كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني

فكل من وجد من عباد الله مأمور بطاعة من بلغه شرعه قبل البعثة فإن أهمل كان مفرطا آثما بل يجب عليه تطلب ذلك وقد كان صلى الله عليه و سلم يحج على ما كان عليه شرع إبراهيم ويقف في المواقف الشرعية ويخالف قريشا وأهل بلدته وقد كان يتحنث أي يتعبد قبل بعثته فقيل يتعبد بما بلغه من الشرائع
وأما بعد البعثة فأشار إليه قوله ... من قبل ان يبعث لا من بعده ... فإنه كشرعنا في حده ...
فإنه كما تعبد بالشرع الذي بعثه الله به ونسبه الناظم إلينا لأنا مأمورون بالعمل به ولم يقيده بما لم ينسخ لأنه إذا قد نسخ فقد خرج عن محل النزاع وبطل كونه شرعا متعبدا به فهو كشرعنا يجب العمل به ما لم ينسخ ففي قوله كشرعنا كفاية عن التقييد بما لم ينسخ والدليل على تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله بعد البعثة قوله تعالى بعد أن عد قريبا من عشرين رسل الله فبهداهم اقتده وثبت الاستدلال من كافة العلماء بقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية على القصاص في هذه الأمة وهي من شرع بني إسرائيل والمراد منه ما ذكره الله في كتابه إذ لا تقبل روايتهم لكفرهم ولما حكاه الله من تحريفهم وإذا ثبت تعبده صلى الله عليه و سلم بشرع من قبله فنحن أيضا متعبدون به هذا كلام الجمهور وقد خالفناهم وبينا الدليل على خلاف ما اختاروه في بحث مستقل

ولذلك قال الناظم ... وهو لنا أيضا دليل يرتضى ... وليس الاستحسان إلا ما قد مضى ...
هذه إشارة إلى نفي ما قاله بعض أئمة الأصول إن الاستحسان دليل رابع وقد كثر خوض العلماء فيه والإنكار على مثبتيه حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع وعند التحقيق ليس هناك محل يصلح للنزاع لأنه ليس الخلاف في إثبات الاحكام بالتشهي وميل النفس إلى شيء بلا دليل شرعي ولا في إطلاق لفظه إذ قد ورد في القرآن واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم وفي كلام ابن مسعود ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولم يصح أنه حديث مرفوع بل الخلاف راجع إلى معنى اصطلاحي عند مثبتيه
وقد عرفه في مختصر المنتهى وغيره بتعاريف تدل على أنه لا يتحقق استحسان انفرد به المخالف بل تدل على أنه راجع إلى أحد الأدلة الماضية ولذا قلنا وليس الاستحسان غير ما مضى أي ما هو إلا راجع إلى حد الأدلة الماضية وقد أطال ابن الحاجب ذكر التعريفات له وردها كلها بإدخالها فيما مضى وعدم تحقق المعرف بها قسما مستقلا ولا حاجة هنا إلى سردها فإن ذكر ما لا يفيد ليس مما يغير المستفيد ولما وقع الخلاف بين العلماء في حجية قول الصحابي أبانه بقوله ... أما الصحابي فعند الجله ... مذهبه ليس من الأدله ... وكالنجوم يقبل التأويلا ... لو صح في إسناده لقيلا

قد تقدم نحو هذا في بحث الإجماع عند قولنا وما له بالخلفا انعقاد إلا أن هذه المسألة غير تلك فتلك في جعل اتفاق الخلفاء إجماعا وهذه في كون مذهب الصحابي ورأيه حجة لا روايته ولذا قال مذهبه فإنه غلب عرفا على الآراء الاجتهادية ففي حجيته خلاف قال ابن الحاجب ليس حجة على صحابي آخر اتفاقا والمختار ولا على غيره وذكر غير المختار وأدلته وردها كلها وقولنا لو صح في إسناه إشارة إلى عدم صحة حديث أصحابي كالنجوم فإنه روي من طرق عن أنس وجابر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وابنه عبدالله ولكنه لم يصح شيء من طرقه كما صرح به الإمام أحمد وقال أبو محمد بن حزم في رسالته الكبرى إنه مكذوب موضوع وقوله ... بأنه في حق من يقلد ...
يتعلق بالتأويل أي أنه لو صح لما دل على المدعى من أن مذهب الصحابي ورأيه حجة بل هو إرشاد للمقلد أنه إذا قلد أي صحابي فإنه قد اهتدى ولما فرغ الناظم من الأدلة الشرعية الأربعة وما ادعى إلحاقه بها وأنه ليس منها أخذ في بيان دليل العقل وجعله خاتمة نظرا إلى إثبات الأحكام العقلية قل ورود الشرع فقال ... خاتمة بها السعيد يسعد ...
وصفها الناظم بما ذكر إشارة إلى أنها مبنية على قاعدة إثبات التحسين والتتبيح العقليين وهي من أمهات قواعد الدين وتقريرها ومن مهمات المتيقن من المحققين وهذه مسألة قد طار شرر نار الخلاف فيها في الآفاق وتجاذبتها أكف الجدال والشقاق وخبط الجميع في موضع النزاع وتعب في إثباتها وردها كل فكر ويراع فنقول في بيان حقيقة المسألة إنه ما زال الناس في كل ملة

كافرهم ومؤمنهم وأهل الأقطار قاطبة يمدحون المحسن ويذمون المسيء بعقولهم من دون معرفة الشرائع بل من ميز من الصبيان مدح من أحسن وذم من أساء وهل مدح أهل الجاهلية لحاتم إلا لإحسانه وكرمه الذي أدركت عقولهم حسنه وهل ذموا مادرا في جاهليتهم إلا لبخله الذي أدركت عقولهم قبحه وهل مدحوا محمدا صلى الله عليه و سلم في جاهليتهم قبل بعثته وسموه الصادق الأمين إلا لأنها أدركت عقولهم حسن الصدق وأنه يمدح من اتصف به وهل ذموا عرقوبا إلا لكذبه وخلف مواعيده التي أدركوا بعقولهم قبحه ثم جاء الإسلام مقررا لهذه الفطرة السليمة لا ينازع فيها أحد حتى تفرق أهل الإسلام شيعا كما تفرقت الأمم ونشأت العداوات وشب التعصب وشاخ الإنصاف بل مات فقال فرقة من الأشعرية نحن نسلم أن العقل يدرك الحسن وهو صفة كمال ويدرك القبيح وهو صفة نقص فحاتم متصف بصفة كمال عقلا ومادر متصف بصفة نقص عقال وقد اعترف محققوهم بأن صفة النقص هي القبح العقلي لما أورد عليهم مخالوفهم أنه حيث لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا فيجوز أن يبعث الله رسلا كذابين فقالوا هذه صفة نقص لا تجوز على الله قلنا وافقتم من خالفتم في إثبات القبح العقلي فلم يجدوا جوابا لكنهم قالوا
إنكم أيها الطوائف الذين أبيتم الحسن والقبح عقلا قلتم إن العقل يدرك حكم من اتصف بالحسن وأنه يستحق المدح عاجلا والإثابة آجلا ويدرك أن من اتصف بالقبيح يستحق الذم عاجلا والعقاب آجلا ونسبتم إلى العقل إدراكه لهذين الأمرين ونحن نخالفكم ونقول لا يعرف العقل إلا أن المحسن اتصف بصفة كمال والمسيء اتصف بصفة نقص فلما خلطوا في محل النزاع زيادة المدح عاجلا والإثابة آجلا انفتح باب الجدال وجاءت جيوش كل قبيلة وقال وشنت الأشعرية على المعتزلة الغارات وأتوا بدقائق العبارات وقبائح الإلزامات فشمر المعتزلة ومن إليهم الساق ونشروا ألوية الحرب والشقاق وجاء المتأخرون من المثبتين فقلدوا في تحرير محل النزاع النافين وذلك كمؤلف شرح غاية السؤال ومن قبله مؤلف الفصول وغيرهم

ممن أخذ تحرير البحث من مختصر المنتهى ونحوه ولم يرجعوا كلام قدماء المثبتين وينظوا كتب الماضين منهم من المحققين فخبطوا خبط عشواء لما صدقوا خصومهم في الدعوى حتى نبه الله بعض المنصفين المحققين من المتأخرين فحرر محل النزاع وإن المثبتين لا يدخلون المدح عاجلا والإثابة آجلا في محل النزاع وكتب المتقدمين منهم منادية بهذا نداء يملأ الأسماع قلت فراجعنا كتب المتقدمين من المثبتين فإذا هي كما قاله ذلك المصنف من المحققين فقلنا نصوصهم في حواشي شرح الغاية المسماة بالدراية وذكرنا فيه
أن التحقيق أنه لا خلاف بين الفريقين ولا شقاق ولكن عدم الإنصاف أقام الحرب على ساق وتحقيقه أن النافين أثبتوا إدراك العقل لصفة الكمال وصفة النقص ومن المعلوم أن معنى كونها صفة كمال أنه يمدح من اتصف بها وكونها صفة نقص أنه يذم من اتصف بها والمراد مدحه وذمه من العباد إذ الغرض أن هذا قبل ورود الشرائع وهذا هو عين ما قاله من أثبت التحسين والتقبيح العقلي فإنه قال الحسن ما يستحق من اتصف به المدح ويستحق من اتصف بالقبح والذم وغاية الخلاف أن المثبت قال حسن وقبيح والنافي قال صفة كمال وصفة نقص وهذا أي المدح والذم يصح تسميته إثابة عاجلا لأنه مكافأة للمحسن وللمسيء على إساءته فإن أهل الجاهلية ما كانوا يقصدون إلا الثناء من العباد بما يفعلونه من المكارم ولذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابنة حاتم لما قالت إن أباها كان يطعم الطعام إن أباك رام أمرا فأدركه وهو المدح على أن المثبتين لم يصرحوا في كتبهم بالإثابة عاجلا

ولا بالعقاب آجلا إنما جاءت هذه العبارة في كلام النفاة بما نسبوه إلى المثبتين فقلنا نحن إنه يصح تسمية المدح بالحسن إثابة من العباد لمن أحسن وليس المراد الإثابة من الله قطعا إذ المسألة مفروضة في كل شريعة شرعها الله ولذا لم يقل أحد من المثبتين إن العقل يدرك العقاب آجلا إذ لا تعرف أحكام الآجل إلا من رسل الله بعد التشريع
وإنما العقل يدرك قبح الظلم بمعنى أنه يستحق فاعله الذم من العباد لاتصافه بالقبيح أو بصفة النقص أو بصفة الكمال والشرع جاء مقررا لهذا ومخبرا بالعقاب الأخروي والثواب الأخروي والأول للأول والثاني للثاني وبهذا عرفت اتفاق الفريقين المثبتين والنفاة على إدراك العقل لما ذكر ولذا قلنا ... لو انصف النظار لم يصبحوا ... في كل بحث فرقا شتى ... إن طريق الحق معروفة ... لا عوج فيها ولا أمتا ...
أنشدناهما بعد تحرير هذه المسألة في الرسالة المسماة بالأنفاس اليمنية التي أرسلناها إلى المدينة النبوية سنة 1129ه وأما بسطها وبسط أدلة الفريقين مع الوهم في تحرير محل النزاع فقد أودعناه في حاشية الغاية لأنه بسط هناك الأقوال ونشر ألوية الجلاد
واعلم أن المثبتين أكثر الأمة ليس هم المعتزلة خاصة بل قال بالتحسين والتقبيح الحنابلة والحنفية الماتريدية وعامة المحققين من الأشعرية والكلام في ذلك معروف فلا نطيل نقله لكنها اشتهرت المسألة بأن المعتزلة يثبتونها والأشعرية ينفونها والتحقيق ما أسلفناه من الاتفاق والتوفيق بيد الخلاق ولعله يعجب من يرى هذا الكلام من تهويلنا في المسألة ممن لا يعرف غور نفيها فإنه كما قال بعض أئمة المحققين إن نفيها يفتتح سد يأجوج ومأجوج يخرج منه كل

بلاء من نفي حكمه الله ونفيها نفي الشريعة من أصلها إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يبق بعد تقرر الشريعة لمسألة الخلاف في التحسين والتقبيح فائدة إذ بعد حكم الشرع لم يبق للعقل مجال في إثباته لشيء من الأحكام إنما هذه الأبحاث فرضية مبنية على انفراد العقل عن الشرع وقد عرفناك أنها لا تخلو أمة من شريعة وإن من أمة إلا خلا فيها نذير نعم تخلو عن معرفة أحكام شرعها كلها بإعراضها عن التعلم كما وقع في الجاهلية الجهلاء وكم ترى في كل ملة حتى ملة الإسلام من إعراض كثير عن تعلم أحكام الإسلام فلذا قدمنا لك أن الجاهلية مدحوا من اتصف بالحسن وذموا من اتصف بالقبيح بعقولهم لغفلتهم عن الشرائع إلا أنا لم نذكر من حكم العقل إلا ما يليق بالأصل من الاختصار فقلنا ... إذا دليل الشرع في الحكم انتفى ... كان دليل العقل عنه خلفا ...
قد عرفت أنه بعد ورود الشرع لم يبق للعقل إلا تحسين ما حسنه وتقبيح ما قبحه وقد جاء مقررا لما كان يدركه العقل من الحسن والقبيح وصفة الكمال والنقص وزاد بأنه العقاب والإثابة ثم فصل الشرع الأحكام الخمسة فكانت على مقتضى العقل بعد إقراره بالشريعة فإنه عرفه بمصالح الأعمال ومفاسدها مما كان جاهلا لها فعرفه أن العقل إذا اشتمل على مفسدة فإن فعله حرام أو في تركه مفسدة فواجب وإن لم يشتمل أحد طرفيه فعلا أو تركا على مفسدة فإما أن يشتمل على مصلحة أو لا الثاني المباح والأول إما أن يعرفه في فعله مصلحة وليس في تركه مفسدة فهو المندوب أو في تركه مصلحة وليس في فعله مفسدة فهو المكروه فالمباح بعد تفصيل الشرع الأحكام باق عند العقل على ما كان عليه من قبل وروده لأن فاعله لا يدرك العقل فيه حسنا ولا كمالا إن فعل ولا قبحا ولا نقصا إن ترك كالتظلل تحت الأشجار والتفرج على جري الأنهار لا لزيادة التوحيد والاعتبار فهذا لا يقضي فيه العقل بشيء كما لا يقضي فيه الشرع بشيء وبهذا يعرف أن المباح ليس من قسم الحسن ولا من صفة الكمال ولا من قسم ما يقابلهما فإذا فقد حكم الشرع كان حكم العقل تبعا له وخلفا عنه في فقد الحكم أي الاتصاف بأحد الأمرين وإلا

فمما للعقل حكم غير ما ذكرناه من إدراكه الوصفين فهذا البيت لا يفيد إلا أن حكم المباح شرعا وعقلا واحد من أنه لما انتفى حكم الشرع بالإيجاب والتحريم والندب والكراهة بقي حكم العقل فيه بعد الشرع كما كان قبله في الحكم أنه لا حكم له فيه بحسن ولا قبح
وأوردنا بالحكم في قولنا في الحكم انتفاء الحكم بما فيه مصلحة فعلا فيشمل الواجب والمندوب أو عقوبة أو مصلحة تركا فيشمل الحرام والمكره لأنه الحكم الشرعي الذي أبانه الشرع وفصله وأما الإباحة فالشرع لم يحكم فيها بشيء بل يقابلها على حكم العقل بأنها ليس فيها حكم وإن عدها الأصوليون أحد الأحكام فإنما هو لحصر الأقسام فلذا قلنا في بيان ذلك ... فكلما ينفع من غير ضرر ... فهو مباح الحكم عقلا في النظر ...
بمعنى أن الشرع سكت عما ينفع البشر من غير إضرار فلم يحكم عليه بأحد الأحكام التي فيها مصلحة أو مفسدة فعلا أو تركا بل تركه مسكوتا عنه فالعقل يقضي أنه باق على ما كان عليه قبل وروده وقد كان قبل وروده لا يتصف فاعله بحسن ولا كمال ولا تاركه بنقص ولا قبح كما مثلناه فهو مباح سابقا ولاحقا وما لا فقد عرفناك أن العقل لا حكم له بإيجاب ولا تحريم ولا غيرهما إنما يحكم بأن فاعل الحسن يستحق المدح من العباد وفاعل القبيح عكسه يستحق عكسه منهم وليس المراد أنه يستحق أن يكون حقا عليهم واجبا يأثمون بتركه فإن التأثيم لازم للواجب الشرعي والفرض أنه لا شرع وأنه لا يعرف إلا من الشرع بل معنى استحقاقه أن العباد بعقولهم يرون مدح من اتصف بالكمال والحسن بمقتضى العقل وعكسه في عكسه وليس هنا حكم من العقل كالأحكام الخمسة الشرعية بل حكمه هو إدراكه لما ذكر لمن اتصف بأحد الصفتين ولكن سرى التخليط إلى المثبتين فقالوا العقل حاكم كالشرع وقالوا في الظلم محرم عقال وهو غلط أو تعبير باللازم عن ملزومه شرعا فإن الظلم قبيح عقلا وصفة نقص لكن التحريم بالمعنى الشرعي وهو أنه يستحق فاعله الذم والعقوبة أي من الله وتاركه المدح والمثوبة أي منه تعالى لا يعرف

إلا من جهة الشرع اتفاقا وإلا لما احتيج إلى رسول الله ولخالف قوله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل نعم نهيه تعالى عن الظلم لقبحه عقلا وأمره بالعدل لحسنه عقلا ولذا قلنا إن التحريم مثلا ملزم للقبيح عقلا لكن لما خلطوا محل النزاع وقلدوا في نقله من كتب خصومهم جروا في التفريع عليه وهو تفريع على تخليط
واعلم أن هذا التحقيق لا تجده في كتاب على هذا التدريج والبيان لأن تخليط البحث قديم ومشى عقبه كل محقق فيهم بسبب تقليد الخصوم وإحسان الظن بهم وأنهم لا ينقلون عن خصومهم إلا حقا وهذا شيء لا أصل له ولا ينبغي لناظر لنفسه ومتأهب لحلول رمسه أن يقلد الخصوم في النقل عن خصومهم فكم رأينا من تخليط في الدعوى والاستدلال ولذا حرم الله قبول شهادة الخصم على خصمه ونقل المذاهب والإخبار عنها وعن أدلتها شهدة قال الله تعالى في الذين قالوا إن الملائكة إناثا سنكتب شهادتهم ويسألون لما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وإنما أخبروا بذلك فكل خبر شهادة
ولقد طال الكلام إلا من عرف المسألة في كتب الأصوليين لا يراه طويلا بل يراه قد أحيى من الحق قولا كان قتيلا
وإذا عرفت هذا فهذا الحكم من العقل هو عدم الحكم شرعا وهو البراءة الأصلية وهو الاستصحاب العقلي ثم نشأ عن هذا الاختلاف اختلاف في حكم العقل قبل ورود الشرع فيما لا يقضي فيه العقل بمدح ولازم وهو المسمى بالمباح لغة لا شرعا إلى ثلاثة أقوال الأول ما أسلفناه من أنه لا حكم له فيه بل هو مباح والثاني والثالث أشرنا إليه بقولنا ... وقيل بالحظر أو الوقف لنا ... إنا علمنا حسنه كعلمنا ... بحسن الانصاف وقبح الظلم ... هذا الذي قرره ذوي العلم ...
قد عرفت ان المسألة مفروضة على انفراد العقل من الشرع والحظر الشرعي الذي من لازمه العقاب الأخروي لا يعرف إلا من الشرع فلا بد أن

يراد بالحظر هنا القبح العقلي أو صفة النقص في مقابلته بقولنا علمنا حسنه ما يدل لذلك القائلون بأن الاستظلال تحت الأشجار قبح عقلي لا ينهض لهم دليل إذ القبح العقلي لازمه أو معناه حسن ذم العقلاء له بما فعله ومعلوم أن هذا الاستظلال من حيث هو لا يستحسن عاقل أن يذم فاعله ولا يعده صفة نقص ولا صفة كمال وأما استدلال من قال إن الأصل الحظر وهو منسوب إلى الإمامية وجماعة غيرهم بأنه تصرف في حق الغير بغير إذنه فجوابة أن العقل لا يقضي بقبح هذا الاستظلال ولا يعده تصرفا بل يعد من يمنع المستظل فاعل قبيح ومرادهم بالغير هو الرب تعالى فإنه المالك للأكوان وما فيها على أن هذا مبني على أن المعارف ضرورية وإلا فقيل مجيء الشرع ما قد عرف العقل أن الأرض لله وأنه تعالى مالكها ومالك ما فيها وما أظن هذا الدليل إلا قاله من لم يحرر محل النزاع
وأما الواقف فقوله مشكل لأن العقل من حيث هو لا يتوقف في وصف شيء بحسن أو قبح أو بعدمهما فإن حكمه بالأوصاف جبلي فطري والمتوقف إنما يتوقف عند تعارض الأدلة عنده فهذا من قبيل المسألة الأولى
وأما القول بأنه مباح وهو أولى الأقوال كما عرفت فإن القائلين به وهو الذي اختاره في أصل النظم قالوا إن مثل ذلك حسن عند العقل فمعناه أو لازمه أنه يستحسن العقلاء الثناء على فاعله والرفع من شأنه ونحن نقول إن كون زيد يستظل تحت الشجرة أو يتمشى في البرية لا يستحسن العقلاء فعله ولا يستقبحونه فلا يمدح به ولا يذم فاعله ألا يصدق عليه حقيقة الحسن ولا القبيح فلا بد من تأويل قول إنه حسن أي ليس بقبيح لا أن له ماهية الحسن وإن كان قوله كعلمنا بحسن الإنصاف لا يساعد هذا التأويل إذ حسن الإنصاف يصدق عليه حقيقة الحسن عقلا وقبح الظلم يصدق عليه حقيقة القبح عقلا وهما صفتا كمال ونقص بلا ريب فأين التمشي في البراري

من ذلك ولذا قلنا هذا الذي قرره ذو العلم ونسبناه إلى قائله حيث لا نرتضيه
إذا عرفت هذا فالأشياء قبل الشرع لا حكم فيها شرعي ضرورة أنها مفروضة قبل وروده والعقل حكمه استحسان الحسن بالرفع من شأن فاعله ومدحه واستقباح القبيح بالوضع من شأن فاعله وذمه وليس له حكم يستلزم عقابا أخرويا فعندهم من ظلم زيدا بأخذ ماله وسبي حريمه فاعل قبيح يستحسن العقلاء ذمه والانتصاف منه والمحسن إلى زيد بأي إحسان على عكسه وأما أنه هل يوجب شيئا إيجابا شرعيا أو يحرمه تحريما شرعيا فهذا شيء لا يعرفه العقل إلا من جهة الشرع والفرض أنه لا شرع إذ من لازم الإيجاب الإثابة والعقاب فعلا أو تركا ومن لازم التحريم ذلك كذلك فإذا قالوا واجب عقلي فلا يحمل إلا على أنه حسن عند العقل والحسن عنده يقضي بالحث على فعله والاتصاف به لأن الاتصاف بما يقتضي حسن الذكر والثناء عند العباد محمود عند العقلاء قطعا وهو صفة كمال بلا ريب والاتصاف بخلافه فهذا معنى الإيجاب عقلا وكل هذا مبني على التحقيق لا على ما قاله كل فريق من المتنازعين فإنها قد شبت العصبية نار الغضب حتى لا ينظر فريق من كلام فريق إلا بعين الرد والإزراء وغلا كل فيما قد مهدت له شيوخ مذهبه ولقد غلت المعتزلة في المسألة غلوا عجيبا حتى جعلوا الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية وغير ذلك وقابلهم فريق الأشعرية فقالوا لا يدرك العقل حسنا ولا قبحا ولا حكم له أصلا وتفرع عن هذا دواهي من نفي الحكمة ولو نظر كل فريق نظر الإنصاف وقرروا محل النزاع لكانوا على طريقة واحدة ومنهاج قويم وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ومؤلف الفواصل رحمه الله قد أشار إلى ما حققناه جملة وسلك في شرح الأبيات وبيانها بكلام الجمهور هذا
ولما نجز الكلام ببحث أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس أخذنا في أبحاث تتعلق بالدليل وبدأنا بالمنطوق منها والمفهوم فقلنا

الباب الثالث في المنطوق والمفهوم ... ثالثهما المنطوق والمفهوم ... منطوقها ما دل يا فهيم ... عليه لفظ في محل النطق ...
أي ثالث العشرة الأبواب التي رتب عليها الكتاب المنطوق والمفهوم بالمعنى الاصطلاحي لا بمعنى ما يفهمة السامع من الخطاب فإنه شامل لهما وقدم المنطوق لكونه أقوى دلالة فقوله منطوقها أي الدلالة وهو إشارة إلى أنهما من أقسام الدلالة كما بنى عليه ابن الحاجب ومن تبعه فكلمة ما مصدرية عبارة عن الدلالة على هذا أي دلالة اللفظ على المدلول حال كونه حاصلا في محل النطق فالضمير في عليه يعود إلى المدلول المفهوم من المقام وفي محل النطق ظرف مستقر حال من ضمير المدلول والإضافة بيانية أي محل هو اللفظ المنطوق والمراد بكون المعنى مدلولا عليه بمحل النطق أنها لا تتوقف استفادته من اللفظ إلا على مجرد النطق لا على الانتقال من معنى آخر إليه فالمعنى فيما أفاده النظم أن المنطوق دلالة اللفظ على معنى في محل النطق ومحل النطق هو اللفظ

فلذا يفسرونه بكونه حكما للفظ وحالا من أحواله والقول بأن النطق حركة اللسان فاللسان محل النطق صحيح واللفظ أيضا محل للمعنى ولذا يقال الألفاظ قوالب المعاني فاللسان محل النطق والنطق محل المعنى فهو محل ثان فيصح جعله محلا ويصح أن يقال النطق بمعنى المنطوق به وهو اللفظ وهو محل قطعا ثم إنهم أرادوا بالدلالة ما يشمل المطابقة والتضمنية والالتزامية كما ستعرفه وإن الكل من قسم المنطوق وستعرف إن شاء الله ما فيه
واعلم أن الدلالة المطابقية هي دلالة اللفظ على كل معنى وذلك كدلالة لفظ إنسان على الحيوان الناطق فهذه مطابقية طابق اللفظ فيها المعنى أي ساواه فلم ينقص اللفظ عن معناه ولا المعنى عنه وهذه دلالة اللفظ على حقيقة معناه وهي المتبادرة عند إطلاق الدلالة وعند إطلاق اللفظ وقد يراد به الدلالة على جزء معناه كأن يطلق لفظ إنسان على حيوان فقط أو على ناطق فقط فهذه هي الدلالة التضمنية دلالة اللفظ على جزء ما وضع له وهي من أقسام المجاز لأنه أطلق الكل وهو لفظ إنسان وأريد به جزؤه وهو أحد الجزئين وأهل الأصول يجعلون دلالة التضمن وضعية وأهل المعاني والبيان يسمونها عقلية وعلى كل تقدير فهو من المجاز ولا بد له من العلاقة والقرينة فالعلاقة قد ذكرناها آنفا وأما القرينة فأنواعها معروفة وقد يراد باللفظ الدلالة على لازم معناه كما إذا أطلق إنسان وأريد به ضاحك مثلا فإنه لازم له ودلالته عليه عقلية عند الفريقين وهو مجاز أيضا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم وتفاصيل هذه الأبحاث في علم المنطق وما ذكرناه كاف لما نحن بصدد بيانه إن شاء الله ثم قسم ما يفيده اللفظ إلى قسمين أشار إليهما قوله ... وخذه قسمين على ما ألقيا ...
الأول قوله ... فإن أفاد اللفظ معنى واحدا ... لا غيره فسمه مساعدا ... نصاله الدلالة القطعية

أي حد المنطوق حال كونه قسمين الأول أن يقال إن أفاد اللفظ في دلالته معنى واحدا لا يحتمل غيره فسمه نصا لارتفاعه على غيره من الدلالات وقوته أخذا من قولهم نصت الظبية جيدها أي رفعته وهذا المعنى للفظ يقابله الظاهر الذي هو القسم الثاني وقد يطلق النص في مقابل الإجماع والقياس فيراد به الكتاب والسنة فيدخل تحته الظاهر فيسمى نصا ومن ذلك ما قدمناه من تقسم العلة إلى النص والإجماع والاستنباط ويطلق ويراد به ما دل على معنى ظاهر وهو غالب في استعمال الفقهاء كقولهم نص الشافعي على كذا وقولهم لنا النص والقياس ومثال النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا الأعلام الشخصية نحو زيد في دلالته الذات المعينة في قولك هذا زيد فإنه لا يتحمل معنى غير ذاته وإن قال النحاة أنه يؤكد بعينه ونفسه لدفع توهم التجوز فقد يقال إن التوهم ليس باحتمال فإن كونه أريد بهذا زيد هذا غلام زيد من باب الحذف وهم بعيد فدفع بعينه ونفسه والاحتمال يكون أقوى من الوهم هذا جمع بين القولين وقوله له الدلالة القطعية أي يحصل بدلالته على معناه القطع فلا ينتفي بشك ولا شبهة وقوله ... أولا فظاهر له الظنية ...
إشارة إلى القسم الثاني من قسمي المنطوق إلى دلالته أي أولا يدل على معنى واحد

بل تردد بين معان تحمل المقصود وغيره فإنه يسمى الظاهر أي ما كان أحد معانيه أظهر من غيره ولا ينافي الاحتمال والتردد وهذا تسمى دلالته ظنية أي تفيد الظن لدلالته على الاحتمال الراجح من الاحتمال المرجوح ... قيل ومنه العام ثم النص ... قسمان أيضا فالصريح نص ...
قال قوم من جملة الظاهر العام في دلالته على إفراده قبل تخصيصه لاحتماله له ويأتي تحقيق ذلك في بحثه ثم إن أهل الأصول قسموا النص إلى قسمين صريح وغيره قسموه كما قسموا المنطوق إلى قسمين ولذا قلنا أيضا وإن كان قد بعد فالقرينة تنادي بالمراد ثم بين قسمي النص بقوله ... بأنه ما وضع اللفظ له ... خاصا به وغيره ما دله ... بالتزام فالتزم ما أملي ...
فقوله بأنه متعلق بنص وقوله بانه أي الصريح في دلالته ما وضع اللفظ له يعني بالمطابقة والتضمن كما دل له المقابلة بالالتزام وخاصا حال من اللفظ أي حال كون اللفظ خاصا به بمعنى أنه مستفاد من اللفظ لا من أمر خارجي فالتقييد بالخاص إشارة إلى أن دلالة اللفظ على جزء معناه وهي التضمنية لفظية فهذا هو القسم الأول وهو الصريح
وأما الثاني فقد أفاده قوله وغيره ما دله أي ما دل عليه اللفظ بالالتزام فهو من باب الحذف والإيصال وفي عدوله عن قوله ما وضع له إلى ما دله الإشارة إلى أن دلالة اللفظ على لازم معناه عقلية لا وضعية وفيه خلاف إلا أن أهل الأصول يكتفون بمطلق اللزوم أي من أي جهة عرف أو وضع وأهل المنطق يشترطون اللزوم البين بحيث متى أطلق اللفظ بعد

العلم بوضعه فهم منه المعنى ثم إنه قسم أئمة الأصول غير الصريح وهو الدال بالالتزام إلى ثلاثة أنواع في قوله ... وخذ هنا أقسامه من نقلي ...
أي خذ أقسام الدلالة الالتزامية وذلك لأنها إما مقصودة للمتكلم فهي قسمان لأنه إما أن يقف الصدق عليه أو الصحة عقلا أو نقلا فهو دلالة الاقتضاء أول الثلاثة المدلولة لقوله ... أن يقف الصدق عليه عقلا ... أو صحة فالاقتضا أو نقلا ...
عقلا ونقلا تمييز عن قوله أن يقف الصدق ومعناه أن الكلام إذا كان ظاهره الكذب الذي لا يجوز على الشارع عقلا تعين طلب ما يخرجه إلى حيز الصدق وأشار إلى الأمثلة بقوله ... نحو رفع عن أمتي وأعتق ... عبدك عني واسألن واصدق ...
اقتباس من قوله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أخرجه الطبراني من حديث ثوبان باللفظ المذكور وقد روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة فلا بد في صدقه من تقدير المؤاخذة والعقوبة وإلا كان كاذبا لأنهما لم يرفعا أنهما واقعان من الأمة ففي البيت اقتباس واكتفاء وهذا مثال ما توقف الصدق عليه عقلا وأما مثال

ما توقف الصحة عليه عقلا فنحو قوله تعالى واسأل القرية أي أهلها وإليه أشار قوله واسألن إذ لو لم يقدر ذلك لما صح سؤال الجماد فهو من مجاز الحذف وأما توقف الصحة الشرعية الذي إليه أشار بقوله أو نقلا فمثاله قول الرجل الآخر اعتق عبدك عني أي مملكا لي فلا بد من تقديره لأنه لا يصح العتق شرعا إلا من مالك فهذه دلالة الاقتضاء سميت بذلك لأنه الحاجة إلى صون الكلام عن الفساد العقلي والشرعي اقتضت ذلك فهي في حكم المنطوق وإن كان محذوفا فلذا عدوه من أقسام المنطوق والقسم الثاني مما هو أيضا مقصود المتكلم ولم يتوقف عليه صدق ولا صحة عقلية ولا شرعية أشار إليه قولنا ... أو يقترن باللفظ ما لو لم يفد ... تعليله لكان عنه مبتعد ... كقلوه كفر وليست بسبع ... ولو تمضمضت بماء فاتبع ...
أي أو يقترن بالحكم وصف لو لم يفد ذلك الوصف تعليله أي كونه علة للحكم لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع ووضعه للكلام موضعه وقد أشرنا إلى الأمثلة الواقعة في كلامه صلى الله عليه و سلم الأول حديث المجامع في نهار رمضان أنه قال يا رسول الله جامعت أهلي في نهار رمضان فقال صلى الله عليه و سلم أعتق رقبة الحديث فلو لم يكن الجماع في نهار رمضان عليه إيجاب الإعتاق لكان ذلك الاقتران بعيدا عن فصاحة الشارع والحديث تقدم في القياس وهو متفق عليه بين الشيخين
وإلى المثال الثاني أشار قوله وليست بسبع يعني الهرة فإنه صلى الله عليه و سلم قاله جوابا لما قيل له إنك تدخل بيت فلان وفيه هرة لما

امتنع عن دخول بيت آخر فيه كلب والحديث أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة قال كان صلى الله عليه و سلم يأتي دار فلان من الأنصار دونهم فشق عليهم ذلك فقالوا يا رسول الله إنك تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا فقال إن في داركم كلبا فقالوا يا رسول الله وفي دارهم سنور فقال صلى الله عليه و سلم السنور ليس بسبع
وقوله ولو تمضمضت أشار إلى جوابه صلى الله عليه و سلم على عمر لما قال له إني قبلت في رمضان فقال أرأيت لو تمضمضت في ماء وقد تقدم في القياس جميع هذا والقسم الأول كما سموه دلالة الاقتضاء فهذا سموه بما أفاده قوله ... واسمه التنبيه والإيماء ...
أي أن دلالته تسمى دلالة التنبيه والإيماء تفرقه بين الأقسام بالأسماء مع المناسبة في تخصيص كل بما يسمى به فهذه أقسام ما قصده المتكلم من القسمين وإما غير مقصوده أي دلالة اللازم من كلامه أي لم يعلم قصده لأنه لو علم عدم قصده لم يعتبر فهو الذي قال فيه

وإن يكن لقصده ما شاء ... فإنه دلالة الإشاره ... كناقصات العقل في العباره ...
أي وإن يكن غير الصريح المدلول عليه فالالتزام غير مقصوده للمتكلم فإنه يقال له دلالة الإشارة وأشار إلى مثاله في الحديث النبوي وكل هذه الأمثلة اقتباس واكتفاء أو تلميح وهو قوله صلى الله عليه و سلم النساء ناقصات عقل ودين قلنا وما نقصان دينهن قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي فقد استدل به الشافعي على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما مع أنه غير مقصود لأن لفظ الشطر يدل عليه بالالتزام لأنه سبق للمبالغة في نقصان دينهم فيقتضي أن أكثر ما يتعلق به زمان الحيض ذلك فلو كان زمان الحيض أكثر من ذلك لذكره وهذا الحديث أورده الأصوليون وأهل الفروع بهذا اللفظ وقال أئمة الحديث من حفاظه إنه لا أصل له بهذا اللفظ ثم هو لو صح بمراحل عن الدلالة بأن أكثر الحيض خمسة عشر يوما لأن الشطر على فرض أنه حقيقة في النصف لا يتم الاستدلال به حتى يتم الدليل على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ولا دليل لعليه والمراد بيان أن الحديث لا أصل

له وأنه لو صح لما كان دلالة الإشارة في شيء وإنما أتى به الناظم متابعة لأهل الأصول نعم الأمثلة من القرآن كثيرة في ذلك منها قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم فإن دلالة الإشارة فيها في موضعين الأول قوله ليلة الصيام فإنه دال على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه المقصود من حل جماعهن بالليل الصادق على آخر جزء منه والثاني من قوله فالآن باشروهن إلى آخر الآية فإنه دال على أن إباحة المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر فيلزم منه جواز الإصباح جنبا
واعلم أن جعلهم اللازم في دلالة الإشارة غير مقصود للمتكلم محل نظر وكيف يحكم على شيء يؤخذ من كلام الله أنه لم يقصده تعالى وتثبت به أحكام شرعية ومن أين الاطلاع على مقاصد علام الغيوب فإن أرادوا قياس كلامه على كلام العباد فإنه قد يستلزم كلامهم ما لا يريدونه ولا يقصدونه ولا يخطر لهم ببال ولذا جزم المحققون بأن لازم المذهب ليس بمذهب لأنه لا يقطع بأنه قصده قائله بل لا نظن وكذلك التخاريج على كلام أئمة العلم لا تكون مذهبا لمن خرجوه عنه وذلك لقصور البشر وأنه لا يحيط علمه عند نطقه بلوازم كلامه قطعا ولا يقصده بخلاف علام الغيوب فهو يعلم بلوازم كلام العباد وما تطلقه ألسنتهم وما يكنه الفؤاد فكيف ما يتكم عز و جل به وقد ذاكرت بعض شيوخي بهذا ومن أتوسم فيه الإدراك فما وجدت ما يشفي مع هذا الاتفاق من أئمة الأصول عليه وقد كنت كتبت على الفواصل شيئا من هذا وأشار إليه مؤلفها رحمه الله تعالى

واعلم أنهم قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح وجعلوا الصريح ما دل على معناه مطابقة أو جزئه تضمنا وجعلوا غير الصريح ما دل بالالتزام فاستغرق المنطوق الدلالات الثلاث وقد قسموا اللفظ الدال على منطوق ومفهوم في أول البحث فالمفهوم دال على معنى لكنهم لم يبقوا من الدلالة قسما له
ولنذكر سؤالا وصل إلينا عند تأليف هذا ونحن في أثنائه فأجبنا عليه ورأينا نقلهما هنا باختصار لأنها لا تخلو كتب الفن المتداولة كالمختصر لابن الحاجب وشروحه والغاية وشرحها عن هذا التقسيم وتبعهم صاحب أصل النظم
وحاصل السؤال قد قسم أئمة الأصول اللفظ الدال إلى قسمين منطوق ومفهوم ثم قسموا المنطوق إلى قسمين صريح وهو ما دلالته مطابقة أو تضمنا وغير الصريح وهو مادل بالالتزام وليس لنا في العلوم إلا الدلالات الثلاث وقد جعلوا قسمي المنطوق مستغرقة لها ثم قالوا في المفهوم إنه ما دل لا في محل النطق فأي دلالة يريدون إذ بأي دلالة دل اللفظ فهو منطوق فالمراد بيان الدلالة عند القائل بالمفهوم من أي أقسام الدلالات هي
وحاصل الجواب قد تنبه سعدالدين في حواشي العضد للإشكال هذا فقال الفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل تأمل لم يزد على هذا ثم بحثنا كثيرا من كتب الأصول فلم نجد ما يزيل الإشكال وذلك أنهم قالوا دلالة المفهوم التزامية قيل لهم قد جعلتم ما دل بالالتزام منطوقا غير صريح وإن قلتم إنها مطابقة أو تضمنا فقد جعلتموها منطوقا صريحا ثم لا تساعدكم قواعد العلوم على أن دلالة اللفظ على مفهومه من أحد القسمين ثم رأيت في الآيات البينات ما يدل أو فائدة على أنه لا جواب للإشكال على هذا التقسيم فإنه قال إن هذا التقسيم اختص به ابن الحاجب ولفظه قد كشفت كثيرا من كتب المتقدمين المعتبرة الجامعة كالبرهان لإمام الحرمين

والقواطع لابن السعان ولم يسمح الزمان بمثلهما ولا نسج عالم على منوالهما والمستصفى لحجة الإسلام الغزالي والمحصول للإمام فخر الدين الرازي والمنهاج للعلامة البيضاوي وشرحيه للأسنوي والمصنف يريد به ابن السبكي وناهيك بهما والإحكام للآمدي فلم أر فيها تعرضا لهذا الرأي ولا إشارة إليه يريد رأي ابن الحاجب ومن تبعه في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح ثم قال إمام الحرمين في البرهان ما نصه ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما ما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت لا ذكر له على نصيه التصريح ثم قال وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم انتهى
قال صاحب الآيات فانظر هذا التصريح من هذا الإمام حيث حصر ما يستفاد من اللفظ في نوعين المنطوق والمفهوم وفسر المنطوق بما يتلقى من المنطوق به المصرح بذكره فإن هذا التفسير لا يشمل إلا المعنى المصرح بلفظه فليس في كلامه تعرضا لغير المنطوق الصريح بل كلامه كالصريح في عدم إثبات منطوق غير الصريح ونقل كلام غير غير إمام الحرمين بمثل كلامه ثم

قال وبالجملة إن ما قاله ابن الحاجب ليس من كلام القوم بل هو اصطلاح له وإن تبعه الهندي وأطال المقال وقد حصل المراد من أن الإشكال متوجه على ابن الحاجب ومن تبعه كصاحب الفصول وغاية السؤال والكافل ونظمه الجامع لما فيه ثم لما فرع من أقسام المنطوق أخذ في أقسام المفهوم فقال
فصل في المفهوم ... وإن يدل لفظه المعلوم ... لا في محل النطق فالمفهوم ...
أي إن اللفظ الدال على معنى إما أن يدل بمحل النطق وقد مضى بأقسامه أو يدل لا في محل النطق كما عرفت فإنه المعنى المراد الموسوم بالمفهوم وقد قسمه الأصوليون إلى قسمين افادهما قوله ... وإنه نوعان فالموافقة ... للحكم فالمنطوق والمطابقة ...
أي القسم الأول أن يوافق حكم المفهوم المنطوق ولا يخالفه فلذا سمي بمفهوم الموافقة وهو قسمان الأول أرشد إليه قوله ... إن كان ما يسكت عنه أولا ... فإنه الفحوى وهذا الأولى ...
هذا هو أول قسمي مفهوم الموافقة ويسمى فحوى الخطاب أي إن كان ما سكت عنه أي لم يلفظ به أولا بالحكم الذي دل عليه اللفظ فهو فحوى الخطاب قال الزركشي إن الفحوى ما يفهم من الكلام بطريق القطع وقد مثلناه بقولنا

كقوله سبحانه ولا تقل ...
اقتباس من آية سبحان في قوله تعالى ولا تقل لهما أف فإن الذي سكت عنه هو تحريم الضرب أولا بالحكم وهو التحريم من التأفيف الدال عليه المنطوق وكالجزاء بما فوق مثقال الذرة من قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكعدم تأدية القنطار في قوله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وهذه الأمثلة من قسم التنبيه بالأدنى على الأعلى وعكسه الحكم بتأدية الدينار المفهوم من قوله ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك فإنه يدل على تأدية الدينار بطريق الفحوى ولذا قلنا إنه من التنبيه بالأعلى على الأدنى وعبارة النظم شاملة للأمرين فإن المسكوت فيهما أولى بالحكم من المنطوق أي أكثر مناسبة في الحكم فإن الأذية بالضرب أكثر مناسبة للتحريم منها بالتأفيف ومثله فيما عداه من الأمثلة والقسم الثاني من قسمي مفهوم الموافقة أشار إليه قوله ... وإن يكن من غير أولى ويدل ...
أي إن يكن غري أولى بل تساوى ما دل عليه المنطوق في الحكم وما أفهمه المسكوت عنه ... فإنه لحن الخطاب اسما ...
أي فإنه يسمى عندهم لحن الخطاب فاسما منتصب على التمييز من الجملة الخبرية وخص بهذا الاسم لأن دون قسميه في الدلالة لما فيه من الخفي واللحن لغة العدول بالكلام عن الوجه المعروف إلى وجه لا يعرف إلا صاحبه وهذا اصطلاح للفرق بين القسمين ومثاله تحريم إحراق مال اليتيم وإغراقه المفهوم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى فإن دل على تحريم ذلك لمساواته للأكل في الإتلاف

واعلم أنه قد اختلف أئمة الأصول في مفهوم الموافقة هل هو بنوعيه من المفهوم أو من القياس أو ليس من المفهوم إلا ما هو منه بطريق الأولى
فقيل إنه بنوعيه من القياس لصدق حده عليه فإنه إلحاق معلوم بجامع منهما وهذا اختاره صاحب الفصول وحكاه عن الجمهور
وقيل بل هو من المفهوم فإنه يفهم ذلك منه من لا يعرف القياس الشرعي ولذا قال به كثير من نفاة القياس
وقيل في التفصيل وهو أن القسم الأول منه وهو الأولى من المفهوم لا المساوي وهذا مذهب ابن الحاجب ووافقه آخرون قالوا للقطع بفهم هذه المعاني من هذه الصيغ فإن العرب إنما يريدون بمثل هذه العبارات المبالغة في التأكيد للحكم في الموضع المسكوت عنه فيقولون لا تعطه مثقال ذرة فيكون أبلغ من المنع عما فوقها وهذا يعرفه كل من يفهم اللغة من دون نظر واجتهاد قالوا بخلاف القسم الثاني وهو المساوي فلخفائه في الدلالة يحتاج إلى نظر واجتهاد في دلالته على حكم المسكوت عنه والنظر هو بالقياس الشرعي
وقد قيل الخلاف لفظي وإنه لا تنافي بين القول بأنهما من القياس أو من المفهوم ثم اختلف من أي الأقسام دلالة مفهوم الموافقة على مدلولها فقيل إنه حقيقة عرفية بمعنى أنه في الأصل موضوع للمذكور لا غير ذلك

لكن صارت اللفظة اللفظة في العرف تدل عليه وعلى المسكوت معا وقيل دلالته عليه مجاز إذا فهمت دلالته من السياق والقرائن فتكون من إطلاق الأخص على الأعم وهو رأي الغزالي والآمدي وتحقيقه أنه أطلق التأفيف وأريد به الأذية الشاملة له وللضرب وغيرهما مما يدخل تحته وأورد عليه بأن بين التأفيف والضرب التباين لا الخصوص والعموم وأجيب بأن قرينة إرادة تعظيم الأبوين مثلا وتكريمهما قرينة تمنع أن يراد مجرد التأفيف بل يراد به تحريم الاذية بأي وجه كانت وفي هذه كفاية وفي المطولات زيادات لا تحتمل هنا ثم أشار إلى القسم الآخر من المفاهيم فقال ... ثم خذ الآخر منها قسما ...
والآخر هو مفهوم المخالفة ولذا قال ... واسمه المفهمم للمخالفه ... لأنه باينه وخالفه ...
بيان لوجه التسمية وهو أن المفهوم باين ما دل عليه المنطوق وخالفه فسمي به كما يسمى الأول بالموافقة لما وافق ما دل عليه المنطوق ويسمى أيضا دليل الخطاب كما قال ... واسمه الدليل للخطاب ...
لأن دلالته من جنس دلالة الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه
وهو ستة أقسام كما دل له قوله ... أقسامه الستة في الكتاب ...
اللام للعهد الخارجي أي الكتاب الكافل الذي هو أصل النظم ثم ذكرها وبدا بمفهوم اللقب ترقيا من الأضعف إلى الأقوى فقال

أضعفهاالمفهوم للألقاب ... أهملها جماعة الأصحاب ...
المراد من اللقب ما يشمل العلم كزيد والجنس كغنم وقد يعبر عنه بمفهوم الاسم وأكثر العلماء على عدم العمل به وخالف فيه جماعة
قال إمام الحرمين القول باللقب صار إليه طوائف من أصحابنا ونسب إلى احمد ومالك
قال ابن دقيق العيد اللقب ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة من التعليل فإن وجدت كان حجة وذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم وإذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فإنه يحتج به على أن للرجل أن يمنعها إذا أستأذنته إلى غير المسجد لأن تخصيص عدم المنع بالخروج إلى المسجد قد اشتمل على معنى مناسب وهو كونه محلا للعبادة بخلاف غيره والأظهر أن فائدة تخصيص الشارع بذكر اللقب هو ربط الحكم وتعليقه به دون غيره مما يفهم منه فلم يحكم عليه بنفي ولا إثبات مثاله قوله تعالى اسجدوا لآدم تعليق بالأمر للسجود لآدم دال على أن غيره ليس بمأمور للسجود له ولا منهي عنه وهذا هو كفائدة تخصيص ذكر الصفة في القول في الغنم السائمة زكاة ويأتي تحقيق ذلك بأنه إذا لم يظهر لها فائدة غير تعليق الحكم عليها تعينت لذلك ولا ينهض دليل على غير هذا كما يأتي في الاستدلال على العمل ببقية المفاهيم إن شاء الله تعالى ثم أخذ في ذكر بقية المفاهيم فقال ... فالوصف ثم الشرط ثم الغايه ... والعد ثم الحصر في الدراية ...
أحاط النظم بخمسة أنواع من مفهوم المخالفة فالأول الصفة والمراد

هنا بها لفظ مقيد لآخر غير منفصل عنه يفيد نقص الشيوع أو تقليل الاشتراك ليس بشرط ولا استثناء ولا غاية ولاعدد فيدخل التقيد بطرف الزمان نحو الحج أشهر معلومات إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة والمكان لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
واعلم أن حقيقة الصفة ما وضع ليدل على الذات باعتبار معنى ذلك المعنى هو المقصود ويقابلها ما يكون المقصود أولا وبالذات هو الذات ولا يلاحظ سواه من حيث كونها مقصودة ولا تخرج الصفة عن هذا المعنى سواء كانت بطريق التوصيف أو الحالية أو الإضافة وهذا مراد أهل الأصول من قولهم هي لفظ مقيد لآخر لأن الصفة قيد من القيود للمحكوم عليه والقيود هي المعاني التي وضعت لتقييد الذوات فالمراد من قولهم لفظ مقيد لآخر ما يصلح أن يكون قيدا وليس ذلك إلا فيما يدل على الذات باعتبار معنى هو المقصود وقولهم لآخر أعم من أن يكون ذلك الآخر ملفوظا أو مقدرا لما علم من أن المقدر كالملفوظ مع القرينة ولأجلها يحذف الموصوف تارة والصفة أخرى كما هو مقرر في موضعه وإذا عرفت هذا عرفت أنه لا فرق بين قولنا في الغنم السائمة زكاة أو قولنا في سائمة الغنم زكاة فإن مفهومها أنه لا زكاة في معلوفة الغنم وتعرف أن تفرقة ابن السبكي بينا لماثلية أن

المقيد في المثال الأول الغنم بوصف السوم وفي الثانية السائمة بوصف كونها من الغنم وأن مفهوم الأول عدم وجوب الزكاة في الغنم العلوفة التي لولا التقييد بالسوم لشملها لفظ الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في سائمة غير الغنم كالبقر مثلا التي لولا تقييد السائمة بإضافتها إلى الغنم لشملها ويزيده وضوحا ان لقولنا في الغنم السائمة زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب وهو بقولنا بسائمة الغنم زكاة منطوقا ومفهوم الصفة ومفهوم لقب منطوقهماواحد هو وجوب الزكاة في السائمة من الغنم ومفهوم الصفة فيهما مختلف فمفهوم الأول عدم الوجوب في الغنم المعلوفة ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم اللقب فيهما مختلف أيضا فإن مفهوم الأول عدم الوجوب في غير الغنم ومفهوم الثاني عدم الوجوب في غير السائمة غير صحيحة لأن قولنا في السائمة زكاة مما حذف فيه الموصوف كما عليه الجمهور وأصله في الغنم السائمة فجعل الصفة في سائمة الغنم ولفظ الغنم من تقليب المفاهيم وتعكيس الكلام وكذا جعله للسائمة زكاة من مفهوم اللقب باطل لأن الموصوف مقدر لأن السائمة في نفسها يتعين أن تكون صفة فإن السوم حال من أحوال الغنم ضرورة لغوية وعقلية وقد وقع بحث في هذه المسألة بين مؤلفي الفواصل رحمهم الله تعالى وبين شيخه وأبان شيخه هذا التحقيق واستحسنه ورد به على ابن السبكي وقد بسطه في موضع آخر
إذا تقرر هذا فقد اختلف في كون مفهوم الصحة حجة على أقوال
الأول للأكثر أنه حجة لشرائط ستأتي ومعناه أنه إذا ورد من الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم نص معلق بصفة ما أو زمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد يجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص فإن تعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وذلك إذا ذكرت الصفة مع موصوفها لا إذا ذكرت مفردة نحو في السائمة زكاة ففيه اختلاف والشرط في العمل بها أن لا يكون لها فائدة سوى نفي الحكم

والقول الثاني ليس بحجة وهو قول كثير من أئمة الزيدية
الثالث التفصيل لأنها إن كانت الصفة مناسبة للحكم فحجة نحو في الغنم السائم زكاة لا إذا لم تكن مناسبة نحو في الغنم العفر زكاة
الرابع تفصيل أيضا هذا وهو أنه حجة في صور ثلاث الأولى أن يرد الخطاب للبيان الثانية أن يرد للتعليم أي ابتداء حكم لم يسبق ذكره مجملا ولا مفصلا الثالثة ان يكون ما عدا الصفة داخل تحتها بشرائط ستأتي
وقال بعدم حجيته مطلقا جماعة من الأئمة وغيرهم ومن أهل البيت المنصور والإمام يحيى قال وهو الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة ومحققو الأشعرية كالجويني والغزالي والرازي والباقلاني وغيرهم قال الأولون لو لم يعتبر لخلي ذكره عن الفائدة وذلك يمتنع من الحكيم فهو أولى بالاعتبار من دلالة التنبيه وقد قلتم باعتبارها
ورد بأن فائدته تشخيص مناطق الحكم فهو لتحصيل أصل المعنى فهو كاللقب فإن قولك أكرم زيدا التميمي أوقعت الأمر بالإكرام على زيد المقيد بكونه تميما وليس على زيد فقط وللموصوف بالصفة فهي داخلة في مفهومه فلا يلزم من إيقاع الأمر عليه اختصاصه به كما هو المدعي بل غايته

بقاء غير المذكور في حيز الاحتمال فإن كل قضية وخطاب فإنما يعطيك ما فيه من حكم فقط ولا يعطيك حكما في غيره بأنه موافق له أو مخالف بل ذلك موقوف على دليليه فقول الجمهور إذا لم يعتبر المفهوم لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة باطل إذ فائدة ذكر الصفة تعيين من أريد بالأمر بإكرامه في المثال الذي ذكرنا وكيف تطلب فائدة زائدة على فائدة الوضع ألا ترى أن زيد القيسي مثلا بالنسبة إلى مثالنا يحتمل ثلاثة أحوال الأمر بإكرامه أو النهي عن إكرامه أو السكوت عنه ليس مأمورا بإكرامه اتفاقا ومدعي المفهوم بقول هو منهي عن إكرامه ولا دليل عليه إذا وضع الصفة لتقليل الاشتراك وقد حصل فلو أن زيدا القيسي مسكوت عنه وبهذا يعرف أن مفهوم الصفة كمفهوم اللقب وأنه يختل الكلام عند إسقاط الصفة لأن المأمور به إكرام زيد التميمي لوجود هذه الصفة فلا يتم امتثال الأمر إلا بهما وإلا لاختل الكلام ومثله إذا قلت جاءني زيد الطويل فإنه ليس المسند إليه مسمى زيد فقط بل الموصوف بالطويل فالصفة داخلة في مفهوم المسند إليه فهي لتحصيل معنى يختل الكلام من دونه ولا تدل على اختصاصه بالمجيء وإن زيدا القصير مثلا ما جاء بل هو مسكوت عن الحكم عليه يحتمل أنه جاء وأنه لن يجيء وأنه لم يخطر بالبال مجيئه وعدمه
الثاني في البيت مفهوم الشرط والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة شرط وهو الشرط اللغوي واعلم أنه لا خلاف في أنه يثبت المشروط عند ثبوت الشرط بدلالة إن عليه وفي أنه يعدم المشروط عند عدم الشرط وإنما الخلاف في أن عدم المشروط مستفاد من دلالة إن عليه أو هو منتف بالأصل كمن قال بالمفهوم انتفى بدلالة إن على انتفائه ومن لم يقل به قال الأصل العدم ولذا يقال المعلق بالشرط عدم قبول وجود الشرط
والثالث منه مفهوم الغاية وهو مد الحكم إلى غاية بإلى وحتى ومثاله وأتموا الصيام إلى الليل ولا تقربوهن حتى يطهرن

قال الزركشي نص الشافعي في الأم على القول به ومنهم من أنكره وقال هو نطق لما قبل الغاية وسكوت عما بعدها فيبقى على ما كان عليه
الرابع منه مفهوم العدد نحو قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة فالقائل به يقول أفاد تحريم الزيادة عليها وفيه خلاف بين العلماء منهم من لم يقل به ويقول تحرم الزيادة على الثمانين معلوم من أن الأصل حرمة المسلم وتحريم ضربه
الخامس منه مفهوم الحصر نحو إنما الصدقات للفقراء و إنما الولاء لمن اعتق اختلف فيه فنفاه قوم وقال آخرون إنه منطوق فإن المثال الثاني أفاد إثبات الولاء للمعتق بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم ومنه النفي بما أو لا والاستثناء نحو لا عالم إلا زيد وما علم إلا زيد صريح في نفي العلم عن غير زيد ويقتضي إثبات العلم له وجانب الإثبات فيه أظهر فلذا جعلوه منطوقا فيفيد الإثبات منطوقا والتقي مفهوما وقد أنكره قوم كما يأتي في بحث الاستثناء وقوم قالوا إنه منطوق والأكثر قالوا إنه مفهوم

ومن طرق الحصر ضمير الفصل نحو زيد هو القائم ويفيد إثبات القيام له ونفيه عن غيره ومنه فالله هو الولي بعد قوله أم اتخذوا من دونه أولياء وقوله إن شانئك هو الأبتر ذكره أئمة علم البيان
ومن طرقه تقديم المعمول نحو إياك نعبد وإياك نستعين أي نخصك بالعبادة والاستعانة
وله طرق أخر معروفة في علم البيان ومطولات الفن قال في جمع الجوامع إن أعلاه لا عالم إلا زيد أي النفي والاستثناء وأشرنا ان قوما يجعلون مفهوم الحصر منطوقا وقال آخرون إن العدد أيضا منه فأشار إليه قوله ... وقيل منطوقان عند البعض ... وهو لدى التحقيق غير مرض ...
عبارة أصل النظم وقيل هما أي المقدم ذكرهما في كلامه وهو العدد والحصر بإنما من المنطوق فضميرهما في كلام الأصل للعدد والحصر بإنما قيل ولم يقل أحد بأن مفهوم العدد منطوق فلا يصح كلام أصل النظم وإنما الخلاف في الحصر بما وإلا قال بعض الجدليين إنه منطوق بدليل أنه لو قال ما له علي إلا دينار كان إقرارا بالدينار حتى يؤاخذ به فلولا أنه منطوق لما ثبتت المؤاخذة به لأن دلالة المفهوم لا تعتبر في الأقارير بالاتفاق وأشار في جمع الجوامع أنه قيل إنه منطوق أيضا
واعلم أن ترتيبها عندهم في القوة كما رتبناه نظما وفيه بعد ذلك خلاف وأنه لا بد للعمل بالمفهوم عند القائلين به من شروط تضمنها قوله ... هذا وشرط الأخذ بالمفهوم ... ما قد أتى فخذه من منظوم ... أن لا يكون مخرجا للأغلب ... ولا جوابا لسؤال أجنبي

أي للأخذ بالمفهوم والعمل به شرائط
الأول ألا يكون خرج مخرج الأغلب لأنه يكون كالوصف الكاشف نحو الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله فإنه لا مفهوم لهذه الصفات ومثل الأصوليون ذلك بقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم التقييد بالوصف وهو الكون في الحجر لكونه الأغلب في الربيبة ومثله إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فالتقييد بالسفر يكون عدم وجدنا الكاتب فيه هو الغالب فيصح الرهن في الحضر قال في شرح الأصل لم يرد في ذلك أي قيد الكون في الحجور أن الربائب إذا لم يكن في الحجر كان حلالا للإجماع على تحريم الربيبة مطلقا انتهى وليس كذلك فإنه فيه خلاف داود ومالك وفيه رواية عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنها إذا كانت بعيدة حلت له ذكره ابن عطية وغيره مسندا وفيه خلاف كثير لجماعة من المحققين وخالف في هذا الشرط إمام الحرمين وابن عبدالسلام
الثاني من الشروط أن لا يكون جوابا لسؤال سائل كما أشار إليه عجز البيت وذلك كأن يقول السائل في الغنم السائمة زكاة فيجاب عليه بأن في الغنم السائمة زكاة فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها
والثالث منه قوله ... ولا أتى في حادث تجلدا ... وليس في جهالة قد وردا

أي من شرط الأخذ بالمفهوم أن لا يأتي بسبب حادثة تجددت كأن يقال في حضرته صلى الله عليه و سلم لفلان غنم سائمة فيقول فيها زكاة فإنه لا يعمل بهذا المفهوم ومثال الثاني أن يعتقد المكلف أن في المعلوفة زكاة ولم يعلمها في السائمة فيقول صلى الله عليه و سلم في السائمة زكاة فلا يؤخذ بهذا المفهوم قالوا لأنه صلى الله عليه و سلم لم يرد في الأول التقييد بل أراد مطابقة السؤال
وفي الثاني بيان أنها في السائمة كما في المعلوفة قالوا ولما كانت دلالة المفهوم من أضعف الدلالات تصرفها أدنى فائدة تظهر بخلاف اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص أو حادثة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن العام قوي الدلالة على إفراده حتى ادعت الحنفية أنه قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده فهذه الأربعة الشروط كما ذكره تنبيها على فوائد القيود وأنها إذا تعينت فائدة منها لم يبق على اعتبار المفهوم دليل
قالوا ومن شرط الأخذ به أن لا يكون للمتكلم غرض غير المفهوم فيؤخذ به لئلا يخلو كلام الحكيم عن حكمة وغرض وفائدة
قال في نجاح الطالب يقال لهم الوحي مختص بعلام الغيوب وما عندنا من معرفة حكمه الأمثل ما يأخذ المخيط من البحر قل لو كان البحر مداد لكمات ربي الآية لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام فإذا كان هذا حالنا الذي لا نفك عنه فكيف نعلم أو نظن نفي جميع حكمه في أمر ما هذا إلا حالة على المحال انتهى قلت ونعم ما قال وكان الأحسن أن يقول معرفة الله مراد الله للشيء لا تكون

إلا بالوحي ومعرفة عدم إرادة العباد لا يعرفها إلا خالقهم ولما كانت الفوائد لا تنحضر فيما ذكرناه أتى النظم بضابط فقال ... وغيره مما اقتضى التخصيصا ... لذكره فاتبع التنصيصا ...
أي وغير ما ذكرنا مما اقتضى تخصيص الحكم المذكور بالقيد كزيادة الامتنان في قوله لتأكلوا منه لحما طريا فلا يدل على نفي الأكل من القديد والتهويل مثل لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فلا يفيد حل أكله إذا لم يكن كذلك والتعبير للمخاطب نحو قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا بأنه من ليس بأهل للعفة قد أرادها دون أهلها وكقصد التكثير فالألف والسبعين كقولك جئتك ألف مرة أو سبعين ولم يرد إلا التكثير فالألف لا حقيقة العدد فقولهم أسماء العدد نصوص فيما وضعت له المراد إذا لم تقم قرينة تصرفها عنه
والحاصل أنه لا يعتبر المفهوم إلا بأن لا يظهر للقيد فائدة تقتضي تخصيصه بالذكر سوى نفي الحكم وعلى هذا اقتصر جماعة من أئمة الأصول
واعلم أن للناس ثلاثة أقوال في المفهوم الأول القول به حتى مفهوم اللقب قال به الدقاق والصيرفي والثاني عدم القول به وهو رأي جماعة كثيرة منهم الظاهرية قال ابن حزم كل خطاب وكل قضية فإن ما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لأن ما عداها موافق لها ولأنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله فنفى مفهوم الموافقة

ومفهوم المخالفة وأطال في رد الأمثلة ووافق الحنفية فإنهم ينكرونه لكن لهم تفاصيل أخر
واعلم أنه لما شاع عن الحنفية نفي المفاهيم هجن عليهم من لم يحقق مرادهم بأنه يلزمه أن تكون كلمة التوحيد غير دالة على إثبات الإلهية لله تعالى وهذا يخالف ما أتفق عليه من إثباتها له تعالى أمر لا نزاع فيه فرايت أن أنقل نصهم من المنار وشرحه ليعرف مرادهم قال والاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثني
أي يمنع في المستثنى نظرا إلى الظاهر لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم بقدر المستثني فيسير التكلم به عبارة عما وراء المستثنى فيكون الاستثناء مانعا للموجب والموجب جميعا بقدر المستثنى فينعدم الحكم فالاستثناء لانعدام الدليل الموجب له من صورة التكلم فيجعل الاستثناء تكلما بالباقي بعده أي بعد المستثنى وعند الشافعي يمنع الحكم بطريق المعارضة يعني الموجب لا الموجب كما في التعليق وعندنا يمنع كليهما كما في التعليق فصار تقدير قول الرجل لفلان علي ألف إلا مئة عندنا ثبت لفلان علي تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة وعنده أي الشافعي إلا مئة فإنها ليست علي فإن صدر الكلام يوجبه والاستثناء ينفيه فتعارضا فتساقط بقدر المستثنى واستدل الشافعي ومن معه بإجماع أهل اللغة على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهذا دليل على أن حكمه يعارض حكم المستثنى منه ولأن

قوله لا إله إلا الله للتوحيد أي وضع لإفادته ومعناه النفي والإثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره أي نفيا لما سوى الله تعالى لأنه هو الباقي بعد الاستثناء لإثباته للألوهية لله فيصح من كونها كلمة التوحيد بالإجماع أن معنى قولنا إلا الله أنه الإله بطريق المعارضة ولنا قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون أي الإنشاء يثبت لا في الأخبار لأنه لو ثبت حكم الألف بجملته ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أولا فلزم الكذب في أحد الأمرين تعالى الله عن ذلك ومن أدلتهم أي الحنفية أن أهل اللغة قالوا الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي الثنيا أي المستثنى كما قالوا إنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما لانه هو الأصل
وقالت الحنفية نقول إنه تكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وعبارته لأنه هو المقصود الذي سيق الكلام لأجله ونفي وإثبات بإشارته لأنهما فهما من الصيغة من غير أن يكون سوق الكلام لأجلهما لأنهما غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه خلاف حكم المستثنى منه ثبت النفي والإثبات ضرورة لأنه حكمه يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعد الاستثناء ظهر النفي لعدم علة الإثبات وسمي نفيا مجازا
تحقيق ذلك أن الاستثناء بمنزلة الغاية من المستثنى منه لكون الاستثناء بيانا أنه ليس مرادا من الصدر كما أن الغاية بيان أنها ليست مراده من المغيا

فكما أن الاستثناء يدخل على النفي فينتهي بالوجود وعلى الإثبات فينتهي بالنفي فكذلك الغاية ينتهي بها الحكم السابق إلى خلافه وهذا المجموع ثابت بحسب اللغة لكن لما كان الصدر مقصودا جعلناه عبارة والثاني لما لم يكن مقصودا بل ليتم به الصدر جعلناه إشارة ولذلك اختير في كلمة التوحيد لا إله إلا الله ليكن إثبات الألوهية لله تعالى إشارة ونفيها قصدا لأن المهم في كلمة التوحيد نفي الشريك مع الله تعالى لأن المشركين أشركوا معه غيره فيحتاج إلى النفي قصدا وأما إثبات الألوهية لله تعالى فمفروغ منه غير محتاج إلى اثباته بالقصد لأن كل عاقل معترف به قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فيكفي في إثبات ذلك الإشارة وهذا الحصر من قبيل قصر الإفراد
ولقائل أن يقول الاستثناء نص في خروج حكم المستثنى من حكم المستثنى منه حتى لا يصح إثبات مثل حكمه معه بخلاف الغاية فإنه ليس كذلك حتى يصح سرت إلى البصرة وجاوزته ولا يصح أن تقول جاءني القوم إلا زيدا فإنه جاء هكذا أورده شارح المنار على أصحابه ولم يجب عنه ثم قال والجواب عما قال الشافعي إنما يكون بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كبعضه ولم يستو الكل والبعض في الاستثناء فإن استثناء الكل باطل اتفاقا لا يقال إنما لا يصح استثناء الكل لأنه رجوع بعد الإقرار لأنا نقول لا يصح استثناء الكل فيما يصح فيه الرجوع كالوصية فإنه يصح الرجوع عنها ومع هذا لا يصح استثناء الكل فلو قال أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي فالاستثناء باطل لأنه لم يبق بعد الاستثناء شيء يكون الكلام عبارة عنه
ولقائل أن يقول إنما لا يصح استثناء الكل لأنه يؤدي إلى التناقض وهو غير معقول بخلاف نسخ الكل فإنه لا يؤدي إليه لاختلاف الزمان انتهى
وأقول قد اتفق الفريقان بأن كلمة لا إله إلا الله قد دلت على نفي الألوهية عما سواه وإثباتها له لكن إثباتها له تعالى سماه الحنفية إشارة وسموا

النفي عبارة نظرا إلى المقصود بالكلام وانه لم يسق أصالة إلا لنفي الألوهية عن غيره تعالى واما إثباتها له فغير مقصود من الكلام لأن كل عاقل يعتقده
قلت ولذا قالوا في الأصنام إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فلم يكونوا نافين له بل أثبتوا معه غيره فخوطبوا بكلمة التوحيد والقصد نفي الألوهية عن غيره تعالى ولذا قال إنه قصر إفراد وعلى رأي من أثبت المفهوم إنهما أي النفي والإثبات قصدا سواء النفي والإثبات وأنها أفادت إثبات الأولهية له تعالى كما أفادت نفيها عما سواه لكن الأول سموه مفهوم قصر والثاني منطوق والقصد فيهما سواء إلى إثبات الحكم ونفيه إنما اختلفت طريقة الدلالة وفي مثل له علي ألف إلا مئة الحكم منصب إلى تسع مئة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المئة فقد اتفق الفريقان أنه لا يلزمه إلا تسع مئة فالحكم في المستثنى منعدم لانعدام الدليل الموجب له في صورة التكلم به
واعلم أن مثبت الحكم هنا للمفهوم إنما يقول به في الاستثناء المتصل وبه يعرف بطلان قول من قال إنها تظهر فائدة الخلاف فيما إذا استثنى خلاف الجنس كقوله لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إلى آخر كلامه فإن هذا استثناء منقطع وليس الكلام فيه
واعلم أن الاستدلال بإجماع أئمة العربية بأنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وقد قدح فيه بأن الكوفيين لا يقولون بذلك كما نقله الزركشي في شرح الجمع ونقله ابن عقيل وغيره عن الكناني بأن جاءني القوم إلا زيدا معناه القوم المخرج منهم زيد دون نظر إلى الحكم على زيد بالمجيء أو عدمه ولا بد إن شاء الله من زياد تحقيق يأتي في التخصيص بالاستثناء

واعلم أنه أثبت القول بالمفاهيم مخالفة وموافقة جماعة كما عرفت ونفاه الظاهرية جملة حتى الموافقة نحو دلالة فلا تقل لهما أف على النهي عن الضرب فقالوا لا يدل عليه
قال أبو محمد بن حزم هذا مكان عظيم فيه أخطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد النص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه و سلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفات وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها
وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحابنا الظاهرية وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل يكون ذلك موقوفا على دليله
قال أبو محمد وهذا هو الذي لا يجوزغيره لأن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها فقط ولا تعطيك حكما في غيرها لا على أن ما عداها مخالف لها ولا أنه موافق لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله
ثم قال أما قول الله تعالى فلا تقل لهما أف فلم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربها ولا قتلهما ولما كان فيها إلا تحريم قول أف فقط ولكن لما قال الله تعالى في هذه الآية نفسها وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني

صغيرا اقتضت هذه الألفاظ من الظاهر حذف من من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل لهما والرحمة بهما والمنع من الانتهار لهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فهذه الألفاظ والأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرب وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول أف ولا بألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرأ منهما او منعهما رفده في أي شيء كان في غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة ولو كان النهي عن قول أف مغنيا عما سواه من وجوه الأذى إذا لما كان لذكره تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول اف النهي عن النهر والأمر بالإحسان وغيرهما فائدة فلما لم يقتصر على الأف وحده بطل قول من ادعى ان يذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من ألفاظ الآية معنى غير معنى سائر ألفاظها
إلى أن قال ومن البرهان الضروري على أن نهي الله عن أن يقول الإنسان لوالديه أف ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عن ما عدا الأف أنه متى حدث عن إنسان أنه قتل آخر وضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وقد بصق في وجهه فيشهد عليه من شاهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل والقاذف والضارب قال لعمرو أف أعني المقتول أو المقذوف أو المضروب لكان بإجماع منه ومنهم كاذبا آفكا شاهدا بالزور مردود الشهادة
قال أبو محمد فكيف يدين هؤلاء القوم أن يحكم بما يقرون أنه كذب وكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله أن نقول نهى الله عن قول اف للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب والقذف لهما أو القتل والقذف فإذا لا شك عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك أف ثم

تكلم عن كل مثال من تلك الأمثلة وأطال المقال في ذلك بما لا تحتمله هذه الإجابة والله يهدينا إلى كل توفيق وإصابة
فإن قلت فيجوز على كلامه من عدم القول بمفهوم الموافقة وأنه لا نهي إلا عن الأف أن يقول لأبويه هما فاجران أو فاسقان لأنه إنما نهى عن الأف ويجوز ضربهما ونحوه
قلت من اين هذا الجواب فإن هذا أعني اللفظ من الفاجر والفاسق منهي عنه في حق كل مسلم نهيا متيقنا من تحريم الأعراض كما أن الضرب منهي عنه كذلك من تحريم ضرب المسلم وإن ظهر المؤمن حمى والتأفيف محرم أيضا بالتحريم الأصل إنما نص عليه الشارع لأن الولد عند بلوغ أبويه الكبر أو أحدهما يتضجر من طول صحبتهما وغالب ألفاظ المتضجر والمتبرم من أمر أن يقول أف لهذا الأمر كما قال ... وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة ولكن الضعف ملا ...
فإن قلت هم لا يقولون إن قوله لا تقل لهما أف نهي عن الضرب والقذف إلى آخر ما هجن به عليه
قلت بل هم قائلون إن دلالة هذه العبارة القرآنية على النهي عن الضرب والقتل أولى من دلالتها على التأفيف لكنهم لا يقولون الأف موضوع لغة للنهي عن الضرب والقتل وغيرهما حتى إذا قال القائل لا تقل لزيد أف أنه نهي عن ضربه مأخوذ من صيغته بل يقولون إنه يفهم بكون المتكلم حكيما لا ينهى عن أدنى الأذية مع الإذن في أعلاها بل إذا نهى عن أدناها أفاد نهيه عن أعلاها بقرينة المقام وإنه لو قال لا تقل لزيد أف واضربه لعد غير موافق لطريقة اللغة والحكمة والكمال
وبعد الفراغ من بيان المفهوم والمنطوق أخذنا في بيان الحقيقة والمجاز بقولنا

الباب الرابع حقيقة الكلام مع المجاز ... باب حوى حقيقة الكلام ... مع المجاز فاستمع نظامي ...
الحقيقة فعلية من حق الشيء بمعنى ثبت ومن قوله تعالى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وهي إما بمعنى الفاعل أي الثابت فالتاء فيها للتأنيث أو بمعنى المثبت من حققت الشيء أحقه بمعنى أثبته فالتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالنطحية ولذا لا يقال بهيمة نطيحة وقد نقلت إلى اللفظ الموضوع بالمعنى الاصطلاحي الذي يفيده قولنا ... وعرفت بالكلمة المستعمله ... في الاصطلاح فالذي توضع له ...
عرفها أئمة البيان وغيرهم بالكلمة المستعملة بما وضعت له في اصطلاح التخاطب فخرج بالأول المهملة وما وضع ولم يستعمل فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز وخرج بقيد اصطلاح التخاطب الصلاة إذا استعملها المتكلم باصطلاح الشرع في الدعاء فإنها مجاز بالنظر إليه ودخلت في الحد بالنظر إلى استعمالها بالعرف الشرعي في الصلاة الشرعية فإنها حقيقة ولما كانت لها أقسام أفادها قولنا

أقسامها أصلية عرفية ... تعم أو تخص والشرعية ...
قسم العلماء الحقيقة إلى لغوية وهي ما يكون واضعها واضع اللغة وضعا أصليا وعرفية وهي ما تغلب في العرف في غير معناها الأصلي وهي قسمان إن لم يتعين ناقلها فعرفية عامة ومثلوها بلفظ الدابة فإنها في اللغة بكل ما يدب فخصصها العرف العام بذوات الأربع أو تعين ناقلها فهي الخاصة وذلك كألفاظ اصطلاحات أهل العلوم وغيرهم كالرفع وتخفض لألقاب الإعراب وكل أهل فن لهم ألفاظ مصطلحة فالعموم والخصوص في العرفية من حيث تعين الناقل وعدمه والشرعية هي ما استفيد وضعها من الشارع كالصلاة لذات الأركان والأذكار والزكاة لأخراج جزء معين بتعيين الشارع من المال ومنها الدينية وهذه ما نقلت إلى أصول الدين كالإيمان والفسق والمؤمن والفاسق ونبه النظم عليها بقوله فيما يأتي دينية منها للإشارة إلى أنها ليست بقسم مستقل بل هي داخلة في الشرعية وإنما جعلها المتأخرون قسما مستقلا وإلا فهي شرعية والمتقدمون أدمجوها فيها ثم للحقيقة تقسيم آخر وهو باعتبار تعدد اللفظ والمعنى أو اتحادهما فهذه أربعة أقسام
الأول أفاده قولنا ... دينية منها فإن تعددت ... لفظا ومعنى فبذا تباينت ...
الضمير للحقيقة أي تعددت الحقيقة لفظا ومعنى أو الكلمة الدالة عليها قرينة الكلام وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وهو أولى لأن المعروف عندهم تقسيم الكلمة إلى ذلك أعم من كونها حقيقة أو مجازا وذلك كالإنسان والفرس والسواد والبياض وتسمى متباينة لتباينها دلالة ولفظا كما أشار إليه قولنا فبذا تباينت وهذا القسم الأول

والثاني وهو باعتبار الاتحاد لفظا ومعنى أفاده بقوله ... ما لم فإن يتحدا فمنفرد ...
أي ما لم يتعدد لفظا ومعنى وهو ينقسم أيضا فإن اتحد اللفظ والمعنى بأن وجد المراد في لفظ واحد لا تعدد فيه البتة فإنه المنفرد فيدخل فيه الجزئي الحقيقي كزيد والإضافي كالإنسان بالنظر إلى الجنس فإن مفهومه واحد من هذه الجهة فالمتواطىء والمشكك ليس بداخلين تحت هذا القسم بل هما قسم مستقل ومن الناس وهو الأكثر من يجعلهما من هذا القسم المتحد لفظا ومعنى
القسم الثالث قوله ... وإن تعدد لفظه ويتحد ... معناه منها فهو بالترادف ...
معناه منها أي ما تعدد لفظه واتحد معناه فهو القسم المعروف بالترادف أي يسمى به وهو معنى قولنا في صدر البيت الآتي يدعى وهو في عرف الأصوليين توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد وذلك كالإنسان والبشر والأسد والليث وفوائده كثيرة منها أنه قد يضطر إلى لفظ ليوافق القافية والروي ويحتاج إليه في رواية الحديث بالمعنى وغير ذلك
والقسم الرابع ما أفاده قوله ... يدعى واما عكسه فاستأنف ...
أي عكس ما قبله وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه بحيث لا يمنع تصور معناه من وجود الشركة فيه وقوله فاستأنف جواب إما أي استأنف تقسيمه فهذا تقسيم مستأنف وهو قسمان

الأول وهو المراد من قوله ... إن وضع اللفظ بأمر كلي ... فيه اشتركن فاستمع ما أملي ...
أي إن وضع اللفظ بتلك المعاني باعتبار أمر كلي اشتركن أي المعاني فيه ... فإنه مشكك للنظر ... إن كان بعض منه أولى فانظر ...
أي فإنه يسمى مشككا إن تفاوتت أفراده بأولية أو أولوية كما أفاده قولنا إن كان بعض منه أولى ومثاله قوله ... مثاله الموجود للرحمن ... سبحانه وللحديث الفاني ...
فإن لفظة موجود تطلق عليه تعالى وتطلق على المخلوق المحدث فالباري بها أحق وأولى لأن معناه في حقه أقدم وأتم وقولنا إن كان بعض منه أولى يشمل ما ذكر ويشمل ما كانت الأولوية باعتبار الشدة والضعف كالبياض يطلق على الثلج والعاج مثلا فإنه أشد منه في الثلج وأقوى من العاج وهذا أول القسمين وهو المشكك سمي بذلك لأنه أوقع الناظر في الشك هل هو متواطىء نظرا إلى اشتراك الأفراد في أصل المعنى أو مشترك نظرا إلى التفاوت المذكور
والثاني أفاده قولنا ... وإن يكن يطلق بالسويه ... فهوالتواطؤ بغير مريه ...
أي وإن لم تتفاوت افراده بالأولوية بل أطلق عليها بالسوية فإنه يسمى بالمتواطىء وذلك كالإنسان فإن دلالته على أفراده متساوية فإن الإنسانية في زيد ليست بأولى منها في عمرو ولا أقدم ولا أتم ويسمى متواطئا أخذا من التواطؤ وهو التوافق وإذا عرفت هذا فإنه دخل تحت القسم الرابع وهو ما اتحد لفظه وتعددت معانيه ثم فيه أقسام يفيدها قولنا

أو تختلف حقائق المعاني ... فالجنس أولى فتراه الثاني ...
أي ما اتحد لفظه وتعددت معانيه لا يخلو ما إن تختلف حقائق المعاني الداخلة تحته فهو الجنس فإن حقيقته المقول علىالكثرة المختلفة الحقائق في جواب ما هو مثاله الحيوان فإنك إذا قلت ما الفرس والإنسان مثلا كان السؤال عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال في جوابه حيوان وهذا هو أحد الكليات الخمس المعروفة في فن المنطق
والثاني من أقسام ما نحن بصدده أشار إليه قوله أولى فتراه الثاني أي ولا تختلف حقائق ما تحته فهو القسم الثاني ويسمى نوعا كما يفيده قولنا الآتي أعني به النوع وعرفوه بما يقال على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو وذلك كالإنسان فإنك إذا قلت ما زيد وما عمرو مثلا كان سؤالا عن تمام الماهية المشتركة بينهما فيقال إنسان لأنه النوع الذي طولب بالسؤال لأنه سؤال عن طلب الحقيقة فأجيب بما يطابقه فتحقيق هذه موضعه علم المنطق وقد عرفت معنى صدر قولنا ... اعني به النوع وبعض يعكسه ... أمثالها واضحة لا تلبس ...
وهذه إشارة إلى أن الذي سلف عرف أهل علم المنطق وأما الأصوليون وهو المراد بالبعض فإنهم يعكسون فيقولون للجنس النوع وللنوع الجنس فيجعلوه المندرج جنسا والمندرج تحته نوعا وهذا اصطلاح لا مشاحة فيه وإلى هنا تقاسيم المشترك المعنوي الداخل تحت قوله إن وضع اللفظ بأمر كلي وهو من القسم الرابع كم عرفت وهو المتحد لفظا المتعدد معنى وما اتحد لفظه وتعددت معانيه فهو القسم الذي أفاده قولنا ... وإن وضعت اللفظ للمعاني ... لكن لفظ منه وضع ثاني ...
وهذا القسم المشترك اللفظي وهو قسيم المشترك المعنوي الذي عرفته إذ هما معا داخلان تحت مقسم واحد وهو المتحد لفظا المتعدد معنى كما عرفناك ولذا قلنا

فإنه المشترك اللفظي ... ودونك المجاز يا مرضي ... إلى اشتراك بينها مرعيا ... فسمه مشتركا لفظيا ...
فقوله إن وضعت أي اللفظ الواحد كما دل قوله بكل لفظ ودخل المنفرد في هذا وخرج بقولنا للمعاني لأن المعنى فيه متحد كما عرفت وقوله لكل لفظ منه وضع ثان فصل يخرج به المشكك والمتواطىء وقوله مرعيا إيضاح يراد به أن الاشتراك المقصود هو ما روعي في أصل الوضع ولوحظ بخلاف الاشتراك في مجرد اللفظ وليس مما يراعي في أصل الوضع ويستقل بالإفادة
ومثال ما جمع القيود لفظ العين يطلق على الباصرة وعلى الفوارة وعلى عين الشمس وعين الذهب وكالقرء للطهر والحيض وعسعس لأقبل وأدبر فكل واحد من هذه وضع لكل معنى على انفراده وضعا مستقلا من غير اشتراك بينها في أمر روعي
وللعلماء خلاف في وقوعه فالجمهور عليه وخالف أئمة وقالوا لا يقع قالوا لأن الغرض من وضع الألفاظ فهم المعنى المقصود للمتكلم والاشتراك يخل بذلك فيكون وضعه سببا للمفسدة والواضع حكيم لا يجوز عليه ذلك وأجيب بأن قرائن السياق والمقام تحصل غرض المتكلم ومع القرائن تذهب المفسدة ولا نسلم خلو المقام والسياق من قرينة وهو واقع فيما مثلناه
قال المانع من وقوعه هذه الأمثلة محمولة على أنها من باب الحقيقة والمجاز وأجيب بأنه يستعمل القرء في الحيض والطهر على سبيل البدل من غير ترجيح وما كان كذلك فهو مشترك والقول بخلاف هذا وإطالة الردود قول بخلاف الظاهر وأما إطلاق المشترك على جميع معانيه ففيه أبحاث في مطولات الفن لا يتسع هذا المختصر بتطويله بها والمقصود من الحقيقة وأقسامها قد وفى به ما أسلفناه نظما ونثرا
وعند الفراغ منه أخذنا في المجاز فقلنا

فصل حوى الكلام في المجاز ... مختصرا لمقتضى الإيجاز ...
المجاز لغة العبور والانتقال نقل إلى ما ذكر من استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بشرط القرينة لأن المجاز باعتبار معناه الأصلي طريق إلى معناه المستعمل فيه ورسمه اصطلاحا أفاده قوله ... ورسمه اللفظ الذي يستعمل ... في غير موضوع له قد نقلوا ... في عرف من يطلق للعلاقة ... قد صحبت قرينة إطلاقه ...
أي حقيقة المجاز هو اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع في عرف من يطلقه للعلاقة مع قرينه فقولنا اللفظ الذي يستعمل في غير موضوع خرج به اللفظ قبل الاستعمال بعد الوضع فإنه ليس بمجاز ولا حقيقة والظرف متعلق بيستعمل فخرجت الحقيقة وقوله في عرف من يطلق أي يطلق اللفظ يدخل به الصلاة في عرف الشرع إذا استعملت في الدعاء مجازا فإنه وإن كان استعمالا فيما وضع له أصالة فليس بمستعمل في عرف من يطلقه اعني الشارع وخرج به أيضا لفظ الصلاة إذا استعملت في عرف الشرع وقولنا للعلاقة يخرج الغلط نحو خذ هذا الكتاب مشيرا به إلى فرس فإنه وإن صدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له لكن ليس لعلاقة والعلافة بالفتح تطلق على المعاني كعلاقة الحب وبالكسر على الأعيان كعلاقة السيف والمراد بها هنا تعلق ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي
واعلم أنه لا بد لكل مجاز من علاقة وقرينة فالعلاقة هي المجوزة للاستعمال والقرينة هي الموجبة للحمل عليه وقوله مع قرينة أي مفيدة للمعنى المجازي صارفة للفظ عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي وبه تخرج الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضع اللفظ له مع جواز إرادة المعنى الحقيقي قإن قلت ما الفرق بين قرينة المجاز وقرينة المشترك قلت الفرق

واضح لأن قرينة المشترك معينة للمعنى المراد من اللفظ الحقيقي وقرينة المجاز صارفة عن إرادته أي المعنى الحقيقي ومقيدة له إن قلت تعيين القرينة أحد معاني المشترك صارفة أيضا للمعنى الآخر قلت ليس المقصود منها إلا التعيين وإن استلزمت الصرف فليست فيه مقصودة لأجل الصرف بل لأجل التعيين والحاصل أن المشترك موضوع للدلالة بنفسه وإنما حصل الإيهام من الاستعمال فكانت قرينته لتعيينه بخلاف قرينة المجاز فإنها محصلة لأصل المعنى المجازي صارفة عن المعنى الحقيقي ثم اعلم أن العلاقة المشار إليها قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها فانقسم بسببها المجاز قسمين مجاز مرسل واستعارة أشار إلى الأول بقوله ... وإنه نوعان منها المرسل ... كاليد للنعمة فيما مثلوا ...
هذا هو النوع الأول وهو المجاز المرسل وهو ما كانت علاقته المصححة لإطلاقه غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمجازي ولذا سمي مرسلا لإرساله عن التقييد بالمشابهة كما قيد بها قسيمه ومثلوه بإطلاق اليد على النعمة في قولهم لفلان عندي يد بعلاقة هي كون اليد الجارحة بمنزلة العلة الفاعلية للنعمة من حيث أنها منها تصدر وتصل إلى المقصود بالنعمة كما تصل باليد إلى ما يراد والعلاقة تسمى السببية أو الملازمة والعلاقات قد عدت في فن البيان بلا زيادة على عشرين علاقة ولا حاجة إلى استيفائها هنا لأن لها فنا آخر هو علم البيان وقد استكمل عددها في شرح الغاية الثاني من نوعه قوله ... ثانيهما يدعونه استعاره ... كأنشب الموت به أظفاره

سموه استعارة لانك مع قصدك التشبيه كأنك استعرت له الصفة التي أردت اتصاف المشبه بها وهي مجاز لغوي وهو قول الجمهور وبعضهم يجعلها مجازا عقليا وهي أنواع منها الاستعارة بالكناية وبها مثل الناظم وهو أن المتكلم شبه الموت بالسبع بجامع اغتيال النفوس ورمز إليه بما هو من لازمه والمثال إشارة إلى قول الشاعر ... وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ...
وهو الأظفار وقوله أنشبت ترشيح للاستعارة وإثبات الاظفار استعارة تخييلية والقسم الثاني من الاستعارة الاستعارة المصرحة مثل رأيت أسدا في الحمام فإنه استعير لفظ أسد الشجاع وأطلق عليه استعارة وأتى بالقرينة وهي قوله في الحمام
واعلم أن أهل الأصول يطلقون المجاز على ما يشمل الكناية وهي نحو فلان طويل النجاد كناية عن طول القامة ولكنهم يحذفون لفظ القرينة من تعريف المجاز فتعريفنا في النظم على رأي أهل البيان فإنهم يجعلون الكناية قسما مستقلا ليس بحقيقة ولا مجاز وقد وقع التقييد بما قيدنا به في بعض كتب الأصول ثم اعلم أنه قد يطلق المجاز على ما يشمل المفرد والمركب والإسناد وإليه يشير قوله ... ويدخل التركيب والإفرادا ... كما تراه يدخل الإسنادا ...
أي ويقع المجاز في المركب وحقيقته اللفظ المستعمل فيما يشبه بمعناه الأصلي نحو أراك تقدم رجلا وتأخر أخرى حيث يراد به تشبيه المتردد في أمر بصورة من قام يذهب إلى حاجة فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا وتارة

لا يريد فيؤخر أخرى فاستعمل الكلام من غير تغيير شيء منه سواء نقله إلى هذه الصورة تشبيها بتلك الصورة وتسمى الاستعارة التمثيلية
وقوله والإفراد أي أنه يقع المجاز في المفرد وتقدمت أمثلته فالمراد من التركيب في عبارة النظم والإفراد المركب والمفرد فهما مصدران بمعنى اسم المفعول بقرينة قوله يدخل الإسناد فإن المجاز الإسنادي هو مجاز التركيب ومجاز الإسناد هو المسمى بالمجاز العقلي وحقيقته إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير من قام به عند المتكلم نحو أنبت الربيع البقل وجرى النهر ونحو ذلك مما يعرف من علم البيان تفاصيله ولما عقد الأصوليون مسألة معنوية بأنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز حمل على المجاز أشار إليه الناظم بقوله ... فما احتمل الشركةو المجازا ... فبالمجاز عندهم قد فازا ...
كلمة ما شرطية جوابها فبالمجاز وذلك أنهم قالوا إذا احتمل اللفظ الشركة والمجاز حمل على المجاز ومثلوه بلفظ النكاح إذا علم كونه حقيقة في أحد معنييه كالعقد مثلا واحتمل أنه حقيقة في الآخر وهو الوطء فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا فالحمل على المجاز أولى فإن قلت إن وجدت قرينة المجاز فلا يتصور حمله على الحقيقة وألا توجد فلا يتصور حمله على المجاز قلت أجيب بأن المراد مع القرينة إلا أن الغرض أنه قد علم أن أحدهما حقيقة وإنما التردد في المعنى الآخر هل هو حقيقة فيكون مشتركا أو لا فيكون مجازا وإنما تردد اللفظ لجواز أن القرينة قرينة تعيين المشترك لأحد أفراده هكذا قيل ولا يخلو عن تأمل

إذا عرفت هذا وقد عرفت أن كلا من الاشتراك والمجاز يوقع الخلل في فهم السامع للمراد بسببهما قالوا فيحمل على ما هو أقرب وأولى إلى تقريب المراد إلى الفهم وفي المسألة مع تشابهما أقوال واسعة لا يتسع لها هذا التعليق وهي من أبحاث المطولات وقد طولها في الفواصل وقيل بل يحمل على الاشتراك قلت بل ترجيح المجاز على الاشتراك أولى لأنه من إلحاق الفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب في الاستعمال فإن المجاز أغلب من الاشتراك بل قيل إنه غالب اللغة ولما كان للمجاز علامات وخواص يعرفانه ويتميز بها عن الحقيقة وقد أعدها أئمة الأصول ببحث المجاز قال الناظم ... خاصته بأنه لا يطرد ... في كل ما يصلح منه أن يرد ...
هذه العلامة الأولى الخاصة قالوا إن من خواص المجاز عدم اطراده في مدلوله قالوا النخلة فإنها تطلق مجازا على إنسان طويل ولا تطلق علىغيره مما فيه طول بخلاف الحقيقة فإنها تطرد في مدلولها وأورد عليه ان هذا يوجب أنه لا بد من سماع آحاد المجاز كالحقيقة وقد قرروا أنه موضوع وضعا نوعيا وبأن من الحقائق ما لا يطرد فلا يكون خاصا بالمجاز كالقارورة لا تطلق إلا على الزجاجة لا كل ما يقر وأجابوا في المطولات بأجوبة غير ناهضة والعلامة الثانية الخاصة قوله ... وأنه يصدق حين ينفى ... وغيره والله حسبي وكفى ...
هذه الخاصة مثلوها بقولهم للبليد ليس بحمار فإنه حقيقة مع أنه يطلق عليه ذلك مجازا وقولنا وغيره أي غير ما ذكر مثل نص أئمة اللغة أن هذا اللفظ مجاز أو سبق غيره إلى الفهم لولا القرينة وقد بسط في مطولات الفن فإنما ذكر أئمة الأصول مهمات من قواعد الفنون كالمنطق وعلم البيان وعند الفراغ من هذا الفصل أخذ في شرح الخامس من الأبواب فقال

الباب الخامس في الأمر والنهي ... فخامس الأبواب فيه النشر ... للأمر والنهي فأما الأمر ...
هذا الباب يذكر فيه الأمر والنهي وغيرهما وخامس الأبواب مبتدأ أو فيه النشر خبره والبحث هنا في مقامين وهما الأمر من جهة لفظه أي ألف ميم راء فاختلفا في ألف ميم را على أقوال أولها أنه حقيقة في القول المخصوص أي أفعل مجاز في الفعل نحو فلان في أمر عظيم وقوله أتعجبين من أمر الله
وثانيهما أنه مشترك بينه وبين الشأن نحو إن وراء الموت أمرا عظيما والغرض نحو لأمر ما جدع قصير أنفه وعدت له معان أخر لا يهمنا في هذا الفن أمرها إذ المراد هنا ثاني المقامين وهو النظر في مدلول الأمر ورسمه وحدوده باعتبار الكلام النفسي وباعتبار الكلام اللفظي وليس بحث الأصولي إلا عن اللفظي فلذا رسمه الناظم بقوله ... فهو كما في الأصل قول القائل ... لغيره لا زلت خير فاعل ... افعل وما شابهه وشاكله ... مستعليا يريد ما تناوله ...
فقوله قول القائل جنس يدخل فيه جميع أنواع الكلام وقوله لغيره

فصل يخرج به امر القائل لنفسه نحو قوله صلى الله عليه و سلم قوموا فلأصل لكم ونحو قوله تعالى حكاية عن الكفار في خطابهم للمؤمنين ولنحمل خطاياكم فإنه ليس بأمر حقيقة بل مجاز إذ من شرطه الاستعلاء ولا يتصور من الأمر نفسه
وقوله افعل وما شاكله فصل يخرج به طلب الفعل نحو أنا طالب منك كذا وأوجبت عليك ودخل فيما شاكله لتفعل وصه ونزال ونحوها مما يدل على الطلب الإنشائي
وقوله مستعليا فصل ثالث يخرج به الالتماس وهو طلب الشيء ممن يساويك رتبة بلا استعلاء والدعاء وهو طلب على جهة الخضوع والتذلل ومرادهم بالاستعلاء عد الآمر نفسه عاليا سواء كان في نفس الأمر كذلك أولا فيشمل أمر الإعلاء لمن دونه والأدنى لمن فوقه وقد زاد في الفصول فصلا رابعا وهو التحتم بناء على أن التعريف بمدلول الأمر لغة فلا بد حينئذ من قيد التحتم ومن حذفه كما هنا فهو بناء على أن أمر الندب وغيره داخل في التعريف ويأتي تحقيقه
واعلم أن الحد قد اشتمل على مسائل يذكرها أئمة الأصول مستقلة منفردة اكتفينا بالإشارة إليها في ضمن الحد إذ الكتاب مختصر وأصله كذلك فلنشر إليها
الأولى قولنا افعل وما شاكله إشارة إلى مسألة أن لفظ الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلب الطلب سواء كان عربيا أو فارسيا أو من أي لغة فإنه طلب الفعل بأي صيغة إنشائية ويحتمل أنه أريد بما شاكله أي من الألفاظ العربية الدالة على الطلب إنشاء وهذه المسألة ذكرها صاحب المحصول والإمام يحيى في الحاوي وقال الحق إنه موضوع للفظ الدال

على مطلق الطلب لا باعتبار كونه عربيا ولا فارسيا فإن العبارات الدالة على المعاني إنما وضعت بإجراء المعاني الذهنية ألا ترى إلى أوامر الله في كتبه المنزلة كيف تختلف عباراتها باختلاف اللغة فصيغ الأمر التي في التنزيل ليس هي التي في التوراة والإنجيل
المسألة الثانية قوله مستعليا يشير إلى الخلاف في الأمر هل يعتبر في العلو والاستعلاء أو لا فيه أقوال
والأول يعتبر الاستعلاء وإليه ذهب جماهير أئمة الأصول قالوا ودليله ذم العقلاء لمن قال لمن هو فوقه رتبة افعل على جهة الاستعلاء ويصفونه بالحمق والجهل ولولا كونه عد نفسه عاليا على الأعلى منه واعتقد ذلك وتفرع عليه أمره له لما ذموه ووصفوه بالجهل والحمق
والثاني أنه يعتبر العلو فقط ومعناه كون الآمر أرفع رتبة من المأمور وهذا مذهب أكثر المعتزلة ونقل عن جماهير العلماء وأهل اللغة واستدل لهم باستقباح العقلاء لقول القائل أمرت الأمير وعدمه عندهم إذا قال سألته وطلبته ورد بأنه عليهم لا لهم لأن الاستقباح دليل أنه قد وقع الأمر ولولا وقوعه لما استقبح فلو كان العلو شرطا لما كان ذلك للأمير أمرا وإلا لما استقبح ما ذاك إلا لأن العلو غير شرط وقد أجيب عنه
ثالثهما يعتبران معا العلو والاستعلاء وهو لجماعة
والرابع عكسه قاله الرازي في المحصول مستدلا بقول فرعون لقومه فماذا تأمرون مع أنه أعلى رتبة وقول عمرو بن العاص لمعاوية ... أمرتك أمرا حازما فعصيتني

وقول دريد بن الصمة لمن هم فوقه ... أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ...
قال فهذه الأمور دالة على عدم اعتبار العلو والاستعلاء وأجيب بأن الاستعلاء معتبر لغة وهذه الأمثلة جارية على ذلك فإن فرعون ما خاطب قومه إلا وقد عدهم أعلن منه رأيا في هذه الحالة وأنه طالب أن يأمروه بأمرهم وكذلك عمرو ما خاطب معاوية إلا مخالفته أمره لأنه كان يأخذ برأيه ويطلب مشورته وينزل نفسه منزلة المأمور وكذلك دريد خاطب قومه لأنهم أخرجوه ليقتدوا برأيه فلم يمتثلوا أمره وقد أمروه على نفوسهم والذي يقوي عندي هو اعتبار الأمرين العلو وهو كون رتبة الآمر أعلى من رتبة المأمور عنده ولا بد من الاستعلاء وهو عد الأمر نفسه عاليا بالنظر إلى المأمور في اعتقاده لذلك واستفعل هنا من باب واستكبر واستعظم عد نفسه كبيرا عظيما وهو أحد معانيه في كتب التصريف فقول الحجاج للأمير مثلا افعل كذا وقول الطبيب للخليفة اشرب كذا أمرا لا التماسا اعتقد استعلاءه عليه وطلب امتثاله لأمره وقول الرجل لولده افعل ولخادمه أمر لأن له علوا عندهما والحاصل أنه لا بد من استعلاء الأمر فيما يؤمر به فإن كان له علو عند المأمور فلا إنكار لما صدر عنه ويلومه العقلاء على عدم امتثاله وهو الذي شمله النظم
والعجب من العراقي وغيره في إبطالهم الاستعلاء مستدلين بأن كثيرا من أوامر الله في غاية اللطف ونهاية الاستجلاب لاقترانها بتذكير نعمه نحو قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية ونحو فاتبعوني يحببكم الله وغيرهما مما لا يحصى

ووجه التعجب أن أوامر الله كلها صادرة عن العلو رتبة بلا ريب وعن الاستعلاء فإنه الأحق بذلك إلا أنه لا يقال في تفسيره عد نفسه عاليا واعتقدها كذلك بل بمعنى أنه أهل لذلك الاستحقاق وأما قرنه أوارمه بتذكير نعمه فليس لأنه ولا استعلاء بل ذكر ذلك عقب الأمر من باب بل الأمر وقع بلفظ افعلوا ثم اتبعه بدليل يزيدهم بعثا على طاعته وإبانة لمنافع ما أمر به
وقول الناظم يريد ما تناوله إشارة إلى مسألة معروفة وذلك أن صيغة افعل وردت للتهديد والالتماس والدعاء والأمر قالوا فبماذا يصير الأمرا أمرا فاختلف قي ذلك و الذي اختاره الناظم أن مرجع الأمر إلى حدوث الصيغة وإرادة محدثها المأمور به فيعين كونه أمرا إرادة المأمور به حتما ويكفي الصيغة في كونه أمرا لأنها حقيقة فيه وفي المطولات تطويل قليل التحصيل لوما اختلف العلماء في صيغة الأمر هل وضعت للإيجاب أو لغيره فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو مفيد للوجوب شرعا ... على الذي تختاره ووضعا ...
هذا التصريح بأنه وضع حقيقة للوجوب لغة وبه وردت الشريعة وهذا قول الجمهور وفيه إثنا عشر قولا مبسوطة في المطولات والذي اخترناه هو الأقوى دليلا كما أفاده قوله ... فالعقلاء تذم من لم يمتثل ... أمرا لمولاه وأيضا نستدل ... بأنه ما زال هذا في السلف ... فكان إجماعا تلقاه الخلف ...
تقرير الدليل أن العقلاء من أهل اللسان العربي قبل ورود الشرع يذمون العبد إذا لم يمتثل أمر سيده ويصفونه بالعصيان وبلغتهم نزل القرآن ووردت السنة النبوية والذم والوصوف بالعصيان إمارة اللزوم والثبوت ولا يراد

من الوجوب إلا ذلك وهذا دليل عقلي لأن إدراك حسن هذا الذم عقلي وإن استفيد من موارد اللغة فلهذا نسب الذم إلى العقلاء إشارة إلى أنه عقلي
ثم أشرنا إلى الدليل الشرعي بقولنا وأيا نستدل أي ونرجع بعد إقامة الدليل الأول إلى إقامة الدليل الثاني وهو الشرع وتقريره أنه تكرر من الصحابة الاستدلال بأوامر الشرع على الوجوب وتكرره أمر لا ينكره إلا مباهت وشيوعه بينهم كذلك وهو المراد من الإجماع والقول بأنه إجماع سكوتي قد سلفت فيه المناقشة وجوابه أنه يفيد الظن في إثبات هذا الأصل بلا تردد ولا فرق بين إثبات الأصول بالدليل الظمني و القطعي من حيث و جوب العمل و قد قررناه في مواضع و الدليل الفرق وهذا أمر معروف عند كل عاقل من متشرع وغيره بأنه إذا أمر الرجل من له أمره وخالفه ذمه كل واحد واستحسنوا تأديب الآمر لمن عصاه وهذا شيء يكاد أن يكون فطريا يعرفه من يميز قبل تكليفه واستدل بآيات قرآنية مثل قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك أي بقولنا اسجدوا لآدم فإنكاره تعالى على إبليس وذمه ولعنه وطرده دليل على أن افعل ونحوه إذا اطلق يفقد الإيجاب ولما قررناه أن الأمر للإيجاب حقيقة واخترناه أبنا أنه يستعمل في معان كثيرة مجازا ... وقد أتت صيغته مجازا ... في غيره قد تركت إيجازا ...
لما ذكر أئمة الأصول أنها تأتي صيغة الأمر لمعان مجازية وتعرضوا في المطولات لذكرها حتى بلغ بها الفاضل البرماوي في منظومته وشرحها إلى أكثر من ثلاثين نوعا وعد أمثلتها أشرنا إجمالا إليها وتركنا التفاصيل للإيجاز كما قلنا ولأنه قد علم من القواعد أن المجاز موضوع بالنوع فإذا وجدت العلاقة والقرينة جاز استعماله فالتعرض لعد أفراده بعد ذلك شغل للأوراق

بتفاصيل الأمثلة قد أغنت عنها القاعدة بالاتفاق فلذا لم نتعرض لشيء من الأمثلة فإنها لا تهم الأصولي من حيث إنه باحث عن القواعد التي تستنبط منها الاحكام إنما يهم الأصولي معرفة مثل هل هو للتكرار أو المرة كما أفاده قولنا ... وما على المرة والتكرير ... يدل فيما اختير للجمهور ...
فإنها مسألة اختلف فيها فيما إذا أورد الأمر مطلقا عن قيد المرة والتكرير فقيل لا يدل على مرة ولا تكرار بل يدل على مجرد الطلب من غير دلالة على شيء زائد إلا أنه لا يتم الامتثال وإخراج المطلوب إلى حيز الوجود إلا بالمرة فهي من لوازم الامتثال لأنه يدل عليها الأمر بلفظه ووضعه وهذا هو ما اختاره الناظم وعليه جماهير أئمة التحقيق من الفرق كلها ولذا عزاه الناظم إلى الجمهور والدليل على المختار أن الأوامر المطلقة الشرعية ترد تارة للتكرار كأوامر الصلاة وأخرى بالمرة كالحج وهكذا الأوامر العرفية نحو قولك ادخل الدار فإه يراد مرة واحدة ونحو احفظ الدابة فإن غرضه دوام الحفظ لها فإذا تقرر هذا فإنه يكون موضوعا بالقدر المشترك بين المرة والتكرار وهو طلب إيقاع مطلق الفعل مع قطع النظر عنهما دفعا للاشتراك إذا كان حقيقة فيهما وللمجاز إذا كان حقيقة في أحدهما إذ كل منهما خلاف الأصل و قد أورد عليه أنه إذا كان وضعه لمطلق الطلب ثم استعمل في أحدهما كان مجازا إذ هو خلاف المدعي وأجيب عنه بأنه قد تقرر أن استعمال المطلق في المقيد ليس بمجاز وإلا لزم أن يكون إطلاق الضمائر وغيرها من الموضوعات الكلية واستعمالها في خاص من المجاز ولا قائل به لأن

الوضع وإن كان عاما فالموضوع له خاص فاستعماله في بعض أفراده استعمال فيما وضع له ومن الأدلة على المختار أن الأوامر الشرعية إذا أريد منها التكرار قيدها صلى الله عليه و سلم كالأوامر الواردة في الصلاة فإنه يقيدها بذكر كل يوم وليلة حيث أريد تكررها وكذلك أهل اللسان من العرب لا يفهمون إلا إيجاد الفعل ألا ترى أنه لما أمر صلى الله عليه و سلم بإيجاب الحج سألوه ألعامنا هذا نحو ذلك مما أقرهم صلى الله عليه و سلم ومنها وهو لابن الحاجب أن مدلول الصيغة طلب مطلق الفعل والمرة ونحوها خارجان عن حقيقته فيجب حصول الامتثال لإيجاد الحقيقة مع أيهما كانت ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر وإلا كان تحكما واعترض بأن الدليل غير الدعوى إذ لم يقع النزاع إلا في ذلك فإيراده المصادرة وأورد أيضا ابن الحاجب دليلا آخر للجمهور وهو معترض أيضا وفيما ذكرناه غنية في ظهور كلام الجمهور فإنه أقرب الأقوال دليلا فأتى فيه أربعة أقوال الأول ما ذكرناه والثلاثة معروفة في المطولات ... ولا على فور ولا تراخي ... قال بهذا جلة الأشياخ ...
عطف على قوله وما على المرة الخ أي ولا تدل صيغة الأمر على طلب فعل المأمور به فورا أي عقب بلوغ صيغة الأمر إلى المأمور ولا على خلافه وقد اختلف في ذلك فقال الإمام يحيى والمهدي والقرشي إنه لا يدل على غير مطلق الطلب يعني طلب الفعل وإليه ذهب الرازي والآمدي وابن الحاجب
وقالت المالكية وبعض الحنفية والحنابلة وجماعة من الشافعية قال القاضي حسين وهو الصحيح من مذهبيهم وإليه ذهب الهادي وجماعة من الآل إنه يدل على الفور فيجب فعله في أول أوقات الإمكان بعد سماع الأمر وفهم المراد به وإن أخر وجب فعله في الوقت الثاني وكان بالتأخير آثما

ومن قال إنه للتراخي فمعناه أنه لا يجب الفور لا بمعنى أنه يجب التراخي حتى لو أتى به فورا لم يكن ممتثلا قال البرماوي بعد نقله هذا القول مقتضاه أنه لا يكون المبادر ممتثلا أو يتوقف فيه وهذا بعيد وكلام أكثر النقلة أن المراد بالتراخي عدم الفور فهو راجع إلى القول الأول إنه لا يقتضي فورا ولا تراخيا والأول هو الراجح من الأقوال كما أطلقه الناظم ودليله هو ما تقدم من الدليل على المختار في عدم دلالته على التكرار وحاصله أنه لا يفيد سوى طلب مطلق الفعل من دون إشعار لمرة وتكرار أو فور أو تراخ وإذا استفيد شيء من ذلك فبقرائن خارجية واستدل القائلون بالفور وأنه لو جاز التأخير لكان إما إلى غاية معينة وهذا خروج عن محل النزاع إذ يصير من المقيد أو إلى غاية محدودة بظن المأمور فوات الأمر إن لم يفعل المطلوب وهذا قد لا يقع لكثير لغلبة الأمر وهجوم الأجل فيؤدي إلى خروج الواجب عن مقتضاه وهو التحتم وإما أن يجوز تأخيره إلى غير غاية من غير بدل كان تكليفا بما لا يطاق لجهالة الوقت أو مع بدل وهو إما العزم وقد عرف في الواجب الموسع أنه لا يجب أو الوصية وهي لا تعم جميع الواجبات الشرعية فكثير من العبادات لا تصح الوصية بها وإذا بطل كل هذه الأطراف التراخي وتعين الفور وأجيب بأنه يختار الطرف الثالث ولا يلزم أنه من تكليف ما لا يطاق لأنا لم نقل بوجوب التأخير مع جهالة الوقت حتى يجب التعيين بل نقول بجواز تأخيره ولا يلزم منه ذلك إذ يمكنه امتثال الأمر في أي وقت شاء
قلت وفيه تأمل قيل والتحقيق في المسألة أنه قد ثبت أن الأمر للوجوب ومن شأنه الذم على تركه والقول بالتراخي يقتضي ارتفاع الذم إلا في حالات نادرة وهو ظن الموت ويلزم ارتفاع الوجوب عن أكثر الأوامر

وهو ينافي كون الأمر للوجوب على ما هو المختار فالحق أنه إذا ثبت كون الأمر للوجوب ثبت أنه للفور لا من حيث الوضع بل لكونه من لوازمه كما قيل في دلالته على المرة لأن الوجوب يستلزم الذم بالترك كما يستلزم المدح بالفعل ولا نسلم ارتفاع الذم مع التراخي وإن لم يحصل ظن الموت كما يقضي بذلك استدلالهم بذم أهل اللسان من لم يمتثل أمر سيده كذا أفاده بعض محققي المتأخرين وأقول لا يخفى أنه قد يقال الترك الملزوم للذم هو ترك العازم على أن لا يفعل ما أمر به وأما التارك لأن وقت الطلب لا يتعين بل مسافته العمر فإنه غير مذموم ولا هذا هو الترك المأخوذ في رسم الواجب فيتأمل
والحق أنه لا يخلو أمر عن القرينة الدالة علىأحد الأمرين مثل أمر الكافر أن يقول كلمة التوحيد وإلا ضرب عنقه فوري بلا ريب وأمره بإقامة الصلاة إن كان قبل دخول وقتها فهو أمر مقيد بدخوله وإن كان بعده ففوره فعلها في آخر وقتها الموسع ويجري مثله في الصوم والزكاة فهذه كلها من الأمر المقيد وليس من محل النزاع وكذلك الحج على المستطيع من المؤقت يجب عند دخول أو شهوره مضيق على من لم يبلغ قضاء مناسكه إلا بسفره من أول يوم من شوال موسع لمن لم يدركه ولو في ثامن الحجة كالمكي فيتضيق في الثامن أو التاسع إذ أول مناسكه له الوقوف بعد الإحرام وهو يدركه في التاسع وقس سائر الأوامر عليه ولذا قلنا ... لكن له قرائن تفيد ...
استدراكا من الأربعة المنفية والمعنى أن المختار في الأمر المطلق

هو ما ذكرناه من عدم الدلالة من حيث هو على أحد الأربعة أي الفور والتراخي والمرة والتكرار لكن إذا قيد الأمر بما يقتضي أحد الأربعة عمل به وقرائن الكل واسعة فللتكرار نحو التعليق على علة نحو قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا فإنه يقتضي التكرار اتفاقا للإجماع على اتباع العلة المنصوصة وذلك إذا كانت العلة مناسبة كالآية بخلاف قوله إن دخلت هند الدار فطلقها فإنه يقع الطلاق من المأمور مرة واحدة فلو تكرر دخولها وطلقها في كل مرة لم يقع اتفاقا وذلك لأنه ينحل الشرط ويرتفع الأمر بارتفاع المأمور به ولا يتكرر لو أتى بكل ما أو متى على رأي وأما الآية فمقتضى التكرار إنما هو ما علم من الحكم الشرعي أن الجنابة توجب التطهير ثم عطف قوله ... ولا القضا من ذاك نستفيد ...
على قوله وما على المرة وهذا حكم من أحكام الأمر المقيد بالوقت والمراد أن القضاء للمأمور به المؤقت لا يستفاد من الأمر الذي ثبت به الحكم بمعنى أنه إذا خرج وقته يجب قضاؤه بل إنما يستفاد مما أفاده قولنا ... لكنه يعلم عند الناظر ... ويستفاد من دليل آخر ...
أي إن القضاء يعلمه الناظر ويستفيده من دليل غير دليل الأداء وعدم استفادته من دليل الأداء هو رأي الجمهور بل يستفاد من دليل آخر من نص أو قياس أو غيرهما وذهبت الحنابلة والحنفية والرازي وآخرون إلى استفادته من دليل الأداء واستدل الأولون بأن من قال لغيره صم يوم الخميس ولا يدل على صوم يوم الجمعة ولا غيرها بشيء من الدلالات فإثبات القضاء به إثبات لحكم شرعي بلا دليل وبطلانه واضح أجيب بأن قوله صم يوم الخميس تضمن شيئين طلب الصيام وكونه يوم الخميس فإذا فات الوقت بقي الأمر بالصيام فقد تضمنه الأمر الأول ودل عليه فلا يخرج المكلف عن عهدة الطلب إلا بالإتيان به وهو المطلوب

قلنا ليس الأمر بمجرد الصوم بل مقيدا بالوقت فإذا فات وقته كان موجبا لفواته لاستحالته الاستدراك المؤقت المطلوب فيه الفعل وأما ما قيل إن هذا مبني على أن الوقت قيد للمطلوب وليس كذلك بل قيد للطلب فإنه كلام باطل فإن الطلب لا بد وأن يتقدم زمنا على إيقاع المطلوب فما معنى تقييد الطلب بيوم الخميس مثلا وإن أريد أن طلب تنجيزه مقيد بيوم الخميس قلنا هذا أول المسألة فإنه إذا فات اليوم الذي طلب تنجيزه فيه فات المطلوب إذ قد صار اليوم جزءا منه هذا فيما إذا ورد الأمر بغير تكرر العطف وأما إذا تكرر الأمر بحرف العطف فهي مسألة أخرى أشار إليها الناظم بقوله ... وإن تكرره بحرف العطف ... أفاد تكريرا بغير خلف ...
أي بالاتفاق بين أئمة الأصول وذلك مثل أن يقول صل ركعتين وصل ركعتين وأما إذا قيل صل ركعتين وصل الركعتين فهما في الأول غيران لاقتضاء العطف المغايرة ولأنه حمل للكلام على التأسيس وهو أولى من التأكيد ولأن الشيء لا يعطف على نفسه إلا لتأكيد والتأسيس خير منه بخلاف الثاني فإنه تعارض فيه أمران كون اللام للعهد لتقدم المرجع ذكرا فيقتضي عدم التغاير وواو العطف تقتضيه ويأتي تحقيقه في شرح قولنا ما لم تقم قرينة التعريف
وقولنا بغير خلف هذا هو الذي نقله الأكثر ونقل صاحب الجمع والبرماوي في شرح منظومته خلافا في ذلك وما ذكرناه فالمراد أنه الأصل والمتبادر فإذا قامت قرينة على خلافه قدم ما قامت عليه نحو قولك اسقني ماء واسقني ماء واقتل زيدا واقتل زيدا فإن القرينة وهي اندفاع الحاجة إلى الشرب بمرة واحدة وعدم تعدد قتل زيد تقضي بأنه للتأكيد هذا إذا كان بحرف العطف أما إذا كان مع عدمه فقد أشار إليه قولنا ... أو كان تكريرا بغير عاطف ... على الذي يختار ذو المعارف

أي أو كان تكرير الأمر بغير حرف عطف أفاد أيضا تكرير المأمور به وهذا رأي الإمام يحيى والرازي قال الإسنوي ونقله في المستوعب عن عامة أصحاب الشافعي لأن كل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء ما تضمنه وهذا كله فيما لم يمنع مانع من الحمل على التأسيس وإلا فالحكم ما أشار إليه قولنا ... ما لم تقم قرينة التعريف ... أو غيرها فوفها واستوفى ...
أي حمل الأمر على التكرير إذا كان بحرف العطف أو بغيره إنما هو مقتض فإذا عارضه المانع وهو القرينة بالتعريف أو غيره كالعادة والعقل والشرع فالحكم هو الترجيح أو أنه لا يفيد التكرار بل يحمل على التأكيد وعبارة النظم تحتمل الأمرين وإن كان الثاني هو الأظهر بمناسبة التصريح بالتكرير فما سبق فالنفي متوجه إليه
ثم اعلم أن هذا النفي عائد إلى مسألتين معا وهما فيما كان بعطف أو بغيره ومثال ما قامت قرينة عقلية على عدم التأسيس قولك اقتل زيدا اقتل زيدا والشرعية أعتق سعدا أعتق سعدا فإن الثاني تأكيد بلا خلاف فإنه يستحيل التأسيس هنا عقلا وشرعا وأما ما لا يستحيل تكريره فقسموه إلى شيئين
الأول أن يكون بحرف العطف وله صور مع الأولى أن يتكرر الأمر بحرف التعريف في متعلقه نحو صل ركعتين وصل الركعتين فهنا قد تعارضا دلالة حرف العطف على التأسيس لإفادته المغايرة ودلالة التعريف العهدي على التأكيدي وحينئذ فيرجع إلى الترجيح فإن نظرنا إلى البراءة الأصلية رجحنا دلالة التعريف فيكون الثاني تأكيدا وإن اعتبرنا تحصيل مقصود الواجب رجح دلالة حرف العطف ومن هنا اختلف العلماء فقال

الجمهور إنه للتأكيد قالوا وقول من رجح خلافه لأجل تحصيل مقصود الواجب ترجيح للشيء بنفسه إذ تحصيل مقصود الواجب هو معنى التأسيس الذي حملوه عليه فكيف يرجح الشيء بنفسه قالوا وأما ترجيحنا بالبراءة الأصلية فإنه دليل مستقل وقال الرازي بل يحمل على التأسيس وتوقف أبو الحسين في ذلك للتعارض عنده
الثاني أن يكون الأول خاصا والثاني عاما نحو صم الجمعة وصم كل يوم اقتل زيدا الكافر واقتل كل كافر
والثالث عكسه واختلف فيه أيضا فقيل يحمل على التأكيد لأن الخاص قد شمله العام فلا يبقى للحمل على التغاير فائدة وفائدة الإتيان بالخاص منفردا العناية بشأنه والاهتمام بحكمه كما عرف في المعاني وقيل بل يكون تأسيسا لاقتضاء عطف المغايرة ولا فرق بين الأول وهذا إلا من حيث إرادة الخاص وقصده في صيغة العام هل تتناوله أولا وإلا فكل من القولين قد وجب معه ما تضمنه الأمران وتوقف أبو الحسين وتابعه الرازي في الوقف في هذا الظرف وهذا كله مع حرف العطف وأما مع عدمه فالحكم ايضا فيه ما في الذي مع حرف العطف من الخلاف
وإن كان الرازي هنا لا يتوقف بما إذا كان احدهما عاما والآخر خاصا بل حمله على التأكيد نعم يأتي في بناء الخاص على العام في مباحث العام ما يعطف عنان القول إلى هذه الأمثلة
وأما مسألة الأمر بالمطلق وهي مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وأنه يجب بوجوبه فقد أفادها قولنا

والأمر إن وفا إلينا مطلقا ... من غير شرط فاتبع لك البقا ... محصلا ما أنت مأمور به ... بشرطه المقدور فلتنتبه ... فإنه ما لا يتم الواجب ... إلا به فمثله قد أوجبوا ...
اعلم أن هذه المسألة ترجمها الأصوليون من الفريقين بقولهم ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا يجب كوجوبه وفيها أمران
الأول إن الأولى أن يقال ما لا يتم الواجب إلا به يجب بدليل أصله فإنه مرادهم ولم تفده عبارتهم
الثاني قولهم وكان مقدورا لا يحتاج إليه إلا من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق ولا يقدر عليه والمعتزلة ومن على رأيهم لا يقولون به وقد نبهنا على هذا في حواشي شرح الغاية
هذا وإنما عدلنا في الترجمة إلى قولنا والأمر إلخ من قولهم ما لا يتم الواجب إلا به لأن تقييدهم للواجب بالمطلق حيث قالوا ما لا يتم الواجب المطلق وفسروا الإطلاق بما لا يكون مقيدا بما يتوقف الوجوب عليه قالوا فخرج بقولهم المطلق المقيد بما يتوقف الوجوب على نحو ذلك إن ملكت النصاب وحج إن استطعت فالتقيد بذلك لا يقتضي إيجاب تحصل ملك النصاب وشرط الاستطاعة فورد عليهم أنه لا معنى لإخراج ما ذكر لأنه لم يدخل فإن الكلام فيما لا يتم الواجب إلا به كما هو عنوان الترجمة لا فيما لا يتم الوجوب إلا به فلم يدخل حتى يخرج بخلاف قولنا والأمر فإنه شامل لهما كما لا يخفى فيكون للتقييد فائدة وهو قولنا مطلقا وقولنا من غير شرط بيان لمعنى مطلقا
وإذا عرفت هذا فالذي يتوقف عليه الواجب ويحصل الامتثال بفعله قد يكون جزءا من المطلوب كالسجود والركوع في الأمر بالصلاة فهذان يجبان

بما وجبت به اتفاقا إذ هما من ماهيتها وقد يكون خارجا عنه وذلك كالسبب والشرط وهما محل الخلاف ففيه أقوال
الأول الذي أفاده النظم وهو وجوب المقدمات التي لا يتم الواجب إلا بها بما وجب به السبب والشرط اللذان هما الأصل في الطلب قالوا سواء كان شرطا عقليا أو عاديا أو شرعيا وذلك كالوضوء للصلاة بعد العلم بأنها لا تصح إلا به فإذا ورد أمر بالصلاة ساكتا عن الوضوء وجب الوضوء بإيجابها ثم اختلفوا هل دلالته عليه تضمنية أو التزامية ذهب إلى الأول إمام الحرمين واستبعد وإلى الثاني الجمهور وقد أشار إليه النظم بقوله فإنه ما لا يتم إلى آخره وتقريره أن إيجاب الشيء يقتضي المنع من تركه وعدم إيجاب ما لا يتم حصوله على الوجه المطلوب إلا بحصوله يقتضي جواز تركه والفرض أنه ممتنع هذا خلف ودلالته عليه بطريق اللزوم إذ طلب المشروط الذي لا يتم إيجاده إلا بوجود الشرط يستلزم طلب الشرط ومثله السبب يجري فيه هذا التقرير
الثاني أنه لا يجب شيء من المقدمات لأن دليل الإيجاب ساكت عنه
الثالث يجب السبب دون الشرط وهو تفريق بلا دليل
الرابع يجب الشرط الشرعي دون غيره
وقد أطال صاحب الفواصل نقله أدلة هذه الأقوال والردود عليها وقد كنا عند عرضه رحمه الله لما يكتبه من شرحه علينا كتبنا ما لفظه
اعلم أن هذه المسألة طالت من غير طائل وإن أثبتها كل إمام فاضل فإنه لا يخفى أن كون الشرط الشرعي لشيء شرطا والسبب له سببا لا تثبت شرطيته ولا سببيته إلا بدليل مستقل دال على الشرطية والسببية اتفاقا وإلا كان من إثبات ما لا دليل عليه وإذا قام الدليل على ذلك لم نفتقر بعد ذلك إلى النظر

في أن دليل المشروط والمسبب يشمله أو لا فإنه على تقدير شموله له لم يدل عليه إلا بأضعف الدلالات وقد أغنانا الله تعالى بالدليل الصحيح المطابقي عن دليل ضعيف لا يعدل إليه كما لا يعدل إلى التراب مع وجود الماء فإنه غاية ما فصله بحث الأفاضل أن دليل الإيجاب للأصل يشمله إيجاب شرطه وسببه بدلالة الإشارة واللزوم فما أقل جدوى هذه الأبحاث فإنه لو لم يقم دليل خارج على الشرطية والسببية ما علمنا للمطلوب شرطا ولا سببا ولذا قالوا فيما قدمنا في الشرط الشرعي كالوضوء بعد العلم بأنها لا تصح أي الصلاة إلا به انتهى
وإذا تكرر هذا فلا حاجة إلى استيفاء ما قيل بل لا حاجة إلى ذكرها بالإيجاز فضلا عن التطويل وقد أقره تلميذنا رحمه الله تعالى في شرحه في آخر البحث كما رقمناه وهذه مسألة كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعكسه والخلاف فيهما أشار إليه قولنا ... ولا يكون الأمر نهيا ذكرا ... عن ضده والنهي ليس أمرا ...
اختلف في الأمر المعين هل يكون نهبا عن ضده الوجودي يعنى المستلزم للترك لا الترك مطلقا وبالعكس ولا يتوهم أن الخلاف في لفظهما فإنه معلوم بالضرورة أنهما غيران للقطع بالفرق بين لا تفعل وافعل ولا في مفهومهما بمعنى أن صيغة لا تفعل موجودة في افعل للقطع بالتغاير أيضا وإنما الخلاف في أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الوجودي ويدل عليه مثلا نحو لا تسكن هل هو في قوة تحركه وبعكسه سواء كان له ضد واحد أو متعدد ولا ريب انه إذا قال السيد لعبده قم وهو قاعد فاستمر على قعوده وقال لم تنه عن القعود لامه العقلاء وعدوه عاصيا وعدوا الولد بذلك إن أمره أبوه عاقا وهذا هو الدليل على الذي جعلوه قاضيا بأن الأمر في الأصل للإيجاب فما لاموه وحسن لومه عند العقلاء إلا لأن أمره بالقيام يستلزم نهيه عن القعود ولذا قيدنا ذلك بقولنا ذكرا فإنه من حيث الذكر ليس هنا نهي قطعا ومفهومه أنه من حيثية أخرى هي الاستلزام

ثم إنه لا يعزب عنك أن محل الخلاف في الأمر الفوري كما صرح به جماعة من المحققين فينحصر في الواجب المضيق ولم يقيد الناظم الأمر بالمعين لتبادره وإنما قيده في الشرح بالوجودي ليخرج به الترك مطلقا إذ لا خلاف في أن الأمر نهي عن تركه ولا شك في كون الترك ضدا له ولكنه غير مراد في المقام بل المراد الضد الذي يحصل معه ترك المأمور من الأمور الوجودية لا الترك مطلقا إذ لا بد من ملاحظته بلا خلاف
وقد أطال في الفواصل بذكر ما في المسألة من الخلاف ولا حاجة إلى تفصيله بعد ظهور الأقوى بدليله وفي نجاح المطالب إن هذه المسألة مبنية عن القول بأنه لا تكليف إلا بفعل لا على القول بأنه يصح التكليف بنفي الفعل
وهذه إشارة إلى مسألة اختلف فيها العلماء وهي هل التكليف في النهي بفعل أو لا فقال الجمهور بالأول وإنه كف النفس وقيل إنه فعل ما يضاده فلا تضرب معناه إفعل ما يضاد الضرب وأما القول بأنه نفي الفعل فهو عائد إلى الأول
واستدل الأولون بأن التكليف إنما يتعلق بما هو مقدور ونفي الفعل عدم وهو حاصل قبل توجه النهي وطلب تحصيل الحاصل محال
وأجيب بأن المطلوب استمرار ذلك العدم وهو استمرار واقف على اختيار المكلف وليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل عدم مخصوص يصح أن يتوقف على الاختيار ويتعلق به إثر قدرته فإن المكلف قادر يتمكن من أن لا يفعل فيستمر العدم أو يفعل فلا يستمر فصح أن العدم من هذه الجهة إثر قدرته إذ الاستمرار الموقوف على اختياره ليس هو العدم الذي كان قبل توجه النهي بل هو عدم مخصوص متوقف على اختياره فليس هو عدما محضا ومن هنا تعرف أنه لا فرق بين كون مطلوب النهي الكف أو نفي الفعل إذ النفي

المراد هو الموقوف على اختيار الفاعل ولا يكون إلا بانتهائه وامتناعه عنه وقوله ... هذا الذي رجح كل فاضل ...
إشارة إلى ما سلف وأنه الراجح عند أفاضل النظار
ولما فرع الناظم من باب الأمر أخذ في النهي فقال ... فصل وحد النهي قول القائل ... لغيره لا تفعلن مستعليا ...
قد تبين لك فوائد القيود مما قدمناه في شرح رسم الأمر فلا نكرره ... يكره ما عنه نهي مقتضيا ...
ضمير يكره عائد على القائل وهو النهي وهو بيان لعلة النهي وإنها كراهة هيئة إيقاع المنهي عنه وهو لا يخلو عن فائدته وكان غير محتاج إليه قولهم مقتضيا حال من النهي أو من لا تفعلن وقولنا ... مطلقه الدوام لا المقيد ...
هو فاعل مقتضيا ولا المقيد عطف على مطلقه والكل إشارة إلى مسألتين
الأول اقتضاء النهي الدوام وأنه يخالف الأمر في ذلك فإنه تقدم اختيار أن الأمر لا يدل على التكرار والفور بخلاف النهي المطلق فإنه دال على الدوام المختار وإذا دل عليه اقتضاء التكرار والفور واقتصر على التعبير بالدوام لإغنائه عن التصريح بالتكرار فإن اقتضاء الدوام يلزمه إفادة التكرار والفور ولم يقل دالا عوضا عن مقتضيا إشارة إلى أن ذلك من ضرورة النهي ولازمه لا أنه من صيغته ألا ترى إذا قلت لزيد لا تسافر فقد منعته من إدخاله ماهية السفر في الوجود فلا يتحقق امتثاله إلا بعدم إتيانه بجميع

ما يصدق عليه ماهية السفر فلو وقع في الخارج أي فرد من ذلك كان مخالفا لمقتضاه نهيه ولا يخفى أنه من الدلالة الالتزامية وهي عقلية عند الجمهور ولذا قلنا مقتضيا ولم نقل دالا من الدلالة اللفظية ومن جعله منها عبر بدالا
فإن قيل النهي المطلق يعم الأزمان والاحوال جميعا فلا يفيد الدوام إذ الامتناع في الجملة يحقق الامتثال بصدقه بأنه قد امتنع عنه وأما دوام الامتناع فإنما يقتضيه لو قيد بالدوام قلنا صيغة لا تسافر في قوة لا توجد سفرا فهو في معنى النكرة في سياق النفي تفيد العموم كما يأتي
وقد استدل ابن الحاجب ومن تبعه بالإجماع فإنه لا يزال العلماء يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات لا يخصونه بلفظ دون لفظ وشاع بينهم وذاع ولم ينكر فكان إجماعا ولولا أنه يقتضي الدوام لما صح ذلك
واعلم أن هذا مختار الجمهور للدليل الذي عرفته وذهب الأقل إلى أن النهي لا يقتضي الدوام إلا بقرينة ثم اختلفوا أيضا فقيل إنه كالأمر في اقتضاء المرة واستدلوا بأنه قد يراد به التكرار نحو لا تقربوا الزنا وقد يراد به المرة كما يقول الطبيب لمريض شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة قالوا والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون النهي حقيقة في القدر المشترك ورد بأن ما ذكرتم من المثال إنما اقتضى عدم التكرار وجود القرينة فهو مجاز ومع ظهور القرينة يتعين الحمل عليه وإلا لامتنع وجود المجاز واستدل الجلال في شرح الفصول للقول المرجوح بأن النهي لدفع المفسدة في الفعل والمفاسد كالمصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص وإلا لما جاز نسخ المناهي ولا تبديل الشرائع وأجيب عنه بأنه ليس المدعى أنه يقتضي الدوام البتة حتى

يمكن التبديل والتحويل بل ذلك بحسب ظاهره فلا ينافيه النسخ لاختلاف الأحوال والأزمان بل قد يقال هذا النسخ والتبديل دال على اقتضاء النهي الدوام هذا كله في النهي المطلق
وقولنا لا المقيد إشارة إلى المسألة الثانية وهي أن النهي يكون مطلقا كما عرفت ومقيدا بشرط أو صفة ونحو ذلك فإذا قيد لم يقتض الدوام نحو لا تكرم زيدا إن كان جاهلا ولا تهن العالم واختلف العلماء أيضا هنا فمال جماعة كأبي عبدالله البصري والمهدي في المعيار إلى هذا وذهب الجمهور إلى أن المقيد يفيد الدوام أيضا إذ التقييد لا يخرجه عن مقتضى وضعه وفي شرح المعيار للمهدي ما يقتضي أنه اختار هذا فإنه قال والأقرب عندي في المطلق أنه يقتضي التأبيد من جهة اللفة كما تقدم تحقيقه وأما المقيد فالأقرب أن الشرط إذا تضمن معنى التعليم اقتضى معنى الدوام نحو لا تدخل الحمام ان لم يكن صعك مئزر فإنا نفهم ان العلة فيه هو كراهة كشف العورة فيستمر ذلك مهما حصلت العلة وان لم يفهم معنى التعليم نحو لا تدخل المسجد إن كان زيد في الدار اعتمد على ما فهم من مقصد الشارط فإن لم يفهم شيئا فالظاهر الدوام كالمطلق إذ تقديره لا يكن منك إيجاد دخول المسجد وزيد في الدار وهذا يقتضي عموم الأوقات فكذلك ما في معناه وهذا التفصيل عائد إلى تصحيح ما قاله الأكثر من أنه للدوام إلا لقرينة انتهى والذي قاله الجمهور هو الأظهر لأن التقييد لا يخرجه عن الدوام وأما المثالان المذكوران فإن النهي فيهما لا يقتضي الدوام بل هو مقرون بوجود العلة التي عللت عليه

وهو على القبح دليل يوحد ...
هذه مسألة أن النهي يدل على قبح المنهي عنه فكلمة على متعلقة بدليل وهو معنى أنه للتحريم ولذا عبرنا بالقبح لأن الكلام في مقتضاه لغة كما ستعرفه من دليل هذا القول بخلاف التحريم فهو شرعي وإن كان هو لا بد له لكن الكلام في مقتضاه لغة وكونه للقبح هو كلام الجمهور مستدلين بذم العقلاء من أهل اللسان العربي إذ العبد خالف نهي سيده وإجماع السلف على الاستدلال للتحريم بمجرد النهي إذا تجرد عن القرائن وتقدم تحقيقه في بحث الأمر
وقيل بل النهي حقيقة في الكراهة توهما من قائله أنه إنما يدل على مرجوحية ترك النهي عنه لا على سبيل التحتم وهذا لا يقتضي التحريم وجوابه أن الذم من خصائص القبح والمكروه لا ذم على من أتاه ولأن السابق إلى فهم اللسان العربي بحسب الظاهر عند التجرد عن القرائن هو القبح المستلزم للذم ومن ثم يستدل به على التحريم وقيل مشترك بينهما لاشتراكهما في رجحان الترك فجعله لأحدهما دون الآخر تحكم ورد بما سمعته قريبا ... في ذلك المنهي لا الفساد ... واختار ذا جمع من النقاد ...
وقولنا في ذلك المنهي يتعلق بيوجد أي يوجد القبح في المنهي عنه بعينه وقوله لا الفساد عطف على القبح أي لا أنه دليل على فساد المنهي عنه وهذه مسألة أن النهي هل يدل على فساد المنهي أو لا وهي مسألة خلاف بسيطة التقاسيم والأطراف والذي في النظم أنه عند نقاد العلماء لا يدل النهي على فساد المنهي عنه في العبادات ولا المعاملات وهذا القول ذهب إليه جماعة ونقل عن أكثر أهل الأصول ودليلهم أنهم قالوا معنى الصحة في العبادات أنها فعلت على وجه لايجب معه القضاء ومعنى الفساد فيها وجوب قضائها لفعلها على غير ذلك الوجه

وأما في المعاملات فمعنى الصحة حصول الملك ونفوذ التصرف فيها على جميع الوجوه والفساد بعكس ذلك قالوا ومعلوم أن النهي لا يدل على شيء من تلك الأحكام وإنما يدل على كون المنهي عنه قبيحا ومكروها ومحظورا وكل هذه الألفاظ لا تقتضي الفساد وأجيب عنه بسؤال الاستفسار وهو ما مرادكم بنفي دلالته على الفساد هي بالمطابقة أو التضمن فمسلم وإن أردتم بالالتزام فممنوع على أنكم قد سلمتم أنه يدل على أنه محظور والمحظور ممنوع عنه شرعا وكل ممنوع منه غير صحيح ضرورة أن الصحيح مأمور به لا ممنوع عنه فالممنوع عنه فاسد
وذهب جماعة كأبي طالب وجمهور الشافعية والمالكية والظاهرية إلى أنه يدل على الفساد مطلقا مستدلين بأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزالوا يستدلون بالنهي على فساد كل مفعول قد نهى عنه الشارع من عبادة ومعاملة مستدلين بأن الشارع نهى عنه في مثل لا تأكلوا الربا وذروا ما بقي من الربا والأنكحة مثل ولا تنكحوا المشركات والبيوع لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تصل حائض إلا بخمار وغير ذلك فكان إجماعا منهم كما سبق نظيره في الاستدلال على حجية الإجماع وكون الأمر للوجوب وبأنه لو لم يدل على الفساد لزم من نفيه حكمه للنفي يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمه للصحة تدل عليها الصحة فمع تساوي الحكمتين أو مرجوحية حكمية النهي يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة لتساقط الحكمتين مع التساوي وسقوط الحكمة المرجوحة

إليها أيضا مع الراجحة ومع رجحان حكم النهي يمتنع الصحة
وهذا القول يظهر أنه أرجح من الأول ومن غيره من التفاصيل المعروفة في كتب الأصول ويؤيد ما ذهبنا إليه الحديث الصحيح وهو كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومعلوم أن المنهي عنه ليس عليه أمره صلى الله عليه و سلم فهو مردود من عبادة ومعاملة وكل مردود لا نفوذ لحكمه فهذا هو الحق وقد تقوم قرائن تصرف عن المقرر فلا تنافيه
ولما انتهى لنا القول في الباب الخامس أخذنا في البحث في الباب السادس فقلنا

الباب السادس في العام والإطلاق ... سادسها في العام والإطلاق ... وضد ذين فاتبع إطلاق ...
أي سادس أبواب الكتاب المنظوم في مسائل العام والإطلاق أي المطلق الآتي بحثه وقوله وضد ذين أي خلاف العام وهو الخاص وخلاف الإطلاق وهو التقييد فقد افاد النظم أن في الباب اربعة أبحاث
العام وهو اسم فاعل من عم الشيء يعم عموما فهو عام والعموم في اللغة شمول أمر لمتعدد فهو أمر معنوي وبحث الأصولي عن الأمر الذي استفيد منه العموم وهو العام ولذا أتى به الناظم وعرفه بقوله ... فالعام ما استغرق صالحا له ... من غير حصر قد عزا مدلوله ...
فكلمة ما جنس الحد وعدل عن قول الأصل لفظ للإشارة إلى ان العموم يكون أيضا من عوارض المعاني وقولنا استغرق صالحا له أي تناول ما يصلح له دفعة كما يشعر به لفظ الاستغراق الدال على الشمول والإحاطة بجميع ما يصلح له فالتقييد بدفعه الذي يأتي به الأصوليون في تعريف العام قد أفاده التعبير باستغرق ووجهه أن قوله ما استغرق يشعر ما يطلق عليه

ويصلح له فالنكرة في الإثبات مفردة ومثناة وجمعا واسم الجمع كقوم ومراتب الأعداد كعشرة لا استغراق فيها كلها لما تصلح له على جهة الإحاطة بل على سبيل البدلية كرجل يتناول كل فرد على البدلية فلما قلنا استغرق ما يصلح له خرج ما ذكر وعلم أنه لا يكون الاستغراق إلا دفعة
فإن قلت نحو المسلمين والرجال معرفين بلام الاستغراق عمومها بالنظر إلى تناول كل جماعة لا الآحاد فلا يتناولان كل فرد فرد فلا يتم دخولهما في التعريف وهما من ألفاظ العام قلت الحق أن التعريف الاستغراقي في الداخل على الجمع قد سلبه معنى الجمعية كما عليه أئمة التفسير وكثير من المحققين فهو كالرجل معرفا بها يدل على كل فرد فرد
وقولنا من غير حصر فصل آخر لإخراج اللفظ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه فإنها محصورة وفيه نزاع واختلاف ومرادنا من غير حصر يدل عليه اللفظ لا في الواقع فإنه قد يكون العام محصورا كالسماء والأرض وعلماء البلد
واعلم أنه اشتهر بين علماء الأصول إشكال أورده القرافي حاصله أن دلالة العام على كل فرد فرد من أفراده كما قلتم مشكل لانحصار الدلالات بالثلاث ودلالة المشركين في فاقتلوا المشركين مثلا على زيد المشرك لا تصلح أن تكون من أي الدلالات الثلاث أما المطابقة فظاهر لأن زيدا المشرك ليس تمام ما وضع له لفظ العام والتضمن دلالة اللفظ على جزء معناه والجزء لا يصدق إلا إذا كان المسمى كلا وقد تقدم أن دلالة العام على سبيل العموم والاستغراق لكل فرد فليس هو بكل والالتزام الدلالة على أمر خارج وزيد المشرك ليس بخارج عن معنى العام بل داخل قال فأما أن

يبطل حصر الدلالات اللفظية في الثلاث وإما أن لا يكون العام دالا على شيء من أفراده فلا يتم أنه دال على كل فرد فرد كما هو المدعى
وقد اضطرب الأئمة في حله بما هو مودوع في كتب الأصول
والذي يظهر لي وإن لم يتنبه له أحد هو أن هذا الإشكال وإن أطال الأئمة فيه المقال يفتقر إلى تأمله فإنه قال القرافي الذي أورده إنه لا يدل لفظ اقتلوا المشركين على قتل زيد المشرك إلى آخر كلامه جوابه أن يقال إن أردت أن لفظ المشركين لا يدل على قتل زيد بأي الثلاث فهذا مسلم ولا شك فيه ولا إشكال به وإن أردت أنه لا يدل على المشركين فهذا لا يقوله من يفهم الدلالات ضرورة أنه من إفراد جمعه وأنه يدل عليه تضمنا لأنه جزاء الموضوع له لفظ جمعه
وإذا عرفت هذا فزيد المشرك ما أمر بقتله لكونه زيدا ولا دل لفظ المأمور بقتلهم عليه بل دل اللفظ على الأمر بقتل المشركين واتفق أنه عرف أحد أفراده في الخارج بأنه زيد فكونه زيدا لسنا مأمورين بقتله ولا دل عليه الأمر ولا توجه إليه الخطاب إلينا بقتله بل ولا هو من إفراد العام الذي صدر بحث الإشكال به بل فرده الذي دخل تحته ووقع الأمر بالقتل عليه هو المشرك فاتفقا أنه زيد كاتفاق أنه أحمر وأسود فإنا نقتله لكونه مشركا مدلولا لما أوقع عليه الأمر وتعلق به الخطاب لا لكونه أحمر مثلا وإذا تحققت هذا علمت أن أصول السؤال مغالطي وأن المجيبين لم يفتضوا بكارته وأجابوا على

تسليم الإشكال وما عرفوا أنه ركبه السائل على حق وباطل فقال لا يد على قتل زيد المشرك قلنا ذكر زيد باطل وإدخاله هنا لغو من السائل وقولك المشرك لا يعلق به السؤال ولا يناط على عاتقه هذا الإشكال فليتأمل وإن خفي على المحققين من الرجال فبيد الله الإفضال هذا وفي جمع الجوامع ان مدلوله كلية أي محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتا أو سلبا لا كل أو محكوم فيه على مجموع الأفراد من حيث هو مجموع ولا كلي ولا محكوم فيه على الماهية من حيث هي أي من غير نظر إلى الإفراد قال ودلالته على أصل المعنى قطعية وعلى كل فرد بخصوصه ظنية انتهى ... خلاف هذا الخاص والتخصيص ... إخراج بعض منه والمنصوص ...
أي خلاف قولنا ما استغرق صالحا له الخاص وهو ما لا يستغرق صالحا له لحصر وقولنا والتخصيص مبتدأ خبره إخراج بعض منه والمنصوص مبتدأ يأتي خبره
والعم ! انه تبع النظم المنظوم في رسم الخاص وهو تبع المعيار وقد أورد عليه بأنه لا ينطبق على المحدود إذ الخاص قد يكون عاما في نفسه نحو لا تقتلوا أهل الذمة فإنه تخصص فاقتلوا المشركين وجزئيا نحو اقتلوا القوم إلا زيدا والرسم لما ذكرنا لا يصدق على شيء منها ولك أن تقول عبارة النظم صحيحة فإن الخاص خلاف العام وليس لفظ هذا عائد إلى رسم العام نفسه بل المراد خلافه في اسمه ورسمه وهو ما أخرج من العام كما أشعر به قولنا والتخصيص إخراج بعض منه أي من العام والمراد إخراجه عما يقتضيه ظاهر اللفظ من تناول إرادة المتكلم به والحكم عليه لا إخراجه عن الحكم نفسه والإرادة في أن الخاص لم يدخل تحتهما من حيث الإرادة والحكم

بحسب الظاهر حتى يخرج ولا إخراجه عن الدلالة فإنها كون اللفظ بحسب الظاهر إذا أطلق وفهم منه المعنى وهذا حاصل مع التخصيص ففي التحقيق ليس هناك إخراج وأن التعليل به مجاز عن عدم الدخول وصار في العرف حقيقة بشيوعه وقولنا منه إشارة بحرف التبعيض إلى أنه لا يجوز التخصيص حتى لا يبقى شيء من إفراد العام ويأتي تحقيقه وقولنا والمنصوص تقدم أنه مبتدأ مراد به الذي نص عليه أئمة الأصول من ألفاظ العموم وهو ما يفيده خبره أعني قولنا ... في الأصل من ألفاظه ما تسمع ... كل جميع ثم ست تتبع ...
أي الذي نص عليه من ألفاظ العموم في أصل المنظوم هي ما تسمعه من ذلك في النظم أولها لفظ كل فهو مرفوع بدل من قولنا ما تسمع فلفظ كل يفيد العموم وهي تضاف إلى نكرة نحو كل نفس ذائقة الموت وإلى معرفة نحو اشتريت كل الدار مفردا أو جمعا نحو كل الرجال أكرمهم وهذا فيما كانت متبوعة وتفيده تابعة نحو فسجد الملائكة كلهم أجمعون ومثلها جميع في إفادتها العموم تابعة ومتبوعة إلا أنها لا تضاف إلى نكرة وقولنا ست تتبع أي ست كلمات بينها قولنا ... أسماء الاستفهام والشرط كمن ... خاف المعاد لم يذق طعم الوسن

بيان لها وهي أسماء الاستفهام وأسماء الشرط والنكرة في سياق النفي والجمع المضاف والموصول والمعرف بلام الجنس كما ستمر بك فأسماء الاستفهام كأي لمن يعلم ولمن لا يعلم نحو أيكم زادته هذه إيمانا فبأي حديث بعده يؤمنون وغير ذلك وأسماء الشروط مثلها الناظم بقوله من خاف المعاد لم يذق طعم الوسن ومنه قوله تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... والنكرات في سياق النافي ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
قولنا النافي صفة محذوف أي اللفظ النافي واللفظ أعم من أن يكون بأي أدوات النفي لا التي لنفي الجنس أو غيرها
واعلم أن النكرة في الاثبات قد تفيد العموم لاعتبارات وقرائن يقتضيها المقام نحو ولعبد مؤمن خير من مشرك قول معروف خير من صدقة وهو كثير في الكتاب والسنة وقد ذهب الجمهور القائلون بأن للعموم صيغة إلى الاتفاق على هذه التي قدمناها من ألفاظه والخلاف بينهم فيما عدها منها قولنا ... والجمع إن قيد بالمضاف ...
فإن فيه خلافا هل هو من ألفاظه أم لا ومثاله قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وأكرم علماء البلد ومرادهم بالجمع ما دل على أكثر

من اثنين ! سواء كان له مفرد من جنسه أو لا فيدخل اسم الجمع وهو ما يطلق على ثلاثة فصاعدا بحسب الوضع نحو قوم نوح وغنم القوم وخرج بمفهوم القوم الجمع المفرد إذا أضيف فلا يفيد العموم ويأتي تحقيقه ... ومثلة الموصول في الجنس وما ... بلامه عرف عند العلما ...
أي مثل الجمع المذكور في إفادة العموم الموصول إذا كان للجنس لا إذا كان للعهد نحو وقال الذي آمن ونحو قد سمع الله قول التي تجادلك وقولنا وما بلامه أي لام الجنس فيقال إنها لام الاستغراق نحو إن الإنسان لفي خسر ولذا صح الاستثناء منه ومعيار عمومها أن يصلح وقوع كل موقعها نحو كل إنسان في خسر وقيده في ذلك ليخرج سائر معاني اللازم إيضاحا للمراد وإلا فالكلام في صيغ العموم ووضع لام التعريف حقيقة في الاستغراق كما ذهب إليه جماعة من المحققين سواء دخلت على الجنس نحو الرجل أو اسمه نحو العسل والماء أو الجمع نحو الرجال أو اسمه كالغنم والرهط والقوم كما تقضي به عبارة النظم
واعلم أن إثبات العموم لما ذكر وأنه حقيقة فيه هو قول الجماهير ويروى عن الأئمة الأربعة قال ابن حزم وهو قول الظاهرية واستدل لهذا بتبادر فهم العموم من نفس الصيغ المذكورة لأهل اللسان العربي والتبادر علامة الحقيقة من ذلك قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي فإنه فهم نوح من قوله تعالى وأهلك نجاة ابنه معهم فقال إن ابني من أهلي ومنه قول الملائكة لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية فهم إبراهيم العموم ف قال إن فيها لوطا وأجابته الملائكة بتحقيق ما فهمه وكذا استثناؤه تعالى

امرأته وهو معيار العموم في الصحيحين لما نزل قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم إني ضرير فنزل غير أولي الضرر فأقره صلى الله عليه و سلم على فهم العموم ونزل القرآن بالتخصيص وفيهما أنه لما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا يمانهم بظلم قال الصحابة وأينا لم يظلم نفسه ففهموا العموم من النكرة في سياق النفي وأقرهم صلى الله عليه و سلم وبين لهم أن المراد به ظلم مخصوص هو الشرك والآيات والأحاديث واسعة في هذا
واستدل أيضا بإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن إفادة صيغ العموم له بنفسها فإنه شاع فيهم الاستدلال بذلك بمثل والسارق والسارقة والزاني والزانية يوصيكم الله في أولادكم ولم ينكر فكان إجماعا وقد نفاه العموم لدفع هذين الدليلين بما لا يخرج ألفاظ العموم عن أنها ظاهرة في العموم وهو المدعى أنها حقيقة فيه ظاهرة في معناه وقد تخرج عنه بقرائن كان يراد بالعموم الخصوص ... واختلفوا هل يدخل المخاطب ... تحت خطاب نفسه والواجب ... دخوله والمدح لا يغير ... دلالة العموم وهو الأظهر ...
هاتان مسألتان معروفتان في الأصول تعرف الأولى بدخول المتكلم في خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم فاختلف العلماء في ذلك ما أشار إليه النظم وقوله واختلفوا استئناف بيان لهذه المسألة ولهم أقوال
الأول إنه داخل تحت خطاب نفسه الوارد بصيغة العموم وهذا قول الأكثر وإليه أشير بقولنا والواجب دخوله سواء كان خبرا أو أمرا فالأول نحو من قال لا إله إلا الله إلى قوله كان له كعدل نسمة فإنه صلى

الله عليه وآله وسلم داخل في هذا
والثاني نحو من أصابه هم أو حزن فليقل إني عبدك وابن عبدك الحديث فإنه صلى الله عليه و سلم كذلك قالوا وكذا إذا ورد الخطاب بمثل يا ايها الناس يا أيها الذين آمنوا وقل للمؤمنين أو بلغ ما أنزل إليك وأمثالهما فالنبي صلى الله عليه و سلم داخل في مثل هذا وإن كان مبلغا لغيره فهو مخاطب اسم مفعول باعتبار توجيه الخطاب إليه ومخاطب اسم فاعل باعتبار أنه المبلغ الأمر الناهي فهو مأمور بالتبليغ للمكلفين وهو من جملة الملكلفين فهو داخل في عمومات الخطاب ما لم تقم قرينة على خروجه عنه هذا كلام الجمهور وفيه طول لا حاجة إليه وخلافات خارجة عن محل النزاع
وأقول تحقيق المسألة أن المتكلم لا يخلو إما أن يتكلم عن نفسه كقوله من لا يكرم نفسه لا يكرم وقول الآخر من يفعل الحسنات الله يشكرها
فالمتكلم مشمول بكلامه مخبر لنفسه ولغيره وليس الإخبار محصورا في إفادة الخطاب بل المعاني المفادة للإخبارات كثيرة فإن الواعظ مخاطب غيره بمواعظه وهو داخل في ذلك وإما أن يكون المتكلم رسولا إلى المخاطبين متكلما عن غيره ! فالظاهر خروجه عن عموم الخطاب مثل رسل السلطان إذا تكلمت عنه وبلغت أوامره ومن ذلك رسل الله تعالى فإنهم مبلغون عنه تعالى وقرينة الإرسال قاضية بخروجهم عن اللفظ وإن كان اللفظ من حيث مادته يصدق عليهم مثل الناس والذين آمنوا
إذا تقرر هذا فقول من قال يدخل المتكلم في عموم خطابه ينظر إلى أمرين الأول إلى مطلق كونه متكلما وهو خطأ فإنه لا يسمى القرآن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح ذلك بل هو كلام الله وإنما

هو مبلغ وحاك فعرفت بهذا أنه خارج عن أصل المسألة ومحل نزاعها لأن المسألة معقودة لدخول المتكلم في كلام نفسه والثاني قولهم لتناوله لغة يتم في المتكلم عن نفسه لا المبلغ عن غيره وقد عقدوا مسألة للمبلغ عن غيره وحكموا بأنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم ما بلغه نحو يا عبادي كما قالوا بدخوله في الأولى ونحو نقول إنما هو صلى الله عليه و سلم مبلغ لا غير إذ الكتاب والسنة كلاهما وحي فهو مبلغ لهما ولو حررت المسألة بأنه هل يدخل المبلغ في عموم كلام من بلغ عنه لكان دخوله صلى الله عليه و سلم في ذلك ظاهرا وهذا بالنسبة إلى القرآن في غاية الوضوح ولعله هو الذي غر من قصر الخلاف عليه وأما بالنسبة إلى السنة فلا كلام في ظهور أنه صلى الله عليه و سلم داخل في عموم كلامه
والتحقيق أنه لا يتكلم إلا بما أمر به غايته أن بعضه وقع بعبارة الكتاب السماوي وبعضه بعبارته صلى الله عليه و سلم فالكل عن الله تعالى وهذا لم يشمله عموم كلامه سواء كان بعبارة الكتاب أو عبارة السنة فالكل عن الله تعالى كما يرشد إليه قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فكل ما آتانا به فهو مبلغ له عن الله ولذا كان الحق أن السنة أحد الوحيين وقال تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى غاية الفرق بينهما أن عبارتها ليس معجزة كالقرآن وأنه لا تصح نسبتها إلا إليه صلى الله عليه و سلم فيقال فيها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يقال فيها قال الله وإذا عرفت هذا علمت أن المسألة وإن تطابقت عليها كتب الأصول لم تحرر وأنه أدخل فيها الخطابيات القرآنية
وتحقيق الحق أنه صلى الله عليه و سلم مرسل إلى نفسه كما أنه مرسل إلى غيره فهو داخل في العمومات القرآنية لا لكونه متكلما كما يقتضيه كلامهم بل لكونه مبلغا لنفسه عن ربه مأمورا بما أمر به غيره إلا ما خص منها لدليل خارجي فهذا وجه دخوله في العموميات القرآنية وكذا نقول في

رسل الملوك ! إنهم غير داخلين في عمومات ما بلغوه إلا أن تقوم قرينة على ذلك فهذه المسألة الأولى
وأما المسألة الثانية فهي ما أشار إليه قولنا والمدح هو مبتدأ لا يغير خبره و دلالة العموم مفعول لا يغير وضمير وهو للمصدر المدلول عليه بفعل التغيير المنفي وهو مبتدأ خبره الأظهر
واعلم أنه اختلف العلماء في العام الوارد في معرض مدح نحو إن الأبرار لفي نعيم أو ذم نحو وإن الفجار لفي جحيم على ثلاثة أقوال
الأول إنه لا يبطل به العموم وهو قول الجمهور وإلى اختياره أشار الناظم بقوله وهو الأظهر ووجهه واضح وهو أن صيغة العموم هي المقتضي لشمولها لإفراد ما تحتها ولا يخرجها عن مقتضاها معنى سيقت لأجله قلت وتخصيص النزاع بما سيق لغرض مدح أو ذم كأن قاله الأول وتبعه الآخر وإلا فكل غرض سيق له العام يلزم فيه الخلاف والحق أنه لا يغير العام غرض سيق له لسلامة المقتضى عن المعارض ... والله لا آكل عام فيما ... يؤكل واختاروا هنا التحريما ...
هذه المسألة وهي هل الفعل المتعدي وغيره إذا وقع في سياق النفي أو ما في معناه من غير ذكر لمفعوله عام أو لا اختلف فيه العلماء وذلك مثل والله لا آكل وإن أكلت فعبدي حر في المتعدي ولا أقعد في غيره وهذا صرح به في الفصول أعني عموم الخلاف له فذهب الجمهور إلى أنه يعم فيقبل التخصيص بالنية إذا نوى مأكولا خاصا أو زمانا أو مكانا ولا يحنث بغير

ما نواه وقالت الحنفية لا يعم فلا يقبل التخصيص فأما إذا ذكر متعلق الفعل وأكد بمصدره نحو لا آكل العنب أو أكلا فاتفقوا على أنه لا يحنث إلا بما تلفظ به أو نواه في صورة التأكيد بالمصدر ومنشأ الخلاف هل متعلق الفعل مقدر فيكون كالملفوظ ملاحظا في المقام او غير مقدر فليس بمقصود وإنما سيق الكلام لنفي حقيقة الفعل فكأنه قال لا يقع مني أكل ولا نزاع في ورود الاعتبارين في فصيح الكلام إنما الكلام ما هو الظاهر منهما فيحمل عليه المحتمل لهما فذهب الجمهور إلى حمله على تقدير مفعوله قالوا لاحتياج الفعل إلى متعلقه إما لتوقفه عليه كالمفعول به أو لأنه من ضرورياته كالزمان والمكان فهو كالملفوظ فيخصص بالنية ولا يحنث إلا بما نواه
وقال الآخرون الأصل عدم التقدير والكلام غير محتاج إلى اعتبار المتعلقات في المقام لعدم توقف صحة الكلام ولا صدقه عليه إذ قد ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم ومناط ذلك ظهور مراد المتكلم وحذفه لمتعلقاته قرينة أن مراده نفي الفعل من غير نظر إلى متعلقاته وإن كان في قوة والله

لا أوجد آكلا وآكلا نكرة في سياق النفي لكن ليس المقصود إلا نفي الفعل من حيث هو من غير ملاحظة لذلك التركيب فليس هو في حكم المقدر فلا اعتبار به وحاصله أن العموم مسلم لكنه على طريق الالتزام في المتعلقات وليس هو بلفظي ولا في حكم اللفظي المقدر فلا يقبل التخصيص بالنية وأجاب الأولون بأن تنزيل المتعدي منزلة اللازم مجاز والأصل هو الحقيقة ولا نسلم أرجحية المجاز للقرينة التي ذكرتم على الحقيقة في المقام وقولنا ... أن يعملوا بالعام قبل الفحص ... عن خاصه من ظاهر أو نص ...
بفتح الهمزة مفعول اختاروا وهي إشارة إلى مسألة العمل بالعام قبل البحث هل له مخصص من ظاهر أو نص وهي مسألة خلاف والذي في النظم الجزم باختيار تحريم العمل قبل البحث في مخصصه وعبارة النظم واصله قاضية بالاتفاق على تحريم العمل به قبل البحث عن مخصصه وهذا الاتفاق صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وهذا إن حملت ضميرا اختاروا على العلماء مطلقا السابق ذكرهم ولك ان تجعله للجمهور من العلماء لأنه اتفاق لهم الجميع
وقد ذهب جماعة من محققي الشافعية كالرازي وأتباعه والسبكي والبرماوي وغيرهم إلى أنه يجب العمل بالعام من دون بحث عن مخصصه قالوا لأنه ظاهر في الاستغراق وهو حقيقة كما عرفت فيجب العمل بالظاهر حتى يرد ما يغيره وقول من قال لا يعمل به حتى يبحث عن مخصصه لأنه قد كثر للعام ذلك أي التخصيص حتى قيل ما من عام إلا وقد خص إلا مثل والله بكل شيء عليم لا يوجب عدم العمل بالعام

لجواز وجود مخصص وإلا لزم أن لا يعمل بالحقيقة حتى يبحث عن مجازها لكثرة المجاز وهذا باطل عند اكثر العلماء وإن قيل بأن فيه خلافا وقولهم بأن احتمال التخصيص في العام أقوى من احتمال غيره كالحقائق للمجاز مسلم ولا يقتضي التوقف في العام عن العمل بظاهره فإن العموم هو الظاهر فلا مقتضى لهجره
وقال الآخرون غلبة التخصيص تنفي الظهور ولا ينافي القول بأنه حقيقة في العموم فيجب البحث حتى يظن عدم التخصيص وأجيب بأنه مانع عن العمل ولا يجب ظن عدم المانع بل يكفي عدم ظنه كما عرف في مواضع
قال الزركشي الواجب العمل بالعام حتى يبلغه المخصص لأن الأصل عدم المخصص ولأن احتمال الخصوص مرجوح وظاهر صيغة العموم راجح والعمل بالراجح واجب بالإجماع
قلت وهذا هو الذي نختاره ونعمل به ونراه الحق لما علم من استدلال الصحابة ومن بعدهم بالعام من غير بحث عن مخصصه وهي قضايا كثيرة ... وأيها الناس لمن قد وجدوا ... ولا يعم اللفظ من سيوجد ... بل بالدليل والذين آمنوا ... ونحوه مما الذكور باينوا ... في لفظه الإناث داخلات ... نقلا أو التغليب والأثبات ...
هذه مشتملة على مسألتين الأولى إذا ورد الخطاب العام بمثل يا أيها الناس و يا أيها الذين آمنوا والمراد به خطاب المشافهة هل يشمل من سيوجد كما يشمل من هو موجود حال الخطاب فاختلف العلماء فيه فقيل إنه لا يعم إلا من وجد وهذا قاله الجمهور قالوا لأنا نقطع بأنه لا يقال لمعدومين يا أيها الناس ونحو وإنكاره مكابرة ورد بأنه ليس النزاع في خطأ المعدومين خاصة في شمول الخطاب الموجه إلى الموجودين لهم وأي مانع من دخولهم بطريق التغليب وهو شائع ذائع في فصيح الكلام

وأقول ينبغي تحرير محل النزاع وهو انه هل يصدق على المعدوم أنه مشافه ومخاطب أي واقع عليه المشافهة والمخاطبة أو غير واقعة عليه ولا ريب أنهما غير واقعين إلا على من سمع الخطاب والمشافهة وليس هو كل موجود بل كل من سمع من المخاطب اسم فاعل وهو الذي يصح منه أن يقول سمعت فلانا يقول
ثم لا كلام أن المخاطب اسم فاعل نحو يا أيها الناس وهو الرسول صلى الله عليه و سلم فمن شافهه وخاطبه كان هو المخاطب اسم مفعول والمشافهة والسامع هذا تحرير محل النزاع وليس الكلام في عموم الحكم الواقع في سياق الخطاب فإنه عام بعموم الرسالة وبه يعرف أن كلام بعض المحققين في حواشيه على ابن الحاجب وهو المقبلي رحمه الله وهو قوله إن الخطاب بمثل يا أيها الناس إما ان يريد المخالف بأن من سيوجد لا يسمى مخاطبا بذلك الخطاب فلا يعمه وإما أنه لا يلزمه مدلوله مثلا وجوب السعي لصلاة الجمعة مثلا بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية إنما يلزم من سمعه من الصحابة وأما من عداهم فبدليل آخر
وكلا الطرفين محل نظر أما الأول فلأن الخطاب نوع من الكلام والتكليم منه تعالى وإن وقع للنبي صلى الله عليه و سلم في الإسراع على ما قيل فليس هو بكل حكم بل الواسطة جبريل فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة وكذا هو صلى الله عليه و سلم خاطب من حضر ثم بلغ الحاضر الغائب ولم يزل كذلك فكأنه لا يقال للغائب يا أيها الناس كذا المعدوم فلا فرق بين الغائب والمعدوم في امتناع توجيه الخطاب إليه وخطاب كل مشروط وبارتفاع الموانع فيكون صفة الحضور أو الوجود وصفا ملغى ليس بمعتبر في المقام
وأقول قوله فلم يخاطب النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة يريد الله

تعالى وهذا مسلم ولا يحتاج إلى نفيه ولا إلى إثباته لأنه ليس من محل النزاع أن الرسول مخاطب اسم مفعول لله تعالى بكل حكم بل بحرف المسألة إذ قال الرسول يا ايها الناس مبلغا عن ربه او قال عن نفسه هل يصدق على من غاب أو لم يوجد أنه مخاطب اسم مفعول للرسول أي واقع عليه الخطاب من المخاطب اسم فاعل أي مخاطب كان الحق أنه لم يقع الخطاب إلا على من سمعه وأما ذكره للقسم الآخر وهو لزوم الحكم للغائب ومن يوجد فهذا أمر قد اتفق عليه الكل لا نزاع فيه وحاصله أنه صلى الله عليه و سلم مخاطب بالإبلاغ للأحكام وقد وقع عليه الخطاب منه تعالى أو من جبريل فقوله فلم يخاطب مبني على أن المدعى أنه تعالى خاطبه صلى الله عليه و سلم بكل الأحكام وليس كذلك وإلا لزم أن لا يصح عقد المسألة في حق الأمة لأنه تعالى لم يخاطب بشرا من الأمة فالمسألة واضحة ولا وجه لما أتى به من الترديد إذ النزاع هل يدخل في خطاب المشافهة من غاب عنها أو من عدم أي هل يصح إيقاع الخطاب عليه مع غيره ويشتق له اسم مفعول كما يشتق للحاضر أم لا من غير نظر إلى من هو المخاطب اسم فاعل وإذا عرفت هذا عرفت انه كان الصواب أن تعنون المسألة بأنه هل يدخل غير حاضر المخاطب في خطاب المشافهة غائبا كان أو معدوما والحق أنه غير داخل لغة ولذا قلنا ولا يعم اللفظ من سيوجد فعلقنا النفي باللفظ ولذا لا يصح أن يقول سمعت أو حدثني أو أخبرني إذا كان غير حاضر مجلس الخطاب والسماع لأنه غير مخاطب ولا سامع وأما لزوم حكم ما بعد الخطاب لكل من غاب ومعدوم فبدليل عموم التشريع على أن عندي أن المسألة قليلة الجدوى إذ الفراغ لفظي وهي في تسمية من لم يحضر موقف الخطاب مخاطبا لا في الأحكام فإنها لازمة بالاتفاق

والتحقيق أن هنا في مثل يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية خطابين الأول مطوي وهو قول يا محمد فإنه مبلغ فلا بد من تقديره كما يدل له التصريح في آيات نحو قل لعبادي فالمخاطب بقل هو الرسول بخطاب جبريل والمخاطب ب يا أيها الذين آمنوا المؤمنون بخطاب الرسول فجبريل مخاطب للرسول حقيقة ومن غاب مبلغ سواء كان غائبا أو معدوما ولذا قال ليبلغ الشاهد الغائب وقال بلغوا عني ولو بآية ومع هذا فمسألة لا فائدة تحتها إذ عموم التشريع بكل حكم وصل إلى المكلف بأي طريق يجب عليه ويلزمه
واعلم أن الجمهور على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأحوال فقوله تعالى اقتلوا المشركين أمر بقتل كل مشرك في أي زمان ومكان وحال وهذا لا ينافي قولهم إنه لا يشمل خطاب المشافهة بالعام من سيوجد لأن المراد أن من خوطب يستلزم خطاه بالعام ما ذكر من الثلاثة الأمور ومتى بلغه الحكم لزمه ذلك مع استلزامه الثلاثة فلا يتنافى وقلنا الجمهور لأنه قد ذهب آخرون إلى أن العام مطلق في الثلاثة وعليه ورد إشكال القرافي المعروف بأنه يلزم أن لا يعمل بالعمومات الواردة في الأحكام في هذه الأزمنة لأنه قد عمل بها في زمان ما والمطلق يخرج عن عهدة التكليف به إذا وقع العمل به في صورة ما والتحقيق في الجواب إيراده وأصل المسألة أن من قال إنه مطلق في الثلاثة فمراده أن دلالة الصيغة أي صيغة العموم عليها ليس بحسب الوضع ولكن وجوب العمل بالعام الشامل لأفراده

استغراقا والمحافظة على إجراء حكمه في كل فرد من أفراده يستلزم عموم الثلاثة كما مثلناه ولو أخرجنا مثلا أهل الذمة أو يوم السبت أو سكان بيت المقدس لكون العام مطلقا فيها لكنا قد أبطلنا العمل بالعام في جملة من أفراده التي دل عليها وشملها لفظه وأخرجنا العام عن مقتضى وضعه فالحاصل أن العام بوضعه مطلق في الثلاثة وبإيجاب تعميم الحكم في جميع أفراده مستلزم لها فلمن قال إنه مطلق وجه ولمن قال بعمومه استلزاما وجه
المسألة الثانية مما شمله النظم قولنا والذين آمنو ونحوه إلى آخره إشارة إلى الخلاف فيما وضع من الألفاظ مشتركا بحسب المادة بين الذكور والإناث كما مثلناه وكالمسلمين فإن هذه الصيغ مختصة بالمذكر وإن كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مشتركة بينهما وأما إذا كانت المادة مختصة بالذكور فلا نزاع فيها كالرجال بخلاف الأول فإنه ذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحت عمومه الإناث واستدلوا بإجماع أهل العربية على أن تلك الصيغ موضوعة للذكور فلا يصح دخول الإناث فيها لغة
قال المخالف وهم الحنابلة وبعض الحنفية ألستم تنكرون شمول الأحكام عند التعبير بذلك للفريقين قالوا مسلم ذلك ولكنا نقول إن دخول الإناث في ذلك ليس إلا بأحد أمرين إما بالنقل من الشارع له عن أصل اللغة إلى ما يشمل الإناث ودليل النقل عمل الصحابة ومن بعدهم الخطابات القرآنية والسنية على الفريقين وهذا ما أشار إليه قولنا نقلا أي بالنقل وإما للتغليب كما أشار إليه إيضا في النظم
وأجيب بأنكم إن أردتم بأنه اصطلاح لأهل العربية فمسلم ولا يضرنا وإن أردتم أن ذلك وضع لغوي فممنوع مسندا بأنه قد صح إطلاقه على الفريقين في قوله تعالى قلنا اهبطوا خطابا لآدم

وحواء وإبليس وأدخلوا الباب سجدا أمر لبني إسرائيل ذكورهم والإناث والأصل الحقيقة فيكون مشتركا بين الأحد الداير في عقلاء المذكرين منفردين أو مع الإناث ودعواكم النقل أو التغليب خلاف الأصل
واستدل الجمهور أيضا بحديث أم سلمة بسبب نزول قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية فإنها قالت يا رسول الله ما لنا لا نذكر كما يذكر الرجال فأنزل الله الآية على وفق سؤالها وهذا استدلال حسن إلا أنه قد علم دخولهم في مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة اتفاقا والقول بأنه بدليل خارجي خلاف ظاهر الأدلة وخروجهن من بعض الأحكام كصلاة الجمعة كان بدليل خارجي من السنة وتخصيص السنة لهن بذلك دليل دخولهم في ياأيها الذين آمنوا وهذه المسألة قليلة الفائدة للاتفاق في أن الأحكم شاملة للفريقين بأي صيغة حكم على الموضوع في العبارة وقولنا في عجز البيت والأثبات بفتح الهمزة والمثلثة الساكنة فموحدة جمع ثبت أي العلماء الأثبات وهو مبتدأ خبره قولنا قالوا إذا الحكم أتى في البعض ... فليس بالتخصيص فيه نقضي ...
والمراد أنه قال أثبات العلماء إنه إذا ورد حكم والعام محكوما به على بعض أفراده فإنه لا يخصص به العام فقولنا في البعض أي بعض أفراد العام كما أن قولنا الحكم أردنا به حكم العام ومثال المسألة المشهور حديث ابن عباس عند مسلم إذا دبغ الاهاب فقد طهر فهذا عام حكم عليه بطهارته بالدباغ ثم ورد في خاص وهو حديث الصحيحين من حديثه

أيضا أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة ميتة فقال هلا استمتعتم بإهابها فقالوا إنها ميتة فقال صلى الله عليه و سلم إنما حرم من الميتة أكلها ومثله ما رواه مسلم عن ابن عباس عن ميمونه أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة ماتت فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به الحديث فحكم هنا على جلد الشاة بالحكم الذي حكم به على كل إهاب فذهب الجمهور إلى أن هذا لا يخص به العام وقال أبو ثور بل يخص به حكم بأنه لا يطهر الدباغ إلا جلد المأكول وقال الجمهور هذا عمل بمفهوم اللقب وقد مر هنا أنه لا يعمل به وتقدم البحث فيه فأغنى عن إعادته هنا وبه يعرف ضعف قول أبي ثور إنما قام الدليل على التخصيص للعلم بالمفهوم المعتبر والمسألة راجعة إلى الخلاف في العمل بمفهوم اللقب وقولنا ... كذا الضمير إن إليه عادا ... إذ لا ينافي ما له أفادا

أي إن حكم الضمير إن عاد إلى بعض إفراد العام لأنه لا يقتضي تخصيص العام فالضمير في قوله إليه عائد إلى البعض الذي سبق ذكره في البيت الأول والمثال المشهور في المسألة قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإنه عام للبائنات والرجعيات ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا خاص ببعض أفراد العام وهن الرجعيات فإن الأحقية بالرجعة فيهن لا غير فهنا ذهب الجمهور إلى أنه لا منافاة بين عموم اللفظ وعود الضمير إلى بعض أفراده كما قال الناظم إذ لا ينافي أي عود الضمير إلى بعض أفراد العام لا يخرجه عن عمومه بكل أفراد بذلك وذهبت الحنفية إلى أنه يخصص به العموم بمعنى أنه يراد بالمطلقات الرجعيات وغيرهم من البائنات لا يدخلن في الآية فلا يعرف حكمهن من الآية بل من أدلة أخرى بت ولذلك قالت الحنفية في حديث لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل معناه إلا كيلا منه بكيل منه قالوا والضمير محذوف عائد إلى البر الذي يكال لا إلى جميع البر فيجوز بيع حفنة بحفنتين عندهم لأن ذلك غير مكيل فيكون العام وهو البر مخصصا بالضمير
قلت والتحقيق أنه ليس هنا تخصيص وهو إخراج ما دخل بل أريد بالعام ابتداء بعض أفراده فأريد بالمطقات الرجعيات فقط فهو من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص واختار بعض المحققين كلام الجمهور قائلا بأن الضمير قد وضع لربط معنى متأخر بمعنى متقدم للدلالة على أن المعنى الآخر هو المتقدم سواء كان مذكورا بلفظه أو دلت عليه قرينة كما قال النحاة تقدم ذكره لفظا أو معنى أو حكما فلا يأتي الضمير مخالفا لما قبله بحسب وضعه وهو أغلب استعمالاته وقد يخرج عنه بالقرائن إلى معنى مجازي منه بأن يراد به بعض ما تقدم كالآية فإن ضمير بعولتهن أريد به بعض ما شمله المطلقات بلفظه ظاهرا وخروج الضمير عن أصله وضعه للقرينة

والعلاقة مجاز لا مانع عنه كما في الآية فإن ضمير بعولتهم أريد به البعض من معنى المطلقات فهو من إطلاق الكل على البعض إذ ظاهر مقتضى الضمير عوده على الكل وقد أطلق هنا على البعض وهو انتقال صحيح مجازي كالاستخدام بالضمير وغيره فهذا يؤيد صحة كلام الجمهور لأن اللفظ باق على عمومه والضمير لبعضه
واعلم أن المسألة اشتهرت بما ذكر من أن عود الضمير إلى بعض إفراد العام لا يخصص العام وهذا الحكم جار في الصفة والشرط والاستثناء كما صرح به أبو الحسين ومثلها وهي في الفواصل مستوفاه بت وفي شرح الغاية واعلم أنه قد يعبر عن هذه المسألة بما هو أعم من عود الضمير على بعض ما يتناوله العام بأن يقال تعقيب العام بما يكون مختصا ببعضه هل يقتضي تخصيصه أم لا سواء كان ذلك ضميرا كما سبق أو غيره إلى آخر كلامه
وإذا عرفت ما قررنا من المسائل التي تعلقت بالعام والخاص فاعلم أن التخصيص منقسم إلى متصل ومنفصل وقد شمله قولنا ... واقسم إلى متصل ومنفصل ... مخصص العام فأما المتصل ...
فإنه بيان لقسمي المخصص عند أئمة الأصول فالمتصل هو ما لا يستقل بالإفادة بل يحتاج إلى غيره والمنفصل هو ما يستقل بها والمخصص قسم فاعل هو الدليل وقد يطلق على فاعل التخصيص وكلاهما

صحيحان وإن كان الأصل هو إرادة المتكلم لكن لا بحث عنها إذ هي أمر نفسي وبعد فراغه عن كلامه تعرف إرادته به
واعلم أنه قد اختلف في ما يجوز التخصيص إليه من أفراد العام فقيل يجوز إلى واحد سواء كان العام جمعا أو لا وهذا حكي عن الجمهور مستدلين بأن الباقي من العام بعد التخصيص مجاز كما يأتي تقريره في أواخر باب التخصيص وهو رأي الجمهور قالوا والتخصيص قرينته فالمصحح للاطلاق هو القرينة وقد وجدت فيجوز ولو إلى واحد وقد تقرر أن العام بدل على كل فرد من أفراد مدلوله جمعا كان أو غيره وهو أيضا رأي الجمهور
وتقرر جواز التخصيص وهو إخراج بعض إفراد العام عن حكمه والإخراج إلى أن يبقى واحد صادق على ذلك فالمانع منه هو المحتاج إلى الدليل وقد ورد أيضا في القرآن الذين قال لهم الناس والمراد به واحد وهو نعيم بن مسعود كما عرف في سبب النزول وإن كان هذا من العام المراد به الخصوص لا من العام المخصوص لكنه إذا جاز فيه فليجز في العام المخصوص فإنه لا فارق بينهما إلا الإرادة فكما جاز أن يراد واحد من أفراده ابتداء من دون ملاحظة العموم في العام فليجز أن المراد به واحد من افراده مع ملاحظة العموم وأي فارق مصحح لهذا دون هذا ومن ذلك قوله تعالى وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك فإن المراد به جبريل ومن ذلك وقالت اليهود يد الله مغلولة مع أن القائل بعضهم وفيه آيات أخر فهذا القول أقرب الأقوال وهي خمسة مقصودة في المطولات
فإن قلت وأي فرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص

قلت قال ابن دقيق العيد يجب أن يتنبه لفرق بينهما فالعام المخصوص أعم من العام الذي أريد به الخصوص ألا ترى أن المتكلم أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ فكان عاما مخصوصا ولم يكن عاما أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص بخلاف ما إذا نطق بالعام يريد به بعض ما تناوله انتهى قوله ... فالشرط والغاية والاستثناء ... والوصف والإبدال بعضا وهنا ...
بيان لأقسام المتصل والفاء جواب أما وقد قسم في النظم إلى خمسة كما ترى وهو رأي الأكثر وبعضهم يسقط منها بدل البعض فالأول الشرط والمراد به اللغوي وهو ما علق الحكم فيه على شيء بأداة شرط نحو أكرم العلماء إن عملوا بالعلم فخص الحكم وهو الأمر بالإكرام بشرط وهو العمل به والثاني منه الغاية وهي لغة طرف الشيء ومنتهاه وقد تطلق على الحرف الدال على ذلك وتارة على مدخوله وهو المراد نحو قوله تعالى وأتموا الصيام إلى الليل واغسلوا أيديكم إلى المرافق وقد اختلف في دخول ما بعدها فيما قبلها على أقوال ثلاثة وقد أطال الرضي في شرح الكافية في ذلك والظاهر أنه يختلف ذلك بحسب المقامات وقرائن

الخطابات وهذا فيما إذا كان حرف الغاية إلى وأما إذا كان حتى فالجمهور من علماء العربية على دخول ما بعدها فيما قبلها ونسب إلى سيبويه وتبعه اكثر العلماء وذهب الأقل إلى احتمال الدخول عدمه واستقر به الرضي وقال لكن الدخول أكثر وأغلب وبه يعرف أن كلام الجمهور هو التفرقة بين حتى و إلى وأن إطلاق النقل عنهم في عدم دخول ما بعد الغاية فيما قبلها فيه إجمال لا ينبغي ثم هذا في حتى الجارة لا في العاطفة فإن دخول ما بعدها فيما قبلها اتفاق
واعلم أنها ترد حتى لغير الغاية بل لتأكيد العموم نحو سلام هي حتى مطلع الفجر لأنه ليس مطلعه من الليل حتى يشمله قوله سلام وليس مثله قراءة القرآن من فاتحته إلى خاتمته لأن ما بعدها داخل فيما قبلها إذ خاتمته آخر سورة منه ونحوه قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فإن زمان الطهر غير داخل في زمن النهي عن القربان والمقصود أن الغاية التي نحن بصدد بيانها هي ! التي يتقدمها عموم يشملها ينوي بها إخراج بعض مدلول العام هذا ولو قيل إن التخصيص بحتى بمثل قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية من باب الإطلاق والتقييد لكان له وجه أو هو الأوجه بيانه أن قوله حتى يعطوا تقييد للقتال و إلى المرافق تقييد للغسل و إلى الليل تقييد للصيام فالتقييد للأحكام لا للمحكوم عليه والعموم له لا لها هذا ما جنح إليه بعض محققي المتأخرين وهو حسن جدا
والثالث منه الاستثناء والمراد به هنا مجموع كلمة الاستثناء ولفظ المستثنى الذي يقع به تخصيص العام
واعلم أنه اختلف في تحقيق دلالة الاستثناء لإيهامه التناقض فإن قولك عندي له عشرة إلا ثلاثة فيلزم منه إثبات الثلاثة في ضمن العشرة ونفيها في الاستثناء فيلزم التناقض وكيف وهو واقع في كلام الله تعالى ورسوله

صلى الله عليه و سلم فقرر الجمهور من أهل الأصول والعربية وغيرهم تحقيق دلالته بأن قالوا المراد بقوله عشرة إلا ثلاثة سبعة وكلمة إلا قرينة ذلك فالتخصيص لغيره من المخصصات فإن المراد بالعام المخصص غير ما أخرج منه بالاتفاق ولغيرهم تقارير أخرى في دلالته هذا أولها وهو الذي وعدنا به فيما سبق من أنه مجاز فيما بقي وبقي من إحكام التخصيص بالاستثناء ما يأتي من شرطية الاتصال وعدمه
الرابع منه الوصف والمراد ما أشعر بمعنى يتصف به بعض إفراد العام سواء كان نعتا أو عطف بيان أو حالا وسواء كان مفردا أو جملة أو شبهها من جار ومجرور وظرف نحو وقفت على أولادي العلماء فإنه يقتضي إخراج من ليس بعالم عن الحكم ومن شرطه الاتصال فالمتكلم في الموصوف إلا بقدر نفس أو سعال أو نحوه
الخامس منه بدل البعض نحو قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وأخرج من الناس من لم يستطع بالإبدال منه وتقدمت إشارة إلى أن من علماء الأصول من لم يعده من المخصصات قال لأن المبدل منه في حكم الطرح فلا يتحقق فيه معنى الإخراج وهذا ضعيف لأنه إن أراد أنه كالمهمل فظاهر الفساد كيف وقد جاء في كلام الله تعالى وإن أراد أنه خارج غير مقصود بالحكم فهكذا كل أنواع التخصيص قال شارح التحرير الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو توطئة وتمهيد وليفاد بالمجموع فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد وقولنا في آخر البيت السابق وهنا أي في هذا المقام الذي بينه متعلقة وهو قولنا ... يختار في الثالث أن يتصلا ... إلا كبلع الريق فيما مثلا

الثالث من الخمسة وهو الاستثناء وله شروط ثلاثة
الأول كونه من جنس المستثنى منه وهو شأن المتصل وقد أغنى عن ذكر كونه شرطا إطلاقنا له فيما سلف لأنه إذا أطلق لا يراد به إلا هو
والثاني أن لا يكون مستغرقا للمستثنى منه نحو له عشرة إلا عشرة فإنه يلغو هنا ويأتي فيه الكلام
والثالث هو ما أردناه بقولنا أن يتصلا فإنه يشترط فيه اتصاله في العبارة بما أخرج منه إلا بما لا يعد فصلا عرفا كبلع ! الريق والنفس وهذا رأي الجمهور وينقل عن ابن عباس أنه قال يصح تراخيه إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل مطلقا وقد حمل كلامه على خلافه وهو أنه أراد إذا نوى الاستثناء أولا ثم صرح به هو رواية عن أحمد وقيل بل أراد به التعليق بالمشيئة لا مطلق الاستثناء كما أخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس أنه قال إذا حلف الرجل على غيره فاستثنى إلى سنة وأن المعنى في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت أنه إذا ذكرت فاستثن قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين واستدل الجمهور بأنه لو صح الاستثناء لبطل جميع الإقرارات والطلاق والعتاق وأيضا فكان يلزم أن لا يعرف الصدق من الكذب لإمكان تعليق الكذب بعد مدة بما يخرجه عن الكذب واستدلوا بما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فاقتصر صلى الله عليه و سلم على ذكر التكفير ولم يقل فليستثن مع اختياره لأمته أيسر الأمور وأسهلها
هذا وقد أشرنا آنفا إلى شرطية أن لا يكون مستغرقا ولا أكثر من المستثنى منه لأنه معهما يلغى الاستثناء ويصير كالعدم فإذا قال علي له عشرة

إلا عشرة أو إلا اثني عشر بطل حكم الاستثناء ولزمه العشرة وهذا لا خلاف فيه قال البرماوي ومحل بطلانه ما لم يتعقبه استثناء بعضه نحو له علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة فإن فيه وجوها أحدها يلزمه عشرة لأن الاستثناء الأول لم يصح والثاني مترتب عليه ثانيهما يلزمه ثلاثة واستثناء الكل من الكل إنما لم يصح إذا اقتصر عليه أما إذا أتى بعده باستثناء صحيح فإنه يصح إذ الكل بآخره وهذا هو المرجح وثالثهما يلزمه سبعة والاستثناء الأول لم يصح فسقط من البين
وأما ما عدا المستغرق كالمساوي والأكثر فهو وإن وقع في الأكثر نزاع فلا ينهض دليل على بطلانه نحو عشرة إلا خمسة في الأول إلا تسعة في الثاني فلا حاجة إلى ذكره بعدم رجحانه
واعلم أنه اشتهر اشتراط الاتصال في الاستثناء بلا خلاف فيه وفي شهرته وإلا ففي جمع الجوامع أن الشرط المخصص به يشترط اتصاله كالاستثناء وكذلك في العود إلى الكل كما يأتي في الاستثناء نحو أكرم بني تميم واحسن إلى ربيعة وأكرم مضر إن جاؤوك ... وأنه نفي من الإثبات ... وعكسه أيضا وأما الآتي ... بعد الذي تعطفه من الجمل ... فهو إلى الكل خلافا للأقل ...
أشار به إلى مسألتين معروفتين الأولى أن الاستثناء بعد الاثبات يفيد نفي الحكم عما بعد كلمة الاستثناء نحو قام القوم إلا زيدا فإنه دال على إثبات القيام للقوم ونفيه عن زيد وعكسه أيضا وهو إنه إثبات من النفي نحو ليس له علي إلا درهم فإنه يفيد ثبوت الدرهم عليه في ذمته هذا كلام الجمهور فيهما وخالفه الحنفية في ذلك فقيل خلافهم في الأمرين معا كما أشار إليه النظم وقال الرازي وغيره إن خلافهم في أنه من النفي إثبات

وأما إنه من الإثبات نفي فلا يخالفون فيه إلا أنه خلاف ما يظهر من استدلالهم وقال القرافي في تحرير محل النزاع إنه اتفق العلماء أبو حنيفة وغيره على أن إلا للإخراج وأن المستثنى مخرج وأن كل شيء خرج من نقيضه دخل في النقيض الآخر فهذه ثلاثة أمور متفق عليها وبقي أمر رابع مختلف فيه وهو انا إذا قلنا قام القوم إلا زيدا فهناك أمران القيام والحكم به فاختلفوا هل المستثنى مخرج من القيام أو من الحكم به فنحن نقول من القيام فندخل في نقيضه ! وهو عدم القياس والحنفية يقولون هو مستنثى من الحكم فيدخل فيخرج عن نقيضه وهو عدم الحكم فيكون غير محكوم عليه فأمكن أن يكون وأن لا يكون فعندنا انتقل إلى عدم القيام وعندهم انتقل إلى عدم الحكم وعند الجميع هو مخرج وداخل في نقيض ما أخرج منه فافهم ذلك حتى يتحرر لك محل النزاع
قال والعرف في الاستعمال شاهد بأنه إنما قصد إخراجه من القيام لا من الحكم به ولا يفهم أهل العرف إلا ذلك فيكون هو اللغة فإن الأصل عدم النقل والتغيير انتهى
ويريد بأنه مخرج من الحكم أن قول القائل قام القوم إلا زيدا معناه أحكم على القوم بالقيام سوى زيد فلا أحكم عليه بنفي ولا إثبات استدل الجمهور بأنه قد ثبت النقل عن أهل العربية أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وهو المعتمد في إثبات المدلولات اللغوية قالوا وأيضا لو لم يكن كذلك لم تكن كلمة لا إله إلا الله لإثبات التوحيد واللازم باطل من الضرورة من الدين بيان ذلك أن التوحيد إنما يتم بإثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه والمفروض على كلامهم أنه إنما يفيد النفي دون الإثبات

قالت الحنفية نحن نقول إن كلمة الإخراج بكلمة إلا والإسناد ووقع قبل الحكم أي الخارجي فلا حكم حينئذ في المستثنى وأطالوا في بيان هذا بما لا يليق بالاختصار قالوا وأما كلمة التوحيد فالتوحيد حصل بالإخبار بكلمة الشهادة لأن إنكار واجب الوجوب غير متحقق ولا واقع فثبوته متحقق ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فالمحتاج إليه في كلمة الشهادة إنما هو نفي الإلهية وإذا انتفت استلزم ثبوت وحدة الله تعالى بالضرورة وإن لم يثبت بحسب الدلالة الوضعية قالوا وإثبات التوحيد بالعرف الشرعي لا بمدلول الاستثناء بحسب اللغة على فرض تحقق من ينكر واجب الوجوب كما فرض في الدهري هذا خلاصة تكلف الحنفية قال ابن دقيق العيد في شرح الإيمان وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم لذلك منهم من غير احتياج لأمر آخر فإن ذلك هو المقصود الأعظم في الإسلام انتهى وقد تقدم كلام القرافي بأنه لا يفهم أهل العرف إلا ذلك
المسألة الثانية هي ما أشار إليه قولنا وأما الآتي بعد الذي تعطفه من الجمل المراد بالآتي هو الاستثناء الوارد بعد جمل تقدمته متعاطفة فإنه يعود إلى جميعها إلا لقرينة كما أشرنا إليه بقولنا إلا لأمر وقد أفاد أن محل النزاع في الجمل المتعاطفة لا إذا كانت بغير عطف لأن الفصل إذا كان لكمال الانقطاع فهو قرينة على أن الاستثناء لا يعود إلى الجميع وإن كان لكمال الاتصال فهو قرينة على عوده إلى الجميع

وقولنا من الجمل بيان لأنه في تعاطف الجمل لا المفردات فإنه يعود فيها إلى الجميع وهو اتفاق كما يفهم من كلام ابن الحاجب وقولنا تعطفه شامل لأي حرف من حروف النسق من الواو والفاء وثم
إذا عرفت هذا ففي المسألة خلاف
الأول ما في النظم وهو عوده إلى الجميع وهو كلام جمهور العلماء واستدلوا بأن التخصيص بالمشيئة والشرط يعود إلى الجميع من الجمل اتفاقا فكذا الاستثناء مثله إذا لكل تخصيص بالمتصل بل قيل الاستثناء شرط في المعنى فإنه لا فرق بين قولك القذفة فساق إن لم يتوبوا أو إلا أن يتوبوا وأيضا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط والصفة فيجب أن يكون المستثنى كذلك ما لم يصرف عنه صارف كما أشرنا إليه وذلك في آية القذف فإن قوله تعالى إلا الذين تابوا بعد الثلاث الجمل لا يعود إلى الأول اتفاقا أعني سقوط جلد القذف في التوبة والخلاف في المسألة لأبي حنيفة فقال بعوده إلى الأخيرة
والثاني الوقف واستدل الحنفية بأن الأصل فيه الاتصال بالمستثنى منه وهو منتف في غير الجملة الآخرة وأجيب بأن ذلك يلزم في المفردات والاتفاق واقع على أن يعود فيها إلى الجميع ومنها أي من أدلة الحنفية أن عوده إلى ما يليه وهي الآخرة يكون حقيقة إذ هي الأصل في الاستثناء والعود إلى الكل إما أن يكون مشتركا أو مجازا والحقيقة أولى من كل منهما ويجاب بأن دعوى أن الأصل عوده إلى الآخرة محل النزاع واستدل لهم بأن المستثنى واقع بعد عاملين فهو من باب التنازع وقد وقع الاتفاق أن المعمول في باب التنازع يكون لأحدهما ولم يقل أحد بأنه هنا يعود إلى الأول فقط فيكون الظاهرعوده في الجمل إلى الآخيرة وهو المطلوب ورد بأن هذا إنما يتم على قول من يقول العامل في المستثنى هو ما تقدمه وليس هو كلام الجمهور

فهم قائلون إن العامل حرف الاستثناء فلا يكون من باب التنازع وإنما يلزم من جعل العامل ما تقدمه
واعلم أن هذا كله مبني على إرادة الظاهر عند الإطلاق حيث لا قرينة وأما معها فيدور الكلام عليها واشتهر أمر الخلاف في آية القذف فإنه ذهب القائل بعوده إلى الآخرة عدم قبول شهادة القاذف إذا تاب فعند غير الحنيفية تقبل شهادته وعندهم لا تقبل وأما الأولى فلا يعود إليها اتفاقا فلا يسقط الحد لأنه حق لآدمي هذا وقد تبين لك معنى قولنا في صدر البيت الآتي أعني قولنا ... إلا لأمر وأتاك المنفصل ... وهو الذي بما أفاد يستقل ...
هذا هوالقسم الثاني من المخصصات وهوالمنفصل وقد أفاد النظم رسمه بأنه الذي يستقل بالإفادة بنفسه من غير حاجة إلى ضمه إلى غيره فكلمة ما مصدرية في قولنا بما أفاد سواء كان متصلا بما قبله مع استقلاله نحو أكرم بني تميم ولا تكرم بني فلان منهم أو منفصلا عنه وهو الأكثر وقوعا في المخصصات المنفصلة ولذا سموه منفصلا وقد بينه قولنا ... يجوز بالأربعة الأدلة ... والعقل والمفهوم عند الجلة ...
فالأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزيد العقل والمفهوم وقولنا عند الجلة عائد إلى الجميع لوقوع الخلاف في كل منها ثم أخذ في بيان المختار فقال ... واختير تخصيصك للكتاب ... بكل ما مر لدى الأصحاب ...
أي واختار الجمهور تخصيص عموم القرآن لكل واحد من الأربعة وبالعقل والمفهوم فأفاد أن رأي الجمهور تخصيص الكتاب به وهو الأول ونحو والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء فهذا عام لكل مطلقة وقد خصه قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص الله عموم الآية السابقة الشاملة للمدخولة وغيرها

بقوله فالمطلقة الغير المدخولة فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
وقد نقل الخلاف عن بعض الظاهرية وقالوا لايجوز تخصيص القرآن به وقد ثبت ما ذكرناه بالدليل وإيراد خلافه وأدلته وردودها في المطولات
والثاني تخصيصه بالسنة متواترة أو آحادية ومثاله حديث لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها بين خالتها بت والتخصيص بها متواترة ادعي فيه الإجماع وآحادية قاله الأئمة الأربعة والجمهور وخالف فيه آخرون على تفاصيل في المطولات كلها مرجوحة
ودليل الجمهور أن الأحاديث الآحادية قد قام الدليل على أنها من الأدلة الشرعية فيجب العمل بها ما لم يعارضها أقوى منها ودلالة العام هنا وإن

كانت قطعية المتن فمدلولها ظني والخاص هنا وإن كان متنه ظنيا فدلالته قطعية فقد تعارضا في القطعية والظنية فكان العمل بالخاص أرجح للجمع بين الدليلين والإعمال خير من الإهمال
وأيضا فقد أجمعت الصحابة على ذلك فخصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة ومن ذلك تخصيصهم عمومات آيات المواريث بالآحادية من الأحاديث كما أشرنا إليه قريبا وبالجملة فمن عرف السنن وقضايا الصحابة علم وقوع ذلك منهم بلا تردد وللمخالف أدلة لا تنهض على مدعى فلا يفتقر الناظر إلى سردها وردها بعد بيان الراجح
الثالث تخصيصه بالإجماع وهو قول الجمهور بل قد قيل إنه إجماع ومثاله تخصيص النساء والعبيد من قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله فإن سقوط السعي إلى الجمعة عنهما ثابت بالإجماع وقد نوقش في المثال ولكنه لا يبطل المدعي لأنه قد تقرر بأن الاجماع من الأدلة والدليل يجب العمل به ومن العمل به تخصيص العام عند الاحتياج إلى الجمع بين الأدلة وإعمالها
الرابع تخصيصه بالقياس ومثلوه بتنصيف الحد على العبد قياسا على الأمة الثابت بقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قالوا فالعبد إذا زنى فعليه نصف الحد قياسا على الأمة مع شمول آية والزاني له فخصص عموم الكتاب بالقياس وبقي مثال تخصيصه بالعقل ومثل بقوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها فإن العقل خصه بالسماوات والأرض وبالمفهوم يأتي مثاله قولنا ... وهكذا السنة فيما ذكرا ... وخص بالآحاد ما تواترا

أي وكالكتاب العزيز والسنة النبوية في تخصيصها بالأدلة الأربعة والعقل والمفهوم
الأول تخصيصها في الكتاب مثل قوله صلى الله عليه و سلم اصدق ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا آله الا الله خص من أهل الكتاب بقول تعالى حتى يعطوا الجزية وتخصيصها مذهب الجمهور وهو الواضح دليلا
الثاني بالسنة وهي أربعة أقسام لأنه إما أن يكون العام متواترا أو آحادا والخاص كذلك فهذه أربع صور المتواتر بمثله أو بالآحاد فهاتان صورتان والثانية هي التي أشار إليها قولنا وخص بالأحاد ما تواترا أي إن الآحاد يخصص المتواتر والثالثه عكسها والرابعة الآحاد بالآحاد وهي كثيرة الوقوع بل مدار أكثر العموم والخصوص عليه ومثاله حديث فيما سقت السماء العشر أبو داود والنسائي وخص عمومه بحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أخرجه الستة وهذا في تخصيصها في القول يجري فيه تخصيصها بالفعل والتقرير وأمثلة ذلك مبسوطة في الفواصل وغيره من المطولات
والتخصيص بالمفهوم واقع وجواز القول به للأكثر قالوا لأنه قد تقرر أنه ما عدا اللقب من الأدلة فيجب العمل به كما يجب بها ومثاله قوله صلى الله عليه و سلم لي الواجد يحل عقوبته وعرضه أبو داود والنسائي

وابن ماجه فإنه خص عمومه بقوله تعالى ولا تقل لهما أف فمفهومها لا تؤذهما بحبس ولا غيره وهذا من تخصيص السنة بمفهوم الكتاب وتخصيصها بمفهوم السنة في المخالفة قوله صلى الله عليه و سلم الماء لا ينجسه شيء رواه أبو داود وغيره فإنه دال على أن جنس الماء لا ينجسه شيء وقد خص عمومه بمفهوم حديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا رواه مالك وأبو داود وغيرهما فإنه دل بمفهومه على أن ما لم يبلغ قلتين حمل الخبث وأما التخصيص بالقياس ففيه عشرة أقوال
الأول للجمهور أنه يجوز ودليله ما عرفته في غيره من التخصيصات وهو أن القياس دليل شرعي وقد قام الدليل على العمل به فالفرق بين موارده كما وقع للمخالفين فرق من غير فارق عند التحقيق واستيفاء التسعة الأقوال في المطولات من كتب الفن وقد استوفاها في الفواصل وكذلك بالعقل قد قال به الجمهور وسبق بعض أمثلته وبعضهم سمى التخصيص في مثل تدمر كل شيء بأمر ربها أن ما لم تدمره من المشاهدات خص بالحس ويسمى مثل الله خالق كل شيء أن تخصيصه بكونه تعالى ليس خالق نفسه بالعقل وهذا خلاف لفظي ووقع فيه خلاف بمعنى انه لا يقال له تخصيص بالعقل بل أقول هذا من العام الذي أريد به الخصوص فإن قوله تدمر كل شيء لم يرد به دخول السماوات والأرض حتى يحتاج إلى إخراجها بالعقل فعاد النزاع لفظيا
واعلم أن هنا مسائل وقع فيها الخلاف هل يخص بها العام أم لا أشرنا إليها بقولنا

والعام لا يقصره عليه ... سببه ورأي من يرويه ...
وهو إبانة لمسألة عدم قصر العام على سببه وهي من مسائل الخلاف بين أئمة الأصول ورأي الجمهور ما أفاده الناظم من أنه لا يقصر على سببه ولذا يقولون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمراد بالعام المستقل بنفسه في الإفادة بحيث لا يحتاج إلى أن يضم إلى ما قبله وحاصله أن خطاب الشارع على سبب مخصوص وسؤال عن واقعة معينة إن كان لفظه لا يفرض مستقلا بنفسه مثل أن يسأله الرجل عن شيء معين قائلا أيحل هذا قال نعم أو لا فلا سبيل إلى إدعاء العموم فيه فإن العموم فرع استقلال الكلام بنفسه بحيث يفرض الابتداء به من غير تقديم سؤال فإن ذاك يتمسك بعضهم باللفظ وآخرون بالسبب فأما إذا كان لا يثبت الاستقلال من دون تقدم السؤال مستقلا فالجواب تتمة له وكالجزء منه فأما إذا كان كلام الشارع مستقلا والسؤال خاص بحيث لو قدر نطقه به ابتداء لكان ذلك شرعا منه وافتتاح تأسيس ومثاله في السؤال قوله صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء ومثاله في غير السؤال أنه صلى الله عليه و سلم مر بشاة لميمونة وهي ميتة فقال أيما إهاب دبغ فقد طهر فيعم الأول كل ماء ويعم الثاني كل إهاب فهذا هو موضوع الكلام

وفي شرح العضد إذا كان الجواب غير مستقل فإنه تابع للسؤال في العموم والخصوص والأمثلة مستوفاه في المطولات وهذه المسألة الخلاف فيها نسب إلى الشافعي فقال إنه يقصر العام على سببه ونقل عنه أكثر الصحابة خلاف هذا وهو أنه يقول بقول الأكثر قال الرازي ومعاذ الله ان يصح هذا النقل عن الشافعي أي قصر العامة على السبب كيف وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة
وفي المسألة أقوال أخرى وأحسنها قول ابن دقيق العيد أنه كان يقتضي السياق وقرائن المقام التخصيص في السبب خص به العام إذ الواجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن وإن لم يقتض المقام التخصيص فالواجب اعتبار العام ودليل الجمهور أن الصحابة ومن بعدهم ما زالوا يستدلون بالعمومات الواردة على أسباب في غير سببها وهي نزلت في خاص كآية الظهار وآية اللعان وغير ذلك من الآيات القرآنية الواردة على أسباب خاصة والأحاديث النبوية
وأيضا فالعبرة بعموم اللفظ ووروده على سبب لا ينافيه بل ذلك بمثابة الحكم على بعض أفراد العام بموافق العام ولم يخالف فيه إلا ابو ثور وأيضا لو أراد قصره عليه لما أتى بعبارة عامة
قال المنازع لو كان العبرة بعموم اللفظ لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد كغيره من أفراد العام وهو لا يجوز بالاتفاق

وأجيب بالفرق بين السبب وغيره من أفراد العام بأنه قطعي الدخول في الإرادة لورود العام عليه فكان كالنص الصريح فيه وإلا لم يكن جوابا عليه فامتنع التخصيص به
وقوله ورأى من يرويه إشارة إلى مسألة فيها خلاف أيضا بين أئمة الأصول وهو تخصيص العموم برأي من يرويه صحابيا كان أو غيره كما أطلقه النظم وبعضهم يخصه بما إذا كان الراوي صحابيا والجمهور على ما يفيده النظم من نفي التخصيص برأي الراوي وخالف في ذلك الحنابلة والحنفية استدل الجمهور بأن العمل بالدليل وهو العموم واجب ومذهب الراوي ليس بدليل عندهم فلا يخص به وإلا لزم ترك الدليل لغير دليل وهو غير جائز
قال المخالف عمل الراوي بخلاف ما رواه دليل على اطلاعه على دليل التخصيص وإلا كان فاسقا لمخالفته الدليل
قلنا الدليل ما رواه لا ما رآه إذ قد يكون دليل التخصيص عنده عن ظن أو اجتهاد وظنه واجتهاده لا يجب علينا اتباعه فيهما ولذا كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في الاجتهادات ولو كان حجة لما جاز خلافه وإذا كان هذا في الصحابي فبالأولى أن لا يعمل برأي غيره
ومن المخصصات المنفية قوله ... كذلك العادة لا تخص ... ولا بإضمار على ما نصوا ... قدر في المعطوف والعام متى ... خص ففي الباقي حقيقة أتى ...
اشتمل النظم على ثلاث مسائل خلافية بين أئمة الأصول والراجح ما في النظم غالبا
الأولى التخصيص بالعادة والمراد بالعادة الفعلية فلا يخص بها العام وذلك كأن يكون من العادة أن يأكل أهل بلدة طعاما مخصوصا كالبر مثلا فصارت عادة فعلية ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام فهذا لا يخص بها

العام فقالوا لأن لفظ العام لم يطرأ عليه ما ينقله عن معناه الأصلي والعادة إنما نشأت من استعمال أكل البر والدلالة اللغوية باقية على حالها فهذه هي المنفية في النظم وأما العادة القولية فلا خلاف أنه يخصص بها كما صرح به أئمة الأصول وذلك كأن يطلق في العرف العام لفظ الطعام على بعض أفراده كالشعير بحيث إذا أطلق العام لم يتبادر منه إلا ذلك الفرد فهذه هي الحقيقة العرفية وهي مقدمة على اللغوية فيخص بها وخالفه الحنفية فقالوا لا فرق بين الفعلية في أنه يخص بهما الجمهور على الفرق لما عرفته
المسألة الثانية قولنا ولا بإضمار على ما نصوا إشارة إلى ما نص عليه علماء الأصول أنه لا يخص العام بإضمار قدر في المعطوف اقتضاه المقام فإنه لا يخص به العام في المعطوف عليه هذا رأي الجمهور وخالفه الحنفية فقالوا يخص به لوجوب المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه مثاله حديث أحمد وأبي داود والنسائي عن علي رضي الله عنه مرفوعا ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده قالوا فيقدر في المعطوف وهو ولا ذو عهد

لفظ بكافر تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه وكافر نكرة في سياق النفي فتعم وتفيد أن المعاهد لا يقتل بالذمي لكنه ثبت الإجماع بأنه يقتل المعاهد بالذمي فخصصنا الكافر الذي قدرناه بالحربي أي جعلناه خاصا به فصار معنى الحديث ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي وهذا مرادنا بقولنا قدر في المعطوف قالوا فيقدر كذلك في المعطوف عليه ضرورة للاشتراك والمساواة بين المتعاطفين فيفيد الحديث جواز قتل المسلم بالذمي وهو رأي الحنفية
وأجيب عن الحنفية بأن اللازم من المشاركة بين المتعاطفين هو المشاركة في الجملة إن اقتضى المقام مقدرا في المعطوف كما ذكرتم فلا يلزم تقديره في المعطوف عليه إذ لا يشترط اشتراكهما في أصل الحكم وهو هنا منع القتل ولا يلزم من ذلك تقدير من جميع ما يمكن اضماره منى احدى الجملتين اذ التقدير خلاف الأصل ويجب أن يقتصر على قدر الحاجة فيه وهذا على تسليم أنه لا بد من تقدير بحربي وإلا فلك أن تقول لا حاجة إلى تقديره بل يبقى قوله ولا ذو عهده في عهده بكافر عاما لكل كافر ويخص بالإجماع على قتل المعاهد بالذمي
المسألة الثالثة قولنا والعام متى خص ففي الباقي حقيقة أتى وهي مسألة العام بعد التخصيص هل هو حقيقة أو مجاز فإنه اختلف علماء الأصول هل يكون حقيقة بعد ذلك مجازا فالنظم أفاد الذي بعده حقيقة وهذا رأي الحنابلة ومتأخري الشافعية ونقل عن الشافعي وعن طائفة كثيرة من المحققين
والقول الثاني أنه مجاز وهو قول أكثر الزيدية ومحققي الأشعرية وابن الحاجب وغيرهم وهذان القولان هما المشهوران وفي المسألة أقوال أخر لا يظهر الراجح منها بل هي مرجوحة فنذكر دليل هذين القولين
قال الأولون الباقي بعد التخصيص من أفراد العموم ولفظ العام

يتناوله حقيقة وإرادة وإخراج بعض أفراد العام من الحكم لبيان ما أريد من العام بقرينة التخصيص ولا يلزم المجاز من ذلك فما كل قرينة تستلزمه إذ قرينة المشترك تعين المعنى المراد من معانيه ولا تصيره مجازا كذلك العام لا يخرج بالقرينة عن موضوعه إذ الاستغراق الذي هو مدلول العام باق في المقام غايته أنه طرأ عليه عدم إرادة البعض وأجيب عنه بأن تناوله للباقي لا يوجب كونه حقيقة فيه إذ قد استعمل في غير ما موضع له فإنه موضوع للأستغراق وقد خرج عنه بقصره على بعض أفراد مدلوله بالقرينة وهذا حقيقة المجاز قلت وهذا الرد ناهض ولهم مقاولات لا تصير كلامهم راجحا
قال أهل القول الثاني الباقي بعض التخصيص تمام المراد والتخصيص هو القرينة على تلك الإرادة ومعلوم ان مدلول العام هو جميع أفراده فلو كان حقيقة في جميعها كما اتفقنا عليه وحقيقة في البعض منها كما قلتم لكان مشتركا وهو خلاف المتفق عليه وأيضا فإنا نقطع بأن الباقي بعد التخصيص هو تمام المراد وهذا هو معنى المجاز لأنه اللفظ المفهوم معناه بواسطة القرينة المعنية للمراد ولا يخفى رجحان هذا القول لا على ما أفاده النظم لأن النظم إنما يحكي قول الأصل
واعلم أن من مشاهير مسائل العام مسألة الخلاف هل هو حجة بعد التخصيص أو ليس بحجة وهذه أخرها صاحب الأصل إلى باب المجمل والمبين وذكرها الناظم هنالك فيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى
قوله ... وقد جرى التخصيص في الإخبار ... في المذهب المهذب المختار ...
إلمام بمسألة هل يجري التخصيص في الإخبار كما يجري في الإنشاء اتفاقا فخالفت شرذمة قليلة قالوا لأنه يستلزم الكذب وهذه هي شبهة من منع المجاز والحق أن الكل جائز بل واقع قال الله تعالى وأوتيت من كل شيء ومعلوم أنها لم تؤت ما أوتي سليمان من الأشياء وقال الله

تعالى تدمر كل شيء ومعلوم أنها إخبار مخصوص كما سبق ولا حاجة إلى الإطالة في بيان ضعف هذه المقالة
وقوله ... ولم يكن تعارض في القطعي ... مابين عامين كما في الفرعي ...
إبانة لمسألة تعرض لها صاحب الفصول وغيره من أهل رأيه وذلك أنهم قالوا العمومات في المسائل القطعية تكون قطعية الدلالة وذلك كعموم آيات الوعد والوعيد قالوا لأن المطلوب من العموم إما العمل وإما الاعتقاد فإذا كان المطلوب الأول كفى فيه الظن وإذا كان المطلوب الثاني فلا بد من أن يكون قطعي الدلالة لأنه لو جاز أن يكون المراد به غير ظاهره من العموم للزم أن يكون الشارع قد طلب منا العمل بالظن في الاعتقاد والجهل وهو قبيح لا يجوز من الله تعالى بخلاف العمل فإنه لا يقبح العمل بما أفاده الدليل الظني
وأجيب بأن كونه قطعيا في العمليات يستلزم عدم تخصيصه لا بظني إذ لا يعارض الظني القطعي ولا بقطعي للزوم تعارض القواطع لأن الفرض أن هذا الفرق بين إفراد العموم داخل قطعا تحته فإخراجه من الحكم عن إفراد العموم ينافي دخوله تحته وليس هو كذلك إذا كانت دلالته ظنية لأن دخول الفرد المخرج عن العموم غير مقطوع به فيكشف التخصيص عن عدم دخوله وحينئذ فقد ناقضتم أنفسكم لأنكم خصصتم عمومات الوعد المطلقة بالعاصي وعمومات الوعيد المطلقة بالتائب ولو كانت العمومات في مسائل الاعتقاد قطعية لما جاز التخصيص لما عرفت من حصول التنافي بدخول ما خص تحت العام قطعا وخروجه بالتخصيص فيكون داخلا خارجا
فإن قلت التخصيص كشف لنا عن عدم دخوله قلت الفرض أن دخوله مقطوع به فقد لزم من هذه القاعدة تناقض الحكم حيث حكمتم بتخصيص بعض المسائل العلمية وهو لا يجوز فتعين بطلان هذه القاعدة التي

أنجزت إلى ما لا يجوز وتعين الحكم باستواء مدلولات العام في مسائل الاعتقاد وغيره وأيضا فإن العمليات لا بد من حصول الاعتقاد فيها من كون الحكم حلالا أو حراما فإنه لا يعمل بالدليل حتى يعتقد الحكم من تحليل وتحريم وإلا فيلزم اعتقاد الجهل كما في العلمية وهو لا يجوز ومن هنا علمت أن تفريقهم بين العمومين غير صحيح
والإلزام الذي قالوه باعتقاد الجهل مع الدليل الظني باطل لأنه قد قام الدليل على العمل بالأمارات الظنية فيكفي الاعتقاد الراجح فيما أمرنا به والعمل بما ظهر من الأمارات الظنية
وأما اشتراط القطع فقد قام ما قررناه على بطلانه للزوم التناقض معه كما عرفت إذا عرفت هذا عرفت أن الناظم لا يختار ما نظمه من أنه لا يفي التعارض بين العمومين في مسائل الاعتقاد بناء على أن العموم فيها قطعي الدلالة وقرينه أن المراد مسائل الاعتقاد شهرت المسألة بين أهل الفن
وقوله ... وصح في الخاص وفي العام و ما ... كان أخيرا منهما قد علما ... كان له الإعمال لا ما جهلا ... تاريخه فالكل حتما أهملا ...
ضمير صح للتعارض المنفي آنفا أي أنه تعارض العام والخاص ولا يخلو إما أن يعلم تاريخ ورودهما أو يجهل
الأول ذكرت فيه صورتان
الأولى منهما أن يتقاربا أي يتصل أحدهما بالآخر إلا ما لا يعد فاصل كنفس وسعال أو لا
الثانية أن لايتقاربا وهو لا يخلو إما أن يتأخر أحدهما بمدة تتسع للعمل بالأول اولا فهذه الأطراف من القسم الأول قد شملها قولنا

وما كان أخيرا منهما قد علما فإنه وإن كان من جملة الأطراف حالة التقارن فليس المراد بالتقارن الحقيقي لاستحالة ذلك وحينئذ فلا بد أن يتقدم أحدهما ويكون ما اتصل بالمتقدم متأخرا فتشمله عبارة النظم وإذا كان كذلك فإنه يجب إعمال الأخير منهما وهو ما أفاده قوله كان له الإعمال إلا أن إعماله قد يكون على جهة النسخ وقد يكون على جهة التخصيص لأنه يتصور في أطراف ثلاثة هي إما أن يتقارنا أو يتأخر الخاص أو يتأخر العام
الأول تقارنهما نحو أن يرد اقتلوا المشركين ولا تقتلو أهل الذمة أو يعكس فيحكم بأن الأخير مع التقارن العام فهذا حكمه أن يبني الخاص على العام بمعنى أنه يحكم بتخصيص العام ولا يصح الحكم بالنسخ هنا لعدم التراخي
الثاني أن يتأخر الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل فيها كأن يقال اقتلوا المشركين عند انسلاخ الشهر الفلاني ثم يأتي النهي عن قتل أهل الكتاب قبل انسلاخه فهذا يخصص به العام عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل فيها فلا يخلو اما ان يكون قد وقع كأن ينسلخ الشهر الفلاني وقد وقع القتل ثم يرد النهي فهذا نسخ بلا خلاف إذا كملت شروطه أو لم يكن قد وقع كأن ينسلخ الشهر قبل وقوع القتل ثم يرد النهي عن قتل أهل الذمة فهو أيضا ناسخ عند الجمهور المانعين لتأخير البيان عن وقت الحاجة إذ وقت الحاجة إلى البيان هنا هو عند انسلاخ الشهر
الثالث من الأطراف هو أن يتأخر العام عن الخاص فإما أن يتأخر بمدة لا تتسع للعمل بالخاص بني العام على الخاص وكان تخصيصا عند الجمهور وإما أن يتأخر بمدة تتسع للعمل بالخاص فإنه عندهم يكون العام ناسخا للخاص ولا يبقى له أثر فيما تناوله من مدلول العام وهذا هو ظاهر كلام النظم حيث قال كان له الإعمال فإنه إنما لا يتحقق إعمال العام

المتأخر إلا بإبطال الخاص فيما يتناوله وهذا هو الذي عليه الجمهور قالوا ودليله أن الخاص دليل مستقل وبعد مضي الوقت الذي اتسع للعمل بمدلوله لم يبق أي الخاص موجبا للعمل به بعد ورود العام لظهوره في جميع أفراده ولضعف الخاص بعد مضي وقت العمل به وذهب بعض العلماء إلى أنه يكون تخصيصا للعموم وهو قول طائفة منهم الشافعي كما قال الناظم ونجل إدريس إلى آخره واستدلوا بقوة الخاص في دلالة وتقدمه يكون قرينة على أنه لم يرد بالعام جميع أفراده قالوا وإن كان العمل بالدليلين أولى من إبطال العمل بأحدهما
قالوا أيضا فالتخصيص أغلب من النسخ وهذا القول رجحه كثير من المتأخرين وأشرنا إلى ترجيحه بقولنا ... ونجل إدريس يرى أن يعملا ... بكل شيء في الذي تناولا ... تقدم التخصيص أو تأخرا ... أو جهل التاريخ هذا ما يرى ... وأنه الأولى إلى الصواب ... واختاره محققوا الأصحاب ...
ففي حواشي الفصول أنه ذكره الفقيه عبدالله بن زيد للمذهب قال وهو اختيار لوالدي محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى انتهى ونسبه في شرح الغاية إلى المؤيد بالله وأنه صرح به في شرح التجريد
ثم إنه لا يخفى أن بناء العام على الخاص إنما هو إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق فأما إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يتأتى فيه ما سبق من خلاف إذ ليس تخصيص أحدهما بعموم الآخر بأولى من العكس

فلا بد من تطلب الترجيح بينهما مثال ذلك حديث من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء فإن الأول خاص بالمرتدين عام للذكور والإناث والثاني خاص بالنساء عام في الحربيات والمرتدات قال ابن دقيق العيد في حاشية الإلمام وكأن مرادهم بالترجيح الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العام وذلك كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجية عن مدلول العام من حيث هو انتهى
هذا وقد سبق تحقيق أقسام ما علم تاريخه وبقي القسم الذي جعل تاريخه فإنه لا يعرف المتقدم من المتأخر فالجمهور أنهما يتعارضان في القدر الذي تناوله الخاص فيجب النظر في الترجيح بينهما فإن ظهر فالمراد وإلا فالواجب اطراحهما فيما تعارضا فيه وهو ما أفاده النظم بقوله لا ما جهلا تاريخه فالكل حتما أهملا أي من كل من العام والخاص بالقدر الذي تناوله الخاص وليس المراد أن يطرح العام بالكلية كما يفيد ظاهر العبارة وهذا إذا تساويا لا لو ظهر وجه ترجيح لأحدهما عمل بالراجح وهذا قول

الأكثر وقيل بل يبنى العام على الخاص وهذا لأبي طالب ويروى عن الشافعية وعن المالكية وذلك لقوة دلالة الخاص على مدلوله ولإمكان العمل بالدليلين إذا جعل الخاص مخصصا للعموم
ولما بلغنا في قراءة شرح الغاية المعروف بالهداية إلى هذا الموضع وقد استوفى المباحث هذه في شرحها أنشدني شيخنا رحمه الله حال القراءة لنفسه في ضبط صور بناء العام على الخاص فقال ... يبنى العموم على الخصوص بأربع ... صور على القول لأجل فقل أجل ... مع جهل تاريخ وعند تقارن ... وتفارق زمنا يضيق عن العمل ... وكذا بمتسع يكون عمومه ... متأخرا والعكس نسخ لم يزل ...
ولما انتهى بناء الكلام إلى آخر أبحاث العام والخاص أخذنا في المطلق والمقيد بقولنا ... فصل حوى المطلق والمقيدا ... فالأول المفيد حيث وردا ... شيوعه في جنسه والثاني ... ما دل مع قيد فخذ تبياني ...
فحقيقة المطلق هو اللفظ المفيد لشيوع جنسه أي شيوع مدلوله في جنسه فالمفيد صفة موصوف ومحذوف والمراد بالشيوع مدلوله في جنسه كون مدلوله حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين وهذا يوافق قولهم إن المطلوب من المطلق هو الجزئي المطابق للماهية لا كما زعمه في جمع الجوامع تبعا لغيره أن المطلوب هو الماهية إذا عرفت هذا فإنه خرج بقيد الشيوع العلم والمبهمات والمضمرات لما فيها من التعيين نحو زيد وهذا والذي وأنا فهذا فائدة قوله من غير تعيين إذ لولاه لدخل غير العلم من المعارف لاحتمالها حصصا كثيرة تندرج تحت أمر مشترك من حيث الوضع وخرج نحو الأسد وأسامة فإن كلا منهما يدل على

الحيوان المفترس مع الإشارة إلى تعيينه والفرق بين المعرف بلام الجنس وعلم الجنس أن التعيين استفيد من اللام في الأول واستفيد في الثاني من جوهر لفظه وخرج المعرف بلام العهد الخارجي وخرج كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل لأن مدلول العام استغراقي وعموم المطلق بدلي كما عرفت وهو ينافي الشيوع بالتفسير المذكور فهذا رسم المطلق وفوائد قيوده
وأما المقيد فهو ما أفاده قولنا والثاني ما دل أي لفظ دل على بعض مدلول المطلق مع قيد زائد عليه والمراد بالقيد ما يفهم معنى زائدا على ما في المطلق سواء كان معنويا أو لفظيا فمثل زيد في أكرم زيدا بعد قولك أكرم رجلا قد استفيد منه تقييده بذلك الشخص الدال عليه الاسم ومثل رقبة مؤمنة بعد قولك أعتق رقبة قد استفيد من المقيد الملفوظ به وهو مؤمنة المعنى الزائد على المطلق ... وكل ما في العام والخاص أتى ... فخذه منفيا هنا ومثبتا ...
يريد أن كل ما مضى من الأبحاث العام والخاص من متفق عليه ومختار ومزيف فإنه يأتي هنا فإن تقييد المطلق نشيبه بتخصيص العام لكون التقييد كالإخراج ببعض إفراد المطلق كما أن التخصيص لإخراج بعض إفراد العام وإن كانت الصلاحية في المطلق على جهة البدل وفي العام على جهة الشمول والاستغراق فالمراد التنبيه على تشارك العام والمنطلق في أكثر الأحكام التي سبقت في باب العام والخاص وإن كانا يفترقان في أمور كما يأتي وإذا عرفت هذا فاللمطلق والمقيد حالات في النظر إلى الاتحاد في الحكم والسبب والاختلاف في أحدهما أو فيهما معا
الحالة الأولى اتحاد السبب والحكم إليها اشار قولنا ... فإن يكونا وردا في حكم ... يحكم بالتقييد أهل العلم ...
أي إذا ورد المطلق والمقيد في حكم واحد واتحد سببهما فإنه يحكم بالمقيد على المطلق مثاله أن يقال في الظهار أعتق رقبة ثم يقال أعتق رقبة

مؤمنة في الظهار وقوله أهل العلم مراده أكثرهم وإن كان في أصل النظم أنه اتفاق وقد ذكر فيه خلاف النادر والعبارة قاضية في أنه يحمل المطلق على المقيد سواء تقارنا أو تقدم أحدهما أو تأخر أو جهل التاريخ
إذا تقرر هذا فهذا الحكم استدل به الجمهور بأنه جمع بين الدليلين إذ العمل بالمقيد عمل بالمطلق في ظن المقيد فإنه تقرر أن المطلق دال على أفراده على جهة البدل فيصدق المطلق في ضمن أي فرد منها ويكون المقيد دليلا على أنه المراد من المطلوب بالمطلق لا غيره من الإفراد فتحقق كون العامل به عاملا بالمطلق الذي عينه المقيد ولذا يقولون إنه عمل بالمطلق في ضمن المقيد
قالوا وأيضا العمل بالمقيد خروج عن العهدة يقينا بخلاف العمل بالمطلق فقد يكون المطلوب هوالمقيد فلا يخرج عن عهدة التكليف بالمطلق فكان العمل بالمقيد أحوط بل هو الذي يتعين ولو كان مفهوم المقيد لقبا لأن دلالة المطلق على إفراده بدليل والمطلوب هو الجزئي المطابق للماهية فأدنى إمارة تكفي في تعيين ذلك الجزئي وتعيين المطلوب بالمطلق والمنع من العمل بمفهوم اللقب إنما كان لئلا تثبت به الأحكام الشرعية ويجعل دليلا مستقلا بخلاف العمل به هنا فإنما هو على جهة أنه قرينة معينة لما تقرر من أن المطلوب بالمطلق هو الجزئي المطابق للماهية فلم يستقل بالإفادة ومثاله أعتق رقبة أعتق رقبة أنثى فإنها لما كانت الرقبة شائعة بين الأفراد على جهة البدل وجاء التقييد بما ذكر أفاد تعيين ما أريد بالمطلق ولذا جاز تقييد المطلق بالعادة ولم يجز بها التخصيص ما ذاك إلا لأنه يكتفي بأدنى إمارة في تعيين المطلق وهذا قد صرح به المحقق المحلي في شرح الجمع هذا كله إذا اتحدا حكما وسببا وهي الحالة الأولى لا إذا وقع الاختلاف فهي الحالة الثانية فقد أبان حكمه قولنا

لا إن أتى الحكمان من جنسين ... إلا قياسا ثم مثل دين ...
أي لا إن اختلف الحكمان فإنه لا يحكم بالتقييد لظهور التنافي بين المطلق والمقيد من الاختلاف في الحكم وهو المراد من قوله من جنسين وظاهر عبارة النظم أنه لا حمل إذا قد حصل اختلاف الحكمين سواء اتحدا في السبب نحو صم يوما في الكفارة وأطعم طعام الملوك في الكفارة او اختلفا نحو اهد بدنة عن القران وزك بدنة سائمة عن النصاب وقد أفاد في المعيار الاتفاق على أنه لا يحمل المطلق علىالمقيد هنا ومثله في الفصول وعلية السؤال إلا أنه قد قيد هذا الاطلاق في عبارة النظم قوله إلا قياسا إلى آخره فإنه لا يحمل عليه لفظا من حيث الدلالة بخلاف حمله عليه قياسا فإنه ذكر هذا المهدي في المعيار إلا أنه قد استشكل القول بالقياس هنا أي مع الاختلاف في الحكم لأنه لا قياس معه إذ القياس إنما يكون الإلحاق في الحكم
والحاصل أن كلام أهل الأصول مضطرب في الالحاق بالقياس في هذه الحال وإنما صرحوا به في الحالة الثانية التي أفادها قوله ... حكم اختلاف الجنس في الأسباب ... هذا هو المختار في الكتاب

وهو خبر قوله ثم مثل ذين أي أن حكم اختلاف الجنس المتحد في الأسباب وإضافة اختلاف إلى الجنس إنما هو باعتبار اختلاف السب وإلا فالجنس هنا متحد والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة وقرينة المقام تنادى بالمرام من الكلام ومثال ذلك قوله تعالى في الظهار فتحرير رقبة وفي القتل فتحرير رقبة مؤمنة فالجنس متحد وهو الكفارة والسبب مختلف وهو القتل والظهار ففي هذه الصورة لا يحكم بالتقييد إلا على جهة القياس والذي عليه الجمهور قالوا إذ القياس دليل شرعي فإذا ظهر وجه الإلحاق بشروطه عمل به هنا وعبارة الأصل هكذا لا في في حكمين مختلفين من جنسين اتفاقا إلا قياسا ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس على المختار اى ولا حيث اختلف السبب واتحد الجنس إلا قياسا على المختار فقوله على المختار قيد للحمل على القياس في الحالتين وحينئذ يكون رأيه رأي الجمهور في صحة الحمل قياسا في هذه الحالة وهذا هو اولى في حل عبادته لأنه اذا اجيز الحكم بالألحاق قياسا مع الاختلاف في الحكم كما سبق فبالأولى مع اتحاد الحكم كما في هذه الحالة التي نحن بصددها إذ من البعيد أن يصح القياس مع الاختلاف في الحكم ولا يصح مع الاتحاد
وقولنا هذا هو المختار أي الحكم بالقياس في الحالتين وقد اختلف في المسألة على أقوال
الأول أنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة سواء وجد الجامع

أم لا قال أئمة من الشافعية إنه ظاهر مذهب الشافعي وعليه جمهور أصحابه
الثاني لا يحمل عليه إلا بدليل من قياس أو غيره وهذا قول الجمهور من الزيدية والمتكلمين
الثالث للحنفية أنه لا يحمل هنا المطلق على المقيد ولو وجد الجامع قالوا لأن أعمال الدليلين واجب مهما أمكن العمل فيعمل بالمطلق على إطلاقه وبالمقيد على تقييده بخلاف ما لو حمل المطلق على المقيد فإنه يلزم منه إبطال المطلق في غير ما دل عليه القيد وقد أجيب عن دليلهم بما لا يقوى على رده
واستدل الأولون القائلون بالحمل قياسا بأن القياس دليل شرعي فإذا وجد الجامع كان بمثابة نص مقيد للمطلق وأجيب بأن من شرط القياس أن يكون لإثبات حكم شرعي وهنا المقيد برقبة مؤمنة دل على إجزاء الرقبة المؤمنة وأما عدم إجزاء غيرها فهو ثابت بالعدم الأصلي لا بحكم شرعي فتعدية الحكم بالقياس لم تكن للحكم الشرعي بل للعدم الأصلي وهو عدم إجزاء الكافرة ولا يخفي قوة كلام الحنفية في المسألة
ولما فرغ الكلام من المطلق والمقيد أردفه بالمجمل والمبين فقال

الباب السابع في المجمل المذكور في الخطاب ... وقد أتى في سابع الأبواب ... المجمل المذكور في الخطاب ...
المجمل في اللغة يقال على المجموع ومنه أجمل الحساب إذا جمعه وعلى الإبهام من أجمل الأمر أي أبهمه وهذا يناسب أن يكون المجمل في الاصطلاح مأخوذا ! منه وقد رسمه الناظم بقوله ... ورسمه ما ليس منه يفهم ... مفصلا ما قصد المكلم ...
أي رسم المجمل ما ليس يفهم منه ما قصد المتكلم فكلمة ما مراد بها اللفظ كما يشعر به قوله ما قصد المكلم وهذا بناء علىالأغلب وإلا فالإجمال قد يكون في الأفعال كالأقول ولك أن تحمله على ما يشملهما فيراد بالمكلم من شأنه التكلم أعم من أن يكون بفعله أو بقوله وهذا أولى ليشمل الأمرين والإجمال في الأفعال كأن يقوم صلى الله عليه و سلم من الركعة الثانية من غير تشهد فإنه متردد بين أن يكون على جهة العمد فيكون من الأدلة الشرعية أو السهو فلا يدخل فيها هذا وقد خرج من الرسم المذكور المبين إذ يفهم منه ما قصد المكلم على جهة التفصيل وخرج المهمل بطريق المفهوم إذ قد أفاد توجه النفي إلى القيد أعني مفصلا أنه يفهم منه شيء في الجملة غير مفصل
إذا تقرر هذا فالمجمل قد يكون في المفرد كعين بناء على أنه لا يصح

حمل المشترك على جميع معانيه ومن قال يصح لم يكن عنده العين مجملا ويكون في المركب أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه يحتمل أن يراد به ولي النكاح المتولى للعقد أو الزوج ويكون في الضمير كما روي عن ابن الجوزي أنه سئل عن علي عليه السلام وأبي بكر رضي الله عنه أيهما أفضل وكان على المنبر فقال من كانت ابنته تحته ونزل وقد يكون في الصفة نحو زيد طبيب ماهر فإنه يحتمل أنه ماهر في الطب ويحتمل أنه طبيب وأنه ماهر وفرق بين الأمرين فإن الأولى تفيد المهارة في الطب والثانية أعم والأمثلة مبسوطة في المطولات
والمراد معرفة الضابط في الرسم ... خلافه يدعونه مبينا ... ثم البيان ما أفاد ما عنى ... من المراد بالخطاب المجمل ... وصح بالسمع البيان فاقبل ...
أي خلاف المجمل يسمونه المبين وهو ما يفهم منه المقصود على جهة التفصيل وهذا صادق على المبين بنفسه نحو السماء والأرض والله بكل شيء عليم وعلى البيان بعد الإجمال ولما كان المقصود هو الآخر صرح به قوله ثم البيان إلى آخر المصراع الأول من البيت الثاني أي البيان شيء أفاد ما عناه المتكلم بالدليل المجمل من مراده فقوله شيء جنس الحد وقوله أفاد ما عنى يدخل فيه المجمل على ما قررناه سابقا من أنه لا بد أن يفيد إفادة ما وقوله بالدليل أخرج المحمل وأما قوله وصح

بالسمع البيان أي صح بيان المجمل بالسمع كتابا وسنة وإجماعا وقياسا نحو وآتوا حقه يوم حصاده فإنه مجمل بينه قوله صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر وما سقي بالنضح نصف العشر أخرجه البخاري وغيره وهذا النوع واسع في الأحكام الشرعية وقد يكون بالسنة الفعلية نحو قوله صلى الله عليه و سلم صلوا كما رأيتموني أصلي أخرجه البخاري وغيره ونحو خذوا عني مناسككم كما في حديث جابر عند مسلم قيل وهو أقوى من البيان بالقول كما يدل له حديث ابن عباس مرفوعا ليس الخبر كالمعاينة رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان ورواه الطبراني وزاد فإن الله أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده فلم يلق الألواح فلما عاين ذلك ألقى الألواح
وأما البيان بالإجماع والقياس ففيه الخلاف الذي وقع في جواز التخصيص بهما واعلم أنه إذا ورد بعد المجمل قول وفعل يفيدان بيانه فإن علم السابق منهما فهو البيان والثاني تأكيد فعلا كان أو قولا وإن جهل فأحدهما هو المبين لا على جهة التعيين لعدم العلم بالسابق والآخر حكم التأكيد هذا إن اتفقا فإن اختلفا أن يأمر صلى الله عليه و سلم بعد نزول الحج بطواف ويطوف طوافين فقيل المبين هو القول تقدم أو تأخر أو جهة وهذا رأي الجمهور قالوا لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه فكان بالبيان أولى من الفعل ويحمل الثاني على الندب أو على أنه خاص به صلى الله عليه و سلم

واعلم أنه ذكر في أصل النظم أنه لا يلزم أن تكون شهرته البيان كشهرة المبين فلم نذكره هنا لأنه قد سبق ما يفيده في باب العام والخاص حيث قلنا وخص بالآحاد ما تواترا
والحاصل أنه اختلف هل يشترط أن يكون البيان أقوى من المبين فقال الرازي لا يشترط ذاك فيجوز بالأدنى فيبين المظنون المعلوم قال العضد بعد كلام وأما المجمل فيكفي في بيانه أدنى دلالة ولو مرجوحا إذ لا تعارض انتهى ولابن الحاجب بعض تخليط
هذا وأما مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو عدم جوازه فتأتي المسألة قريبا
ولما ذكر أئمة الأصول مسائل وقع فيها خلاف هل هي من المجمل ذكرناها هنا بقولنا ... والمدح للشيء دليل الحسنى ... لأنه حث على ما أثنى ... وذمه في القبح قالوا أوضح ... مما يفيد النهي فهو أقبح ...
أي أن مدح الشيء دليل على أنه حسن لأن فيه حثا وتحريضا على العمل به وذم الشيء دليل على أنه قبيح منفر عنه أشد التنفير من النهي فإن النهي قد يكون للكراهة التي هي داخلة تحت الحسن عند الأكثر وهذا معنى قوله أوضح وفرع عليه قوله فهو أقبح
واعلم أن تأخير هذه المسألة إلى هذا المحل وقع تبعا لأصل النظم وهو تبع المهدي فإنه قال ما حاصله إن المدح والذم قد يتردد بين تعليقه بالأشخاص وبالأفعال فجعل هذه المسألة بعض الأصوليين لذلك من المجمل قالوا لأن قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة الآية يحتمل أنه جاء بصفة الذين لمجرد التعريف بصفة الرجل المذموم لا لذمه لما أفادته جملة الصلة في الآية وهو الكنز كما تقول الذي يلبس البياض

أضربه فيحتمل أن ضربه لأجل لبس البياض أو لغيره فكذا هنا يحتمل أن الذم المستفاد من الوعيد لأجل الكنز أو لأجل غيره وكذا في إن الأبرار لفي نعيم يحتمل أن نعيمهم لأجل البر ويحتمل لغيره فصار مجرد المدح والذم على هذا مجملا لا يدل على حسن ولا قبح للاحتمال المذكور وقال الجمهور ليس بمجمل بل الوصف إذا علق الذم أفاد قبحه أو المدح أفاد حسنه ويكون ظاهرا في ذلك وإن احتمل أن يكون لمجرد التعريف فاحتمال مرجوح انتهى
وقد اعترض المهدي صاحب القسطاس وقال النزاع في المسألة للخصم أنه لا عموم في ما علق عليه المدح والذم حتى يستدل بآية الكنز مثلا على وجوب الزكاة في الذهب والفضة على جهة العموم فالاحتمال فيها لعدم تعيين الكنز الذي علق به الذم فالدليل الذي ينهض على الخصم إنما هو في إفادتها العموم وعدم منافاة الذم والمدح له ... قالوا ولا إجمال فيما نكرا ... من الجموع بل يكون ظاهرا ... فيما يرى الأقل في المعاني ... كذلك التحريم للأعيان ... يكون للمعتاد عند الأجزل ... والعام إن خص فغير مجمل ...

اشتمل على ثلاث مسائل
الأول في أن الجمع المنكر نحو رجال ليس بمجمل كما قاله الأكثر من أئمة الفن بل إذا ورد وجب حمله على المتحقق من مدلوله وهو أقل مراتب الجمع وهذا معنى قوله بل يكون ظاهرا إلى آخره أي هو ظاهر في أقل المعاني الداخلة تحت مدلوله فيحمل عليه وذهب الأقل إلى

أنه مجمل قالوا لأن مراتب الجموع متفاوتة فليس حمله على بعض منها أولى من الآخر فيكون مجملا وأجيب بأنه وإن كان مترددا بين مراتبها فالترجيح بحمله على ما هو المتحقق كاف في بيان وجه الأولوية للخروج عن الإجمال الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية قوله كذلك التحريم للأعيان أي لا إجمال فيما أتى ومن التحريم الواقع على الأعيان نحو حرمت عليكم أمهاتكم وهو قول الجمهور كما أفاده قول الأجزل والدليل أن من استقرأ اللغة علم أنه ليس المراد تحريم العين بل التحريم على ما يناسبه مما سيق له الخطاب كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والوطء في الموطؤ فإذا قيل حرمت عليم أمهاتكم أو الخنزير أو الخمر أو الحرير حمل على ما سبق إليه الفهم عرفا من الوطء ونحوه مما يتبادر فيما ذكر وهذا مراد النظم بقوله يكون للمعتاد أي يكون التحريم للأعيان للمعتاد عرفا وخالف في ذلك الأقل وقالوا بل هو مجمل إذ تحريم العين غير متصور فلا بد من إضمار شيء يكون متعلقا للتحريم والأفعال كثيرة فإنه يحتمل تحريم الأم الوطء والنظر والاستخدام وفي تحريم الحرير البيع واللبس واللمس وكذلك سائر ما ذكره
قالوا ولا سبيل إلى إضمار الجميع لأن ما يقدر للضرورة يقتصر فيه على مايدفعها فيتعين إضمار البعض ولا دليل على تعيين شيء من المقدرات إذ ليس حمله على واحد منها أولى من الآخر فيتوقف في ذلك وهو معنى الإجمال وأجيب بالمنع من عدم تعين إضمار بعض معين بل ما سبق إلى الأذهان من العرف هو المراد هذا تقرير المسألة
واعلم أن من الأصوليين من يذكر هذه المسألة في باب العموم وهي المسماة بعموم المقتضى ولم يتقدم ذكرها في النظم ولا شرحه فلنشر إليها وإلى الراجح فيها ونقول تقدم في باب المنطوق أن الدلالة إذا توقفت في الصدق أوالصحة على مقدر محذوف سميت دلالة اقتضاء نحو حرمت

عليكم أمهاتكم ورفع عن أمتي الخطأ ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فالمتقضى اسم فاعل هو المحتاج للإضمار والمقتضى اسم مفعول هو ذلك المحذوف وحاصله إن قام دليل على أحد المحتملات تعين في المقام سواء كان المقدر عاما أو خاصا وإن لم يدل دليل على تقدير شيء لا عام ولا خاص مع احتمال تعدد المقدرات فهل نقدر المحتملات كلها وهوالمراد بعموم المقتضى أو لا يقدر قولان للعلماء الأول أنه يحمل على جميع المقدرات وهو قول الجمهور وهوالمتعين للخروج عن التحكم فيضمر لفظ عام للمقدرات شامل لها وبهذا يندفع ما قاله المخالف في أنه يلزم كثرة الإضمارات بناء منه على أنه يقدر كل ما يمكن تقديره واحدا واحدا فإنا نقول المقدر لفظ واحد يعم جميع التصرفات مثل الانتفاع في تحريم الميتة فإنه يعم الأكل والبيع وغير ذلك
المسألة الثالثة قوله والعام إن خص فغير مجمل وهذه هي مسألة هل يكون العام بعد تخصيصه حجة أو لا وفيها خلاف منتشر وتفاصيل ولنشر إلى ما هو المختار والأقوى حجة فالقول الأول أنه حجة إن خص بمعين لا إن خص بمبهم
وقد قسم الإبهام إلى قسمين إبهام في اللفظ نحو اقتلوا المشركين إلا بعضهم وإبهام في المعنى نحو أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم فإنه إشارة إلى معين في الواقع هو ما يتلى إذا عرفت هذا فإنه

اختيار الجمهور من الزيدية وغيرهم أنه إن خص بمعين نحو اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة فهو حجة وإن خص بمبهم نحو إلا بعضهم أو إلا ما يتلى عليكم فليس بحجة لإجماله واستدلوا على أنه حجة في الباقي بما عرف من استدلال الصحابة بظاهر العمومات المخصوصات وشاع بينهم وذاع فكان إجماعا وأيضا فإنه كان متناولا للباقي بعد إخراج البعض والأصل بقاء تناوله على ما كان عليه حتى يقوم دليل على خلافه والتخصيص لا يوجب نقله عن أصله وتغييره عما شمله بل يزيده قوة وظهورا فإنه إذا قيل اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أفاد ثبوت الحكم على المشركين المخرج منهم أهل الذمة بعد أن كان لفظ المشركين شاملا لأهل الذمة وأهل الحرب فازداد تناول العام للباقي قوة
قالوا وأما إذا خص بمبهم فإنه مع الإبهام لا يعلم ما قصد بالتخصيص فما من فرد إلا وهو محتمل لأن يكون هو المخرج فصار الباقي مجملا وهذا صادق على المبهم في المعنى وفي اللفظ كما قدمناه إذا تقرر هذا فقولنا والعام إن خص فغير مجمل إنما هو رد لقول من يقول إنه إن خص فإنه لا يبقى حجة سواء خص بمعين أو مبهم وهذا يروى عن أبي ثور وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن كثير من الشافعية والحنفية والمالكية قالوا لأن لفظ العام موضوع للاستغراق وقد صار بعد التخصيص للبعض وكل بعض هو فيه مجاز ولا يتعين أحد الأبعاض لتعدد مجازها إذ يحتمل أنه مجاز في كل ما بقي وفي كل بعض فكان مجملا

وأجيب بأن ذلك فيما إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعيين أحدها وهنا الدليل قائم على أن الباقي هو المراد بقاء على الأصل فيصار إليه
وأما قوله ... ولا صلاة في المبينات ... عد كذا الأعمال بالنيات ...
فهذا مما قيل بأنه مجمل فرده الجمهور وقالوا بل هو مبين أعني قوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور وكذا قوله صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات ليس بمجمل وهو بهذا اللفظ رواه الحاكم في الأربعين عن مالك وإن كان قد نقل النووي عن أبي موسى المديني وأقره عليه بأن الذي وقع في الشهاب بإسقاط إنما لا يصح له الإسناد ولكنه قد رواه مالك وابن حبان كما ذكره في تلخيص الحبير وأما بزيادة إنما فهو متفق عليه والمراد أنه قد أشار في النظم إلى إنما ورد فيه النفي على الذات من الأسماء الشرعية مثل لا صلاة إلا بطهور لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل وغير ذلك

من الأسماء الشرعية فإنه لا إجمال فيها وهو قول جمهور العلماء وهو مبني على إثبات الحقائق الشرعية وعلى أن الشرعي مخصوص بالصحيح فيكون التقدير لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا إجمال في هذا ولا يصدق عليه رسمه
وذهب آخرون إلى أنه مجمل قالوا لأنه لا يصح نفي الوقوع لكونه مشاهدا وإنما أريد به أمر آخر وهو غير معلوم لنا فكان مجملا ولأنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملا ولأنه متردد بين نفى الكمال ونفى الصحة والعمل على أحدهما بغير دليل تحكم
وأجيب بأن الحمل على نفي الصحة أولى لما عرفت ولأنه قال ابن تيمية إنه لا يعرف نفي الكمال في كلام العرب وأيضا فالإجمال خلاف الأصل فلا يحمل عليه
ومما قيل بإجماله وأشير إلى رده ما أشار إليه قوله ... ومثله رفع الخطأ وغيره ... واتبع الأمثال في نظيره ...
أي مثل الأعمال بالنيات رفع الخطأ بصيغة المصدر مرفوع على خبرية مثله وهو إشارة إلى حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقوله وغيره إلى ما يماثله من الأحاديث النبوية نحو لا عهد لمن لا دين له ولا هجرة بعد الفتح ولا رضاع بعد الحولين وهو باب واسع في كلام الشارع وغيره نحو لا ملك إلا بالرجال ولا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاده فالجمهور على أنه لا إجمال في ذلك فيحمل على ما يقتضيه العرف

شرعا أو لغة إن ثبت فيه أيهما ففي مثل رفع يقدر فيه المؤاخذة ونحوها ومثله غيره من الأمثلة فيحمل على ما يقتضيه العرف وذهب آخرون إلى أنه مجمل وهو قول مرجوح
وقوله واتبع الأمثال في نظيره إشارة إلى عدة أمثلة ذكرت في مطولات الفن من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم الإثنان فما فوقهما جماعة قالوا فإنه يحتمل أن يراد بها الجماعة اللغوية أو الشرعية التي يحصل الثواب بها ويترتب عليها والجمهور على أنه لا إجمال في ذلك بل يحمل على الشرعي لأن الشارع بعث لتعريف الأحكام الشرعية لا المعاني اللغوية والأمثلة كثيرة
ومن عرف ضابط المجمل والمبين عرف موقع الأمثلة من أي القسمين هي ... وللبيان يحرم التأخير ... عن وقت ما يحتاجه المأمور ... وهكذا التخصيص والتقييد ... هذا اتفاق عند من يفيد ...
هذه مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو حصول الوقت الذي طلب من المكلف فيه تنجيز الفعل فإنه يحرم تأخير البيان للخطاب المجمل عنه كما يأتي دليله ومثله التخصيص للعام والتقييد للمطلق أي يحرم التأخير لهما عن وقت الحاجة إلى بيان ما أريد بالعام والمطلق وهذا اتفاق بين العلماء كما أفاده النظم قيل إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق فإنه لا يمتنع عنده تأخيرها عن وقت الحاجة بل يجوز وإليه أشار قوله عند من يفيد تقييد للاتفاق لأخراج من ذكر وإن وقع في أصل النظم حكاية الإجماع مطلقة تبعا للإمام المهدي في المعيار

والدليل على ما ذكرناه من التحريم أفاده قولنا ... لأنه لو جاز كان يلزم ... من ذاك تكليف لما لا يعلم ...
أي لو جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة لزم منه تكليف ما لا يعلمه المكلف وهو قبيح لا يجوز من الحكيم ... وجائز وفقت للصواب ... تأخيره عن زمن الخطاب ... في نهيه وأمره لا في الخبر ... إذ المراد منه إفهام البشر ...
الذي سلف تحريمه هو التأخير للبيان عن زمن الحاجة أما تأخيره عن زمن الخطاب ففيه أقوال
الأول إنه جائز سواء كان الخطاب مجملا أو ظاهرا أريد به خلاف ظاهره كالعام والمطلق وهذا قول الأكثر وسواء كان أمرا أو نهيا أو خبرا
والثاني يجوز تأخيره في الأمر والنهي دون الخبر وهو الذي أفاده الناظم
والثالث لا يجوز مطلقا
وجه القول الثاني وهو التفصيل أن الخطاب في الأمر والنهي إذا وقع من دون بيان سواء كان بمجمل أو ظاهر أريد به خلافه لم يحصل منهما اعتقاد جهل بخلاف الخبر فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب به لأنه إذا وقع بظاهر والمراد خلافه اوقع سامعه في اعتقاد الجهل وإذا كان بمجمل لزم العبث لعدم الفائدة بالإخبار في المجمل وليس المراد من الخبر إلا إفهام السامع وإفادته فهذا هو الدليل لأهل التفصيل وأجيب عن ذلك بأن اعتقاد الجهل مشترك الإلزام فإنه لا بد في الأمر والنهي من اعتقاد وجوب العمل أو الترك وفيه أقوال أخر وتفاصيل في مطولات الفن لا يحتملها الاختصار وقد استدل لمن قال بجواز تأخره عن وقت الخطاب مطلقا بأنه قد وقع والوقوع

فرع الجواز وذلك كآية الخمس فإنه تأخر بيان ذوي القربى حتى وقع البيان بأنهم بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وكآية السرقة فإن ظاهر عموم القطع لليدين إلى المنكبين وعموم السرقة في قليل وكثير حتى وردت السنة ببيان الأمرين هذا كله في الظاهر وكذلك في المجمل كالأمر بالصلاة والحج وإذا عرفت أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فالبحث عنه واجب كما أفاده قوله
والبحث عن واجب في العمل فلا يجوز أن يعمل بظاهر العام ولا المطلق ولا غيرهما قبل البحث عن تخصيص العام وتقييد المطلق وهذا قد تقدم في بحث العام وذكرنا هنالك بأن هذا الحكم يختص بالعام لكثرة المخصصات حتى إنها صيرت ظاهرة مرجوحا فلا يعمل به إلا بعد البحث عن مخصصه بخلاف المطلق
ولما تم المراد بيانه من الكلام على المجمل والمبين أخذ الناظم في الكلام على الظاهر والمؤول فقال ... فصل وللظاهر والمؤول ... رسمان فالظاهر حيث يطلق ... على خلاف النص وهو يصدق ... أيضا على مقابل للمجمل ...
يريد أن للظاهر والمؤول رسمين عند أئمة الفن
أما رسم الظاهر وله إطلاقان
الأول أنه يطلق على ما يقابل النص ورسمه عليه ما يدل على المعنى المقصود الراجح بنفسه مع احتماله لمعنى مرجوح وهذا هو الرسم الأول وهو مراده بقوله حيث يطلق على خلاف النص وعلى هذا المعنى فإن النص قسيم للظاهر وقد خرج من هذا الرسم المؤول فإن المعنى الراجح

المتبادر منه ليس هو المقصود وخرج المجاز أيضا على مقتضى كلام الناظم فإنه جعله من المؤول وكذا العام المخصوص إذ كل منهما لم يدل على المعنى المقصود بنفسه بل بعد البيان بالقرينة والتخصيص
والثاني من إطلاقيه أنه يطلق على ما يقابل المجمل كما أفاده قوله وهو يصدق أيضا فالظاهر على هذا هو ما اتضحت دلالته فيكون على هذا النص قسما من أقسامه ويدخل في المؤول والمجاز والعموم والخصوص وقد رسم على هذا المعنى بأنه ما يفهم منه المراد تفصيلا ولا شك في دخول النص على هذا إلا أنه يخرج منه المؤول وغيره مما ذكرناه وظاهر إطلاقهم دخول مدلول الألفاظ سواء المجمل تحت هذا الإطلاق لكن بالرسم الأول أعني ما اتضحت دلالته فيكون أولى فهذان الرسمان للظاهر باعتبار إطلاقيه
وأشار إلى رسم المؤول بقوله ... وبعد ذا فالرسم للمؤول ... بما به يعني خلاف الظاهر ...
هو مشتق من آل يؤول إذا رجع فهو مؤول لرجوعه بالتأويل إلى المعنى المراد منه ورسمه ما به يعني أي يراد خلاف الظاهر أي ظاهره فالتعريف عوض عن الضمير وبهذا يعرف أنه على هذا قسيم للظاهر بالإطلاق الأول ولذا أتى برسمه زيادة في الإيضاح وإلا فإن كثيرا من أهل الأصول لا يعرفه إما اكتفاء بتعريف التأويل أو لوضوحه بطريق المقابلة بينه وبين الظاهر ... والصرف للفظ عن الظواهر ... إلى المجاز أو بأن يقصر ما ... يفيده اللفظ إذا ما عمما ... وفيهما قرينة للصرف ... فذلك التأويل في ذا العرف ...
قد عرفت أن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة فقوله والصرف مبتدأ وقوله فذلك التأويل خبره ودخول الفاء فيه من باب قوله وقائله

قولان فأنكح فتاتهم وقوله إلى المجاز إلى آخره بيان لقسمي التأويل وصرح بقوله أو بأن يقصر إلخ بناء على ما سبق من أن الباقي من العام بعد تخصيصه حقيقة وعلى هذا فالعمومات المخصصات والمطلقات المقيدات من قسم المؤول كما تقتضيه عبارة الناظم وهو ظاهر كلام أئمة الأصول من رسمهم المؤول وكذا المجازات
ولما كان التأويل يختلف في الوضوح والخفاء والقرب والبعد باعتبار قرائنه والأدلة الصارفة لظاهره انقسم إلى أقسام أشار إليها قوله ... وهو قريب وبعيد حسبما ... يقضي الدليل فاختلاف العلماء ... فيه على ما يقتضي وما أتى ... تعسفا فالمراد حتما ثبتا ...
أي أنه ينقسم التأويل إلى قريب وبعيد حسبما يقضي به الدليل فقد يكتفي في بعض الحالات بأدنى دليل في صرفه ورده عن ظاهره فهذا هو القليل وقد يحتاج إلى كثرة مخالفة في الظاهر وتطلب المرجحات فهذا هو البعيد فلذلك تجد العلماء يختلفون في تأويل الأدلة وردها عن ظاهرها إلى القواعد بحسب ما يظهر لكل واحد من القرائن وقد يأتي قسم ثالث في الحقيقة وهو ما فيه تكلف وتعسف ويأتي شيء من ذلك وإذا عرفت هذا فقد عد العلماء أمثلة من الثلاثة الأنواع قالوا فمن القريب تأويل آيات الصفات والأحاديث الواردة فيها فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهرها فينفق الخلف والسلف على منع حملها على ظاهرها إذا خالف التنزيه ذكر هذا البرماوي في شرح منظومته ومثله في شرح الغاية إلا أن في كونه إجماعا وأنه مذهب السلف تأملا فإن المنقول عن السلف هو ما ذكره الله تعالى في قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا

( آل عمران 7 ) ولا يلتفتون إلى ما عدا ذلك قال المقبلي رحمه الله تعالى في الأرواح وهذا هو الحق وهو القدر الضروري وما عداه دعوى وتكلف بما لا يعني يحتمل المنع عقلا ويدخل تحت قوله تعالى وما أنا من المتكلفين إن أتبع إلا ما يوحى إلي ونحوها في منع التقول على الله تعالى بلا سلطان انتهى
وقد عد من القريب أمثلة كما عد من البعيد أمثلة اقتصرنا على بعض من الأمرين فمن البعيد تأويل الحنفية لحديث أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل رواه أبو داود وغيره فقالوا المراد بها الصغيرة والأمة ووجه بعده أن الصغيرة لا يقال لها امرأة
وعدوا من البعيد تأويلهم وكثير من الزيدية قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا بإطعام طعام ستين مسكينا قالوا لأن القصد دفع الحاجة وحاجة ستين مسكينا في يوم واحد كحاجة واحد في ستين يوما فيصح إعطاء واحد في ستين يوما ووجه بعده أن تقدير المضاف خلاف الظاهر وهذه العلة المستنبطة لا تقوى قرينة على ذلك
وأما القسم الثالث فله أيضا أمثلة كثيرة مردودة كتأويل الباطنية قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بأبي بكر وعمر وعثمان وتأويلهم قوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين بعلماء الظاهر وإتيانهم لأخذ فتواهم وأخذ العلم عنهم ومنه تأويل الخوارج لقوله تعالى حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى بعلي بن أبي طالب وأنفسهم وأنهم الذين يدعونه إلى الهدى والأمثلة واسعة من أهل الضلالات والابتداع وتأويل ابن عربي الملحد وأتباعه العذاب بالعذوبة ونحوها من ضلالاته

وقد ذكر قسم رابع سموه متوسطا وأمثلته لا تخفى والمقصود معرفةالقواعد لا تعداد الأمثلة فمن عرفها عرف ما تحتها من الأمثلة

الباب الثامن في النسخ
قال ... والنسخ عد ثامن الأبواب ...
النسخ لغة يطلق على الإزالة نحو نسخت الشمس الظل وعلى النقل والتحويل نحو نسخت الكتاب
وفي الاصطلاح قيل إنه بيان لانتهاء مدة الحكم وقيل رفع الحكم وعلى هذا وقع تعريف الناظم بقوله ... ورسمه عند أولي الألباب ... إزالة لمثل حكم شرعي ... بما تراخى من دليل سمعي ...
أي رسم النسخ عند ذوي العقول هو إزلة لمثل حكم شرعي بدليل متراخ سمعي وقال لمثل ولم يقل عينه لأن إزالة العين فيما نسخ بعد فعلهما محال بل المنسوخ هو مثله
وقوله شرعي لإخراج الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الأحكام الشرعية فإن ارتفاعها بها ليس بنسخ اصطلاحي وقوله بما تراخى من دليل سمعي لإخراج إزالة الحكم بموت أو جنون فإنه لا يعد نسخا اصطلاحا وقيده بالتراخي لإخراج نحو صل إلى أن تغيب الشمس فإن ارتفاع الحكم مستفاد

من التقييد بالغاية وهو متصل بالدليل ليس فيه تراخ عنه وكذا غيره من المخصصات التي لا تراخي فيها وإن كان قد قيل إنه لا إزالة في التخصيص مثلا فليس بداخل فإن المخصص للدفع والنسخ للرفع والإزالة ففيه تأمل
وقوله بدليل ولم يقل بحكم لأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل
وقوله من دليل سمعي شامل للإجماع والقياس ويأتي أنه لا ينسخ بهما وقد شمل التعريف أنواع السنة الثلاثة
ولما كان قد خالف في النسخ جماعة من غلاة الإمامية أشار إلى رد كلامهم بقوله ... وجائز ذلك فيما اختاروا ... وإن يكن ما قدم الإشعار ...
هما مسألتان
الأولى جواز النسخ واستدل على جوازه بوقوعه لم تتبع الأحكام الشرعية فمن ذلك وجوب صوم يوم عاشوراء نسخ بإيجاب رمضان ووجوب قتال الواحد العشرة من الكفار ثم نسخ بإيجابه عليه للاثنين ووجوب الوصية للوارث نسخ بآية المواريث وغير ذلك مما يطول تعداده وقد صنفت فيه كتب مستقلة فالمنكر للنسخ من المسلمين إما جاهل أو مخالف في العبارة وإنما يعرف فيها الخلاف لليهود
واستدل لمن نفاه من المسلمين بأنه إما أن يكون الحكم مقيدا إلى غاية فلا ينسخ لعدم تحقق الرفع فيه أو لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فهو جهل أولا لحكمه فهو سفه وبدا وأجيب عن الأول بأنه عاد الخلاف لفظيا فإنا لا نعني بزوال الحكم إلا بالنظر إلى علمنا وإلا فهو مقيد في علم الشارع إلى غاية أبرزها عند نسخه الحكم وعن الثاني أنه قد تقرر عند الكل أن الأحكام كلها منوطة بالحكم والمصالح إلا أنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص فالحكم المنسوخ كان لحكمة انتهت في علم الشارع إلى

زمن نسخه ثم خلفها حكمة أخرى تقتضي حكما آخرا فلا سفه ولا بدا والمسألة الثانية أنه يجوز النسخ وإن لم يتقدم به إشعار وهذا رأي الجمهور وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز إلا إذا تقدم به إشعار نحو قوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا وأجيب بأنه لا يتم دعوى الإشعار في كل حكم حكم الله بنفسه ... ونسخ ما قيد بالتأبيد ... وغير إبدال لذي المفيد ...
عطف على قوله وجائز أي وجائز نسخ الشيئين وهو نسخ الحكم الذي قيد بالتأfيد والنسخ لحكم لا إلى بدل وهما مسألتان اختلف العلماء فيهما اختلافا كثيرا
فالأولى مثلوها بنحو أن يقول صوموا رمضان أبدا فالجمهور قائلون بأنه يجوز نسخه واستدلوا بأن التقييد بالتأبيد ليس نصا صريحا في الدوام غايته أنه ظاهر فيه وهو لانيا في النسخ كما قلنا في صيغ العموم أن ظاهرها الاستغراق مع جواز إخراج بعض أفرادها فكذا هنا يجوز إخراج بعض الأزمنة وإن كان التقييد بالأبد ظاهرا في الدوام
قال المانع صحة الأقل التقييد بالأبد ينافي النسخ لأن التقييد به يدل على الدوام والنسخ يدل على القطع وانتهاء الحكم وكون الشيء دائما منقطعا تناقض لا يجوز على الحكيم
وأجيب بأنه بالنظر إلى ظاهر لفظ الأبد مسلم ولا يضر كمنافاة التخصيص لظاهر العموم ولأن لفظ الأبد يستعمل في الزمن الطويل كما نص عليه أهل اللغة وحينئذ فليس الأبد نصا صريحا يدل على أنه للاستمرار في نفس الأمر وحقيقة الخطاب فلا ينافيه النسخ وفي المطولات تقاسيم في المسألة وإطالة وهي قليلة الجدوى فلا نشتغل بها

تنبيه بقولنا صوموا إشارة إلى أن الخلاف في نسخ الإنشاء وأما نسخ الأخبار فقد اختلف في جواز نسخه فقيل لا يجوز وتفصيل البحث أن الخبر إما أن يكون مما يتغير مدلوله كالإخبار بإيمان زيد وكفره أو مما لا يتغير نحو العالم حادث والباري موجود والنار محرقة فالنسخ هنا يكون بأمرين
الأول أن يأمر الشارع بالإخبار بحدوث العالم أو بإيمان زيد ثم ينهى عن الإخبار بذلك فهو جائز بلا خلاف
وهل يجوز النسخ إلى الإخبار بنقيض ما ذكر منعه من قال بالتحسين والتقبيح لأنه أمر بالكذب وجوزه نفاتهما والتحقيق أنه لا يقع النسخ في الخبر إلا بتأويله بالانشاء وحينئذ فلا خلاف
المسألة الثانية ما أشار النظم إليه قوله إلى غير بدل وأنه قول من لهم الإفادة وهم الجمهور وقالوا يجوز إلى غير بدل بل قد وقع وخالف فيه طائفة ودليل الجمهور أنه لو لم يجز لم يقع وقد وقع كفسخ وخالف وجوب الصدقة فإنها نسخة لا إلى بدل استدل المانع بقوله تعالى ما ننسخ من آية الآية فإنه أخبر تعالى أنه يأتي بخير منها أو مثلها فدل على أنه لا ينسخ إلا إلى بدل هو خير من المنسوخ أو مثله وأجيب بأن المراد بلفظ خير منها لا يحكم خير وليس الخلاف في اللفظ وإنما هو في الحكم ولا تدل عليه الآية
قلت ولا يخفى أن اللفظ الذي يبدل به المنسوخ لا بد أن يكون دال على حكم أقله ندب تلاوته وقراءته وأما آية نسخ الصدقة التي استدل بها الجمهور فإنه قد أجيب بأن الحث على الصدقة والترغيب فيها ثابت بدليل عام فلو أراد المناجي تقديم الصدقة بين يدي نجواه لكان داخلا لذلك الدليل العام غايته

أنه وقع النسخ من وجوب التصدق إلى ندبه وهو حكم فالظاهر في المسألة مع الأقل ... كذا أخف الحكم بالأشق ... كالعكس فاتبع ما إليك ألقي ...
أي وكذا يجوز نسخ الحكم الأخف بالأشق وعكسه الأشق بالأخف فنسخ الأشق بالأخف كوجوب مصابرة واحد لعشرة إلى وجوب مصابرته للاثنين ونسخ عدة الوفاة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر وكذا بالمساوى كنسخ الاستقبال هذان لا خلاف فيهما وإنما الخلاف في الطرف الأول وهو نسخ الأخف بالأشق فالجمهور على جوازه ووقوعه وخالف فيه بعض الظاهرية وعزي إلى الشافعي ودليل الجمهور أنه قد وقع ولا مانع عنه في الحكمة وذلك في نسخ صوم عاشوراء برمضان واستدل المانع بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم
قال والنسخ إلى الأثقل ليس بيسير ولا تخفيف وأجيب بأنه قد وقع ذلك فيتعين حمل الآية على أن المراد باليسر والتخفيف في الشريعة من أصلها فإنها الحنيفية السمحة السهلة الخالية عن الأغلال والآصار وإن وقع فيها نسخ أخف بأثقل فإنه لا ينافي اليسر والتخفيف في الجملة
قوله ... ونسخ ما يتلى بدون الحكم ... والعكس أو كليهما عن علم ...
هذه مسألة نسخ التلاوة دون الحكم والعكس نسخ الحكم دون التلاوة أو الكل فهي ثلاث صور كلها في الكتاب العزيز وفي كل سورة خلاف والحق مع الجمهور كما في النظم لوقوعه في الثلاثة الأقسام
أما الأول فكحديث عمر الذي رواه الشافعي وغيره لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما

البتة فإنا قد قرأناها وروي عن غيره من الصحابة فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم
وأما الثاني فآية الصدقة عند النجوى وآية اعتداد الحول فإنه قد نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
وأما الثالث فما رواه مسلم عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي فيما يقرأ من القرآن وهذا صريح بأنها قرآن كما أن قول عمر قرأناها صريح في القرآنية وما قيل من أن شرط القرآن التواتر وهذه المثل بها آحادية فلا يتم أنه من نسخ القرآن إذ القرآن هو المتواتر فقد أجيب عنه بأن شرطية التواتر فيما أثبت الدفتين وأما المنسوخ فلا نسلم ذلك بأن المقصود فيما ذكرناه ثبوت النسخ لما كان قرآنا لا ثبوت قرآنيته بذلك ولا يخفى ضعف الجواب الآخر وبالجملة فعلى قاعدة الجمهور يضعف الاستدلال على نسخ القرآن تلاوة سواء كان حكمه باق أم لا لعدم تقر قرآنية ما جهلوه دليلا ومثالا ... وينسخ الأصل مع المفهوم ... موافقا والأصل في العلوم ... بدونه وعكسه فيما علا ... فحوى الخطاب فاتبع نهج الهدى ...
هذا بيان لما وقع في الخلاف من نسخ المفهوم للموافقة بقسميه أعني الفحوى والمساوي ولا خلاف عند العلماء أنه يجوز نسخ الأصل والمفهوم معا

وهو ما أفاده قوله وينسخ الأصل من المفهوم موافقا إنما اختلفوا هل يجوز نسخ الأصل مع بقاء المفهوم كنسخ التأفيف بدون الضرب وعكسه أو يفصل في ذلك فيه أقوال
المنع مطلقا وهو قول الأكثر
الجواز مطلقا
ونسخ الأصل بدون المفهوم لا العكس وهذا هو الثالث
الرابع أنه يجوز نسخ الأصل بدون الفحوى في الأولى وألا يكون أولى ففيهما أي جواز النسخ في كل واحد من الأصل ولفحوى ما بقاء الآخر وهذا مذهب الإمام يحيى والحفيد والشيخ أحمد الرصاص
الخامس الجواز في الفحوى مع بقاء الأصل لا الأصل مع بقاء الفحوى إلا بدليل آخر وهذا اختيار الفقيه عبدالله بن زيد المدحجي قالوا والدليل على ذلك أن ارتفاع التحريم في الضرب يلزم منه ارتفاع التحريم في التأفيف بطريق الأولى فلا يجوز رفع التحريم في الضرب دون التأفيف لمخالفة ما هو الأولى وهو قطعي الدلالة ولغير هذا القول أدلة لا تخلو عن المناقشة وهذا في مفهوم الموافقة
وأما مفهوم المخالفة فالمختار جواز النسخ كل منهما لأن تبعيته للأصل من حيث دلالة اللفظ عليه معه لا من حيث ذاته فإذا زال الأصل لموجب

لم نسلم زوال المفهوم وإلا لزم ذلك في مفهوم الموافقة وهو خلاف ما قرر آنفا ولا فرق بينهما إلا بأن ذلك الحكم أقوى في الدلالة من حيث التلازم ولكن مجرد القوي لا يسقط الأضعف وهو دلالة مفهوم المخالفة عند معتبريه
مثال نسخ المفهوم مع بقاء أصله حديث إنما الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه وهو أنه لا غسل عند عدم الإنزال حديث إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ومثال نسخهما معا أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم بعد مضي إمكان الفعل يقال لا زكاة في السائمة ولا المعلوفة ومثال نسخ الأصل دون المفهوم أن يقال في الغنم السائمة زكاة ثم يرد النسخ بأنه لا زكاة في السائمة فمن قال بأنه يكون نسخا للمفهوم يقول قد بطل الأصل الذي تفرع على دلالته المفهوم فيبطل المفهوم ومن منع من ذلك يقول بل دليل المفهوم باق لم يزل من حيث الدلالة اللفظية ولكن مفهوم النسخ إذا عارض مفهوم المنسوخ كان من تعارض الدليلين إذا وجد مرجح عمل بالأرجح ففي المثال المذكور يرجح مفهوم الأصل المنسوخ للبراءة الأصلية لأنه يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة ومفهوم النسخ يدل على أن فيها زكاة ومن يرجح الناقل عن الأصل قال بالعكس هذا في نسخ المفهوم فأما النسخ به فقيل لا ينسخ به لضعف دلالة

المفهوم فلا يقوى على نسخ الأصل وهذا الذي اختاره في جمع الجوامع ... ولا يجوز قبل إمكان العمل ... نسخ لما كان خلافا للأقل ...
هذه مسألة النسخ قبل الإمكان من مشاهير مسائل الخلاف بين ذوي الاتقان وذلك كأن يأتي من الشارح أمر بفعل شيء ثم ينسخه قبل دخول وقته أو بعده ولم يمض منه ما يتسع للعمل بما أمر به فرأى الجمهور من العلماء كالزيدية والمعتزلة والحنابلة وأكثر الحنفية أنه لا يجوز واستدلوا بأنه لو جاز النسخ قبل تمكن المكلف من العمل للزم أن يكون مأمورا بالفعل في الوقت الذي عينه الشارع منهيا عن فعله فيه وأنه جمع بين النقيضين وهكذا إذا رفع قبل الوقت المعين أو كان المأمور به مطلقا ثم نسخ قبل التمكن من فعله بأن لا يمضي عليه ما يتسع للعمل من الوقت المطلق فإنه يلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وقال آخرون وهو الأقل يجوز النسخ قبل إمكان العمل ودليل جوازه وقوعه فمن ذلك قصة الخليل أمر بذبح ولده كما دل له قوله افعل ما تؤمر وبإقدامه على ذلك ثم نسخ بقوله وفديناه بذبح عظيم قبل التمكن واحتمال أن الوقت موسع حتى يكون النسخ بعد التمكن ينافي حالات الرسل من المبادرة إلى امتثال ما أمروا به
ومن ذلك نسخ فرض الصلاة من خمسين إلى خمسة كما دل له حديث الاسراء وذلك من النسخ قبل التمكن قطعا
وأجيب عن قصة الخليل بأنها ليست من محل النزاع لأن فيما حكاه الله تعالى أنه شاور ولده في ذلك وذلك يقتضي أنه قد مضى وقت يتمكن فيه من الفعل وهو عمل يسير إمرار المحدد على النحر
وأجيب عن حديث فرضية الصلاة بأنه ظاهر في جواز النسخ قبل بلوغ الحكم إلى المكلفين ولا قائل بذلك فيتيعن تأويله على كل حال

وللعلماء تأويلات لا تخلو عن القدح وأحسن ما قيل إنه لا يعد هذا من النسخ إذ ذلك وقع بشفاعته صلى الله عليه و سلم وسؤاله من ربه التخفيف عن أمته
وبالجملة فقد تقرر أنه لا نسخ قبل البلاغ فلا بد من حمله على ما يخلص به الإشكال وإلا كان من المتشابه يجب الإيمان به ونسكت عن الخوض عنه ... وينسخ المزيد بالزيادة ... إن كان لا يجزىء في العباده ... بدونها والنقص باتفاق ... نسخ لما ينقض لا للباقي ...
هما مسألتان الأولى أن يرد دليل يقتضي الزيادة على ما كان قد استقر به التكليف الشرعي وذلك إن كانت الزيادة مغيرة للحكم المزيد عليه ومانعة لأجزائه بدونها كما قال إن كان لا يجزىء فضمير يجزىء عائد للمزيد عليه وذلك بأن تكون غير مستقلة بل جزءا مما زيدت عليه كزيادة ركعة في صلاة الفجر وزيادة التغريب على الجلد وزيادة العدد في الجلد الذي كان قد تقرر أو زيادة شرط كوصف الإيمان في الرقبة فهذه الزيادة قد غيرت حكم الأصل الذي زيدت عليه من الأجزاء فيكون نسخا وهذا رأي جماعة ومنهم من فرق بين الأمثلة فقال إن كان تغييرها بحيث يصير الأول كالعدم فنسخ وذلك كزيادة ركعة في الفجر فإن الركعتين المزيد عليهما لا تصح بعد الزيادة ويجب إعادتها إذا اقتصر عليها وإن لم تغير ذلك التغيير فلا يكون نسخا مثل زيادة العدد في الجلد والتغريب فإن الثمانين مثال من حق الزاني لو اقتصر عليها لا تصير كالعدم بل يعتد بها وإنما يحتاج إلى تكميل العشرين وكذا في التغريب لا يحتاج إلى إعادة الجلد إن اقتصر عليه وغايته أنه اصطلاح

وأنه مبني على أن الإجزاء حكم شرعي فإن المراد بالزيادة هي ما رفع الإجزاء وفي الإجزاء خلاف بين أئمة الأصول منهم من يجعله حكما شرعيا ومنهم من يجعله حكما عدليا فمن جعله شرعيا كانت الزيادة نسخا وإلا فلا
الثانية في النقص وهو إما أن يكون جزءا من المنقوص كركعة أو ركوع أو شرطا كالطهارة فلا خوف وهذا هوالذي أفاده النظم حيث قال والنقص باتفاق نسخ لما ينقص
وقوله لا للباقي هذه فيها أقوال
الأول للجمهور وهو الذي في النظم أنه ليس بنسخ سواء كان جزءا وشرطا متصلا أو منفصلا ودليلهم أنه لو كان الباقي منسوخا لافتقر وجوبه إلى دليل لأن الفرض أنه قد صار منسوخا عند المخالف ولا يفتقر إلى دليل بالإجماع وفي المسألة أقوال واستدلال غير ناهض من أحب معرفتها تطلبها من الفواصل
واعلم أن فائدة الخلاف في كون الزيادة أو النقص نسخا قبول الخبر الآحادي إذا ورد على النص المعلوم من جعلها نسخا لم يقبله ومن جعلها من باب التخصيص أو التقييد قبله ولذا لم تعمل الحنفية بأحاديث وردت بزيادة على النص المعلوم أو نقص لهذه القاعدة من ذلك قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية ثم ورد أنه صلى الله عليه و سلم قضى بالشاهد واليمين كما ثبت عند مسلم وأبي داود وغيرهما ومثل زيادة التغريب على الجلد كما في الصحيحين البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وغير ذلك ... وقال في الأصل بلا نزاع ... يمنع في القياس والإجماع

هما مسألتان
الأولى أنه لا ينسخ القياس والإجماع وإن عدم نسخهما إجماع وهذا الإجماع نقله القرشي في العقد وتبعه المهدي في أصل النظم ولما كان دعوى عدم نسخهما فيه خلاف أشار إليه الناظم بنسبته دعوى الإجماع إلى الأصل بقوله وقال في الأصل فالأولى كون الإجماع لا ينسخ فإنه خالف فيه أبو الحسين الطبري وأبو عبدالله البصري واحتج الجمهور بأنه لا يتصور نسخ بالاجماع لأن الناسخ له إما أن يكون قطعيا فيلزم انعقاد الاجتماع المنسوج على الخطأ وهو لا يجوز فلا يصح وجود دليل قطعي مخالف للإجماع سواء كان من الكتاب أو من السنة وإما أن يكون ظنيا فالظني لا يعارض الإجماع القطعي وإما أن يكون إجماعا فإما أن يكون لا عن دليل فهو خطأ ولا يصح وقوعه للعصمة أو عن دليل لزم خطأ أحد الإجماعين وحينئذ فلا يصح نسخ أحد الإجماعين بشيء على كل تقدير
قالوا وأيضا فالإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كما عرف من رسمه ولا يتصور بعده صلى الله عليه و سلم وجود الناسخ من كتاب ولا سنة ولم يأت المجيز بما يتم به مدعاه
الثانية مما تضمنه النظم أنه لا ينسخ القياس وهذا قول الجمهور ودليلهم هو أن من شرط القياس لا يظهر له معارض فإذا ظهر ما يعارضه من

نص أو إجماع أو قياس أقوى منه بطل العمل به فلا نسخ وكذا إذا كان مساويا فإنه يلزم إطراح القياسين معا وعلى كل تقدير لا يتحقق النسخ للقياس وأجيب بأنكم إن أردتم ببطلان القياس عند ظهور المعارض بمعنى أن الحكم الاول الثابت عنه خطأ لا يثاب عليه المجتهد بل هو كالحكم لا عن دليل فهذا ممنوع فإنه ليس على المجتهد إلا ما أداه إليه اجتهاده وإن أردتم ببطلانه أنه لم يبق دليلا شرعيا يجب العمل به عند ظهور المعارض فهذا الذي نعني بنسخه
قالوا وأيضا لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يثبت نسخ الآحاد بالآحاد إذ من شرط العمل بها ألا يظهر معارض لها فنقل ما ذكرتم إلى هنا وأنتم لا تقولون به فلم ينهض دليل الجمهور على المنع
هذا الكلام في كون الإجماع والقياس لا ينسخان ولأئمة الأصول نزاع في نسخ الحكم بهما إليه أشار قوله ... كما هما لا ينسخان حكما ... قال بذا من يرتضيه علما ...
أي كما لا ينسخان في أنفسهما بشيء من الأدلة كما عرفته آنفا كذا لا ينسخان حكما شرعيا وهذا هو رأي الجمهور كما أشار إليه قوله قال بهذا من نرتضيه علما وهو منصوب على التمييز فهنا مقامان
الأول أنه لا ينسخ بالإجماع ودليله يؤخذ مما سلف في كونه لا ينسخ قالوا وإذا وجد إجماع قد نسخ حكما فالناسخ سنده والتحقيق ما عرفته من أنه لا إجماع في عصره صلى الله عليه و سلم فلا يكون حجة وبعد وفاته صلى الله عليه و سلم لا تنسخ الأحكام الثابتة
المقام الثاني النسخ بالقياس فيه أقوال الجمهور على أنه لا ينسخ به وتقدم دليلهم وتقدم أيضا أنه يصح نسخه لقياس مثله لا لغيره من الأحكام

الثابتة بغير القياس قال البرماوي إن أرجح المذاهب هذا وهو نسخ القياس للقياس لا بغيره ونقل عن الشافعي وعن جماعة من أئمة الشافعية وقد مثل في المطولات بمسائل فرضيات تشغل الأوراق ولم يأت بها تكليف بالاتفاق
وقوله ... والنسخ بالآحاد للتواتر ... يمنع والعلم به للناظر ...
هذه مسألة عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد سواء كان المتواتر قرآنا أو سنة فإنه لا يجوز نسخه بالآحاد وهذا هو قول الجمهور وهو مفاد النظم تصريحا استدلوا على ذلك بأن الظني وهو الآحادي لا يقاوم القطعي فلا يجوز رفعه وإبطاله به وخالف آخرون وأجابوا عما ذكر بأنه قد صح تخصيص المتواتر بالآحاد والكل بيان غاية الفرق بينهما أنه بيان في الأعيان والنسخ بيان في الأزمان وهذا الفرق لا يقتضي العمل به في أحدهما دون الآخر
وأجيب من طرف الأولين بأن التخصيص جمع بين الدليلين والنسخ رفع وإبطال وليس جمعا بين الدليلين فاكتفى بالأول بالآحاد دون الآخر فلا بد فيه من المساواة في قوة الدلالة وأجيب بأن دليل المنسوخ وإن كان قطعي الدلالة فإنه ليس قطعيا في الدوام ظني الدكالة فيه تجوز الدوام بالظني ولو كان دوامه قطعيا لما جاز نسخه بالقطعي إذا عرفت هذا فورود الناسخ بيان لانتهاء مدة الحكم الشرعي وإن سمي رفعا فليس هناك رفع حقيقي كما سبقت إليه إشارة وحينئذ فلا يتم الفرق الذي ذكرتم والحاصل أن العام مراد به البعض من أفراده دون الكل منها وورد الخاص قرينة تلك الإرادة وكذا المنسوخ من باب المطلق الذي أريد به المقيد والنسخ قرينة التقييد لأن قوله افعل يصلح للمرة ولأكثر من ذلك إلى أخر الأبد والناسخ قيده ببعض الأوقات وأيضا فالعمل بالناسخ جمع بين الدليلين للعمل بأحدهما في الزمن الأول وبالثاني في الزمن الآخر وبهذا يعرف قوة قول غير الأكثرين وهو جواز نسخ المتواتر بالآحاد كجواز تخصيص العام بها

وأما قوله والعلم به للناظر فإنه إشارة إلى الأطراف التي بها يعرف الناسخ من المنسوخ فالعلم مبتدأ والضمير في به للناسخ والخبر محذوف أي ثابت بما فصله قوله ... إما بنص من نبي الرحمة ... أو من ذوي الإجماع خير أمة ...
وهذه هي مسألة بماذا يعرف الناسخ من المنسوخ فهو يعرف بوجوه إما بنص عن النبي صلى الله عليه و سلم كأن يقول هذا الحكم منسوخ أو في معناه كقوله تعالى الآن خفف الله عنكم الآية ومثل قوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور الحديث كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي الحديث وإما بنص عن أهل الإجماع أو ما في معناه سواء كان إجماع الأمة أو إجماع العترة وإنما القصر على الأمة مثال وقد مثل في المطولات بأمثلة فرضية فهذا شيئان مما يعرف به الناسخ ... أو كان عن أمارة قوية ... كقول راو صادق الرويه ... هذا الأخير أو أتت قرينة ... قوية تقضي بما يرونه ... مثل غزاة فبهذا يعمل ... في غير قطعي على ما أصلوا ...
هذا ثالث الأمارات وهو معرفته بأمارة قوية وقد مثلها بقول الراوي هذا آخر الآمرين كما في حديث جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان ومنه حديث علي رضي الله عنه عند مسلم وأبي داود

كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالقيام للجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمر بالجلوس
ورابعها قوله أو أتت قرينة قوية ومثله بقوله مثل غزاة وذلك كأن يقول الراوي هذه الآية نزلت في غزوة حنين مثلا وهذا الحكم نزل في غزوة خيبر وهذا في فتح مكة ونحو ذلك فيعلم المتأخر
ولما اختلف العلماء في أخبار الصحابي بما يشعر بالتأخر هل ينسخ به المعلوم والمظنون أو المظنون لا غير أشار الناظم إليه بقوله في غير قطعي على ما أصلوا أي أنه لا يعمل به إلا في الظني دون القطعي هذا فيما إذا كان الدليلان قطعيين وإن ما أخبر الصحابي بأن أحدهما كان في غزاة كذا وهذا هو قول جماعة من أئمة الأصول قالوا لأن خبره أفاد ظن التأخر والنسخ مترتب على شرطية ذلك فإذا عملنا بقوله لزم رفع المقطوع بالمظنون وهو لا يجوز وقيل بل يجوز رفع القطعي يقول الراوي هذا في غزاة كذا قالوا لأن الفرض أنه قد تعارض قطعيان الناسخ والمنسوخ فلا بد أن يكون أحدهما ناسخ للآخر لما تقرر من أنه لا يجوز تعارض القواطع فقد علم بهذا التقرير
وتكون لديه ملكة لاستخراج الأحكام عن أدلتها كما يأتي في وقوله ظنا لإخراج أخذ الحكم القطعي من الأدلة القطعية فليس ذلك باجتهاد في الاصطلاح
وقوله لحكم الشرع عن دليله لإخراج الحكم العقلي
وبين المراد بالفقيه في الرسم وأن المراد به المجتهد إذا قد طرأ عليه

عرف أخرجه عن معناه بقوله ... وهو الذي يمكن أن يستخرجا ... أحكام شرع ربه مستنتجا ... لها من الادلة المفصلة ... وعنده معرفة مكملة ...
أي أن الفقيه المراد به من يمكنه استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية وقد عرفت من رسم أصول الفقه التفرقة بين الأدلة المجملة والمفصلة
وقوله الذي يمكن يراد به من عنده ملكة وقدرة يستخرج بها الحكم من الدليل وإن لم يحصل منه ذلك فليس الاجتهاد هو استخراج الأحكام الشرعية بالفعل فلا يرد الإشكال المعروف أنه لا يحيط الفقيه بالأحكام الشرعية ولذا ثبت لا أدري عن أئمة مجتهدين لأن المراد في الحال ولو بحثت لاستخرجت الحكم المسؤول عنه وتقدم هذا
وقوله أحكام شرع ربه لإخراج الأحكام العقلية والحسية ولما قدم قوله ظنا لحكم الشرع استغنى عن تقييد الأحكام بالفرعية لأنها الظنية
وقوله عنده معرفة إلى آخره بيان لما هو شرط لحصول إمكان الاستخراج وأنه لا يتمكن منه إلا من له معرفة بما ذكر من قوله ... جامعة للنحو والأصول ... والذكر ثم سنة الرسول ...
فالفقيه الموصوف هو من جمع معرفة النحو والأصول والقرآن والسنة
الأول معرفة النحو بأقسامه من إعراب وتصريف لأن خطاب الشارع عربي يترتب معرفة معانيه على معرفة تراكيبه ولا ريب أن كثيرا منها لا تتم معرفة معناه إلا بمعرفة إعرابه ويكفي من ذلك معرفة مقدمة ابن الحاجب وأحد شروحها للذكي ومقدمته في التصريف أو أخصر منها ففيها ما يستغنى عنه

وأما علم البيان فهو غير ضروري في الاستخراج نعم هو مما يزيد الناظر قوة في استخراج المعاني
وأما المنطق فلا حاجة إليه بل هو مما تذهب بقراءته الأوقات ولا يرى من يعرفه ينتفع به إلا كالفاكهة يتفكه بها وإلا فلا دخل له في الاجتهاد ولكن تعمق الأصوليون بجعله في أول مؤلفاتهم البسيطة كابن الحاجب ومن تبعه فاعموا بصائر الناظرين وظنوا أنه لا يتم لهم معرفة أصول الفقه إلا بتلك الأساطير الباطلة والأقوال التي هي عن حلية الكتاب والسنة عاطلة بل هي لهما مخالفة ومشايلة وفيها عقارب للساعة لقواعد الإسلام وقاتلة لأشرف الأحكام وأول من سن لهم هذه السنة الغزالي فإنه أول من أودعه كتابه في أصول الفقه وقال لا يوثق بعلم من لم يتمنطق وليس كما قال لكنه توسع فيه فظن أنه يفتح به عن مغلق العلوم الأقفال وقد رد كلامه العلماء من المحققين والفحول من أساطين أئمة الدين
والثاني أصول الفقه وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استخراج الظن بالأحكام الشرعية أو العلم بها ولا ريب أن التبحر فيه ومعرفة قواعده وخوافيه بها يتمكن من الاجتهاد وهي عمدته عند النقاد
والثالث معرفة كتاب الله تعالى قالوا والمراد معرفة آيات الأحكام وحصروا ذلك في خمسمائة آية قلت ولا دليل على حصرها وكل القرآن وآياته دالة على الأحكام فالأولى أن يقال المراد من معرفة الكتاب إمكان استحضار ما يدل على ما يراد من جزيئات الاستخراج فيرجع إليه عند ذلك وليس بمحصور في معين من الأعداد
الرابع معرفة السنة النبوية وهي بحر لا تنزفه الدلاء ولا تحيط به العلماء ولذا روي عن الشافعي أنه قال علمان تتعذر الإحاطة بهما علم السنة وعلم اللغة وأقرب ما يقال تكفي الأمهات الست المعروفة وقد جمع متونها ابن الأثير في جامع الأصول فإنه لا يكاد حكم من الأحكام تخلو عن دليله وقد اعتنى العلماء بها أي بهذه الكتب الستة وتكلموا على رواتها وعلى

معانيها ولغتها فهي مرجع للمجتهد وأما من قال إنه يكفي سنن أبي داود ونحوه فقصور وتقصير وتساهل كثير وقال بعض الأئمة يكفي المجتهد من علم السنة تلخيص الحبير لابن حجر قلت من يريد الاجتهاد فيما ينوبه ويتعلق بتكاليفه فنعم يكفيه ذلك ومن يريد الفتوى والتصدي للتدريس وغيره فلا يكفيه ثم هذ مبني على أن قبول تصحيح الأئمة وتضعيفهم للرواة اجتهاد لأنه من باب قول أخبار الآحاد وقد ألفنا رسالة في هذا وهي المسماة إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد فيها تحقيق بالغ وبيان لسهولة الاجتهاد قوله ... وما عليه العلماء أجمعوا ... هذا ونختار ولسنا نقطع ...
عطف على قوله للنحو إلى آخره أي وجامعة لمعرفة مسائل الإجماع حتى لا تخفاه مواقعه حتى يحصل له الظن أن الذي قاله غير مخالف لما أجمع عليه العلماء وصرح به في الفصول وهذا هو أهون الشروط إذ قد قدمنا لك أنه لا يتحقق الإجماع إلا في الضروريات وقد ألف فيها جماعة من الأئمة كابن حزم وابن هبيرة والريمي
واعلم أنه قد دخل شرط معرفة الرواة جرحا وتعديلا في معرفة السنة وقال في الحاوي رابعها العلم بأحوال الرواة ونقلة الأحاديث ومن يكون منهم مقبولا ومن يكن غير مقوبلا فلا بد من العلم بذلك ليكون متمكنا من ترجيح الأخبار بعضها على بعض ويعرف طرق الإسناد وهذا أمر مهم لأن الوسائط قد كثرت وخاصة في هذه الأزمنة فلا بد من معرفة صحيحها وفاسدها وقويها وضعيفها ومقدار ما يعرف من ذلك أن يعرف كون الراوي عدلا ضابطا ولا يلزم أن يكون محيطا بسيرهم وأحوالهم وأخبارهم وأنسابهم بل يكفي ما ذكرنا قال نعم لا يمتنع في زمننا لكثرة الوسائط وتطاول الأزمنة أن يكون العلم بأحوال الرواة متعذرا وإذا كان الأمر كما قلنا دار التعويل في ذلك على نقله الحديث والاكتفاء بتعديلهم كالبخاري ومسلم

والترمذي وغيرهم من شيوخ الحديث فإن الظن يغلب بصدق ما نقلوه فلهذا جاز التعويل عليه انتهى
وقد قدمنا لك أنا قد أوضحنا ذلك في رسالتنا إرشاد النقاد قبل معرفة كلام الحاوي بأعوام وأما المهدي فقال في مقدمة الحبر بأنه لا يشترط في معرفة الرواة جرحا وتعديلا ومثله في الفصول قال لأن قبول المراسيل قد استلزم سقوط ذلك قلت لا يخفى ضعف هذا القول بل بطلانه ثم اعلم أنه ليس كل من حوى ما ذكر من شرائط الاجتهاد يتأتى منه استنباط الأحكام بل ذلك موهبة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده وإلا فكم من عالم بالنحو يدرس في فنونه لايقيم لسانه ولا يمكنه تطبيق مسألة على القواعد وبينا ذلك في الرسالة المذكورة نعم قوله ونختار ولسنا نقطع هو متعلق بقوله ... بأنه يجوز عند العقل ... بالاجتهاد حكم خير الرسل ... لا بالوقوع فالخلاف فيه ... والحق لا يخفى على النبيه ...
الإشارة إلى مسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم هل يجوز عقلا أم لا وهل وقع حكمه به أم لا فهما مسألتان
أم جوازه عقلا لا على جهة القطع كما قال ولسنا نقطع فقال الجمهور إنه يجوز عقلا أن يؤذن له صلى الله عليه و سلم أن يأخذ الحكم من الأمارات الشرعية ويكون مخبرا عن الله تعالى بالنظر إلى اعتقاده ولا مانع عنه
والمسألة الثانية أنه لا خلاف في وقوع الاجتهادات منه في الحرب والآراء إنما الخلاف في وقوع الاجتهاد منه في الأحكام الشرعية
فقال الجمهور إنه واقع منه ذلك واستدلوا على الوقوع بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وبقوله صلى الله عليه و سلم

لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وغير ذلك مما دل أنه ليس عن وحي
وأجيب بأن الآية الأولى من غير محل النزاع فإنه فيما يتعلق بالحروب والآراء وكأمره بترك تأبير النخل وأما الحديث فقال تطييبا لقلوب أصحابه لما تكلموا عن الفسخ حين أمرهم به وكان مخيرا بين سوق الهدي وحجه قارنا وعدم سوقه ويفسخ فساقه فلزمه القران فما كرهوا أن يخالف نسكهم نسكه أخبرهم بأنه لو عرف أنهم يكرهون خلاف ما هو عليه لما ساق الهدي وأنه كان مخيرا بين سوقه وعدمه
وذهب قوم إلى أنه لا يقع منه اجتهاد ومستدلين بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحي وبقوله إن أتبع إلا ما يوحى إلي وغير ذلك فدل على أن جميع أحكامه عن الوحي وفي السنة أدلة كثيرة دالة على هذا وقد كان يسأل صلى الله عليه و سلم فلا يجيب حتى يأتيه الوحي كما في قصة الأعرابي الذي سأله ما يصنع في عمرته وغير ذلك مما هو كثير جدا وينشرح له الصدر ويعلم به قوة خلاف ما ذهب إليه الجمهور ولذا قلنا والحق لا يخفى على النبيه على أن ثمرة الخلاف قليلة جدا لأنه صلى الله عليه و سلم واجب علينا اتباعه والانقياد لما حكم به قالوا سواء كان عن اجتهاد أو وحي فلا يتم الإيمان إلا بذلك كما هو نص قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله وغير ذلك
ولما تعرض لمسألة اجتهاده صلى الله عليه و سلم تعرضنا لمسألة اجتهاد أصحابه في عصره بقولنا ... والاجتهاد واقع في حضرته ... وغيرها من فائز بصحبته ...
البيت قد أفاد أنه قد وقع الاجتهاد من أصحابه في الأحكام الشرعية من الحاضر في بلدته صلى الله عليه و سلم بغير إذنه ومن الغائب ومن الوالي

وغيره وهذا هو قول الجمهور من العلماء مستدلين بأنه لو لم يجز كما قيل لم يقع لكنه وقع فكان جائزا وهذا دليل على الجواز والوقوع
أما في حضرته بغير إذنه فاتفاقيات قضايا عمر وهي مشهورة معروفة وأقرها صلى الله عليه و سلم بل ونزل في كثير منها آيات محققة مقررة لما قاله وهي قصص معروفة ومنه حديث أبي قتاده في يوم حنين واجتهاد أبي بكر وهي قصته معروفة ومن ذلك تحكيمه صلى الله عليه و سلم لسعد بن معاذ في بني قريظة وكان في حضرته صلى الله عليه و سلم وإذنه
وأما اجتهادهم في غير حضرته فقصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وصلاته بأصحابه جنبا وأقره صلى الله عليه و سلم والقضايا في ذلك واسعة ومن ذلك قصة أمير المؤمنين علي عليه السلام في اجتهاده في أهل الزبية وإقراره صلى الله عليه و سلم له ومن ذلك قوله وقد بعثه في قصة الحاضر يرى ما لا يرى الغائب
وبالجملة من عرف السنة والسيرة لا يتردد في ضرورة وقوع ذلك وإن من خالف فلا دليل له ناهض ... قالوا وفي المسائل القطعيه ... الحق مع فرد من البريه ...
أي قال علماء الأصول المسائل تنقسم إلى قطعية وهي قسمان قطعية عقلية كحدوث العالم ووجود الصانع وإثبات مطلق صفاته

العلية كالحياة والعلم والقدرة فهذه لا يتوقف إثباتها على السمع والحق فيها مع واحد والمخالف فيها كافر إن اقتضى خلافه إنكار الصانع وتكذيب الرسل
وقطعية سمعية وهي إما معلومة من ضرورة الدين كأركان الإسلام الخمسة وهذه المخالف فيها كافر لأنه يلزم من ذلك تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم لما علم من ضرورة الدين وقد نقل عن الجاحظ أنه لا إثم في القطعيات على المجتهد وحكوا ذلك على جهة التعميم يعني ولو كان كافرا ونقلوا عن العنبري أنه قال ذلك وزاد أنه مصيب ولو كان كافرا
وقال أبو العباس ابن تيمية في منهاج السنة وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكي عن عبدالله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي عليه هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية لا الفرعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره وقالوا هذا القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين لا في مسائل علمية ولا عملية
قالوا والفروق بين مسائل الأصول والفروع كما لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع فهي كلها باطلة عقلا ولم يفرقوا بفرق صحيح بين

النوعين بل ذكروا فروقا ثلاثة أو أربعة فمنها أن المسائل الأصولية هي التي يطلب فيها الاعتقاد والعلم فقط ومسائل الفروع وهي العملية التي يطلب فيها العمل وهذا باطل فإن المسائل الفروعية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم لرمضان وكثير من المسائل العلمية لا يأثم المتنازعون فيها كالتنازع في مسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك فليس فيها تكفير ولا تفسيق ولا تأثيم
قالوا والمسائل العملية فيها علم وعمل فإذا كان الخطأ فيها مغفورا فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا ومن الفروق بينهما أن الأصولية ما عليها دليل قطعي والفروعية ما ليس كذلك وهذا ظاهر البطلان فإن كثيرا من المسائل الفرعية عليها أدلة قطعية بالإجماع كتحريم المحرمات
قال ومن الأدلة عدم التأثيم قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا قال الله تعالى قد فعلت ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني بل لا يجزم خطأ إلا إذا أخطأ قطعا قالوا فالقول بالتأتيه في المسائل القطعية مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم قالوا وأيضا فكون المسألة ظنية أو قطعية أمر إضافي بحسب النظر ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء صارت عنده ضرورية إما بالنقل أو بغيره وغيره لا يعرف شيئا من ذلك لا ظنا ولا قطعا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك يعرف الحق ويقطع بما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن حينئذ بحسب ما يفهمه الإنسان وبحسب قدرته على الاستدلال والناس مختلفون في هذا وهذا فعلم أن الفرق لا يطرد ولا ينعكس انتهى
وإنما نقلناه ليعلم أن الصواب عدم التأثيم في القطعيات أيضا لمجتهد من أئمة الإسلام فإن الحكم بالتأثيم يحتاج إلى دليل شرعي والفرض أن الحق مع واحد فتأثيم معينة لا من الدليل عليه على فرض التأثيم وإلا فالأدلة

قاضية بخلاف ذلك ولذا قال الناظم قالوا فنسبه إلى من قال ذلك إذا عرفت فهذا كلامهم في المسائل القطعية
وأشار إلى كلامهم في الظنية بقوله ... وقد حكوا فيما أتت ظنية ... رواية عن أكثر الزيدية ... بأن كلا منهم مصيب ... فما على مجتهد تثريب ...
هذه المسألة المشهورة بين الفقهاء بأن كل مجتهد مصيب أي في ظنيات المسائل وإليه ذهب أكثر الزيدية وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة وفيها خلاف
واعلم أنه لا خلاف أن المجتهد غير آثم على كل من القولين كما أفاده قوله فما على مجتهد تثريب أي ملام إنما القائل بالتخطئة يقول في المجتهدين من له أجران ومنهم من له أجر ولكنه لا يعلم إلا بإعلام الله ولا سبيل إليه بعد طي بساط الوحي والمصوبة تقول كل مجتهد له أجران وأنه لا يخطىء ولا فائدة للخلاف إذ كل يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده
وتحرير محل النزاع أن معنى مصيب من إصابة السهم الغرض لا من الصواب الذي هو ضد الخطأ فما أدى إليه نظرا لمجتهد فهو حكم الله الواقع ولا حكم له تعالى في المسألة معين فهو نظير الواجب المخير فالمطلوب من المجتهد أحد الأحكام الخمسة لا على جهة التعيين فما ظنه المجتهد فهو حكم الله وما ظنه الآخر فهو حكم الله وهذا معنى قولهم إن حكم الله تابع لنظر المجتهد ولا ذهب الفريق الآخر إلى أن الحق مع واحد وغيره مخطىء خطأ معفو عنه فليس كل مجتهد مصيب ومن إصابة السهم الغرض بل مصيب من الصواب الذي هو ضد الخطأ أي مصيب ما طلب منه وإن كان خطأ بالنسبة إلى حكم الله وما في نفس الأمر
استدل الأولون بادلة عقلية ومقاولات جدلية وبأدلة سمعية نقتصر على

ذكرها قالوا قال تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فدلت الآية على أن القطع وعدمه حكم الله وإلا لما كان بإذن الله قال المهدي وهو أقوى ما يستدل به من السمع
قلت ولا يخفى أن الآية ليست من محل النزاع في ورود ولا صدور لأنه تعالى أخبر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى أخر فيها أن الذي وقع من القطع وعدمه كان بإذن الله ولا شك أنه تعالى قد أذن في الاجتهاد فهو إعلام بأن هذا الاجتهاد الذي وقع من كل بنقيض اجتهاد الآخر كله بإذنه لأنه أذن لكم في الاجتهاد فأين الدلالة في هذا على أنهم أصابوا يوما في نفس الأمر بل الآية دليل أن المجتهد مأذون له في الاجتهاد وإن خايت ما في نفس الأمر بيانه أنه أخبر تعالى عن كونه أذن في الأمرين النقيضين ومعلوم أنهما ليسا هما الحق في نفس الأمر بل ليس فيه إلا حكم واحد والحق في أحدهما ضرورة أنه لا ثالث وقد أصيب ضرورة أنه قد قال كل فريق بأحدهما فدل على أن المجتهد المخطىء مأذون له وإن أخطأ
قالوا قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فدلت على أنه تعالى أعطى كل واحد منهما علما وحكما وما أعطاه من الحكم هو عين الصواب وهو المطلوب
وأجيب بأنا لا نسلم أن الحكم والعلم الذي آتاهما الله كان في عين ذلك الحكم المعين الذي هو محل النزاع كما يرشد إليه تخصيص سليمان بتفهيم الله إياه فإنه يدل على ما نريده وهو أن ما وقع من سليمان هو حكم الله تعالى وإلا لما كان له فائدة

قالوا قد استفاضت السنة النبوية بتصويب المجتهد وعدم التخطئة كما قدمناه في صلاة العصر في غزوة بني قريظة واختلاف اجتهادهم في ذلك وإن منهم من صلاها بعد غروب الشمس ومنهم من صلاها في وقتها وأقرهم صلى الله عليه و سلم ولو كان أحدهما مخطئا لعنفوا وبين المصيبة بالثناء عليهم والقضايا في ذلك واسعة في السنة
وأجيب بأن المخطىء عن اجتهاد لا يعاب ولا يذم والثناء على من أصاب الحكم ليس بلازم فعدمه لا يدل على ما ذكرتم بل قد قال صلى الله عليه و سلم لعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب قال سمعت الله تعالى يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فلم يقل له بشيء بعد بيان دليل اجتهاده نعم لو كان الفاعل غير مجتهد للامه صلى الله عليه و سلم ألا تراه قال في صابح الشجة لما أفتاه أصحابه بأن يغتسل فمات قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال وغايته عدم ذم إحدى الطائفتين لا يدل على أنهما أصابا ما عند الله بل المخطئة منهم مأجورة أجرا واحدا وهي معينة عند الله تعالى
واستدل الفريق الآخر القائلون بالتخطئة بأدلة عقلية جدلية وأدلة سمعية نقتصر أيضا عليها قالوا السنة النبوية قد جاءت صريحة بالتخطئة فوجب الحكم بذلك من ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث بريدة مرفوعا إذا حاصرت قوما فلا تنزلهم على حكم الله بل أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أو لا وهذا صريح في المدعي ومن ذلك ما أخرجه الجماعة من حديث عمرو بن العاص إذا اجتهد الحاكم فأصاب

فله أجران وإن اجتهد فاخطأ فله أجر ومن ذلك حديث سعد بن معاذ وقوله صلى الله عليه و سلم لقد حكمت بحكم الله وهو حديث صحيح ومنه حديث سنن أبي داود أن رجلين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولا ماء عندهما فتيمما وصليا ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال صلى الله عليه و سلم للذي أعاد لك الأجر مرتين يدل على أنه الذي أصاب لحديث من اجتهد الخ ويحتمل أنه أريد بالمرتين هنا أجر الصلاتين
وقد أجيب عن الأحاديث بما ليس بدافع
قالوا حديث بريدة أحادي والمطلوب في المسألة القطع قلنا لا نسلم بل الظهور والأدلة فيه واضحة قالو وحديث إذا اجتهد الحاكم في غيرمحل النزاع إذ هو في المسائل التي يستنبط الحكم فيها من الإمارات الشرعية والخصومات ليست من ذلك إذ الحق فيها متعين في الخارج فيمكن فيها إصابته وخطأه وقد جعل الشارع أمارات وأدلة في الخصومات ليس على الحاكم إلا العمل بها على الاعتبار الذي أمر به الشارع من عدالة الشهود وغير ذلك مما هو معروف ولذا قال صلى الله عليه و سلم في هذا المقام فإنما أقطع له قطعة من نار ورد هذا بأن الحديث ظاهر في الحاكم فيما اشتمل على الخصومات لتصريحه بلفظه ولكن لا مانع من التعميم بل هو الظاهر يعني الحاكم في الخصومات أو في مسائل الاجتهاد فيصلح دليلا للمدعي وينتهض الاستدلال وقوله صلى الله عليه و سلم فإنما أقطع له قطعة من النار دليل لنا لأنه معلوم أنه لا يحكم صلى الله عليه و سلم إلا بعد اعتبار ما جعله الشارع من الأمارات والأدلة ومع هذا فأخبر أنه قد يكون باطلا في نفس الأمر وإن الأخذ له أخذ قطعة من نار

قالوا وحديث سعد بن معاذ وكونه حكم بحكم الله لا يدل على أن خلافه خطأ بل نحن نقول حكم بحكم الله وكل من حكم على القول بالتصويب فهو حكم الله ودفع بأنه سيق للتنويه بشأن حكم سعد ولو كان كل من حكم فهو حكم الله لخلا الحديث عن الفائدة وكل ما يشوشوا في وجه الأدلة السمعية لا ينهض على دفعها
قالت المخطئة ثبت عن الصحابة التخطئة وشاع وذاع من دون نكير فكان إجماعا من ذلك قول أبي بكر في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان رواه أبو داود وغيره ولو كان الحق غير معين لما أخطأه ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن طريق مسروق قال كنت كاتبا لعمر بن الخطاب فكتبت هذا ما أراه الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فانتهره عمر وقال اكتب هذا ما رآه عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر ومن ذلك قصة المجهضة مع عمر وأنه أرسل لها عمر فضربها الطلق في الطريق خوفا من عمر فمات ولدها فاستشار عمر الصحابة فأشاروا عليه بأنه ليس عليك شيء إنما أنت مؤدب فقال عمر ما تقول يا علي فقال علي إن كانوا قالوا برأيهم فقد اخطأوا وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوك الحديث هو معروف فأثبت التخطئة في محضر الصحابة ولم ينكروا وعدوا من هذا وقائع اتفقت وفتاوى خطأ الصحابة فيها بعضهم بعضا لا حاجة إلى سردها في الأصول بعد معرفة المدعى
قلت تواردت كلمة أئمة الأصول فيما رأيناه على هذا الاستدلال

وعندي أنه ليس من محل النزاع في ورود ولا صدور وذلك أن الكلام ومحل النزاع في خطأ المجتهد لما هو عند الله وفي نفس الأمر ولا يعلم ما عنده تعالى إلا بإعلام رسوله صلى الله عليه و سلم ضرورة أنه علم غيب فالتخطئة من الصحابة لبعضهم ليست مما نحن فيه وإنما مراد القائل لغيره فيما أفتى به هذا خطأ أي في نظري أو باعتبار ما يقوى من الأمارات والأدلة لنا وربما كان ما قالوا إنه خطأ هو الحق عند الله وفي نفس الأمر فما هو مما نحن فيه وإن أريد أن في حكمهم بتخطئة البعض وتصويب الآخر دليلا على أن في الاجتهاد تصويبا وتخطئة وإلا لما نسب بعضهم إلى بعض الخطأ فلا يتم أيضا لأنه يحتمل في قضية المجهضة مثلا أن عليا رضي الله عنه خطأ البعض لكونه لم يوف الاجتهاد حقه بل هذا متعين لأنه لا يعرف ما في نفس الأمر ضرورة ولأنه أيضا قال وإن كانوا قالوا في هواك فدل على أنه متردد في كونهم قالوا في المسألة بنظر وهذا واضح والله أعلم والحق في المسألة مع القائلين بالتخطئة كما لا يعزب عن الناظر في الأدلة التي سقناها ... قالوا ولا يلزمه التكرار ... فيما مضى فيه له اختيار ... ولازم عن ناسخ الأحكام ... والخاص عند جلة الأعلام ...
هذه مسألة هل يلزم المجتهد تكرار النظر في المسألة إذا كان قد سبق له اجتهاد في حادثة وتقرر لديه حكمها وهو ذاكر لحكمه فيها وإن لم يكن مستحضرا لدليله الذي وقع به اجتهاده أم لا
قال الجمهور لا يلزمه ذكر للدليل وقال آخرون يلزمه إذ مجرد ذكره للاجتهاد من دون دليله لا يفيد لغلبة تغير الاجتهادات إذ قد يظهر له عند إعادته النظر ما لم يظهر له فيما سبق وأجيب بمنع غلبة تغيرالاجتهادات ومجرد احتمال التغير لا يوجب الإعادة وتكرار النظر وإلا لزمه تكراره مع ذكر للدليل لاحتمال التغيير ولا قائل به وخلاصته أن مناط صحة الاجتهاد هو ظن أرجحية الحكم عنده فما دام الحكم مظنونا فاحتمال خلافه مرجوح ولا يعتبر وأما إذا زال الظن باجتهاده فهو كمن لم ينظر في المسألة فيجب إعادة النظر وكذا إذا تجدد له ما يقوي الرجوع عن الحكم الأول لأنه إن عمل

بظنه الأول مع ما تجدد كان عاملا بظن مرجوح وأما مسألة البحث عن الناسخ والخاص فتقدم عنه البحث في النسخ وفي العام والخاص ... هذا ولا يجوز أن يقلدا ... مجتهدا محققا وإن غدا ... أعلم أو من صحبة المختار ... أو خصه الحكم على المختار ...
إشارة إلى الخلاف في جواز تقليد المجتهد لغيره من المجتهدين قبل أن ينظر في الدليل لا بعده فيأتي وفي ذلك للعلماء أقوال
الأول عدم الجواز وإن كان أعلم منه وهو الذي في النظم وهو رأي الجمهور وذلك لأنه قد صار مخاطبا بالنظر فيما يحصل له فظن الحكم لتأهله له وكماله فيه فكيف يعدل عنه إلى ظن غيره ويعرض عما أنعم الله به عليه من تأهله لأخذ الأحكام عن وهل هذا إلامن كفر النعمة والأعراض عن المنة وهذا باب دخله أكثر أئمة العلم فكم من إمام من ائمة المذاهب يقطع الناظر في آثارهم أنهم أعلم ممن قلدوه وأكثر اطلاعا وأوسع باعا وأعظم دراية ورواية تراه مقلدا لأحد الأربعة يستخرج لكلامه الدليل ويسعى فيما ضعف من أقواله في ترميم التأويل ويسمي نفسه أو يسميه أهل مذهبه مجتهد المذهب كأن المذهب في نفسه شارع له أدلة وأنه متعبد بمتابعته ويسمون من قلده أي مجتهد المذهب وهو الشافعي مثلا بالمجتهد المطلق وقد بسطنا هذا في سبل السلام في كتاب القضاء
ومسألة الكتاب فيها اقوال سبعة للعلماء
الثاني منها أنه إذا كان المجتهد صحابيا وله قول في المسألة جاز للمجتهد تقليده لحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وأجيب بأنه حديث ضعيف بالاتفاق وعلى تقدير صحته فإن الاقتداء غير التقليد كما حققناه في ما تقدم في بحث كون قول الشيخين حجة وأيضا لو قلنا إنه التقليد لكان في حق من يجوز له وقوله أو خصه إشارة إلى

أحد الأقوال في المسألة وهو أنه يجوز له التقليد فيما يخصه لا في ما يفتي به قالوا لأن السائل إنما يسأله عما عنده فإذا أفتاه بقول غيره كان غاشا له فهذه الأقوال التي حواه النظم وبقية الأقوال لم يقو لنا شيء منها ولم نرتض غير ما قاله الجمهور وهو ما نظمناه ودليله قوله تعالى فاتقوا الله ماستطعتم والمجتهد مستيطع لتحصيله الظن من الدليل فلا يجوز له العدول إلى غيره لأنه كالعدول إلى التيمم مع إمكان الماء وهو لا يجوز وأما أدلة المجيزين فتأتي في أدلة جواز التقليد
وأما بعد نظر المجتهد في المسألة أشار إليه قوله بقوله ... وبعد أن ينظر لا يقلد ... بالاتفاق ثم من يجتهد ...
وذلك أنه بعد النظر وحصول الظن عن الدليل قد صار مجتهدا والمجتهد يحرم عليه التقليد لما عرفته وهو اتفاق وقوله ثم من يجتهد مبتدأ خبره قوله ... يلزمه الترجيح للدلائل ... والأخذ بالراجح في المسائل ...
هذا بيان لحكم المجتهد وأنه يجب عليه أخذه بالراجح في ظنه ويأتي الترجيح وبيان كيفيته وطرقه في باب مستقل هو الباب العاشر هذا إن ظهر له الراجح فإن خفي عليه وحصل التعارض بين الأدلة في نظره ففي النظم إشارة إلى ثلاثة أقوال للعلماء وهو قوله ... فإن خفي الراجح قيل خيرا ... وقيل بل يتبع فيه الأكثرا ... علما وقيل بل بحكم العقل ...
الأول أنه مخير بينها يأخذ بأيها شاء وهو قول طائفة من العلماء ودليله أن كل واحد يصلح مستندا للحكم بحيث لو انفرد تعين العمل به فكونه عارضه ما يماثله فهو كتعدد الأمارات يعمل بأيها شاء إذ العمل بأحدها تحكم ورد بأن ثبوت التخيير حكم شرعي لا بد من الدليل عليه ومجرد التعارض لا يقتضيه شرعا ولا لغة ولا عقلا بل الدليل قائم على امتناعه

وهو أنه لو أفتى المجتهد زيدا بالحل وعمروا بالحرمة ولا مقتضي للتخير سوى التعارض لكان إفتاء بالتشهي وهو لا يجوز لما تقرر أن الأحكام مبنية على الحكمة والمصلحة على الرأيين
القول الثاني وهو قوله وقيل بل يتبع فيه الأكثر علما وهو قول بعض العلماء قالوا يطرح ما وقع فيه التعارض ويرجع إلى تقليد الأعلم كما أنه جاز له قبل النظر تقليده كما سلف فهنا بعد نظره بالأولى لأنه قبل النظر يرجو أنه إذا نظر وجد الراجح وأما بعد النظر فقد ذهب الرجاء فكان تقليده هنا بالأولى ورد بأنه تقدم أنه ليس له تقليد غيره أصلا
الثالث أنه يرجح إلى حكم العقل لعدم صحة الدليل الناقل عنه مع التعارض والمسألة في التعارض تأتي مبسوطة في باب الترجيح ... ولم يصح عند أهل النقل ... قولان قد تعارضا ... في وقت فإن أتى أول عمن يأتي ...
يريد به أنه لم يصح عند العلماء قولان لعالم تعارضا في وقت واحد فإن أتى من عالم قولان متعارضان في مسألة واحدة وكذا في مسألتين تشابهتا فلا بد من حمله على وقتين تجدد له في كل حادثة نظر إذا عرف المتأخر منهما كان العمل عليه وإن لم يعرف فإن أمكن الفرق في المسألتين المتشابهتين صح وقوع القولين وإلا أول ذلك بما يصح وقد روي عن الشافعي أنه قال في سبع عشرة مسألة قولين وحمل على ذلك على وجهين إما على أنه مبني على التخيير أو قال كل قول في وقت فيكون الثاني رجوعا عن الأول إن علم أولهما أو أراد أن فيهما للعلماء قولين أو تحتمل المسألة قولين يصح أن يقول

كل مجتهد بواحد منهما وكذلك أحمد بن حنبل ترى أتباعه يقولون له في المسألة قولان أو ثلاثة وهذا يدل على كمال معرفة العالم وعلى منصبه في الدين والعلم أما العلم فلأن من كان أغوص فكرا وأدق نظرا وأكثر إحاطة بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات لديه أكثر وأما المقتصر على الوجه الواحد طول عمره فحيث لا تردد له ولا إعادة نظر فإنه يدل على قصوره في العلم وأما الدين لأنه لما لم يظهر له وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بترويج ما قاله أولا ويداهن في الدين ... ويعرف المذهب بالنص على ... معين أو بعموم شملا ...
هذا بيان ما يعرف به مذهب العالم وهو بأحد أمرين إما بنصه على أن حكم هذه المسألة عندي كذا نحو الوتر عندي سنة ولا أراه واجبا أو يأتي بلفظ عام تدخل تحته أفراد فحكمها حكمه كأن يقول كل مكيل فإنه يجري عندي فيه الربا فيعلم شموله لكل مكيل ... أو أنه نص على المماثلة ... لتلك أو علة حكم شامله ...
أو يعرف مذهبه بنصه على أن هذه المسألة مثل المسألة الفلانية كأن يقول مثلا الشفعة تثبت عندي لجار الدكان فيعرف ثبوتها عنده لجار الدار لعدم الفارق بين المتماثلين أو ينص على علة الحكم الشاملة لغير ما نص عليه كأن يقول يحرم التفاضل والنسا في البر لاتفاق الجنس والتقدير فإنه يعرف أن رأيه في الشعير والذرة وأمثالهما تحريم التفاضل والنسا فيها
وقول الناظم أو علة حكم أي أو نص على علة الحكم ظاهره أنه لا يدخل أخذ علة الحكم من تنبيه النص أو إيمائه وقد صرح المهدي عليه

السلام بذلك قال لأنه يجوز أن المجتهد ممن يفرق بين المسألتين ولا يجوز مثل هذا في إيماء النص وتنبيهه في الكتاب والسنة لانتفاء ذلك التجويز بخلافه إذا نص على العلة فإنه يكون الإلحاق ظاهرا في كلام المجتهد ولأنه ما صار الإلحاق بهما في كلام الشارع إلا لقيام الدليل على أن مقتضى الحكمة والبلاغة في كلامه يبعد أن يخلو عن الفائدة ويصان عن اللاغية بخلاف كلام المجتهد فليس هناك ما يبعد عنه مع عدم الاعتبار لهما في عبارته فلذا قالوا يجوز الإلحاق مع نصه على العلة لا مع إيمائه وتنبيهه وهذا إذا عرف أن رأيه عدم تخصيص العلة فأما إذا عرف أنه يرى جواز تخصيصها فقد أشار إليه قوله ... وإن رأى جواز تخصيص العلل ...
أي فإنه أيضا لا يمنع من الإلحاق بما نص عليه من الحكم بعلته قال بهذا الأكثر واستدلوا بأن الأغلب على أقوال المجتهدين عدم التخصيص في العلل فيحمل كلامه على الأغلب ولا يحتاج إلى البحث هل يختص هذا النظير الذي يريد أن يلحقه بما نص عليه بل يلحقه بناء على الأغلب وكذا قالوا لا يبحث عن المخصص في عموم كلام المجتهد لقلة التخصيص فيه بخلاف كلام الشارع فيبحث عن تخصيص عموماته لكثرته فيه فوجب البحث
واعلم أن هذه الطرق الأربع التي ذكرت فيما يعرف به مذهب المجتهد تسمى ما عدا الأول بالتخاريج والوجوه على مذهبه قال الجمهور إنه يجوز سلوكها وتضاف إلىالمجتهد بشرط التصريح بأنها أخذت تخريجا من كلامه أو أخذ ذلك من عموم نصه أو من نصه على نظير المسألة وقد منع أئمة من المحققين العمل بذلك
وقد أشبع القول في بطلانها الإمام القاسم بن محمد رحمه الله في كتابة الإرشاد وزيفها قال وبلغنا عن بعض العلماء أنه كان يقول هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج ليس بقول للذي خرج على قوله ولا قول للذي خرجه من كلام المجتهد فحينئذ نقول هذا القول لا قائل به فكيف تجري عليه

الديانات والمعاملات وهذه ورطة تورط فيها الفقهاء برمتهم وكلامه طويل في ذلك
قلت وقد بينا في حواشي ضوء النهار أنه قد تقرر أن المخرج ليس بمجتهد والأخذ بتخريجه تقليد له ولا يجوز تقليد غير المجتهد بصريح نصهم فيحرم العمل بها وقد استدل للقائلين بجواز العمل بالتخاريج لأنه قد أطبق عليه الفقهاء في كل عصر من غير نكير فكان إجماعا وأجيب بان الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم كما عرف في رسمه وهؤلاء الفقهاء ليسوا بمجتهدين بنصكم وبأنه لو سلم فهو إجماع سكوتي لا يقبل في هذه المسألة قالوا كما جاز أخذ الأحكام عن خطاب الشارع فليجز من كلام المجتهدين قلنا قد علم يقينا أن خطاب الشارع كله حق ودليل وأما كلام العالم الذي تطرقه الغفلة والنسيان والذهول عن لوازم كلامه فلا ولهذا تقرر عند المحققين أن لازم المذهب ليس بمذهب وقد بسطنا ذلك في رسالة منع التكفير بالتأويل وفي سبل السلام إليه إشارة نافعة ثم لهم شرط في المخرج على المذهب معروف ذكره المهدي في مقدمة الأزهار ... ثم عليه واجب إن انتقل ... إخباره بأنه عنه رجع ... فلا يتابعه على ما قد وقع ...
الضمير في عليه للمجتهد أي يجب عليه إذا رجع عن حكمه في مسألة وتجدد له خلاف ما قد أعلم من قلده أن يخبره برجوعه لئلا يتابعه على ما قد وقع منه أولا فيعمل غير مستند فيه إليه وسواء قد عمل به أو لا نحو أن يكون رأيه أن مسافة القصر بريد وقد سافر المقلد وقصر ثم رأى أنها ثلاثة أيام فإنه يجب إخباره له بذلك لئلا يبني على الأول أو لم يفعله كما لو لم يسافر وسواء كانت له ثمرة مستدامة كالصلاة أولا لا كالحج فإنه يجب عليه إعلامه وإن كان قد حج فإنه قد يحج في عام آخر وقد رجع عن رأيه الأول
نعم والمسألة متفرعة على مسألة أخرى وهي هل الاجتهاد الأول بمنزلة الحكم أولا فمن قال بالأول لم يكن للإعلام ثمرة ومن قال بالثاني قال

أقسام الكتاب
1 2 3