَا أَوْ فِيهَا دَمٌ لَا يَسِيلُ لِصِغَرِهَا فَلَهَا حُكْمُ مَا يَسِيلُ دَمُهَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَالثَّانِي تُنَجِّسُهُ .
قَالَ فِي التَّنْبِيهِ : وَهُوَ الْقِيَاسُ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ النَّجِسَةِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ تَنْشَأْ

فِيهِ فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَالْعَلَقِ وَدُودِ الْخَلِّ لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا ، فَإِنْ غَيَّرَتْهُ الْمَيْتَةُ لِكَثْرَتِهَا أَوْ طُرِحَتْ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهَا قَصْدًا تَنَجَّسَ جَزْمًا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرَيْنِ ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِمَا : بَعْدَ مَوْتِهَا قَصْدًا أَنَّهُ لَوْ طَرَحَهَا شَخْصٌ بِلَا قَصْدٍ أَوْ قَصَدَ طَرْحَهَا عَلَى مَكَان آخَرَ فَوَقَعَتْ فِي الْمَائِعِ أَوْ أَخَذَ الْمَيْتَةَ لِيُخْرِجَهَا فَوَقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ رَفْعِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى رَمْيِهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بَلْ قَصَدَ إخْرَاجَهَا فَوَقَعَتْ فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ طَرَحَهَا مَنْ لَا يُمَيِّزُ أَوْ قَصَدَ طَرْحَهَا فِيهِ فَوَقَعَتْ فِيهِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَضَعَ خِرْقَةً عَلَى إنَاءٍ وَصُفِّيَ بِهَا هَذَا الْمَائِعُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمَيْتَةُ بِأَنْ صَبَّهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْمَائِعَ ، وَفِيهِ الْمَيْتَةُ مُتَّصِلَةٌ بِهِ ثُمَّ يَتَصَفَّى عَنْهَا الْمَائِعُ وَتَبْقَى هِيَ مُنْفَرِدَةً عَنْهُ ، لَا أَنَّهُ طَرْحُ الْمَيْتَةِ فِي الْمَائِعِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ فَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ مِنْ الْمَائِعِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى قِلَّتِهِ لَمْ يَطْهُرْ كَمَا أَفَادَهُ شَيْخِي .
فَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ طَهُرَ

وَكَذَا فِي قَوْلٍ نَجَسٌ لَا يُدْرِكُهُ طَرْفٌ .
قُلْتُ : ذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَكَذَا فِي قَوْلٍ نَجَسٌ لَا يُدْرِكُهُ طَرْفٌ ) أَيْ لَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ لِقِلَّتِهِ لَا لِمُوَافَقَةِ لَوْنِ مَا اتَّصَلَ بِهِ كَنُقْطَةِ بَوْلٍ وَخَمْرٍ وَمَا تَعَلَّقَ بِنَحْوِ رِجْلِ ذُبَابَةٍ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي النَّجَاسَاتِ ( قُلْتُ ذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ) مِنْ مُقَابِلِهِ وَهُوَ التَّنْجِيسُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ فِي الشَّرْحَيْنِ عَنْ الْمُعْظَمِ .
وَمَجْمُوعُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ سَبْعُ طُرُقٍ : إحْدَاهَا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ : قَوْلَانِ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ ، وَالثَّانِيَةُ : يُؤَثِّرُ فِيهِمَا قَطْعًا ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالثَّالِثَةُ : لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا قَطْعًا .
وَالرَّابِعَةُ : يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ ، وَفِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ .
وَالْخَامِسَةُ : عَكْسُ ذَلِكَ .
وَالسَّادِسَةُ : يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ دُونَ الثَّوْبِ قَطْعًا .
وَالسَّابِعَةُ : عَكْسُهُ .
وَقَضِيَّةُ مَا ذُكِرَ فِي الْعَفْوِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ ، وَهُوَ قَوِيٌّ ، لَكِنْ قَالَ الْجِيلِيُّ صُورَتُهُ أَنْ يَقَعَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَإِلَّا فَلَهُ حُكْمُ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ إشَارَةٌ إلَيْهِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالْأَوْجَهُ تَصْوِيرُهُ بِالْيَسِيرِ عُرْفًا وَهُوَ حَسَنٌ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقِيَاسُ اسْتِثْنَاءِ دَمِ الْكَلْبِ مِنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِثْلَهُ ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْمَشَقَّةِ ، وَالْفَرْقُ أَوْجَهُ ، وَعَطْفُ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَلَى مَا مَرَّ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُ التَّنْبِيهِ يُفْهِمُ تَنَجُّسَ الْمَائِعِ بِهِ جَزْمًا ، وَلِذَلِكَ قُلْتُ فِي شَرْحِهِ : وَغَيْرُ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ كَالْمَاءِ ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ رَوْثِ سَمَكٍ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَاءَ وَعَنْ الْيَسِيرِ عُرْفًا مِنْ شَعْرِ نَجِسٍ مِنْ غَيْرِ نَحْوِ : كَلْبٍ ، وَعَنْ كَثِيرِهِ مِنْ مَرْكُوبٍ

وَعَنْ قَلِيلِ دُخَانٍ نَجِسٍ وَغُبَارِ سِرْجِينٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الرِّيحُ كَالذَّرِّ وَعَنْ حَيَوَانٍ مُتَنَجِّسِ الْمَنْفَذِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ لِلْمَشَقَّةِ فِي صَوْنِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ آدَمِيٍّ مُسْتَجْمِرٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : بِلَا خِلَافٍ ، وَعَنْ الدَّمِ الْبَاقِي عَلَى اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ ، وَلَوْ تَنَجَّسَ فَمُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مِنْ هِرَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ غَابَ وَأَمْكَنَ وُرُودُهُ مَاءً كَثِيرًا ثُمَّ وَلَغَ فِي طَاهِرٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ مَعَ حُكْمِنَا بِنَجَاسَةِ فَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَتُهُ وَطَهَارَةُ الْمَاءِ ، وَقَدْ اعْتَضَدَ أَصْلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ بِاحْتِمَالِ وُلُوغِهِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ فِي الْغَيْبَةِ فَرُجِّحَ .
قَالَ فِي التَّوْشِيحِ : وَلَا يُسْتَثْنَى مَسْأَلَةُ الْهِرَّةِ : أَيْ وَنَحْوِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَثْنَاهَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَمُهَا طَاهِرًا ؛ إذْ لَوْ تَحَقَّقَ نَجَاسَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ وَارِدٌ عَلَى مُحَقَّقِ النَّجَاسَةِ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ .
وَاسْتَشْكَلَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ طَهَارَةَ فَمِ الْهِرَّةِ بِمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا وَتَأْخُذُ مِنْهُ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ وَلَا تَلَغُ فِي الْمَاءِ بِحَيْثُ يَطْهُرُ فَمُهَا مِنْ أَكْلِ الْفَأْرَةِ أَيْ مَثَلًا فَلَا يُفِيدُ احْتِمَالُ مُطْلَقِ الْوُلُوغِ احْتِمَالَ عَوْدِ فَمِهَا إلَى الطَّهَارَةِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اُحْتُمِلَ طَهَارَةُ الْفَمِ ، وَالِاحْتِمَالُ مَوْجُودٌ بِأَنْ تَكُونَ وَضَعَتْ جَمِيعَ فَمِهَا فِي الْمَاءِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الَّذِي لَاقَى الْمَاءَ مِنْ فَمِهَا وَلِسَانِهَا يَطْهُرُ بِالْمُلَاقَاةِ ، وَمَا لَا يُلَاقِيهِ يَطْهُرُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَلَا يَضُرُّنَا قِلَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَارِدٌ

وَالْجَارِي كَرَاكِدٍ ، وَفِي الْقَدِيمِ لَا يَنْجُسُ بِلَا تَغَيُّرٍ ، وَالْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائِةِ رِطْلٍ بَغْدَادِيٍّ

( وَ ) الْمَاءُ ( الْجَارِي ) وَهُوَ مَا انْدَفَعَ فِي مُسْتَوٍ أَوْ مُنْخَفِضٍ ( كَرَاكِدٍ ) فِيمَا مَرَّ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَفِيمَا يُسْتَثْنَى لِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْجَارِي بِالْجَرْيَةِ نَفْسِهَا لَا مَجْمُوعِ الْمَاءِ ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ الدَّفْعَةُ بَيْنَ حَافَّتَيْ النَّهْرِ عَرْضًا ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَرْتَفِعُ مِنْ الْمَاءِ عِنْدَ تَمَوُّجِهِ ، أَيْ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا ، فَإِنْ كَبِرَتْ الْجَرْيَةُ لَمْ تَنْجُسْ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مُنْفَصِلَةٌ عَمَّا أَمَامَهَا وَمَا خَلْفَهَا مِنْ الْجَرْيَاتِ حُكْمًا وَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِمَا حِسًّا ؛ إذْ كُلُّ جَرْيَةٍ طَالِبَةٌ لِمَا أَمَامَهَا هَارِبَةٌ عَمَّا خَلْفَهَا .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهَا حُكْمًا لَتَنَجَّسَ الْمَاءُ فِي الْكُوزِ إذَا انْصَبَّ عَلَى الْأَرْضِ وَوَرَدَ عَلَيْهِ نَجَسٌ ، فَلَوْ وَقَعَ فِيهَا نَجَسٌ فَكَمَا لَوْ وَقَعَ فِي رَاكِدٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً تَنَجَّسَتْ بِوُصُولِهِ إلَيْهَا ، وَإِنْ بَلَغَتْ مَعَ مَا أَمَامَهَا وَمَا خَلْفَهَا قُلَّتَيْنِ لَتَفَاصَلَ أَجْزَاءُ الْجَارِي فَلَا يَتَقَوَّى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِخِلَافِ الرَّاكِدِ وَالْجَرْيَةِ إذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا قُلَّتَيْنِ ، وَلَوْ وَقَعَ فِيهَا - وَهِيَ قَلِيلَةٌ - نَجَسٌ جَامِدٌ ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِجَرَيَانِهَا تَنَجَّسَتْ دُونَ مَا أَمَامَهَا وَمَا خَلْفَهَا أَوْ وَاقِفًا أَوْ جَرْيُهَا أَسْرَعَ فَمَحَلُّهُ وَمَا أَمَامَهُ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ نَجَسٌ وَإِنْ طَالَ امْتِدَادُهُ إلَّا أَنْ يَتَرَادَّ أَوْ يَجْتَمِعَ فِي نَحْوِ حُفْرَةٍ ، وَعَلَيْهِ يُقَالُ لَنَا مَاءٌ هُوَ أَلْفُ قُلَّةٍ يَنْجُسُ بِلَا تَغَيُّرٍ ، وَالْجَرْيَةُ الَّتِي تَعْقُبُ جَرْيَةَ النَّجَسِ الْجَارِي تَغْسِلُ الْمَحَلَّ فَلَهَا حُكْمُ الْغُسَالَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ كَلْبٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْعِ جَرْيَاتٍ مَعَ كُدُورَةِ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ الطَّهُورِ فِي إحْدَاهُنَّ ، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْجَرْيَةِ قُلَّتَيْنِ بِأَنْ

تُمْسَحَا وَيُجْعَلَ الْحَاصِلُ مِيزَانًا ثُمَّ يُؤْخَذُ قَدْرُ عُمْقِ الْجَرْيَةِ وَيُضْرَبُ فِي قَدْرِ طُولِهَا ثُمَّ الْحَاصِلُ فِي قَدْرِ عَرْضِهَا بَعْدَ بَسْطِ الْأَقْدَارِ مِنْ مَخْرَجِ الرُّبْعِ لِوُجُودِهِ فِي مِقْدَارِ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمُرَبَّعِ فَمَسْحُ الْقُلَّتَيْنِ بِأَنْ تَضْرِبَ ذِرَاعًا وَرُبْعًا طُولًا فِي مِثْلِهِمَا عَرْضًا فِي مِثْلِهِمَا عُمْقًا يَحْصُلَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ الْمِيزَانُ .
أَمَّا إذَا كَانَ أَمَامَ الْجَارِي ارْتِفَاعٌ يَرُدُّهُ فَلَهُ حُكْمُ الرَّاكِدِ ( وَفِي الْقَدِيمِ لَا يَنْجُسُ ) الْقَلِيلُ مِنْهُ ( بِلَا تَغَيُّرٍ ) لِقُوَّةِ الْجَارِي ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ عَلَى شُطُوطِ الْأَنْهَارِ الصَّغِيرَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّئُونَ مِنْهَا وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ رَشَاشِ النَّجَاسَةِ غَالِبًا ، وَعَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْجَارِيَ وَارِدٌ عَلَى النَّجَاسَةِ فَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَالْمَاءِ الَّذِي تُزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادًا ( وَالْقُلَّتَانِ ) بِالْوَزْنِ ( خَمْسُمِائِةِ رِطْلٍ ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا ( بَغْدَادِيٍّ ) أَخَذًا مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرِهِ

تَقْرِيبًا فِي الْأَصَحِّ

إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ وَالْقُلَّةُ فِي اللُّغَةِ الْجَرَّةُ الْعَظِيمَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ يُقِلُّهَا بِيَدَيْهِ أَيْ يَرْفَعُهَا ، وَهَجَرُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْجِيمِ قَرْيَةٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ تُجْلَبُ مِنْهَا الْقِلَالُ ، وَقِيلَ : هِيَ بِالْبَحْرَيْنِ .
قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ فَإِذَا الْقُلَّةُ مِنْهَا تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا : أَيْ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ ، فَاحْتَاطَ الشَّافِعِيُّ فَحَسَبَ الشَّيْءَ نِصْفًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَوْقَهُ لَقَالَ تَسَعُ ثَلَاثَ قِرَبٍ إلَّا شَيْئًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فَتَكُونُ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قِرَبٍ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْقِرْبَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِيٍّ ، وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فِي الْأَصَحِّ فَالْمَجْمُوعُ بِهِ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ ( تَقْرِيبًا فِي الْأَصَحِّ ) قَدَّمَ تَقْرِيبًا عَكْسُ الْمُحَرَّرِ لِيَشْمَلَهُ وَمَا قَبْلَهُ التَّصْحِيحُ فَيُعْفَى عَنْ نَقْصِ رِطْلٍ وَرِطْلَيْنِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَصَحَّحَ فِي التَّحْقِيقِ مَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ نَقْصُ قَدْرٍ لَا يَظْهَرُ بِنَقْصِهِ تَفَاوُتٌ فِي التَّغَيُّرِ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيِّرَةِ كَأَنْ تَأْخُذَ إنَاءَيْنِ فِي وَاحِدٍ قُلَّتَانِ ، وَفِي الْآخَرِ دُونَهُمَا ، ثُمَّ تَضَعَ فِي أَحَدِهِمَا قَدْرًا مِنْ الْمُغَيِّرِ وَتَضَعَ فِي الْآخَرِ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي التَّغَيُّرِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ ، وَإِلَّا ضَرَّ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِضَبْطِهِ ، وَالْمُقَابِلُ فِي قَدْرِهِمَا مَا قِيلَ إنَّهُمَا أَلْفُ رِطْلٍ ؛ لِأَنَّ الْقِرْبَةَ قَدْ تَسَعُ مِائَتَيْ رِطْلٍ ، وَقِيلَ : هُمَا سِتُّمِائَةِ رِطْلٍ ؛ لِأَنَّ الْقُلَّةَ مَا يُقِلُّهُ الْبَعِيرُ وَيَحْمِلُهُ ، وَبَعِيرُ الْعَرَبِ

لَا يَحْمِلُ غَالِبًا أَكْثَرَ مِنْ وَسْقٍ ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ ، يُحَطُّ عِشْرُونَ لِلظَّرْفِ وَالْحَبْلِ .
وَالْعَدَدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ قِيلَ تَحْدِيدٌ فَيَضُرُّ نَقْصُ أَيِّ شَيْءٍ نَقَصَ .
فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ تَرْجِعُ الْقُلَّتَانِ أَيْضًا إلَى التَّحْدِيدِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ نَقْصُ مَا زَادَ عَلَى الرِّطْلَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَحْدِيدُ غَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، وَبِالْمِسَاحَةِ فِي الْمُرَبَّعِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا ، وَفِي الْمُدَوَّرِ ذِرَاعَانِ طُولًا وَذِرَاعٌ عَرْضًا : قَالَ الْعِجْلِيُّ : وَالْمُرَادُ فِيهِ بِالطُّولِ الْعُمْقُ وَبِالْعَرْضِ مَا بَيْنَ حَائِطَيْ الْبِئْرِ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ ، وَبِالذِّرَاعِ فِي الْمُرَبَّعِ ذِرَاعُ الْآدَمِيِّ ، وَهُوَ شِبْرَانِ تَقْرِيبًا ، وَأَمَّا فِي الْمُدَوَّرِ فَالْمُرَادُ فِي الطُّولِ ذِرَاعُ النَّجَّارِ الَّذِي هُوَ ذِرَاعُ الْآدَمِيِّ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ تَقْرِيبًا ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يُبْسَطُ كُلٌّ مِنْ الْعَرْضِ وَالطُّولِ وَمُحِيطِ الْعَرْضِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ وَسُبْعٌ أَرْبَاعًا لِوُجُودِ مَخْرَجِهَا فِي قَدْرِ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمُرَبَّعِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ أَرْبَاعًا فَيَصِيرُ الْعَرْضُ أَرْبَعَةً وَالطُّولُ عَشَرَةً ، وَالْمُحِيطُ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ ، ثُمَّ يُضْرَبُ نِصْفُ الْعَرْضِ ، وَهُوَ اثْنَانِ فِي نِصْفِ الْمُحِيطِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَسُبْعَانِ تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ ، وَهُوَ بَسْطُ الْمُسَطَّحِ فَيُضْرَبُ بَسْطُ الْمُسَطَّحِ فِي بَسْطِ الطُّولِ ، وَهُوَ عَشَرَةٌ تَبْلُغُ مِقْدَارَ مَسْحِ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمُرَبَّعِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رُبْعًا مَعَ زِيَادَةِ خَمْسَةِ أَسْبَاعِ رُبْعٍ ، وَبِهَا حَصَلَ التَّقْرِيبُ .
فَائِدَةٌ : الْمُقَدَّرَاتُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا هُوَ تَقْرِيبٌ بِلَا خِلَافٍ كَسِنِّ الرَّقِيقِ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ الْمُوَكَّلِ فِي شِرَائِهِ .
ثَانِيهَا : تَحْدِيدٌ بِلَا خِلَافٍ كَتَقْدِيرِ مَسْحِ الْخُفِّ ، وَأَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَغَسْلِ الْوُلُوغِ وَالْعَدَدِ فِي

الْجُمُعَةِ ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَالْأَسْنَانِ الْمَأْخُوذَةِ فِيهَا ، وَسِنِّ الْأُضْحِيَّةِ وَالْأَوْسُقِ فِي الْعَرَايَا ، وَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ ، وَدِيَةِ الْخَطَأِ ، وَتَغْرِيبِ الزَّانِي ، وَإِنْظَارِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ ، وَمُدَّةِ الرَّضَاعِ ، وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ .
ثَالِثُهَا : تَحْدِيدٌ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَمِنْهُ أَمْيَالُ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَمِنْهُ تَقْدِيرُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِأَلِفٍ وَسِتِّمِائَةِ رِطْلٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَحْدِيدٌ ، وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ أَنَّهُ صَحَّحَ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ وَنُسِبَ فِيهِ لِلسَّهْوِ .
رَابِعُهَا : تَقْرِيبٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَسِنِّ الْحَيْضِ ، وَالْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ

وَالتَّغَيُّرُ الْمُؤَثَّرُ بِطَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ طَعْمٌ ، أَوْ لَوْنٌ ، أَوْ رِيحٌ ، وَلَوْ اشْتَبَهَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ اجْتَهَدَ .

( وَالتَّغَيُّرُ الْمُؤَثَّرُ ) حِسًّا أَوْ تَقْدِيرًا ( بِطَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ طَعْمٌ أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ ) أَيْ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ كَافٍ .
أَمَّا النَّجِسُ فَبِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَعَلَى الْمَذْهَبِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي التَّغَيُّرِ التَّقْدِيرِيِّ بِالطَّاهِرِ الْمُخَالِفِ الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ ، وَبِالنَّجِسِ الْمُخَالِفِ الْأَشَدُّ كَمَا مَرَّ ، وَخَرَجَ بِالْمُؤَثَّرِ بِطَاهِرٍ التَّغَيُّرُ الْيَسِيرُ بِهِ ، وَبِالْمُؤَثَّرِ بِنَجِسٍ التَّغَيُّرُ بِجِيفَةٍ عَلَى الشَّطِّ قُرْبَ الْمَاءِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ ؛ إذْ لَيْسَ لَنَا تَغَيُّرٌ بِنَجِسٍ لَا يُؤَثِّرُ ( وَلَوْ اشْتَبَهَ ) عَلَى أَحَدٍ ( مَاءٌ ) أَوْ تُرَابٌ ( طَاهِرٌ ) أَيْ طَهُورٌ ( بِ ) مَاءٍ أَوْ تُرَابٍ ( نَجِسٍ ) أَيْ مُتَنَجِّسٍ أَوْ بِمَاءٍ أَوْ تُرَابٍ مُسْتَعْمَلٍ ( اجْتَهَدَ ) فِي الْمُشْتَبِهَيْنِ مِنْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ أَرَادَهَا بَعْدَ الْحَدَثِ وُجُوبًا إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ مُوَسَّعًا إنْ لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ ، وَمُضَيَّقًا إنْ ضَاقَ ، وَجَوَازًا إنْ قَدَرَ عَلَى طَهُورٍ بِيَقِينٍ كَأَنْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ أَوْ بَلَغَ الْمَاءَانِ قُلَّتَيْنِ بِالْخَلْطِ بِلَا تَغَيُّرٍ لِجَوَازِ الْعُدُولِ إلَى الْمَظْنُونِ مَعَ وُجُودِ الْمُتَيَقَّنِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ ، وَهُوَ سَمَاعُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَلَا حَاجَةَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا ، وَوُجُودُ مُتَيَقَّنٍ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ خِصَالِ الْمُخَيَّرِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ ا هـ .
وَفِيمَا قَالَهُ كَمَا قَالَ الْجَلَالُ الْبَكْرِيُّ نَظَرٌ ، وَإِنْ كُنْتُ جَرَيْت عَلَيْهِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ وُجُودِ الطَّاهِرِ بِيَقِينٍ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ ، وَالْأَفْضَلُ عَدَمُ الِاجْتِهَادِ فَمَطْلُوبُ التَّرْكِ كَيْفَ يُوصَفُ بِوُجُوبِهِ .
فَإِنْ

قِيلَ : لَابِسُ الْخُفِّ الْأَفْضَلُ لَهُ الْغَسْلُ مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ .
قُلْتُ : لَمْ يُخْتَلَفْ هُنَاكَ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ بِخِلَافِهِ هُنَا .
وَالِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي وَالتَّآخِي فِي بَذْلِ الْجَهْدِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ .
وَالْجَهْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا هُوَ الطَّاقَةُ .
قَالَ تَعَالَى : { فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } [ الْجِنُّ ] .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : [ الْخَفِيفُ ] فَتَحَرَّيْت أَحْسَبُ الثَّغْرَ عِقْدًا لِسُلَيْمَى وَأَحْسَبُ الْعِقْدَ ثَغْرًا فَلَثَمْت الْجَمِيعَ قَطْعًا لِشَكِّي وَكَذَا فِعْلُ كُلِّ مَنْ يَتَحَرَّى

وَتَطَهَّرَ بِمَا ظَنَّ طَهَارَتَهُ
( وَتَطَهَّرَ بِمَا ظَنَّ طَهَارَتَهُ ) أَيْ : طَهُورِيَّتَهُ بِأَمَارَةٍ كَاضْطِرَابٍ أَوْ رَشَاشٍ أَوْ تَغَيُّرٍ أَوْ قُرْبِ كَلْبٍ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَةُ هَذَا ، وَطَهَارَةُ غَيْرِهِ ، وَلَهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِذَوْقِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ .
وَلَا يُقَالُ : يَلْزَمُ مِنْهُ ذَوْقُ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ ذَوْقُ النَّجَاسَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ نَعَمْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَوْقُ الْإِنَاءَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَصِيرُ مُتَيَقَّنَةً كَمَا أَفَادَهُ شَيْخِي ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعَصْرِيِّينَ فَلَوْ هَجَمَ وَأَخَذَ أَحَدَ الْمُشْتَبَهَيْنِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَتَطَهَّرَ بِهِ لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ ، وَإِنْ وَافَقَ الطَّهُورَ بِأَنْ انْكَشَفَ لَهُ الْحَالُ لِتَلَاعُبِهِ

وَقِيلَ : إنْ قَدَرَ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فَلَا ، وَالْأَعْمَى كَبَصِيرٍ فِي الْأَظْهَرِ

( وَقِيلَ : إنْ قَدَرَ عَلَى طَاهِرٍ ) أَيْ : طَهُورٍ ( بِيَقِينٍ ) كَأَنْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْ فِي صَحْرَاءَ فِي اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ ( فَلَا ) يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ كَمَنْ بِمَكَّةَ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ ، { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا كَانَ طَلَبُهُ لَهَا فِي غَيْرِهَا عَبَثًا وَبِأَنَّ الْمَاءَ مَالٌ ، وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ تَفْوِيتُ مَالِيَّةٍ مَعَ إمْكَانِهَا بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ ، وَعَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ : عَلَى طَاهِرٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُشْتَبَهَيْنِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَرَضَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا قَدَرَ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ ( وَالْأَعْمَى ) فِي الِاجْتِهَادِ فِيمَا ذُكِرَ ( كَبَصِيرٍ فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَمَارَةَ بِاللَّمْسِ أَوْ الشَّمِّ أَوْ الذَّوْقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوْ الِاسْتِمَاعِ كَاضْطِرَابِ الْغِطَاءِ ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْأَعْمَى لَوْ فَقَدَ هَذِهِ الْحَوَاسَّ الَّتِي يُدْرِكُ بِهَا ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ وَهُوَ حَسَنٌ ، وَالثَّانِي : لَا يَجْتَهِدُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ أَثَرٌ فِي حُصُولِ الظَّنِّ فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ ، وَقَدْ فَقَدَهُ فَلَمْ يَجُزْ كَالْقِبْلَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ أَدِلَّتُهَا بَصَرِيَّةٌ .
وَبِمَا قَدَّرْتُهُ سَقَطَ مَا قِيلَ : إنَّهُ لَوْ قَالَ : وَالْأَعْمَى يَجْتَهِدُ فِي الْأَظْهَرِ لَكَانَ أَحْسَنَ أَيْ : لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَالْبَصِيرِ فِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَإِنَّ الْأَعْمَى إذَا تَحَيَّرَ قَلَّدَ بَصِيرًا

عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ : لَا .
كَالْبَصِيرِ ، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَلِّدْهُ أَوْ وَجَدَهُ فَتَحَيَّرَ تَيَمَّمَ

أَوْ مَاءٌ وَبَوْلٌ لَمْ يَجْتَهِدْ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ يُخْلَطَانِ .
( أَوْ ) اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ( مَاءٌ وَبَوْلٌ ) أَوْ نَحْوُهُ كَأَنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ ( لَمْ يَجْتَهِدْ ) فِيهِمَا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يُقَوِّي مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْبَوْلُ لَا أَصْلَ لَهُ فِيهَا فَامْتَنَعَ الِاجْتِهَادُ فَإِنْ قِيلَ : الْبَوْلُ لَهُ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ فَإِنَّ أَصْلَهُ مَاءٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ : لَهُ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ الْحَالَةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ إمْكَانُ رَدِّهِ إلَى الطَّهَارَةِ بِوَجْهٍ ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِخِلَافِ الْبَوْلِ ، وَالثَّانِي : يَجُوزُ كَالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ ، وَقَالَ الْإِمَامُ : إنَّهُ الْمُتَّجِهُ فِي الْقِيَاسِ ، وَاخْتَارَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( بَلْ يُخْلَطَانِ ) بِنُونِ الرَّفْعِ كَمَا فِي خَطِّ الْمُصَنِّفُ اسْتِئْنَافًا أَوْ عَطْفًا عَلَى لَمْ يَجْتَهِدْ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ : إنَّ بَلْ تَعْطِفُ الْجُمَلَ فَسَقَطَ بِذَلِكَ مَا قِيلَ : إنَّ الصَّوَابُ حَذْفُ النُّونِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ بِحَذْفِهَا عَطْفًا عَلَى يَجْتَهِدْ لَكِنَّ الْأَصَحَّ خِلَافُ مَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ ؛ إذْ شَرْطُ الْعَطْفِ بِبَلْ إفْرَادُ مَعْطُوفِهَا أَيْ كَوْنُهُ مُفْرَدًا فَإِنْ تَلَاهَا جُمْلَةٌ لَمْ تَكُنْ عَاطِفَةً بَلْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ لِمُجَرَّدِ الْإِضْرَابِ ، وَلَا يَجُوزُ عَطْفُ يُخْلَطَانِ عَلَى " يَجْتَهِدْ " وَأَنْ يُقْرَأَ بِحَذْفِ النُّونِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى ؛ إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ بَلْ لَمْ يُخْلَطَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالصَّبُّ كَالْخَلْطِ

ثُمَّ يَتَيَمَّمُ
( ثُمَّ يَتَيَمَّمُ ) لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ بِحَضْرَةِ مَاءٍ مُتَيَقَّنِ الطَّهَارَةِ مَعَ تَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ إعْدَامِهِ فَمَا ذُكِرَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، وَقِيلَ : شَرْطٌ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ وَالتَّحْقِيقِ ، وَبَلْ هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إلَى آخَرَ لَا لِلْإِبْطَالِ

أَوْ وَمَاءُ وَرْدٍ تَوَضَّأَ بِكُلٍّ مَرَّةً ، وَقِيلَ لَهُ الِاجْتِهَادُ

( أَوْ ) اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ ( وَمَاءُ وَرْدٍ ) كَأَنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ ( تَوَضَّأَ بِكُلٍّ ) مِنْهُمَا ( مَرَّةً ) لِتَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ ، وَلَا يَجْتَهِدُ ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ ، وَيُعْذَرُ فِي عَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ كَنِسْيَانِ إحْدَى الْخَمْسِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْجَزْمُ بِهَا بِأَنْ يَأْخُذَ غَرْفَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي يَدٍ وَيَسْتَعْمِلهُمَا فِي شِقَّيْ الْوَجْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ مُقْتَرِنًا بِالنِّيَّةِ ثُمَّ يُعِيدَ غَسْلَ وَجْهِهِ وَيُكْمِلَ وُضُوءَهُ بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ يَتَوَضَّأَ بِالْآخَرِ لِلْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى طَهُورٍ بِيَقِينٍ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ الِامْتِنَاعَ .
وَاسْتَشْكَلَ الْإِسْنَوِيُّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ وَمَاءِ الْوَرْدِ بِمَا ذَكَرُوهُ فِيمَنْ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ ، وَلَوْ كَمَّلَهُ بِمَائِعٍ يُسْتَهْلَكُ فِيهِ كَمَاءِ وَرْدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْمِيلُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ ثَمَنُهُ عَلَى ثَمَنِ الْقَدْرِ النَّاقِصِ ، فَكَيْفَ يُوجِبُونَ هُنَا اسْتِعْمَالَ مَاءٍ كَامِلٍ وَمَاءِ وَرْدٍ مِثْلَهُ ، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَالصَّوَابُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ : .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ هُنَا قَدَرَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ بِالْمَاءِ ، وَقَدْ اشْتَبَهَ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَهُنَاكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَامِلَةِ فَتَكْلِيفُهُ التَّكْمِيلَ بِأَزْيَدَ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ لَا يَتَّجِهُ .
الثَّانِي : أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا فِي مَاءِ وَرْدٍ انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ وَصَارَ كَالْمَاءِ ، وَذَلِكَ لَا قِيمَةَ لَهُ غَالِبًا أَوْ قِيمَتُهُ تَافِهَةٌ بِخِلَافِ تِلْكَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ مَاءِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَيَتَيَمَّمُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ( وَقِيلَ : لَهُ

الِاجْتِهَادُ ) فِيهِمَا كَالْمَاءَيْنِ ، وَفَرْقُ الْأَوَّلِ بِمِثْلِ مَا مَرَّ فِي الْبَوْلِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمَا لِشُرْبِ مَاءِ الْوَرْدِ ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاءُ وَرْدٍ أَعَدَّهُ لِلشُّرْبِ وَلَهُ التَّطْهِيرُ بِالْآخَرِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَاءٌ .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الشُّرْبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشُّرْبَ ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ لَكِنَّ شُرْبَ مَاءِ الْوَرْدِ فِي ظَنِّهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : لِلِاجْتِهَادِ شُرُوطٌ عُلِمَ بَعْضُهَا مِمَّا مَرَّ : الْأَوَّلُ أَنْ يَتَأَيَّدَ بِأَصْلِ الْحِلِّ فَلَا يَجْتَهِدُ فِيمَا اشْتَبَهَ بِبَوْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنْ يَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي مُتَعَدِّدٍ ، فَلَوْ تَنَجَّسَ أَحَدُ كُمَّيْهِ أَوْ إحْدَى يَدَيْهِ وَأَشْكَلَ فَلَا يَجْتَهِدُ كَمَا سَيَأْتِي فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الثَّالِثُ : أَنْ يَبْقَى الْمُشْتَبِهَانِ فَلَوْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْبَاقِي بَلْ يَتَيَمَّمُ ، وَلَا يُعِيدُ وَإِنْ بَقِيَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الِاجْتِهَادِ .
الرَّابِعُ : بَقَاءُ الْوَقْتِ فَلَوْ ضَاقَ عَنْ الِاجْتِهَادِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَأَعَادَ .
قَالَهُ الْعِمْرَانِيُّ ( 1 ) فِي الْبَيَانِ .
الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ لِلْعَلَامَةِ فِيهِ مَجَالٌ بِأَنْ يَتَوَقَّعَ ظُهُورَ الْحَالِّ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي وَالْأَطْعِمَةِ فَلَا يَجْتَهِدُ فِيمَا إذَا اشْتَبَهَتْ مَحْرَمُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَأَكْثَرَ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي النِّكَاحِ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَسْقَطَ ابْنُ الْمُقْرِي هَذَا الشَّرْطَ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَكَأَنَّهُ رَأَى كَالرَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَخْرُجُ بِتَأَيُّدِ الِاجْتِهَادِ بِالْأَصْلِ فَاكْتُفِيَ بِهِ ، وَشَرْطُ الْأَخْذِ وَالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ أَنْ تَظْهَرَ بَعْدَهُ الْعَلَامَةُ

وَإِذَا اسْتَعْمَلَ مَا ظَنَّهُ أَرَاقَ الْآخَرَ ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَتَغَيَّرَ ظَنُّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِالثَّانِي عَلَى النَّصِّ بَلْ يَتَيَمَّمُ بِلَا إعَادَةٍ فِي الْأَصَحِّ

( وَإِذَا ) اجْتَهَدَ وَ ( اسْتَعْمَلَ مَا ظَنَّهُ ) الطَّاهِرَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ مِنْ الْمَاءَيْنِ ( أَرَاقَ الْآخَرَ ) نَدْبًا وَقِيلَ وُجُوبًا إذَا لَمْ يَخَفْ الْعَطَشَ لِيَشْرَبَهُ إذَا اُضْطُرَّ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا يُنْدَبُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقِ وَهُوَ أَوْلَى لِئَلَّا يَغْلَطَ فَيَسْتَعْمِلَهُ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْمَتْنِ عَلَيْهِ عَلَى قَصْدِ الْإِرَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ النَّحْلُ ] ( فَإِنْ تَرَكَهُ ) أَيْ لَمْ يُرِقْهُ وَصَلَّى بِالْأَوَّلِ الصُّبْحَ مَثَلًا ثُمَّ حَضَرَتْ الظُّهْرُ وَهُوَ مُحْدِثٌ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ لَمْ يَجِبْ الِاجْتِهَادُ لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ .
وَأَمَّا جَوَازُهُ فَثَابِتٌ عَلَى رَأْيِ الرَّافِعِيِّ دُونَ الْمُصَنِّفُ فَلَوْ اجْتَهَدَ عَلَى رَأْيِ الرَّافِعِيِّ أَوْ قَوِيَتْ عِنْدَهُ أَمَارَةٌ بَعْدَ ضَعْفِهَا مَعَ اسْتِنَادِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لِاجْتِهَادٍ وَاحِدٍ ( وَتَغَيَّرَ ظَنُّهُ ) فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ ( لَمْ يَعْمَلْ بِالثَّانِي ) مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى رَأْيِ الرَّافِعِيِّ أَوْ ظَنِّيِّ الِاجْتِهَادِ عَلَى رَأْيِ الْمُصَنِّفُ ( عَلَى النَّصِّ ) ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ ( بَلْ يَتَيَمَّمُ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُ مَا مَعَهُ كَمَا مَرَّ وَيُصَلِّي ( بِلَا إعَادَةٍ فِي الْأَصَحِّ ) إذْ لَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ ، وَالثَّانِي يُعِيدُ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مَاءً طَاهِرًا بِالظَّنِّ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ إلَّا بِاجْتِهَادٍ ، وَلَوْ أَحْدَثَ هُوَ لَزِمَهُ الِاجْتِهَادُ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِ الْبَاقِي طَهَارَتَهُ : أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَذَكِّرًا لِلْعَلَامَةِ الْأُولَى ، فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ اجْتَنَبَهُمَا وَتَيَمَّمَ لِمَا مَرَّ وَأَعَادَ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ لِبَقَائِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ

تَيَمَّمَ بِحَضْرَةِ مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ لَهُ طَرِيقٌ فِي إعْدَامِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يُحْدِثْ بِأَنْ اسْتَمَرَّ مُتَطَهِّرًا حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ ظَنُّهُ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُدْفَعُ بِالظَّنِّ .
وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ النَّصِّ فِي تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ الْعَمَلَ بِالثَّانِي وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ هُنَا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ إنْ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ الْأَوَّلُ ، وَإِلَى الصَّلَاةِ بِنَجَاسَةٍ إنْ لَمْ يَغْسِلْهُ ، وَهُنَاكَ لَا يُؤَدِّي إلَى صَلَاةٍ بِنَجَاسَةٍ ، وَلَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَمَنَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ ( 1 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ لَوْ أَبْطَلْنَا مَا مَضَى ، مِنْ طُهْرِهِ وَصَلَاتِهِ ، وَلَمْ نُبْطِلْهُ بَلْ أَمَرْنَاهُ بِغَسْلِ مَا ظَنَّ نَجَاسَتَهُ كَمَا أَمَرْنَاهُ بِاجْتِنَابِ بَقِيَّةِ الْمَاءِ الْأَوَّلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي النَّقْضِ وُجُوبُ غَسْلِ مَا أَصَابَهُ الْأَوَّلُ ، وَاجْتِنَابُ الْبَقِيَّةِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ بِطَهُورٍ أَوْ كَانَ غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالثَّانِي لِفَقْدِ الْعِلَّةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَبِمَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ سَقَطَ مَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا عَلَى رَأْيِ الرَّافِعِيِّ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ أَيْضًا وُجُوبًا إنْ اُضْطُرَّ وَإِلَّا فَجَوَازًا ، وَلَوْ فِي جِنْسَيْنِ كَلَبَنٍ وَخَلٍّ .

وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِتَنَجُّسِهِ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، وَبَيَّنَ السَّبَبَ ، أَوْ كَانَ فَقِيهًا مُوَافِقًا اعْتَمَدَهُ .

( وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِتَنَجُّسِهِ ) أَيْ : الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ عَدْلٌ ( مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ) كَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ ، لَا فَاسِقٌ وَمَجْنُونٌ وَمَجْهُولٌ وَصَبِيٌّ وَلَوْ مُمَيِّزًا ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْأَذَانِ قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُمَيِّزِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ بِخِلَافِ مَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ قَبُولِهِ مُطْلَقًا كَمَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَنَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ نَعَمْ لَوْ أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُسَّاقِ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ قُبِلَ خَبَرُهُمْ ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ : بُلْتُ فِي الْإِنَاءِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَمِثْلُهُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَا لَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ فَقَالَ ذِمِّيٌّ : أَيْ : تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَنَا ذَبَحْتُهَا أَنَّهَا تَحِلُّ وَكَفَى بِهِ فَاسِقًا ( وَبَيَّنَ السَّبَبَ ) فِي تَنَجُّسِهِ كَوُلُوغِ كَلْبٍ ( أَوْ كَانَ فَقِيهًا ) بِمَا يُنَجِّسُ ( مُوَافِقًا ) لِلْمَخْبَرِ فِي مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ ( اعْتَمَدَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ التَّنْجِيسُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي فَقِيهٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يَعْرِفُ تَرْجِيحَاتِ الْمَذْهَبِ فَسَقَطَ بِذَلِكَ مَا قِيلَ : إنَّ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا فِي مَسَائِلَ كَوُلُوغِ هِرَّةٍ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ بَعْدَ نَجَاسَةِ فَمِهَا وَغَيْبَتِهَا وَكَوُقُوعِ فَأْرَةٍ أَوْ هِرَّةٍ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ حَيَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ يَظُنُّ الْفَقِيهُ الْمُوَافِقُ تَرْجِيحَ الْمَرْجُوحِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالرَّاجِحِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ خَبَرُ عَدْلَيْنِ فَصَاعِدًا كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : وَلَغَ الْكَلْبُ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ فِي ذَاكَ دُونَ هَذَا صَدَقَا إنْ أَمْكَنَ صِدْقُهُمَا فَيَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءَيْنِ لِاحْتِمَالِ الْوُلُوغِ فِي وَقْتَيْنِ فَلَوْ تَعَارَضَا فِي الْوَقْتِ أَيْضًا بِأَنْ عَيَّنَاهُ صَدَّقَ أَوْثَقَهُمَا فَإِنْ

اسْتَوَيَا فَالْأَكْثَرُ عَدَدًا فَإِنْ اسْتَوَيَا سَقَطَ خَبَرُهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ وَحُكِمَ بِطَهَارَةِ الْإِنَاءَيْنِ كَمَا لَوْ عَيَّنَ أَحَدُهُمَا كَلْبًا كَأَنْ قَالَ : وَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ فِي هَذَا الْمَاءِ وَقْتَ كَذَا ، وَقَالَ الْآخَرُ : كَانَ حِينَئِذٍ بِبَلْدٍ آخَرَ مَثَلًا

فُرُوعٌ : لَوْ اغْتَرَفَ مِنْ دَنَّيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَاءٌ قَلِيلٌ أَوْ مَائِعٌ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ فَوَجَدَ فِيهِ فَأْرَةً مَيْتَةً لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ اجْتَهَدَ ، فَإِنْ ظَنَّهَا مِنْ الْأَوَّلِ وَاتَّحَدَتْ الْمَغْرَفَةُ ، وَلَمْ تُغْسَلْ بَيْنَ الِاغْتِرَافَيْنِ حَكَمَ بِنَجَاسَتِهِمَا ، وَإِنْ ظَنَّهَا مِنْ الثَّانِي أَوْ مِنْ الْأَوَّلِ وَاخْتَلَفَتْ الْمَغْرَفَةُ أَوْ اتَّحَدَتْ وَغُسِلَتْ بَيْنَ الِاغْتِرَافَيْنِ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ مَا ظَنَّهَا فِيهِ

وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنَاءُ بَوْلٍ بِأَوَانِي بَلَدٍ ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ أَخَذَ مِنْهَا مَا شَاءَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ إلَّا وَاحِدًا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ ثَمَرَةً بِعَيْنِهَا فَاخْتَلَطَتْ بِثَمَرٍ فَأَكَلَ الْجَمِيعَ إلَّا ثَمَرَةً لَمْ يَحْنَثْ

وَلَوْ رَفَعَ نَحْوُ كَلْبٍ رَأْسَهُ مِنْ إنَاءٍ وَفِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ أَوْ مَائِعٌ آخَرُ وَفَمُهُ رَطْبٌ لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ هَذَا إنْ اُحْتُمِلَ تَرَطُّبُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِلَّا ضَرَّ .

وَلَوْ غَلَبَتْ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ ، وَمُتَدَيِّنِينَ بِالنَّجَاسَةِ كَالْمَجُوسِ ، وَمَجَانِينَ ، وَصِبْيَانٍ بِكَسْرِ الصَّادِ أَشْهُرُ مِنْ ضَمِّهَا وَجَزَّارِينَ حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ ذَلِكَ كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا وَلُعَابِ الصَّبِيِّ وَالْحِنْطَةِ الَّتِي تُدَاسُ ، وَالثَّوْرُ يَبُولُ عَلَيْهَا وَالْجُوخُ ، وَقَدْ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَمِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ غَسْلُ ثَوْبٍ جَدِيدٍ وَقَمْحٍ وَفَمٍ مِنْ أَكْلِ نَحْوِ خُبْزٍ ، وَتَرْكُ مُؤَاكَلَةِ الصِّبْيَانِ لِتَوَهُّمِ نَجَاسَتِهَا قَالَهُ فِي الْعُبَابِ وَالْبَقْلُ النَّابِتُ فِي نَجَاسَةٍ مُتَنَجِّسٌ لَا مَا ارْتَفَعَ عَنْ مَنْبَتِهِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ ، وَلَوْ وَجَدَ قِطْعَةَ لَحْمٍ فِي إنَاءٍ أَوْ خِرْقَةٍ بِبَلَدٍ لَا مَجُوسَ فِيهِ فَطَاهِرَةٌ ، أَوْ مَرْمِيَّةً مَكْشُوفَةً فَنَجِسَةٌ أَوْ فِي إنَاءٍ أَوْ خِرْقَةٍ وَالْمَجُوسُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ أَغْلَبَ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَغْلَبَ فَطَاهِرَةٌ وَكَذَا إذَا اسْتَوَيَا فِيمَا يَظْهَرُ

وَيَحِلُّ اسْتِعْمَالُ كُلِّ إنَاءٍ طَاهِرٍ
( وَيَحِلُّ اسْتِعْمَالُ ) وَاقْتِنَاءُ ( كُلِّ إنَاءٍ طَاهِرٍ ) فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ : أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَاهِرٌ فَلَا يَرِدُ الْمَغْصُوبُ وَجِلْدُ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُمَا لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِرِضَاهُ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ جِلْدِ الْآدَمِيِّ وَقَدْ { تَوَضَّأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَنٍّ مِنْ جِلْدٍ وَمِنْ قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ ، وَمِنْ مُخَضَّبٍ مِنْ حَجَرٍ ؛ وَمِنْ إنَاءٍ مِنْ صُفْرٍ } ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الصُّفْرِ .
قَالَ الْقَزْوِينِيُّ : اعْتِيَادُ ذَلِكَ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ لَا دَوَاءَ لَهَا ، وَخَرَجَ بِالطَّاهِرِ النَّجِسُ كَالْمُتَّخَذِ مِنْ مَيْتَةٍ فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ كَمَاءٍ قَلِيلٍ وَمَائِعٍ لَا فِيمَا لَا يُنَجَّسُ بِهِ كَمَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ الْجَفَافِ لَكِنْ يُكْرَهُ فِي الثَّانِي ، فَالْمَفْهُومُ فِيهِ تَفْصِيلٌ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَنْطُوقِ .

إلَّا ذَهَبًا وَفِضَّةً فَيَحْرُمُ ، وَكَذَا اتِّخَاذُهُ فِي الْأَصَحِّ .

( إلَّا ذَهَبًا وَفِضَّةً ) أَيْ إنَاءَهُمَا الْمَعْمُولَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ( فَيَحْرُمُ ) اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى بِالْإِجْمَاعِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُقَاسُ غَيْرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَيْهِمَا ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ وَأَغْلَبُهَا ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ بِمِسْعَطٍ مِنْ إنَائِهِمَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِنَاءِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ حَتَّى مَا يُخَلِّلُ بِهِ أَسْنَانَهُ ، وَالْمِيلُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ يَحْتَاجَ إلَى .
جَلَاءِ عَيْنِهِ بِالْمِيلِ فَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَالْوُضُوءُ مِنْهُ صَحِيحٌ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِهِ حَلَالٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاسْتِعْمَالِ لَا لِخُصُوصِ مَا ذُكِرَ ، وَيَحْرُمُ التَّطَيُّبُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِنْ إنَاءٍ مِمَّا ذُكِرَ ، وَالتَّبَخُّرُ بِالِاحْتِوَاءِ عَلَى مِجْمَرَةٍ مِنْهُ أَوْ إتْيَانُ رَائِحَتِهَا مِنْ قُرْبٍ لَا مِنْ بُعْدٍ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بُعْدُهَا بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِهَا ، وَلَوْ بَخَّرَ ثِيَابَهُ بِهَا أَوْ قَصَدَ تَطْيِيبَ الْبَيْتِ فَمُسْتَعْمَلٌ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالْحِيلَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ مِنْ الْإِنَاءِ إلَى شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ كَقِشْرَةِ رَغِيفٍ ثُمَّ يَأْكُلَهُ وَيَصُبَّ الْمَاءَ فِي شَيْءٍ وَلَوْ فِي يَدِهِ الَّتِي لَا يَسْتَعْمِلُهُ بِهَا فَيَصُبُّهُ أَوَّلًا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ فِي الْيُمْنَى ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهُ ، وَيَصُبُّ مَاءَ الْوَرْدِ فِي يَسَارِهِ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إلَى يَمِينِهِ ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهُ ، وَيَحْرُمُ الْبَوْلُ فِي الْإِنَاءِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَا يُشْكِلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي قِطْعَةِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، وَهُنَا فِي إنَاءٍ هِيَ مِنْهُمَا لِذَلِكَ ،

وَاسْتَثْنَى فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الذَّهَبَ إذَا صَدِئَ ، وَلَكِنْ فِيهِ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي التَّمْوِيهِ بِنُحَاسٍ وَنَحْوِهِ ( وَكَذَا ) يَحْرُمُ ( اتِّخَاذُهُ ) أَيْ اقْتِنَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ كَآلَةِ الْمَلَاهِي .
وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا الِاتِّخَاذِ ، وَلَيْسَ كَآلَةِ الْمَلَاهِي ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا يَدْعُو إلَى اسْتِعْمَالِهَا لِفَقْدِ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا بِخِلَافِ الْأَوَانِي ، وَلَا أُجْرَةَ لِصَنْعَتِهِ ، وَلَا أَرْشَ لِكُسُورِهِ كَآلَةِ اللَّهْوِ .
فَائِدَةٌ : جَمْعُ الْإِنَاءِ آنِيَةٌ كَسِقَاءٍ وَأَسْقِيَةٍ ، وَجَمْعُ الْآنِيَةِ أَوَانٍ ، وَوَقَعَ فِي الْوَسِيطِ إطْلَاقُ الْآنِيَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ آنِيَةُ النَّقْدَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، وَيَحْرُمُ تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .

وَيَحِلُّ الْمُمَوَّهُ فِي الْأَصَحِّ
( وَيَحِلُّ الْمُمَوَّهُ ) أَيْ : الْمَطْلِيُّ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ، وَمِنْهُ تَمْوِيهُ الْقَوْلِ : أَيْ تَلْبِيسُهُ ، فَإِنْ مُوِّهَ غَيْرُ النَّقْدِ كَإِنَاءِ نُحَاسٍ وَخَاتَمٍ وَآلَةِ حَرْبٍ مِنْهُ بِالنَّقْدِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ أَوْ مُوِّهَ النَّقْدُ بِغَيْرِهِ أَوْ صَدِئَ مَعَ حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمُمَوَّهِ بِهِ أَوْ الصَّدَأِ حَلَّ اسْتِعْمَالُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِقِلَّةِ الْمُمَوَّهِ بِهِ فِي الْأُولَى فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ وَلِعَدَمِ الْخُيَلَاءِ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ النَّقْدِ فِي الْأُولَى لِكَثْرَتِهِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِهِ فِي الثَّانِي لِقِلَّتِهِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ ، وَكَذَا اتِّخَاذُهُ فِي الْأَصَحِّ أَخَذًا مِمَّا سَبَقَ فَالْعِلَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ تَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ وَالْخُيَلَاءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ .
وَالثَّانِي يَحْرُمُ ذَلِكَ لِلْخُيَلَاءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ فِي الْأُولَى وَالتَّضْيِيقِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَيَحْرُمُ تَمْوِيهُ سَقْفِ الْبَيْتِ وَجُدْرَانِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ ، وَتَحْرُمُ اسْتِدَامَتُهُ إنْ حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا

، وَالنَّفِيسُ كَيَاقُوتٍ فِي الْأَظْهَرِ

( وَ ) يَحِلُّ ( النَّفِيسُ ) بِالذَّاتِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ أَيْ : اسْتِعْمَالُهُ وَاِتِّخَاذُهُ ( كَيَاقُوتٍ ) وَفَيْرُوزَجَ ، وَبِلَّوْرٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ ، وَمِرْجَانٍ ، وَعَقِيقٍ ، وَالْمُتَّخَذِ مِنْ الطِّيبِ الْمُرْتَفِعِ كَمِسْكٍ وَعَنْبَرٍ وَعُودٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ .
وَالثَّانِي يَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ .
أَمَّا النَّفِيسُ بِالصَّنْعَةِ كَزُجَاجٍ وَخَشَبٍ مُحْكَمِ الْخَرْطِ وَالْمُتَّخَذِ مِنْ طِيبٍ غَيْرِ مُرْتَفِعٍ فَيَحِلُّ بِلَا خِلَافٍ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ أَيْضًا فِي غَيْرِ فَصِّ الْخَاتَمِ .
أَمَّا هُوَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
فَائِدَةٌ : عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اتَّخَذَ خَاتَمًا فَصُّهُ يَاقُوتٌ نُفِيَ عَنْهُ الْفَقْرُ } قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : يُرِيدُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ مَالُهُ بَاعَ خَاتَمَهُ فَوَجَدَ بِهِ غِنًى .
قَالَ : وَالْأَشْبَهُ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ، وَلَا تُغَيِّرُهُ ، وَقِيلَ مَنْ تَخَتَّمَ بِهِ أَمِنَ مِنْ الطَّاعُونِ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْمَعَاشِ وَيَقْوَى قَلْبُهُ وَتَهَابُهُ النَّاسُ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ ، وَقِيلَ : إنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ ، فَمَسَحَهُ الْمُشْرِكُونَ فَاسْوَدَّ مِنْ مَسْحِهِمْ ، وَقِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْطَى عَلِيًّا فَصًّا مِنْ يَاقُوتٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْقُشَ عَلَيْهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَفَعَلَ ، وَأَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِمَ زِدْتَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا فَعَلْتُ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ؛ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : إنَّ اللَّهَ

تَعَالَى يَقُولُ لَكَ : أَحْبَبْتَنَا فَكَتَبْتَ اسْمَنَا ، وَنَحْنُ أَحْبَبْنَاكَ فَكَتَبْنَا اسْمَكَ }

وَمَا ضُبِّبَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ضَبَّةً كَبِيرَةً لِزِينَةٍ حَرُمَ ، أَوْ صَغِيرَةً بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا ، أَوْ صَغِيرَةً لِزِينَةٍ ، أَوْ كَبِيرَةً لِحَاجَةٍ جَازَ فِي الْأَصَحِّ ، وَضَبَّةُ مَوْضِعُ الِاسْتِعْمَالِ كَغَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الْمَذْهَبُ تَحْرِيمُ ضَبَّةِ الذَّهَبِ مُطْلَقًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَا ضُبِّبَ ) مِنْ إنَاءٍ ( بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ضَبَّةً كَبِيرَةً ) وَكُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا وَإِنْ قَلَّ ( لِزِينَةٍ حَرُمَ ) اسْتِعْمَالُهُ وَاتِّخَاذُهُ ، وَأَصْلُ الضَّبَّةِ أَنْ يَنْكَسِرَ الْإِنَاءُ فَيُوضَعَ عَلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ نُحَاسٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ غَيْرُهُ لِتَمْسِكَهُ ، ثُمَّ تَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فَأَطْلَقُوهُ عَلَى إلْصَاقِهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْكَسِرْ ( أَوْ صَغِيرَةً بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا ) يَحْرُمُ لِلصِّغَرِ ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ .
وَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ : { رَأَيْتُ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ قَدْ انْصَدَعَ : أَيْ : انْشَقَّ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ } أَيْ شَدَّهُ بِخَيْطِ فِضَّةٍ ، وَالْفَاعِلُ هُوَ أَنَسٌ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
قَالَ أَنَسٌ : لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا ( أَوْ صَغِيرَةً ) وَكُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا ( لِزِينَةٍ أَوْ كَبِيرَةً ) كُلُّهَا ( لِحَاجَةٍ جَازَ ) مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِلصِّغَرِ وَلِقُدْرَةِ مُعْظَمِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِهَا ، وَكُرِهَ لِفَقْدِ الْحَاجَةِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِلْحَاجَةِ وَكُرِهَ لِلْكِبَرِ ، وَالثَّانِي يَحْرُمُ نَظَرًا لِلزِّينَةِ فِي الْأُولَى وَلِلْكِبَرِ فِي الثَّانِيَةِ ( وَضَبَّةُ مَوْضِعُ الِاسْتِعْمَالِ ) لِنَحْوِ شُرْبٍ ( كَغَيْرِهِ ) فِيمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلُ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مَنْسُوبٌ إلَى الْإِنَاءِ كُلِّهِ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعَيْنِ وَالْخُيَلَاءِ لَا يَخْتَلِفُ بَلْ قَدْ تَكُونُ الزِّينَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِعْمَالِ أَكْثَرَ .
وَالثَّانِي يَحْرُمُ إنَاؤُهَا مُطْلَقًا لِمُبَاشَرَتِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ ( قُلْتُ : الْمَذْهَبُ تَحْرِيمُ ) إنَاءِ ( ضَبَّةِ الذَّهَبِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا ( مُطْلَقًا ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا مَرَّ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّ الْخُيَلَاءَ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ الْفِضَّةِ ،

وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَارَّ فِي الْفِضَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِهَا جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْخَاتَمِ لِلرَّجُلِ مِنْهَا ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الذَّهَبَ كَالْفِضَّةِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ غَرَضُ إصْلَاحِ الْكَسْرِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنْ التَّضْبِيبِ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ غَيْرِهِمَا يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ الْإِنَاءِ الَّذِي كُلُّهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ فَضْلًا عَنْ الْمُضَبَّبِ بِهِ ، وَمَرْجِعُ الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ الْعُرْفُ ، وَقِيلَ : الْكَبِيرَةُ مَا تَسْتَوْعِبُ جَانِبًا مِنْ الْإِنَاءِ ، وَقِيلَ : مَا كَانَتْ جُزْءًا كَامِلًا كَشَفَةٍ أَوْ أُذُنٍ ، وَالصَّغِيرَةُ دُونَ ذَلِكَ ، وَقِيلَ : مَا يَلْمَعُ لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ كَبِيرٌ ، وَمَا لَا فَصَغِيرٌ ، فَإِنْ شَكَّ فِي كِبَرِهَا فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
وَيُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي بَابِ اللِّبَاسِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي ثَوْبٍ فِيهِ حَرِيرٌ وَغَيْرُهُ هَلْ الْأَكْثَرُ حَرِيرٌ أَوْ لَا أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي التَّفْسِيرِ هَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ لَا ؟ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّهُ ، وَأَجَبْتُ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الشَّارِحُ : وَتَوَسَّعَ الْمُصَنِّفُ فِي نَصْبِ الضَّبَّةِ بِفِعْلِهَا نَصْبَ الْمَصْدَرِ .
أَيْ : لِأَنَّ انْتِصَابَ الضَّبَّةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فِيهِ تَوَسُّعٌ عَلَى خِلَافِ الْأَكْثَرِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ مَصْدَرًا ، وَهُوَ اسْمُ الْحَدَثِ الْجَارِي عَلَى الْفِعْلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ نَحْوَ { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [ النِّسَاءُ ] لَكِنْ قَدْ يَنُوبُ عَنْ الْمَصْدَرِ فِي الِانْتِصَابِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَشْيَاءُ : مِنْهَا مَا يُشَارِكُ الْمَصْدَرَ فِي حُرُوفِهِ الَّتِي بُنِيَتْ صِيغَتُهُ مِنْهَا ، وَيُسَمَّى الْمُشَارِكَ فِي الْمَادَّةِ ، وَهُوَ أَقْسَامٌ : مِنْهَا مَا يَكُونُ اسْمَ عَيْنٍ لَا

حَدَثٍ كَالضَّبَّةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ نُوحٌ ] فَضَبَّةٌ اسْمُ عَيْنٍ مُشَارِكٌ لِمَصْدَرِ ضَبَّبَ ، وَهُوَ التَّضْبِيبُ فِي مَادَّتِهِ فَأُنِيبَ مَنَابَهُ فِي انْتِصَابِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ .

فَائِدَةٌ : سُئِلَ فَقِيهُ الْعَرَبِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْإِنَاءِ الْمُعْوَجِّ ، فَقَالَ : إنْ أَصَابَ الْمَاءَ .
أَيْ الْقَلِيلَ تَعْوِيجُهُ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُضَبَّبُ بِالْعَاجِ ، وَهُوَ نَابُ الْفِيلِ ، وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ نَابِهِ عَاجًا ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِفَقِيهِ الْعَرَبِ شَخْصًا مُعَيَّنًا ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ أَلْغَازًا وَمُلَحًا يَنْسُبُونَهَا إلَيْهِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَنَكِرَةٌ لَا يَتَعَرَّفُ .

تَتِمَّةٌ : تَسْمِيرُ الدَّرَاهِمِ فِي الْإِنَاءِ كَالتَّضْبِيبِ فَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ بِخِلَافِ طَرْحِهَا فِيهِ لَا يَحْرُمُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاءِ مُطْلَقًا ، وَلَا يُكْرَهُ ، وَكَذَا لَوْ شَرِبَ بِكَفِّهِ ، وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ أَوْ فِي فَمِهِ دَرَاهِمُ أَوْ شَرِبَ بِكَفِّهِ ، وَفِيهَا دَرَاهِمُ ، فَإِنْ جَعَلَ لِلْإِنَاءِ حَلَقَةً مِنْ فِضَّةٍ أَوْ سِلْسِلَةً مِنْهَا أَوْ رَأْسًا جَازَ ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْإِنَاءِ لَا يُسْتَعْمَلُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَكَ مَنْعُهُ بِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ بِحَسَبِهِ ، وَإِنْ سَلِمَ فَلْيَكُنْ فِيهِ خِلَافُ الِاتِّخَاذِ ، وَيُمْنَعُ بِأَنَّ الِاتِّخَاذَ يَجُرُّ إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمُحَرَّمِ بِخِلَافِ هَذَا ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُجْعَلُ فِي فَمِ الْكُوزِ فَهُوَ قِطْعَةُ فِضَّةٍ .
أَمَّا مَا يُجْعَلُ كَالْإِنَاءِ ، وَلَوْ يُغَطَّى بِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ .
أَمَّا الذَّهَبُ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَيُسَنُّ إذَا جَنَّ اللَّيْلُ تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ وَلَوْ بِعَرْضِ عُودٍ ، وَإِيكَاءُ السِّقَاءِ ، وَإِغْلَاقُ الْأَبْوَابِ مُسَمِّيًا لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الثَّلَاثَةِ ، وَكَفُّ الصِّبْيَانِ وَالْمَاشِيَةِ أَوَّلَ سَاعَةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِطْفَاءُ الْمِصْبَاحِ لِلنَّوْمِ .

خَاتِمَةٌ : أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ إنْ كَانُوا لَا يَتَعَبَّدُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ كَآنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ } ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جُرِّ نَصْرَانِيَّةٍ ، وَالْجُرُّ وَالْجِرَارُ جَمْعُ جَرَّةٍ ، وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهَا لِعَدَمِ تَحَرُّزِهِمْ وَإِنْ كَانُوا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَجُوسِ يَغْتَسِلُونَ بِبَوْلِ الْبَقَرِ تَقَرُّبًا ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهَا وَجْهَانِ ، أَخَذَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانَيْهِمْ وَمَلْبُوسِهِمْ وَمَا يَلِي إسَافَهُمْ .
أَيْ مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ أَشَدُّ ، وَأَوَانِي مَائِهِمْ أَخَفُّ ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أَوَانِي مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَالْقَصَّابِينَ الَّذِينَ لَا يَحْتَرِزُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ .
وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ : أَيْ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَخَذًا مِمَّا مَرَّ .

بَابُ أَسْبَابِ الْحَدَثِ هِيَ أَرْبَعَةٌ :

بَابُ أَسْبَابِ الْحَدَثِ وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا هُنَا الْأَصْغَرُ غَالِبًا ، وَالْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْبَابِ ، وَالْحَدَثِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدَثِ هُنَا الْأَسْبَابُ نَفْسُهَا ، وَلَكِنَّ إضَافَتَهَا إلَيْهِ تَقْتَضِي تَفْسِيرَ الْحَدَثِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إلَّا أَنْ تُجْعَلَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُخْتَصَّانِ بِهَا ، وَأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ بِغَسْلِهِ فِي الْمَغْسُولِ وَبِمَسْحِهِ فِي الْمَمْسُوحِ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِذَلِكَ الْعُضْوِ بَعْدَ غَسْلِهِ قَبْلَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَطَهِّرًا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [ الْوَاقِعَةُ ] وَتَعْبِيرُهُ كَالْمُحَرَّرِ بِالْأَسْبَابِ أَوْلَى مِنْ التَّعْبِيرِ بِمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُقَالُ : انْتَقَضَ الْوُضُوءُ ، بَلْ انْتَهَى كَمَا يُقَالُ انْتَهَى الصَّوْمُ لَا بَطَلَ .
قَالَهُ فِي الدَّقَائِقِ ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفُ عَبَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّقْضِ بِقَوْلِهِ : فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ نُقِضَ وَيُؤَوَّلُ بِمَعْنَى انْتَهَى الطُّهْرُ بِهِ .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : وَإِنَّمَا بَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ كُتُبِهِمْ أَبْوَابًا مُوَشَّحَةَ الصُّدُورِ بِالتَّرَاجِمِ ؛ لِأَنَّ الْقَارِئَ إذَا خَتَمَ بَابًا مِنْ كِتَابٍ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَبْعَثَ عَلَى الدَّرْسِ وَالتَّحْصِيلِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكِتَابِ بِطُولِهِ ، وَمِثْلُهُ الْمُسَافِرُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أَوْ طَوَى فَرْسَخًا نَفَّسَ ذَلِكَ عَنْهُ وَنَشِطَ لِلْمَسِيرِ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ سُوَرًا وَجَزَّأَهُ الْقُرَّاءُ عُشُورًا وَأَسْبَاعًا وَأَخْمَاسًا وَأَحْزَابًا ، وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِأَصْلِهِ هَذَا الْبَابَ عَلَى الْوُضُوءِ كَمَا قَدَّمَ مُوجِبَ الْغُسْلِ عَلَى الْغُسْلِ ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ

طَبِيعِيٌّ ، وَخَالَفَ فِي الرَّوْضَةِ فَقَدَّمَ الْوُضُوءَ وَلَمْ يُقَدِّمْ الْغُسْلَ عَلَى مُوجِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُولَدُ مُحْدِثًا فَيَعْرِفُ الْوُضُوءَ ثُمَّ مَا يَنْتَهِي بِهِ ، وَلَا يُولَدُ جُنُبًا فَقَدَّمَ مُوجِبَ الْغُسْلِ عَلَيْهِ ( هِيَ ) أَيْ : الْأَسْبَابُ ( أَرْبَعَةٌ ) ثَابِتَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ ، وَعِلَّةُ النَّقْضِ بِهَا غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَلَا نَقْضَ بِالْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَلَا بِمَسِّ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ، وَلَا بِمَسِّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ ، وَلَا بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الْأَرْبَعَةِ ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمُصَنِّفُ الْأَخِيرَ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ .
ثُمَّ أَجَابَ مِنْ جِهَةِ الْمَذْهَبِ فَقَالَ : أَقْرَبُ مَا يَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَجَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ ، وَمِمَّا يُضْعِفُ النَّقْضَ بِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يُعَدِّيهِ إلَى شَحْمِهِ وَسَنَامِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَلَا بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِلَّا لَمَا اخْتَصَّ النَّقْضُ بِهَا كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهَا تَنْقُضُ فَضَعِيفٌ ، وَلَا بِالنَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى ، وَدَمُهُ يَجْرِي وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ } ، وَأَمَّا صَلَاتُهُ مَعَ الدَّمِ فَلِقِلَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ، وَلَا بِشِفَاءِ دَائِمِ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَدُّ الشِّفَاءِ سَبَبًا لِلْحَدَثِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ .
وَلَا بِنَزْعِ الْخُفِّ ؛ لِأَنَّ نَزْعَهُ يُوجِبُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ عَلَى الْأَصَحِّ

أَحَدُهَا : خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ ، أَوْ دُبُرِهِ إلَّا الْمَنِيَّ ، وَلَوْ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ نَقَضَ وَكَذَا نَادِرٌ كَدُودٍ فِي الْأَظْهَرِ ، أَوْ فَوْقَهَا ، وَهُوَ مُنْسَدٌّ ، أَوْ تَحْتَهَا وَهُوَ مُنْفَتِحٌ فَلَا فِي الْأَظْهَرِ

( أَحَدُهَا ) أَيْ الْأَسْبَابِ ( خُرُوجُ شَيْءٍ ) عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا ، جَافًّا أَوْ رَطْبًا ، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ انْفَصَلَ أَوْ لَا ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ( مِنْ قُبُلِهِ ) أَيْ : الْمُتَوَضِّئِ الْحَيِّ الْوَاضِحِ ، وَلَوْ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ أَوْ أَحَدِ ذَكَرَيْنِ يَبُولُ بِهِمَا ، أَوْ أَحَدِ فَرْجَيْنِ يَبُولُ بِأَحَدِهِمَا وَيَحِيضُ بِالْآخَرِ ، فَإِنْ بَالَ بِأَحَدِهِمَا أَوْ حَاضَ بِهِ فَقَطْ اخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ .
أَمَّا الْمُشْكِلُ فَإِنْ خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ فَرْجَيْهِ جَمِيعًا فَهُوَ مُحْدِثٌ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَا نَقْضَ بِهَا ( أَوْ ) خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ ( دُبُرِهِ ) أَيْ الْمُتَوَضِّئِ الْحَيِّ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } [ الْمَائِدَةُ ] الْآيَةَ ، وَالْغَائِطُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ تُقْضَى فِيهِ الْحَاجَةُ سُمِّيَ بِاسْمِهِ الْخَارِجِ لِلْمُجَاوَرَةِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا تَعَالَى عَنْهُمَا تَقْدِيرُهَا : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } [ الْمَائِدَةُ ] ، فَيُقَالُ عَقِبَهُ : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) قَالَ : وَزَيْدٌ مِنْ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدَّرَهَا تَوْقِيفًا مَعَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، فَإِنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ حَدَثَانِ وَلَا قَائِلَ بِهِ ا هـ .
وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي : { يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ } وَفِيهِمَا اشْتَكَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ

فِي الصَّلَاةِ .
قَالَ : { لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } .
وَالْمُرَادُ الْعِلْمُ بِخُرُوجِهِ لَا سَمْعُهُ ، وَلَا شَمُّهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ النَّاقِضِ فِي الصَّوْتِ وَالرِّيحِ ، بَلْ نَفَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فِي خُرُوجِ الرِّيحِ ، وَيُقَاسُ بِمَا فِي الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ كُلُّ خَارِجٍ مِمَّا ذُكِرَ ، وَإِنْ لَمْ تَدْفَعُهُ الطَّبِيعَةُ كَعُودٍ خَرَجَ مِنْ الْفَرْجِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفُ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ غَيْرِهِ بِالسَّبِيلَيْنِ ؛ إذْ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ مَخَارِجَ اثْنَانِ مِنْ قُبُلِهَا وَوَاحِدٌ مِنْ دُبُرِهَا ، وَلِشُمُولِهِ مَا لَوْ خُلِقَ لَهُ ذَكَرَانِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْخَارِجِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا مَرَّ ، وَكَذَا لَوْ خُلِقَ لِلْمَرْأَةِ فَرْجَانِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ( إلَّا الْمَنِيَّ ) أَيْ مَنِيَّ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الْخَارِجَ مِنْهُ أَوَّلًا كَأَنْ أَمْنَى بِمُجَرَّدِ نَظَرٍ أَوْ احْتِلَامٍ مُمَكِّنًا مَقْعَدُهُ فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَمَ الْأَمْرَيْنِ ، وَهُوَ الْغُسْلَ بِخُصُوصِهِ : أَيْ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ مَنِيًّا فَلَا يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا ، وَهُوَ الْوُضُوءُ بِعُمُومِهِ : أَيْ بِعُمُومِ كَوْنِهِ خَارِجًا كَزِنَا الْمُحْصَنِ لِمَا أَوْجَبَ أَعْظَمَ الْحَدَّيْنِ لِكَوْنِهِ زِنَا الْمُحْصَنِ فَلَا يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا لِكَوْنِهِ زِنًا ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مَعَ إيجَابِهِمَا الْغُسْلَ ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْوُضُوءِ فَلَا يُجَامِعَانِهِ بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ يُصْبِحُ مَعَهُ الْوُضُوءُ فِي صُورَةِ سَلَسِ الْمَنِيِّ فَيُجَامِعُهُ ، وَفَائِدَةُ عَدَمِ النَّقْضِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَدَثٌ أَصْغَرُ وَغُسْلُ جَنَابَةٍ فَاغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ ، فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ فَهَاهُنَا تَصِحُّ قَطْعًا ، وَفِيمَا إذَا فَعَلَ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْغُسْلِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ، فَإِنْ قُلْنَا : يُنْقَضُ نَوَى بِالْوُضُوءِ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، وَإِلَّا نَوَى سُنَّةَ الْغُسْلِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ .
أَمَّا مَنِيُّ غَيْرِهِ

أَوْ مَنِيُّهُ إذَا عَادَ فَيَنْتَقِضُ خُرُوجُهُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ ، نَعَمْ لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا جَافًّا انْتَقَضَ وُضُوءُهَا كَمَا فِي فَتَاوَى شَيْخِي أَخَذًا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفُ : إنَّ صَوْمَهَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَنِيِّهِ وَمَنِيِّ غَيْرِهَا ( وَلَوْ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ ) أَيْ الْأَصْلِيُّ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ بِأَنْ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ ( وَانْفَتَحَ ) مَخْرَجٌ بَدَلَهُ ( تَحْتَ مَعِدَتِهِ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَفْصَحِ : مُسْتَقَرُّ الطَّعَامِ .
وَهِيَ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الصَّدْرِ كَمَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ وَالْفُقَهَاءُ وَاللُّغَوِيُّونَ هَذَا حَقِيقَتُهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا السُّرَّةُ ( فَخَرَجَ ) مِنْهُ ( الْمُعْتَادُ ) خُرُوجُهُ كَبَوْلٍ ( نَقَضَ ) ؛ إذْ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَخْرَجٍ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا تَدْفَعُهُ الطَّبِيعَةُ فَأُقِيمَ هَذَا مَقَامَهُ ( وَكَذَا نَادِرٌ كَدُودٍ ) وَدَمٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَصْلِيِّ ، وَكَمَا يَنْقُضُ الْخَارِجُ النَّادِرُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْضًا ، وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الْأَصْلِيِّ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي خُرُوجِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ ، وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ صَرَّحَ الصَّيْمَرِيُّ بِاشْتِرَاطِ انْسِدَادِهِمَا ، وَقَالَ : لَوْ انْسَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْحُكْمُ لِلْبَاقِي لَا غَيْرُ ( أَوْ ) انْفَتَحَ ( فَوْقَهَا ) أَيْ الْمَعِدَةِ ، وَالْمُرَادُ فَوْقَ تَحْتِهَا كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ ، أَوْ فَوْقَهُ : أَيْ فَوْقَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ حَتَّى تَدْخُلَ هِيَ بِأَنْ انْفَتَحَ فِي السُّرَّةِ أَوْ بِمُحَاذِيهَا أَوْ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ ( وَهُوَ ) أَيْ الْأَصْلِيُّ ( مُنْسَدٌّ أَوْ تَحْتَهَا وَهُوَ مُنْفَتِحٌ فَلَا ) يَنْقُضُ الْخَارِجُ مِنْهُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَوْقِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْهَا أَوْ مِنْ مُحَاذِيهَا لَا يَكُونُ مِمَّا أَحَالَتْهُ الطَّبِيعَةِ ؛ لِأَنَّ

مَا تُحِيلُهُ تُلْقِيهِ إلَى أَسْفَلَ فَهُوَ بِالْقَيْءِ أَشْبَهُ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِ الْحَادِثِ مَخْرَجًا مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ ، وَالثَّانِي يَنْقُضُ فِيهِمَا وَلَوْ نَادِرًا .
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَخْرَجٍ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ كَالْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ ، وَحَيْثُ أَقَمْنَا الْمُنْفَتِحَ كَالْأَصْلِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّقْضِ بِالْخَارِجِ مِنْهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْحَجَرُ ، وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ ، وَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ حَيْثُ كَانَ فَوْقَ الْعَوْرَةِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا مِنْ الِانْسِدَادِ الْعَارِضِ .
أَمَّا الْخِلْقِيُّ فَيَنْقُضُ مَعَهُ الْخَارِجُ مِنْ الْمُنْفَتِحِ مُطْلَقًا وَالْمُنْسَدُّ حِينَئِذٍ كَعُضْوٍ زَائِدٍ مِنْ الْخُنْثَى لَا وُضُوءَ بِمَسِّهِ ، وَلَا غُسْلَ بِإِيلَاجِهِ وَالْإِيلَاجِ فِيهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ تَصْرِيحًا بِمُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ ، وَقَالَ فِي نُكَتِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ : إنَّ تَعْبِيرَهُمْ بِالِانْسِدَادِ يُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ا هـ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ لِلْمُنْفَتِحِ مُطْلَقًا حَتَّى يَجِبَ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ ، وَالْغُسْلُ بِإِيلَاجِهِ وَالْإِيلَاجِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي وَإِنْ اسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَمِمَّا يَرُدُّ الِاسْتِبْعَادَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ خُلِقَ لَهُ ذَكَرٌ فَوْقَ سُرَّتِهِ يَبُولُ مِنْهُ وَيُجَامِعُ بِهِ ، وَلَا ذَكَرَ لَهُ سِوَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّا نُدِيرُ الْأَحْكَامَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنَّا نَجْعَلُ لَهُ حُكْمَ النَّقْضِ فَقَطْ ، وَلَا حُكْمَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : انْفَتَحَ مَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَنَافِذِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْفَمِ وَالْأُذُنِ فَإِنَّهُ لَا نَقْضَ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ .

الثَّانِي : زَوَالُ الْعَقْلِ .
إلَّا نَوْمَ مُمَكِّنٍ مَقْعَدَهُ .

( الثَّانِي زَوَالُ الْعَقْلِ ) أَيْ : التَّمْيِيزِ بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ كَإِغْمَاءٍ وَسُكْرٍ وَجُنُونٍ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ } ( 1 ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَاءٍ : حَلْقَةُ الدُّبُرِ ، وَالْوِكَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ : الْخَيْطُ الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ الشَّيْءَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْيَقِظَةَ هِيَ الْحَافِظَةُ لِمَا يَخْرُجُ ، وَالنَّائِمُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ ، وَغَيْرُ النَّوْمِ مِمَّا ذُكِرَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الذُّهُولِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الدُّبُرِ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ الْخَبَرُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَصْلُ عَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ فَكَيْفَ عُدِلَ عَنْهُ ، وَقِيلَ بِالنَّقْضِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لِمَا جُعِلَ مَظِنَّةً لِخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ أُقِيمَ مَقَامَ الْيَقِينِ كَمَا أُقِيمَتْ الشَّهَادَةُ الْمُفِيدَةُ لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ فِي شَغْلِ الذِّمَّةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى احْتِمَالِ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنْ الْقُبُلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ ، وَخَرَجَ بِزَوَالِ التَّمْيِيزِ النُّعَاسُ ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَأَوَائِلُ نَشْوَةِ السُّكْرِ فَلَا نَقْضَ بِهَا .
وَمِنْ عَلَامَاتِ النَّوْمِ الرُّؤْيَا ، وَمِنْ عَلَامَاتِ النُّعَاسِ سَمَاعُ كَلَامِ الْحَاضِرِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهُ ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ نَامَ أَوْ نَعَسَ أَوْ نَامَ مُمَكِّنًا أَوْ لَا لَمْ يَنْتَقِضْ ، وَلَوْ تَيَقَّنَ الرُّؤْيَا ، وَشَكَّ فِي النَّوْمِ انْتَقَضَ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا مِنْ عَلَامَاتِهِ .
وَالْعَقْلُ لُغَةً : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ ، وَلِذَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ لَا يُعْطَى لِكَافِرٍ ؛ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ لَآمَنَ .
إنَّمَا يُعْطَى الذِّهْنَ ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْقَلَ فُلَانًا النَّصْرَانِيَّ ، فَقَالَ : مَهْ إنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ

أَوَ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } } الْمُلْكُ .
وَأَجَابَ الْجُمْهُورِ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْعَقْلِ النَّافِعِ .
وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ : إنَّهُ صِفَةٌ يُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ آلَةُ التَّمْيِيزِ ، وَقِيلَ هُوَ غَرِيزَةٌ يَتْبَعُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّهِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ فِي الْقَلْبِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْأَطِبَّاءِ : إنَّهُ فِي الدِّمَاغِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي مَحَلِّهِ ( إلَّا نَوْمَ مُمَكِّنٍ مَقْعَدَهُ ) أَيْ أَلْيَيْهِ مِنْ مَقَرِّهِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلَا يُنْقَضُ وُضُوءُهُ ، وَلَوْ مُسْتَنِدًا إلَى مَا لَوْ زَالَ لَسَقَطَ لِأَمْنِ خُرُوجِ شَيْءٍ حِينَئِذٍ مِنْ دُبُرِهِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِاحْتِمَالِ خُرُوجِ رِيحٍ مِنْ قُبُلِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ كَمَا مَرَّ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ نَامَ مُتَمَكِّنًا بِالْمُنْفَتِحِ النَّاقِضِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التَّنْبِيهِ ، وَلِقَوْلِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( 2 ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد يَنَامُونَ حَتَّى تَخْفُقَ رُءُوسُهُمْ الْأَرْضَ ، وَحُمِلَ عَلَى نَوْمِ الْمُمَكِّنِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ .
وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّحِيفِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ عَنْ الرُّويَانِيِّ ، أَنَّ النَّحِيفَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْحَقُّ ، وَجَمَعَ شَيْخِي بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَحِيفٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَقَرِّهِ وَمَقْعَدِهِ تَجَافٍ ، وَالشَّرْحُ عَلَى

خِلَافِهِ ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ لَكِنَّ عِبَارَةَ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ بَيْنَ بَعْضِ مَقْعَدِهِ وَمَقَرِّهِ تَجَافٍ فَيَكُونُ الْفَرْقُ التَّجَافِيَ الْكَامِلَ ، وَلَا تَمْكِينَ لِمَنْ نَامَ عَلَى قَفَاهُ مُلْصِقًا مَقْعَدَهُ بِمَقَرِّهِ ، وَكَذَا لَوْ تَحَفَّظَ بِخِرْقَةٍ وَنَامَ غَيْرَ قَاعِدٍ ، وَلَوْ نَامَ مُتَمَكِّنًا فَسَقَطَتْ يَدُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْتَقِضْ مَا لَمْ تَزُلْ أَلْيَتُهُ عَنْ التَّمَكُّنِ .
وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِنَوْمِهِ مُضْطَجِعًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ النَّوْمِ مُتَمَكِّنًا خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، وَخَرَجَ بِالنَّوْمِ غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ مَعَهُ فَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِهِ مُطْلَقًا .
فَائِدَةٌ : قَالَ الْغَزَالِيُّ : لِجُنُونٍ يُزِيلُ الْعَقْلَ ، وَالْإِغْمَاءُ يَغْمُرُهُ ، وَالنَّوْمُ يَسْتُرُهُ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْعَقْلِ لِيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لَكَانَ أَحْسَنَ ، وَيَنْدَفِعُ ذَلِكَ بِمَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ عِبَارَتُهُ تَبَعًا لِلشَّارِحِ

الثَّالِثُ الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إلَّا مَحْرَمًا فِي الْأَظْهَرِ ، وَالْمَلْمُوسُ كَلَامِسٍ فِي الْأَظْهَرِ ، وَلَا تَنْقُضُ صَغِيرَةٌ وَشَعَرٌ ، وَسِنٌّ وَظُفْرٌ فِي الْأَصَحِّ .

( الثَّالِثُ الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } [ الْمَائِدَةُ ] أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ ، لَا جَامَعْتُمْ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ إذْ اللَّمْسُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَلَّكَ لَمَسْت } ( 1 ) وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا ، أَوْ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ أَوْ كَافِرَةً بِتَمَجُّسٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ حُرَّةً أَوْ رَقِيقَةً ، أَوْ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا ، سَلِيمَا أَوْ أَشَلَّ ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا لَكِنْ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَيِّتِ أَوَّلًا ، وَاللَّمْسُ الْجَسُّ بِالْيَدِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَظِنَّةُ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ الِالْتِقَاءِ فَأُلْحِقَ بِهِ ، بِخِلَافِ النَّقْضِ بِمَسِّ الْفَرْجِ كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ ؛ لِأَنَّ الْمَسَّ إنَّمَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ بِبَطْنِ الْكَفِّ ، وَاللَّمْسُ يُثِيرُهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ ، وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدِ ، وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ كَلَحْمِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ ، وَخَرَجَ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا .
نَعَمْ لَوْ كَثُرَ الْوَسَخُ عَلَى الْبَشَرَةِ مِنْ الْعَرَقِ فَإِنَّ لَمْسَهُ يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْبَدَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ غُبَارٍ ، وَالسِّنُّ وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ كَمَا سَيَأْتِي ، وَبِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُلَانِ وَالْمَرْأَتَانِ وَالْخُنْثَيَانِ وَالْخُنْثَى مَعَ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ ، وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا ، وَلِاحْتِمَالِ التَّوَافُقِ فِي صُوَرِ الْخُنْثَى ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ كَمَا

سَيَأْتِي ، وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ الذَّكَرُ إذْ بَلَغَ حَدًّا يَشْتَهِي لَا الْبَالِغُ وَبِالْمَرْأَةِ الْأُنْثَى إذَا بَلَغَتْ كَذَلِكَ لَا الْبَالِغَةُ ، وَلَوْ لَمَسَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرًا جِنِّيًّا أَوْ الرَّجُلُ امْرَأَةً جِنِّيَّةً هَلْ يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْآدَمِيِّ أَوْ لَا ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَنْبَنِيَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مُنَاكَحَتِهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ يَأْتِي فِي النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( إلَّا مَحْرَمًا ) لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَلَا يَنْقُضُ لَمْسُهَا وَلَوْ بِشَهْوَةٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالرَّجُلِ .
وَهِيَ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى ، وَالثَّانِي تَنْقُضُ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ أَوْ لَا ؟ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ ، وَقِيلَ : لَا يَنْقُضُ الْمَحْرَمُ مِنْ النَّسَبِ وَيَنْقُضُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ زَوْجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ لِحُرْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِحُرْمَتِهِنَّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَلَا يُورِدُ ذَلِكَ عَلَى الضَّابِطِ إلَّا قَلِيلُ الْفِطْنَةِ ، وَلَوْ شَكَّ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ مَحْرَمُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ غَيْرِ مَحْصُورَاتٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : إنَّ اللَّمْسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا جَازَ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ لَا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ وَلَا بِالظَّنِّ كَمَا سَيَأْتِي وَالنِّكَاحُ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ النِّكَاحِ .
نَعَمْ إنْ تَزَوَّجَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِلَمْسِهَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَجْهُولَةِ النَّسَبِ

وَاسْتَلْحَقَهَا أَبُوهُ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ ، فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فَتَصِيرُ أُخْتًا لَهُ ، وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِلَمْسِهَا لِمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ رَضَعَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَتَصِيرُ أُمَّهُ أَوْ لَا ، وَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ رَضَعَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى أُمِّهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَتَصِيرُ أُخْتَهُ أَوْ لَا ، فَيَأْتِي فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ ، وَهُوَ أَنَّ لَمْسَهَا لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِهَا ؛ لِأَنَّا لَا نَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِالشَّكِّ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ بِهَا لَا نُبَعِّضُ الْأَحْكَامَ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ شَيْخِي ( وَالْمَلْمُوسُ ) وَهُوَ مَنْ لَوْ يُوجَدُ مِنْهُ فِعْلُ اللَّمْسِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ( كَلَامِسٍ ) فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي لَذَّةِ اللَّمْسِ كَالْمُشْتَرِكِينَ فِي لَذَّةِ الْجِمَاعِ ، فَهُمَا كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ، وَالثَّانِي لَا وُقُوفًا مَعَ ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَكَمَا فِي مَسِّ ذَكَرِ غَيْرِهِ ، وَفَرَّقَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّ الْمُلَامَسَةَ مُفَاعَلَةٌ ، وَمَنْ لَمَسَ إنْسَانًا فَقَدْ حَصَلَ مِنْ الْآخَرِ اللَّمْسُ لَهُ ، وَأَمَّا الْمَمْسُوسُ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَسُّ الذَّكَرِ وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ مَسُّ الْيَدِ ، وَالشَّارِعُ أَنَاطَ الْحُكْمَ بِمَسِّ الذَّكَرِ .
وَأُجِيبَ عَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِرَاشِ لَيْلَةً فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ ، وَهُوَ فِي سُجُودِهِ ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ، وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِك مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ } ( 1 ) بِاحْتِمَالِ الْحَائِلِ ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلَّامِسِ حُكْمٌ لِيُحِيلَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الِالْتِقَاءَ يَشْمَلُ اللَّامِسَ وَالْمَلْمُوسَ ، فَإِنْ فُرِضَ الِالْتِقَاءُ مِنْهُمَا دَفْعَةً بِحَرَكَتِهِمَا

فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ لَامِسَانِ صَحَّ ، وَلَكِنَّهَا صُورَةٌ نَادِرَةٌ لَا شُعُورَ لِلَفْظِهِ بِهَا فَتَبْعُدُ الْإِحَالَةُ عَلَيْهَا ( وَلَا تَنْقُضُ صَغِيرَةٌ ) وَلَا صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَدًّا يُشْتَهَى عُرْفًا .
وَقِيلَ مَنْ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَاهَا وَإِنْ انْتَفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَحْوِ هَرَمٍ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ( وَ ) لَا ( شَعَرٌ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا ( وَسِنٌّ وَظُفْرٌ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَعَ إسْكَانِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا وَبِكَسْرِهِ مَعَ إسْكَانِهَا وَكَسْرِهَا ، وَيُقَالُ فِيهِ : أُظْفُورٌ كَعُصْفُورٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَظَافِرَ وَأَظَافِيرَ ، وَعَظْمٌ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ مُتَّصِلَاتٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِالْتِذَاذِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ دُونَ اللَّمْسِ ، وَالثَّانِي تَنْقُضُ .
أَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ فَلِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَأَمَّا فِي الْبَوَاقِي فَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ ، وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مَنْ لَمَسَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، أَمَّا إذَا انْفَصَلَتْ فَلَا تَنْقُضُ قَطْعًا ، وَلَا يَنْقُضُ الْعُضْوُ الْمُبَانُ غَيْرُ الْفَرْجِ ، وَلَوْ قُطِعَتْ الْمَرْأَةُ نِصْفَيْنِ هَلْ يَنْقُضُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ وَالْأَقْرَبُ عَدَمُ الِانْتِقَاضِ .
قَالَ النَّاشِرِيُّ : وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ أَعْظَمَ نَقَضَ دُونَ غَيْرِهِ ا هـ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ امْرَأَةٍ نَقَضَ ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كُنْتُ جَرَيْتُ عَلَى كَلَامِهِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ، أَمَّا الْفَرْجُ فَسَيَأْتِي ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمَيِّتِ ، وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ رَجَّحَ عَدَمَ النَّقْضِ بِلَمْسِ الْمَيِّتَةِ وَالْمَيِّتِ ، وَعُدَّ مِنْ السَّهْوِ ، وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ الرَّافِعِيِّ عَدَمَ النَّقْضِ بِلَمْسِ الْمَيِّتِ وَنُسِبَ لِلْوَهْمِ

الرَّابِعُ : مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ بِبَطْنِ الْكَفِّ ، وَكَذَا فِي الْجَدِيدِ حَلْقَةُ دُبُرِهِ لَا فَرْجِ بَهِيمَةٍ ، وَيَنْقُضُ فَرْجُ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ ، وَمَحَلُّ الْجَبِّ ، وَالذَّكَرُ الْأَشَلُّ وَبِالْيَدِ الشَّلَّاءِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يَنْقُضُ رَأْسُ الْأَصَابِعِ وَمَا بَيْنَهَا .

( الرَّابِعُ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا ( بِبَطْنِ الْكَفِّ ) مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ لِخَبَرِ { مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } ( 2 ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، وَلِخَبَرِ ابْنِ حِبَّانَ { إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إلَى فَرْجِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَالْإِفْضَاءُ لُغَةً الْمَسُّ بِبَطْنِ ، الْكَفِّ فَثَبَتَ النَّقْضُ فِي فَرْجِ نَفْسِهِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ فِي فَرْجِ غَيْرِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ لِهَتْكِ حُرْمَةِ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى النَّقْضُ إلَيْهِ ، وَقِيلَ : فِيهِ خِلَافُ الْمَلْمُوسِ ، وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا خَبَرُ عَدَمِ النَّقْضِ بِمَسِّ الْفَرْجِ فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ مَسُّ جُزْءٍ مِنْ الْفَرْجِ بِجُزْءٍ مِنْ بَطْنِ الْكَفِّ ، وَبَطْنُ الْكَفِّ الرَّاحَةُ مَعَ بُطُونِ الْأَصَابِعِ وَالْأُصْبُعُ الزَّائِدَةُ إنْ كَانَتْ عَلَى سَنَنِ الْأَصَابِعِ انْتَقَضَ بِالْمَسِّ بِهَا ، وَإِلَّا فَلَا ، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ إطْلَاقِ النَّقْضِ بِهَا ، وَالْكَفُّ مُؤَنَّثَةٌ ، وَسُمِّيَتْ كَفًّا ؛ لِأَنَّهَا تَكُفُّ عَنْ الْبَدَنِ الْأَذَى ، وَبِفَرْجِ الْمَرْأَةِ مُلْتَقَى الشَّفْرَيْنِ عَلَى الْمَنْفَذِ فَلَا نَقْضَ بِمَسِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَلَا بَاطِنِ الْأَلْيَيْنِ وَلَا مَا بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَلَا الْعَانَةِ ، وَمَا أَفْتَى بِهِ الْقَفَّالُ مِنْ أَنَّ مَنْ مَسَّ شَعْرَ الْفَرْجِ يَنْقُضُ ضَعِيفٌ ، وَمَسُّ بَعْضِ الذَّكَرِ الْمُبَانِ كَمَسِّ كُلِّهِ إلَّا مَا قُطِعَ فِي الْخِتَانِ ؛ إذْ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذَّكَرِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا قُبُلُ الْمَرْأَةِ ، وَالدُّبُرُ فَالْمُتَّجِهُ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ اسْمُهُمَا بَعْدَ قَطْعِهِمَا نَقَضَ مَسُّهُمَا وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِالِاسْمِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ لَوْ قُطِعَ وَدُقَّ حَتَّى صَارَ لَا يُسَمَّى ذَكَرًا وَلَا بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ،

وَمَنْ لَهُ كَفَّانِ نَقَضَتَا بِالْمَسِّ سَوَاءٌ أَكَانَتَا عَامِلَتَيْنِ أَمْ غَيْرَ عَامِلَتَيْنِ لَا زَائِدَةً مَعَ عَامِلَةٍ فَلَا تَنْقُضُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ بَلْ الْحُكْمُ لِلْعَامِلَةِ فَقَطْ وَصَحَّحَ فِي التَّحْقِيقِ النَّقْضَ بِغَيْرِ الْعَامِلِ أَيْضًا ، وَعَزَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ لِإِطْلَاقِ الْجُمْهُورِ ، ثُمَّ نَقَلَ الْأَوَّلَ عَنْ الْبَغَوِيِّ فَقَطْ .
وَجَمَعَ ابْنُ الْعِمَادِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَقَالَ : كَلَامُ الرَّوْضَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَفَّانِ عَلَى مِعْصَمَيْنِ ، وَكَلَامُ التَّحْقِيقِ فِيمَا إذَا كَانَتَا عَلَى مِعْصَمٍ وَاحِدٍ .
أَيْ وَكَانَتْ عَلَى سَمْتِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ : وَمَنْ لَهُ ذَكَرَانِ نَقَضَ الْمَسُّ بِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوَاءٌ أَكَانَا عَامِلَيْنِ ، أَمْ غَيْرَ عَامِلَيْنِ لَا زَائِدًا مَعَ عَامِلٍ وَمَحَلُّهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ نَقْلًا عَنْ الْفُورَانِيِّ ( 1 ) : إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَامِتًا لِلْعَامِلِ وَإِلَّا فَهُوَ كَأُصْبُعٍ زَائِدَةٍ مُسَامِتَةٍ لِلْبَقِيَّةِ فَيَنْقُضُ ( وَكَذَا فِي الْجَدِيدِ حَلْقَةُ دُبُرِهِ ) أَيْ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ فَرْجٌ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْقُبُلِ بِجَامِعِ النَّقْضِ بِالْخَارِجِ مِنْهُمَا ، وَالْقَدِيمُ لَا نَقْضَ بِمَسِّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَذُّ بِمَسِّهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا مُلْتَقَى الْمَنْفَذِ لَا مَا وَرَاءَهُ جَزْمًا ، وَلَامُ حَلْقَةٍ سَاكِنَةٌ وَحُكِيَ فَتْحُهَا ( لَا فَرْجِ بَهِيمَةٍ ) أَوْ طَيْرٍ ، أَيْ لَا يَنْقُضُ مَسُّهُ فِي الْجَدِيدِ قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ سِتْرِهِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَيْهِ وَالْقَدِيمِ وَحَكَاهُ جَمْعٌ جَدِيدٌ أَنَّهُ يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ كَفَرْجِ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ فَكَذَا فِي الْمَسِّ ( وَيَنْقُضُ فَرْجُ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ ) لِشُمُولِ الِاسْمِ ( وَمَحَلُّ الْجَبِّ ) أَيْ الْقَطْعِ لِلْفَرْجِ ( وَالذَّكَرُ الْأَشَلُّ ) وَهُوَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَاتِ الَّذِي يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَيَنْبَغِي ، أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْفَرْجُ الْأَشَلُّ ( وَبِالْيَدِ الشَّلَّاءِ ) وَهِيَ الَّتِي

بَطَلَ عَمَلُهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ ، الْجَبِّ فِي مَعْنَى الْفَرْجِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا جُبَّ الذَّكَرُ مِنْ أَصْلِهِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَاخِصٌ نَقَضَ قَطْعًا ؛ وَلِشُمُولِ الِاسْمِ فِي الْبَاقِي ، وَالثَّانِي لَا تَنْقُضُ الْمَذْكُورَاتُ لِانْتِفَاءِ الْفَرْجِ فِي مَحَلِّ الْجَبِّ وَلِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ نَبَتَ مَوْضِعَ الْجَبِّ جِلْدَةٌ فَمَسُّهَا كَمَسِّهِ بِلَا جِلْدَةٍ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَمْسُوسُ وَاضِحًا فَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاسُّ لَهُ وَاضِحًا أَوْ مُشْكِلًا ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ مَسَّ مُشْكِلٌ فَرْجَيْ مُشْكِلٍ أَوْ فَرْجَيْ مُشْكِلَيْنِ بِأَنْ مَسَّ آلَةَ الرِّجَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَآلَةَ النِّسَاءِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ فَرْجَيْ نَفْسِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَسَّ فِي غَيْرِ الثَّانِيَةِ وَمَسَّ أَوْ لَمَسَ فِي الثَّانِيَةِ الصَّادِقَةِ بِمُشْكِلَيْنِ غَيْرِهِ وَبِنَفْسِهِ ، وَمُشْكِلٍ آخَرَ لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِيهَا أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ النَّقْضِ مَانِعٌ مِنْ مَحْرَمِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّ أَحَدِهِمَا فَقَطْ ؛ لِاحْتِمَالِ زِيَادَتِهِ ، وَلَوْ مَسَّ أَحَدَهُمَا وَصَلَّى الصُّبْحَ مَثَلًا ثُمَّ مَسَّ الْآخَرَ وَصَلَّى الظُّهْرَ مَثَلًا أَعَادَ الْأُخْرَى إنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ بَيْنَ الْمَسَّيْنِ عَنْ حَدَثٍ أَوْ عَنْ الْمَسِّ احْتِيَاطًا .
وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَالُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْدِثٌ عِنْدَهَا قَطْعًا بِخِلَافِ الصُّبْحِ إذْ لَمْ يُعَارِضْهَا شَيْءٌ وَإِنْ مَسَّ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى أَوْ مَسَّتْ امْرَأَةٌ فَرْجَهُ انْتَقَضَ وُضُوءُ الْمَاسِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا يَمْنَعُ النَّقْضَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِثْلَهُ فَقَدْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِالْمَسِّ ، وَإِلَّا فَبِاللَّمْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَسَّ الرَّجُلُ فَرْجَ الْخُنْثَى ، وَالْمَرْأَةُ ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ لَا نَقْضَ ؛ لِاحْتِمَالِ زِيَادَتِهِ ، وَلَوْ مَسَّ أَحَدُ مُشْكِلَيْنِ ذَكَرَ صَاحِبِهِ ، وَالْآخَرُ فَرْجَهُ أَوْ فَرْجَ نَفْسِهِ

انْتَقَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَا رَجُلَيْنِ فَقَدْ انْتَقَضَ لِمَاسِّ الذَّكَرِ أَوْ امْرَأَتَيْنِ فَلِمَاسِّ الْفَرْجِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ فَلِكِلَيْهِمَا بِاللَّمْسِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ النَّقْضَ كَمَا مَرَّ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْحَدَثُ فِيهِمَا فَلِكُلٍّ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ إذَا اقْتَدَتْ امْرَأَةٌ بِوَاحِدٍ فِي صَلَاةٍ لَا تَقْتَدِي بِالْآخَرِ ( وَلَا يَنْقُضُ رَأْسُ الْأَصَابِعِ وَمَا بَيْنَهَا ) وَحَرْفُهَا وَحَرْفُ الْكَفِّ لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْكَفِّ .
وَضَابِطُ مَا يَنْقُضُ مَا يَسْتُرُ عِنْدَ وَضْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مَعَ تَحَامُلٍ يَسِيرٍ ، وَمَا الْمُرَادُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَحَرْفِهَا ، فَقِيلَ بَيْنَهَا النُّقَرُ الَّتِي بَيْنَهَا وَحَرْفُهَا جَوَانِبُهَا ، قِيلَ حَرْفُهَا جَانِبُ الْخِنْصَرِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ ، وَمَا عَدَاهَا بَيْنَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ

وَيَحْرُمُ بِالْحَدَثِ الصَّلَاةُ وَالطَّوَافُ ، وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ ، وَمَسُّ وَرَقِهِ ، وَكَذَا جِلْدُهُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَخَرِيطَةٌ ، وَصُنْدُوقٌ فِيهِمَا مُصْحَفٌ ، وَمَا كُتِبَ لِدَرْسِ قُرْآنٍ كَلَوْحٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَالْأَصَحُّ حِلُّ حَمْلِهِ فِي أَمْتِعَةٍ ، وَتَفْسِيرٍ ، وَدَنَانِيرَ لَا قَلْبِ وَرَقِهِ بِعُودٍ .
وَأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُحْدِثَ لَا يُمْنَعُ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ حِلُّ قَلْبِهِ بِعُودٍ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَنْ تَيَقَّنَ طُهْرًا أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ عَمِلَ بِيَقِينِهِ ، فَلَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَجَهِلَ السَّابِقَ فَضِدُّ مَا قَبْلَهُمَا فِي الْأَصَحِّ .

( وَيَحْرُمُ بِالْحَدَثِ ) حَيْثُ لَا عُذْرَ ( الصَّلَاةُ ) بِأَنْوَاعِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَالْقَبُولُ يُقَالُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ وَلِوُقُوعِ الْفِعْلِ صَحِيحًا ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْإِجْمَاعِ فَالْمَعْنَى لَا تَصِحُّ صَلَاةٌ إلَّا بِوُضُوءٍ ، وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَكِنْ فِيهَا خِلَافٌ لِلشَّعْبِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَفِي مَعْنَاهَا سَجْدَتَا التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ ، أَمَّا عِنْدَ الْعُذْرِ فَلَا تَحْرُمُ بَلْ قَدْ تَجِبُ كَأَنْ فَقَدَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَضَاقَ الْوَقْتُ ، فَالْمُرَادُ بِالْحَدَثِ هُنَا الْمَنْعُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَا يَنْتَهِي بِهِ الْوُضُوءُ ( وَالطَّوَافُ ) فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ فِي ضِمْنِ نُسُكٍ أَوْ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرٍ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَقِيلَ : يَصِحُّ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا طَهَارَةٍ وَوَقَعَ فِي الْكِفَايَةِ نَقْلُهُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَنُسِبَ لِلْوَهْمِ ( وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ ) بِتَثْلِيثِ مِيمِهِ لَكِنَّ الْفَتْحَ غَرِيبٌ ( وَمَسُّ وَرَقِهِ ) الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَغَيْرِهِ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ بِغَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ فَاقِدًا لِلطَّهُورَيْنِ أَوْ مَسَّهُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ رَقِيقٍ لَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْيَدِ إلَيْهِ أَوْ مَسَّ مَا كَانَ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [ الْوَاقِعَةُ ] أَيْ الْمُتَطَهِّرُونَ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَطَهِّرِ يَمَسُّهُ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ } ( 3 ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ : إسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَمْلُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَسِّ .
نَعَمْ يَجُوزُ

حَمْلُهُ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ نَجَاسَةٍ أَوْ وُقُوعِهِ فِي يَدِ كَافِرٍ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الطَّهَارَةِ ، بَلْ يَجِبُ أَخْذُهُ حِينَئِذٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّيَمُّمِ وَجَبَ وَخَرَجَ بِالْمُصْحَفِ غَيْرُهُ كَتَوْرَاةٍ وَإِنْجِيلٍ ، وَمَنْسُوخِ تِلَاوَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يُنْسَخْ حُكْمُهُ فَلَا يَحْرُمُ لِزَوَالِ حُرْمَتِهَا بِالنَّسْخِ بَلْ وَبِالتَّبْدِيلِ فِي الْأَوَّلَيْنِ .
قَالَ الْمُتَوَلِّي : فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَنَحْوَهَا غَيْرُ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ ( وَكَذَا جِلْدُهُ ) الْمُتَّصِلُ بِهِ يَحْرُمُ مَسُّهُ بِمَا ذُكِرَ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) ؛ لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهُ وَلِهَذَا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ .
وَالثَّانِي يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مُتَّصِلًا حَقِيقَةً ، فَإِنْ انْفَصِلْ عَنْهُ فَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْبَيَانِ حِلُّ مَسِّهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِسْنَوِيُّ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُرْمَةِ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ أَفْحَشُ ، وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّهُ أَيْضًا ، وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : إنَّهُ الْأَصَحُّ ؛ إبْقَاءً لِحُرْمَتِهِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ إذَا لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ عَنْ الْمُصْحَفِ ، فَإِنْ انْقَطَعَتْ كَأَنْ جُعِلَ جِلْدَ كِتَابٍ لَمْ يَحْرُمْ مَسُّهُ قَطْعًا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ( وَخَرِيطَةٌ ) وَهِيَ وِعَاءٌ كَالْكِيسِ مِنْ أُدْمٍ وَغَيْرِهِ ( وَصُنْدُوقٌ ) وَهُوَ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِهَا : وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ مُعَدَّانِ لِلْمُصْحَفِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ( فِيهِمَا مُصْحَفٌ ) يَحْرُمُ مَسُّهُمَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُعَدَّيْنِ لَهُ كَانَا كَالْجِلْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلَا فِي بَيْعِهِ ، وَالْعِلَاقَةُ كَالْخَرِيطَةِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ مَسُّهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ وَرَدَتْ فِي الْمُصْحَفِ ، وَهَذِهِ خَارِجَةٌ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُمَا جَزْمًا وَإِنْ جَوَّزْنَا تَحْلِيَةَ الْمُصْحَفِ ،

وَفَرْقُ الْأَوَّلِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمَسِّ كَمَا تُفْهِمُهُ عِبَارَتُهُ .
أَمَّا الْحَمْلُ فَيَحْرُمُ قَطْعًا ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُصْحَفُ فِيهِمَا أَوْ هُوَ فِيهِمَا ، وَلَمْ يُعَدَّا لَهُ فَلَا يَحْرُمُ مَسُّهُمَا ( وَمَا كُتِبَ لِدَرْسِ قُرْآنٍ ) وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ ( كَلَوْحٍ ) يَحْرُمُ مَسُّهُ بِمَا ذُكِرَ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أُثْبِتَ فِيهِ لِلدِّرَاسَةِ فَأَشْبَهَ الْمُصْحَفَ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ مَسُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِلدَّوَامِ كَالْمُصْحَفِ .
أَمَّا مَا كُتِبَ لِغَيْرِ الدِّرَاسَةِ كَالتَّمِيمَةِ ، وَهِيَ وَرَقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُعَلَّقُ عَلَى الرَّأْسِ مَثَلًا لِلتَّبَرُّكِ ، وَالثِّيَابُ الَّتِي يُكْتَبُ عَلَيْهَا وَالدَّرَاهِمُ كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يَحْرُمُ مَسُّهَا وَلَا حَمْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَتَبَ كِتَابًا إلَى هِرَقْلَ وَفِيهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } آلُ عِمْرَانَ الْآيَةَ وَلَمْ يَأْمُرْ حَامِلَهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ } ، وَتُكْرَهُ كِتَابَةُ الْحُرُوزِ وَتَعْلِيقُهَا إلَّا إذَا جُعِلَ عَلَيْهَا شَمْعٌ أَوْ نَحْوُهُ ، وَيُسْتَحَبُّ التَّطَهُّرُ لِحَمْلِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَسِّهَا ( وَالْأَصَحُّ حِلُّ حَمْلِهِ ) أَيْ الْقُرْآنِ ( فِي ) مَتَاعٍ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ أَوْ ( أَمْتِعَةٍ ) تَبَعًا لِمَا ذُكِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْحَمْلِ بِأَنْ قَصَدَ حَمْلَ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ حَمْلِ حَامِلِ الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالْحَمْلِ ، وَلَوْ مَعَ الْأَمْتِعَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ يَقْتَضِي الْحِلَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا لَوْ قَصَدَ الْجُنُبُ الْقِرَاءَةَ وَغَيْرَهَا ، وَالثَّانِي يَحْرُمُ تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَمُنِعَ مَعَ التَّبَعِيَّةِ كَحَامِلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ .
فَرْعٌ : لَوْ

حَمَلَ مُصْحَفًا مَعَ كِتَابٍ فِي جِلْدٍ وَاحِدٍ فَحُكْمُ حَمْلِهِ حُكْمُ الْمُصْحَفِ مَعَ الْمَتَاعِ فَفِيهِ التَّفْصِيلُ ، وَأَمَّا مَسُّ الْجِلْدِ فَيَحْرُمُ مَسُّ السَّاتِرِ لِلْمُصْحَفِ دُونَ مَا عَدَاهُ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ شَيْخِي ( وَ ) فِي ( تَفْسِيرٍ ) سَوَاءٌ أَتَمَيَّزَتْ أَلْفَاظُهُ بِلَوْنٍ أَمْ لَا إذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنْ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِتَعْظِيمِهِ حِينَئِذٍ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُصْحَفِ ، أَوْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التَّحْقِيقِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْلِ فِيمَا إذَا اسْتَوَى الْحَرِيرُ مَعَ غَيْرِهِ أَنَّ بَابَ الْحَرِيرِ أَوْسَعُ بِدَلِيلِ جَوَازِهِ لِلنِّسَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِلرِّجَالِ كَبَرْدٍ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ لَا الْكَلِمَاتِ ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْكَثْرَةِ وَعَدَمِهَا فِي الْمَسِّ بِحَالَةِ مَوْضِعِهِ ، وَفِي الْحَمْلِ بِالْجَمِيعِ ا هـ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ حَيْثُ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ لَا يَحْرُمُ مَسُّهُ مُطْلَقًا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصْحَفٍ : أَيْ وَلَا فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا ، وَقِيَاسُ مَا قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ هَلْ الْحَرِيرُ أَكْثَرُ أَوْ لَا أَنَّهُ يَحْرُمُ لُبْسُهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ هُنَا عِنْدَ الشَّكِّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ أَقَلُّ أَوْ لَا بَلْ أَوْلَى كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْفَرْقِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَحْرُمْ حَمْلُ التَّفْسِيرِ ، وَلَا مَسُّهُ بِلَا طَهَارَةٍ كُرْهًا ( وَ ) فِي دَرَاهِمَ وَ ( دَنَانِيرَ ) كَالْأَحَدِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ دُونَهُ .
وَالثَّانِي يَحْرُمُ لِإِخْلَالِهِ بِالتَّعْظِيمِ ( لَا ) حِلُّ ( قَلْبِ وَرَقِهِ ) أَيْ الْمُصْحَفِ ( بِعُودٍ ) وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْوَرَقَةِ فَهُوَ كَحَمْلِهَا .
وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ لِمَا سَيَأْتِي ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ عَمَّا لَوْ لَفَّ كُمَّهُ

عَلَى يَدِهِ وَقَلَبَ الْأَوْرَاقَ بِهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَطْعًا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُودِ بِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَّصِلٌ بِهِ ، وَلَهُ حُكْمُ أَجْزَائِهِ فِي مَنْعِ السُّجُودِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ( 1 ) : وَلِأَنَّ التَّقْلِيبَ يَقَعُ بِالْيَدِ لَا بِالْكُمِّ ا هـ .
وَعَلَى كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ إذَا قَلَبَهُ بِكُمِّهِ فَقَطْ كَأَنْ فَتَلَهُ وَقَلَبَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُودِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ الصَّبِيَّ ) الْمُمَيِّزَ ( الْمُحْدِثَ ) وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ كَمَا فِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ ( لَا يُمْنَعُ ) مِنْ مَسٍّ وَلَا مِنْ حَمْلِ لَوْحٍ ، وَلَا مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ .
أَيْ لَا يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا بَلْ يُسْتَحَبُّ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي الْحَمْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْعِمَادِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْتَهِكَهُ ( قُلْتُ الْأَصَحُّ حِلُّ قَلْبِهِ ) أَيْ وَرَقِ الْمُصْحَفِ ( بِعُودٍ ) وَنَحْوِهِ ( وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ وَلَا مَاسٍّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْوَرَقَةُ قَائِمَةً فَصَفْحُهَا بِعُودٍ جَازَ إنْ احْتَاجَ فِي صَفْحِهَا إلَى رَفْعِهَا حَرُمَ ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لَهَا ا هـ .
وَمَا قَالَهُ عُلِمَ مِنْ التَّعْلِيلِ .
فَوَائِدُ : يُكْرَهُ كَتْبُ الْقُرْآنِ عَلَى حَائِطٍ وَلَوْ لِمَسْجِدٍ وَثِيَابٍ وَطَعَامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ هَدْمُ الْحَائِطِ وَلُبْسُ الثَّوْبِ وَأَكْلُ الطَّعَامِ ، وَلَا يَضُرُّ مُلَاقَاتُهُ مَا فِي الْمَعِدَةِ بِخِلَافِ ابْتِلَاعِ قِرْطَاسٍ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، وَلَا يُكْرَهُ كَتْبُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي إنَاءٍ لِيُسْقَى مَاؤُهُ لِلشِّفَاءِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ لِابْنِ

عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ مِنْ التَّحْرِيمِ .
وَأَكْلُ الطَّعَامِ .
كَشُرْبِ الْمَاءِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَيُكْرَهُ إحْرَاقُ خَشَبٍ نُقِشَ بِالْقُرْآنِ إلَّا إنْ قُصِدَ بِهِ صِيَانَةُ الْقُرْآنِ فَلَا يُكْرَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ تَحْرِيقُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَصَاحِفَ ، وَيَحْرُمُ كَتْبُ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ - تَعَالَى - بِنَجِسٍ وَعَلَى نَجِسٍ وَمَسُّهُ بِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لَا بِطَاهِرٍ مِنْ مُتَنَجِّسٍ ، وَيَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ خَشَبٍ نُقِشَ بِالْقُرْآنِ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، وَلَوْ خِيفَ عَلَى مُصْحَفٍ تَنَجُّسٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ تَلَفٌ بِنَحْوِ غَرَقٍ أَوْ ضَيَاعٍ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَطَهُّرِهِ جَازَ لَهُ حَمْلُهُ مَعَ الْحَدَثِ فِي الْأَخِيرَةِ ، وَوَجَبَ فِي غَيْرِهَا صِيَانَةً لَهُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ إذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَتَوَسُّدُهُ ، وَإِنْ خَافَ سَرِقَتَهُ ، وَتَوَسُّدُ كُتُبِ عِلْمٍ مُحْتَرَمٍ إلَّا لِخَوْفٍ مِنْ نَحْو سَرِقَةٍ ، نَعَمْ إنْ خَافَ عَلَى الْمُصْحَفِ مِنْ تَلَفٍ نَحْوِ حَرْقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ كَافِرٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّدَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَيُسْتَحَبُّ كَتْبُهُ وَإِيضَاحُهُ وَنَقْطُهُ وَشَكْلُهُ ، وَيَجُوزُ كَتْبُ آيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا إلَيْهِمْ فِي أَثْنَاءِ كِتَابٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَيُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ مَسِّهِ لَا سَمَاعِهِ ، وَيَحْرُمُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ إنْ كَانَ مُعَانِدًا ، وَغَيْرُ الْمُعَانِدِ إنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ جَازَ تَعْلِيمُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ بِفَمٍ مُتَنَجِّسٍ ، وَتَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ بِحَمَّامٍ وَطَرِيقٍ إنْ لَمْ يُتَلَهَّ عَنْهَا ، وَإِلَّا كُرِهَتْ ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرٍ لَمْ يُخَصَّ بِمَحَلٍّ ، فَإِنْ خُصَّ بِهِ بِأَنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَتَعَوَّذَ لَهَا جَهْرًا إنْ جَهَرَ بِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51