كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي

خطبة الكتاب
الحمد لله الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام ، المبين لعباده على لسان رسله شرائع الأحكام من واجب وحلال وحرام ، وكلفهم بالوقوف عند حدودها واتباع أوامرها واجتناب نواهيها تكليفاً لا انفصال لهم عنه ولا انفصام ، وأمر رسله وورثتهم من خلقه بتنفيذها بين عباده ليرتفع الظلم والفساد والهرج والعناد تنفيذاً لا يشوبه حيف في إقامة الحق بين ذوي الخصام ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد قطب دائرة الكونين المؤيد بالوحي والإلهام ، وعلى آله وأصحابه الذين مهدوا للدين من بعده فاستنار الحق واستقام وقاموا بالشريعة المطهرة أحسن قيام .
وبعد : فيقول أفقر العبيد إلى الله الغني به عمن سواه الراجي عفوه في سره ونجواه علي بن عبد السلام التسولي أصلاً ومنشأً ، الفاسي داراً وقراراً : لما كانت تحفة الحكام من أجل ما ألف في علم الوثائق والإبرام لسلامة نظمها ووجازة لفظها ، ولكونها قد اجتمع فيها ما افترق في غيرها ومنّ الله علينا بتدريسها وإقرائها وإبراز خفي معانيها وذكر فروع تناسبها ونكت تقيد شواردها وتحل مقفلها ، طلب مني الكثير من طلبة الوقت أن أضع لهم شرحاً عليها يشفي الغليل ويكمل المرام ، ويكشف من خفي معانيها ما وراء اللثام ويحتوي على إعراب كل ألفاظها ليتدرب المبتدىء بعلم النحو الذي عليه المدار في الفهم والإفهام ، وعلى بيان منطوقها ومفهوم الكلام ، وعلى إبراز فرائد الفوائد وفروع تناسب المقام مبيناً فيه ما به العمل عند المتأخرين من قضاة العدل والأئمة الكرام ، مصلحاً فيه ما يحتاج إلى الإصلاح من ألفاظه المخلة بالنظام ، شارحاً فيه غالب وثائق الأبواب وإن أدى ذلك إلى الإطناب ليتدرب بذلك من لم يتقدم له مسيس بالفتوى من الأنام ويهتدي إلى كيفية تنزيل الفقه على وثائق الأحكام ، فأجبتهم إلى ذلك بعد التوقف والإحجام ،وتقديم رجل وتأخير أخرى في مدة من الأيام مستعيناً على ذلك كله بالواحد الأحد الملك العلام ، مرتكباً في ذلك أبسط العبارة غير مكتف عن التصريح بالرمز والإشارة ليطابق الشرح المشروح ويهتدي إلى فهمه من تقدم له أدنى مسيس بعلم الفقه والعربية ، وخلا ذهنه عن رديء الأوهام مشيراً بصورة ( خ ) المعجمة إلى الشيخ خليل وبصورة ( ت ) إلى شيخ شيوخنا سيدي محمد التاودي أحد شراح هذا الكتاب وبصورة ( م ) إلى الشيخ ميارة ذي العلم الجليل وبصورة ( ح ) المهملة إلى الإمام الحطاب ، ولكون الإعراض يكفي في الإشارة لأولي الألباب لم أصرح بالانتقاد على أحد من شراح هذا الكتاب . نعم وقع بعض ذلك في صدره ليقاس عليه ما بقي من بعده ، وأيضاً فإن لكل أحد منهجاً يقتضيه ومذهباً يختاره للفتوى ويصطفيه . وأقول كما قال صاحب التسهيل : وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين .
ولما منَّ الله تعالى عليَّ بالشروع فيه ولم يكن اطلع عليه أحد وهو مما نضمره ونخفيه أخبرني بعض الطلبة الطالبين للشرح المذكور الصادق في خلوص الطوية والمحبة أنه رأى في المنام أني وضعت عليها شرحاً فائقاً كبدر التمام ، فزادني ذلك انتشاطاً وتثبتاً بالمقصود واغتباطاً لعلمي بصدق طويته وعدم كذبه في خبره على الدوام ، وكنت ترددت أياماً في كيفية تسميته فأشار إليَّ هاتف في المنام بأن أسعيه البهجة في شرح التحفة مأخوذاً من قوله تعالى : ذات بهجة } ( النمل : 60 ) والله سبحانه المسؤول في بلوغ المأمول إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير وهو حسبي ونعم الوكيل .
فالناظم رحمه الله : هو القاضي أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي ، ولد رحمه الله ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة وتوفي حادي عشر شوال من عامتسعة وعشرين وثمانمائة ، وقد أنشد أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن القاضي بيتاً رمز فيه لولادة الناظم ووفاته وبلده على طريق نظم الوفيات للكاتب القشتالي فقال :
وقد ( رقصت ) غرناطة بابن عاصم
و ( سحت دموعاً ) للقضاء المنزل
فرمز بحروف رقصت لسنة الولادة ومجموعها بحساب الجمل ستون وسبعمائة مع ما في التعبير بالرقص من المناسبة ، إذ الرقص الفرح والسرور ، ورمز للوفاة بحروف سحت دموعاً ومجموعها بالحساب المذكور ثمانمائة وتسعة وعشرون مع ما في التعبير بذلك من الإشارة للموت . ومن شيوخه رحمه الله الأستاذ أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب ، والأستاذ أبو عبد الله القيجاطي ، وناصر السنة الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ، وقاضي الجماعة الحافظ أبو عبد الله محمد بن علاق ، وخالاه محمد وأحمد ولدا أبي القاسم بن جزي ، والشريف أبو عبد الله محمد التلمساني ، والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النميري ، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن علي البلنسي وغيرهم . كان رحمه الله تعالى فاضلاً متقناً لعلم الفقه والقراءات ، مشاركاً في العربية والمنطق والأصول والحساب والفرائض مشاركة حسنة متقدماً في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وشعراً إلى براعة خط وإحكام رسم وإتقان بعض الصنائع العلمية كتسفير الكتب وتنزيل الذهب وغيرهما . وله تآليف عديدة منها هذه الأرجوزة ، وأخرى في الأصول سماها : مهيع الوصول في علم الأصول ، وأخرى في النحو حاذى بها رجز ابن مالك ، وأخرى في الفرائض ، وقصيدة سماها : إيضاح المعاني في قراءة الثماني ، وأخرى سماها : الأمل المرقوب في قراءة يعقوب ، وغير ذلك كما في الابتهاج للشيخ أحمد بابا كان الله للجميع آمين .
قال رحمه الله ( بسم ) جار ومجرور متعلق بمحذوف قدره بعضهم فعلاً وبعضهم مصدراًمرفوعاً على الابتداء ، والتقدير على الأول بسم الله أؤلف أو أنظم ، وقدر مؤخراً طلباً للاهتمام والاختصاص ، وعلى الثاني تأليفي أو نظمي بسم الله ثابت أو حاصل ، فحذف المبتدأ وخبره وبقي معمول المبتدأ ، والباء للاستعانة أو للمصاحبة ، وإنما قدر العامل هنا من مادة التأليف أو النظم لأن الذي يتلو البسملة هنا مؤلف وناظم والتالي لها في كل محل يعين العامل المحذوف . ثم إن لفظ اسم الذي هو ألف سين ميم يطلق في اللغة إطلاقاً شائعاً على ما يعم أنواع الكلمة فيصدق بلفظ زيد ولفظ قام وهل مثلاً ، وفي اصطلاح النحاة على ما يقابل الحرف والفعل ويطلق أيضاً في اللغة إطلاقاً غير شائع على الذات فيصدق بذات زيد وذات عمرو ، وهكذا . قال الفخر : الاسم يطلق لمعان ثلاث إلى أن قال الثاني ذات الشيء ، وقال ابن عطية : يقال ذات ونفس وعين واسم بمعنى اه . فعلى الشائع مدلوله اللفظ المفرد الموضوع لمعنى الصادق بلفظ زيد ولفظ قام وهل ونحوها من الألفاظ الدالة على معنى وهو الذات في الأول والقيام في الثاني والاستفهام في الثالث ، وعلى غير الشائع مدلوله الذات الصادقة بذات زيد وذات عمرو ونحوهما . فإذا قلت : رأيت اسم زيد فمعناه رأيت ذاته وعينه لا لفظه ، فقولهم قد اختلف هل الاسم عين المسمى أو غيره ؟ مرادهم اختلف في مدلول لفظ اسم حيث استعمل في التراكيب الجزئية التي لا يراد فيها مدلوله الذي هو مطلق اللفظ على الشائع أو مطلق الذات على غيره ، وإنما يراد بعض ما صدقات مدلوله في الجملة فقيل فيه إذ ذاك : إن مدلوله لفظ زيد مثلاً الذي هو على الشائع من ما صدقات مدلوله ، ولفظ زيد غير المسمى الذي هو ذاته ، وقيل إن مدلوله عين المسمى وهو ذات زيد مثلاً التي هي على غير الشائع من ما صدقاته وعلى الشائع هي مدلول ما صدقه وليس مدلوله لفظ زيد على هذا القول .وبالجملة فذات زيد مثلاً هي بعض مدلول ما صدقات الاسم على الأول وهي بعض ما صدقاته على الثاني لأن مدلول الاسم على الأول هو اللفظ الدال على معنى ولفظ زيد بعض ما صدق عليه ذلك اللفظ وذاته هي مدلول ما صدقه وعلى الثاني هي ما صدقه لا مدلول ما صدقه فمدلوله على الأول لفظ دال على معنى أياً كان ، ومدلوله على الثاني نفس المعنى أياً كان . ودليل القول الأول قوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى } ( الأعراف : 180 ) أي ألفاظ دالة عليه فادعوه بها } ( الأعراف : 180 ) وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن لله تسعة وتسعين اسماً ) أي لفظاً للقطع بأن المسمى واحد لا تعدد فيه . ودليل القول الثاني قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى } ( الأعلى : 1 ) والتسبيح الذي هو التنزيه عن صفات المحدثات إنما هو للذات دون اللفظ ، وكذا قوله تعالى : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } ( يوسف : 40 ) وعبادتهم إنما هي للمسميات دون الأسامي . وإذا تقرر هذا علمت أن لفظ اسم في البسملة هو مقحم على الأول أو بمعنى التسمية أو من إضافة العام إلى الخاص إذ معناه بدأت مستعيناً بالله أو بتسمية الله أو بسم هو الله ، وأما على الثاني فلا يؤول بشيء إذ معناه مستعيناً بمسمى الله ومسماه هو ذاته العلية أي مستعيناً بمسمى هذا اللفظ على أن الخلاف لفظي كما صرح به الشيخ زكريا وغيره فمن قال : إنه غير المسمى أراد حيث يكون الحكم مناسباً لغير المسمى كقولك : تلوت اسم زيد أي لفظه ومن قال : إنه عين المسمى أراه حيث يكون الحكم مناسباً لذلك أيضاً كقولك : رأيت اسم زيد أي ذاته ، وأما تقسيم الأشعري رضي الله عنه أسماء الله تعالى إلى ثلاثة أقسام ما هو نفس المسمى أي مدلوله نفس المسمى مثل لفظ الله الدال على ذاته تعالى ، وما هو غيره كالخالق والرازق ونحوهما من صفات الأفعال أي يفهم منها غيره تعالى وهو الخلق والرزق الناشئان عن قدرته بخلاف الأول إذ لا يفهم من لفظ الله سوى ذاته تعالى وما هو لا عينه ولا غيره كالعالم والقادر ونحوهما من الصفات القديمة ، فليس من هذا القبيل لأنه لم يقل ذلك في لفظ الاسم ، والخلاف المتقدم إنما هو في لفظ الاسم لكن قال بعضهم : إن قوله لا عينه ولا غيره لا يخلو من صعوبة وإشكال ، وقد انفصل عن ذلك بعضهم بأن المراد أن تلك الصفة الحقيقية ليست غير الذات مفهوماً أي مدلولاً ولا عينها خارجاً اه . ولعله يريد أنه لا يقال أن مدلولها غير الذات ولا عين الذات ، بل مدلولها الذات بصفتها والله أعلم . وهذه المسألة عويصة بسطت الكلام فيها لصعوبتها على الولدان المبتدئين .
تنبيه : قال البغوي في اختصار قواعد القرافي ما نصه : قال صاحب الخصال الأندلسي : يجوز الحلف بقولك : بسم الله ، وتجب به الكفارة ، قال القرافي : هذه المسألة فيها جور بسبب أن الاسم ههنا إن أريد به المسمى استقام الحكم ، وإن لم يرد به المسمى فقد حكى ابن السيد البطليوسي أن العلماء اختلفوا في لفظ الاسم هل هو موضوع للقدر المشترك بين الأسماء فمسماه لفظ أو وضع في اللغة للقدر المشترك بين المسميات فلا يتناول إلا مسمى ؟ قال : وهذاهو خلاف تحقيق العلماء في أن الاسم هو المسمى أولاً ، وأن الخلاف إنما هو لفظ الاسم الذي هو ألف سين ميم ، وأما لفظ نار وذهب فلا يصح أن يقول عاقل أن لفظ نار هو عين النار حتى تحرق فم من ينطق بهذا اللفظ ، وإذا فرعنا على هذا وقلنا الاسم موضوع للقدر المشترك بين الأسماء ، وأن مسماه لفظ فينبغي أن لا تلزم به كفارة إذا حلف به وأن لا يجوز الحلف به كما لو قلنا : ورزق الله فإن إضافة المحدث إلى الله لا يصيره مما يجوز الحلف به ، وإن قلنا هو موضوع للقدر المشترك بين مسميات والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص وما يكون كذلك لا يحلف به ولا يكون قسماً إلا بنية أو عرف ناقل ولا واحد منهما ههنا فلا تجب كفارة إذا لم يتعين صرف اللفظ لجهة الله اه لفظه .
قلت : تأمل قوله : فلا يصح أن يقول عاقل أن لفظ نار هو عين النار الخ . فإنه غير سديد . وصوابه : أن يقول فلا خلاف في أن مدلول لفظ نار هو عين النار لأن الخلاف إنما هو في مدلول لفظ الاسم لا في مدلول غيره إذ مدلول غيره من الألفاظ هو عين المسمى اتفاقاً .
( الله ) : مضاف إليه وأصله إله أسقط منه الهمز ثم أبدل بأل كما قال :
والاسم ذو التقديس هو الله
على الأصح أصله إله
أسقط منه الهمز ثم أبدلا
بأل التعريف لذاك جعلا
وهل مشتق أو جامد ؟ فيه أقوال ليس هذا محلها ولا بأس بالإشارة إلى بعضها فقيل : هو مشتق من التأله وهو التنسك والتعبد يقال إله آلهة أي عبد عبادة ، وقيل من الإله وهو الاعتماد يقال : ألهت إلى فلان أي فزعت إليه واعتمدت عليه ، ومعناه : أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج فهو يألههم أي يجيرهم فسمي إلهاً . وقيل : هو من ألهت في الشيء إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه ومعناه : أن العقول تتحير في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته فهو إله كما يقال للمكتوب كتاب وللمحسوب حساب . وقال المبرد : هو من قول العرب ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فكأن الخلق يسكنون ويطمئنون بذكره ، وقيل : أصله من الوله وهو ذهاب العقل لفقدان من يعز عليك ، وكأنه سمي بذلك لأن القلوب تتوله لمحبته وتطرب وتشتاق عند ذكره ، وقيل : معناه المحتجب لأن العرب إذا عرفت شيئاً ثم حجب عن أبصارها سمته إلهاً تقول : لاهت العروس تلوه لوهاً إذا احتجبت ، ف الله تعالى هو الظاهر بالربوبية بالدلائل والأعلاموالمحتجب من جهة الكيفية عن الأوهام . حكى هذه الأقوال الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه المسمى : غنية الطالب نفعنا الله به . ( الرحمن الرحيم ) : نعتان لله ، وقيل الرحمن بدل والرحيم نعت للرحمن والرحمن المنعم بجلائل النعم والرحيم المنعم بدقائقها ، وقدم الأول وهو الله لدلالته على الذات ، ثم الثاني لاختصاصه به ولأنه أبلغ من الثالث ، فقدم عليه ليكون كالتتمة والرديف ، ولأن الثالث لا يختص به تعالى بدليل قوله : بالمؤمنين رؤوف رحيم } ( التوبة : 128 ) :
الْحَمْدُ لله الَّذِي يَقْضِي وَلاَ
يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ شَأْناً وَعَلاَ
( الحمد لله ) : مبتدأ وخبر أي الصفات الجميلة كلها واجبة لله ، ومعنى ، وجوبها أنه لا يتصور في العقل عدم وصفه بها ، والجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى إذ المراد إنشاء الثناء بمضمونها أي أنشىء وصفه تعالى بكل جميل ، وأتى بالحمد بعد البسملة اقتداء بالكتاب العزيز وامتثالاً لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ) أي مقطوع البركة . كما ورد عنه عليه السلام أنه قال : ( كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر ) أي ذاهب البركة ، فحمل الناظم رحمه الله حديث البسملة على الابتداء الحقيقي بحيث لا يسبقه شيء ، وحديث الحمدلة على الابتداء الإضافي القريب منه بأن يذكر الحمد عقب البسملة متصلاً بها كما يدل عليه القرآن فهو مبين لكيفية العمل بالحديثين ، وهذا أحد الأجوبة عما أوردوه من أن الابتداء بأحدهما يفوت الابتداء بالآخر ، ولنقتصر عليه لكونه أحسنها .
ثم إن الحمد لغة هو الوصف بالجميل على الجميل على جهة التعظيم والتبجيل ، فالمراد بالوصف الذكر باللسان فقط ، وخرج بالجميل الوصف بالقبيح فليس حمداً بل ذماً وبقوله : على جهة التعظيم الخ ، الوصف بالجميل تهكماً نحو : ذق إنك أنت العزيز الكريم } ( الدخان : 49 ) وقيل : لا حاجة لزيادة هذا القيد بل هو مستغنى عنه بقوله : بالجميل على الجميل وهو الظاهر لأنه في الآية الكريمة وصفه بالجميل وهو غير متصف به في الحقيقة بل مجازاً باعتبار ما كان عليه ، والمجاز غير محترز عنه في الحدود بل إنما يحترز فيها عما يشارك المحدود في الإطلاق الحقيقي . وله أركان خمسة : الصيغة والحامد والمحمود وهذه الثلاثة يتضمنها لفظ الوصف وهو لا يكون إلا باللسان ، والرابع : المحمود به وهو صفة كمال يدرك العقل السليم حسنها ، والمراد كونه جميلاً في الواقع أو عند الحامد أو المحمود بزعم الحامد ، والخامس : المحمود عليه وهو ما يقع الوصف الجميل بإزائه ومقابلته فهو الباعث على الحمد ، وهذان مصرح بهما في التعريف فلفظ الحمد في كلام الناظم يتضمن الصيغة أي اللفظ الذي يؤدى به الوصف ويتضمن الحامد أي الواصف ويتضمن أيضاً المحمود به ، إذ كل واصف لا بد له من لفظ بصفة يصف بها غيره ،وقوله : ( لله ) هو المحمود ، فهذه أربعة ، وأما المحمود عليه وهو الباعث على الحمد فقد يستفاد من قوله الذي يقضي الخ أي فكونه يقضي على غيره ولا يقضى عليه هو صفة جميلة في غاية الكمال ، وذلك هو الباعث على وصفه بكل جميل فكأنه قال : الوصف بكل جميل من قدرة وعلم وغيرهما ثابت لله ، والباعث على وصفي له بذلك هو كونه يقضي ولا يقضى عليه ، وأيضاً فإن المحمود به والمحمود عليه قد يتحدان معنى ويفترقان بالاعتبار كما لو قلت : أحمده تعالى بالصفات الجميلة من قدرة ونحوها لكونه متصفاً بها فالقدرة مثلاً من حيث الوصف بها محمود بها ومن حيث إنها باعثة على الحمد محمود عليها فلا شك أن الحمد في النظم متضمن للأركان الخمسة . والحمد والمدح مترادفان كانا في مقابلة نعمة أم لا . كما للزمخشري في فائقه خلافاً للرازي حيث فرق بين الحمد والمدح بأن المدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل وغيره قائلاً : ألا ترى أنه يمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالته فيقال : ما أحسنه وما أصفاه ، والحمد لا يكون إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك اه . وعليه فيقيد المحمود عليه بالاختياري وبكونه في مقابلة نعمة ليخرج المدح ، لكن يلزم على التقييد به خروج الثناء على الصفات القديمة وأنه لا يكون حمداً بل مدحاً فقط وليس كذلك ، وما أجيب به عن خروج الصفات القديمة من تعريف الحمد بناء على ذلك التقييد من أنها لما كانت مبدأ للأفعال الاختيارية كان الحمد عليها حمد على تلك الأفعال الاختيارية تمحل غير سديد ، فلا يعول عليه ، والصواب ما في الفائق من ترادفهما . قاله الشيخ البناني في شرح السلم .
وأما الحمد عرفاً أي : شرعاً فهو فعل ينبىء عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً وهو مساوٍ للشكر لغة وبينهما وبين الحمد لغة عموم وخصوص من وجه فعمومهما باعتبار المورد لأنهما يكونان باللسان وبغيره من الأركان وعمومه هو باعتبار المتعلق لأنه يكون في مقابلة نعمة وغيرها فيجتمعان فيما إذا كان الوصف باللسان في مقابلة نعمة ، وينفردان عنه فيما إذا كانا بغير اللسان في مقابلة نعمة وينفرد هو عنهما فيما إذا كان باللسان لا في مقابلة نعمة .
وأما الشكر عرفاً ؛ فهو صرف العبد جميع ما نعم الله به عليه من سمع وغيره إلى ما خلق لأجله فهو أخص مطلقاً من كل واحد من الثلاثة قبله لتقييده بمنعم مخصوص وهو الله سبحانه حيث قيل في حده : جميع ما أنعم الله به عليه ، ولم يقل أنعم به عليه ولتقييده أيضاً بنعمة واصلة إلى عبده الشاكر ، ولشموله لجميع الجوارح بخلاف الحمدين قبله والشكر لغة فلم تقيد النعمة في ذلك بمنعم مخصوص ولا بكونها واصلة إلى الحامد أو الشاكر ، بل وصلت إليه وإلى غيره ، ولا يكون ذلك بجميع الجوارح كما لا يخفى ، وهذا الشكر هو الشكر المأمور به شرعاً المعبر عنهبالتقوى والاستقامة الذي أخبر عنه تعالى بقوله : وقليل من عبادي الشكور } ( سبأ : 13 ) وقوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } ( ص : 24 ) فلا يبلغ العبد حقيقة الشكر شرعاً إلا بكمال التقوى والاستقامة الظاهرة والباطنة أما المخلط في أحواله فلم يؤد ما وجب عليه من الشكر بتمامه نعم الطاعة الصادرة منه هي بعض ما وجب عليه من الشكر ، ولما لم يكن المخلط مؤدياً ما وجب عليه وكان الكثير من الناس مخلطاً قال تعالى : وقليل من عبادي الشكور } الخ . إذ المراد بصرف الجميع أن لا يخرج العبد عن طاعة مولاه بأن تسلم جوارحه كلها من مخالفة أمره ونهيه في جميع الأوقات فلا يكون شاكراً لنعم الله تعالى شكراً حقيقياً إلا بصرف الجميع ، والعبد لا يخلو عن نعم الله طرفة عين ، وعن ذلك أفصح الجنيد رضي الله عنه بقوله : الشكر أن لا يعصى الله بنعمه ، أي جوارحه لأنها نعمة من الله عليه قال هذه القولة في صباه . وبأدنى تأمل يعلم أن النسب ست إذ بين كل واحد من الثلاثة والشكر عرفاً العموم والخصوص بإطلاق ، فهذه ثلاث نسب ، وبين الحمد لغة والحمد عرفاً والشكر لغة العموم والخصوص من وجه وبين الحمد عرفاً والشكر لغة الترادف ، فهذه ثلاثة أخر وقد نظم ذلك الشيخ ( عج ) رحمه الله بقوله :
إذا نسبا للحمد والشكر رمتها
بوجه له عقل اللبيب يؤالف
فشكر لدى عرف أخص جميعها
وفي لغة للحمد عرفاً يرادف
عموم لوجه في سوى ذين نسبة
فذي نسب ست لمن هو عارف
وأل في الحمد للاستغراق وهي التي يصلح في موضعها كل نحو : إن الإنسان لفي خسر } ( العصر : 2 ) وذلك لأن الحمد إما قديم وهو حمد الله تعالى لنفسه أو لمن شاء من خلقه ، أو حادث وهو حمد العباد لربهم سبحانه أو لبعضهم بعضاً ، فالقديم صفته ووصفه والحادث خلقه وملكه فالحمد كله له ، وقيل للجنس لأن جنس الحمد إذا ثبت لله ثبت له جميع أفراده فمؤداهما واحد ، وقيل للعهد لأن الله سبحانه لما علم عجز خلقه عما يستحقه من الحمد حمد نفسه بنفسه في أزله قبل وجود خلقه ثم لما أوجدهم أمرهم أن يحمدوه بذلك . ولام لله للاستحقاق أي جميع المحامد مستحقة لله تعالى ، ولا يصح كونها للملك لأن من أقسام الحمد حمد الله تعالى لنفسه أو لمن شاء من خلقه في أزله كقوله : نعم العبد ونحوه ، وحمده لنفسه أو لخلقه بكلامه وكلامه قديم ، والقديم لا يصح أن يملك فتعين كونها للاستحقاق أي يستحق الوصف بكل جميل لكونه واجباً له لا يتصور في العقل عدمه .
واسم الجلالة علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد وهو أشهر أسمائه تعالى ، قيل : إنه اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب إذا وجد شرطه وهو التقوى ، ولذا قبض الله تعالى عنه الألسن فلم يتسم به أحد قال تعالى : هل تعلم له سمياً } ( مريم : 56 ) أي هل تعلم أحداً من المخلوقات سمي الله ؟ والاستفهام بمعنى النفي أي لم يتسم به غيره وهو أعرف المعارف قاله سيبويه . ( الذي ) نعت لله ( يَقضي ) بفتح الياء صلته والرابط ضمير يعود على الله ( ولا يُقضى ) بضم الياء مبنياً للمفعول ( عليه ) يتعلق به ، والجملة معطوفة على الصلة والمعطوف على الصلة صلة أيضاً ، ومعناه يحكم ولا يحكم عليه أي وكل قاض وحاكمسواه تعالى مقضي عليه من مولاه وممن ولاه فيقال له : ما أحقك أن تستشعر ذلك وتستحضر أنك مسؤول عن كل حكم حكمت به هنالك . وفي البيت براعة الاستهلال وهي أن يأتي المتكلم في أول كلامه بما يشعر بمقصوده ، فإنه لما كان قصده أن يتكلم في أحكام القضاء وصف الله سبحانه بأنه يقضي ولا يقضى عليه . ( جل ) : فعل ماض بمعنى عظيم ( شأناً ) : تمييز محول عن الفاعل كقوله تعالى : واشتعل الرأس شيباً } ( مريم : 4 ) أي عظم شأنه والشأن الأمر والحال قاله الجوهري . ( وعلا ) : فعل ماض أيضاً معطوف على جل وتمييزه محذوف أي قدراً أي جل شأنه وعلا قدره ، ويحتمل أن يكون مصدراً من قولهم : علا في المكارم من باب تعب علاء بفتح العين ومد اللام كما في المصباح قصره ضرورة فيكون معطوفاً على قوله شأناً أي عظم شأناً وعلاء ولا يصح أن يكون اسم مصدر لأن اسم المصدر هو ما كان لغير الثلاثي بوزن ما للثلاثي كأعطى عطاء واغتسل غسلاً ، فاسم المصدر هو عطاء وغسل والمصدر إعطاء واغتسال فيقتضي أن علاء بمعنى إعلاء كما أن عطاء بمعنى إعطاء وليس كذلك لأن المعنى يأباه .
ثُمَّ الصَّلاَةُ بِدَاوَامِ الأَبَدِ
عَلَى الرَّسُولِ المُصْطَفَى مُحَمَّدِ
( ثم الصلاة ) من الله تعالى أي الرحمة منه إذ الصلاة لغة من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، ومن الآدميين دعاء بخير ، ولكن لما كان في التعبير عن الرحمة بالصلاة من التعظيم ما ليس في لفظ الرحمة قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } ( الأحزاب : 65 ) الآية . فالمراد أن يطلب العبد من الله تعالى زيادة التكريم والإنعام والتعظيم لنبيه عليه السلام ، وإلا فأصل الرحمة حاصل له عليه السلام فلا يطلب تحصيله ونفعها عائد على المصلي لخبر : ( من صلّى عليَّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ) فالصلاة عليه من أجلّ الأذكار وأعظمها ثواباً . ( بدوام ) : يتعلق بمحذوف حال من الصلاة أي مؤقتة بدوام ( الأبد ) : أي الدهر وهو حركة الفلك . ( على الرسول ) : خبر عن الصلاة ( المصطفى ) : نعت للرسول ( محمد ) : بدل والجملة معطوفة بثم على جملة الحمد قبلها . والرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، والمصطفى مشتق من الصفو وهو الخالص من الكدر والشوائب كلها وطاؤه مبدلة من تاء وكلاهما مقرون بأل علم بالغلبة على نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أطلقا لا ينصرفان لغيره من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذهالجملة خبر في اللفظ ومعناه الطلب فكأنه قال : اللهم صلِّ على الرسول الخ . . ثم لا يتوهم المصلي على النبي عليه الصلاة والسلام أن صلاتنا عليه شفاعة منا له عند الله تعالى في زيادة رفعته وعلو درجته فإن مثلنا لا يشفع لعظيم القدر عند ربه ، بل هو عليه الصلاة والسلام مرفوع الدرجة عند ربه في غاية التكرمة والإنعام وعلو القدر ، ولكن لما أحسن عليه الصلاة والسلام إلينا بهدايته إيانا إحساناً لم يحسنه إلينا أحد من المخلوقات أمرنا سبحانه بمكافأته بالصلاة عليه أي بأن تطلب من الله سبحانه أن يصلي عليه لتكون صلاته عليه مكافأة له منا وإقراراً برسالته ونبوته وتصديقاً به ، وبما جاء به من وحدانية الله سبحانه .
وَآلِهِ وَالْفِئَةِ المتَّبِعَهْ
في كلِّ ما قَدْ سَنَّهُ وَشَرَعَهْ
( وآله ) أقاربه المؤمنون من بني هاشم . إذ هو عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان .
قال ابن الحاجب : وبنو هاشم آل ، وما فوق غالب غير آل وفيما بينهما قولان اه . وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( آل محمد كل تقي ) وهل أصله أهل قلبت الهاء همزة ثم قلبت الهمزة ألفاً واقتصر عليه صاحب الكشاف أو أصله أول وهو رأي الكسائي ، ورجحه بعضهم وهو صريح في أنه جمع لا واحد له من لفظه وتظهر ثمرة الخلاف في التصغير على أهيل أو أويل ، وكلاهما مسموع ولا يضاف إلا لذي شرف فلا يقال آل الحجام ، وأما آل فرعون فله شرف دنيوي وهو عطف على محمد إذ تجوز الصلاة على غير الأنبياء تبعاً واتفاقاً وفي جوازها استقلالاً وكراهتها ومنعها خلاف ، وعلى الجواز فإنما يقصد بها الدعاء لأنها بمعنى التعظيم خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كخصوص عز وجل بالله تعالى ، فلا يقال محمد عز وجل وإن كان ( صلى الله عليه وسلم ) عزيزاً جليلاً ، وكذا السلام هو خاص بالأنبياء فلا يقال أبو بكر عليه السلام .( والفئة ) الجماعة ( المتبعة ) له ( صلى الله عليه وسلم ) فهو بكسر الباء الموحدة فيشمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ( في كل ما ) أي حكم ( قد سنه ) عليه السلام أي : جعله طريقة في الدين ( وشرعه ) عطف تفسير عليه والمجرور يتعلق بقوله المتبعة .
وَبَعْدُ ، فَالْقَصْدُ بِهَذَا الرَّجَزِ
تَقْرِيرُ الأحْكَامِ بِلَفَظٍ مُوجَزِ
( وبعد ) : ظرف زمان كثيراً ومكان قليلاً تقول في الزمان جاء زيد بعد عمرو وفي المكان دار زيد بعد دار عمرو ، وتصح هنا للزمان باعتبار الرقم وهي من الظروف اللازمة للإضافة فإذا قطعت عنها لفظاً ونوي معنى المضاف إليه بنيت كما هنا لشبهها بالحرف في الافتقار لما بعده وبنيت على حركة لتعذر السكون ، وكانت ضمة لأنها حركة لا تكون لها في حالة الإعراب لأنها إذ ذاك إما منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن ، وهي كلمة تستعمل في الكلام الفصيح لقطع ما قبلها عما بعدها . قال الفراء : معناها دع ما كنا فيه وخذ غيره ، ودخلت الفاء بعدها إما على توهم وجود ما قبلها لأن الشيء إذا كثر الإتيان به وترك توهم وجوده وقد كثر في أما مصاحبتها لبعد ، فإذا تركت توهم أنها موجودة ، وأما على تقديرها في الكلام والواو نيابة عنها . ومعنى أما المتوهمة أو المقدرة مهما يكن من شيء بعد الحمد والصلاة فالقصد الخ . فوقعت أما موقع اسم مبتدأ لأن مهما مبتدأ والاسمية لازمة للمبتدأ ، ويكن شرط . والفاء : لازمة له غالباً فحين تضمنت أما معنى الابتداء ، والشرط لزمت الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة قاله السعد . وقال الدماميني : بعد : ظرف مقطوع عن الإضافة مبني على الضم معمول لقول محذوف تقديره : وأقول بعدما تقدم والمقول محذوف أي وأقول بعد ذلك تنبه . ( فالقصد ) : أي المقصود فأطلق المصدر وأراد به المفعول ( بهذا ) النظم ( الرجز ) وهو أحد أبحر الشعر الخمسة عشر ووزنه مستفعلن ست مرات ( تقرير ) تبيين ( الأحكام ) خبر عن قوله : فالقصد والمجرور يتعلق به ، ويقرأ الأحكام بنقل حركة الهمزة للام للوزن وهو جمع حكم ، والمراد به الفقه المتقرر في الكتب المعتمدة كالمدونة وغيرها ليفصل به بين الخصوم ( بلفظ ) : يتعلق بتقرير ( موجز ) : نعت له أي قليل الحروف كثير المعاني .
آثَرْتُ فِيهِ المَيْلَ لِلَّتْبيِينِ
وَصُنْتُهُ جُهْدِي مِنَ التَضّمِينِ( آثرت ) : فعل ماض بمعنى قدمت واخترت قال تعالى : ويؤثرون على أنفسهم } ( الحشر : 9 ) أي يقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى أن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ( فيه ) : أي في هذا الرجز يتعلق بآثرت ( الميل ) : الجنوح والركون مفعول بآثرت ( للتبيين ) : مصدر بين إذا وضح يتعلق بالميل ( وصنته ) : حفظته ( جهدي ) : بضم الجيم مفعول به على حذف مضاف أي غاية جهدي أي طاقتي ووسعي ، والجملة معطوفة على جملة آثرت ( من التضمين ) : يتعلق بقوله صنته والتضمين توقف معنى البيت على البيت الذي بعده لكونه خبراً أو جواب شرط أو استثناء ، ونحو ذلك مما لا يتم معنى الأول إلا بالثاني وهو عند العروضيين من عيوب الشعر ، وفيه يقول الخزرجي : وتضمينها أحواج معنى لذا وذا . الخ ، قيل : وفيه تعريض بابن الحاج معاصر ابن رشد فإن له نظماً في القضاء مشتملاً على ألف بيت سماه الياقوتة ووقع فيه التضمين كثيراً منه قوله في رجوع الشاهد عن شهادته :
وإن يك الرجوع بعد الحكم لم
يجز ويغرم امتثالاً للحكم
جميع ما أتلف بالشهاده
فصِّل وفي بدءٍ وفي إعادة
يلزم من يقضي بأن يسعف من
كلفه الكتب لحكام الزمن
بما به قضى وما قد ثبتا
والعمل اليوم وما إن مقتا
على قبول كتب القضاة
من غير إشهاد لها ويأتي
منع القبول مع ما عليه
عملنا وقصدنا إليه
فانظر هذه الأبيات فإن كل واحد منها لا يتم معناه إلا بالذي بعده ، وهو كثير في ذلك النظم ولكن ذلك مغتفر بالنسبة لما أفاده وجمعه كما اعتذر عن ذلك في خطبته حيث قال :
وقد نظمت بعض أحكام القضا
مبتغياً أجراً ونيلاً للرضا
مستعملاً ما شذ من زحاف
وبعض ما قد عيب في القوافي
وذاك مغفور لدى من أنصفا
في جنب ما جئت به معرفامغلباً تحسيني المعنى على
تحسيني اللفظ الذي عنه انجلا الخ
رحمه الله ونفعنا به وبعلومه .
وَجِئْتُ فِي بَعْضٍ مِن المَسَائِلِ
بالْخُلْفِ رَعْياً لاشتِهَارِ الْقَائِلِ
( وجئت ) : أي أتيت ( في بعض من المسائل ) لا في كلها ( بالخلف ) أي الخلاف والمجروران يتعلقان بقوله جئت ( رعياً ) حال أي مراعاة ( لاشتهار القائل ) بذلك القول يتعلق بقوله رعياً ، وفهم من قوله في بعض : إن الكثير من المسائل لا يأتي بها بالخلاف ، وإنما يقتصر فيه على قول واحد إما لشهرته أو لجريان العمل به ، وأنه إنما يأتي بالخلاف في بعضها لغرض وهو كون القائل بذلك مشهوراً بالعلم والتحقيق فلا ينبغي إهمال قوله هذا إذا كان مساوياً للآخر في المشهورية ، بل وإن كان مخالفاً للمشهور أو المعمول به فالأول مع اتحاد القائل كقوله :
ومن لطالب بحق شهدا
ولم يحقق عند ذاك العددا
فما لك عنه به قولان الخ . . وكقوله في الجوائح :
والقصب الحلو به قولان
كورق التوت هما سيان
ومع اختلافه كقوله في البيوع :
والخلف في الخفي منه والحلف
والثاني كقوله في اليمين :
وفي سوى المشهور يحلف الأب
عن ابنه وحلف الابن مذهب
وكقوله :
والبيع مع براءة إن نصت
على الأصح بالرقيق اختصتوبعضهم فيه الجواز أطلقا الخ . .
والثالث كقوله في الضمان :
وقيل إن لم يلق من يضمنه
للخصم لازمه ولا يسجنه
وأشهب بضامن الوجه قضى
عليه حتماً وبقوله القضا
وتارة يكتفي بمجرد التصدير بقول ثم يحكي غيره بقيل كقوله :
والمدعي من قوله مجرد
من أصل أو عرف بصدق يشهد
إلى أن قال : وقيل من يقول قد كان ادعا . الخ . . . وهكذا : وهذا معنى كلامه رحمه الله ولا يعني بذلك مراعاة الخلاف الذي هو عبارة كما لابن عرفة عن إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر ، فالضمير في مدلوله يعود على الدليل ، والضمير في نقيضه يعود على المدلول الذي هو أقرب مذكور مثاله إعمال مالك رحمه الله دليل خصمه القائل بعدم فسخ صريح الشغار في لازم مدلوله ومدلوله عدم فسخه ولازمه ثبوت الإرث بين الزوجين ، وهذا المدلول وهو عدم الفسخ أعمل في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر وهو دليل فسخه اه .
وحاصله ؛ أن الدليل هو الحديث أو القياس والمدلول هو الفسخ أو عدمه ، فمالك استدل لفسخه بنص حديث أو قياس ، وأبو حنيفة استدل بعدم فسخه بنص حديث أو قياس ، فأعمل مالك رحمه الله دليله في الفسخ في الحياة ، وأعمل دليل خصمه في لازم مدلوله فقال بتوارثهما ، ويكون الفسخ طلاقاً مع أن قياس دليله هو عدم توارثهما وعدم كون الفسخ بطلاق ، إذ عدم صحة النكاح تستلزم عدم الإرث ، وعدم الطلاق ، وهذا كما يقال في البيع وغيره يفسخ العقد قبل الفوات ويمضي بعده ، ومثاله أيضاً : إن الإمام يقول بفساد إنكاح المرأة نفسها مستدلاً بقولهتعالى : ولا تعضلوهن } ( النساء : 19 ) والخطاب للأولياء فدل ذلك على أن المرأة لا تنكح نفسها وبقوله عليه الصلاة والسلام : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها أي أوليائها فنكاحها باطل ) ثلاثاً فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها الخ . وقال أبو حنيفة : يجوز إنكاحها نفسها قياساً على البيع فأعمل مالك دليله في الحياة ودليل خصمه في لازم مدلوله بعد الممات ، فأوجب توارثهما ، وكون الفسخ بطلاق ولأن النبي عليه السلام قال : ( فالمهر لها بما أصاب منها ) بعد أن حكم على نكاحها بالبطلان ، فدل ذلك على أن العقد الباطل يحكم له بحكم الصحيح بعد الفوات ، وإلا فمقتضى القياس أن الفسخ بغير طلاق وأنه لا مهر لها لأنها زانية وهي لا مهر لها ، وذلك كله راجع إلى تقديم الاستحسان على القياس . انظر ابن عرفة في فصل الصداق . والمعيار أواخر المعاوضات ، فقد نقل عن القباب وغيره ما يشفي الغليل قال : والاستحسان معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه اه . وانظر ما بنى عليه مالك مذهبه في باب القسمة من هذا الشرح عند قوله : في غير ما من الطعام الممتنع . فيه تفاضل الخ . فإن من جملة ما بنى عليه مذهبه مراعاة الخلاف فتارة يراعيه وتارة لا يراعيه .
تنبيه : إنما قلنا لا يُداعى الناظم مسألة مراعاة الخلاف الذي هو إعمال دليل الخصم الخ لأن ذلك من دأب المجتهدين الناظرين في الأدلة ، فحيث ترجح عندهم دليل الخصم في لازم مدلوله أعملوه وحيث لم يترجح أهملوه ، والناظم إنما هو ناظم لكلام الفقهاء المتقدمين فهو وإن ذكر حكماً وجهه عند من قال به مراعاة للخلاف لكن لا يذكر فيه خلافاً ، بل يجزم بالحكم الذي جزم به المجتهد من غير ذكر خلاف أصلاً كقوله :
ففسخ فاسد بلا وفاق
بطلقة تعد في الطلاق
وإن يمت قبل وقوع الفسخ
في ذا فما لإرثه من نسخ . . . الخ
فَضِمْنُهُ الْمُفِيدُ وَالْمُقَرِّبُ
والْمَقْصَدُ المَحْمُودُ والمُنْتَخبُ
( فضمنه ) : بكسر الضاد بمعنى المضمون كالذبح بمعنى المذبوح وهو مبتدأ خبره ( المفيد ) أي مفيد الحكام لابن هشام ( والمقرب ) لابن أبي زمنين بفتح الزاي والميم وكسر النون ( والمقصد المحمود ) لابن القاسم الجزيري ( والمنتخب ) لابن أبي زمنين أيضاً ومعناه أن هذا النظم تضمن أي اشتمل على فوائد ونفائس من هذه الكتب ، ولا يعني أن نظمه هذا اشتمل على جميع ما فيها بل ولا على جله ، ولعله إنما خص هذه الكتب بالذكر لتتم له التورية بأن كتابه هذا مفيد مقربمحمود منتخب ، وإلاَّ فكثيراً ما يحاذي عبارة ابن سلمون فلو قيل إنه تضمنه ما بعد .
نَظَمْتُهُ تَذْكِرَةً وَحَيْثُ تَمَّ
بِمَا بِهِ الْبَلْوَى تَعُمّ قَدْ أَلَمَّ
( نظمته ) أي : جمعته من قولهم : نظمت العقد إذا جمعت جواهره على وجه يستحسن . ( تذكرة ) : مفعول لأجله فهو بيان للسبب الحامل له على نظمه أي نظمته لأجل أن يتذكر به العالم مثله ما ذهل عنه ونسيه . يريد : وتبصرة لمن لم يتقدم له علم بما فيه من الصغار والكبار فهو كقول ابن بري :
يكون للمبتدئين تبصره
وللشيوخ المقرئين تذكره
وكقول العراقي في ألفيته الحديثية :
نظمتها تبصرة للمبتدي
تذكرة للمنتهى والمسند
( وحيث ) : ظرف زمان يتعلق بقوله سميته والواو داخلة على قوله سميته . وقوله : ( تم ) بفتح التاء المثناة فوق أي كمل ، وفاعله ضمير يعود على النظم ، والجملة في محل جر بإضافة حين إليها ، وقوله : ( بما ) يتعلق بقوله ألم وما واقعة على الأحكام . ( به ) يتعلق بقوله تعم ، وقوله : ( البلوى ) : مبتدأ ومعناه المحنة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ) والمراد محنة القضاء لمن ابتلي به . ( تعم ) : خبر المبتدأ والجملة صلة ما والرابط الضمير المجرور بالياء ( قد ألم ) بفتح الهمزة بمعنى أشعر وهو فعل ماض وفاعله ضمير يعود على النظم والجملة حال من فاعل تم .
سَمَّيْتُهُ : بِتُحْفَةِ الْحُكّامِ
فِي نُكَتِ الْعُقُودِ وَالأحْكَامِ
( سميته ) فعل وفاعل ومفعول ( بتحفة ) يتعلق به ( الحكام ) مضاف إليه والجملة معطوفة على جملة نظمته والتقدير نظمته تذكرة وسميته حين كمل حاله كونه ملماً أي مشعراً بما البلوى تعم به القضاة بتحفة الحكام . والتحفة : ما يتحف به الرجل من الإحسان واللطف ، ويحتمل أن يكون الظرف ضمن معنى الشرط ، وقوله : سميته هو جوابه ، والتقدير : ولما تم هذا النظم وكملحال كونه مشعراً بما البلوى تعم به سميته الخ . وهذا الوجه أظهر معنى ، وعلى كلا الإعرابين فكلامه صريح في أن التسمية والخطبة تأخرتا عن نظم الكتاب والفراع منه . ( في نكت ) بالمثناة فوق يتعلق بتحفة وهو جمع نكتة بالتاء المثناة أيضاً وهي التنبيه على ما ينبو عنه النظر ولا يدرك بسرعة ( العقود ) مضاف إليه جمع عقد ، والمراد بها الصكوك والوثائق المكتوب فيها ما انبرم بين المتعاقدين من بيع أو نكاح أو غيرهما . ( والأحكام ) : معطوف على العقود جمع حكم وهو الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام على ما يأتي أول باب القضاء ، وهذه التسمية مشعرة بأن للناظم كلاماً على الوثائق وهو كذلك لأن الفقه المذكور في النظم هو الذي بنيت عليه العقود ، وبه رسمت الوثائق فمعرفته طريق لمعرفة ما يصح من الوثائق وما يبطل منها ، ألا ترى أنه ذكر الرهن مثلاً وأركانه وشروطه ، وأنه إذا لم يوجد الركن أو الشرط في وثيقته بطلت ولم ينتفع صاحبها بها فقال :
الرهن توثيق بحق المرتهن
وإن حوى قابل غيبة ضمن
إلى أن قال :
والحوز من تمامه وإن حصل
ولو معاراً عند راهن بطل
إلى أن قال أيضاً :
والشرط أن يكون ما يرتهن
مما به استيفاء حق يمكن
إلى أن قال :
وجاز في الرهن اشتراط المنفعه
إلا في الأشجار فكل منعه
وهكذا فعل في غيره من الأبواب فقال في الضمان أيضاً :
وإن ضمان الوجه جاء مجملا
أي في الوثيقة :فالحكم أن المال قد تحملا
وأشار إلى شرطه بقوله :
وهو من المعروف فالمنع اقتضى
من أخذه أجراً به أو عوضا
يعني : أنه إذا وجد في الوثيقة أنه أخذ به أجراً أو عوضاً فهو باطل ، وهكذا فعل الناظم وغيره في سائر أبواب الفقه فالفقه الذي ذكروه عليه تنبني وثائق تلك الأبواب وليس للتوثيق أركان وشروط خارجة عن الفقه الذي ذكروه كما ظنه كثير من جهلة الطلبة ، وهذا هو السبب في تعرضنا لغالب وثائق أبواب هذا النظم ليعلم الواقف عليها أن مدار الوثائق كلها على الفقه ، ويعلم أن بعض ألفاظها إنما يذكر لزيادة البيان كما ستراه إن شاء الله ، أو للاحتياط والخروج من الخلاف كقوله في الهبة :
وحيث جاز الاعتصار يذكر
وضمن الوفاق في الحضور
إن كان الاعتصار من كبير
وكقوله في الضمان :
ولا اعتبار برضا من ضمنا . الخ
فرضاه لا يشترط في صحة الضمان ، ولكن لذكره فائدة كما يأتي إن شاء الله ، وكذا إنزال البائع المشتري فيما اشتراه من الأصول أي إقباضه إياه كما يأتي في وثيقة البيع صدر البيوع وعند قوله في الاستحقاق : وناب عن حيازة الشهود . الخ .
وَذَاكَ لمَّا أن بُلِيتُ بِالقَضَا
بَعْدَ شَبَابٍ مَرَّ عَنِّي وانْقَضَى
( وذاك ) النظم والتسمية كانا ( لما ) حين خبر كان المحذوفة كما قررنا وكان مع خبرها خبر اسم الإشارة ( أن ) زائدة للتوكيد وزيادتها بعد لما مطردة كقوله تعالى : ولما أن جاء البشير } ( يوسف : 96 ) وقوله : ولما أن جاءت رسلنا } ( العنكبوت : 33 ) ويجوز أن تكون مصدرية تسبك هي وما بعدها بمصدر على مذهب الفارسي الآتي . ( بليت ) بضم الباء وكسر اللام مبني للمفعول والجملة في محل جر بإضافة لما الحينية إليها ( بالقضا ) ء يتعلق به على حذف مضاف أي بخطة القضاء . والقضاء : الحكم أي الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام كما مر . ( بعد ) ظرف يتعلق ببليت أيضاً ( شباب ) مضاف إليه ، والشباب عبارة عن كمال القوة بعد البلوغ إلى الأربعينوما بعد ذلك كهولة ( مر ) : فعل ماض وفاعله ضمير الشباب ، والجملة نعت لشباب ( عني ) يتعلق به ( وانقضى ) معطوف على مر ، والتقدير وذاك النظم والتسمية كانا حين بليت بخطة القضاء بعد مرور شبابي وانقضائه ، وهذا على مذهب الفارسي وابن جني ومن تبعهما من أن لما في مثل هذا التركيب بمعنى حين ، وأما على مذهب سيبويه فهي حرف وجود لوجود ، فإذا قلت : لما جاء زيد جاء عمرو فلما عند سيبويه حرف وجود لوجود أي فوجود مجيء زيد لوجود مجيء عمرو أكان مجيئهما في زمن واحد أم لا . وعند الفارسي حين جاء زيد جاء عمرو فيقتضي مجيء كل منهما في زمن واحد وهو غير لازم عند سيبويه والجمهور ، وعليه فاسم الإشارة في النظم فاعل كان محذوفة وهو المفسر لجواب لما وهي حرف وجود لوجود والتقدير ، ولما بليت بالقضاء بعد مرور شبابي وانقضائه كان ذلك النظم والتسمية ، وكانت ولايته بخطة القضاء بمدينة وادآش في صفر عام عشرين وثمانمائة ، ثم نقل عنها إلى قضاء الجماعة بحضرة غرناطة في العاشر لذي القعدة من أربعة وعشرين قاله ولده ، ولا شك في ذهاب الشباب عنه لبلوغه الستين على ما مر في تاريخ ولادته رحم الله الجميع بفضله وكرمه .
وَإنّني أَسْأَلْ مِنْ رَبَ قَضَى
بِهِ عَلَيَّ الرِّفْقَ مِنْهُ فِي الْقَضَا
( وإنني أسأل ) أي أطلب بذلة وخضوع لأن السؤال من الأدنى إلى الأعلى دعاء وعكسه أمر ومن المساوى التماس ، وقال بعض السؤال والدعاء مترادفان ولا فرق بينهما وبين الأمر والالتماس من جهة الصيغة التي تدل على طلب الفعل ، وإنما يحصل الفرق بالمقارنة فإن قارنه الاستعلاء فهو أمر ، وإن قارنه التساوي فهو التماس ، وإن قارنه الخضوع فهو سؤال ( من رب ) يتعلق بأسأل من التربية وهي نقل الشيء من أمر إلى أمر حتى يصل إلى غاية أرادها المربي ، ثم نقل إلى المالك والمصلح للزوم التربية لهما غالباً قاله السنوسي ( قضى ) أي قدر وحكم في أزله ( به ) أي بالقضاء أي بخطته ( على ) يتعلق هو وما قبله بقضى والجملة صفة لرب ( الرفق ) مفعول بأسأل ( منه في القضا ) يتعلقان بالرفق ، ومعناه اللطف ولطف الله بعبده إيصال مراده إليه بلطف ، وفسر الجوهري والقاموس اللطف بالتوفيق . والتوفيق : خلق القدرة على الطاعة . وقال المتكلمون : اللطف ما يقع به صلاح المكلف عنده بالطاعة والإيمان دون فساده بالكفر والعصيان وعلى هذا فالرفق واللطف والتوفيق ألفاظ مترادفة ، فالناظم رحمه الله طلب من ربه تعالى الذي قدر وحكم عليه بهذه الخطة في أزله أن يرفق به فيها رفقاً لائقاً به جل جلاله من توفيقه للعمل بالطاعة ، وخلق القدرة عليها وعدم الوقوع في المعصية وخلق القدرة على تركها وإتحافه بالنعم واللطف به في أحواله كلها . وهذا التعميم مستفاد من أل الاستغراقية .
وَالْحَمْلَ وَالتَّوْفِيقَ أَنْ أَكُونَ
مِنْ أُمَّةٍ بِالحَقِّ يَعْدِلُونَ( والحمل ) أي وأسأله قوة الحمل لأثقال ما كلفته من هذه الخطة ( والتوفيق ) تقدم أنه بمعنى الرفق واللطف وهو وما قبله معطوفان على الرفق ( أن ) بفتح الهمزة على حذف الجاري أي إلى أن ( أكون من أمة ) أي جماعة من صفتهم قال فيهم جل جلاله : وممن خلقنا أمة يهدون ( بالحق ) وبه ( يعدلون } ( الآعراف : 181 ) .
حَتَّى أُرَى مِنْ مَفْرَدِ الثَّلاَثَهْ
وَجَنَّةُ الفِرْدَوْسِ لِي وِرَاثَهْ
( حتى ) بمعنى إلى وهي معطوفة بحذف العاطف على أن و ( أُرى ) بضم الهمزة مبنياً للمفعول منصوباً بأن مضمرة بعدها والتقدير أسأله الرفق والحمل والتوفيق إلى أن أكون وإلى أن أرى ( من مفرد الثلاثة ) الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام حسبما رواه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة . رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار ) ( وجنة ) بفتح الجيم مبتدأ ( الفردوس ) مضاف إليه ( لي ) يتعلق بالخبر الذي هو ( وراثة ) والجملة حال من نائب أري والجنة الحديقة ذات النخل والشجر قاله في القاموس ، والفردوس عند العرب البستان الذي فيه الكرم قاله الفراء . وقال ابن عطية : الفردوس مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، واللفظة فيما قال مجاهد رومية عربت ، والعرب تقول للكروم فراديس اه . ومعنى كونها وراثة له أن يكون من أهلها كما قال تعالى : الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } ( المؤمنون : 11 ) ويروى : أن الجنة مائة درجة أعلاها وأوسطها الفردوس منها تفجر الأنهار وعليها العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس لا أحرمنا الله وجميع المسلمين منها آمين .
باب القضاء وما يتعلق به
من أركانه وشروطه وجائزاته ومستحباته وغير ذلك . وهو لغة كما قال أبو منصور الأزهري على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه اه . القسطلاني فيرد بمعنى الأمر منه . وقضى ربك والعلم منه قضيت لك بكذا أعلمتك ، به والإتمام منه فإذا قضيتم الصلاة } ( النساء : 103 ) ، والفعل منه فاقض ما أنت قاض ، والإرادة منه فإذا قضى أمراً ، والموت منه ليقض علينا ربك ، والكتابة منه وكان أمراً مقضياً ، والفصل منه ، وقضى بينهم بالحق ، والخلق منه ، فقضاهن سبع سموات اه وقال الجوهري : القضاء الحكم وفي التبصرة معنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله قال تعالى : فلما قضينا عليه الموت } ( سبأ : 14 ) أي ألزمناه إياه . وأصل مشروعيته من الكتاب قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة } ( ص : 26 ) الآية . وقوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس } ( النساء : 10 ) وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ( المائدة : 49 ) ومن السنة ما خرجه الترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاضياً إلى اليمن . وفي الموطأ أنه عليه السلام قال : ( إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ) الحديث . ثم إنه من العقود الجائزة فلكل منهما الفسخ شرع أم لا كما يفهم من عجز البيت الآتي . فمن شبهه بالجعل والقراض مراده في مطلق الجواز لأنهما يلزمان بالشروع بخلافه هو ،وهو من فروض الكفاية حيث تعدد من فيه أهليته وإلاَّ تعين حينئذ ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب ، وأجبر عليه وأن يضرب وإلا فله الهرب الخ ، وإنما كان فرضاً لأن الإنسان لا يستقل بأمر دنياه فيكون طحاناً خبازاً جزاراً حراثاً مثلاً ، وبالضرورة يحصل التشاجر والخصام فاحتيج إلى من يقطع ذلك ولكون القطع المذكور يحصل بواحد أو جماعة كان كفاية ولعظم خطره جاز له الهرب مع عدم الخوف وضياع الحق أي ولا يتعين عليه بتعيين الإمام بخلاف غيره من فروض الكفاية ( خ ) في الجهاد : وتعين بتعيين الإمام .
وعرفاً قال ابن عرفة : صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين فتخرج ولاية الشرطة والتحكيم وأخواتها والولاية العظمى اه . فقوله : ولو بتعديل الخ مبالغة في مقدر أي نفوذ حكمه في كل شيء ولو بتعديل الخ . وبذلك المقدر تدخل التأجيلات ونحوها لأنها أحكام ينبني عليها من بعده وتخرج ولاية الشرطة وأخواتها لأنها خاصة ببعض الأشياء كالحسبة بأحكام السوق ، وكذا يخرج بقوله ثبت عندي كذا لأنه ليس بحكم كما يأتي في البيت بعده .قلت : والظاهر أن مفعول قوله توجب محذوف وأن نفوذ على حذف مضاف ومتعلق أي توجب لموصوفها كونه بصدد نفوذ حكمه ، فالصفة إن كانت توجب كونه بصدد نفوذ حكمه في كل شيء فمن قامت به قاض وإن كانت توجب كونه بصدد حكمه فيما حكم فيه فقط فمحكم ، فالقاضي من ثبتت له تلك الصفة فصل أو لم يفصل ، وبه يسقط قول ( خ ) لم يظهر لي وجه خروجه قال : لأن المحكم ينفذ حكمه بكل شيء حكم به صواباً مثل القاضي ، وإنما يفترقان في الجواز ابتداء .
وقول ( ت ) إن التحكيم خارج بعموم الإضافة في حكمه أي جميع أحكامه يرد بأن هذا العموم هو المقدر قبل المبالغة وهو شامل للمحكم المذكور لأنه أيضاً تنفذ جميع أحكامه التي حكمها صواباً ( خ ) ومضى أن حكم صواباً تأمل . وقوله : حكمية أي اعتبارية . وقوله : نفوذ بالذال المعجمة بمعنى المضي واللزوم لا بمعنى التنفيذ بالفعل لتعذره في الجبابرة . وقوله : حكمه أي إلزامه أي توجب لموصوفها لزوم إلزامه ، فاللزوم فرع الإلزام والتنفيذ بالفعل أمر زائد على ذلك وخرج بالشرعي غيره فلا يمضي . وقوله : ولو بتعديل أو تجريح الخ ، قال ( ت ) لم يظهر لي وجه المبالغة عليهما بخصوصهما ، فإن قيل : لكونه يستند لعلمه فيهما قيل مثلهما تأديب من أساء عليه وضرب خصم لد الخ .قلت : إنما قصده على أن يبالغ على جنس ما يستند فيه لعلمه ، ويكفيه أن يذكر منه بعض أفراده والمبالغة عليه أولى من الحدود لقوة توهمه وقوله : لا في عموم الخ به خرجت الولاية العظمى لأن نظرها أوقع لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم ولا تفريق الزكاة ولا ترتيب الجيوش ولا قتال البغاة ولا الإقطاعات . ثم كما يطلق القضاء في الاصطلاح على الصفة المذكورة ، كذلك يطلق على الحكم والفصل فيقال : قضاء القاضي حق أو باطل وتقدم عن الجوهري أنه يطلق على ذلك لغة .
قلت : وباعتبار الإطلاق الثاني رسمه القرافي فقال : الحكم إنشاء إلزام أو إطلاق فالإلزام كالحكم بلزوم الصداق أو النفقة أو الشفعة ، وقد يكون بعدم الإلزام كالحكم بعدم لزوم ما ذكر ، والإطلاق كالحكم بزوال الملك عن أرض زال إحياؤها أو زوال ملك الصائد عن صيد ند الخ ، وكذا رسمه ابن رشد باعتبار هذا الإطلاق أيضاً حيث قال : هو الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام أي إنشاء الإخبار فهو مساوٍ لرسم القرافي إلا أن الحكم في كلام ابن رشد لا يفسره بالإلزام بل بالخطاب أي بخطاب شرعي ، والخطاب الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف ، ثم تبين لي أنه يصح تفسيره بإلزام أيضاً أي بإلزام شرعي ألزم الشارع به عباده على وجه إلزامه هو للخصمين أو أحدهما وكل من الرسمين غير مطرد لصدقهما بحكمي الصيد وسائر الخطط الشرعية ، فلو قالا إنشاء إلزام يوجب نفوذه في كل شيء ولو بتعديل الخ لسلما من ذلك ، والضمير في قولنا يوجب يعود على الإنشاء وفي قولنا نفوذه يعود على الإلزام . ثم إنه على الإطلاق الثاني تعرض له الأحكام الخمسة ولا إشكال . وكذا على الأول لأن قوله نفوذ حكمه معناه كما مرّ لزوم إلزامه وإلزامه يعرض له ما ذكر وبه يسقط قول من قال : إنما تعرض له باعتبار القبول والطلب لأن القضاء صفة ولا شيء من الصفات بمعروض للأحكام المذكورة ، ثم إن المصنف اكتفى بتعريف القاضي عن تعريف القضاء المبوب له فقال :مُنَفِّذٌ بالشِّرْعِ لِلأَحْكَامِ
لَهُ نِيِابَةٌ عَنِ الإمَامِ
( منفذ ) أي هو القاضي المفهوم من القضاء منفذ الخ لأن القضاء على معناه من المصدرية لا بد له من شخص يقوم به ، ويحتمل أن يريد بالقضاء الوصف أي باب القاضي وعلى كل ففي الكلام استخدام لأنه في الأول أطلق القضاء على معناه المصدري ، وأعاد عليه الضمير المقدر قبل قوله منفذ باعتبار الوصف ، وفي الثاني أطلقه على الوصف وأعاد عليه الضمير في به باعتبار معناه المصدري و ( بالشرع ) وهو ما شرعه الله للعباد يتعلق به ، وكذا قوله ( للأحكام ) وأل فيه للاستغراق فتخرج به سائر الخطط لأن أحكامها خاصة ببعض الأشياء كما مر ما عدا الإمامة العظمى أخرجها بقوله : ( له ) أي القاضي ( نيابة عن الإمام ) فهو من تمام الحد ، والجملة خبر ثان وكأنه قال القاضي هو النائب عن الإمام في تنفيذ جميع الأحكام الشرعية أي إلزامها نفذت بالفعل أم لا ، فيؤخذ منه أن القضاء بالمعنى المصدري هو نيابة عن الإمام في تنفيذ الأحكام إلخ ، إذ يلزم من تعريف الفرع تعريف الأصل ، وأن النائب لا يقوى قوة المنوب عنه فليس له النظر في تجهيز الجيوش وقسم الغنائم ونحو ذلك مما مر وأن للإمام عزله لأنه وكيل عنه وكذا له هو عزل نفسه لأنه من العقود الجائزة شرع أم لا كما في ضيح وابن فرحون وغيرهما . وقوله : للأحكام جمع حكم وهو ما يلزمه القاضي لأحد الخصمين ، ثم إن حكم في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فمحكمة إنشاء ، فإذا قضى المالكي مثلاً بلزوم الطلاق في التي علق طلاقها على نكاحها فقضاؤه إنشاء نص خاص وارد من قبله سبحانه في خصوص هذه المرأة المعينة فليس للشافعي أن يفتي فيها بعدم لزوم الطلاق استناداً لدليله العام الشامل لهذه الصورةولغيرها لأن حكم الحاكم فيها جعله الله تعالى نصاً خاصاً وارداً من قبله رفعاً للخصومات وقطعاً للمشاجرة والقاعدة الأصولية إذا تعارض خاص وعام قدم الخاص . نعم للشافعي أن يفتي ويحكم في غيرها بمقتضى دليله ، وكذا لو حكم الشافعي في الصورة المذكورة باستمرار الزوجية بينهما خرجت عن دليل المالكي ولزمه أن يفتي فيها بلزوم النكاح ودوامه وفي غيرها بلزوم الطلاق . وهكذا حكمه في مواطن الخلاف كان داخل المذهب أو خارجه وهو معنى قول ( خ ) ورفع الخلاف الخ .
قلت : وهذا في المجتهد أو المقلد الذي معه في مذهب إمامه من النظر ما يرجح به أحد الدليلين على الآخر ، وأما غيرهما فمحجر عليه الحكم بغير المشهور أو الراجح أو ما به العمل فحكمه بذلك إخبار وتنفيذ محض . نعم إذا تساوى القولان في الترجيح فحكمه إنشاء رفع للخلاف ، وخرج باجتهادية حكم حكمه في مواضع الإجماع فإنه إخبار محض لا إنشاء فيه لتعين الحكم بذلك وثبوته وبقيد التقارب الخ المدرك الضعيف كالشفعة للجار واستسعاء المعتق فالحكم بسقوطهما إخبار محض والحكم بثبوتهما ينقض لضعف المدرك عند القائل به ، وبقيد المصلحة الدنيوية العبادات كتحريم السباع وطهارة الأواني والمياه ، ونحو ذلك مما اختلف فيه أهل الاجتهاد لا للدنيا بل للآخرة ، فهذه تدخلها الفتوى فقط إذ ليس للحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة بخلاف المنازعة في الأملاك والأوقاف والرهون ، ونحوها مما اختلف فيها لمصلحة الدنيا ، وكذا أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فهو حكم من جهة أنه تنازع بين الفقراء والأغنياء لا أن أخبر عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة ففتوى فقط ثم لا يتوقف حكمه على قوله حكمت بل إن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة أو سكوته كما لو رفعت إلى حنفي امرأة زوجت نفسها بغير ولي فسكت عنها ، فالحكم عند ابن القاسم ليس لمن أتى بعده من مالكي أو غيره النظر في خصوص تلك الحادثة لأن إقراره إياه كالحكم بإجازته . وقال ابن الماجشون : ليس بحكم فإن قال عند رفعها إليه أنا لا أجيز النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخه ففتوى فقط قاله ابن شاس وتبعه غيره . وقال ابن عرفة : الظاهر أنه حكم فليس لغيره نقضه وهو الموافق لما مر لأن قوله : أنا لا أجيز النكاح بغير ولي إخبار عن رأيه ومعتقده ، ولا يلزم من ذلك فسخه ، وإذا لم يلزم بقي ساكتاً عنه والسكوت تقرير له وهو حكم عند ابن القاسم ، واختلف في قوله : ثبت عندي كذا هل هو والحكم بمعنى أو الثبوت غير الحكم وهو الصواب لأنه يوجد بدونه كثبوت هلال رمضان ، وطهارة المياه ونجاستها والتحريم بين الزوجين بالرضاع حيث لا تنازع بينهما فيه ، ونحو ذلك مما لا تدخله الأحكام وإذا وجد بدون حكم كان أعم منه ، والأعم من الشيء غيره ثم الذي يفهم من الثبوت نهوض الحجة كالبينة ونحوها السالمة من الطعن فمتى وجد ذلك يقول فيه القاضي ثبت عندي كذا ، وقد يوجد الحكم أيضاً بدون الثبوت كالحكم بالاجتهاد في قدر التأجيلات ونحوها ، فبينهما حينئذ العموم والخصوص من وجه ، وأيضاً يفرق بينهما بأن ثبوت الحجة مغاير للكلام النفساني الإنشائي الذي هو الحكم ، ولا يخفى أن نهوض الحجة مقدم على الحكم فهو غيره قطعاً . قال القرافي : وقد علمت منه أن قول القاضي أعلم بثبوته أو باستقلاله أو ثبت عندي ونحوه يكون بعد كمال البينة وقبل الإعذار فيها ، لأن الأعذار فرع ثبوتها وقبولها فلا يعذر للخصم في شيء لم يثبت عنده ، وفعله جعل إذ الإعذار سؤال الحاكممن توجه عليه الحكم هل له ما يسقطه ويمتنع سؤاله قبل الأداء والقبول والثبوت . وقوله في النص السالمة من الطعن يعني في ظنه واعتقاده لأنه يسند لعلمه في ذلك فقول ( ت ) ولا يكون أي الثبوت إلا بعد كمال البينة والإعذار فيها سهو بل يكون الثبوت فيما لا خصومة فيه بالكلية كما مرّ .
تنبيهات الأول : قال القرافي : الفتوى والحكم كلاهما خبر عن الله تعالى ، ويجب على السامع اعتقاد ذلك إلا أن الفتوى محض إخبار والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام ، وكلاهما يلزم المكلف ، فالمفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما وجده عنده واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل أو تقرير أو ترك ، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشىء الأحكام والإلزام وليس بناقل ذلك بل مستنبئه فكأنه قال له : أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي ، فكلاهما مطيع لله تعالى ناقل لحكمه غير أن أحدهما منشىء والآخر ناقل اه . وقوله : ويجب على السامع اعتقاد ذلك الخ . من أجل ذلك قال قاض لخصم اتهمه في حكمه لست بمؤمن ، فقال وبم كفرتني ؟ فقال له قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } إلى آخر قوله : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً } ( النساء : 56 ) الآية .
الثاني : علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات فحال الفقه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط ، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بهما أشق وأخص ، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها فيلغي طرديها ويعمل معتبرها قاله ابن عرفة فقوله : وأيضاً فقها الخ ، هو بيان لوجه كونهما أخص بعد أن بينه بالمثال وقوله : طرديها أي الأوصاف الطردية التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة ، وهذا وجه تخطئة المفتين والقضاة لبعضهم بعضاً ، فقد يبني القاضي والمفتي حكمه على الأوصاف الطردية المحتفة بالنازلة ويغفل عن أوصافها المعتبرة ، وأصل ما ذكره ابن عرفة لابن عبد السلام . ونصه : وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع علم الفقه ولكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء ، وربما كان بعض الناس عارفاً بفصل الخصام وإن لم يكن له باع في غير ذلك من أبواب الفقه ، كما أن علم الفرائض كذلك ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع الفقه ، وإنما الغرابة في استعمال كليات الفقه وتطبيقها على جزئيات الوقائع وهو عسير ، فتجد الرجل يحفظ كثيراً من العلم ويفهم ويعلم غيره ، وإذا سئل عن واقعة ببعض العوام من مسائل الإيمان ونحوها لا يحسن الجواب عنها ، وللشيوخ في ذلك حكايات نبه ابن سهل في أول كتابه على بعضها اه . وبه تعلم أن معنى قوله في ضيح : وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه ، لكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء ، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه اه . هو أنه من لا باع له في حفظ مسائل الفقه ، لكنه معه من الفطنة ما يدخل به الجزئيات تحت كلياتها بخلاف غيره ، فهو وإن كان كثير الحفظ لمسائله لكن ليس معه من تلك الفطنة شيء كما يرشد إليه كلام ابن عبد السلام ، ولذلك نقلته برمته . وكثير من الحمقاء اغتر بظاهر كلام ضيح حتى قال : إن القضاء صناعة يحسنه من لا شيء معه من الفقه ، وجرى ذلك على ألسنة كثيرمنهم ، واحتجوا بقول المصنف الآتي ويستحب العلم فيه الخ وهو احتجاج ساقط . قال ابن رشد : ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ إنما هو نور يضعه الله حيث شاء ، وقد أجبت عن ضيح بما مر قبل الوقوف على كلام ابن عبد السلام والله أعلم .
الثالث : تثبت ولاية القضاء بالشهادة على الإمامة مشافهة أنه ولى فلاناً أو بالاستفاضة وانتشار الخبر أنه ولاه ، ومنع بعضهم ثبوتها بكتاب يقرأ عن الإمام إلا أن ينظر الشهود فيما يقرؤه القارىء لجواز أن يقرأ ما ليس في الكتاب وتنعقد بالصريح : كوليتك وقلدتك واستخلفتك واستنبتك وبالكناية : كاعتمدت عليك وعولت عليك ورددت إليك وجعلت إليك وفوضت إليك ووكلت إليك وأسندت إليك وعهدت إليك ، ولا بد أن يقترن بالكناية ما ينفي عنها الاحتمال مثل : احكم فيما اعتمدت عليك فإن كان المولى بالفتح غائباً فيجوز قبوله على التراخي ويكفي في القبول شروعه ، ولا ينبغي له القبول إذا ولاه الأمير الغير العدل ولا تتم توليته ، حتى يكون المولِي بالكسر عالماً بشرائط الولاية في المولى بالفتح وإن جهلها وقت العقد لم تصح واستأنف ، ولا بد أيضاً من تعيين البلد الذي عقدت عليه الولاية فيه وتعيين الخطة من كونها قضاء أو إمارة أو جباية ليعلم على أي نظر عقدت له وإلاَّ فسدت .
الرابع : لا يخفى أن قول الناظم منفذ الخ . يتضمن أركان القضاء الخمسة لأن المنفذ يستلزم مقضياً له وعليه وفيه . وقوله : بالشرع هو المقضي به وكيفية القضاء وستأتي مفصلة إن شاء الله .
لطيفة : نقل الحطاب عن المشذالي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فولِّ القضاء أنفذهما ، فجمع العامل بينهما وذكر لهما ما كتب له به فقال له إياس : سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري وابن سيرين ، وكان إياس لا يأتيهما والقاسم يأتيهما ، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به فقال له : لا تسأل عني ولا عنه ، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفقه مني وأعلم بالقضاء ، فإن كنت كاذباً فما عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي فقال له إياس : إنك جئت برجل وأوقفته على شفا جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة فيستغفر الله منها وينجو مما يخاف فقال له العامل : أما إنك إذا فهمتها فأنت لها فاستقضاه اه .
واسْتُحْسِنَتْ في حَقَّهِ الْجَزَالَهْ
وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَهْ
( واستحسنت ) : أي استحب ( في حقه ) أي القاضي ( الجزالة ) من جزل فهو جزيل أي عاقل أصيل الرأي ، وكأنه أراد لازمها الذي هو جودة الفطنة فالمستحب شيء خاص وهو أصالة الرأي وكثرة الفطنة الموجبة للشهرة بها بشرط أن لا تصل إلى حد الدهاء ، وإلاَّ فالمطلوب السلامة منها ، وأما مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل ومشي الحيل عليه فهو شرط صحة في ولايته داخل في قوله : ( وشرطه ) أي شروط صحة ولايته ( التكليف ) أي العقل والبلوغ فلا تنعقد لصبيٍ ولا لفاقدالعقل من مجنون ومعتوه ، إذ لا يجري عليهم قلم ولا لفاقد تمامه كمغفل لأن التغفل إذا كان مانعاً من الشهادة فأحرى القضاء ( والعدالة ) وهي تستلزم الإسلام وعدم الفسق ، فالكافر لا ولاية له لقوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ( النساء : 141 ) والفاسق كذلك لا تصح ولايته ولا ينفذ حكمه وافق الحق أم لا . لأنه لا تقبل شهادته فأحرى قضاؤه وقال أصبغ : تنعقد ولايته ويجب عزله ويمضى من أحكامه ما وافق الحق على المشهور ، والجور نوع من الفسق فإذا ثبت جوره في قضية بإقرار ونحوه نقضت أحكامه كلها . ومنه تقديمه للشهادة من يعرف جرحه فلا عذر له في أنه إنما يقدمه خوفاً من موليه ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وفي الحقيقة إنما يخاف العزل فقط .
فإن قيل : العدالة كما تستلزم الإسلام وعدم الفسق كذلك تستلزم الحرية والتكليف أيضاً ، فلو اكتفى الناظم بها وأبدل التكليف بالفطنة وأسقط الحرية الآتية كما فعل خليل حيث قال : أهل القضاء عدل ذكر فطن الخ . لكان أحسن وأخصر . قلنا : العدالة عند خليل تستلزم ما ذكر لأنه فسرها في الشهادات بذلك فقال : العدل حر مسلم عاقل بالغ بلا فسق الخ . فلذلك حسن منه الاكتفاء في باب القضاء بخلافها عند الناظم فإنما تستلزم الإسلام وعدم الفسق بدليل قوله الآتي :
والعدل من يجتنب الكبائر
ويتقي في الغالب الصغائر
وَأنْ يَكُونَ ذَكَراً حُرًّا سَلِمْ
مِنْ فَقْدِ رُؤْيَةٍ وَسَمْعٍ وَكَلِمْ
( وأن يكون ذكراً ) فلا تنعقد ولاية المرأة لقوله عليه السلام : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) ولأن بعض النساء ربما كانت صورتها فتنة . ( حراً ) ولو عتيقاً على المشهور . وقال سحنون : لا تصح ولايته لأنه قد يستحي فترد أحكامه ، وأما الرقيق ولو بشائبة فلا ولاية له لأنه ممنوع من ولاية نفسه ، فكيف لولاية غيره ولأنه أثر كفر . وبقي من شروط الصحة كونه واحداً فلا تصح تولية اثنين على أن لا ينفذ حكم في كل قضية إلا باجتماعهما معاً عليه لاختلاف الأغراض وتعذر الاتفاق غالباً ، وذلك يفضي لتعطيل الأحكام ، وأما تولية كل منهما على سبيل الاستقلال فجائز ، وكذا في قضية واحدة معينة كما في ابن عرفة ( خ ) : وجاز تعدد مستقلوخاص بناحية أو نوع الخ . وكونه مجتهداً فلا تصح تولية المقلد مع وجوده ، واختلف الأصوليون هل يمكن خلو زمان من الأزمنة عن مجتهد أم لا ؟ ولا تصح الدعوى بعدم وجوده إلا من مجتهد إذ القول بانتفائه فرع إدراك مرتبته فإن لم يوجد المجتهد فيستحب تولية أعلم المقلدين ، وهو مراد خليل بقوله : مجتهد إن وجد وإلاَّ فأمثل مقلِّد بكسر اللام فحكم بقول مقلَّده بفتحها فكونه أمثل مقلد مستحب لا واجب كما يعطيه كلامه . وكونه غير دافع رشوة لتحصيله فإن دفعها فلا تنعقد ولايته وقضاؤه مردود ، ولو وافق الحق وتوفرت فيه شروط القضاء كما في التبصرة ، واعتمده الزرقاني وقول الحطاب ، والظاهر أنه إذا طلب القضاء فولي لا يجب عزله الخ يعني إذا طلبه بغير رشوة والله أعلم . ثم إنه إذا انفرد واحد بهذه الشروط تعين عليه ( خ ) : ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب الخ ، ابن عرفة : وهذا كله ما لم تكن توليته ملزومة لما لا يحل من تكليفه تقديم ما لا يحل تقديمه للشهادة ، وقد شاهدنا من ذلك ما الله أعلم به اه . يريد إنما يلزمه القبول تعين أم لا إذا كان يعان على الحق وإلا لم يلزمه وظاهر قوله : ( سلم . من فقد رؤية وسمع وكلم ) أن السلامة من فقد جميعها شرط صحة وليس كذلك ، بل المذهب أن السلامة من فقد أحدها شرط في جواز ولايته ابتداء وفي جواز دوامها فتصح ولايته بعد الوقوع وينفذ ما حكم به ويجب عزله كما أفاده خليل بقوله : ونفذ حكم أعمى وأبكم وأصم ووجب عزله الخ . قلت : فلو قال على ما مر من أن العدالة تستلزم الحرية والتكليف ما نصه ، وشرطه الفطنة والعدالة .
وأن يكون ذكراً وواحداً
وعالماً مجتهداً إن وجدا
ورؤية سمع كلام إن سلب
واحد ذي الثلاث فالعزل يجب
لسلم مما ورد عليه هنا ، وفي قوله : ويستحب العلم الخ . قلت : وقد يجاب عن الأول بأن إحدى الواوين في قوله : وسمع وكلم بمعنى أو والأخرى بمعنى مع أي سالماً من فقد رؤية مع سمع أو كلام أو من فقد سمع مع كلام أي شرط الصحة السلامة من فقد اثنين منها ، فإن فقدهما فلا تنعقد ولايته وأحرى أن فقد الثلاثة كما صرح به ابن عبد السلام . وأما فقد واحد منها فشرط في الجواز ابتداء كما مرّ . وبه تعلم أن قول ( ت ) : فتنعقد ولاية فاقدها أي الثلاثة الخ ، صوابه فاقد أحدها ، وعن الثاني بأن المستحب في قوله :وَيُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعْ
مَعَ كَوْنِهِ الأُصُولَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ
( ويستحب العلم فيه ) على حذف مضاف أي يستحب غزارة العلم فيه أي زيادته بأن يكون أمثل مقلد وأفضل مجتهد ، أو على حذف الصفة كقوله تعالى : الآن جئت بالحق } ( البقرة : 71 ) أي البين أي يستحب فيه العلم الموصل للاجتهاد كما في المقدمات ، فهو يفيد شرطية العلم في الجملة ، وأن المستحب علم خاص وهو ما يتوصل به للاجتهاد . ابن عرفة : ففي صحة تولية المقلد مع وجود المجتهد قولان : لابن زرقون مع ابن رشد ، وعياض مع ابن العربي ، والمازري ، ومع فقده جائز ومع وجوده المجتهد أولى اتفاقاً فيهما اه . وهذا الحمل وإن كان يقتضي أن المقلد تصح توليته مع وجود المجتهد وهو مرجوح كما مرّ ، لكن حمله عليه أولى من بقائه على ظاهره المقتضي لصحة تولية الجاهل المحض مع أنه لا تنعقد له ولاية ولا ينفذ له حكم صادف الحق أم لا شاور أم لا . وما ورد عن ابن حبيب وابن زرقون وغيرهما مما يوهم صحة توليته ليس على ظاهره ، بل المراد به عندهم المقلد كما لأبي الحسن وابن ناجي والأبي وغيرهم . وفي المعيار عن اليزناسي أنه لا خلاف في جواز تعقب أي تصفح أحكام المقلد وهو الذي يعبر عنه في كتاب أئمتنا بالجاهل اه . وفي أول جامع البرزلي بعد أن ذكر حقيقة الاجتهاد وشروط المجتهد ما نصه : والعامي من ليس له ما ذكرنا من آلة الاجتهاد ، فالمقلد والجاهل والعامي عندهم ألفاظ مترادفة ، وبهذا تعلم أن المراد بالجاهل في قول ( خ ) : أو جاهل لم يشاور الخ المقلد ، وأن أحكامه إذا لم يشاور فيها تتعقب أي تتصفح فيرد خطؤها ويمضي غيره ، وأن قوله : ورفع الخلاف . وقوله : ولا يتعقب حكم العدل العالم إنما هو في المجتهد ولو في مذهب إمامه ، فيدخل نحو ابن رشد واللخمي ومن بعدهم من المتأخرين الذي لهم تصرف في القياسات وإدخال الجزئيات تحت كلياتها ، وليس المراد خصوص المجتهد المطلق ، وأما المقلد فلا يرفع الخلاف وتتعقب أحكامه ولا يعتبر منها إلا ما وافق المشهور أو الراجح أو ما به العمل كما مرّ .
فإن قيل : الجاهل الحقيقي إذا شاور صار مقلداً وحينئذ فتجوز توليته حيث دخل على المشهورة . قلنا : هو لا يميز بين الحق والباطل ولا بين ما يجب قبوله من أحد الخصمين وما لا ، وما يوجب على خصمه حقاً أو جواباً وما لا ، وإن كتب له عما سأل عنه لم يفهم مواقع الجوابوما يعرض فيه من الاحتمال بحيث يعيد عنه السؤال ونحو ذلك . فكيف تنعقد ولايته وتنفذ أحكامه ولا سيما مع اختلاف المشاورين عليه إذ الحاكم لا يحكم بقول مشاوره بالفتح تقليداً له كما لابن عبد البر حتى يتبين له الحق بالدليل الذي تبين به للمشاور ، وهم إذا اختلفوا لم يعلم بماذا يأخذ بخلافه إذا كان فقيهاً فإنه وإن أمر بالمشورة ، لكن إذا اختلفوا عليه اجتهد في اختلافهم وترقى أحسن أقاويلهم ، وأمعن النظر في دلائلهم والله أعلم . ابن محرز : إن حكم بالظن والتخمين من غير قصد إلى الاجتهاد في الأدلة فذلك باطل لأن الحكم بالتخمين فسق وظلم وخلاف الحق ، ويفسخ هذا الحكم هو وغيره إذا ثبت عند الغير أنه على هذا حكم اه . وفي أقضية البرزلي : لا خلاف أن الحكم بالحزر والتخمين لا يجوز . قال شيخنا الإمام : وكثيراً ما رأيت بعضهم يحكم في النازلة وهو لا يستند لنقل يذكره لما استقرى من حاله إذا روجع في بعض أحكامه لا يستند لنقل ولا قياس اه . على نقل البرزلي ، وهذا كثير في بعض قضاة الكور . ابن الحاجب : وهو جور وفسق وإن صادف الحق فالمشهور فسخه وإن لم يصادفه فالإجماع على فسخه وإغرام ما أتلفه بحكمه اه . وهذا في المقلد إذ الجاهل لا يعرف الأدلة فضلاً عن القصد إليها .
( والورع ) وهو ترك الشبهات والتوقف في الأمور والتثبت فيها ( مع ) متعلق بقوله : يستحب و ( كونه ) مضاف إليه ( الحديث ) مفعول مقدم و ( للفقه ) يتعلق بقوله : ( جمع ) أي يستحب فيه العلم مع كونه جمع الحديث أي مدارك أحكامه للفقه بأن لا يكون صاحب حديث لا فقه عنده ولا صاحب فقه لا حديث عنده . قال أبو بكر الطرطوشي : وجمهور المقلدين في هذا الزمان لا تجد عندهم من الآثار كبير شيء ، وإنما مصحفهم مذهب إمامهم ، وإنما استحب في المقلد ما ذكره الناظم لأنه يجب عليه أن لا يخرج عن مشهور قول مقلده بالفتح ، ولا يجوز له عندعدم وقوفه على ما شهره الشيوخ من الروايتين أو القولين أن يحكم بما شاء منهما بغير نظر في الترجيح فإن ذلك جهل كما مرّ عند ابن محرز ولا يتأتى له النظر إلا بالجمع بين ما ذكر فإن نظر ولم يظهر له دليل الترجيح أو لم يكن من أهله فقول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها رواه عنه ابن القاسم أو غيره لأنه الإمام الأعظم . وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها وعلى رواية غيره في غير ما عن الإمام ، وقول غيره فيها مقدم على قول ابن القاسم في غيرها وذلك لصحتها ، فإن فقد ذلك فليفزع في الترجيح إلى صفاتهم فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم ، فإذا اختص واحد منهم بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة ، فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم ، وكذا لو وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما ، والترجيح بالصفة جار في المذاهب الأربعة ، ومنه تقديم ابن رشد على ابن يونس وابن يونس على اللخمي قاله المشذالي . وهذا فيما عدا ما نبه الشيوخ على ضعف كلام ابن رشد فيه ، ولذا اقتصر ( خ ) في عدة مواضع على كلام اللخمي دون ابن رشد مع علمه به ونقله له في ضيح ، وهذا كله في قوليهما من عند أنفسهما لا في نقليهما عن المذهب فإنهما متساويان كما في الزرقاني عند قوله في الزكاة : كالثمر نوعاً أو نوعين . وتأمله فإنه لم يظهر لي وجهه لأنه إذا قدم ابن رشد لشدة حفظه وقوة فهمه فلا فرق بين ما قالاه عن أنفسهما أو نقلاه عن غيرهما ، إذ العلة التي هي شدة الحفظ والفهم والتثبت موجودة في الجميع ولم أقف على التفصيل المذكور لغيره والله أعلم . فإن تساوى القولان عنده من كل وجه وعجز عن الترجيح بشيء مما ذكر وغيره ؛ فليحكم بأيهما شاء ولا يجوز له ولا للمفتي أن يتساهل في الحكم أو الفتوى بأن يسرع في الحكم أو الفتوى قبل استيفاء حقهما من النظر والفكر ، أو تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحِيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه من الجبابرة والقرابة ونحوهما . أو التغليظ على من يروم ضره ومن فعل مثل هذا وعرف به فلا يجوز أن يستفتي ، وقد هان عليه دينه نسأل الله تعالى العفو والعافية .
ثم إن المشهور ما قوي دليله وقيل ما كثر قائله ، والصحيح الأول ومقابل المشهور شاذ ومقابل الأشهر مشهور دونه في الشهرة قاله في ضيح ، ابن خويز منداد : مسائل المذهب تدل على أن المشهور ما قوي دليله وأن مالكاً رحمه الله كان يراعي من الخلاف ما قوي دليله لا ما كثر قائله . ابن رشد : ويعكر على الأول أن الأشياخ ربما ذكروا في قول إنه المشهور ويقولون في مقابله إنه الصحيح اه . ابن فرحون : لا إشكال في هذا لأن المشهور هو مذهب المدونة ، وقد يعضد الآخر حديث صحيح ، وربما رواه مالك ولا يقول به لعارض قام عنده لا يتحققه هذا المقلد ولا يظهر له وجه العدول عنه فيقول : والصحيح كذا لقيام الدليل وصحة الحديث اه .
قلت : فيفهم من هذا الكلام أن المقلد لا يعدل عن المشهور وإن صح مقابله وأنه لا يطرح نص إمامه للحديث وإن قال إمامه وغيره بصحته ، وقد صرح بذلك ابن الصلاح وغيره وذلك لأنه لا يلزم من عدم اطلاع المقلد على المعارض انتفاؤه ، فالإمام قد يترك الأخذ به مع صحته عنده لمانع اطلع عليه وخفي على غيره ، فليس مراد الناظم بقوله : مع كونه الحديث الخ ، أنه يعمل بما صح من الحديث المعارض لنص إمامه بل ليتأتى له الترجيح عند عدم الوقوف عليه كمامرّ . القرافي : إذا كان الإمام مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده ، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحاً عنده مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي قلده ، وأما اتباع الهوى في الحكم والفتوى فحرام إجماعاً اه . فجعل حكم المجتهد بغير الراجح عنده ، والمقلد بغير المشهور وإن ترجح عنده بقيام دليل من صحة حديث ونحوه من اتباع الهوى وأنه حرام ، وذلك يدل على وجوب نقضه . ولذا قال ناظم العمل :
حكم قضاة الوقت بالشذوذ
ينقض لا يتم بالنفوذ
ومن عوام لا تجز ما وافقا
قولاً فلا اختيار منهم مطلقا
ومراده بالشاذ ما قابل المشهور أو الراجح كما مرّ ومراده بالعوام المقلدون أي لا تجز أحكامهم بغير المشهور ، وإن وافقت بعض الأقوال لأن أحكامهم لا ترفع الخلاف واختياراتهم لمقابل المشهور لا تعتبر ، ونص في إقرارات المعيار على أن الفتوى بغير المشهور توجب عقوبة المفتي وكذا الجاهل بعد التقدم إليه اه . وهذا ما لم يجر العمل بالشاذ ، وإلا فيقدم على المشهور بعد أن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل أن العمل جرى به غير ما مرة من العلماء المقتدى بهم قاله ميارة في شرح اللامية قال : ولا يثبت العمل المذكور بقول عوام العدول ممن لا خبرة له بمعنى لفظ المشهور أو الشاذ فضلاً عن غيره جرى العمل بكذا ، فإذا سألته عمن أفتى به أو حكم به من العلماء توقف وتزلزل ، فإن مثل هذا لا يثبت به مطلق الخبر فضلاً عن حكم شرعي اه . ثم إن العمل الجاري ببلد لأجل عرفها الخاص لا يعم سائر البلدان بل يقصر على ذلك العرف في أي بلد وجد لأن مبناه عليه . فإن قيل : جرى العمل بأن النحاس مثلاً يحكم به للنساء عند اختلافهن مع الأزواج لأن عرف البلد أنه من متاعهن لم يعم البلد الذي لا عرف لهم بذلك ، وإذا تغير العرف في ذلك البلد في بعض الأزمان سقط العمل المذكور ووجب الرجوع للمشهور ، وهذا في العرف الذي تنبني عليه الأحكام وهو ما لم يخرج عن أصول الشريعة وإلاَّ فلا عبرة به ، وأما العمل الجاري لمصلحة عامة أو سبب كذلك المشار له في اللامية بقوله : لما قد فشا من قبح حال وحيلة . الخ . فظاهر عمومه ما دامت تلك المصلحة وذلك السبب وإلاَّ وجب الرجوع للمشهور ، وهذا هو الظاهر قاله المسناوي أي وذلك كما قالوا في الراعي المشترك ، وقد يعبرون بالعمل عما حكمت به الأئمة لرجحانه عندهم لا لعرف ولا لمصلحة ، ومنه قول ( خ ) وهل يراعى حيث المدعى عليه وبه عمل وفيها الإطلاق وعمل به ، وهو كثير في هذا النظم وغيره . انظر مصطفى آخر باب القضاء ، وانظر أوائل شرح نظم العمل المطلق ، ثم هذا العمل الذي يعبرون به عن الراجح يجب أن يستمر على حاله ، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت عن قضاة العدل وأهل الفتوى من ذوي العلم المقتدى بهم أنهم رجعوا عنه وعملوا بخلافه لمصلحة أو ظهور دليل قوي ونحو ذلك كما قالوا : إن العمل كان قديماً بقول ابن القاسم باعتبار الحال في المحجور دون الولاية حكاه ابن أبي زمنين ، ثم جرى العمل بقول مالك باعتبار الولاية ، ثم جرى في المائة التاسعة بقول ابن القاسم ، ولا زال العمل به إلى الآن كما يأتي في الحجر ، وهذا كثير أيضاً يجري العمل قديماً بشيء ثم يجري العمل بخلافه . وبالجملة ؛ فالعمل الذي بمعنى الراجح هو الكثير في هذا النظم وغيره ، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت العدول عنه ممن يعتد به من قضاةالعدل وأهل الفتوى وعمل فاس ونواحيها تابع لعمل الأندلس لا لعمل أهل تونس كما يأتي ، فإن لم يجد المقلد نصاً لإمامه ولا لأصحابه في عين النازلة فهي معرضة للاجتهاد ، لكن لا يجتهد فيها إلا من فيه أهلية . القرافي : المقلد إن كان محيطاً بقواعد إمامه جاز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفارق ومع إمكانه يمتنع وإن لم يحط بقواعد إمامه فيمتنع ، وإن عدم الفارق لاحتمال لو اطلع على قواعد إمامه لأوجب له الفارق اه . ولا يرد على هذا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ) . لأنه خاص كما في المقدمات بمن فيه أهلية قال : وإلاَّ فلا أجر له إن أخطأ بل هو آثم ، وإن أصاب لتقحمه وجرأته على الله تعالى في الحكم بغير علم اه . وقال في أجوبته : سئل القاضي العارف بمذهب مالك ولم يبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول فيما مرّ بين يديه من النوازل التي لا نص فيها أن لا يقضي فيها إلا بفتوى من يعرف وجه القياس إن وجده وإلاَّ طلبه في غير بلده فإن قضى فيها برأيه كان حكمه موقوفاً على النظر اه . وكلامه صريح في وجوب المشورة لغيره حينئذ ، بل ورد في كلامهم ما يدل على وجوب المشورة وإن اطلع على نص لأن تطبيق النازلة على النص عسير ، ألا ترى كيف غفل أسد بن الفرات فأفتى الأمير بجواز دخوله الحمام مع جواريه دون ساتر ، وأفتاه غيره بالمنع لأن نظر بعضهن إلى بعض لا يجوز ، ولهذا تجد الأئمة يخطىء بعضهم بعضاً في الفتاوى والأحكام . خليل : وأحضر العلماء أو شاورهم الخ . ابن فرحون : إطلاقهم المشورة ظاهره كان عالماً بالحكم أو جاهلاً اه . وانظر الحطاب فإن لم يتبين له وجه الحكم بعد المشورة فسيأتي في قوله :
وليس بالجائز للقاضي إذا
لم يبد وجه الحكم أن ينفذا
والصح يستدعي له إن أشكلا الخ
ومما يستحب فيه كونه غنياً حليماً نزيهاً نسيباً خالياً عن بطانة السوء ليس بمحدود ولا زائد في الدهاء كما في خليل ، وزاد غيره كونه بلدياً ليعرف المقبولين والمسخوطين من الشهود ، وقيل : يرجح غير البلدي لأنه يقل حاسدوه .
وَحَيْثُ لاَقَ لِلْقَضَاءِ يَعْقُدُ
وَفِي الْبِلاَدِ يُسْتَحِبُّ الْمَسْجِدُ
( وحيث ) ظرف ليقعد ( لاق ) صلح ( للقضاء ) يتعلق بقبوله ( يقعد ) أيضاً . وظاهره كان ببادية أو حاضرة ، وهو كذلك لكن يستحب في الحاضرة المسجد كما سيأتي ، وظاهره يقعد حيث لاق ولو بداره . وبه قال أشهب وعليه يأتي قول ابن شعبان من العدل كون القاضي بوسط مصره ، ولابن المناصف أن عمر بن الخطاب أنكر ذلك على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وأمر بإحراق داره عليه فدعا واستقال فلم يعد إلى ذلك قال : فإن دعته ضرورة إلى ذلك فليفتح أبوابها ويجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة لذلك . ( وفي البلاد ) أي الحاضرة ( يستحب المسجد ) أي رحابه فهو على حذف مضاف أي يستحب له القعود برحاب المسجد الخارجة عنه ليصل إليهالكافر والحائض والجنب والضعيف والسلامة من امتهانه بكثرة اللجاج ودخول بعض العوام وبرجله بلل وغير ذلك ، وما قررناه به هو الذي في الواضحة واختاره المتأخرون فقال في المدونة : القضاء في المسجد من الأمر القديم وهو ظاهر النظم إلا أنه لا يحمل عليه لما تقدم على أن ما في المدونة يمكن تأويله بما ذكر أي القضاء في رحاب المسجد الخارجة عنه من الأمر القديم فيكون وفاقاً لما في الواضحة والله أعلم . ويستحب أن يجلس مستقبل القبلة وأن يكون متربعاً أو محتبياً ، فإن لم يجلس وحكم في حال مشيه أو جلس متكئاً فهو قول خليل ، وفي كراهة حكمه في مشيه أو متكئاً أو إلزام يهودي حكماً بسبته وتحدثه بمجلسه لضجر قولان : وينبغي أن يجلس للحكم في أوقات معلومة وليس عليه أن يستغرق النهار كله ، ولا ينبغي أن يحكم مع ما يدهشه عن تمام فكر من جوع وعطش مفرطين وغضب وأكل فوق الكفاية ( خ ) : ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر ومضى أن وقع ولا بأس أن يرفع صوته فيمن يستأهل ذلك من الخصمين وأن يحد بصره ويحتج لمن ضعف عن حجته ، ولا يجلس في كثرة المطر والوحل ولا بعد الصبح ولا بين صلاتي الظهر والعصر ولا بين العشاءين ولا في عيد ولا يوم قدوم حاج أو خروجه ( خ ) وجلس به أي برحاب المسجد أي بغير عيد وقدوم حاج وخروجه ومطر أو نحوه ، ولم يشتر بمجلس قضائه كسلف وقراض وأبضاع وحضور وليمة إلا لنكاح وقبول هدية ولو كافأ عليها إلا من قريب وندب اتخاذ من يخبره بما يقال في سيرته وشهوده الخ . فقوله : وقبول هدية أي والمفتي كالقاضي في ذلك فلا يحل له أخذها ممن يرجو أن يعينه في حجة أو في خصومة عند حاكم يسمع منه ويقف عند قوله لأن قول الحق واجب عليه ، وقد قال عليه السلام : ( من شفع لأخيه شفاعة وأهدى إليه هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا ) . ومن هذا انقطاع الرعية إلى العلماء المتعلقين بالسلاطين ليرفع الظلم عنهم فيهدون لهم ويكرمونهم فذلك باب من أبواب الرشوة ، لأن رفع الظلم واجب على كل من قدر عليه عن أخيه المسلم . وقوله : ولم يشتر الخ . قال في مختصر الواضحة : إذا اشترى الإمام العدل من رجل أو باع ثم عزل أو مات خير البائع منه أو المشتري في الأخذ أو الترك ، نقله ابن فرحون في تبصرته في الفصل الثاني ، فقف على هذا الفصل فيه ترى العجب في الآداب اللازمة له .
فصل في معرفة أركان القضاء
أي أجزاء ماهيته التي لا يتم القضاء الذي هو الحكم مع اختلال واحد منها . وهي ستة : القاضي وقد تقدم في قوله : منفذ بالشرع الخ . والمدعي والمدعى عليه والمدعى فيه ، وعبر ابن فرحون عن الأولين بالمقضى له وعليه ، وعن الثالث بالمقضى فيه . وزاد ركنين آخرين أحدهما : المقضى به يعني من كتاب أو سنة أو إجماع بالنسبة للمجتهد أو المتفق عليه أو المشهور أو الراجح أو ما به العمل بالنسبة للمقلد ، وهذا الركن يفهم من قول الناظم فيما مرّ ويستحب العلم فيه الخ . على ما تقدم من أنه على حذف مضاف أي يستحب زيادة العلم فيه ، وأما أصل العلم فركن من أركانه وشرط صحة فيه كما مرّ ، فإن خرج المجتهد عما ذكر من الكتاب والسنّة والإجماع لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه وهو معنى قول ( خ ) ونقض وبين السبب مطلقاً ما خالف قاطعاً أو جلي قياس كاستسعاء معتق وشفعة جار الخ . وإن خرج المقلد عما ذكر من الاتفاق وما معه لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه أيضاً ، إذ حكمه لا يرفع الخلاف كما مرّ ( ت ) الإشارة إليه . وقول ( ت ) هنا : إلا أن هذا بالنسبة للاجتهاد ليس على ما ينبغي بل كلام ابن فرحون في المجتهد والمقلد كما يعلم باستيعاب كلامه في هذا الركن . وثانيهما : كيفية القضاء وهي تتوقف على أشياء كمعرفة ما هو حكم فلا يتعقب لأن حكم المجتهد يرفع الخلاف وما ليس بحكم كقوله : أنا لا أجيز النكاح بغير ولي أو لا أحكم بالشاهد واليمين فيتعقب أي : فلمن بعده من حنفي أن يحكم بصحة النكاح أو مالكي أن يحكم بالشاهد واليمين كما مرّ في الترجمة قبله ، ومعرفة ما يفتقر لحكم كالطلاق بالإعسار والإضرار والطلاق على المولى ، ونحو ذلك مما يحتاج فيه إلى نظر وتحرير في تحقيق سببه كالتفليس وبيع من أعتقه المديان والعتق بالمثلة وما لا يفتقر كتحريم المحرمات المتفق عليها ورد الودائع والغصوب ، ومنه العتق بالقرابة . ومن أعتق جزاءً في عبد بينه وبين غيره فيكمل من غير حكم على المشهور ومعرفة ما يدخله الحكم من أبواب الفقه كالنكاح وتوابعه وسائر المعاوضات ، وما لا يدخله كالعبادات ومعرفة الفرق بين ألفاظ الحكم التي جرت بها عادة الحكام كقوله : حكمت بثبوت العقد وصحته فيلزم ذلك وقفاً كان العقد أو بيعاً أو غيرهما ، وبين ما لم تجر العادة به كقوله : أسفل الرسم أو على ظهره ورد على هذا الكتاب فقبلته قبول مثله ، وألزمت العمل بموجبه أو بمضمونه فليس بحكم لاحتمال عود الضمير في موجبه ومضمونه على الكتاب ، وإن ما تضمنه من إقرار أو إنشاء ليس بزور مثلاً فيكون مراده تصحيحالكتاب وإثبات الحجة فلمن بعده النظر فيه ، فإن قال : حكمت بموجب الإقرار أو الوقف الذي تضمنه الكتاب فهو حكم بصحته ومعرفة الفرق بين الثبوت والحكم ، وتقدم الكلام عليه في الترجمة قبله ومعرفة المدعي من المدعى عليه فالمدعي والمدعى عليه ركنان مستقلان عنده ، أعني عند ابن فرحون ، والحال التي يعرف بها كل منهما من أجزاء الركن السادس الذي هو الكيفية .
قلت : تأمل ففي القلب منه شيء لأن الحكم على الشيء فرع تصوره فلا يحكم عليه بأنه مدع حتى تعرف حاله ومعرفة الدعوى الصحيحة وشروطها ، ومعرفة حكم جواب المدعى عليه من إقرار أو إنكار أو امتناع منهما ، وقد أشار الناظم إلى هذين الأخيرين بقوله : تحقق الدعوى مع البيان . وبقوله بعد : ومن أبى إقراراً أو إنكاراً الخ . ومعرفة كيفية الإعذار ومعرفة صفة اليمين ومكانها والتغلظ فيها ، وقد أشار الناظم لهذين أيضاً في فصلي الإعذار واليمين ، فهذه كلها من أجزاء هذا الركن ، فالناظم رحمه الله قد أشار لبعض أجزاء هذا الركن الذي هو الكيفية ولم يهمله كل الإهمال ، وبهذا تعلم أن جعل الكيفية من الأركان صحيح لا تسامح فيه خلافاً ل ( ت ) لأنه إن لم يكن عارفاً بتفاريعها اختل حكمه باختلاف محله إذ قد يحكم بالصحة فيما حكم غيره بالفساد ، وبالعكس مع كون الحكم الأول لا يتعقب ، وقد يحكم فيما لا يفتقر لحكم فحكمه كالعدم لأنه من تحصيل الحاصل ، وهذا إذا لم يعرف كون الدعوى صحيحة ولا كيفية الإعذار ولا محل اليمين ونحو ذلك . وقد علمت بهذا أن الناظم تكلم على الأركان الستة خلافاً لما في ( م ) و ( ت ) . ولما كان بين المدعي والمدعى عليه التباس وعلم القضاء يدور على التمييز بينهما إذ من ميز بينهما ، فقد عرف وجه القضاء كما قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه : إذ لم يختلف العلماء فيما لكل منهما من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه اعتنى الناظم بشأنهما مصدراً بهما في هذا الفصل فقال :
تَمْيِيزُ حَالِ المُدَّعِي والمدَّعَى
عَلَيْهِ جُمْلَة القَضَاءِ جَمَعَا
فقوله : ( جملة القضاء ) مفعول لقوله : ( جمعاً ) ، والجملة خبر تمييز ، والظاهر أن لفظة حال ليست مقحمة لأن الشيء إنما يتميز من غيره بصفته ، فالمدعي يتميز بكونه يتجرد قوله عن مصدق والمدعى عليه بعكسه كما قال :( فالمدعي من قوله مجرد
من أصل أو عرف بصدق يشهد )
فَالمُدَّعِي مَنْ قَوْلُهُ مُجَرَّدُ
مِنْ أَصْلٍ أَوْ عُرْف بِصدْقِ يَشْهَدُ
( أو ) بمعنى الواو إذ لا بد من تجرد دعواه منهما معاً ، فإن تجردت من أحدهما دون الآخر فهو مدعى عليه كما قال :
وَالمدَّعَى عَلَيهِ من قد عَضَدا
مَقالَة عُرف أو أصْل شهِدا
( والمدعى عليه من قد عضدا ) أي قوي ( مقاله عرف ) أي سبب كحائز شيئاً مدة الحيازة في وجه القائم وادعى الشراء منه أو الهبة ، فالحائز مدعى عليه لأنه تقوى جانبه بالحيازة ، والقائم مدع وسيشير الناظم إلى هذا في الحوز بقوله : واليمين له إن ادعى الشراء منه بعمله ، وكجزار ودباغ تداعيا جلداً تحت يدهما أو لا يد عليه ، فالجزار مدعى عليه والدباغ مدع فإن كان تحت يد أحدهما فالحائز مدعى عليه ، وكقاض وجندي تداعيا رمحاً تحت يدهما أو لا يد عليه فالجندي مدعى عليه والقاضي مدع ، وكعطار وصباغ تداعيا مسكاً وصبغاً فالعطار مدع في الصبغ مدعى عليه في المسك والصباغ بالعكس ، ومنه اختلاف الزوجين في متاع للبيت ، فللمرأة المعتاد للنساء ما لم يزد على نقد صداقها وهي معروفة بالفقر كما يأتي للناظم في فصل اختلافهما فيه إن شاء الله ، ومنه النكول ودعوى الشبه عند الاختلاف في الصداق أو البيع أو غيرهما ودعوى العامل في القراض أو المودع عنده الرد حيث قبضه بغير إشهاد ، فقد علمت أن المدعى عليه في هذه الأمثلة هو من تقوى جانبه بسبب من حيازة أو شبه أو نكول صاحبه أو أمانة أو كون المتنازع فيه مما شأنه أن يكون له ، والمدعي من تجرد قوله عن ذلك السبب ( أو أصل شهدا ) كاختلافهما في رد الوديعة أو القراض المقبوضين بإشهاد ، لأن رب المال والوديعة لما دفعا بإشهاد انتفت أمانة القابض ولا سبب يعضد قوله غيرها ، فهو مدع وهما مدعى عليهما ، وإن كانا طالبين لأن الأصل عدم الرد ، ومنه اختلاف اليتيم بعد بلوغه ورشده مع وصيه في الدفع ، فإن اليتيم متمسك بالأصل الذي هو عدم الدفع فهو مدعى عليه ، والوصي مدع لأنه غير أمين في الدفع عند التنازع لقوله تعالى : فأشهدوا عليهم } ( النساء : 6 ) وكاختلافهما في قضاء الدين أو في أصله أو في رقبة حائز نفسه يدعي الحرية لأن الأصل عدم القضاء وبراءة الذمة والحرية .وَقِيلَ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ ادَّعا
وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ عَلَيْهِ يُدّعَى
( وقيل ) : في تعريفهما أي المدعي والمدعى عليه .
( من يقول قد كان ادعا
ولم يكن لمن عليه يدعى )
وهو لابن المسيب رضي الله عنه قال : كل من قال قد كان فهو مدع وكل من قال لم يكن فهو مدعى عليه اه . قال الشارح : وليس بخلاف للرسم الأول ، وإنما هو تعريف أخصر وتوضيح أوجز . ورد بدعوى المرأة على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها ، وقال هو أنفقت وبدعوى المرأة المسيس على زوجها في خلوة الاهتداء وادعى هو عدمه فهو مدعى عليه في الأولى لشهادة العرف له وهي مدعية وهما في الثانية على العكس وهذا التعريف يقتضي أنها في الأولى مدعى عليها لأنها تقول لم يكن وفي الثانية مدعية لأنها تقول قد كان . وقيل كل طالب فهو مدّعٍ وكل مطلوب فهو مدعى عليه . ورد أيضاً بما تقدم في ربا المال والوديعة مع الإشهاد ، وباليتيم مع وصيه وبدعوى المرأة في خلوة الاهتداء فإن كلاً منهم طالب مع أنه مدعى عليه .
وأجيب : بأن الرد على التعريفين بما ذكر إنما يتم لو كان القائل بهما يسلم أن الطالب ومن يقول قد كان فيما ذكر مدعى عليه ، وإلاَّ فقد يقول : إنه مدّعٍ قام له شاهد من عرف أو أصل ولا يحتج على الإنسان بمذهب مثله ، واختار هذا الجواب ابن رحال .
والحاصل على ما يظهر من كلامهم وهو الذي يوجبه النظر أن المتداعيين إما أن يتمسك أحدهما بالعرف فقط كالاختلاف في متاع البيت ودعوى الشبه واختلاف القاضي والجندي في الرمح ، والجزار والدباغ في الجلد ونحو ذلك مما لم يتعارض فيه العرف والأصل ، وإما أن يتمسك بالأصل فقط كالاختلاف في أصل الدين وفي قضائه وفي دعوى الحائز نفسه الحرية ، ودعوى رب المال والمودع عدم الرد مع دفعهما بإشهاد ودعوى اليتيم عدم القبض ونحو ذلك ، فالمدعى عليه في هذين هو المتمسك بذلك العرف أو الأصل على الرسم الأول ، والمطلوب هو من يقول لم يكن على التعريفين الأخيرين ، وإما أن يتمسك أحدهما بالأصل والآخر بالعرف فيأتي الخلاف كدعوى الزوج على سيد الأمة أنه غره بتزويجها ، فالأصل عدم الغرور ، وبه قال سحنون . والغالب عدم رضا الحر بتزوج الأمة وبه قال أشهب وهو الراجح ، وكمسألة اختلافالمتراهنين في قدر الدين فإن الرهن شاهد عرفي والأصل براءة ذمة الراهن ، وكمسألة الحيازة المتقدمة ودعوى عامل القراض والمودع الرد مع عدم الإشهاد لأن الغالب صدق الأمين ، ودعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحو ذلك ، فالمدعى عليه في مثل هذا على الرسم الأول هو المتمسك بالعرف لأن قول الناظم أو عرف أعم من كونه عارضه أصل أم لا . وعلى الرسمين الأخيرين هو المطلوب ، ومن يقول : لم يكن ، لكن لما ترجح جانب المدعي فيها بشهادة العرف لأنه أقوى صار المدعي مدعى عليه ، ويدل لهذا قول ابن رشد ما نصه : المعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة تجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه ، فإن كان له سبب يدل على صدقه أقوى من سبب المدعى عليه كالشاهد الواحد أو الرهن أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه اه . ونقله القلشاني وغيره فتأمل كيف سماه مدعياً وجعل الرهن وإرخاء الستر والشاهد الحقيقي سبباً لصيرورته مدعى عليه ، لكونه في ذلك أقوى من سبب خصمه المتمسك بالأصل ، وقد اختلف هل العرف كشاهد أو كشاهدين ؟ البرزلي : القاعدة إحلاف من شهد له العرف فيكون بمثابة الشاهد ، وقيل : هو كالشاهدين اه . وقد درج ( خ ) في مواضع على أنه كالشاهد منها قوله في الرهن وهو كالشاهد في قدر الدين ، وقد عقد في التبصرة باباً في رجحان قول المدعي بالعوائد . وقال القرافي : أجمعوا على اعتبار الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها والأصل براءة ذمة المشهود عليه اه .
فهذا كله يوضح لك الجواب المتقدم عما ورد على التعريفين ، ويدلك على عدم الفرق بين التعاريف الثلاثة لأن المدعي قد ينقلب مدعى عليه لقيام سبب أقوى من سبب خصمه كان ذلك السبب حقيقياً أو عرفياً إلا أن العرفي لا يقوى عندهم قوة الحقيقي فليست اليمين معه تكملة للنصاب حتى يؤدي ذلك لنفي يمين الإنكار بدليل أنه إذا انضم إليه شاهد حقيقي لا يثبت الحق بدون اليمين كما نقله بعضهم عن المتيطي عند قول ( خ ) وهو كالشاهد الخ . فاعتراض ( ت ) على الجواب السابق بكونه يؤدي لنفي يمين الإنكار الخ . ساقط ، وقد علم مما مر أن الشبه والغالب والعرف والعادة كلها بمعنى ، وأنه إذا تعارض الأصل والغالب فيقدم الغالب لقوله تعالى : وأمر بالعرف } ( الأعراف : 199 ) فكل شيء كذبه العرف وجب أن لا يعمل به إلا في مسألة دعوى الدين إذا كان مدعيه أتقى الناس وأعلاهم في العلم والدين ، فإن الغالب صدقه والأصل براءة الذمةفيقدم الأصل على الغالب في هذه عند المالكية ، وقدم الشافعية الأصل في جميع صور التعارض .
تنبيهات . الأول : إذا تمسك كل منهما بالعرف كما إذا أشبها معاً فيما يرجع فيه للشبه كتنازع جزار مع جزار في جلد ونحو ذلك ، فيحلفان ويقسم بينهما حيث لم يكن بيد أحدهما ، وإن تمسك كل منهما بالأصل كدعوى المكتري للرحى أو الدار أنها تهدمت أو انقطع الماء عنها ثلاثة أشهر . وقال المكتري : شهران فقط فقيل المكتري هو المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته من الغرامة فيستصحب ذلك ، والمكري مدع ، وقيل بالعكس لأن عقد الكراء أوجب ديناً في ذمة المكتري ، وهو يدعي إسقاط بعضه فلا يصدق ، وكما لو قبض شخص من رجل دنانير ، فلما طلبه بها الدافع زعم أنه قبضها من مثلها المرتب له في ذمته ، فإن اعتبرنا كون الدافع بريء الذمة من سلف هذا القابض كان الدافع مدعى عليه وهو الراجح كما لابن رشد وأبي الحسن وغيرهما ، وإن اعتبرنا حال القابض وأن الأصل فيه أيضاً براءة الذمة فلا يؤاخذ بأكثر مما أقر به جعلناه هو المدعى عليه . فافهم فبهذه الوجوه صعب علم القضاء ودق .
الثاني : من معنى ما مر إذا علق الزوج طلاق زوجته أو خيرها على عدم حضوره معها بمجلس الشرع يوم كذا ، ووقعت في حدود الأربعين بعد المائتين والألف فقامت المرأة بعد مضي اليوم وأرادت أن تشهد بأنها اختارت فراقه ، فامتنع العدول من أن يشهدوا عليها إلا بمشورة القاضي فشاورته فمنعها القاضي من ذلك حتى تثبت عدم حضوره في اليوم المعلق عليه ، وهذا من أفظع الجهل من العدول ومن القاضي ، إذ حضوره في اليوم المذكور محتمل ، والأصل عدمه فهي مدعى عليها وهو مدعٍ ، وكثيراً ما كان يصدر مثل هذا من هذا القاضي فكان يمنع الأوصياء من بيع مال الأيتام حتى يثبتوا أنهم لا مال لهم ظاهراً ولا باطناً ، ولا يكتفي بمحاسبتهم على زمام التركة ، وإذا بيع عليهم صفقة منع أوصياءهم من الإمضاء حتى يثبتوا ما ذكر ، وهكذا كل ما الأصل عدمه وما دري أن إثباتهما ما ذكر لا يفيد شيئاً لأن الشهادة في ذلك لا تكون إلا على نفي العلم ، فإذا طلقت نفسها أو باع الوصي بعد الإثبات المذكور ثم أثبت الزوج الحضور أو اليتيم الوفر وقت البيع لقدمت بيناتهما على بينة الزوجة والوصي لأنها على القطع مثبتة ، والأخرى على العلم نافية فلم يكن لتكليفهما بها فائدة . وقد نص ابن القاسم على أنه إذا علق أمرها بيدها على عدم بعثه لها بالنفقة يوم كذا فرفعت أمرها للحاكم ، وزعمت أنه لم يبعث لها شيئاً وطلقت نفسها ، فإن قدم وأثبت البعث فهو أحق بها ، وإن كانت تزوجت فكذا ( ت ) الوليين .
الثالث : قال القرافي : خولفت قاعدة الدعاوى في خمس : في لعان الزوج في الحمل والولد فقبل قوله : لأن العادة أن ينفي الزوج عن زوجه الفواحش فحيث رماها بها مع إيمانه قدمه الشرع ، وفي القسامة فقبل فيها قول القتيل لترجيحه باللوث ، وفي دعوى الأمناء التلف فقيل قولهم لئلا يزهد الناس في قبول الأمانات فتفوت مصالحها والأمين قد يكون من جهة مستحق الأمانة ، وقد يكون من جهة الشرع كالوصي والملتقط ومن ألقت الريح ثوباً في بيته . وفي التعديل والتجريح قيل فيهما قول الحاكم لئلا تفوت المصالح المرتبة على الولاية ، وفي دعوى الغاصب التلف قبل قوله : لئلا يخلد في السجن اه الخ . فتأمل قوله في اللعان والقسامة والأمانة ، فإن الظاهر أن ذلك مما قدم فيه الغالب على الأصل كما مرّ فلم تكن فيه مخالفة ،وبعضهم يعبر عن الأمين بأن الغالب صدقه أي في الرد والتلف ، وبعد أن ذكرها المكناسي في مجالسه قال : ومنها اللصوص إذا قدموا بمتاع وادعى شخص أنه له وأنهم نزعوه منه فيقبل قوله مع يمينه ويأخذه ، ومنها السمسار إذا ادعى عليه أنه غيب ما أعطى له للبيع وكان معلوماً بالعداء وبإنكار الناس فيصدق المدعي بيمينه ويغرم السمسار . ومنها السارق إذا سرق متاع رجل وانتهب ماله وأراد قتله وقال المسروق : أنا أعرفه فيصدق المسروق بيمينه . وهذه المسائل التي زادها لا تحملها الأصول كما لأبي الحسن . وقال القرافي في الفرق بين ما يقدم فيه النادر على الغالب ما نصه : أخذ السراق المتهومين بالتهم وقرائن أحوالهم كما يفعله الأمراء اليوم دون الإقرار الصحيح والبينات المعتبرة الغالب مصادفته للصواب والنادر خطؤه ، ومع ذلك ألغى الشارع هذا الغالب صوناً للأعراض والأطراف عن القطع اه . ففهم منه أنه إنما ألغى الشارع هذا الغالب بالنسبة للأعراض والأطراف لا بالنسبة للغرامة فإنه يغرم فيوافق ما للمكناسي ولهذا درج ناظم العمل على ذلك حيث قال :
لوالد القتيل مع يمين
القول في الدعوى بلا تبيين
إذا ادعى دراهماً وأنكرا
القاتلون ما ادعاه وطرا
فلا مفهوم لقوله : القتيل بل المدار على كون المدعى عليه معروفاً بالغصب والعداء انظر شرحه ، وانظر ما يأتي في الغصب ولا بد .
وَالمُدَّعَى فِيهِ لَهُ شَرْطَانِ
تَحَقُّقُ الدَّعْوَى مَعَ البَيَانِ
( والمدعى فيه له شرطان ) أحدهما : ( تحقق الدعوى ) به أي جزمها وقطعها بأن يقول : لي عليه كذا احترازاً من نحو أشك أو أظن أن لي عليه كذا فإنها لا تسمع القرافي : وفيه نظر لأن من وجد وثيقة في تركة مورثه أو أخبره عدل بحق له فلا يفيده ذلك إلا الظن ، ومع ذلك يجوز له الدعوى به ، وإن صرح بالظن كما لو شهدوا بالاستفاضة والسماع والفلس وحصر الورثة ، وصرح بالظن الذي هو مستنده في الشهادة ، فلا يكون قادحاً ، فكذلك ههنا لأن ما جاز الإقداح معه لا يكون النطق به قادحاً . وأجاب بعضهم بأن الظن ههنا لقوته نزل منزلة القطع ، وقد جاز له الحلف معه ( خ ) واعتمد البات على ظن قوي كخطه أو خط أبيه الخ . ثم عدم سماعها في الظن الذي لا يفيد القطع مبني على القول بأن يمين التهمة لا تتوجه . أبو الحسن : والمشهور توجهها . ابن فرحون : يريد بعد إثبات كون المدعى عليه ممن تلحقه التهمة اه . وعليه فتسمع فيمن ثبتت تهمته وإلاَّ فلا ( خ ) واستحق به بيمين إن حقق ويمين تهمة بمجرد النكول الخ وسيقول الناظم : وتهمة إن قويت بها تجب يمين متهوم الخ .
قلت : ولقائل أن يقول : إن الدعوى تسمع ههنا ، ولو قلنا بعدم توجه يمين التهمة فيؤمربالجواب لعله يقر فتأمله ، فلو قال : أظن أن لي عليه ألفاً فقال الآخر : أظن أني قضيته لم يقض عليه بشيء لتعذر القضاء بالمجهول إذ كل منهما شاك في وجوب الحق له أو عليه ، فليس القضاء بقول المدعي بأولى من القضاء بقول الآخر ، فلو قال المطلوب : نعم كان له الألف علي ، وأظن أن قضيته لزمه الألف قطعاً وعليه البينة أنه قضاه ، وثانيهما قوله : ( مع البيان ) أي مع بيانه فأل عوض عن الضمير إما ببيان عينه كهذا الثوب أو الفرس أو الدراهم أو بيان صفته . كلي في ذمته ثوب أو فرس صفتهما كذا أو دراهم يزيدية أو محمدية ، أو سبني أو شتمني أو قذفني بلفظ كذا إذ ليس كل سب وشتم يوجب الحد ، وأما ببيان سبب المدعى فيه المعين أو سبب ما في ذمة المعين ، فالأول كدعوى المرأة الطلاق أو الردة لتحرز نفسها لأنها معين ، والثاني كدعوى المرأة المسيس أو القتل خطأ ليترتب الصداق أو الدية في ذمة الزوج أو العاقلة المعينة بالنوع ، فبيان سبب المدعى فيه في هذين المثالين ونحوهما بيان شرعاً للمدعى فيه ، فهما راجعان في المعنى للقسم الأول لأن المدعية تقول فيهما أحرزت نفسي لأنك طلقتني ولي عليك صداق أو دية لأنك مسستني أو قتلت وليي ، وكذا لو قالت : بعت لك داري أو وأجرتها منك فادفع لي ثمنها أو أجرتها فهو راجع لما ذكر ، فكان هذا القسم لا يحتاج المدعي فيه لبيان السبب لأنه مذكور بخلاف القسم الأول فلا بد من بيانه كأن يقول من تعد أو بيع ( خ ) وكفى بعت وتزوجت ، وحمل على الصحيح وإلاَّ فليسأله الحاكم عن السبب ، ثم قال : وللمدعى عليه السؤال عن السبب . قال الحطاب : وليس بيان السبب من تمام صحة الدعوى بدليل قوله ولمدعى عليه الخ . واعترضه طفي قائلاً : بل هو من تمام صحة الدعوى مع عدم ادعاء النسيان ، واحتج بكلام المجموعة وابن عرفة فانظره فيه ، واعتراض الشيخ بذلك عليه بأنه لو كان شرطاً لبطلت الدعوى مع عدم ادعاء النسيان ساقط لما علمت من أن هذا إنما هو شرط صحة إذا لم يدع النسيان كما أن الدعوى بالمجهول ساقطة مع القدرة على التفسير عند المازري وغيره كما يأتي ، فالتحقق في كلام الناظم راجع للتصديق ، والبيان راجع للتصور أي لا بد أن يكون المدعى فيه متصوراً في ذهن المدعي والمدعى عليه والقاضي فلا يغني أحدهم عن الآخر . وخرج بهذا الشرط الدعوى بمجهول العين أو الصفة كلي عليه شيء لا يدري جنسه ونوعه أو أرض لا يدري حدودها أو ثوب لا يدري صفته أو دراهم لا يدري صفتها ولا قدرها ونحو ذلك ، فلا تسمع لأن المطلوب لو أقر وقال : نعم له علي ما يدعيه أو أنكر وقامت البينة بذلك لم يحكم عليه بهذا الإقرار ، ولا بتلك الشهادة ، إذ الكل مجهول والحكم به متعذر فليس الحكم بالمروي بأولى من المروي مثلاً ، ولا باليزيدية بأولىمن المحمدية ، إذ من شرط صحة الحكم تعيين المحكوم به ولا تعيين ههنا . وهكذا نقله غير واحد .
قلت : وهو ظاهر على أحد القولين الآتيين في قوله : ومن لطالب الخ . وقال المازري : تسمع الدعوى بالمجهول البساطي وهو الصواب لقولهم يلزم الإقرار بالمجهول ويؤمر بتفسيره ، فكذلك هذا يؤمر بالجواب لعله يقر فيؤمر بالتفسير ويسجن له ، فإن ادعى المقر الجهل أيضاً فانظر ما يأتي عند قوله : ومن لطالب بحق شهدا . الخ وانظر شرحنا للشامل أول باب الصلح قال الحطاب : مسائل المدونة صريحة في صحة الدعوى بالمجهول . المازري : وليس منه الدعوى على سمسار دفع إليه ثوباً ليبيعه بدينارين وقيمته دينار ونصف لأن الدعوى هنا تعلقت بأمر معلوم في الأصل ولا يضره كونه لا يدري ما يجب له يعني السمسار هل الثمن الذي سماه إن باع أو قيمته إن استهلكه أو غيبه إن لم يبع اه الخ . قلت : الدعوى هنا إنما هي في الثوب وهو معين فهو يطالبه برده ، لكن إن استهلك أو باع فيرد الثمن أو القيمة لقيامها مقامه تأمل . وإلى ما مر أشار خليل بقوله : فيدعي بمعلوم محقق قال : وكذا شيء وإلا لم تسمع كأظن الخ . وقال في الإقرار : وقبل تفسيره كشيء وكذا وسجن له الخ ومحل الخلاف إذا كان المدعي لا يدري جنسه ولا قدره ، وإلا فإن علم وأبى ذكره لم تسمع اتفاقاً ، ومحله أيضاً إذا لم يكن الشيء الذي يدعيه من فضلة حساب كان بينهما ببينة . وقالت : لا نعرف قدرها وإلا فتسمع بلا خلاف كما يقتضيه كلام ابن فرحون ، وانظر ما يأتي عند قول الناظم :ومن لطالب بحق شهدا
ولم يحقق عند ذاك العددا
ثم ما قررنا به كلام الناظم من أنه حذف متعلق الدعوى وأن أل في قوله : البيان عوض عن الضمير هو الذي ظهر لنا من كلام القرافي وغيره ، وبه يندفع ما قيل إن ما ذكره شرط في الدعوى لا في المدعى فيه إذ لا يخفى أن الدعوى والمدعى فيه متلازمان فما كان شرطاً في أحدهما فهو شرط في الآخر ، وما كان تقسيماً لأحدهما فهو تقسيم للآخر ، فينتفي حينئذ التداخل في الأقسام التي عند ( ت ) وغيره والله أعلم . وبقي على الناظم شروط أخر كون المدعى فيه ذا غرض صحيح احترازاً من الدعوى بقمحة أو شعيرة ونحو ذلك ، ولذا لا يمكن المستأجر للبناء ونحوه من قلع ما لا قيمة له وكونه مما لو أقر به المطلوب لقضى عليه به احترازاً من الدعوى بأنه قال : داري صدقة بيمين مطلقاً أو بغيرها ولم يعين الخ . ومن الدعوى عليه بالوصية للمساكين ، ومما يؤمر فيه بالطلاق من غير قضاء كقوله : إن كنت تحبيني أو تبغضيني ، ومن الدعوى على المحجور ببيع ونحوه من المعاملات فلا يلزمه ، ولو ثبت بالبينة بخلاف ما إذا ثبت عليه الاستهلاك والغصب ونحوهما ( خ ) : وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه ، والظاهر أن هذا الشرط يغني عن الذي قبله ولا يحترز به من دعوى الهبة والوعد لأنه يؤمر بالجواب فيهما . ولو على القول بعدم لزومها بالقول لاحتمال أن يقر ولا يرجع عن الهبة ولا يخلف وعده ، وكون العادة لا تكذب الدعوى به احتراز من الدعوى بالغصب والفساد على رجل صالح ( خ ) وأدب مميز كمدعيه على صالح ، ومن مسألة الحيازة المعتبرة فإن الدعوى لا تسمع فيها وقيل تسمع ويؤمر المطلوب بجوابها لعله يقر أو ينكر فيحلف قاله ( ح ) وهو المعتمد كما يأتي في فصل الحوز .
تنبيهان . الأول : علم مما مر أن هذه الشروط كلها مبحوث فيها ما عدا الشرط الرابع ، وظاهره أن المحجور لا تسمع الدعوى عليه في المعاملات ، ولو نصبه وليه لمعاملات الناس بمال دفعه إليه للتجارة ليختبره ، وهو كذلك إذ الدين اللاحق له لا يلزمه لا فيما دفع إليه ولا فيما بقي ولا في ذمته لأنه لم يخرج بذلك من الولاية قاله في المدونة ، وقيل : يلزمه ذلك في المال المدفوع إليه خاصة ، وهذا إذا لم يضمن به ماله ، وإلاَّ فيضمن في المال المصون وهو محمول على عدم التصوين وانظر ما يأتي عند قوله :
وجاز للوصي فيمن حجرا
أعطاه بعض ماله مختبرا
الثاني : تقدم أن بيان السبب من تمام صحة الدعوى لإمكان أن يكون سبب ما يدعيه فاسداً ككونه ثمن خمر أو ربا ونحو ذلك ، ولذا قال ابن حارث : إذا لم يسأله القاضي عنه كان كالخابط خبط عشواء قال : فإن سأله الحاكم أو المدعى عليه عنه وامتنع من بيانه لم يكلف المطلوب بالجواب ، فإن ادعى نسيانه قبل بغير يمين . قلت : وينبني على بيانه أن المطلوب إذا قال في جوابه : لا حق لك علي لا يكتفي منه بذلك بل حتى ينفي السبب الذي بينه المدعي كما يأتي عند قوله : ومن أبى إقراراً أو إنكاراً . الخ . . . وإذا ميزت المدعي والمدعى عليه بما مرّ .
وَالمُدَّعِي مُطالَبٌ بالبَيِّنَهْ
وحالَةُ العُمُومِ فِيهِ بيَّنَهْ
( والمدعي مطالب بالبينة ) . إذا أنكر المطلوب لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) . وهكذا ذكر ابن رشد وغيره هذا الحديث . وذكره ابن عبد البر عن عمر بن شعبة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) . وأنكر ذلك ابن سهل وقال : إنما الحديث : ( شاهداك أو يمينه ) . والبينة : تشمل الشاهدين والأربعة ، والشاهد مع اليمين والمرأتين كما يأتي إن شاء الله . ( وحالة العموم فيه ) أي في المدعي من كونه صالحاً أو طالحاً ادعى على صالح أو طالح ( بينة ) لقول القرافي وغيره : أجمعت الأمة على أن الصالح التقي مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لو ادعى على أفسق الناس درهماً واحداً لا يصدق فيه وعليه البينة فهذا مما قدم فيه الأصل على الغالب لأن الغالب أن الصالح التقي لا يدعي إلاَّ حقاً . وبهذا الإجماع احتج الشافعية علينا في تقديم الغالب على الأصل في دعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحوهما مما شهد العرف فيه للمدعي كما مرَّ فقول ( ت ) يستثني من العموم المذكور مسألتا التدمية والمحتملة غصباً إذا ادعت الوطء فيقبل فيهما قول المدعي بغير بينة الخ . فيه نظر لأن المدعي فيهما لترجيح جانبه بالعرف صار مدعى عليه فهما كمسألتي المسيس وعدم الإنفاق ونحوهما داخلان في قول الناظم من قد عضدا . مقاله عرف الخ .
وَالمُدَّعَى عَلَيْهِ باليَمِينِ
فِي عَجْزِ مُدَّعٍ عنِ التَّبيينِ
( والمدعى عليه ) مبتدأ ( باليمين ) يتعلق بخاص خبره أي مطالب باليمين وحذفه لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يصح عطفه على المدعي وباليمين على البينة لئلا يؤدي إلى العطف على معمولي عاملين مختلفين وهو لا يجوز وإنما يطالب باليمين ( في ) حال ( عجز مدع عن التبيين ) أي عن البينة وفي حال كون الدعوى في المال أو ما يؤول إليه وإلاَّ فكل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها كنكاح وعتق ونحوهما وشمل كلامه ما إذا طلب الطالب يمين المطلوب لعجزهعن البينة ، فادعى عليه المطلوب أنه كان حلفه على تلك الدعوى ، فإن الطالب لا يتوصل ليمين المطلوب حتى يحلف أنه ما حلفه ( خ ) وله يمينه أنه لم يحلفه أولاً اه . وقال في اللامية :
لمن يزعم الأحلاف إحلاف خصمه
على نفي أحلاف له قد تقبلا
وقول ناظم العمل :
ولا يمين حيث قال احلف لي
إنك ما حلفتني من قبلي
لا يعول عليه وإن اختاره ابن رحال وما عللوه به من أن تمكينه من تحليفه فيه ضرر عظيم ويلزم عليه مقابلة يمين بيمين كله لا ينهض حجة لأنهم حافظوا على حق الطالب ، وأخلوا بحق المطلوب . وقد تكون دعواه صحيحة ففيه ترجيح دعوى أحد الخصمين بلا مرجح ، ومقابلة اليمين باليمين تنتفي بقلب اليمين على المطلوب والله أعلم . وهذا كله إذا قال : إنك حلفتني ، وأما إن قال له : إنك أسقطت عني اليمين وأبرأتني منها فاحلف لي ما أسقطتها عني ، فإن الطالب لا تجب عليه يمين لرد هذه الدعوى كما في الدر النثير ونوازل الدعاوى من المعيار ، وأشعر قول الناظم مطالب باليمين الخ ، أنه لو حلف قبل أن يطلبها الخصم منه لم تجزه ولو بأمر القاضي وهو كذلك كما في التبصرة وقال في اللامية :
وذو حلف من غير إحلاف خصمه
وغير رضا لم يستفد شيئاً أملا
وأحرى في عدم الإجزاء إن حلف بغير حضور خصمه ، وظاهر النظم أن اليمين تجب عليه في عجز المدعي عن البينة ، ولو لم تكن خلطة ، وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما وبه العمل الآن قال ناظمه :
ودون خلطة توجه اليمين
على الذي عليه إلا دعا يبين
وظاهر هذا العمل عدم التفريق بين ذوي العلا والمروءة وغيرهم ، وفرق بعضهم بين الدعوى على الرجل المنقبض عن مداخلة الناس ومخالطتهم ، والمرأة المستورة المحتجبة فلا تجب عليهما اليمين بالدعوى إلا بعد ثبوت الخلطة ابن عبد البر : وهو المعمول به ، وإليه أشار الزرقاني في لاميته بقوله :
لكن ببلدة يوسف
يخص بها ذات الحجاب وذو العلا الخ
ونحوه لابن هلال عن ابن رشد ، واختاره ابن رحال وهو الذي ينبغي اعتماده ، إذ كثير من الناس يتجرأ على ذوي الفضل والدين ويريد إهانتهم بالأيمان في الدعاوى الباطلة ، وقد شاهدنا من ذلك في هذا الزمان ما الله أعلم به . ثم العمل بترك الخلطة إنما هو في الدعاوى بالمال من معاملة ونحوها لا في الدعاوى التي يشترط في توجه اليمين بها الظنة والتهمة كالغصب والتعدي والسرقة ونحوها فلم يجر عمل بتوجهها بدون ثبوت التهمة كما مرّ عن ابن فرحون ونحوه في ( ح ) والرعيني بل تقدم أنه إذا ادعى بذلك على صالح لم تسمع دعواه ويؤدب ويأتي للناظم : وتهمة إن قويت الخ . فانظر هناك ، والمراد بثوبتها أن يكون ممن قد أشير إليه بالغصب ونحوه سواء ثبت أو لم يثبت ، ولكن علم أنه قد ادعى بها عليه كما في ابن سهل ، وفهم من قول الناظم في عجز مدع الخ أن المدعي إذ لم يعجز وأقام البينة على دعواه يقضي له بحقه من غير يمين تلزمه مع كمال بينته وهو كذلك ما لم يدع عليه المطلوب القضاء ، أو أنه عالم بفسقشهوده ، وإلاَّ فتجب ( خ ) : وكذا أنه عالم بفسق شهوده أي حقق عليه الدعوى بأنه عالم بعلمه بفسق شهوده فتتوجه عليه اليمين .
( فرع ) : من وجبت عليه يمين فتغيب طالبها فإن القاضي يوكل من يتقاضاها له بعد ثبوت مغيبه ، ويشهد بذلك قاله ابن عات في طرره ويأتي نحوه عند قول الناظم : ومن ألد في الخصام وانتهج . الخ . فإن سأل الطالب تأخيرها وسأل المطلوب تعجيلها أو بالعكس ، فالقول لطالب تعجيلها ، وإذا كانت الدعوى على امرأة وطلب الخصم أن تحلف بمحضره فإن كانت من ذوي القدر والشرف فيبعث الحاكم من يحلفها ويقضي عليه بأن يقف حيث يسمع يمينها ولا يرى شخصها .
( فائدة ) : رأيت أن نذكر رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعروفة برسالة القضاء . ابن سهل : هذه الرسالة أصل فيما تضمنته من فصول القضاء ومعاني الأحكام قال في ضيح : فينبغي حفظها والاعتناء بها . وهي : ( بسم الله الرّحمن الرّحيم ) ، من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي موسى الأشعري سلام عليك .
أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة وسنّة متبعة فافهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له وهو بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق ، ومراجعته خير من الباطل والتمادي فيه . الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة أعرف الأمثال والأشباه ، وقس الأمور عند ذلك ، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى ، وأشبهها بالحق فيما ترى ، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلاَّ أوجبت له القضاء فإن ذلك أنفى للشك وأبلغ للعذر . الناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب ، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان وإياك والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكير عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم به الأجر ويحسن عليه الذخر ، فإن من يصلح ما بينه وبين الله تعالى وهو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله ، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام ابن سهل .
وقوله في هذه الرسالة : المسلمون عدول بعضهم على بعض الخ . رجع عنه بما رواه مالك في الموطأ قال ربيعة : قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : قد جئتك على أمر لا رأس له ولا ذنب ، فقال عمر : ما هو ؟ فقال : شهادة الزور ظهرت بأرضنا . فقال عمر : والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير عدول ، وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة . وأخذ الحسن والليث بن سعيد من التابعين بما في هذه الرسالة من أمور الشهود والأكثر على خلافه لقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم } ( الطلاق : 2 ) ممن ترضون من الشهداء } ( البقرة : 282 ) اه . وإذا كان المتنازع فيه المعين كدار وثوب وفرس مثلاً في غير بلدالمدعى عليه كان في بلد المدعي أم لا ، وأراد المدعي رفع المدعى عليه لقاضي بلده يحاكمه عنده لم يكن له ذلك حيث امتنع المطلوب وأراد المخاصمة عند قاضيه كما قال :
وَالحكْمُ في المَشْهورِ حَيْث المدَّعى
عَليْهِ في الأصُولِ والمالِ مَعا
( والحكم في المشهور حيث المدعى . عليه في الأصول و ) في ( المال ) المعين ( معا ) ( خ ) : وهل يراعى حيث المدعى عليه وبه عمل أو المدعي وأقيم منها الخ . فإن كان النزاع في دين في الذمة . وشبهه كقصاص فهو قوله :
وحَيْثُ يُلْفِيهِ بِما في الذِّمَّهْ
يَطْلُبهُ وَحَيْثُ أَصْلٌ ثَمَّهْ
( وحيث يلفيه بما في الذمة يطلبه ) أي ويخاصمه بما في ذمته حيث ما وجده . ابن حبيب : وكذا إن كان المتنازع فيه المعين من دار ونحوها مع المطلوب في المحل الذي لقيه فيه فله أن يحبسه لمخاصمته في ذلك المحل ، وإليه أشار بقوله : ( وحيث أصل ثمه ) بفتح الثاء المثلثة ظرف مكان يتعلق بمحذوف خبر عن قوله أصل والهاء للسكت أي ويطلبه في المكان الذي لقيه فيه حيث كان الأصل ثمة أي في ذلك المكان . فتحصل أن المدعى عليه إذا لم يخرج من بلده فليست الدعوى إلا هنالك كان المتنازع فيه هناك أم لا ، وإن خرج من بلده فإما أن يلقاه في محل الأصل المتنازع فيه ، أو يكون المال المعين معه أو لا ، فيجيبه لمخاصمته هناك في الأوّل دون الثاني ، وأما ما في الذمة فيخاصمه حيثما لقيه .
وَقُدِّمَ السَّابِقُ لِلْخِصامِ
وَالمُدَّعِي لِلْبَدْءِ بالْكَلاَمِ
( و ) إذا اجتمع لدى القاضي خصوم وتنازعوا في من يسبق للتحاكم ( قدم السابق ) منهم ( للخصام ) ثم الذي يليه ، وهكذا إلا أن يكون فيهم مسافر أو ما يخشى فيقدمان حينئذ علىالسابق كما قال ( خ ) وقدم مسافر وما يخشى فواته ثم السابق قال : وإن بحقين بلا طول الخ . قال في التوضيح : وينبغي للقاضي أن يوكل من يعرف السابق من الخصوم من اللاحق الخ . واعلم أن المدعي يطلق على معنيين ، أحدهما : المأمور بالبينة وهو ما مر في قوله : فالمدعي من قوله مجرد . والآخر : الجالب الذي يؤمر بالكلام وإليه أشار بقوله : ( و ) قدم ( المدعي ) أي الجالب لصاحبه ( للبدء بالكلام ) ويسكت الآخر حتى يفرغ المدعي من دعواه ، فإن صحت باستجماع شروطها المتقدمة أمره بجوابه وإلاَّ صرفه عنه ، فإن جلسا بين يديه ولم يعلم الجالب منهما فلا بأس أن يقول : ما لكما وما خصومتكما أو يسكت ليبتدياه ، ولا يبتدىء أحدهما فيقول : ما تقول أو ما لك ؟ إلا أن يعلم أنه المدعي ولا بأس أن يقول : أيكما المدعي ؟ فإن قال أحدهما : أنا أمره بالكلام ، فإن قال كل منهما : أنا المدعي أو المدعى عليه صرفهما عنه حتى يأتي أحدهما أولاً كما قال :
وَحَيْثُ خُصْم حالَ خَصْمٍ يَدَّعِي
فاصْرِفْ وَمَنْ يَسْبِقْ فَذَاكَ المُدَّعِي فخصم : مبتدأ وسوغ الابتداء به قصد الجنس ، ويدعي : خبره ، وقوله : فاصرف جواب ما تضمنته حيث من معنى الشرط : ودخلت عليه الفاء لأنه لا يصلح أن يكون شرطاً .
وَعِنْدَ جَهْلِ سابِقٍ أوْ مُدَّعي
منْ لَجّ إذْ ذَاكَ لِقُرْعَةٍ دُعي
( وعند جهل سابق ) في الصورة الأولى ( أو ) جهل ( مدعي ) في الثانية فإن رجعا دفعة واحدة بعد أن صرفهما ولجأ في تعيين السابق في الأولى والمدعي في الثانية فإنه يقرع بينهما كما قال ( من لج إذ ذاك لقرعة دعي ) فقوله : من لج بالجيم من اللجاج أي الخصومة وهو مبتدأ وعند جهل يتعلق به ولكونه ظرفاً صح تقديمه على الموصول وصلته لأنهم يتوسعون فيه . والجملة من قوله : لقرعة دعي : خبره وإذا ذاك يتعلق بدعي وذاك إشارة للجاج ، وخبره محذوف أي حاصل .والجملة في محل جر بإضافة إذ إليها . وكيفية القرعة أن تكتب أسماؤهم في بطائق وتخلط فمن خرج اسمه بدىء به ، وما ذكره الناظم من القرعة عند جهل المدعي صدر به في الشامل ، وقيل : يبدأ بمن شاء منهما ، والضعيف أولى وقيل يصرفهما وقيل يتحالفان اه .
فصل في رفع المدعى عليهلمجلس الحكم ( وما يتعلق به ) أي بالرفع المذكور من الطبع على من أبى الحضور وأجرة العون على من تكون . ثم اعلم أن الخصمين لا يخلو حالهما ، إما أن يحضرا معاً مجلس الحكم متفقين على الدعوى أو مختلفين ، وقد مر ذلك ، وإما أن يحضر الطالب فقط ، وفي هذه إما أن يكون المطلوب من غير محل ولاية القاضي وقد تقدم في قوله : والحكم في المشهور حيث المدعى عليه الخ ، وإما أن يكون من محل ولايته وفيه صورتان فتارة يخرج عنها لزيارة أو تجارة أو نحوهما ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في البيوع في فصل الحكم على الغائب ، وتارة لا يخرج عنها فلا يخلو حاله من ثلاثة أوجه : إما أن يكون في البلد ، أو على مسافة قريبة أو بعيدة حساً أو حكماً ، وعلى هذه الثلاث تكلم هنا فأشار إلى الأول فقال :
وَمَعْ مَخِيلةٍ بِصِدْقِ الطَّالِبِ
يُرْفَعُ بالإرْسالِ غيْرُ الغائِبِ
( ومع مخيلة ) أي دليل أي شبهة أي لطخ كجرح أو شاهد أو أثر ضرب ونحو ذلك ( بصدق الطالب ، يرفع بالإرسال ) إليه لا بالخاتم على ما به العمل كما في اليزناسي ( غير الغائب ) وهو الحاضر في البلد فغير بالرفع نائب فاعل يرفع ومع يتعلق به ، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وفاعله القاضي . وهذا قول سحنون وإن الحكم لا يرفع المطلوب حتى يأتي الطالب بشبهة لئلا يكون الطالب مدعياً باطلاً ، وظاهر قول ابن أبي زمنين أنه يرفع وإن لم يأت بشبهة . ابن عرفة ، وبه العمل وإلى الثاني بقوله :وَمَنْ عَلَى يَسِير الأمْيالِ يَحُلْ
فالكتب كاف فيهِ مَعْ أمْن السُّبُلْ
( ومن على يسير الأميال ) كالفرسخ فما دونه ( يحل ) جمع ميل بكسر الميم والميل ، كما قال ابن عبد البر ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع ، والذراع ما بين طرفي المرفق ورأس الأصبع الوسطى كل ذراع ست وثلاثون أصبعاً كل أصبع ست شعيرات بطن إحداهما لظهر الأخرى ، كل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون . وقال ابن حبيب : الميل ألف باع بباع الفرس ، وقيل بباع البعير ، والباع : ذراعان . والذراع : شبران ، والشبر : اثنا عشر أصبعاً ، والأصبع : ست حبوب من وسط الشعير بطن إحداهما لظهر الأخرى وعلى الأول اقتصر شراح المختصر . ( فالكتب ) إليه في كتاب إن أحضر مجلس الحكم ويطبع ويدفع للطالب الذي أتى بالمخيلة لأنها مراعاة عند الناظم في هذه بالأحرى ، وإن كان العمل على خلافه كما مرّ ( كاف فيه ) عن إرسال الرسول إليه وهذا ( مع أمن السبل ) أي الطرق التي يسلكها لمحل الحكم ( خ ) وجلب الخصم بخاتم أو رسول إن كان على مسافة العدوى لا أكثر كستين ميلاً . إلا بشاهد اه . ومسافة العدوى ثمانية وأربعون ميلاً فهي مسافة القصر كما في التبصرة الجوهري العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه يقال : استعديت على فلان الأمير فأعداني أي استعنت به فأعانني عليه . ( تنبيه ) : لا يكتب إليه في هذا ولا يرسل خلفه في التي قبلها حتى يذكر دعواه وتتوفر شروطها ببيان السبب ، وغير ذلك مما مر لئلا تكون دعواه غير صحيحة فيجلبه من مسافة العدوى لغير شيء ، ويفوت عليه كثيراً من مصالحه وإلى الثالث بقوله :
وَمَعَ بُعْدٍ أَو مَخَافَةٍ كتبْ
لأمثَل القَوْمِ أنْ افْعَلْ ما يَجِبْ
( ومع بعد ) وهو ما فوق مسافة العدوى ( أو مخافة ) في الطريق من لصوص ونحوهم وإن كان على أقل منها ( كتب لأمثل القوم ) الذين هو فيهم أي أفضلهم في العلم والدين ( أن افعل ما يجب ) من النظر المؤدي للتناصف بينهما .
أَمَّا باصْلاَح أو الإغْرَامِ
أَوْ أَزْعِج المطْلُوبَ لِلْخِصَامِ
( إما بالإصلاح ) بينهما ( أو الإغرام ) للمطلوب حيث توجه الحكم به عليه ( أو أزعج المطلوب ) أي أرفعه ( للخصام ) . والحاصل أن القاضي في هذا الوجه الثالث لا يكتب لأمثل القوم إلا مع قيام الشاهد ونحوه من جرح وأثر ضرب وقوله : كاف يعني على جهة الأولوية وإلاَّ فله أن يرسل إليه رسولاً كما مرّ عن ( خ ) فلا مخالفة بينهما في الصورتين ، ابن عرفة : عن ابن عبد الحكم : من استعدى الحاكم على من معه في المصر أو قريباً منه أعطاه طابعاً في جلبه أو رسولاً وإن بعد من المصر لم يجلبه إلا أن يشهد عليه شاهد بالحق فيكتب لمن يثق به من أمنائه أماأنصفه وإلاَّ فليرتفع معه اه . وقال ابن الحاجب : ويجلب الخصم مع مدعيه بخاتم أو رسول إذا لم يزد على مسافة العدوى ، فإن زاد لم يجلبه ما لم يشهد شاهد فيكتب إليه ، إما أن يحضر أو يرضى أي خصمه فقول الناظم : إما بالإصلاح أو الإغرام هو قول ابن الحاجب أو يرضى خصمه إلا أن الناظم اشترط المخيلة في الصور كلها وقد علمت أنه خلاف لابن الحاجب وغيره من أنها لا تشترط إلا في الثالثة .
تنبيهان . الأول : فهم من قول الناظم كتب لأمثل القوم الخ أن القاضي إذا أرسل إلى فقيه وقال له : انظر بينهما ثم اقض ما ترى في ذلك فذلك نافذ وهو كذلك عند ابن حبيب ، وقال سحنون : لا ينفذ حكم الفقيه بينهما حتى يجيزه القاضي ويقره ، وهذا في الحقيقة استخلاف إلا أنه في نازلة خاصة ، وأما استخلافه من ينوب عنه في الأحكام فإن أذن له فيه نصاً جاز مطلقاً وإن نهى عنه امتنع مطلقاً وإن لم يكن إذن ولا نهي فإن جرت العادة به فينبغي أن يكون كالنص ، وإلاَّ ففي جوازه لمرض أو سفر قولان للأخوين وسحنون . فإن انتفيا لم يجز إلا في جهة بعد ( ت ) كما في ( ح ) ثم ليس للمستخلف بالفتح أن يستخلف إلا بإذن من الذي قدمه أو عرف كما في ( ح ) قال : فحكم النواب مع من استنابهم حكم القضاة مع السلطان قال في التبصرة : ولا يسجل نائب القاضي بما ثبت عنده ، فإن فعل فلا يجوز تسجيله ويبطل إلا أن يجيزه المستخلف بالكسر قبل أن يعزل أو يموت . قال : وإذا قلنا لا يسجل فله أن يسمع البينة ويشهد عنده الشهود فيما فيه النزاع ، ويقبل من عرف منهم بعدالة وتعقد عنده المقالات ، ثم يرفع ذلك كله إلى المستخلف بالكسر لينفذه ويسجل به للمحكوم له الخ . وقول ( ت ) : وإلاَّ فإن كان لعذر جاز الخ فيه مع قوله بعد في جهة بعد ( ت ) نظر لا يخفى لأن العذر الذي جاز معه الاستخلاف اتفاقاً من مطرف وسحنون هو بعد الجهات ، واختلاف الكور التي لا يلزمه الدوران عليها ولا الجلب منها . فالصواب حذفه والاكتفاء بقوله في جهة بعد ( ت ) .
الثاني : إن لم يكن للمدعي حق لم تجب على المدعى عليه الإجابة ومتى علم الخصم بإعسار المطلوب حرم عليه طلبه ، وإن رفعه إلى الحاكم وعلم أنه يحكم عليه بجور لم تجب الإجابة وتحرم حينئذ في الدّماء والجروح والحدود وسائر العقوبات الشرعية ، وإن دعاه إلى حق مختلف في ثبوته وخصمه يعتقد الثبوت وجبت الإجابة وإلاَّ سقطت ومتى طولب بحق وجب عليه أداؤه بالفورلأن المطل ظلم ووقوف الناس عند الحكام صعب قاله القرافي في القواعد ، ونقله ( ح ) بأتم مما هنا ، ومحله والله أعلم إذا كان هناك من يعينه على الحق ويتثبت في أمره ، وأما إذا فقد ذلك كما في زماننا اليوم فتجب الإجابة في الجميع لئلا يقع فيما هو أعظم .
وَمَنْ عَصَى الأمْر وَلَمْ يَحْضُرْ طُبِعْ
عَليْهِ مَا يَهُمُّهُ كَيْ يَرْتَفَعْ
( ومن عصى ) من الخصوم ( الأمر ) أي أمر القاضي الذي أرسل إليه أو أمر أمثل القوم المكتوب إليهم وتغيب عن مجلس الحكم ( ولم يحضر ) فإما أن يكون له مال ظاهر أم لا ؟ فإن كان الأول فإن القاضي يحكم عليه بما ثبت عنده من بينة الطالب ويعديه في ماله الظاهر ، وسواء اختفى ببيته أو لا يدرى أين هو ولا ترجى له حجة إن تغيب بعد استيفاء حججه وإلا رجيت كما سيأتي في قوله : ومن ألد في الخصام وانتهج . الخ وإن لم يكن له مال ظاهر ولم يختف في بيته ( طبع عليه ما يهمه ) شأنه مما لا صبر له عنه كداره وحانوته ( كي يرتفع ) مع خصمه ، وصفة الطبع أن يلصق شمعاً أو عجيناً بالباب ويطبع عليه بطابع فيه نقش أو كتابة بحيث إذا فتحت الباب تغير ذلك عن حاله ، فيعلم أنه قد دخلها فيفعل به ما يأتي من المناداة على بابه وإرسال العدول أو الهجم ونحو ذلك ، وكذا إن اختفى في بيته وثبت ذلك ، فمنهم من يرى أنه يختم على بابه أي يطبع عليها بما ذكر أيضاً ويبعث رسولاً ثقة ومعه شاهدان ينادي بحضرتهما ثلاثة أيام كل يوم ثلاث مرات : يا فلان ابن فلان القاضي فلان يأمرك بحضور مجلس الحكم مع خصمك وإلاَّ نصب لك وكيلاً ، فإذا فعل وإلاَّ نصب له وكيلاً وسمع من شهود المدعي البينة وقضى عليه إلى أن يقدر على استخراج المال منه ، ومنهم من يرى أن يهجم عليه ، ومنهم من يرى أن يرسل عدلين ومعهما جماعة من الخدم والنسوان والأعوان ، فتكون الأعوان بالباب ويدخل النسوان والخدم ويعزلن حرم المطلوب في بيت ويفتش المنزل بغتة المنزل . هكذا ذكر في البيان عن ابن شعبان قال : إذا توارى الخصم وأثبت الطالب حقه حكم عليه إن كان له مال ظاهر ، وإن لم يكن له مال ظاهر وثبت أنه في منزله فمنهم من يرى أنه يختم على بابه أي التي هو فيها بالاستئجارونحوه إلى آخر الأقوال المذكورة ، فظاهره أن الطبع إنما هو إذا لم يكن له مال ظاهر وهو خلاف إطلاق الناظم وخلاف قول الجزيري ، وإن تغيب المدعى عليه طبع القاضي على داره وهو أحسن من التسمير لأنه يفسد الباب ، فإن لم يفسده سمّره بعد أن يخرج منها ما فيها من الحيوان وبني آدم اه . فظاهره أنه يطبع عليه ولو كان له مال ظاهر ، لكن ما قررنا به هو الملائم لقوله فيما يأتي : وغير مستوف لها ان استتر الخ ، لأنه صادق بما إذا توارى بعد أن جلس بين يدي القاضي مرة فما فوقها ، وبما إذا لم يجلس بين يديه أصلاً وعليه فقول الناظم : طبع عليه ما يهمه خاص بما إذا لم يكن له مال ظاهر سواء اختفى في بيته على القول الأول من الأقوال المذكورة ، أو اختفى في غيره ولم يعلم المحل الذي اختفى فيه . والحاصل أن المتغيب إذا ثبت تغيبه وعصيانه ، وفي معناه المريض والمحبوس يمتنعان من التوكيل يحكم عليه إن طال تغيبه بعد أن يتلوم له بالاجتهاد سواء تغيب من أول الأمر أو بعد أن أنشب الخصومة ، وسواء قلنا : إن المتغيب يطبع عليه مطلقاً كما هو ظاهر النظم والجزيري أو إن لم يكن له مال ظاهر كما هو ظاهر ابن شعبان وصاحب الشامل وغيرهما ، لكن ترجى له الحجة حيث لم يستوف حججه كما يأتي والله أعلم . ونقل في التبصرة عن بعضهم أنه لا ترجى له حجة عقوبة له ، وظاهره تغيب ابتداء أو بعد نشب الخصومة ، ومن هذا المعنى أحد الشريكين يطلب صاحبه بالقسمة ويتغيب الآخر فإن القاضي يوكل من يقسم عنه بعد أن يفعل به ما مر .
تنبيه : قال في الوثائق المجموعة : وينبغي للقاضي أن لا يقبل قول الرسول في تغيب المطلوب حتى يكشف ويسأل ، وفي المفيد : من استهان بدعوة القاضي ولم يجب ضرب أربعين . الماوردي وابن الفخار : ويجرح إن كان عدلاً لقوله تعالى : إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ( النور : 15 ) .
وَأُجْرَةُ العَوْنِ على صاحِبِ حَقْ
ومَنْ سِواهُ إنْ أُلَدَّ تُستَحَق
( وأجرة العون ) الجالب للخصم إذا لم يرزق من عند القاضي ولا من بيت المال الذي هو الأصل فيها كنظائرها من أرزاق القضاة والقاسمين ونحوهم ( على طالب حق ) فيتفق مع العون عليها بما يراه إلا أن يثبت لدد المطلوب بالطالب ، وأنه امتنع من الحضور بعد أن دعاه إليه بطابعه كما مرّ في قوله : فالكتب كاف الخ . فلم يجب فالأجرة على المطلوب كما قال : ( ومن سواه إن ألد ) أي اشتدت خصومته بمطله وامتناعه من الانقياد إلى الحق ( تستحق ) هي أي الأجرة قاله ابن العطار واللخمي وغيرهما . وانتقده ابن الفخار بأنه لا يعلم في الشرع ذنب يبيح مال مسلم إلاالكفر . وأجيب : بأنه لما تسبب بامتناعه في إتلاف الأجرة على الطالب توجه الغرم عليه كما قالوه في مدية حتى تلف المذكي ، ومثل أجرة العون أجرة السجان لأن اللدد فيه أبين قاله ( ق ) : ( قلت ) : وهذا تبين أنه سجن في حق كما يأتي الخ .
تنبيهات . الأول : قول الناظم : إن ألد ظاهر في أنه ثبت لدده ومطله ، وقد فصل ابن الشماع في ذلك فقال : إن كان الحق جلياً والمطلوب به ملياً والحاكم المدعو إليه من حكام العدل ، فالصواب إغرامه حيث لا عذر له في التخلف ، وإن كان له عذر ظاهر في التخلف من غرم أو يخاف أن يسجن ولا يعرف عدمه أو كان طالبه مؤاخذاً له بشهادة زور مثلاً أو كان الحاكم مثلاً من حكام الجور . ونحو ذلك ، فلا غرم عليه وإن لم تعرف حقيقة الأمر في ذلك ، فالأصل عصمة مال المسلم فلا يباح بالاحتمال والشك إذ لا يرتفع اليقين إلا باليقين اه .
قلت : ويؤيده ما في أقضية المعيار عن القباني فيمن سجن في تهمة دم أو سرقة ولم يثبت عليه ما يوجب غرماً ولا قوداً أن أجرة السجان على مدعي الدم والسرقة ، وعليه فلا تجب الأجرة على المطلوب حتى يثبت لدده بثبوت ما يدعيه الطالب فتوقف ابن رحال في ذلك قصور ، وانظر آخر أقضية المعيار فقد ذكر فيها نظائر من ذلك : أجرة الأمينة وأجرة المقوم في البيع الفاسد قال : هي على الطالب وليست على البائع في الفاسد .
الثاني : قال في التبصرة : ويجب أن يكون أعوان القاضي في زي الصالحين فإنه يستدل على المرء بصاحبه وغلامه ، ويأمرهم بالرفق واللين في غير ضعف ولا تقصير ، وينبغي أن يخفف منهم ما استطاع وإن استغنى عن اتخاذهم كان أحسن . المازري : كل من يستعين به القاضي لا يكون إلاَّ ثقة مأموناً لأنه قد يخاف عليه من النسوان إذا احتجن إلى الخصام .
الثالث : المطل : هو تأخير الدفع عند استحقاق الحق والقدرة عليه وهو مما ترد به الشهادة كما قال ( خ ) عاطفاً على المبطلات ومطل لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سماه ظلماً في قوله : ( مطل الغني ظلم ) وخصه بالغني دون المعسر لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة } ( البقرة : 280 ) الآية . وفي بعض الروايات عنه عليه السلام أنه قال : ( مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . فعرضه المتظلم منه يقول : مطلني وظلمني ، وعقوبته سجنه حتى يؤدي .
فصل في مسائل
جع مسألة : وهي كما في المحلى مطلوب خبري يبرهن عليه في ذلك العلم ( من القضاء ) من تلك المسائل قوله :
وَلَيْسَ بالجَائِزِ لِلقاضي إذَا
لَمْ يَبْدُ وَجْهُ الحُكْمِ أَنْ يُنَفِّذَا ( وليس بالجائز للقاضي إذا . لم يبد ) يظهر ( وجه الحكم ) كنهه وحقيقته ( أن ينفذا ) الحكم على أحد الخصمين لأن الحكم مع عدم تبين وجهه حدس وتخمين ، وهو مما ينقض فيه حكم الحاكم . ولو وافق الصواب في ظاهره كما في ابن شاس وغيره ، وحينئذ فإن لم يبين وجهه من جهة عدم تصوره كلام الخصمين أمرهما بالإعادة ليفهم عنهما صراحة لا تلويحاً . قال عياض عند قولها : إذا أدلى الخصمان بحجتيهما ، وفهم القاضي عنهما الخ ما نصه : مراده بفهم القاضي عنهما تحققه ما سمع منهما دون احتمال لا أنه فهم من معرض كلامهما ولحن خطابهما ليس هذا مما تقام الأحكام به اه . ونحوه في المعيار عن المازري وعليه عول في اللامية حيث قال :
وفكرك فرغ واطلب النص وافهمن
فبعد حصول الفهم قطعاً لتفصلا
وسيأتي عند قول الناظم وقول سحنون به اليوم العمل الخ : أن القاضي لا يحكم بما سمعه من أحد الخصمين في مجلسه دون إشهاد عليه ، وإذا كان كذلك فكيف يحكم بما فهمه عنهما ؟ قال ابن محرز : ما فهمه عنهما يقول مقام ما سمعه ، والخلاف جار على جواز الشهادة بالفهم ، وثالثها أن يبين شهادته بالفهم لا بالتصريح ابن ناجي والعمل على قبولها قال : وبها حكم ابن عبد السلام في مال معتبر اه . ونقل الخلاف المذكور الشارح في فصل الإعذار وقال بعده ما حاصله : إنه لا يبعد أن يفرق بين الحكم والشهادة فإن الضرورة تدعو إلى الشهادة بالفهم ولا ضرورة تدعو إلى إنفاذ الحكم دون تحقيق الفهم على الخصمين اه .
قلت : وهو ظاهر ولا سيما على ما يأتي في البيت المذكور . نعم يكون شاهداً بما فهمه عنهما على القول بجوازها بالفهم والله أعلم . وإن لم يبد لكونه لم يقف على أصل النازلة في كتاب ولا سنة ولا غير ذلك أو شك هل هي من أصل كذا أو أصل كذا أو تجاذبها أصلان ولم يترجح أحدهما ؟ شاور أهل العلم في هذه الأوجه الثلاثة أو صرفهما إلى من هو أعلم منه وجوباً فإن بقي الإشكال على حاله بعد المشورة أو لم يجد من يشاوره فهو قوله :والصُّلْحُ يَسْتَدْعِي لهُ إنْ أشْكَلاَ
حُكْم وإنْ تَعَيَّنَ الحَقُّ فَلاَ
( والصلح يستدعي له إن أشكلا . حكم ) أي دام إشكاله بعد المشهورة ، وأمكن الصلح فيه لا فيما لا يمكن كطلاق . وقيل : إذا تجاذب النازلة أصلان ولم يترجح أحدهما عنده ولا عند غيره من المشاورين تخيّر في الحكم بأيهما شاء قياساً على تعارض الحديثين دون تاريخ ( وإن تعين الحق ) ولو بمشورة أو سؤال ( فلا ) يدعو إليه ( خ ) ولا يدعو للصلح إن ظهر وجهه أي لأنه لا يخلو عن حطيطة لبعض الحق ، البرزلي : فإن جبرهما على الصلح حينئذ فهو جرحة فيه . قال مالك : ولا أرى للوالي أي بعد تبين الحق أن يلح على أحد الخصمين أو يعرض عن خصومته لأجل أن يصالح اه . فإن دعا في الغرض المذكور فلا بد أن يبين لصاحب الحق أن القضاء أوجب له حقه وإلاَّ فلا يلزمه الصلح وله القيام لأن القاضي قد دلس عليه وجار والقول قوله في عدم البيان كما يفهم من جواب لابن لب نقله اليزناسي في عيوب الزوجين . وقال عقبه : إن بعض القضاة يحكم بالجور أو الجهل فيظن المحكوم عليه بجهله أو لعدم الناصر للحق أن ذلك لازم له فيصالح أو يرضى باليمين أو يلتزم الأداء ونحو ذلك ، وهو في ذلك كله مضطر مغرور بحكم القاضي فإذا سأل أو وجد من ينصره وأعيد النظر يقول الناظر فيها : إنك رضيت اليمين أو صالحت أو التزمت ونحو ذلك مما يسقط حقه قال : وكنت أستعظم ذلك وأتمنى الاطلاع فيه على نص حتى وقفت على هذا الجواب يعني جواب ابن لب المتضمن لعدم لزوم شيء من ذلك اه . قلت : وهذا مفهوم من قول ( خ ) وغيره فلا يحل لظالم .
تنبيهان . الأول : إذا شهد العالم في شيء عند القاضي فأعياه الحكم فيه فلا يستشيره فيما شهد فيه قاله سحنون أي لأنه يتهم في فتواه بما يمضي شهادته ، وقيل : إنه لا بأس باستشارته في ذلك وفي أقضية المعيار أن الخصم إذا طلب إحضار أهل العلم لأجل الحكم عليه أو له فليس للخصم فيه مدخل ، وإنما ذلك إلى القاضي قال : وللقاضي أن يمتنع من الحكم إن رأى دخول ضرر عليه بسببه .
الثاني : إذا كان القاضي عدلاً في أحواله بصيراً في قضائه فلا يقبل الأمير شكوى من شكاه ولا يجلس الفقهاء للنظر في أحكامه ، وذلك خطأ منه إن فعله . ومن الفقهاء ، إن تابعوه على ذلك وإن كان عنده متهماً أو جاهلاً فليعزله ، فإن جهل الأمير فأجلس الفقهاء للنظر في أحكام العدل وجهلوهم أيضاً أو أكرهوا ففسخوا أحكامه أو بعضها ، فلمن تولى بعد ذلك النظر فيمضي ما كان صواباً موافقاً للمشهور أو المعمول به وينقض ما عداه إن كان حكم القاضيالأول أو الفقهاء وإن أمرهم بتصفح أحكام المتهم جاز لهم ونقضوا ما ليس بصواب ، فإن اختلف الفقهاء فلا ينظر إلى قول أكثرهم ولكن ينظر في وجه أحكام الاختلاف فما رآه صواباً قضى به ، وكذا القاضي إذا اختلف عليه المشاورون . ابن عبد البر في كافيه : ولا يجوز له أن يشاور وهو جاهل لا يميز الحق من الباطل لأنه إذا أشير عليه وهو جاهل بحكم لم يعلم هل حكم بحق أو باطل اه . ونقله ابن سلمون وغيره ، وهذا في العامي الصرف كما تقدم أول الباب ، وإلى ذلك كله أشار ( خ ) بقوله : ونبذ حكم جائر أو جاهل لم يشاور أي : ولو وافق كل منهما الحق في ظاهر الأمر ولم تعلم صحة الباطن ، فإن ثبت بالبينة صحة باطنه فلا ينقض وإلاّ تعقب وأمضى غير الجور ولا يتعقب حكم العدل العالم قال في المعيار عن ابن الحاج : والذي يشاور من أهل العلم العابد الخير الدين الورع العالم بكتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وبأحكام من مضى العارف باللغة ومعاني الكلام الموثوق بدينه لا يميل إلى هوى ولا طمع ، وقال قبل ذلك : وما أفتى مالك حتى استفتاه أربعون محنكاً ، والتحنك اللثام تحت الحنك لأنه شعار العلماء في القديم .
ما لَمْ يَخف بِنافِذِ الأحْكامِ
فِتْنَةً أو شَحْناً أُولِي الأرْحام
( ما لم يخف بنافذ الأحكام ) . أي بتنفيذها ( فتنة ) بين الخصمين من قتل ونحوه ، فيجب حينئذ الأمر بالصلح ولو تبين الحق لأحدهما قاله اللخمي ( أو شحنا ) بالمد وقصره ضرورة أي العداوة والبغضاء . ( أولي الأرحام ) أو أولي الفضل فيندب الأمر بالصلح في هذين ولا يجب لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رددوا الحكم بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن وأولو الفضل كذي الرحم ، فقد ترافع إلى سحنون رجلان من أهل العلم فأبى أن يسمع منهما وقال لهما : استرا على أنفسكما ولا تطلعاني على ما ستره الله عليكما . اللخميّ : والصلح بين الأقارب حق وإن تبين لأحدهما أو لهما وعليه اقتصر شراح المتن ، ثم لا ينبغي أن يرددهم أكثر من مرتين إن طمع في الصلح بينهما كما في التبصرة وابن سلمون قالا : وعن بعضهم أن قول عمر رضي الله عنه : رددوا الحكم محمول على ما إذا لم يتبين الحق لأحدهما ، وإلاَّ فلا ينبغي عدم إنفاذه ، وقول ( ق ) عن ابن حجر استحب الجمهور من غير المالكية للحاكم أن يشير بالصلح أي بين الأقارب والأرحام وغيرهما ، وإن ظهرا الحق الخ . معناه والله أعلم بعد أن يبين لمن وجب له الحق أن الحق له ، وإلاَّ فيمنع لأنه مدلس بكتمانه ظهور الحق لربهمعين على أكل الأموال بالباطل ، ولا يحل مال امرىء إلا عن طيب نفس ابن عات : إنما يجوز له أن يأمر بالصلح إذا تقاربت الحجتان بين الخصمين غير أن أحدهما ألحن بحجته من الآخر أو تكون الدعوى في أمور تشابهت وتقادمت ، وأما إن تبين الحق فلا يسعه إلا فصل القضاء .
وَخَصْم إنْ يَعْجِزْ عن الْقاءِ الحُجَجْ
لمُوجِبٍ لُقِّنَها ولا حَرَج ( وخصم ) طالباً كان أو مطلوباً ( أن يعجز عن إلقاء الحجج ) أي بثها وتبيينها للقاضي ( لموجب ) من غفلة أو بله أو دهش ( لقنها ) بالبناء للمفعول خبر عن قوله : خصم وسوغ الابتداء به وقوع الشرط بعده لأنه وصف في المعنى ، والضمير المنصوب مفعول ثان ، والمفعول الأوّل ضمير يعود على الخصم . أي : لقن القاضي الخصم إياها على المشهور خلافاً لسحنون . قال في التبصرة : وصورة ذلك أن يقول للخصم : يلزمك على قولك كذا وكذا ، فيفهم خصمه حجته ولا يقول لمن له المنفعة قل له كذا . ابن عبد الحكم : لا بأس أن يلقنه حجة لا يعرفها . ابن الماجشون : ينبغي للقاضي تنبيه كل خصم على تقييد ما ينتفع به من قول خصمه إن غفل ( ولا حرج ) عليه في التلقين المذكور ، بل ذكر ابن يونس في ذلك حديثاً : من ثبَّت غبياً في خصومة حتى يثبتها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام اه . وقد يقال : إن التلقين واجب إذا كان الخصم جاهلاً ضعيفاً عنها هذا هو الظاهر ، وإلاَّ فكيف يحكم عليه بحجة صاحبه وحجته صحيحة إلا أنه لضعف عقله لم يبينها قال ابن رحال ( خ ) فإن أقر فله الإشهاد عليه وللحاكم تنبيهه عليه الخ . ابن عرفة : فإذا ظن القاضي أن المعذور إليه يجهل ما يسقط عنه الحجة نبهه الحاكم على ما يسقطها اه . نعم يمتنع على القاضي وغيره تلقين الفجور وهو جرحة فيمن فعله فقيهاً كان أو غيره ، ويضرب على يديه ويشهر في المجالس ، وقد فعله بعض قضاة قرطبة لكبير من الفقهاء بمشورة أهل العلم وليس منه قول المفتي لمعلق الثلاث مثلاً خالعها قبل الفعل ولك مراجعتها بعده ولا يلزمك إلا واحدة كما أشار له ( خ ) بقوله : فلو فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم الخ . لأن هذا ومثله ليس من الفجور . وفي ( ق ) عن ابن علوان أنه قال لامرأة عسر عليها التخلص من زوجها الذي أساء عشرتها : ادعي عليه أن بداخل دبره برصاً فادعت ذلك فحكم بأن ينظر إلى ذلك المحل ، فلما رأى زوجها ذلك طلقها البرزلي : وهذا التحيل إن ثبت عنده أنها مظلومة فالفتوى به سائغة وإلاَّ فهو من تلقين الخصم القادح في العدالة .
والحاصل إن علم منه المفتي قصد التحيل للفجور فإفتاؤه بما يوصله إليها وتنبيهه عليها من التلقين الممنوع وإن لم يعلم قصده أصلاً أما إن كان قصده إلى رفع الظلم عنه أو إلى الخروج من ورطة يمين وقع فيها فالإفتاء مشروع أو واجب لأن تركه من الكتمان بل في ضيح : إن القاضييعلمه بالتجريح إن كان ممن يجهله وسواء كان ذلك قبل الخصام فيما فيه خصام أو بعده فقول الشيخ مس رحمه الله : ما يفعله المفتون اليوم من الإفتاء قبل الخصام إنما هو من التلقين الممنوع لأنه يستفتي لينظر هل الحق له أو عليه فيحتال على إبطاله الخ . صحيح إن علم المفتي بقصده للتحيل المذكور والله أعلم .
وقوله قبل ذلك الإفتاء إنما كان في الصدر الأول بعد تسجيل القاضي الحكم الخ . مبني على أن الإعذار لا يكون إلاَّ بعد الحكم ، والمشهور أنه قبله كما يأتي ولا معنى للإعذار حينئذ إلا سؤال أهل العلم عن فصول الوثيقة وشروطها أو تجريح شهودها ونحو ذلك ، وفهم من قول الناظم : وخصم الخ ، إن الشاهد إذا غلط في شهادته لا يلقن . قال في التبصرة : إذا غلط الشاهد في نص الشهادة فعلى القاضي أن يأمر الخصمين بالإعراض عنه لا المدعي بتلقين ولا المدعى عليه بتوبيخ ، فإن فعل أحدهما ذلك بعد النهي أمر بأدبه . وكان سحنون إذا غلط الشاهد عنده أعرض عنه وأمر الكاتب أن لا يكتب وربما قال له : تثبت ثم يردده ، فإذا ثبت على شهادته أمر كاتبه بكتب لفظ شهادة من غير زيادة ولا نقصان .
ومُنِعَ الإفْتاءُ لِلحُكَّامِ
في كلِّ ما يَرجِعُ لِلْخِصامِ ( ومنع الإفتاء للحكام ) متعلق بالإفتاء أو بمنع ، واللام بمعنى من على كل حال ( في كل ما ) شيء ( يرجع للخصام ) فيه بين يديه من أبواب المعاملات لأن الخصم إذا عرف مذهبهم تحيل إلى الوصول إليه أو الانتقال عنه وما ذكره من المنع هو أحد الأقوال ومحلها فيما إذا كان مجتهداً أو مقلداً . وفي المسألة قولان متساويان مثلاً وإلاَّ فيجوز لأنه محجر عليه في الحكم بغير المشهور كما مرّ ، وفيما قبل الجلوس بين يديه وإلاَّ فهو ما قبله فلا معارضة بين البيتين ، وفيما يمكن فيه الخصام بين يديه كما قررنا لا أن سئل عن ذلك من خارج ولايته أو من بعض الكور أو على يدي عماله أو كان لا يرجع للخصام كالعبادات فلا يكره ولا يمنع ومقابل المنع الكراهة لمالك وهو المشهور ، والجواز لابن عبد الحكم وبه العمل قال ناظمه :
وشاع إفتاء القضاة في الخصام
مما يغير حكمهم له قوام
ومفهوم للحكام أن غيرهم له الإفتاء مطلقاً وهو كذلك . ابن العربي : المصلحة أن تكون الفتوى مرسلة ولا تكون الشهادة إلا إن ولاه القاضي لأن المفتي إذا زاغ فضحه العلم ( ق ) : إن كان القضاة مولين بالجاه لا بالمرجحات الشرعية ففتوى المفتين حينئذ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي البرزلي ونحوه في المعيار : لا ينبغي للفقيه المقبول القول أن يكتب للقضاة بمايفعلون إلا أن يسألوا لأن ذلك يؤدي إلى الأنفة المؤذية ، قال : وقد أدركت بعض شيوخنا إذا ورد عليهم سؤال فيه حكم قاض من بعض الكور يرده حتى يبعث إليه قاضيه اه .
قلت : وهذا إذا كان ممن توفرت فيه شروط القضاء لأنه محمول حينئذ على أنه استقصى الواجب في ذلك وإلاّ فهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مرّ . ورأيت في اختصار الونشريسي للبرزلي ما نصه : لا يجوز للقاضي إقامة المفتي ليستفتيه وإنما يقيمه أهل الحل والربط وهم الفقهاء قاله المازري اه . وهو ظاهر لا يختلف فيه اثنان ، وفي نوازل التمليك من المعيار أن فقيه سوسة أتى الربيع المزدغي بفتوى من قال : الحلال عليه حرام بلزوم الواحدة ، وأمر حاكم البلد أن يحكم بذلك ليتحصن بحكم الحاكم ، وحمله على ذلك كون الرجل له أولاد من زوجته ، فبلغ الخبر إلى أبي القاسم فأفتى بنقض الحكم وإلزامه الثلاث قائلاً لا يعتبر من قضاة الوقت إلا الحكم بالمشهور ، ولا يعول إلا على مفتي تونس بإفريقية . قيل : هذا تعسف منه بل كل من يعرف العلم وإن كان في بادية يعول على فتواه إذا رآه الناس أهلاً لذلك كهذا الشيخ المزدغي نفع الله بعلمه وعمله . قلت : أي قال صاحب المعيار : حكى الأصوليون الإجماع على استفتاء من علم بالعلم والعدالة ، وقد انتهى الأمر في هذه الأزمنة إلى خرق هذا الإجماع وقصرها على جهلة لمجرد الرياسة والجاه وحسيبهم الله اه . قلت : قد انتهى الأمر في زماننا هذا في حدود الثلاثة والأربعين بعد المائتين والألف وقبل ذلك بسنين إلى قطعها بالكلية موافقة لأغراض جهلة القضاة ويعللون ذلك بأن في إرسالها تشويشاً عليهم في الأحكام ، وما ذاك إلا ليتوصلوا للأغراض الفاسدة من تمام الرياسة وعدم نقض أحكامهم المؤسسة على الحدس والتخمين ، وإلاَّ فالمفتي إن صادف الصواب بفتواه وإلاَّ ألغيت وطرحت فأي تشويش فيها ؟ فبقي الناس يموج بعضهم في بعض فتأتي النوازل من سوس الأقصى وغيرها ولا يجدون من يكتب لهم حرفاً واحداً لا من القضاة لغلبة جهلهم ولا من غيرهم للتحجير عليهم من الإمام مع أنها فرض كفاية كالقضاء ، فهذا من أفظع الأمر الذي لا يحل السكوت عليه قال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } ( البقرة : 951 ) الآية . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وَفي الشُّهُودِ يَحْكُمُ القاضي بِما
يَعْلَمُ مِنْهُمْ باتِّفاقِ العُلَمَا
( وفي الشهود ) : يتعلق بقوله : ( يحكم القاضي ) وكذا قوله : ( بما يعلم منهم ) من تعديل أو تجريح إجماعاً وعليه فلا تحتاج لدليل لأن الإجماع لا بد له من دليل يستند إليه وإن لم نطلع عليه ، وقيل لغلبة شهرة العدالة والتجريح عند الناس فضعفت التهمة ، وقيل : لو لم يستند لعلمه فيهما لافتقر لمعدلين آخرين فيتسلسل . وتعقب بانقطاعه بمشهور العدالة . وأجيب : بأن انقطاعه بذلك نادر والتعليل الثاني أظهر لما يأتي ، وظاهر النظم أنه يعمل على ما علم من التجريح ولو عدله آخرون وهو كذلك ( باتفاق العلما ) إلا ابن المواز قال : تقدم بينة التعديل على علمه بالتجريح ،ورده ابن عبد البر بالإجماع إلا أن يطول زمن ما بين علمه بجرحته وبين الشهادة بتعديله فيعمل على التعديل قاله أصبغ وابن عبدوس عن ابن القاسم ، وأما العكس وهو أن يعلم العدالة ويجرحه آخرون ، فالحق أنه لا يعمل فيه على علمه لأن غيره علم ما لم يعلمه إلا أن يتحقق نفي السبب الذي جرحوه به كما لو جرحوه بشرب الخمر وقت كذا وهو يعلم أنه أكره عليه ( خ ) بخلاف الجرح وهو المقدم ، وليس عليه أن يشهد بما علمه منهم عند غيره كما في التبصرة وكذا يستند للشهرة بالجرحة والعدالة ، فقد شهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة فقال : أما الاسم فاسم عدل ، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم . ابن عرفة : شهد البرقي فقيه المهدية في مسيره للحج عند قاضي الاسكندرية ، فلما قرأ اسمه قال : أنت البرقي فقيه المهدية ؟ قال : نعم فكلف المشهود له البينة على أنه هو وحكم بشهادته دون طلب تعديله ، ثم محل كلام الناظم ما لم يقر الخصم بعدالة الشاهد ، وإلاّ فيحكم عليه بشهادته ولو علم جرحته أو شهدت البينة بها خلافاً لأصبغ وسواء أقرّ بها قبل الأداء أو بعده لأن إقراره بالعدالة كالإقرار بالحق ، ففي البرزلي : إن بعضهم كان إذا شهد عنده من لا يرتضيه يتلطف في رد شهادته والعمل بإقرار المطلوب فيقول : ما تقول في شهادة فلان . فيقول ؟ هو عندي صادق أو شهادته صحيحة اه . ( خ ) أو إقرار خصم بالعدالة وظاهر التعليل أنه يحكم عليه ، ولو رجع عن إقراره وكان الشاهد واحداً من غير يمين الطالب ، مع أن ابن عرفة بحث في هذه المسألة بما يعلم بالوقوف عليه . وقال ابن عبد السلام : ينبغي أن يتأول على ما إذا أقر بعدالته بعد أداء الشهادة لا قبلها لأنهم قالوا : إذا قال أحد الخصمين كل ما شهد به على فلان حق فشهد عليه أنه لا يلزمه لأنه يقول : ظننت أنه لا يشهد إلا بحق . ضيح : وفرق بينهما بأنه إذا أقر بعدالته أي بأمر متقدم يعلمه منه بخلاف من التزم ما يشهد به لأنه يقول : ظننت أنه لا يشهد إلا بحق اه . فتأمل هذا الفرق فإن كان معناه أن الإقرار بالعدالة كان بعد علمه بما شهد به عليه كان ذلك قبل الأداء عند القاضي أو بعده كما يدل عليه التعليل من أنه كالإقرار بالحق فهو ما يقوله ابن عبد السلام لأنه مراده بالأداء ، وإن كان المراد أنه أقر بها قبل أن يعلم بشهادته فلا يخفى أنه لا فرق بينه وبين قوله : كل ما شهد به فلان حق إذ لا يقول ذلك حتى يكون فلان عدلاً عنده ، وقد قالوا : إنه لا يكون بمجرده إقراراً ، ولكن ينظر إن كان فلان عدلاً لزمته شهادته مع يمين الطالب ، وإلاَّ فلا هذا محصل قول ( خ ) في الإقرار كأن حلف في غير الدعوى أو شهد فلان الخ ، أي فلا شيء عليه ، ولو حلف أو شهد لأنه يقول : ظننت أن لا يحلف على الباطل وأن لا يشهد به . ابن سهل : هذا إذا أنكر ذلك حين شهد عليه أما إذا سكت حين الشهادة ثم رجع لم يكن له ذلك ، وهذا الأصل في كل من التزم ما لا يلزمه بحكم اه . ثم يبقى النظر هل يعذر فيه للمشهود عليه إن كان عدلاً أو لا لأنه قد سلم شهادته ؟قولان . والمعتمد الأول لأنه يقول : ظننت أن لا يشهد بل في معاوضات المعيار في رجل شهدوا عليه فجرحهم ثم رضي بشهادتهم وقال : كل ما شهدوا به علي جائز فشهدوا عليه بذلك الحق ، فأراد أن يقدح فيهم وقال : ظننت أنهم يرجعون إلى الحق أنه يمكِّن من القدح فيهم بعد أن يحلف أنه ما أجاز شهادتهم إلا ظناً بهم أنهم يرجعون للحق .
تنبيهات . الأول : ما مر من عدم لزوم الإقرار في هذه المسألة هو المشهور . وقال مطرف : ذلك لازم له ، وثالثها أن تحقق ما نوزع فيه لم يلزمه وإلا لزمه وسواء في هذه الأقوال كان الشاهد عدلاً أو فاسقاً أو نصرانياً ، وينبغي أن يقيد عدم اللزوم على المشهور بما إذا قال ذلك قبل أن يعرف بما في ذلك من الخلاف وإلا فتلزمه شهادته لأنه التزم قول قائل من أهل العلم وأراح الحاكم من النظر في مسألته قاله أبو الضياء . مصباح في النوازل المذكورة قال : وعليه يدل قول مالك في ضمان الغائب أنه ممن اشترط عليه الضمان من المتبايعين ورأى أن ذلك التزام لأحد القولين وبه العمل اه .
الثاني : لو عدل شخص رجلاً فشهد عليه بحق فذلك لازم له فإن أراد تجريحه بما حدث من القواد ( ح ) فيه بعد تعديله ، فالظاهر تمكينه من ذلك ، وانظر هل له ذلك بالقواد ؟ ( ح ) التي قبل التعديل لأنها قد تخفى عليه حين التعديل أم لا ؟ فإن شهد المعدل بالفتح بجرحة الأصل أو عدل القاضي شهوداً فشهدوا بجرحته فلا يقبل تجريحهم لأن القدح في الأصل قدح في الفرع قاله البرزلي . وأصله لابن رشد قال : ونظيره الرجل يتوفى وله أمة حامل وعبدان ويرثه غاصب فيعتق العبدين وتلد الأمة ذكراً فيشهد العبدان بعد عتقهما أن الأمة كانت حاملاً من سيدها المتوفى فإن شهادتهما لا تجوز لأنها تؤدي لإبطال عتقهما فيؤدي إلى إجازة شهادة العبد اه .
الثالث : لو رضي ذمي بشهادة مثله فقضى عليه حاكمهم بها فقال ابن الماجشون : له الرجوع وينقض الحكم قاله في الشامل .
وفي سِوَاهُمْ مالِكٌ قَدْ شَدَّدَا
في مَنْعِ حُكْمهِ بِغَيْرِ الشُّهَدَا
( وفي سواهم ) أي الشهود أي تعديلهم وتجريحهم ( مالك ) مبتدأ ( قد شددا ) خبره وفيسواهم يتعلق به وكذا قول ( في منع حكمه ) و ( بغير الشهدا ) متعلق بمنع فلا يحكم بما علمه قبل ولايته ولا بما علمه بعدها وقبل جلوسه للحكومة أو بعد الجلوس وقبل أن يجلسا للحكومة مثل أن يسمعهما أو أحدهما يقر للآخر ، فلما تقدما للحكومة أنكر وهو في ذلك كله شاهد عند اللخمي وابن محرز وغيرهما ، وقيل تقبل شهادته في ذلك كما لم يمض حكمه فيه فإن حكم بعلمه في شيء من ذلك نقضه هو وغيره إما اتفاقاً . في الأولى أو على المشهور فيما عداها ( خ ) : أو بعلم سبق مجلسه ( تت ) ينقضه هو وغيره واستظهر ابن عبد السلام عدم نقضه مراعاة لمن أجاز له الحكم بعلمه مطلقاً كأبي حنيفة فقول ( ق ) ينقضه هو فقط على المشهور فيه نظر ، ففي الشامل مشبهاً بما ينقضه هو وغيره ، وكذا يعلم سبق مجلسه على الأصح الخ . ونحوه في النوادر ونقله ( ح ) عند قول ( خ ) وإن أنكر محكوم عليه الخ . وكذا نص عليه في الجواهر ، فإن كان الإقرار بعد جلوسه للحكومة وتقدمهما إليه فقال مالك وابن القاسم ، وهو المشهور : لا يحكم حتى يشهد عليه عدلان وعليه العمل كما في ابن سلمون والمفيد وغيرهما ، وعليه فإحضار الشهود وقت جلوسه للحكومة واجب . وقال أصبغ وسحنون ومطرف وابن الماجشون : يجوز له أن يحكم عليه وعليه فإحضار الشهود مستحب ، وتمسكوا بقوله عليه السلام : ( إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ) الحديث . إذ لم يقل على نحو ما ثبت عندي ، وبه أخذ منذر بن سعيد القاضي قال بعض الموثقين : ولم تزل القضاة تسقط في سجلاتها إثبات إقرار المقر وإنكار المنكر يعني عملاً بما لسحنون وعليه عول الناظم فقال :
وَقَوْلُ سَحْنُونٍ بِهِ اليَوْمَ العَمَلْ
فِيما عَلَيْهِ مَجْلِسُ الحُكْم اشْتَمَلْوفي البرزلي قبيل النفقات : إن حكم القاضي بعلمه إنما يمنع فيما لم تكن فيه شهرة وإلا جاز ثم الخلاف المذكور في الإقدام على الحكم ابتداء أي : هل يقدم على الحكم بما سمعه ابتداء قبل الإشهاد عليه أم لا ؟ وعلى الأول يحكم ولو أنكر وعلى الثاني الذي هو المشهور لا يحكم إلا إذا استمر . هكذا قرر الشيخ طفي هذا الخلاف قائلاً إن محله إذا أنكر قبل أن يحكم عليه ، واستدل له بكلام اللخمي وابن رشد وغيرهما . قال : أما إذا استمر فمحل اتفاق أنه يحكم عليه ، وظاهر ( ح ) و ( عج ) أن الخلاف عام استمر أم لا ، فإن أنكر بعد الحكم فهو قول ( خ ) وإن أنكر محكوم عليه إقراره بعده لم يفده الخ ، فمفهوم الظرف أنه إذا أنكر قبل الحكم فيفيده ولا يحكم عليه حينئذ على قول ابن القاسم ، فإن حكم عليه فانظر هل يترجح النقض لأنه مقر بأنه استند في حكمه بعد الإنكار إلى علمه السابق عليه وهو ما يفيده الظرف المذكور أو ينقضه هو ولا ينقضه غيره ، وهو قول ابن الحاجب . وأما ما أقرّ به في مجلس الخصومة فلا ينقض وهو الظاهر لقولهم ورفع الخلاف ، لكن الجاري على ما للمتأخرين من أن القاضي محجور عليه الحكم بغير المشهور أن ينقضه هو وغيره . والحاصل أن استمرار إقراره وعدمه لا يعلم إلا من قول القاضي وإلا خرجنا عن موضوع المسألة فصار إذا قال القاضي استمر على إقراره حتى حكمت عليه ولم يفده إنكاره ، وإن قال : حكمت عليه بعد الإنكار فتقدم أنه ينقضه هو ولا ينقضه غيره اللخمي : اختلف إذ أقر بعد أن جلس للخصومة ، ثم أنكر فقال ابن القاسم : لا يحكم عليه ، وقال عبد الملك وسحنون : يحكم ولذلك قصداه وإن لم ينكر حتى حكم ثم أنكر هذا الحكم . وقال : ما كنت أقررت بشيء لم ينظر لإنكاره ، وهذا هو المشهور من المذهب وقال الجلاب : لم يمض عليه حكم الحاكم إلا ببينة يعني على إقراره وهو أشبه بقضاة الوقت لضعف عدالتهم قال : ولا أرى أن يباح القول الأول لأحد من قضاة الوقت اه . وما للجلاب نحوه لأبي بكر بن عبد الرحمن قال في مسائله حسبما في المتيطية أن قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان ، ولو أدرك عبد الملك وسحنون زمننا هذا لرجعا عما قالا ، ولو أخذ الناس بقوليهما لذهبت أموال وحكم عليهم بما لم يقروا به اه . ونقله في التبصرة ونحوه قول ابن سهل : لو أدرك سحنون زمننا هذا لقال يقول ابن القاسم في كون الحاكم لا يستند لعلمه فيما أقرّ به أحد الخصمين بين يديه اه . قال وقوله عليه السلام : ( فأقضي له على نحو ما أسمع ) الخ . مؤول عند ابن القاسم أي إذا شهد بذلك عندي ابنالمواز ولا خلاف أعلمه بين أصحاب مالك في كون القاضي لا يقضي بما سمعه في مجلس قضائه وقاله مالك بن سهل . ولقد صدق ابن المواز في قوله : أعلمه لأنه لم يعلم قول ابن الماجشون وغيره بأنه يقضي بما سمع المتيطي : لم تزل القضاة بالأندلس تسقط في سجلاتها ثبوت إقرار المقر وإنكار المنكر من الخصمين حتى تولى أحمد بن تقي القضاء بقرطبة فأحدث في سجلاته أنه ثبت عنده إقرار المقر وإنكار المنكر ، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب ، وبه عملت القضاة بعده ، وقال مطرف وابن الماجشون : ما أقر المقر به المقرّ بين يديه يؤاخذ به ولذلك جلس ليلزم كل واحد منهما مقالته يعني بغير إثبات ثم ذكر ما مر عن أبي بكر بن عبد الرحمن . وقال المازري : من الحكمة والمصلحة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل فيقول علمت فيما لا علم له به اه . فتعليلهم بما ذكر يدل على أنهم فهموا قول ابن القاسم على ما فهمه الجلاب من أنه لا يحكم عليه ولو استمر على إقراره وإن فعل فهو مردود وهو ما فهمه ابن القصار والقرافي وغيرهما قال القرافي في قواعده : القضاء بعلم الحاكم عندنا وعند ابن حنبل يمتنع لوجوه أنه عليه السلام قال : ( شاهداك أو يمينه ليس لك إلاَّ ذاك ) . فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم وهو المطلوب ، وإن الحاكم غير معصوم فيتهم في القضاء بعلمه على عدو أو صديق ونحن لا نعرف ذلك فحسبنا ذلك صوناً لمنصب القضاء عن التهم ، وأن ابن عبد البر قال في الاستذكار : اتفقوا على أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل ولي خصمه أنه كالقاتل عمداً لا يرث منه شيئاً للتهمة في الميراث فقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة اه بحذف ما لم يتعلق به غرض ، فهذا يدل على أن مالكاً وابن القاسم وأشهب يقولون : لا يحكم بعلمه ولو مع استمرار المقر إذ التهمة لا تنتفي بذلك ، وأيضاً قضاؤه بعلمه السابق على مجلسه إنما منع للتهمة فكذلك ما كان بمجلسه إذ الكل لا يعلم إلا من قوله كما مر فأما أن يقال بالجواز في الجميع كما عليه الحنفية أو بالمنع في الجميع كما عليه الإمام وابن القاسم ، ويدل لهذا ما يأتي من الخلاف في الإعذار في شاهد المجلس إذ لو كان يمضي حكمه مع الاستمرار ما قال قائل بوجوب الإعذار فتأمل ذلك ، فهذا كله يضعف ما مر عن ( خ ) ويقوي ما مر عن الجلاب ومن معه ولهذا رجحه غير واحد من المتأخرين . قال في أقضية المعيار : الذي عليه العمل أن لا يحكم الحاكم بعلمه ولا ينفذه إلا بعدلين وعليه فلا يقبل قول القاضي شهد عندي بكذا أو أعذرته إلى فلان أو أجلته أو عجزته إلا ببينة ، ومنه قوله : رفع على خطهما عدلان فقبلا بل لا بد من تسميتهما والإعذار فيهما ، وأحرى لو قال عرفت خطهما أو قال : ثبت عندي جرحتهما ولم يعين المجرح كما يأتي في البيت بعده وما لابن رشد وابن بطال : مما يخالف هذا حسبما في التبصرة وهو الذي أشار له ( خ ) بمفهوم قوله : ولا تقبل شهادته بعده أنه قضى بكذا كله لا يعول عليه ، وسواء كان على وجه الخطاب أو الشهادة كما لابن رحال وغيره وسيأتي في فصل مسائل من أحكام البيع أن ما للخمي هو المعمول به قاله ابن حجر أيضاً والتالي وعليه فلو قال الناظم :
والقاضي لا يقضي بلا عدل على
إقرار خصمه لديه مسجلا
كقولك أجلت في الإعذار
وينقض الحكم على المختار
وَعَدْلٌ إنْ أَدَّى على ما عِنْدَهُ
خِلاَفُهُ مُنِعَ أنْ يَرُدَّهُ( وعدل ) المراد به الجنس فيشمل الواحد فأكثر وهو مبتدأ وسوغ الابتداء به الشرط الذي هو ( إن أدى ) أي شهد لأنه في معنى الصفة أي مؤد ( على ما ) شيء يتعلق بأدى وقوله ( عنده ) أي القاضي ( خلافه ) جملة من مبتدأ وخبر صفة لما وقوله ( منع أن يرده ) جواب الشرط والشرط وجوابه خبر المبتدأ أي منع أن يرد شهادته وإن كان يعلم خلافها كأن يشهدوا بتعمير ذمة وهو يعلم أن ذلك صوري فقط ونحو ذلك لأنه يؤدي إلى الحكم بعلمه بإسقاط حق القائم بشهادة العدل .
وَحَقُّهُ إنَّهَاءُ ما في عِلْمِهِ
لِمَنْ سِواهُ شاهداً بحُكْمِهِ
( وحقه ) أي القاضي العالم خلاف ذلك وهو مبتدأ خبره قوله ( إنهاء ما في علمه ) أي رفع شهادته ( لمن سواه ) من القضاة وولاة السوق والأمراء ، ولمن حكمه الخصمان حال كون القاضي ( شاهداً بحكمه ) أي في رتبة الشاهد فينزل عن رتبة القاضي وحكمه إلى رتبة الشاهد وحكمه قال في التبصرة : وإذا شهد عند القاضي شهود عدول بما يعلم خلافه فلا يحل له أن يقضي بشهادتهم ويدفع الخصمين عن نفسه ، ويكون شاهداً عند من يتحاكمان إليه ذكره ابن العطار . وقال ابن المواز : إذا شهد العدول عند القاضي بشيء يعلم أنه باطل فلا يجوز له أن ينظر شهادتهم وينفذها بعد الانتظار اليسير قال : وأرى أن يعلم الذي حكم عليه أن له عنده شهادة تناقض ما شهدوا به الخ . وهو يفيد أنه ينفذها ، وإذا أنفذها لا ينقض حكمه ، ولكن يخبر المحكوم عليه بما في علمه ، وعن سحنون أنه لا ينفذها لأنه قال : لا يجوز لي أن أحكم بشهادتهما ولا أن أردها لظهور عدالتهما ولكن أرفع ذلك لمن فوقي وأشهد بما علمت وغيري بما علم ، وكذا لو شهد القاضي في قضية مع شاهد آخر لا يستقل الحكم به فإنه يرفع ذلك لمن فوقه ، ثم هل يجوز أن يشهد ولو عند من تحته من نوابه أو لا يجوز له ذلك لأنه كأنه شهد عند نفسه قولان ، وعلى الثاني اقتصر أبو الحسن قال : يرفع القضية إلى من فوقه ويشهد عنده ولا يحكم في ذلك بعلمهولا يقدم من يؤدي عنده لأن مقدمه كهو على ما لا يخفى اه . وهذا في غير السلطان الأعلى يشهد عند قاضيه وإلا فيجوز على ما به العمل كما في المتيطية فإن كان المرفوع إليه بعيداً بحيث لا يلزم الرافع الأداء منه فله أن يشهد على شهادته عدلين وينقلانها عنه ، وأفهم قوله عدل أن هذا في ظاهر العدالة المشهور بها كما في النقل كان منتصباً للشهادة أم لا سواء قدمه هذا القاضي لها أو غيره ممن قبله وسواء زكي عنده أم لا . إذ قبول من قبله لشهادته وحكمه بها يوجب عليه قبولها دون تزكية ولا معرفته بعدالته كما لابن رشد في أجوبته فإن كان مجهول الحال فهو ما مر في قوله : وفي الشهود يحكم القاضي الخ . إذ لا تهمة تلحقه في عدم قبوله ، وظاهره أنه لا يردها بعلمه الجرحة بالأحرى وهو كذلك ، وإلاَّ أدى إلى إبطال حق القائم في ردها بعلمه وما مر من أنه يستند لعلمه في التجريح إنما هو في غير المنتصب للشهادة أو في المنتصب لها بالنسبة لتأخيره عنها في المستقبل لا بالنسبة لإبطال الحقوق فيما مضى لأنه تصير الأحكام حينئذ دائرة على علم القاضي فمهما أراد إثبات حق أو إبطاله قال : إن شاهده معدل أو مجرح ولذا علل جواز استناده لعلمه فيهما بما إذا اشتهر عند الناس كما مرّ وقد قال ابن عرفة في قاض آخر شاهداً عن الشهادة فأتى من بعده ورده إلى الشهادة وتبطلت حقوق كثيرة بسبب التأخر المذكور مع أنه لم يجرحه أحد من القضاة عدا من ذكر فإنه يجب البحث الآن عن حال الشاهد المذكور فإن تحصل عند من له الأحكام جرحته أو عدالته عمل على ذلك ، وإن لم يتحصل له شيء أمضى شهادته . البرزلي : إنما اختار البحث المذكور لغلبة الهوى على القضاة ، وإلاَّ فالرواية إذا تقادمت جرحة الشاهد وكانت ثابتة عند القاضي ومضى لها أشهر ، ثم أتى من زكاه بعد ذلك أنه يقبله ويحمل على انتقاله إلى خير اه ، وذكر في نوازل الأيمان أن التجريح لا يصلح بأمر محتمل ، وقد قالوا في استفسار اللفيف ونحوه لا بد أن يكون بمحضر عدلين فراراً من أن يكون حكم بعلمه لأن اللفيف غير عدول ، فإذا رتب الحكم على أدائه الذي غاب عليه ولم يعلمه غيره فقد رتبه على علمه قاله ابن لب والمكناسي وغيرهما . وقال ابن الحاجب : ولو سأله ذو الحق عن المجرح فعلى الحاكم إخباره به المتيطي : من حق الشاهد والمشهود له أن يعلما بالمجرح ، فقد تكون هناك عداوة أو قرابة يمنعان التجريح ، واختلف إذا كان الشاهد والمشهود له ممن يتقى شره فقال سحنون : يعلم ، وقال ابن القاسم : إذا قال المجرح أكره عداوة الناس جاز التجريح سراً اللخمي : وقول سحنون أحسن لفساد القضاة اليوم ابن رحال في شرحه : وما قاله اللخمي حسن غاية لأنه إذا كان ذلك في قضاة زمانه فكيف بقضاتنا اليوم ؟
قلت : وما لسحنون مثله لابن حبيب قال : التجريح لا يكون إلا علانية إذ لا بد من الإعذار في شهادة المجرحين ، وهذا التعليل يوجب أن لا يقبل التجريح سراً من قضاة الوقت كان المشهود له ممن يتقى شره أم لا وما لابن عبد السلام من قبوله سراً على أظهر القولين ونحوه لشراح المختصر مبني على نفي التهم عن القضاة ، ومذهب المدونة يجوز لمن يخشى منه كما يأتي في فصل الإعذار وقد تقدم عن القرافي وابن سهل وغيرهما ضعفه وهذا كله في غير المشهور بالعدالة المنتصب لها ، وأما ما عمت به البلوى في هذا الزمان من كون القاضي ينصب شهوداً أو يجدهم منتصبين ويقرهم على ذلك ، ثم بعد تحملهم للحقوق من ديون وغيرها يظهر له تأخيرهم عنها ، ويبطل رسوم تلك الحقوق كلها ويعتل بأنه يستند لعلمه في التجريح وإن الجرحة إذاطرأت بعد الأداء فهي مؤثرة فكيف بها قبل الأداء لأن العبرة بزمن الأداء فلا أخالهم يختلفون في عدم قبول قوله بالنسبة لما مضى إذ ليس قبول قوله بالتجريح الآن بأولى من قوله بالتعديل أو لا بالنسبة لما شهدوا به من الديون وغيرها ، لأنه قد استند إلى علمه في إبطال تلك الحقوق بعد وجوبها لأربابها بتعديله الأول وهو من التلاعب بحقوق المسلمين وفي ضيح ما نصه : فإن استحق الشاهد الحر برق لم ترد شهادته لأنه قد لا يعرف غيره الحق المشهود به اه . ونقله ( ز ) وغيره أول الشهادات وهو صريح فيما قلناه ، وفي المعيار قد شاع وذاع عن القضاة عزل بعض من لا يستحق العزل وتقديمهم لمن لا يصلح تعديله لهواه أو لكونه قريبه أو صديقه أو صهره أو لمعروفه عليه ، وذلك كله من الهوى والفساد أعاذنا الله من ذلك . وتقدم عن البرزلي الرواية إذا تقادمت جرحة الشاهد الخ . وأشار به إلى قول أصبغ : إذا علم القاضي جرحته وقت الشهادة أو بقرب ذلك عمل عليها وأما إن طال الزمان ، فهذا بمنزلة من جهل حاله إذا عدل عنده قبله يعني وبالعكس ، ولذا قال اللخمي في تعارض بينتي التعديل والتجريح في مجلسين متغايرين قضى بشهادة الجرح لأنها زادت علماً في الباطن ، وإن تباعد ما بين المجلسين قضى بأحدثهما تاريخاً ، ويحمل على أنه كان عدلاً ففسق أو فاسقاً فعدل الخ . والمقصود منه قوله : وإن تباعد الخ . وبهذا كله تعلم أن قول ( خ ) عاطفاً على المبطلات لا إن حدث فسق بعد الأداء مقيد بما إذا حدث وقت الشهادة أو قربها وإلاَّ فهو من الاستصحاب المعكوس وهو ضعيف عند الأصوليين وخلاف الرواية كما ترى ، ولذا قالوا : إذا قام للصبي شاهد واحد حلف المطلوب وسجلت شهادته لئلا يطرأ فسقه كما يأتي ، ولا يقال تسجيل شهادته بمنزلة الحكم بها وطرو الفسق بعد الحكم غير مضر لا يقتضيه كلام ( ز ) لأنا نقول هذا يقتضي أن الشاهد للصبي إذا رجع بعد تسجيلها وكتبها يغرم وليس كذلك لأنه لا حكم أصلاً إذ الحكم يتوقف على يمين الصبي بعد البلوغ ، وإذا ثبت هذا الحكم في الشاهد للصبي فكذلك الشاهد لغيره لا يضر طرو الفسق له بعد ، وبما إذا كانت الشهادة استرعائية لا أصلية كما يأتي عند قول الناظم : وزمن الأداء لا التحمل ، وبما إذا كان الطارىء مما يخفى كالزنا ونحوه لا كالقتل والعداوة كما للخمي والمازري قال في ضيح عند الكلام على شهادة النقل وهو كلام صحيح ، وبما إذا ثبت الفسق لا بالتهمة عليه كما لشراحه والله أعلم . وهذا في الحقيقة من تعارض التعديل والتجريح وسيأتي بقية الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى .
تنبيه : إذا تقرر ما تقدم وعلمت أن التأخير عن الشهادة لدعوى القاضي جرحته لا يبطل الحقوق التي كان شهد بها قبل ذلك ومات هذا المؤخر أو غاب قبل أدائها فإنه يرفع على خطه ويقولون مثلاً كان متصفاً وقت تاريخ الرسم أعلاه بقبول الشهادة ، ولا زال على ذلك إلى أن أخر عنها لغير موجب في علمهم .
وعِلْمُه بِصِدْقِ فِي غَيْرِ العَدْلِ لاَ
يُبيحُ أنْ يَقْبَلَ مَا تَحمَلاَ
( وعلمه ) أي القاضي ( بصدق غير العدل ) يشهد عنده ظاهره كان ظاهر الجرحة أو مجهول الحال . وهو كذلك لأنه محمول عليها ( لا يبيح ) له ( أن يقبل ما تحملا ) غير العدل والجملة خبرعن قوله علمه وبصدق يتعلق به ، وإنما لم يصح له قبوله لأنه آيل إلى الحكم بعلمه وسبب لتطرق التهمة إليه لأن غير العدل كالعدم فرد شهادته حق لله ولذا قال ابن عرفة : الحكم برد شهادة الفاسق حق لله ولو شهد بحق اه . وأيضاً لا بد أن يقول في حكمه بعد أن صحت عندي عدالتهما وهو إنما صح عنده جرحتهما أو لم يصح عنده شيء ، فإن وقع وحكم فينقضه هو وغيره ( خ ) عاطفاً على ما ينقض به الحكم أو أظهر أنه قضى بعبدين أو فاسقين ومفهوم صدق غير العدل أنه إذا علم بكذب العدل فهو ما قبله .
ومَنْ جَفا القاضِي فالتَّأدِيبُ
أوْلى وَذَا لِشَاهِدٍ مَطْلُوبُ
( ومن جفا القاضي ) أي لمزه بما يكره في مجلس حكمه فقال : ظلمتني مثلاً وأراد أذاه ( فالتأديب ) له أي التعزير إذا كان القاضي من أهل الفضل ( أولى ) من العفو عنه ، وظاهره أنه يستند لعلمه في ذلك وهو كذلك ، وقولي بمجلس حكمه احترازاً مما إذا كان ذلك بغيره فليس له ذلك ولو ثبت ببينة لأنه لا يحكم لنفسه في مثل ذلك ويرفعه لغيره إن شاء ، وقولي لمزه احترازاً مما إذا صرح له بالإساءة فيجب التأديب حينئذ كما لابن عبد السلام . ونقله في التبصرة . وقولي : ظلمتني ليس من الصريح لإمكان أن يريد المجاز . ومن موصولة مبتدأ ، والجملة من قوله : فالتأديب أولى خبره والرابط محذوف ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول لعمومه كالشرط . ( وذا ) التأديب ( لشاهد ) أي لجفائه أو جفاء الخصم أو المفتي ( مطلوب ) أي واجب كأن يقول له شهدت عليَّ بزور أو ما أنت من أهل العدالة والدين ، ولا يجوز العفو عنه حيث كان بالمجلس قامت به بينة أم لا . لانتهاكه حرمة الشرع فإن كان بغير المجلس وثبت ببينة فالحق حينئذللشاهد ونحوه لا لله ويؤدب في ذلك كله بقدر الرجل المنتهك حرمته ، وقدر الشاتم في إذاية الناس إلا أن يكون الشاتم من أهل الفضل وذلك منه فلتة فليتجاف عنه كما قال :
وفَلْتَةٌ مِنْ ذي مُرُوءَةٍ عَثَرْ
فِي جانِبِ الشَّاهِدِ مِمَّا يُغْتَفَرْ
( وفلتة ) مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بقوله : ( من ذي مروءة ) وقوله : ( عثر ) في موضع الصفة لذى أو في موضع الحال من فلتة لتخصيصه بالصفة والرابط محذوف أي بها و ( في جانب الشاهد ) يتعلق به ومثله من ذكر معه و ( مما يغتفر ) خبر المبتدأ ( خ ) وتأديب من أساء عليه أو على خصمه أو مفت أو شاهد لا بشهدت علي بباطل كخصمه كذبت الخ .
ومَنْ ألَدَّ في الْخِصَامِ وانْتَهَجْ
نهْجَ الفِرَارِ بَعْدَ إتْمَامِ الْحُجَجْ
( ومن ألد في الخصام ) أي أكثر منه وهو اسم شرط أو موصول مبتدأ ( وانتهج ) معطوف على الصلة ( نهج الفرار ) مصدر نوعي أي سلك طريقه خوفاً من القضاء عليه وثبت ذلك عليه ببينة لا بقول الرسول فلا يخلو من ثلاثة أوجه فإن كان ذلك ( بعد ) الحضور بين يديه و ( إتمام الحجج ) التي يدلي بها وسؤاله عنها وعجزه عن الطعن في حجج خصمه بعد الإجالات والتلومات كما هو ظاهره فهذا .
يُنَفِّذُ الحُكْمَ عَليْه الْحَكَمُ
قَطْعاً لِكُلِّ مَا بِهِ يَخْتَصِمُ
( ينفذ الحكم ) بالنصب مفعول مقدم ( عليه الحكم ) بفتح الكاف لغة في الحاكم فاعل بقوله ينفذ ( قطعاً ) حال أي قاطعاً ( لكل ما به يختصم ) والجملة خبر من أو جوابه وسواء كان المتنازع فيه عقاراً أو غيره كما هو ظاهره وإن وجبت له يمين قضاء أو استحقاق وكل الحاكم من يقتضيها له ويشهد بذلك ولا تسمع له حجة يأتي بها بعد ذلك لأنه بمنزلة الحاضر وإن كان ذلك قبل نشب الخصومة أو بعد نشبها بين يديه وقيل استيفاء النظر فيها فهو قوله :
وَغَيْرُ مُسْتَوْفٍ لها إن اسْتَترْ
لَمْ تَنقَطِعْ حُجَّتُهُ إذَا ظَهَرْ
( وغير مستوف لها ) أي للحجج فيشمل من لم ينشبها بالكلية لأن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ( إن استتر ) أي دام استتاره بعد أن فعل القاضي به ما مر في قوله : ومن عصى الأمر ولم يحضر طبع . الخ ، فهذا تسمع البينة في غيبته إن تغيب قبل سماعها على المذهب وإذاسمعت فيحكم عليه بمقتضاها كما يحكم عليه إن تغيب بعد أن سمعها وقبل استيفاء حججه ولا يقيم له وكيلاً على المعتمد ، ومذهب ابن القاسم لأن الوكيل لا يعرف حجج الموكل ، فالقضاء عليه وإرجاء الحجة أنفع له كما قال ( لم تنقطع حجته ) التي يأتي بها من الطعن في البينة التي لخصمه أو معارضتها ببينة البراءة ونحو ذلك ( إذا ظهر ) بعد أن قضى عليه وقيل يقام له الوكيل ولا ترجى له حجة فغير بالرفع مبتدأ ويجوز نصبه على الحال من ضمير استتر وجملة لم تنقطع خبر وجواب .
لَكِنَّما الحُكْمَ عَلَيْهِ يُمْضِي
بَعْدَ تَلَوُّمٍ لَهُ مَنْ يَقْضِي
( لكنما ) استدراك وما كافة ( الحكم عليه ) بالنصب مفعول ( يمضي ) بضم الياء مضارع أمضى ويجوز رفعه بالابتداء والجملة بعده خبره ، والرابط محذوف أي يمضيه ويجوز قراءته بفتح الياء وضميره يعود على الحكم هو الرابط ومن يقضي فاعل المصدر في قوله : ( بعد تلوم له ) أي لغير المستوفي ( من يقضي ) فاعل يمضي على ضم يائه والضمير في تلوم يعود عليه فهو عائد على متأخر لفظاً لا رتبة ، وظاهره أن الأول لا يتلوم له وهو كذلك لأن الغرض أنه فر بعده وظاهره أيضاً أن غير المستوفي لا تنقطع حجته ، ولو قال لخصمه : إن لم أحضر معك عند القاضي في أجل كذا فدعواك حق ودعواي باطلة ونحوه ، وهو كذلك كان طالباً أو مطلوباً ( خ ) كقوله : أجلني اليوم فإن لم أوافك غداً فالذي تدعيه حق ، ومفهوم قوله : إذا ظهر أنه لا كلام لوارثه في نقض الحكم قبل ظهوره ولو طالت غيبته وهو كذلك لأن كل أمر يتوقف ثبوته وإبطاله على اختيار شخص فالحكم بالصحة والإبطال قبل علم ما عنده محال إذ قد يقدم فيقر بوقوع الحكم على الصواب ، وظاهره إذا أتى بالحجة وعجز خصمه عن معارضتها يبطل الحكم وينقض البيع ويرد الغرماء ما أخذوه وهو كذلك قاله المازري ويأتي في فصل الحكم على الغائب ما يخالفه ولا مفهوم لقوله بعد تلوم لأنه إذا لم يتلوم ترجى له الحجة بالأحرى وأشعر قوله ينفذ ، وقوله : يمضي أنه مستوطن في محل ولايته أو له مال ظاهر أو كفيل أو وكيل وإلا يكن شيء من هذه الأمور ، فالحكم عليه كالحكم على من ليس في إيالته ، وقد تقدم . 5 والحكم في المشهور حيث المدعى عليه وشمل قوله نهج الفرار ما إذا فرّ حقيقة أو حكماً كما لو مرض أو سجن وامتنع من التوكيل فيجري على التفصيل المتقدم قال في الشامل : وحكم من تعذر أو تغيب كالغائب فيتلوم له إن تغيب قبل استيفاء حججه ثم قضى عليه وترجى حجته وبعد استيفائها يقضى ولا حجةله . ومضى إن كان له مال ظاهر وإلاَّ ختم على بابه ، فذكر ما مرّ عند قوله ومن عصى الأمر الخ . وقوله : تعذر أي بسبب تعصبه بذي جاه أو مرض أو سجن كما مرّ ، ولا بد من تسمية الشهود كما يأتي في فصل الحكم على الغائب .
فصل في المقالأي دعوى المدعي ( والجواب ) ما يجيب به المطلوب فإن قيدت الدعوى في كتاب فهو التوقيف الآتي ذكره ، ومن الدعوى ما يجب كتبه وما يحسن ترك كتبه وما يجوز فيه الأمران والكتب أحسن كما يأتي إن شاء الله . واعلم أن من ادعى شيئاً بيد غيره فأما أن يدعي أنه له أو وصل إليه من موروثه أو يدعي فيه بالنيابة عن غيره بإيصاء أو وكالة ، فإذا صحت الدعوى في الجميع بشروطها المتقدمة وأثبت مع ذلك في الوجهين الأخيرين موت الموروث وعدة ورثته وتناسخ الوراثات إلى أن وصلت إليه ، وأثبت الإيصاء والتوكيل كلف المطلوب حينئذ بالجواب ، فإذا أجاب بإقرار صريح فله الإشهاد عليه ، وللحاكم تنبيهه عليه وليس من الصريح قوله : وأنا لي عليك كذا جواباً لقوله : لي عليك كذا لإمكان أن يكون مراده مقابلة الباطل بالباطل قاله المازري ، ونقله في التبصرة . وكذا قوله : هب أني فعلت كذا قاله ( غ ) في التكميل ونقله ابن رحال في الارتفاق مسلماً قائلاً مهما لاح الاحتمال في الإقرار عندهم بقي الشيء على أصله اه . وهو ظاهر لأنه يحتمل أن يقوله إرخاء للعنان وتقديراً لصدور ذلك منه ، ولا شك أن قائله على هذا الوجه ليس بمقر وتأمله مع ما في أواسط أجناس المعيار من أنه إذا قال : هب أني بعت منك فإن أمي لم تبع أن ذلك إقرار على الأرجح وأطال في ذلك فانظره ، فإن قال لي عليك عشرة فقال : لا أدري أعشرة هي أم خمسة فإقرار وتلزمه العشرة إن حققها الطالب قاله في معاوضات المعيار ونحوه في باب العيوب من المتيطية ، وإن شكا معاً فقيل يقسم المشكوك ، وقيل يسقط . وكذا إن قال : أسلفتك أو أودعتك عشرة ، وقال الآخر : بل قبضتها عن مثلها لي عليك فقيل لا شيء عليه لأنه ما أقر إلا بقبض شرط فيه أنه يستحقه فلا يؤاخذ بأكثر مما أقر به ، وقيل القول للدافع في صفة ما دفع ، وهو يدعي أنه دفع سلفاً لا قضاء حكاهما المازري . ونقلها في ضيح في باب الحوالة ، واقتصر أبو الحسن في باب الشهادات وغيره على الثاني ، فيفيد أنه المعتمد وفي إقرارات المعيار إذا قال : ألم تسلفني مائة دينار ورددتها إليك فقال : ما رددت إلي شيئاً فقال : ما أسلفتني إذاً شيئاً أنه لا يلزمه شيء اه . وتأمله مع قول ( خ ) عاطفاً على ما يلزمه فيه الإقرار أو أليس ما أقرضتني أو ما أقرضتني أو ألم تقرضني الخ . فإن قال له عليَّ ألف من ثمن خمر ونحوه فقال القرافي ، في فروقه مقتصراً عليه أنه ليس بإقرار قال : لأن الكلام بآخر ، والقاعدة أن كل كلام لا يستقل بنفسه إذا اتصل بكلام مستقل بنفسه يصير المستقل غير مستقل قال : وقوله منثمن خمر لا يستقل بنفسه فيصير الأول المستقل غير مستقل وذكر لذلك أمثلة انظرها في الفرق الثاني عشر منه ، وانظر أيضاً الفرق الثاني والعشرين والمائتين ، واقتصر ( خ ) على إنه إقرار وإن أجاب بالإنكار الصريح عمل بمقتضاه ، وقيل للطالب : ألك حجة فإن نفاها واستحلفه فلا تسمع له بعد بينة إلا لعذر كنسيان ، وقال أشهب : تسمع وهو دليل قول عمر رضي الله عنه : بينة عادلة خير من يمين فاجرة وإن ادعاها كلف بإثباتها وأعذر للمطلوب فيما أتى به كما يأتي وليس من الصريح قوله : ما أظن له عندي شيئاً ولا قوله لا حق لك علي وذلك لما مر من أن الطالب لا بد أن يبين في دعواه الوجه الذي ترتب له به الحق من بيع أو قرض أو قراض أو نحو ذلك ، فيلزمه أن ينفي ذلك الوجه أو يقر به وتتوجه اليمين في الإنكار على طبق الدعوى ( خ ) : ويمين المطلوب ما له عندي كذا ولا شيء منه فإن قضى نوى سلفاً يجب رده اه . وقال ابن الماجشون : يكفيه في الجواب واليمين لا حق لك على ابن عبد السلام ، وهو التحقيق لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، فإن أجاب بإنكار كونه له بأن قال : هو وقف أو لولدي أو لشخص سماه فيقال للمدعي : اثبت ما تدعيه فإن هذا لا ينازعك وتنتقل خصومتك للمقر له ( خ ) وإن قال وقف أو لولدي لم يمنع مدع من إقامة بينة ، وإن قال لفلان فإن حضر ادعى عليه فإن حلف فللمدعي تحليف المقر أنه صادق في إقراره ، وانظر الفصل الثالث من أقسام الجواب من التبصرة وإن امتنع من الإقرار والإنكار فهو قوله :
ومنْ أَبىإقْراراً أو إنْكارا
لِخَصْمِهِ كَلِّفَهُ إجْبَارا
( ومن أبى ) موصول مبتدأ أو شرط واقع على المكلف الرشيد ( إقراراً أو ) بمعنى الواو ( إنكاراً ) لغير غرض شرعي بل سكت أو قال : أقم البينة على ما تدعي وأنا لا أقر ولا أنكر أو قال : ما له عندي شيء أو لا حق له علي كما مر . وقال الأخوان مطرف وابن الماجشون : يقنع منه بذلك في هذين الأخيرين وهو ظاهر لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، أو قال : لا أجاوب حتى أوكل من يجيب على المعمول به كما يأتي في باب الوكالة أو قال حتى يتبين هل ما تدعيه برسم أو بغير رسم ( يخصمه ) يتنازعه المصدر إن قبله ( كلفه ) بضم الكاف خبر أو جواب والرابط نائبه والبارز يعود على الإقرار والإنكار وأفرده لكون العطف بأو أو باعتبار ما ذكر ( إجبارا ) أي جبر بالضرب والسجن ، وهذا إن لم يكن وصياً أو مقدماً يخاصمان عن أيتامهما فيما لم يتولياه من المعاملات ، وإلاَّ فلا يكلفان بإقرار ولا بإنكار ، ويقال للطالب : أقم البينة على ما تدعي وذلك لأن إقرارهما لا يفيد فلا فائدة لجبرهما ، فإن أقرا باختيارهما فهما شاهدان تعتبر فيهما شروط الشهادة فإن أقرا عليه بطلاق أو عتق فلا تمضي حتى يكمل النصاب فإن خاصما فيما تولياه أجبرا على ذلك ، وإن توجهت اليمين عليهما حلفا وإلاَّ ضمنا وفهم من وقوع من على الرشيد أن السفيه لا يؤمر بالجواب فضلاً عن الإجبار إذ لا يلزمه إقرار كما مرّ في شروطالدعوى ونكوله عن اليمين كإقراره على المعتمد كما يأتي في باب اليمين ، ويقال للطالب حينئذ : أثبت دعواك وإلاَّ فلا شيء لك إلا اليمين تؤخر لوقت رشده ، وهذا في الدعوى عليه بالغصب والاستهلاك والإتلاف لما لم يؤمن عليه واستحقاق شيء من ماله ونحو ذلك ، وأما الدعوى عليه بالبيع والشراء والسلف والإبراء ونحوها فلا تسمع عليه ولو ثبتت بالبينة بخلاف الطلاق والجراح التي فيها القصاص وعتق مستولدته ونحوه فيكلف بالجواب للزوم إقراره فيها كما في ( خ ) حيث قال في الحجر لاطلاقه الخ . والسكران كالسفيه لا يلزمه إقراره ولا العقود من بيع ونحوه ولو بالبينة ويلزمه الإقرار بالجنايات والطلاق والعتق ولو لغير مستولدته كما قيل :
لا يلزم السكران إقرار عقود
بل ما جنى عتق طلاق وحدود
وقولي لغير غرض شرعي احترازاً مما إذا قال : لا أجاوب حتى يجمع دعاويه فإنه لا يجبر حتى يجمعها ، ومما إذا قال : لا أجاوب حتى أوكل من يجيب أو قال الوكيل : حتى أشاور موكلي على أحد قولين كما يأتي ، ومما إذا قال : لا أجاوب لأني لست على يقين من الأمر الذي يدعيه وحلف على ذلك فإن الطالب يكلف بالإثبات من غير إجبار للمطلوب كذا في التبصرة ونحوه لابن سلمون ولامية الزقاق وعليه فما مرّ من أنه لا يكفيه في قوله : ما أظن له عندي شيئاً إنما هو إذا لم يحلف ، وقول ( ز ) ومثل عدم جوابه في الحكم عليه بلا يمين شكه في أن له عنده ما يدعيه الخ ، يعني إذا لم يحلف وإلاَّ فالذمم لا تعمر إلا بيقين .
فإنْ تمادَى فَلِطَالِبٍ قُضِي
دُون يَمِينٍ أَوْ بِهَا وَذَا ارْتُضِي
( فإن ) نكل عن اليمين في هذه سجن وضرب أيضاً فإن ( تمادى ) على الامتناع فيها وفي الأولى ( فلطالب قضى ) بالحق ( دون يمين ) تلزمه بناء على أنه إقرار وهي رواية أشهب وصوبها ابن المواز ( أو ) لتنويع الخلاف أي وقيل ( بها ) أي قضى له بالحق معها أي باليمين ابتداء لا بعد الضرب والسجن كما هو ظاهره فالباء بمعنى مع بناء على أن امتناعه نكول لأن الامتناع من الجواب امتناع من اليمين في المعنى ، وهو قول أصبغ ، واختاره الناظم . ولذا قال : ( وذا ارتضي )والمعتمد الأول ( خ ) وإن لم يجب حبس وأدب ثم حكم عليه بلا يمين وظاهره كالناظم أنه لا تسمع له حجة لأنه إقرار بالحق كما مرّ ، وينبغي تقييده بما إذا أعلمه بأنه إذا تمادى على الامتناع حكم عليه كما أنه في القول الثاني لا يحكم عليه حتى يعلمه بذلك ، فإن كانت الدعوى لا تثبت إلا بشاهدين قضى على الممتنع فيما يلزمه الإقرار به كإنكاح مجبرته وعتق عبده وطلاق زوجته ولا يقضى عليه على القول الثاني لأن امتناعه نكول .
تنبيهات . الأول : تقدم أن المطلوب لا يؤمر بالجواب حتى يثبت المدعي موت من يقوم عنه ورثته وتناسخ الوراثات حيثما بلغت ، فإن لم يثبت ذلك فلا يمين له على المطلوب ، وإن قال له : أنت عالم بموته وعدة ورثته لأن من حجته أن يقول : إن أباك أو من تدعي عنه حي وسيقدم ويقر أنه لا حق له عندي قاله ابن الفخار . قال : فإن أقر بذلك لم يقبل لما فيه من إلزام الحقوق وتوريث زوجته وتزويجها وإنفاذ وصاياه وغير ذلك ولا يمين عليه في شيء من ذلك ، وإنما هو شاهد بذلك لا مقر وقد قال أحمد بن ميسرة : من أقر بقتل رجل لم يؤخذ به لما في ذلك من التوريث والتزويج اه . وعليه عول في اللامية حيث قال :
ومن يدعي حقاً لميت ليثبتن
له الموت والوراث بعد لتفصلا
إلى أن قال : وإن يكن أهمل ثبوت فعن مطلوب أسقط يمينه . الخ . قال : مقيد هذا الشرح على ابن عبد السلام أمديدش التسولي سامحه الله ، وما قاله ابن الفخار وتبعه صاحب اللامية مبني على أن الدعوى لا تتبعض وأن الشهادة إذا رد بعضها للسنة ردت كلها ، والإقرار تابع لها إذ هو في هذه المسألة ونحوها شهادة على النفس والغير ، وهو وإن كان موافقاً لقولها في الوصايا إذا مات رجل فشهد على موته امرأتان ورجل فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبد ولا له مدبر وليس إلا قسمة التركة فشهادتهن جائزة اه . فمفهومها لو كان هناك زوجة أو أم ولد أو أوصى بعتق ونحوه لم تجز لا في المال ولا في غيره أي والإقرار كذلك إذ ما لا يثبت بالشاهد والمرأتين أو أحدهما مع اليمين لا يمين فيه لكن يبعد كل البعد أن ينفي المقر الشيء عن ملكه ونحن نثبت ملكيته له وما في وصاياها معارض لقولها في الشهادات إن شهد شاهد بوصية فيها عتق ووصايا لقوم ردت في العتق وجازت في الوصايا ، ولقولها من شهد عليه رجل واحد بالسرقة لم يقطع ولكن يحلف المسروق منه مع شاهده ويستحق متاعه اه . الوانوغي : يؤخذ من هذه المسألة لو شهد رجل وامرأتان بطلاق زوجته ، وقد كان عليه صداقها مؤجلاً بموت أو فراق ، وقلنا : لا يحكم عليه إلا بالموت أو الفراق أن الشهادة تبطل في الطلاق وتصح في حلول الصداق ، وكذا لو شهد رجل وامرأتان على رجل بطلقة وتصييره داره في صداقها أنها تصح في التصيير لا في الطلاق اه . ابن رشد : المشهور أن الشهادة إذ رد بعضها للسنة كشهادة رجل واحد أو امرأتين بوصية فيها عتق ومال أن يجوز منها ما أجازته السنّة وهو الشهادة بالمال فيثبت بالشاهد واليمين أو المرأتين مع اليمين ، وقيل يبطل الجميع لأنه لما رد بعضها وجب رد كلها وهو قائم من المدونة اه . وإذا علمت أن شهادة الواحد والمرأتين أو أحدهما مع اليمين عاملة في مثل هذه بالنسبة للمال على المشهور ، فأحرى في الإقرار لأنه شهادة على النفس ولا تشترط فيه العدالة . ولذا قال ابن عرفة وغيره : الإقرار بالشيء أقوى من قيام البينة عليه اه . والقاعدة أن من أقرعلى نفسه وغيره لزمه الإقرار على نفسه ، ولم يلزم على غيره ولكن يكون فيه شاهداً وإن كل ما يثبت بالشاهد والمرأتين أو أحدهما مع اليمين يلزم فيه الإقرار وتتوجه فيه اليمين كما مرّ عند قوله : في عجز مدع عن التبيين . ألا ترى أنه لو ادعى عليه شخص أن أباه أوصى له بمال وعتق عبده فلان للزمته اليمين بالنسبة للمال دون العتق ، وكذا لو ادعى عليه بالسرقة فنكل للزمه الغرم دون القطع ، وهكذا فالموت وإن كان ليس بمال لكنه يؤول للمال بالنسبة للإرث فيثبت بالشاهد الواحد على المذهب ، ومن عده مما لا يثبت إلا بعدلين كابن ناجي فمراده بالنسبة لغير الإرث ، وحينئذ فإذا قال له : قد انتقل هذا المال الذي بيدك كله أو بعضه الذي هو الربع منه مثلاً إليَّ بسبب موت مالكه وأنت عالم بذلك فلا إشكال في توجه اليمين عليه ولزوم إقراره بالنسبة لنصيب المدعي ويبقى نصيب الزوجة ونحوها بيد المطلوب حتى يطلباه ، وغايته أن المطلوب لما أقر أو نكل سرى إقراره عليه فيما له فيه حق وبقي ما عداه على أصله فلا تتزوج زوجته ولا يعتق مدبره ونحوه حتى يثبت موته كما يؤاخذ بإقراره بالقتل أيضاً ولا تتزوج زوجته ولا يورث حتى يثبت موته فالمسألة في الحقيقة من الدعوى بغير المال لكنها تؤول للمال وقد حرر غير واحد أن الموت يثبت بالشاهد الواحد مع اليمين بالنسبة للإرث فهو يدعي بأمرين الموت والإرث كما أنه في الوصية والسرقة المذكورتين يدعي بأمرين أحدهما مال والآخر غيره ، والعجب من ابن فرحون والبرزلي وابن سلمون وصاحب اللامية وشروحها كيف سلموا كلام ابن الفخار مع أن كثيراً من مشاهير المؤلفين أعرض عنه فيما علمت بل ذكر في اختصار المتيطية أن ابن كنانة سأل مالكاً عمن بيده دار فقام عليه فيها رجل وزعم أنها لجده وسأله عن ذلك فقال الحائز : لا أقر ولا أنكر ولكن ليقيم البينة على ما يدعي فقال مالك : يجبر على الإقرار أو الإنكار ولا يترك . قال بعض الشيوخ : معنى المسألة أن القائم على أنه وارث جده ببينة أو بإقرار الحائز ولو لم يعلم ذلك حلف الحائز أنها ملكه ولا حق للقائم معه فيها اه . ولئن سلمناه لابن الفخار لم يثبت ما ذكر بالشاهد والمرأتين أو أحدهما مع اليمين إذ الإقرار بالشيء أقوى من البينة التامة كما مرّ فما لا يلزم بالإقرار أو النكول الذي هو كالإقرار لا يلزم بما ذكر بالأحرى ، ويحتاج على تسليمه إلى استثنائه من قولهم : المقر مؤاخذ بإقراره على نفسه ، ومن قولهم : ما ليس بمال ويؤول للمال يثبت بالشاهد واليمين ولا يلزم فيه الإقرار والله أعلم . هذا وقد ذكر ابن رحال في أنواع الشهادات الآتي أن المذهب هو ثبوت الموت بالشاهد واليمين بالنسبة للإرث .
الثاني : تقدم أيضاً أنه لا بد أن يثبت تناسخ الوراثات حيثما بلغت ويبقى النظر إذا أثبت موت من يقوم بسببه وعدة ورثته وأثبت موت بعض ورثة الموروث الأول وجر القائم ذلك إلى نفسه ، ولكن لم يجد من يشهد له بعدة سائر ورثة الوارثين غير من يدلي به هل هو يقضي له بخطه لأنه لا جهل فيه لأنه استبان أنه يرث من الأول الربع مثلاً ولا عليه فيمن يرث الثلاثة الأرباع أو لا يستحق شيئاً حتى يثبت تناسخ الوراثات حيثما بلغت كما في المتيطية : أفتى شيخ شيوخنا سيدي عمر الفاسي بأنه يحكم للقائم بقدر ميراثه لعلم نصيبه وتحققه ، وليس عليه أن يثبت تناسخ الوراثات الذين لا يدلي بهم ، وانظر أقضية المعيار وما يأتي في الاستحقاق . وقولنا : الرابع مثلاً احترازاً مما إذا قالت : لا نعلم كم الورثة فإنه لا يقضى للقائم بشيء ولا ينظر إلى تسميته للورثة كما في المدونة .الثالث : كما أن المطلوب لا يكلف بالجواب إذا مات رب الحق حتى يثبت الطالب موته ووراثته ، كذلك إذا مات المطلوب وقام رب الحق أو ورثته على ورثة المطلوب فلا تكلف ورثته بالجواب حتى يثبت القائم موته وعدة ورثته من أجل ما يحتاج من الإعذار إليهم كما في المتيطية ، وهذا إن كانوا كباراً مالكين أمرهم فإن كانوا صغاراً تحت إيصاء أثبت القائم الإيصاء وقبول الوصي له بالشهادة على عينه ليتمكن من الإعذار إليه فإن عجز عن الإثبات وقال : للمالكين أمرهم أنتم عالمون بالموت وعدة الورثة ، وقد استقر مال الهالك بيدكم فلا إشكال في لزوم اليمين لهم كما مر في التنبيه الأول ، فإن أقروا أو نكلوا استوفى القائم دينه مما بأيديهم فقط ، وإن بقي له شيء تبع به الصغار فإذا بلغوا حلفوا أو أدوا هذا هو التحرير ، وما في اللامية من إسقاط اليمين في هذه أيضاً لا يلتفت إليه ، بل قال في التبصرة : ولا تسمع الدعوى على الميت إلا بعد ثبوت وفاته وعدة ورثته ، فإن أقر الوارث الرشيد بها ولم يكن ثم غيره لم يفتقر إلى ثبوتها اه . فقولها فإن أقر الوارث بها الخ . صريح في لزوم اليمين لأنها دعوى في المال وكل ما يصح فيه الإقرار تتوجه فيه اليمين . ولا مفهوم لقوله : ولم يكن ثم غيره إذ إقراره يسري عليه في نصيبه الذي بيده كان هناك غيره أم لا . بل إن أداه على وجه الشهادة وكان عدلاً حلف رب الدين معه ، وأخذ جميع الدين ولو كان باقي الورثة صغاراً لأن الموت باعتبار المال يكفي فيه العدل والمرأتان أو أحدهما مع اليمين على مذهب ابن القاسم خلافاً لأشهب . قال اللخمي : وإن شهد رجل وامرأتان على نكاح بعد موت الزوج أو الزوجة أو على ميت أن فلاناً أعتقه أو على نسب أن هذا ابنه أو أخوه ولم يكن له وارث ثابت النسب صحت هذه الشهادة على قول ابن القاسم ، وكان له الميراث ولم تجز على قول أشهب لأنه قال : لا يستحق الميراث إلا بعد إثبات الأصل بشهادة رجلين فإن ثبت ذلك ثم شهد واحد أنه لا يعلم له وارثاً سوى هذا جازت واستحق المال اه . وبه تعلم ما في كلام ابن فرحون في الباب الثالث من القسم الثاني فإن كلامه يوهم أنه لا بد من عدلين في الموت والميراث معاً وقد علمت أنه لا يجري إلا على قول أشهب . نعم صرح هو في المحل المذكور أن حصر الورثة يكفي فيه الشاهد واليمين اتفاقاً وهو ما أشار له اللخمي بقوله : فإن ثبت ذلك ثم شهد واحد الخ . ومثله له فيما إذا شك في تقدم موت الأم أو ابنها مثلاً . قال : إن ميراث الابن لأبيه وميراث الأم لزوجها وأخيها بعد أيمانهما مع أن تاريخ تقدم الموت ليس بمال كما صرح به هو وغيره ، ولكنه آيل للمال ونحوه لأبي العباس المقري في رجلين وأخت شقائق توفي الأخ والأخت فادعى الأخ الثاني أن الأخت توفيت بعد الأخ وادعى ابن الأخ أن أباه توفي بعد موت الأخت بعد إقرارهما بموتهما ودفنهما بمحضرهما قال : تتوجه اليمين على كل منهما فإن حلف الكل أو نكل فكل يرثه ورثته وإن نكل البعض قضى للآخر قال : والمسألة من باب الدعاوى فكل منهما مدع ومدعى عليه وقول : من قال كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها غلط اه . فتبين أن الموت وحصر الورثة كلاهما يثبت بالشاهد الواحد اتفاقاً في الثاني ، وعلى المشهور في الأول وعليه اقتصر ( خ ) في مواضع فقال في التنازع : حلفت معه وورثت ، وقال في آخر : العتق وحلف واستؤني بالمال إن شهد بالبت شاهد أو اثنان أنهما لم يزالا يسمعان أنه مولاه الخ . ومحل ذلك إن لم يكن للميت وارث ثابت النسب كما رأيته وإلاَّ فلا بد من عدلين على المذهب كما في ضيح و ( ح ) ولا يرد هذا علينا لأنالموضوع أن المقر شاهد أن مورثه مات وأنه لا يعلم له وارثاً سوى هؤلاء الورثة المعروفين فلان وفلان مثلاً فالمستفاد من شهادته الموت وحصر الورثة فقط لا نسبهم من الهالك بل هو معروف منه ومن غيره ، وأحرى إن كان مصب شهادته حصرهم فقط ولكونه لا بد من عدلين إذا كان له وارث ثابت النسب تواطأ شراح ( خ ) على اعتراض قوله في الاستحقاق وعدل يحلف معه ويرث ولا نسب تبعاً لاعتراض ابن عرفة وضيح قول ابن الحاجب وعدل يحلف معه ويشاركهما في الإرث ولا نسب بأنه خلاف المذهب من أنه لا يرث إلا بعدلين .
فإن قلت : هلا حملوا كلامهما على ما إذا لم يكن للميت وارث ثابت النسب ؟ فالجواب : أن ابن الحاجب لما فرض المسألة في الولدين وقريب منه كلام ( خ ) لزم قطعاً حصول الوارث المعروف ، وبهذا يزول ما يختلج في الصدر من معارضة ما اعترض به الشراح كلامه في الاستلحاق لما صرحوا به في الشهادات أن ما ليس بمال وهو آيل إلى المال يكفي فيه الشاهد واليمين ومثلوه بالموت أو سبقيته والنكاح بعد الموت . كذا قيل : والظاهر أنه معارض وإن كان هناك وارث معين لأن قاعدة ما ليس بمال ، ولكن يؤول إلى المال فيها خلاف هل يكفي فيها الشاهد واليمين بالنسبة للمال أم لا ؟ والمذهب أنه يكفي فيها ذلك وما يكفي الشاهد فيه مع اليمين يلزم فيه الإقرار وتتوجه فيه اليمين حسبما عقدوه ، ولذلك اقتصر ( خ ) وابن الحاجب وابن شاس في الاستلحاق على أنه يحلف مع العدل ويرث ليوافق ما في الشهادات ، ولا سيما أن ما اقتصروا عليه هو قول لابن القاسم كما في ابن عرفة قال ونحوه قولها في الولاء : إن أقرت البينتان لرجل بأنه أعتق أباهما وهما عدلتان حلف معهما وورث الثلث الباقي اه فما تبع ( خ ) ابن الحاجب مع اعتراضه عليه في ضيح إلا لرجحان هذا القول عنده لموافقته لما في الشهادات ولجري المسائل على وتيرة واحدة فتأمله والله أعلم . ثم إنما يكلف رب الدين بإثبات موت المدين وحصر ورثته فيها يظهر لو كان دينه حل بالموت وإلاَّ فيكفيه أن يثبت فقده أو غيبته وملكيته للمال الذي يريد أعداءه فيه على ما هو مبين في محله والله أعلم .
الرابع : قال في المدونة وإن شهد لصاحب الدين واحد من الورثة بدينه حلف معه إن كان عدلاً واستحق حقه فإن نكل أخذ من شاهده قدر ما ينوبه من الدين وإن كان سفيهاً لم تجز شهادته ولم يرجع عليه في حصته بشيء اه ونقله ( ح ) في الاستلحاق وأطلنا في المسألة لاغترار الناس بكلام ابن الفخار فضاعت بذلك أموال يعلمها الكبير المتعال إذ كثير من الناس لا يقوم إلا بعد طول الزمان أو يموت موروثه في بلد بعيد لا يعرفون أهله ولا ورثته اه .
الخامس : قال البرزلي : أوائل النكاح أجرة الموت وعدة الورثة على جميع الورثة على عدد رؤوسهم إن أقاموها كلهم ومن طلب نسخة منها فله ذلك بالقضاء بخلاف ما لو أقامها أحدهم ، حتى تم حقه فليس عليه أن يعطيهم نسخة منها إلا برضاه ونزلت بتونس وحكم بذلك ووقعت الفتيا به اه .
السادس : إن ادعى على عبد بما يوجب قصاصاً فيلزمه الجواب وإن ادعى عليه بما يوجب الأرش فيجيب السيد : وإن ادعى عليه بالمال وهو مأذون فهو كالحر وإن كان غير مأذون وقف إقراره على سيده ( خ ) : . ويجيب عن القصاص العبد ، وعن الأرش السيد ، وانظر إذا امتنع العبدمن الجواب فيما فيه قصاص هل يعد كإقراره فيقتص منه أم لا ؟ وهو الظاهر لخطر الدماء فلا تستباح بالشك .
وَالْكَتْبُ يَقْتَضِي علَيهِ المُدَّعِي
منْ خَصْمِهِ الجَوَابَ تَوْقِيفاً دُعِي
( والكتب ) بفتح الكاف أي المكتوب من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالنسج بمعنى المنسوج مبتدأ ( يقتضي ) يطلب ( عليه المدعي ) فاعل ( من خصمه ) يتعلق بقوله يقتضي ( الجواب ) مفعوله والجملة حال من المبتدأ على قلة لا صفة ( توقيفاً ) مفعول ثان بقوله : ( دعي ) أي سمي ومفعوله الأول هو النائب العائد على المبتدأ والجملة خبر ، والمعنى أن المكتوب يطلب المدعي من خصمه الجواب عليه يسمى في اصطلاح الموثقين توقيفاً لكون الطالب يوقف المطلوب على الجواب عنه كما يسمى أيضاً مقالاً وصفته قال فلان أو ادعى أن له قبل فلان كذا من سكة كذا إن اختلفت السكك من ثمن كذا اشتراه منه وقبضه وبقي الثمن في ذمته حتى الآن ، وإن كان من سلف قلت قبضه منه منذ كذا وإن كانت الدعوى في دار أو أرض قلت : إن على ملكه داراً بمدينة كذا حدودها كذا وإن فلاناً يتعدى عليه فيها أو وضع يده عليها ويريد منه أن يمكنه من جميع ذلك ثم تقول : حضر فلان المدعى عليه وقرىء عليه المقال وبعد فهمه أجاب بالإقرار في جميع المذكور أو ببعضه وهو كذا أو بالإنكار للجميع أو للبعض وهو كذا ، ثم تقيد الإشهاد وتؤرخ وإن كان الإقرار بمجلس الحكم قلت أقر فلان لمنازعه فلان بمجلس الحكم الشرعي بأن له قبله كذا من وجه كذا حالة أو مؤجلة ليسقط الإعذار بشاهدي المجلس إن أدياها فيه كما يأتي . وقولنا : إن اختلفت احترازاً مما إذا لم تختلف فإنه يقضيه من أي السكك شاء لأن من باع سلعة وسكك البلد متعددة متحدة الرواج ولم يبين فإن البيع صحيح ويقضيه من أيها شاء ، وإن اختلفت رواجاً فسد ويرد مع القيام ويقضى فيه بالقيمة من غالب السكك مع الفوات كما يأتي . وقولنا : قبضه احترازاً مما إذا لم يقل ذلك فإن المطلوب لا يجبر على الجواب لأن الجبر لا يجب إلا بحيث لو امتنع من الإقرار والإنكار قضى عليه بالحق كما مرّ وهو لا يقضى عليه في هذه الحالة إذا امتنع منهما لإمكان عدم القبض فلا يلزمه الثمن ( خ ) : وفي قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما إلا لعرف الخ بل لو أقام المدعي بينة تشهد أن له بذمة المطلوب مائة من ثمن سلعة اشتراها منه فإن شهادتهما ساقطة حتى يقولا وقبض السلعة قاله ابن عبد الملك ونقله في التبصرة وغيرها مسلماً قال : وكذا إن شهد أنه خاط لفلان ثوباً لم تجز حتى يقولا ورد الثوب مخيطاً وكذا سائر الصناع اه . وكذا أيضاً يقال في السلف لأنه يلزم بالقول فإذا لم يقل وقبضه فلا تصح دعواه لإمكان أن لا يكون قبضه فلا يلزمه رده ولو شهدت البينة بذلك ولمتنص على القبض ، فإن المطلوب لا يجبر لإمكان أن لا يكون قد قبضه فلا يلزمه رده ولو شهدت البينة بذلك ولم تنص على القبض لم تقبل أيضاً ( خ ) : وملك أي بالقول ولم يلزم رده إلا بشرط أو عادة الخ . وقولنا : وبقي الثمن في ذمته الخ . احترازاً مما إذا لم يقل ذلك فإنه لا يجبر لإمكان أن يكون قد قضاه ، ولو أقام شاهداً بذلك لم تتم شهادته حتى يقول : لا يعلم براءته من الثمن المذكور إلى الآن قال في شهادات المعيار ما نصه : شهادة الشاهد بحق غير عاملة حتى يذكر في شهادته انتفاء علمه بالمبطل لها . وانظر ما يأتي في أول خطاب القضاة . وقولنا في السلف منذ كذا ليعلم هل مضى من المدة ما ينتفع مثله بالسلف فيها عند الشرط فيلزمه الرد أم لا كما مر في قول ( خ ) : ولم يلزمه رده الخ وقولنا : حدودها كذا الخ ليتعين المدعى فيه إذ الدعوى لا بد أن تكون بمعين أو بما في ذمة معين كما مرّ وتعيين الأرض ونحوها بذكر حدودها ، ولو سقط ذلك من لفظه لم يجبر المطلوب على جوابه ولو سقط ذلك من الشهادة لم يقض بها إلا إن شهد بالحدود غيرهم كما يأتي في قوله : وجاز أن يثبت ملكاً شهدا . وبالحيازة سواهم شهدا الخ . ثم المدعي تارة يستظهر بالرسم من أول الأمر لكون ما يدعيه ثابتاً عنده ، وتارة لا يكون ثابتاً عنده في الحال فيقيد حينئذ المقال لأن فائدته كما في الوثائق المجموعة أن المدعى عليه قد يقر فيستغني المدعي عن إثبات دعواه وكل من الرسم والمقال إما أن يكون بيناً في نفسه فيكلف المطلوب بالجواب عليه في الحين كما قال :
وما يَكونُ بَيِّناً إنْ لَمْ يُجِبْ
علَيهِ في الحِينِ فالإجْبَارُ يَجِبْ ( وما ) أي المقال أو الرسم الذي ( يكون بيناً ) سهلاً لا يحتاج إلى تأمل وسواء كان الرسم استرعائياً وهو ما يصدر بيشهد من يضع اسمه الخ أم لا ( إن لم يجب ) المطلوب بضم الياء ( عليه ) أي الرسم أو المقال البينين ( في الحين فالإجبار ) بنقل حركة الهمزة إلى اللام للوزن مبتدأ وقوله : ( يجب ) خبر والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه خبر المبتدأ الذي هو الموصول والرابط بين الجملة الكبرى والموصول محذوف أي فالإجبار على الجواب عليه واجب ومحله ما لم يطلب المهلة في الرسم الاسترعائي وإلاَّ فلا يجبر في الحين ويمكن دخوله في قول الناظم في الفصل بعده والمدعي النسيان إن طال الزمن قال في التبصرة : ويجبر الخصم على الجواب فيما وقفه خصمه عليه في جميع الوثائق القليلة المعاني والفصول حاشا وثائق الاسترعاء فإنه لا يجبر على الجواب عنها في ذلك المجلس اه . ونحوه في ابن سلمون عن ابن سهل . نعم ذكروا أنه لا يجبر على الجواب عنها إلا بعد ثبوتها أي بالأداء والقبول كما في أواسط الشهادات من المعيار فقول ( ت ) ويكون في غير وثائق الاسترعاء غير ظاهر ، ومحله أيضاً ما لم يطلب التأخير لمقصد وإلاَّ ففي الإجبار قولان كما يأتي في البيت بعده ، وأما أن يكون كل من الرسم والمقال يحتوي على فصول يحتاج المجيب عنها إلى تفكر وتدبر فلا يكلف المطلوب بالجواب عنها في الحين ، بل يقيد المقال على المدعي وحده ، ويأخذ المطلوب نسخة منه أو من الرسم استرعائياً أم لا ليتأمل ذلك فيجيب عنه كما قال :وكلُّ ما افْتَقَرَ لِلَّتأَمُّلِ
فالْحُكْمُ نَسْخُهُ وَضَرْبُ الأجَلِ
( وكل ما افتقر ) من المقالات والرسوم ( للتأمل ) كحدود العقار ونحو ذلك ( فالحكم ) مبتدأ ( نسخه ) للمطلوب خبره ( وضرب الأجل ) عليه والجملة خبر كل وما موصول مضاف إليه وافتقر صلته والأجل في مثل هذا بالاجتهاد . قال ابن الهندي : إن كانت الوثيقة مختصرة تفهم معانيها بمجرد سماعها لم يعط المطلوب نسختها ، وإن كانت طويلة كثيرة المعاني تحتاج إلى التثبت أعطي نسختها ابن عرفة ، وقيل : يعطى نسختها مطلقاً وعلى الأول العمل ابن رحال : العمل عندنا على إعطائها مطلقاً .
وطَالِبُ التَّأْخِيرِ فِيما سَهُلاَ
لِمَقْصِدِ يُمْنِعُهُ وَقِيلَ لاَ
( وطالب التأخير ) والمهلة في الجواب مبتدأ ( فيما سهلا ) فهمه من رسم أو مقال فإن كان لغير غرض فالحكم أنه يجبر ولا يؤخر وإن كان ( لمقصد ) وغرض كتوكيله من يجيب عنه فقولان قيل : ( يمنعه ) بضم الياء مبنياً للمفعول وضميره المستتر النائب يعود على المبتدأ الذي هو طالب وهو الرابط بين المبتدأ وخبره ، والجملة والضمير البارز هو المفعول الثاني يعود على التأخير ولمقصد يتعلق بطالب وفيما يتعلق بالتأخير وجملة قوله ( وقيل لا ) يمنعه معطوفة على الجملة قبلها والمنفي بلا محذوف كما قررنا ، وصحح ابن سهل وابن الناظم الأول . ابن سلمون والمتيطي : وبه العمل واقتصر عليه صاحب اللامية ، وصحح ابن الهندي الثاني انظر ( ح ) .
فرعان . الأول : فإن قال الوكيل : لا أجاوب حتى أشاور موكلي فإنه يجبر ولا يمهل ، وما أقرّ به لازم لموكله إن كان من معنى الخصومة التي وكل عليها .الثاني : من ادعى على رجل أن بيده رسماً له فيه حق وطالبه بإخراجه لينظر فيه ما ينفعه فإنه يلزمه إخراجه قاله في أقضية المعيار عن المازري ، وكرره في نوازل الدعاوى عن ابن أبي زيد ، ونحوه لابن فرحون عن ابن سهل في الفصل الثالث في تقسيم المدعى عليهم ، وبه يبطل ما أفتى به ابن سودة وأبو محمد عبد القادر الفاسي من أنه لا يلزمه ذلك محتجين بأنه لو مكن الناس من هذا لفتح عليهم باب يعسر سده الخ . لأنه مصادم للمعقول والمنقول لأنهما احتاطا للمطلوب وأخلاَّ بحق الطالب من غير موجب ولا دليل ، وقد تكون بينهما معاملة أو شركة أو وراثة ونحو ذلك ، ولذا ضعف ابن رحال فتواهما . ولما كان تقييد المقال موكولاً إلى اختيار الطالب ، لكن ربما يجب في بعض الأحيان نبه على المحل الذي يجب عليه التقييد فيه فقال :
ويُوجِبُ التّقْيِيدَ لِلْمَقَالِ
تَشَعُّبُ الدَّعْوىوعُظْمُ المالِ
( ويوجب ) مضارع أوجب مبني للفاعل ( التقييد ) مفعوله ( للمقال ) يتعلق به ( تشعب الدعوى ) فاعل يوجب أي تفرقها وكثرة فروعها ( و ) مع ( عظم المال ) بضم العين أي كثرته فهو مما يؤكد الوجوب المذكور ، فالكلام الأول من حيث الإجبار والنسخ مع الإمهال والكلام هنا من حيث وجوب التقييد وعدمه فلا تكرار ثم علل الوجوب بقوله :
لأنَّهُ أضْبَطُ لِلأَحْكَامِ
وَلانحِصارِ ناشِىءِ الخِصامِ
( لأنه ) أي التقييد ( أضبط للأحكام ) فينحصر ذهن القاضي والمطلوب للنظر ( ولانحصار ) معطوف على المصدر المنسبك من أن ومدخولها لا على قوله للأحكام خلافاً لمن وهم أي لضبطه للأحكام ولانحصار الدعوى ( ناشىء الخصام ) وهو المدعي فلا يقدر على زيادة شيء فيها ولا على الانتقال عنها إلى غيرها فيفهم منه أن فائدته هو انحصاره وأنه إن زاد أو انتقل بطلت دعواه وهو كذلك وتدل له مسائل وقعت في المذهب متفرقة منها ما هو على العموم ومنها ما هو على الخصوص فمن الأول ما يأتي في الفصل بعد هذا أن من اختلف قوله واضطرب مقاله سقطت دعواه وبينته ، ومنها ما في المعيار عن العبدوسي من تناقض كلامه فلا حجة له ، ومنها ما نقله بعضهم عن ابن يونس عن أشهب أن من اختلفت دعواه بأمر بين فلا شيء له هذا قول مالك اه . ومنها : ما نقل المازري عن ضيح أن الدعوى على شخص إبراء لغيره ، ومنها ما نقل عن ابن عرضون أن من أعطى نسخة من الرسم فأبطلت فاستظهر بآخر أن الرسم الثاني مستراب لأنه انتقال من دعوى لأخرى . قال : ولو أبيح الانتقال ما انقطعت حجة المدين اه . ومثله لسيدي أحمد البعل حسبما في أوائل نوازل العلمي وأواسط الشهادات منه .
قلت : وفي عد مجرد الاستظهار بالرسم الثاني انتقالاً مع عدم اشتماله على زيادة على الأول نظر لا يخفى إذ لا يلزمه أن يقوم بجميع شهود الحق ، لكن إذا قام بعدلين منهم فبطلتشهادتهما لاختلال فصولهما أو لتجريحهما كان له القيام بغيرهما وأحرى لو كان لم يعلم بشهادة من قام به ثانياً أو نسيه ( خ ) فإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر كنسيان لكن يمكن الجواب عنهما بأنه لا يكون انتقالاً إلا إذا كانت الثانية مشتملة على زيادة أو نقصان ، وإلاَّ فليس ذلك انتقالاً لأخرى . نعم ذكروا أن من خاصم في حق وادعى أن بينته بعيدة الغيبة وأراد تحليف المطلوب مع بقائه على حجته لا يمكن من تحليفه إلا إذا سمى بينته الغائبة وحلف على صحة ما يدعيه من غيبتها ، فهذا إذا حلف المطلوب بعد حلفه هو على ما ذكر لا قيام له بغير الذي سمى وإن لم يعلم به ، ومن الثاني ما في المعيار عن عياض أن من ادعى الإرث ثم الشراء سقطت دعواه . ومنها ما في باب القضاء من المعين فيمن ادعى في دار أنها وراثة من آبائه ، فلما أثبت غيره الملكية أقام هو بينة بالشراء منه . ومنها مسائل مضمن الإقرار المذكورة في القضاء والوكالات والوديعة وستأتي عند قول الناظم : ومنكر للخصم ما ادعاه . ومنها : ما نقله القلشاني وغيره فيما إذا أقسم الأولياء على واحد من جماعة ، ثم بدا لهم وأرادوا أن يقسموا على غيره من تلك الجماعة فلا يمكنون كما يأتي عند قوله : وغير واحد بها لن يقبلا . ومنها : إن قال : قتلني فلان بل فلان ، ومنها : إذا سئل عن قاتله ، فقال : لا أعرفه ، ثم قال : فلان . ومنها : ما في نوازل الدعاوى من المعيار في مريض تصدق على أخيه فقبض الأخ الصدقة وحازها ثم مات المريض فرد على ورثته ما زاد على الثلث ، ثم تبين أن الصدقة في الصحة وأنها جائزة كلها . ومنها : من ادعى في ملك أنه من أوقاف فلان ثم ادعى أنه ملك لموروثه . أفتى ( ح ) بأنه لا حق له . ومنها : من ادعى في ملك أنه من متخلف أبيه فأثبت غيره أنه ملك لموروثه فادعى أنه أوصى له به . ومنها : من ادعى في دار أنها وراثة بينه وبين إخوته ثم ادعى أنه انفرد بها بوصية أو صدقة من الموروث . قال سحنون : لا تقبل دعواه ولا بينته . ذكر الثلاث الأخيرة ( ح ) في باب الإقرار ، وذكر عن القرافي أنه اعتمد في المسألة الأخيرة خلاف قول سحنون فقال في الفرق الثاني والعشرين بعد المائتين بين ما يقبل فيه الرجوع عن الإقرار وما لا يقبل ما نصه : ضابط ما لا يقبل الرجوع فيه أن يكون الرجوع لغير عذر عادي ، وضابط ما يقبل الرجوع فيه أن يكون هناك عذر عادي كأن يقر الوارث للورثة أن ما تركه أبوه ميراث بينهم ، ثم جاءه شهود أخبروه أو وجد رسماً بأن أباه كان تصدق عليه بهذه الدار في صغره وحازها فإنه إذا رجع وادعى أنه لم يكن عالماً بذلك فإنه تسمع دعواه وعذره ولا يكون إقراره السابق مكذباً لبينته اه .
قلت : ونزلت فأفتيت فيها بما للقرافي ويؤيده ما في البرزلي عن المازري فيمن اقتسم تركة موروثه مع الورثة ، ثم وجد بينة تشهد له ببعضها أنه يحلف ما علم ببينة إلى الآن ويستحق ونحوه في نوازل الزياتي فيمن سلم في شيء ظناً منه أنه لا يستحقه ثم تبين أنه يستحقه فإن التسليم لا يلزمه وأمثال هذا ما اتضح فيه العذر كثيرة انظر شرحنا للشامل في الرهن والإقرار والشهادات ، ثم ظاهر النظم وما تقدم أن الانتقال يبطل الدعوى حيث لم يتضح العذر سواء حصرها وأشهد أنه لا دعوى له غيرها أم لا ، وهو كذلك . وفي التبصرة وآخر الفصل السادس في سيرته مع الخصوم أن محل ذلك فيما إذا شهد أنه لا دعوى له سواها ونحوه في أقضية البرزلي عن ابن حارث قائلاً : ليس من ادعى دعوى يحجر عليه فيما سواها إن ادعى نسياناً إلا أن يكون في الكشف أي التقييد إقرار المدعي أن الذي كشف عنه هو آخر دعواه اه . ( بخ ) ونحوهفي أقضية المعيار عن فقهاء قرطبة فيمن وقف خصمه عند قاض على ذهب زعم أنه أنفقه بأمره على أهل داره ودوابه في مدة عينها على وجه السلف ، فأنكره المطلوب ثم قال بعد أن أنكر مرة ثانية : إنما أنفق على الدواب من ربح أحد وثلاثين مثقالاً كانت عنده قراضاً ، فلم يبطلوا دعواه . فانظر ذلك إن شئت وانظر ما يأتي عند قوله : وحل عقد شهر التأجيل الخ . .
وَحَيْثُما الأَمْرُ خَفِيفٌ بَيِّنُ
فالتَّرْكُ لِلتَّقَيِيدِ مِمَّا يحْسُنُ
( وحيثما ) ظرف مضمن معنى الشرط ( الأمر ) مبتدأ أي أمر الدعوى خبره ( خفيف ) سهل كلي عليه عشرة من سلف ( بين ) عطف بيان أو بدل أو خبر بعد خبر والأول أقرب ( فالترك ) مبتدأ ( للتقييد ) متعلق به ( مما يحسن ) خبره والجملة جواب الشرط والرابط الفاء ثم علل حسن ترك التقييد بقوله :
فَرُبَّ قَوْلٍ كان بالخِطابِ
أَقْرَبَ لِلْفَهْمِ مِنْ الكِتابِ
( فرب قول ) والفاء تعليلية ، ورب : حرف جر لا تتعلق بشيء قال ناظم المغني :
وقولنا لا بد من تعلق
يخرج منه ستة فحقق
أحدها الزائد من خالق
والثاني لولا في مقال صادق
وهكذا لعل فيمن جرّبه
وكاف تشبيه ورب فانتبه
( كان ) ناقصة واسمها ضمير القول ( بالخطاب ) يتعلق به ( أقرب ) خبر كان ( للفهم من الكتاب ) يتعلقان بأقرب وجملة كان صفة لقول . وفهم من قوله مما يحسن أنه يجوز التقييد وأن ما كان بين الخفة والتشعب يجوز فيه الأمران أيضاً لكن التقييد فيه أولى لأنه أقطع للنزاع .
فصل في بيان مقدار الآجالجمع أجل بفتح الألف والجيم وهو لغة مدة الشيء فيشمل وقت الموت وحلول الدين والمدة التي يضربها الحاكم مهلة لأحد المتداعيين ، أولهما : لما عسى أن يأتي به من حجة وهو المراد هنا .
ولاِجْتِهادِ الحاكِمِ الآجالُ
مَوْكُولَةٌ حَيْثُ لهَا اسْتِعْمَالُ
( ولاجتهاد الحاكم ) يتعلق بموكولة ( الآجال ) مبتدأ أي التي لا نص في قدرها من الشارعاحترازاً مما فيها نص كأجل المعترض سنة . وكذا المجنون والمجذوم وأجل المفقود أربع سنين ونصفها للعبد وأجل الحر المسلم في الإيلاء لا الكفار ، وإن تحاكموا إلينا فلا مانع من دخول الاجتهاد فيه قاله ( ت ) وتأمله فإنهم إذا تحاكموا إلينا فإنما يحكم بينهم بحكم الإسلام وأي اجتهاد يدخله حينئذ ، وإن لم يتحاكموا إلينا فلا نتعرض لهم على مذهبنا ومما لا يدخله أجل التعمير ونحو ذلك ( موكولة ) خبر ( خ ) : ومن استمهل لدفع بينة أمهل بالاجتهاد ( حيث ) يتعلق بموكولة ( لها استعمال ) مبتدأ وخبر والجملة في محل جر بإضافة حيث أي الآجال التي لا نص فيها حيث تستعمل موكولة في قدرها وجمعها وتفريقها إلى نظر الحاكم ففي كلامه حذف الصفة كما ترى بدليل ما يأتي في الإيلاء والمفقود وعيوب الزوجين وحذفها قليل ، ومنه قوله تعالى : إنه ليس من أهلك } ( هود : 46 ) أي الناجين الآن جئت بالحق } ( البقرة : 71 ) أي البين والأصل فيما ذكره الناظم قول الفاروق رضي الله عنه في رسالته المتقدمة واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي الخ . وصفته في الإثبات أجل قاضي حضرة كذا وهو أعزه الله فلان بن فلان في إثبات ما ادعاه في المقال أعلاه أو حوله أجلاً مبلغه كذا من غد تاريخه بعد أن أخذ من خصمه فلان حميلاً بوجهه شهد على إشهاد من ذكر دامت كرامته بما فيه عنه ، وعلى المؤجل بالتزامه حكم الأجل واعترافه بأن بينته في البلد أو على قرب منه ، وعلى الحميل بالحمالة على عين المتحمل عنه ورضاه من أشهدوه به وعرفهم بحال صحة وطوع وجواز ، وفي كذا فإن أثبت المدعي ذلك وأعذر للمطلوب قلت أجل قاضي كذا وهو أعزه الله فلان بن فلان في حل الرسم أعلاه أو حوله بعد أخذه نسخته ومعرفته بمن ثبت به الحق وقبوله أجلاً مبلغه كذا من غد تاريخه ، ثم تكمل العقد وتقيد اعترافه بأخذ النسخة ومعرفته بمن ثبت والتزامه الأجل كما مرّ ، فقولنا بعد أن أخذ حميلاً الخ . هذا على ما به العمل من أن الحميل بالوجه يجب بمجرد الدعوى فإن لم يجده فيسجن المطلوب بعد أن يحلف الطالب على صحة ما يدعي ووجود بينته كما يأتي في قول الناظم :
وضامن الوجه على من أنكرا
دعوى امرىء خشية أن لا يحضرا
وقولنا : شهد على إشهاد من ذكر الخ ، احترازاً مما إذا لم ينصوا على إشهاده بذلك فإن هذا التأجيل لا يبنى عليه من بعده إذا عزل هو أو مات ، لأن التأجيل حكم من أحكامه فلا يثبت إلابإشهاده كغيره من الأحكام قاله في النهاية أوائل النكاح ( خ ) ولم يشهد على حاكم قال : ثبت عندي إلا بإشهاده أي وليس للعدل أن يشهد عليه بما سمعه منه من غير أن يشهده لأن ذلك قد يصدر منه من غير عزم على الإشهاد به ، وترك البياض ليضع علامته فيه هو الصواب لأن كل ما أشهد به القاضي من إبرام حكم أو استقلال رسم أو صحته أو تأجيل ونحوه لا بد فيه من ذلك ، ولذا يفعلونه في التسجيل على رسم اللفيف ونحوه لئلا ينكر القاضي الإشهاد عليه بذلك ، وقد شهد شهود في وقتنا هذا على القاضي في قضية ولم يتركوا له بياضاً يضع علامته فيه بل كتب الكاتب أشهد القاضي فلان ابن فلان أنه حكم بكذا أو أجل فلاناً الخ . وبعد حين قيم بالشهادة فأنكرها وزجرهم وأدبهم ، وأيضاً فإن ذلك مفض للتزوير عليه إذ قد يشهد الشاهد عليه بإبرام حكم ويؤديها عليه وهو لا يشعر إذ كثير من القضاة اليوم لا يتصفحون الرسوم عند الأداء بل بمجرد قبضه للرسم يقول للعدل : هذه شهادتك ؟ فيقول له : نعم فيخاطب عليه بالأداء والقبول من غير قراءة للرسم ولا معرفة ما فيه ، وأحرى إن لم يؤدها عنده بل عند غيره بعد عزله أو موته والله أعلم . وقولنا : وعلى المتأجل الخ . زيادة تحصين وإلاَّ فالأجل لازم له وإن لم يلتزمه . وقولنا : واعترافه بأن بينته حاضرة الخ . احترازاً مما إذا سقط اعترافه بذلك من الرسم فإنه لا ينبني عليه حكم لأن المدعي قد يدعي بعد بينته وحينئذ فليس له إلا اليمين على المطلوب كما يأتي في قوله : وإن تكن بعيدة فالمدعي الخ . وكقول اللامية : كبينة غابت بقرب لمدع إلى قوله : وإن بعدت يحلف له الخ . . . وقولنا بعد اعترافه بأخذ النسخة الخ . . لئلا يجحد أخذها . وقولنا : ومعرفته بمن ثبت الخ . لئلا يدعي بعد انقضاء الأجل أنه لم يعرف الشاهد عليه ، فلم يتمكن من الطعن فيه فيسقط عنه الأجل فيهما . وقولنا : وقبوله لئلا يدعي أنه أعذر له في غير مقبول عنده إذ الإعذار لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط وتمام النظر كما في ابن سهل ومن جملتها الأداء والقبول ، وقولنا : من غد تاريخه لأن اليوم المكتوب فيه يلغى كما يأتي مع نظائره ، ثم محل كون الآجال موكولة للاجتهاد إنما هو بالنسبة لأهل الاجتهاد من قضاة العدل ، أما بالنسبة لمن ضعفت عدالته كقضاة الوقت فلا يخرج عما حدّ له كما يأتي آخر الفصل ، ولذا قال :
وَبِثَلاثَةِ مِنَ الأيَّامِ
أُجِّلَ في بَعْضٍ منَ الأَحْكامِ
( وبثلاثة ) يتعلق بقوله أجل ( من الأيام ) صفة له ( أجل في بعض ) يتعلق به أيضاً ( من الأحكام ) صفة لبعض ، وذكر منها خمسة فقال وذلك .
كَمِثْلِ إحْضَارِ الشَّفِيعِ لِلثَّمَنْ
والمُدِّعِي النِّسْيَانَ إنْ طالَ الزَّمَنْ
( كمثل إحضار الشفيع ) من إضافة المصدر لفاعله ( للثمن ) يتعلق بإحضار على أنه مفعوله ، والكاف في قوله : كمثل زائدة وهو خبر لمبتدأ محذوف كما ترى ، ومعناه أن الشفيع إذا قال : أناآخذ بشفعتي بالمضارع أو اسم الفاعل سواء قال المشتري سلمت لك أو سكت أو امتنع كما هو ظاهر إطلاق ابن رشد ، فإن الشفيع يؤجل لإحضار الثمن ثلاثة أيام فإن أحضره وإلاَّ سقطت شفعته لأن كلاًّ من المضارع واسم الفاعل محتمل للوعد وليس صريحاً في الأخذ ، فلا فرق حينئذ بين سكوت وامتناع وتسليم ، ويترجح الاحتمال المذكور في الجميع بعد إتيانه بالثمن فقوله : وإذا سكت أو امتنع لا يؤجل ثلاثاً يريد بالاجتهاد الخ . مخالف للإطلاق المذكور ومناف للتعليل ف الله أعلم بصحته قاله بعض قال : وهذا والله أعلم إذا لم يقل له المشتري لا أكتفي منك بهذا ، بل لا بد أن تقول أخذت أو تركت وإن كان له استعجاله بالتلفظ بأحد اللفظين اه فتأمله .
قلت : قوله : وهذا إذا لم يقل الخ . يؤيده ظاهر قول ابن المواز وغيره : إذا أوقفه الإمام فقال : أخروني اليومين والثلاثة أنه لا يؤخر ، ويقال له : إما خذ شفعتك الآن وإلا فلا شفعة لك اه . وأما إن قال : أخذت بالماضي ، فإما أن يسلم له المشتري أو يسكت أو يمتنع ، ففي الأول إن عرف الثمن لزمه ذلك ويباع عليه الشقص وغيره إن عجز عن أدائه ، ولا يبطل فيه البيع إلا برضاهما ما لم يشترط عليه إن أتاه بالثمن ، وإلا فلا شفعة فيعمل بشرطه كما في أبي الحسن ، وفي الثاني يؤجله الحاكم للثمن باجتهاده فإن لم يأت به فيخير المشتري في بيع الشقص وفي إسقاط شفعته ، وفي الثالث يؤجل فإن أتى به وإلاَّ سقطت ، وظاهر النظم أن التأجيل بالثلاث للثمن جار في الصور كلها إلا أنه تارة يباع عليه وتارة تسقط شفعته كما رأيت ، وإن كان في المدونة خصص التأجيل بالثلاث بما إذا زاد الأخذ وتبعها ( خ ) فقال : وإن قال أنا آخذ أجل ثلاثاً للنقد ولكن ظاهر التبصرة وغيرها كظاهر النظم ، بل في ابن سلمون ما هو كالصريح في ذلك لأنه ذكر بعد وثيقة الاستشفاع ما نصه : وإذا طلب أن يضرب له أجل بالثمن بعد أخذه بالشفعة أجّل ثلاثة أيام على ما به العمل اه باختصار . ونحوه في ضيح وهو ظاهر إذ الشفعة بيع والثمن قد تخلد في ذمته فيما إذا قال : أخذت وسلم المشتري أو سكت كما مرّ . وقد قال ابن رشد : إذا سأل الغريم الحاكم التأخير بالدين اليوم ونحوه فإن القضاة اليوم يؤخرونه الثلاثة الأيام وفي ( خ ) وإن وعد بالقضاء وسأل تأخيراً كاليوم أعطى حميلاً بالمال ، وعن العبدوسي فيمن اشترى سلعة أو دابة بالنقد فلما طلب به سأل التأخير قال : لا يؤخر به إلا الأمد اليسير الذي لا ضرر فيه على البائع كالثلاثة الأيام ونحوها إلا أن يثبت أنه لا ناض له فيحلف على ذلك ويؤجل حيئنذ في بيع ما هو أسرع بيعاً عليه بعد أن يعطي في جميع الوجوه حميلاً بالمال اه باختصار . وافهم قوله لإحضار الثمن أنه إذا طلب المهلة ليتروى ويستشير ولينظر للمشتري لا يؤخر وهو كذلك على المشهور ومذهب المدونة ( خ ) : واستعجل إن قصد ارتياء أو نظراً للمشتري إلا كساعة الخ . وظاهر قوله : كساعة الخ ، ولو كان المشفوع خارج البلد وهو كذلك كما في ابن عرفة ، ومقابل المشهور أنه يؤجل ثلاثة أيام ليستشير وينظر وهو قول مالك في مختصر ابن عبد الحكم ، وبه صدر ابن فرحون وابن سلمون واختاره اللخمي إن وقفه بفور الشراء أو بعد أيام ولم يعلم به ، وعليه درج الفاسي في عملياته كما درج على أنه يؤجل ثلاثة أيام ليستشير وينظر لإحضار الثمن إلى شهرين فقال :
وأجلوا ثلاثة الأيام
للآخذ بالشفعة للإتمام
وزيد في أجل إحضار الثمن
أكثر للشهرين إن ضاق الزمنوقال أصبغ : يؤجل للإحضار بحسب قلة المال وكثرته وأقصاه شهر ، واختاره ابن زرب وابن ناجي : وبه كنت أقضي وربما أزيد على الشهر . ( والمدعي ) معطوف على إحضار النسيان ( النسيان ) مفعوله وكمثل من ادعي عليه بمال أو غيره فادعى النسيان فيؤجل ثلاثة أيام ليتذكر فيقرأ وينكر ( إن طال الزمن ) الذي بين الواقعة والأداء فهو شرط في يؤجل المقدر ( تنبيه ) : قال ابن عرفة : إن قال من وجبت عليه يمين اضرب لي أجلاً أنظر في حسابي وأمري أنظر بقدر ما يراه ، وعليه عول ( ح ) فقال : ومن استمهل لدفع بينة أمهل بالاجتهاد إلى قوله كحساب بكفيل بالمال الخ . وفي الطرر عن الشعباني أن من توجهت عليه يمين وطلب التأجيل لينظر في محاسبة أجل اليومين والثلاثة ولا يزاد . ابن عرفة : وأما عكس هذا وهو أن يطلب المدعي تأخير حلف المدعى عليه ففي نوازل ابن الحاج ليس له ذلك إلا برضا المطلوب . ابن عرفة : وهو مقتضى قول ابن عات من وجبت له يمين على رجل فتغيب عن قبضها كلف القاضي من يقتضيها إذا ثبت عنده مغيبه ويشهد على ذلك اه . ابن رحال وفي الكافي : ومن سأل الحاكم النظرة في يمينه فله ذلك ما لم يتبين ضرره اه . قال : فالسائل للتأخير في كلامه هو الطالب لليمين لا المطلوب بها اه .
والمُدَّعِي أنَّ لَهُ ما يَدْفَعُ
بِهِ يَمِيناً أمْرُها مُسْتَبْشَعُ
( والمدعي ) معطوف على إحضار أيضاً ( أن له ) خبر مقدم ( ما ) موصولة أو نكرة موصوفة اسم أن والجملة من قوله ( يدفع ) صلة أو صفة والرابط الضمير في ( به يميناً ) مفعول بقوله يدفع ( أمرها مستبشع ) جملة من مبتدأ وخبر صفة ليمين ، والجملة من أن وما دخلت عليه مقدرة بمصدر مفعول بقوله المدعي أي وكالذي ادعى عند توجه اليمين عليه وجود مدفع يدفع به الخ ، فيؤجل للإتيان بما ذكر ، والبشع الطعام الكريه فيه جفوف ومرارة ووصف اليمين بذلك لأنها مستكرهة للنفوس سواء قلنا بجواز الصلح عنها في دعوى تحقق بطلانها كما يأتي أم لا .
وَمُثْبِتٌ ديْناً لمدْيانٍ وفي
إخْلاءِ ما كالرّبعِ ذلِكَ اقْتَفِي
( ومثبت ) بفتح الباء معطوف على أن وما دخلت عليه فهو من إطلاق المفعول وإرادة المصدر كمسند بمعنى إسناد وكمحلوف بمعنى حلف أي : وكالذي ادعى أن يثبت ديناً أي إثباته لديان أو عليه ويجوز قراءته بكسرها عطفاً على إحضار أي وكمدّع مثبت أي يثبت أي يريد أن يثبت فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ( ديناً ) مفعول به على كلا الإعرابين ( لمديان ) يتعلق بمحذوف صفة أي كائناً لمديان زعم أنه لا شيء له فيريد المدعي أن يثبت أن له ديناً على آخر ، فاللام على بابها أو بمعنى على فتكون لإثبات الدين على المنكر ( وفي إخلاء ) يتعلق باقتفى ( ما ) مضاف إليه( كالربع ) صلته ( ذلك ) التأجيل المفهوم من أجل بثلاثة أيام مبتدأ ( اقتفي ) اتبع خبره أي من استحق من يده ربع بعدلين ولم يبق له إلا الإعذار وطلب المستحق توقيفه بإخلائه كما يأتي في قوله : ووقف ما كالدور غلق الخ . فإن الحائز يؤجل لإخلائه بما ذكر .
وشَرْطُه ثبوتُ الاسْتِحقاقِ
برسمٍ الإعذارُ فيه باقِي
( وشرطه ) أي التأجيل للإخلاء مبتدأ ( ثبوت الاستحقاق ) خبره ( برسم ) يتعلق بثبوت ( الإعذار فيه باقي ) جملة من مبتدأ وخبر صفة لرسم أي لم يبق فيه إلا الإعذار لثبوته بعدلين كما قررنا ، فهذه خمسة فروع التأجيل فيها بثلاثة ويزاد عليها غيرها مما يشبهها كما مرّ فيمن اشترى سلعة بالنقد أو وعد بالقضاء ونحو ذلك والله أعلم .
وفي سِوَى أصْلٍ لهُ ثمانيَهْ
ونصْفُها لستةٍ مُوَالِيَهْ
( وفي سوى أصل ) يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في ( له ثمانية ) مبتدأ أي ثمانية أيام ثابتة في إثبات سوى الأصول مما عدا ما مر ( ونصفها ) وهو أربعة مبتدأ ( لستة ) يتعلق بالخبر الذي هو ( مواليه ) أي تابعة للستة التي تلي الثمانية فيؤجل أولاً ثمانية ثم ستة ثم أربعة .
ثم ثَلاَثَةٌ لِذاك تَتْبَعُ
تلوُّماً وأصْلُهُ تَمَتَّعْوا
( ثم ثلاثة ) مبتدأ ( لذاك ) التأجيل بالأربع ( تتبع ) بفتح التاء مضارع تبع خبر ولذاك يتعلق به ( تلوماً ) حال من الضمير في تتبع أو مفعول لأجله والتلوم الأجل الأخير ( وأصله ) أي التلوم بالثلاث مبتدأ ( تمتعوا ) خبر قصد لفظه أي قوله تعالى : فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } ( هود : 56 ) فمجموع الأجل في سوى الأصل أحد وعشرون يوماً كما ترى . واعلم أنه يجب على القاضي أن يوقفه عند انقضاء كل أجل فإن أتى بشيء وإلاَّ كتب تحته وأجله قاضي كذا وهو وفقه الله أجلاً ثانياً بعد أن حضر عنده المتأجل المذكور وأعلمه بانصرام أجله فادعى أنه لم يأت بشيء بمحضر من يوقع اسمه أثره ممن حضر لذلك وأشهده القاضي المذكور إلى آخر الإشهاد كما مرّ . قال في النهاية : وكان بعض القضاة يكتفي بإحضاره في ابتداء التأجيل ولا يحضره في الثاني والثالث ، بل إذا انقضى الأول كتب تحته أجلاً ثانياً من غير حضور المتأجل ولا سؤاله فإذا انصرفت الآجال والتلوم أحضره حينئذ ، فإن أحضر إليه شيئاً وإلا عجزه . وقال : إنما يلزمني إحضاره في التأجيل الأول ، فإذا عرف أني أجلته لم يلزمني إحضاره بعد ذلك في سائرالتأجيلات كما لو جمعتها عليه قال : وليس هذا بتمام لأنه إذا لم يحضره ربما ادعى أنه لم يؤجل غير الأجل الأول اه . باختصار وبعضه بالمعنى .
تنبيهات . الأول : إذا تم الأجل الأول فلا تكتب الثاني في اليوم الذي يتم فيه الأول لأنه لا يتم إلا بانقضائه ، بل اكتبه في اليوم الذي بعده ثم لا تحسب بذلك اليوم الذي كتبت فيه كما مرّ قاله ابن مالك القرطبي .
الثاني : لا يؤجل في قوله : سوى أصل تأجيل العبيد للإتيان بشاهد ثان على حريته بل يؤجل الشهرين والثلاثة ، ولا سيما إن ادعى غيبته كما في التبصرة ، وكذا من شهد عليه بما يقتضي القتل من زندقة ونحوها فادعى أن بينه وبين القاضي عداوة تمنع حكمه فإنه يؤجل لإثباتها شهرين اتفق عليه أهل قرطبة .
الثالث : إذا انقضت الآجال ولم يأت بشيء وأراد التسجيل عليه فأظهر وثيقة أو بينة وأراد إثباتهما فقيل يضرب له بعد ذلك أجلاً قاطعاً فإن أثبت وإلاَّ سجل عليه وقيل يسجل عليه ولا يؤجل . وقال ابن حارث : الصواب عدم التسجيل عليه وبعده بالإشهاد عليه ليوم بعينه ، فإن أثبت وإلا سجل عليه وقيل : ذلك مصروف لاجتهاد القاضي فإن رأى له في ذلك منفعة أجله بالاجتهاد وإلاَّ سجل عليه . ذكر ذلك في اختصار البرزلي . ونقل ذلك أيضاً في أقضية المعيار . قلت : ولعله خلاف في حال وأن من قال لا يؤجل رآه ملداً كما يأتي عند قوله : ومثله حائز ملك سكنه . ثم قال البرزلي بعد ذلك : ومن ثبت عليه أنه غاصب لدار مثلاً فضربت له الآجال وانصرمت فقال بعد ذلك : لا حق لي فيها وهي لأخي فقيل : يسجل عليه ولا يعذر للأخ ، وعن ابن زرب : إن ألفيت الأملاك بيد أحد من سبب الأخ فيعذر فيه للأخ وإلاَّ سجل عليه بما ثبت .
الرابع : إذا أجله الحاكم الأجل الأول مثلاً ثم تغيب حتى مضى مقدار الأجل الثاني والثالث فقد ذكروا في أوائل الأنكحة من المتيطية في ذلك خلافاً . وقال أبو الحسن على قولها : من اشترى شيئاً بالخيار ولم يضرب له أجلاً جاز وجعل له من الأمد ما ينبغي في مثل تلك السنة ما نصه قال الشيوخ : معناه إذا عثر عليه قبل مضي أمد الخيار ، وأما إن لم يعثر عليه حتى مضى القدر الذي يضرب لتلك السلعة فإن الإمام يوقفه فإما أن يختار أو يرد . انظر هل يقوم من هنا أن الخصم إذا تغيب مقدار ما يؤجله الحاكم ثم ظهر فإنه يوقفه ولا يؤجله وأخذه من هنا بين . قال الفقيه : وأما أنا فأحتاط وأستأنف له ضرب الأجل ، ولكن يختلف ذلك باختلاف الخصوم فرب خصم يظهر منه أن ذلك لدد فلا يؤجل له اه .
وفي الأُصُول وفي الإرْث الْمُعْتَبَرْ
مِنْ عَددِ الأيَّامِ خَمْسَةَ عَشَرْ
( وفي ) إثبات ( الأصول وفي ) إثبات ( الإرث ) والمجروران يتعلقان بالمبتدأ الذي هو ( المعتبر ) وكذا ( من عدد الأيام ) أي المعتبر في التأجيل وهو المعبر عنه بعدد الأيام في إثبات الأصول منإرث أو غيره ، وفي إثبات الإرث من غير الأصول ( خمسة عشر ) أولاً خبر المبتدأ .
ثمَّ تَلِي أربعةٌ تُسْتَقْدَمُ
بضِعْفِها ثُم يَلي التَّلوُّمُ
( ثم تلي ) الخمسة عشر ( أربعة ) فاعل تلي والجملة معطوفة ( تستقدم بضعفها ) وهو ثمانية .
والجملة صفة لأربعة أي يؤجل خمسة عشر أولاً ثم ثمانية ثم أربعة ( ثم يلي ) الأربعة التي بعد الثمانية ( التلوم ) بثلاثة فاعل يلي والجملة معطوفة أيضاً فالمجموع شهر كامل ، وهذا مع حضور البينة في البلد أو بقربه فإن بعدت غيبتها فهو قوله .
وفي أصولِ إرْثٍ أو سِوَاهُ
ثَلاَثَةُ الأشْهُرِ مُنْتَهَاهُ
( وفي ) إثبات ( أصول إرث أو سواه ) أي الإرث ( ثلاثة الأشهر ) خبر مقدم ( منتهاه ) مبتدأ وضميره للتأجيل والمجرور يتعلق به أي منتهى الأجل في أصول الإرث أو غيره ثلاثة أشهر .
لَكِنْ مَعَ ادِّعاءِ بُعْدِ البَيِّنَهْ
وَمثْلُهُ حائزُ مِلكٍ سَكَنهْ
( لكن ) محل التأجيل بذلك ( مع ادعاء بعد البينة ) فالظرف خبر للمبتدأ المقدر بعد لكن الاستدراكية ثم لا يوقف الأصل المذكور ولا يحال بينه وبين صاحبه بمجرد هذه الدعوى كما يأتي في الإيقاف والبعد كالعراق من المدينة . وكلام الناظم إنما هو إذا سأل المطلوب من الحاكم أن يقطع عنه شغب الطالب ، وإلاَّ فلا حاجة للتأجيل المذكور ، بل يقول للطالب اثبت دعواك فإن أراد الطالب تحليف المطلوب مع بقائه على حجته فلا بد من تسمية الشهود كما مرّ ، ويأتي أيضاً عند قول الناظم وإن تكن بعيدة الخ ( ومثله ) خبر عن قوله ( حائز ملك ) وقوله ( سكنه ) جملة فعلية صفة لملك .
معْ حُجَّةٍ قَوِيَّةٍ لَهُ مَتَى
أثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مَنْ أثْبَتَا
( مع ) ادعاء ( حجة قوية له ) أي للحائز والظرف في محل نصب على الحال أي الحائز للملكبالسكنى مثلاً يطلب المهلة مع ادعاء حجة قوية مماثل لما قبله في التأجيل المذكور ( متى أثبته ) أي الملك الذي بيده ( لنفسه من ) موصولة فاعل أثبته ( أثبتا ) صلته والعائد محذوف والجملة شرط في الحكم الذي هو المماثلة والجواب محذوف لتقدم ما يدل عليه كقوله : أنت ظالم إن فعلت ، والتقدير والحائز الطالب للمهلة مع ادعاء الحجة مماثل لما قبله في التأجيل إن أثبت الملك الذي بيده لنفسه القائم الذي أثبته أي الذي كان يريد إثباته فهو على حذف الكون والإرادة . وحاصل معناه أن الحائز لشيء إذا نوزع فيه وادعى أن له حجة تقطع حجة القائم فإنه يؤجل لإثباتها بثلاثة أشهر ، وأسهل من هذا البيت لو قال إثر قوله سكنه ما نصه :
يدع حجة تعارض التي
أثبت قائم بغير علة
وبغير علة حال أي أثبتها حال كونها بغيرعلة توهنها . قال في العتبية : فإذا انقضت الثلاثة ولم يثبتها وادعى غيبة شهوده وتفرقهم وسأل الزيادة في الأجل فإن كان مأموناً لا يتهم بباطل زيد له فيه وإن كان ملداً يريد الإضرار بخصمه لم يزد له إلا أن يذكر أمداً يقارب شأنه ولم يعلم كذبه في مثله اه . فقوله : ومثله حائز الخ أي يؤجل بذلك ولو لم يدع بعد بينته فهو مشبه فيه بدون قيده كما هو ظاهر المتيطية والتبصرة ، وفي الأقضية من أجوبة ابن رشد فيمن أجل أجلاً بعد أجل ثم تلوم له فاستظهر برسم فيه ابتياع أبيه من القائم عقد ببياسة وهي لا حاكم بها تثبت عنده الحقوق ويخاطب بها قال : الواجب أن يوسع عليه في الأجل فإن طال الأمر ولم يقدم ببياسة حاكم كتب القاضي الذي يتخاصمون عنده إلى رجل ثقة عدل مرضي من أهل بياسة فيشهد عنده الشهود ويخاطبه بذلك ، فإذا ورد عليه جوابه بشهادة الشهود عنده وقبوله لهم ثبت العقد بذلك وقضى به اه . وهو يؤيد ما مر في التنبيه الثالث .
وَبيْعُ مِلْكٍ لِقَضَاءِ دَيْنِ
قَدْ أَجَّلُوا فِيهِ إلى شهْرَيْنِ
( وبيع ملك ) دار أو غيرها مبتدأ ( لقضاء دين ) على ربها الغائب أو الحاضر وهو يتعلق ببيع ( قد أجلوا فيه ) أي في تسويفه للبيع من شهر ( إلى شهرين ) يتعلق بأجلوا . والجملة خبر المبتدأ ( خ ) وعجل بيع الحيوان واستؤني بعقاره كالشهرين ، ثم إذا انقضى الشهران فإنه يباع عليه ولو لم يبلغ القيمة لأنه غاية المقدور كما لابن محرز ، وكذا بيع ربع اليتيم للنفقة عليه ، وإذا بيع عليه وأثبت أن في البيع غبناً فلا يسمع لأن مثل هذا البيع لا يتصور فيه الغبن كما يأتي في فصلي الغبن والبيع على الغائب إن شاء الله .
وحلُّ عَقْدٍ شَهْرٌ التَّأجِيلُ
فِيهِ وذا عِنْدَهُمُ المقْبُولُ( وحل عقد ) مبتدأ ( شهر ) خبر عن قوله ( التأجيل فيه ) والجملة خبر المبتدأ ( وذا ) مبتدأ ( عندهم ) يتعلق بالخبر الذي هو ( المقبول ) ومقابله يؤجل بشهرين وحل العقود كما قال ولد الناظم أول الشهادات من شرحه ونقله في شهادات المعيار أيضاً : يكون بأشياء إما بظهور تناقض على السواء في الاسترعاء أو بظهور تناقض من المشهد أو من في حكمه في الأصل كاختلاف قول أو اضطراب مقال أو بمضادة قوله لنص ما شهدوا له به ، وإما بتجريح شهوده وإما بثبوت استرعاء أو إقرار على صفة بعداوة بين الشهود وبين المحكوم عليه في غير ذات الله يثبت اتصالها من قبل تاريخ أداء الشهادة المدفوع فيها بالعداوة إلى تاريخ شهادة العارفين بالعداوة المذكورة ، وإما بثبوت استرعاء معروف السبب فيما انعقد بعوض أو غير معروف السبب فيما انعقد بغير عوض ، وإما بظهور استحالة في متون الرسوم اه .
قلت : تقدمت أمور من الاضطراب عند قوله : ولانحصار ناشىء الخصام الخ . فمثال تناقض الاسترعاء أن يشهدوا بملكية فرس مثلاً لشخص وأنه من ماله ، وأنه من نتاج كسبه لا يعلمون باعه ولا وهبه ولا خرج عن ملكه منذ تملكه بالشراء الصحيح من فلان الخ . فعجز الوثيقة يناقض صدرها والاسترعاء هي الشهادة التي يمليها الشاهد من حفظه ويسندها إلى علمه كتعديل أو تجريح أو تصرف في ملك أو معاوينة غصب أو سرقة ونحو ذلك وتصدر بفي علم شهيديه أو بفعل وما في معناه مصرحاً به أو محذوفاً للاختصار فالمصرح به كقوله يشهد أو يعلم من يضع اسمه أو من يتسمى أثره ، ونحو ذلك والمحذوف كقوله : حضر من يوقع اسمه اغتصاب فلان لفلانة ونحوه ، فإن تقديره يشهد من يتسمى بعد هذا أنهم حضروا كذا ووسطه أوصاف ما تحمل معلوماً عند الشاهد وعجزه فعل لا غير كقوله : شهد بما في الرسم من حضر لذلك أو عاينه ونحو ذلك . وقوله : أو بظهور تناقض من المشهد ومن في حكمه أي المشهد بضم الميم وكسر الهاء وهو من يشهد الشهود على عقد عقده أو دين التزمه أو اعترف به ونحو ذلك ، والذي في حكمه هو وكيله أو وارثه أو غريمه والأصل هو ما يمليه العاقد إن على الشهود من بيع أو هبة أو صداق أو كراء ، ونحو ذلك وصدره فعل وافعل وافتعل كوهب وشفع أو أصدق أو أنكح أو اشترى أو اكترى ونحو ذلك ووسطه أوصاف ما أشهد به المشهد من الوجوه التي التزمها وعجزه شهد على إشهاد الواهب أو المتبايعين ونحو ذلك . وبالجملة ، فكل فعل في الصدر والإعجاز كان مضافاً إلى الشاهد فهو استرعاء وكل فعل في الصدر والإعجاز كان مضافاً إلىالمشهد ، ومن في حكمه ، فهو أصل . ومثال تناقضه أن يشهدهم أن الدار الفلانية مثلاً ورثها عن أبيه ولا زال يتصرف فيها منذ تملكها بالهبة أو الشراء من فلان الخ . أو يشهدهم أنه حبسها على أولاده وأعقابهم حبساً مؤبداً تكون مالهم وملكهم ونحو ذلك ، وكأن يكون صدر الرسم استرعائياً وعجزه أصلياً مثل أن يقول : يشهد من يضع اسمه بأن فلاناً غصب جميع كذا من فلان في وقت كذا شهد على إشهاد الغاصب بالغصب المذكور ، وكذا العكس . ولذا قال الشارح : يجب الاهتمام بصيغ الألفاظ لتكون متفقة في الصدر والإعجاز لئلا يلتبس حكم كل منهما أي من الأصل والاسترعاء بحكم الآخر فيفضي إلى اختلاف المعنى اه . وقوله : كاختلاف قول الخ . مثال على اللف والنشر المرتب أي كاختلاف قول الشاهد في الاسترعاء واضطراب مقال المشهد في الأصل كما قررنا والضمير المجرور بالقول في قوله أو بمضادة قوله الخ . يعود على المشهود له الذي هو صاحب الحق المفهوم من السياق لا على المشهد السابق لفساد المعنى لأن المشهد هو المحكوم عليه فهو مشهود عليه لا له ، ومثاله أن يشهدا له بالملكية للفرس مثلاً وأنه من نتاج كسبه فيعترف هو أنه تملكه بالشراء ، ومن هذا ما في معاوضات المعيار عن سيدي مصباح فيمن اشترى أرضاً فسئل عن ثمنها فقال كذا ، فلما أقام البينة بابتياعه شهدت بأقل من الثمن الذي ذكره أو بأكثر قال : إنه مكذب لبينته في الابتياع خاصة على المشهور المعمول به وليس مكذباً لهم فيما يصدقهم فيه من غير تلك القضية إذ لا يجرح الشاهد بالكذب حتى يكون مجرباً عليه اه . ثم ذكر عنه في مثلها بعد ذلك بنحو الورقتين أنه لا يكون مكذباً إن ادعى النسيان أو الغلط إلا أن يكون في خصام فيكون مكذباً لأنه موضع التحرز اه . ومنه ما في تبصرة اللخمي فيمن شهد أن فلاناً ذبح فلاناً وشهد الآخر أنه أحرقه ، والمشهود عليه منكر الشهادتين فإن قام الأولياء بالشهادتين بطل الدم ، وإن قاموا بإحداهما أقسموا معه اه . وإنما بطلتا معاً إذا قاموا بهما لأن من أدلى برسم فهو قائل به فهم يقولون بلسان الحال ذبحه أحرقه فقد كذبا كلاً منهما وقد تقدم كثير من هذا عند قوله . ولانحصار ناشىء الخصام . وانظر ما يأتي في الاستحقاق إن شاء الله عند ابن رشد فيمن أقر أبوه أن الملك بينه وبين قوم آخرين ومات فادعى ولده بعد نحو الستين سنة وهو يحوزه أن الملك خاص بأبيه أن والمقوم عليه إن كذب بينة الإقرار وعجز عن إبطالها أو صدقها وادعى أن أباه كان اشترى حصة غيره وعجز عن إثبات الشراء ولو بالسماع ، فإنه يحكم بالملك للقائم إن كان غائباً في مدة الحيازة . وقوله : وإما بثبوت استرعاء وإقرار إلى قوله : بالعداوة الجار والمجرور من قوله على صفة يتنازع فيه استرعاء وإقرار بالاسترعاء كأن يشهد شاهدان بعداوة بين شهود الحق المقوم به وبين المشهود عليه فتسقط شهادة شهود الحق بشرط كون العداوة دنيوية لا دينية وبشرط كونها سابقة على تاريخ أداء الشهادة بالحق واتصلت إلى حين أداء الشهادة بهذه العداوة والإقرار أن يشهد عدلان بإقرار القائم صاحب الحق بالعداوة بين شهود الحق وبين المشهود عليه على الوجه المذكور . وقوله : وإما بثبوت استرعاء معروف السبب الخ . المراد بالاسترعاء هنا معناه الخاص وهو المعبر عنه بالاستحفاظ كما يأتي في باب الصلح إن شاء الله ، وليس المراد به الاسترعاء بالمعنى المتقدم . وقوله : معروف السبب هو ما وقع لأجله الاستحفاظ من تقية خوف أو إنكار غريم ، فإذا كان الاسترعاء في المعاوضات من بيع أو إجارة أو خلع ونحوه ، فلا يكفي شهادة الشهود عليه بأن ما يعقده على نفسه في المستقبل من بيعونحوه غير ملتزم له ، وإنما يفعله خوفاً من كذا ، بل حتى يشهد الشهود المذكورون أو غيرهم بصحة ما ذكره من الخوف وقت البيع أو الخلع أو الإنكار ونحو ذلك بخلاف التبرعات من عتق وهبة ونحوهما ، فإنه يكفي إشهاده بأنه إنما يفعله خوفاً من كذا ، ولا يحتاج لإثبات التقية ، والفرق أنه في المعاوضات أخذ العوض فلا يصدق فيما يدعيه من الخوف ونحوه حتى يثبته بخلاف التبرعات . وقوله : أو بظهور استحالة الخ . أي بظهور ما يستحيل عادة كأن يستظهر القائم برسم يظهر من تاريخه أن المقوم عليه كان وقتئذ لم يوجد أو لم يبلغ الحلم ، ومنه ما في المعيار عن ابن رشد في سبخة بين أرض قوم لم يدعها أحد إلى أن قام رجل وأثبتها لنفسه ببينة غريبة من أهل الموضع فأنكره أهله زاعمين أنها لهم لكونها بين أراضيهم مجاورة لها فهي من أفنيتها . وفي البلد ناس مضت عليهم أعصار لم يشهد أحد قط بمثل ما شهد به أولئك الغرباء قال : إذا كان في البلد عدول لا يدعون في السبخة حقاً ولا يعرفون للقائم فيها ملكاً بشهادة الغرباء غير جائزة والواجب أن تبقى مسرحاً لجميعهم .
تنبيه : الاسترعاء بمعنى الاستحفاظ لا يكون إلا في شهادة الأصل لا في شهادة الاسترعاء بالمعنى المتقدم فهو مما تفترق فيه شهادة الاسترعاء من شهادة الأصل زيادة على ما مرّ ومما تفترق فيه أيضاً أن الأصل يوقف الخصم عليه ويسأل عنه قبل ثبوته ليقر أو ينكر ، ولا يسئل المقدم عليه بالاسترعاء ولا يوقف عليه حتى يثبت كما مرّ ، وإن الاسترعاء قد يوجب أحكاماً عامة كثبوت هلال رمضان للصيام بخلاف الأصل فلا يوجب إلا أحكاماً خاصة ، وأن الحكم في تعارض الأصل معلق بالتاريخ وفي الاسترعاء معلق بالأعدل من شهود الرسمين المتعارضين ، وأن كل وثيقة قام بها الخصم على خصمه ولخصمه فيها منفعة يرجوها فإن له أخذ نسخة منها بخلاف الاسترعاءات كرسم الإراثة ونحوه فلا يلزمه إعطاء نسختها لأن الذين شهدوا بها وبما تضمنته حضور فله أن يقول اذهب إلى من شهد لي يقيد لك شهادته كما قيدها لي إذا كانوا حضوراً وأنه يستكثر من شهوده في الترشيد والتسفيه كما يأتي ، وكذلك في الرضاع عند ابن الجهم قالوا : وكذا ينبغي في كل موضع تكون فيه الشهادة على الظن الغالب الذي لا سبيل فيه إلى القطع كالتفليس وحصر الورثة والاستحقاق والشهادة لامرأة بغيبة زوجها وتركها بغير نفقة والشهادة بالسماع ونحو ذلك ، فإن لم يمكنه الاستكثار المذكور فيكفيه العدلان حتى في التسفيه والترشيد كما في أقضية البرزلي بخلاف الأصل فإنه لا يطلب فيه الاستكثار من شهوده ولو مع الإمكان ، ولذا قال ابن رشد : إذا طلب البائع بالدين الإشهاد على مشتريه بأكثر من اثنين وامتنع الآخر فإن البائع لا يجاب وأن شهود الاسترعاء يستفسرون عن شهادتهم بعد أدائها دون شهود الأصل لأنه في الأصل إنما هو حاك عن غيره وأنه لا يقبل في الاسترعاء إلا العدل المبرز المتيقظ الضابط العارف بطرق الشهادة وتحملها وأدائها ومعاني الألفاظ وما تدل عليه نصاً وظاهراً ومفهوماً قاله ابن أبي الدنيا . قال : وهذا بحسب ما يدل عليه عقد الاسترعاء في فصوله ومن طول الأمد وقربه لما يعرض في طول الأمد من النسيان ، لا سيما إذا كان العقد يتضمن فصولاً اه . نقله في المعيار ونحوه في الفائق قال : وعن بعض المفتيين لا تقبل شهادة الاسترعاء إذا تأخرت عن زمن تحملها إلاَّ حفظاً من صدره اه .قلت : وهذا لا يجري في اللفيف الذي به العمل عندنا إذ لا توجد فيهم العدالة فضلاً عن التبريز .
تُجْمَعُ الآجالُ والتَّفْصِيلُ
في وَقْتِنَا هذَا هُوَ المَعْمُولُ
( وتجمع ) بضم التاء مبنياً للمفعول ( الآجال ) نائبه قال المتيطي : وله أن يضرب له أجلاً قاطعاً من ثلاثين يوماً ويخبره أنه جمع له في ذلك الآجال والتلوم حتى يعرف ما يترتب عليه اه . وانظر هل إخباره بذلك واجب بحيث يبطل الحكم إذا لم يخبره أم لا ؟ وهو الظاهر من وثيقة له في أوائل النكاح ذكر فيها ما نصه : وأجله وفقه الله لإثبات عدمه بالصداق آجالاً جمعها له مع التلوم في أحد وعشرين يوماً أولها كذا شهد على إشهاد القاضي الخ . فلم يذكر فيها أنه أخبره بالجمع المذكور ، فلو كان واجباً ما أمكنه تركه ولا يلزم من التنصيص عليه في رسم الآجال أن يكون علم به لأن رسم الآجال لا يكون بيده بل بيد الطالب ( والتفصيل ) للآجال مبتدأ و ( في وقتنا ) يتعلق به ( هذا ) نعت لوقت ( هو ) مبتدأ ثان ( المعمول ) به خبره . والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، ويجوز أن يكون في وقتنا يتعلق بالمعمول أي والتفصيل للآجال على حسب ما مرّ في وقتنا . هذا هو المعمول به عند قضاة العدل دون جمعها ، ومن ثمرته ما مرّ من أنه يوقفه عند تمام كل أجل .
تنبيه : تقدم أن الآجال موكولة لاجتهاد الحكام وأن التفصيل المذكور لا يجب الوقوف عنده ، لكن المناسب لما مر عند قوله وقول سحنون به اليوم العمل الخ . من ضعف عدالة قضاة الوقت أن لا يقبل منهم أقل من هذه التحديدات المذكورة ، وأنه إن حكم عليه بعد أن أجله بأقل وعاجله بالحكم والمحكوم عليه يطلب ما وجب له على التفصيل المار ينقض حكمه وتعجيزه إن أتى بحجة لأنهم إنما استحسنوا التحديدات المذكورة وعملوا بها رفعاً للتهم فكما لا يقبل قول قاضي الوقت : حكمت بعد أن أجلت ونحوه كما مرّ كذلك لا يقبل قوله اجتهدت في قدر أجله إذ ليس هو من أهل الاجتهاد ، ولذا صرح غير واحد بأن العمل على التفصيل المتقدم . وانظر ما يأتي عند قول الناظم في التوقف فلا غنى عن أجل مضروب .
فصل في الإعذارمصدر أعذر إذا بالغ في طلب العذر . وقال المبرد في معاني القرآن : يقال أعذر الرجل إذا أتى بعذر صحيح ، ومنه المثل : من أنذر فقد أعذر أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك ، ومنه أعذر القاضي إلى من ثبت عليه حق في المشهود به . وفي العرف قال ابن عرفة : سؤال الحاكم من توجه عليه موجب حكم هل له ما يسقطه اه . والأصل فيه قوله تعالى في قصةالهدهد : لأعذبنه عذاباً شديداً } ( النمل : 21 ) الآية . فجعل له عذراً إذا أتاه بسلطان مبين وقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى } ( الإسراء : 51 ) إلى غير ذلك . ويعذر في المزكي والمزكى وكذا في شهود الخط ويسمى ذلك للمشهود عليه . واختلف هل يقول له دونك فجرح وإلا حكمت أو لا يقول له ذلك ؟ ثالثاً : إن كان قبولهم بالتزكية ، ورابعها لابن القاسم يقول ذلك لمن لا يدريه كالمرأة والضعيف .
وَقَبْلَ حُكْمٍ يَثْبُتُ الإعْذَارُ
بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَذَا المُخْتَارُ
( وقبل حكم ) يتعلق بقوله ( يثبت ) بفتح أوله وضم ثالثه بمعنى يجب أي يثاب على فعله ويعاقب على تركه ( الإعذار ) فاعله أي يجب الإعذار للخصم عند إرادة الحكم عليه فهو قريب من كلام ابن عرفة ( بشاهدي عدل ) يتعلق بمحذوف لا بيثبت المذكور كما يأتي إلا أن يريد به الحقيقة والمجاز أي أطلقه على الوجوب قبل الحكم وعلى الثبوت الحقيقي بعده أي يجب على الحاكم قبل حكمه الإعذار بقوله لمن توجه عليه الحكم أبقيت لك حجة أو هل لك ما يحقق دعواك ويثبت الإعذار بذلك عند التنازع فيه بشاهدي عدل فمعمول الإعذار محذوف والعامل في الجار على الوجه الأول كذلك كما ترى ، ويدل لحذف العامل في الجار قوله بعده وشاهد الإعذار الخ ، تأمل ، فيستفاد منه حينئذ أن الحكم من غير تقدم إعذار بما ذكر باطل وهو كذلك لأنه شرط صحة فيه على المذهب لحق الله وما للبناني من أنه إنما يبطل إذا خلا من الإعذار رأساً لا قبل الحكم ولا بعده فيه نظر يعلم بالوقوف على مسألة الترجالي في أنكحة المعيار ، وعلى ما في نوازل الضرر منه وأن الإعذار لا يثبت بمجرد قول القاضي أعذرت فحكمت بل حتى تشهد بذلك بينة كما مرّ عند قوله وقول سحنون به اليوم العمل الخ . وتعلق الجار بيثبت المذكور مع إطلاقه على حقيقته لا يفيد ما ذكرناه كما يعلم بالتأمل إذ لا داعي لإثباته قبل الحكم إذ لا نزاع فيه حتى يطلب إثباته . نعم إذا قلنا التأجيل إعذار واختلف فيه قبل الحكم فيمكن ذلك وسيأتي أنه يعذر له ابتداء وانتهاء . والحاصل أنه تارة يتفقان على أن الحكم وقع قبل الإعذار وتارة يختلفان فيقول القاضي : ما حكمت حتى أعذرت لك ، فلم تأت بحجة ، وأنكر المحكوم عليه الإعذار له وفي كل منهما خلاف والمعتمد بطلان الحكم فيهما حتى يثبت الإعذار ولذا قال : ( وذا ) أي ما ذكر من كون الإعذار واجباً قبل الحكم وكونه يثبت بشاهدين هو ( المختار ) المعمول به خلافاً لمن قال أنه يحكم أولاً وبعد ذلك يعذر للمحكوم عليه فإن أبدى مطعناً وإلا استمر الحكم عليه ، ولمن قال يثبت الإعذار بمجرد قول القاضي وإن لم يعلم إلا من قوله كما في التبصرة وغيرها فإن ذلك كله ضعيف لم يصحبه عمل ، ولذا احتاج الناظم إلى نفي الإعذار في شاهده فقال : وشاهد الإعذار الخ . وعلله بالتسلسل إذ لو كان قول القاضي فيه مقبولاً لم يعلله بذلك فقوله المختار راجعلثبوت الإعذار ولوجوبه قبل الحكم كما قررنا لا لتثنية شاهدي عدل لأنه كما يثبت بالشاهدين يثبت بالشاهد الواحد على المعتمد ، ثم إذا أعذر له بما مرّ فإن ذكر حجة أجله للإتيان بها على حسب ما مرّ ، وإن ذكر أن له بينة بعيدة كالعراق والمغرب من المدينة أو مصر حكم عليه وكتب في كتابه ومتى أحضرها فهو على حجته . قال في الشامل : ولو أحلف خصمه بدون حاكم وله بينة بعيدة فله القيام أي بها إذا قدمت ولا مفهوم لقوله بدون حاكم بل بالأحرى إذا أحلفه بحاكم كما في النكت ، وإنما كان له القيام إذا أحلفه بدون حاكم لأنه لو رفع الأمر للحاكم لم يفعل غير ذلك .
تنبيهات . الأول : فهم من كلام ابن عرفة والناظم أن الإعذار بقوله : ألك حجة ونحوه قد يتعدد لأنه معلق على توجه الحكم وهو قد يتوجه مراراً فيتوجه من أول الأمر كما لو ادعى عليه بدين مثلاً ، فأنكره ، فالحكم قد توجه على الطالب فيعذر له بما ذكر ، فإذا ادعى حجة وأجل للإتيان بها وانقضى أجله الأول وأوقفه أعذر له بذلك أيضاً ، وهكذا إلى انقضاء الآجال والتلومات فيعذر له بذلك أيضاً ، وكذا يقال في المطلوب إن ادعى مطعناً فيما أثبته الطالب ففائدته أولاً ليعلم ما عنده من أدعائها أو نفيها ، وفائدته أخيراً ليظهرها إن أتى بها أو يبدي عذراً يوجب تأخيره كما مرّ ، وليظهر عجزه إن لم يأت بشيء فيشهد عليه بعدم الإتيان أو ادعاء نفيها فيقع الحكم مع تبين اللدد أو مع عدمه ونحو ذلك كما مرّ في الآجال ، ويدل لما ذكرناه قول ابن سهل وغيره لا بدّ للقاضي أن يقول للمتخاصمين أخيراً أبقيت لكما حجة اه . وحينئذ فلا بدّ أن يقول في رسم التسجيل لما تحاكم الخصمان أعلاه وانصرمت الآجال والتلومات الثابتة أعلاه أو حوله ولم يأت المتأجل بشيء اقتضى نظر قاضي كذا وهو الخ إن حكم على فلان المتأجل المذكور بكذا بعد أن أعذر له بأبقيت لك حجة فادعاها أو نفاها حكماً لازماً قطع به شغبه وأوجب العمل بمقتضاه أشهد على إشهاده بما ذكر وهو بحيث يجب له ذلك وعلى المحكوم عليه بما فيه عنه الخ . فالحكم باطل إن خلا من الإعذار بما ذكر ولم يشهد به الغير كما مرّ . وقولنا فادعاها أو نفاها الخ . ينبني عليه قول ( خ ) ثم لا تسمع بينة أن عجزه قاض مدعي حجة وظاهرها القبول إن أقر على نفسه بالعجز اه . وسيأتي تمام هذا في الفصل بعده إن شاء الله ولا يعارض ما مرّ عن ابن سهل وغيره قول الناظم : ومن ألد في الخصام الخ . لأن هذا لما علم لدده وأنه يدعيها وإلا لما فر ، وأيضاً الفار متسبب بفراره في إسقاط حقه .
الثاني : فهم من قوله الإعذار الذي هو طلب العذر كما مرّ أنه لا يكون في شهادة ورسمناقصين كما لا يكلف بجواب الدعوى الناقصة كما مرّ لأن العذر موجود حينئذ فطلبه من طلب تحصيل ما هو حاصل ، ولذا قال ابن سهل وغيره : والإعذار لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط وتمام النظر والإعذار في شيء ناقص لا يفيده ، وكذا الخطاب بالقبول والأداء لا يكون في شيء ناقص كما يأتي في أول الفصل بعده .
الثالث : إذا قام المستحق وأثبت أن فلاناً غصبه أملاكاً وباعها ثم باعها المشتري منه لآخر فالإعذار يكون للمشتري الذي بيده الأملاك وتكون الخصومة معه خاصة فإن أتى بمدفع فذاك وإلاَّ رجع على بيعه وينتقل الإعذار له فيطالب بالمدفع الذي كان يطالب به المشتري منه وهكذا حتى يصل إلى الأول قاله في أقضية البرزلي ، ويأتي مثله في الاستحقاق إن شاء الله ، ثم إذا أنكر المحكوم عليه والمتأجل الإعذار والتأجيل فاستظهر المحكوم له بعدلين عليهما فسأل المحكوم عليه الإعذار له في شاهديهما ، فإن المنكر لذلك لا يجاب كما قال :
وشاهِدُ الإعْذَارِ غَيْرُ مَعْمَلِ
في شَأْنِهِ الإعْذَارُ لِلتَّسَلْسُلِ
( وشاهد الإعذار ) مبتدأ ( غير معمل ) خبره ( في شأنه ) يتعلق به ( الإعذار ) نائب فاعل معمل لأنه اسم مفعول بضم الميم الأولى وفتح الثانية ( للتسلسل ) يتعلق باسم المفعول المذكور . وبيانه : أنه لو مكن من ذلك لم يكن بد من إشهاد شاهدين على ذلك ثم يجحد الإعذار ثانياً ويسأل الإعذار في شاهديه ، وهكذا كلما أعذر له بشاهدين جحد . وقال : اعذر لي فيمن شهد به ، ونظيره ما تقدم في كون القاضي إن لم يستند لعلمه في الشهود لزم التسلسل ، وإن كان القاضي يمكنه قطع التسلسل اللازم في عدم استناده إلى علمه بتزكية شاهدين مشهورين عند الناس بالعدالة كما مرّ ، فهنا لا يمكن ذلك وتقرير ( م ) له بأنه لو مكن من ذلك لجرحهما فيبطل الإعذار ويبطل الحكم ببطلانه لأنه متوقف على الإعذار والفرض أن له تجريح شاهده فيتعذر الحكم أبداً الخ . فيه نظر فإن تقرير التسلسل بهذا المعنى يؤدي إلى نفي الإعذار من أصله في كل شيء لا في خصوص شاهدي الإعذار لأن كل معذور فيه يمكن تجريحه . وقول ( ت ) إن التسلسل المذكور ينقطع بالإعذار بالمبرزين وإنه إنما يمنع في العقليات الخ . يريد بأن المبرز يغلب تعذره كما يأتي وبأنه يقدح فيه بالعداوة والقرابة كما يقدح فيه بغيرهما على المختار عند اللخمي وهو المعتمد كما في ( خ ) وشراحه ، وبأن التسلسل المذكور بالمعنى الذي قدمناه عقلي كما لابنعرفة راداً به على ابن عبد السلام في التسلسل اللازم على عدم استناد القاضي لعلمه ، ثم إن كلام الناظم هنا شامل لكل ما أشهد به القاضي على نفسه من إعذار أو تأجيل أو ثبوت أو إبرام حكم ونحو ذلك ، فإن الإعذار في ذلك كله يؤدي للتسلسل المذكور . ألا ترى أنه إذا أعذر له في شاهدي الحكم مثلاً وعجز عن الطعن فيهما فحكم بعجزه أنكر العجز وقال له : اعذر لي في شاهديه وهكذا ولا يدخل ما هنا في قوله : ولا الذي بين يديه قد شهد . الخ . . لأنه فيما أقر به أحد الخصمين بين يديه ولا يلزم من عدم الإعذار فيما أقر به بين يديه عدمه فيما أشهد به على نفسه ، لأن التهمة في الشهادة وعلى النفس أقوى ، ألا ترى أنه في الإقرار يكون شاهداً به عند الغير بخلاف الآخر ، فإنه شهادة على فعل النفس لا تقبل فالمسألتان متباينتان ، وقد تقدم أن قول ( خ ) ولا تقبل شهادته بعده أي بعد العزل أنه قضى بكذا أنه لا مفهوم للظرف ، بل كذلك قبل العزل على المعتمد ، ولا فرق بين أن يكون قوله ذلك على وجه الخطاب أو الشهادة ، ولو كان قوله مقبولاً ما احتاج الناظم إلى تعليل نفي الإعذار بالتسلسل ، فالتعليل به جار في القاضي المشهد بالإعذار ونحوه ، وفي الذي أتى بعده كما هو ظاهر والله أعلم . وهذا لا ينافي ما يأتي من وجوب إعطاء النسخة من الحكم لأنه لم يأخذها من جهة الإعذار في شاهديه ، بل ليراجع فصوله عند أهل العلم وليعلم هل صادف فيه الصواب أم لا وإلاَّ فهو مقر بوقوع الحكم عليه .
ولا الذِي وَجَّهَهُ الْقَاضِي إلى
ما كان كالتحْلِيفِ مِنهُ بَدلا
( ولا ) الواو عاطفة على معنى البيت المتقدم ولا لتأكيد النفي أي لا يعمل الإعذار في شأن شاهد الإعذار ولا ( الذي وجهه القاضي إلى ) يتعلق بوجهه ( ما ) موصولة ( كان ) صلتها واسمها عائد على ما ( كالتحليف ) خبرها ، وأدخلت الكاف الموجه للحيازة والموجه لآخذ المرأة بشرطها وتطليق نفسها والموجه للنظر في العيوب وتقويم المسروق هل فيه نصاب فيقطع أو لا ؟ وتقويم المتلفات لتغرم ونحو ذلك ، ولكن عدم الإعذار في الموجه للعيب والتقويم إنما هو من جهة الطعن فيه لا من جهة معارضته بشهادة أخرى أقوى منه أو سؤال أهل العلم عن فصول شهادته فيعذر له من هذه الحيثية ، وأدخلت أيضاً الموجه للأعذار لمريض أو مسجون أو امرأة لا تخرج ، وإنما لم يعذر فيمن وجه إلى من ذكر لأن القاضي أقامه مقام نفسه وجعله ( منه بدلاً ) مفعول لأجله فيفيد أن عدم الإعذار إنما هو لأجل ما ذكر أو حال من الذي ، ومنه يتعلق به ولا يلزمه تسميته إذ ما لا إعذار فيه ولا فائدة في تسميته قاله في المتيطية ، قال : وقد قيل لا يسقط الإعذار في الموجهين للتحليف وبالأول الحكم والعمل قال : وكذا الإعذار في الموجهين للأعذار إلى مريض ونحوه ولا في الموجهين للحيازة . ابن سهل : وسألت ابن عتاب عن ذلك فقال : لا إعذار فيمن وجه للأعذار ويعذر في الموجهين للحيازة . قال ابن الهندي : وبه جرى العمل وقد اختلف أيضاً في ذلك اه . وفهم منه أنه إذا لم يوجه من قبل القاضي إلى ذلك فيه الإعذار وهو كذلك وفهم من قوله منه بدلاً أن عدم الإعذار إنما هو إذا كان الذي وجههما هو الحاكمفي القضية ، فإن عزل أو مات بعد التوجيه أو قبل الحكم وتولى غيره وقلنا يبنى على ما فعل الأول كما يأتي في الفصل بعده فالإعذار واجب لانتفاء العلة .
ولا الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ شَهِدْ
ولا اللَّفِيفُ في الْقَسَامَةِ اعتُمِدْ
( ولا ) عاطفة كالتي قبلها أي ولا يعمل أيضاً في شأن الشاهد ( الذي بين يديه ) يتعلق بقوله ( قد شهد ) بفتح الشين وكسر الهاء صلة الذي والضمير في يديه يعود على القاضي أي شهد بإقرار الخصمين أو أحدهما بين يدي القاضي ، والظرف يتعلق بإقرار المعمول لشهد لا لنفس شهد ، فالظروف يتوسع فيها وإن تقدمت على المصدر المحذوف أي : فإن الخصم إذا أنكر وطلب الإعذار في شاهدي الإقرار لا يجاب بل يحكم عليه بمقتضى الإقرار من غير إعذار في شاهديه لمشاركته فهما في سماع الإقرار . ابن سهل : ويؤيده قول مالك في سماع أشهب في القوم يشهدون عند القاضي ويعدلون عنده هل يقول للمشهود عليه دونك فجرح ؟ فقال : إن في ذلك لتوهيناً للشهادة ولا أراه إذا كان عدلاً أو عدل عنده أن يفعل قال : فقد أسقط مالك الإعذار ههنا فيمن عدل عنده ، فكيف فيمن هو عنده عدل وشهد عنده بما استوى فيه علم الشهود وعلمه مما سمعه في مجلسه ، وإن كان لم يصحب هذه القولة يعني قولة مالك بعدم الإعذار في المعدل بالفتح عمل قال : بل العمل في المعدل بالفتح على الإعذار فيه بالتجريح وغيره هو مذهب المدونة وابن نافع وسحنون وشاهدت به القضاء بإجماع من أدركنا من العلماء اه بنقل المتيطي أوائل النكاح ، وبه تعلم أن الذي أسقط فيه مالك الإعذار هو المعدل بفتح الدال ، لكن لم يصحب قوله عمل لا المعدل بالكسر أي مزكي السر كما فهمه ( ت ) وبناني في حاشيته مؤولاً به كلام ابن سهل الذي اختصر زروق فهو غلط نشأ لهما من ظنهما أن الذي يصح به الاستشهاد هو المعدل بالكسر ، لأنه الذي لا إعذار فيه مع أن ابن سهل لم يتكلم عليه أصلاً ، وإنما استشهد بقول مالك بعدم الإعذار في المعدل بالفتح ، وإن كان قوله بذلك ضعيفاً لكن فيه تقوية للقول بعدم الإعذار فيما وقع بين يديه كما ترى ، وربما أشعر قوله قد شهد الخ أنه أداها بذلك المجلس بعينه لأنها لا تسمى شهادة إلا بالأداء ، وهذا هو الذي لا إعذار فيه على المشهور كما في المتيطية . قال : وأما إن كتبوا مقالته ووضعوا أسماءهم عليها ثم شهدوا بها بعد أيام من تاريخ تلك المقالة أو حفظوا مقالته في المجلس دون أن يكتبوا شهادتهم عليها ، ثم يؤدونها عنده بعد ذلك المجلس فإنه يعذر إلى المشهود عليه إذا أنكر مقالته تلك من غير خلاف أعلمه في هذين الوجهين ، وإنما الخلاف في الوجه الأول اه . ونقله صاحب التبصرة عن المفيد .تنبيهان . الأول : يفهم من هذا أن عدم الإعذار إنما هو إذا نص الشهود على أن الإقرار أو الإنكار وقع بالمجلس ، ونص القاضي أيضاً أن الأداء وقع بذلك المجلس فيقول مثلاً : أديا بمجلس الإقرار أعلاه الخ . وإلا فمن أين لنا أن كلاًّ من الإقرار والأداء وقع بالمجلس حتى يسقط الإعذار في ذلك عند هذا الحاكم أو عند من بعده والله أعلم .
الثاني : ما اقتصر عليه الناظم من عدم الإعذار في شاهدي المجلس صرح المتيطي بمشهوريته كما مرّ ، وبه قال ابن العطار وغيره . وقال ابن الفخار : لا بد من الإعذار فيهما لأن القاضي لا يقضي بعلمه ولا بما يقر به عنده دون بينة ولا بشهادة غير العدلين وهو يعلم أن ما شهدا به حق فإذا كان هكذا فكيف يقضي بشهادتهما من غير إعذار وكيف ينكشف عند الإعذار أنهما غير عدلين بإثبات عداوة أو فسق ؟ ابن سهل : وهذا عندي هو القياس الصحيح المطرد لمن قال : إن القاضي لا يقضي بعلمه ولا بما سمع في مجلس نظره ، لكن الذي قاله ابن العطار به جرى العمل وهو عندي الاستحسان ويعضده قول مطرف وابن الماجشون وبه أخذ سحنون أنه يقضي بما سمع في مجلس نظره اه . فقد علمت من هذا أن سقوط الإعذار في مسألة الناظم لا يتمشى إلا على قول سحنون ومن معه دون المشهور من قول مالك وابن القاسم وأشهب : من أن القاضي لا يحكم بما سمعه كما رأيته في كلام ابن سهل وابن الفخار . وبيانه : أنه إذا أسقط الإعذار فيهما قال الخصم : إنما أردت أن تحكم علي بعلمك ، وزعمت أنه شهد علي شاهدان ومنعتني من تسميتهما والإعذار فيهما فما ذاك إلا لتتوصل إلى الحكم بعلمك بل بهواك ، فالبينة حينئذ مستغنى عنها لوجودها في الصورة فقط ولو سماها وأبدى مطعناً لم يقبل منه فلم يبق سبب لحكمه إلا مجرد علمه ، وقد تقدم قوله : وعلمه بصدق غير العدل لا الخ . فالجاري على مذهب مالك وابن القاسم أنه لا بد من الإعذار كما قال ابن الفخار . قال ابن محرز : وهو الظاهر وإذا تأملت ما مرّ عند قوله وقول سحنون به اليوم العمل الخ . علمت أن الواجب في زماننا هذا هو الإعذار وأن ما قاله الناظم وغيره يجب كتمه بالنسبة لقضاة الزمان إذ ما شاء حاكم أن يحكم برأيه إلا زعم أنه أقر عنده في مجلسه ، وشهد على إقراره شاهدان وأنه لا يلزمه الإعذار فيهما ولا تسميتهما لأنه لو سماها وأتى بمطعن لا يقبل ، ولو صح ما ذكر هنا لبطل قوله فيما مر وعلمه بصدق الخ . ولصح قوله وقول سحنون الخ لأن الأمر آل هنا إلى حكمه بعلمه كما ترى وكما يأتي عند قوله :
والفحص من تلقاء قاض قنعا
فيه بواحد في الأمرين معا
ولذا كان القضاة اليوم يعطون النسخ من أحكامهم وتأجيلاتهم وإعذاراتهم والله أعلم . ( ولا ) عاطفة كالتي قبلها أي ولا يعمل في ( اللفيف في القسامة ) يتعلق بقوله ( اعتمد ) والجملة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13