كتاب : أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
المؤلف : محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
كتاب أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على رسول الأمين وعلى آله المطهرين وبعد فهذا شرح لطيف على منظومة الكافل المسماة بغية الآمل وقد كان شرحها تلميذنا العلامة المحقق إسماعيل بن محمد بن إسحاق قدس الله روحه في الجنة شرحا نفيسا بسيطا وكان ما كتبه عرضه على شيخه الناظم فليحق به ما يراه ويضرب على ما لا يحتاج إليه من لفظه أو معناه حتى كمل شرحا بديعا سماه الفواصل شرح بغية الآمل إلا أنه طال واتسع فيه مجال المقام فطلب مني بعد وفاته بعض طلبة العلم اختصاره والإتيان بأقوى أدلة المسألة وتوضيح العبارة والاقتصار على الأدلة المختارة والأقوال المرتضاة عند المهرة النظارة فأجبت إلى ذلك مستمدا للهداية والإعانة من الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وسميته إجابة السائل شرح بغية الآمل قال الناظم ... قال فقير ربه محمد ... أعانه الله على ما يقصد ... أحمد حمدا يكون شاملا ... وبالأصول والفروع كافلا
هذا هو مقول القول والحمد هو الثناء بالجميل الاختياري وحمدا مصدر تأكيدي وبوصفه عاد نوعيا والشامل من شمله الشيء إذا عمه أي شاملا لأنواع الحمد وأنواع المحمود عليه والشامل اسم كتاب في الأصول للإمام يحيى وفي ذكر الأصول والفروع والكافل براعة الاستهلال مع التورية ... وأستزيد المنتهى من عنده ... والمجتبى من فضله لعبده ...
استزاد طلب الزيادة لما حمد مولاه طلب الزيادة من نعمائه ومنتهى الشيء غايته وفضل الله لا غاية له ولا انتهاء وهو أيضا اسم لكتاب الآمدي في الأصول ففيه تورية والمجتبى بالجيم واجتباه إذا اختاره ومن فضله يتنازع فيه المنتهى والمجتبى وهو اسم كتاب في الأصول أيضا والحديث للنسائي ففيه ما في الذي قبله من التورية ... ثم صلاة الله تغشى المصطفى ... وآله سفن النجاة الحنفا
عطف الدعاء لرسول الله صلى الله عليه و سلم على حمده لربه عطف اسميه على فعليه وتغشى من غشية الشيء شمله وعمه ومنه والليل إذا يغشى والمصطفى من اصطفاه اختاره وهو من أوصافه صلى الله عليه و سلم التي اشتهر بها حتى إذ أطلقت لا يتبادر سواه والآل على المختار هم من حرمت عليهم الزكاة كما فسرهم بذلك زيد بن أرقم كما في رواية مسلم وسفن النجاة اقتباس من حديث أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس والحنفاء جمع حنيف كشهداء في شهيد وهو المائل واشتهر في المائل إلى الدين المحمدي لقوله صلى الله عليه وآله
وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ولم يأت بالسلام مع الصلاة هنا لأنه يأتي به في آخر النظم وهو كلام واحد ... وبعد فالكافل في الأصول ... مختصر قد خص بالقبول ...
أي بعد الحمد والصلاة حذف المضاف إليه وبنى بعد على الضم لما عرف في النحو
والكافل هو تأليف العلامة محمد بن يحيى بهران رحمه الله تعالى تلقاه الناس بالقبول وشرحه جماعة من العلماء ودرسوا فيه لما أفاده قوله ... لأنه مهذب موضح ... محرر محقق منقح
ومن هذبه نقاه وأخلصه وأصلحه كما في القاموس وموضح من وضح الأمر يضح وضوحا بان وظهر وتحرير الكتاب وغيره تقويمه والمحقق من الكلام الرصين ومنقح من نقح الشيء هذبه وكان طلب نظمه مني بعض الطلبة أيام قراءته علي ... وقد نظمت ما حوى معناه ... نظما يلذ للذي يقراه ...
قوله معناه إعلام بأن ألفاظه لم ينظمها وقد يتفق نظم بعضها ... لأن حفظ النظم في الكلام ... أسرع ما يعلق بالأفهام ...
تعليل لنظمه فإنه لا ريب أن حفظ النظم أسرع من حفظ النثر ولذا فإن العلماء لا يزالون ينظمون كتب العلم من نحو وفقه وعلوم القراءات وعلوم مصطلح أهل الحديث وغيرها حتى السير النبوية كالهمزية ... وأسأل الله به أن ينفعا ... لأنه بأصله قد نفعا ...
كما قررناه من أنه رزق القبول عند العلماء ... واستمد اللطف والهداية ... بمبتدا ذلك والنهاية ...
اللطف بضم اللام لغة الرأفة والرفق وعبر به هنا عما يقع به صلاح العبد والهداية دلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب وقيل سلوك طريق توصل إلى المطلوب نسأل الله أن يوصلنا بهدايته ورحمته إلى سواء السبيل وأن يخلص الأعمال لوجهه الكريم من كل دقيق وجليل
وأعلم أنه استحسن العلماء رحمهم الله قبل خوضهم في مقاصد ما يؤلفونه من المؤلفات في أي فن من فنون العلم تقديم مقدمة يذكر فيها ثلاثة أشياء
تعريف الفن وموضوعه وغايته قالوا لأن الشرع في الفن بوجه الخبرة وفرط الرغبة يتوقف عليها كما قاله السعد في التهذيب وقد وقع الاقتصار في المنظومة صريحا على تعريف العلم تبعا لاقتصار الأصل المنظوم ... فأول الكلام فيما ينظم ... حد أصول الفقه فهو الأقدم ...
أول مبتدأ خبره قوله حد أصول الفقه قوله فهو الأقدم تعليل لأوليته في النظم قاضية بأولويته فيه وإنما كان الحد أولى بالتقديم مما بعده لأنه بحد العلم يحصل تميزه عما عداه فيعرف الطالب حقيقة مطلوبه من أول الأمر ولأن بمعرفته يعرف موضوع العلم وغايته لأنه إذا قيل إنه علم باحث عن أحوال كذا من حيث إنه يفيد كذا علم الموضوع والغاية من ذلك بالاستلزام وسنذكرهما آخرا مفسرين وإذا عرفت أن الحد أول ما ينظم ... فالحد علم بأصول وصلة ... بها لإخراج عن الأدلة ... أحكامنا الشرعية الفرعية ... وقيدت تلك بتفصيلية ...
اعلم أنه لا بد للحد من محدود فقوله الحد التعريف فيه عهدي أي حد أصول الفقه لتقدمه ذكرا وهذا هو المحدود ومعناه فحد أصول الفقه وقد ذكر في الكتب الأصولية أن أصول الفقه لقب لهذا الفن وكلامنا الآن في حده اللقبي وهو منقول عن مركب إضافي وقد تكلم العلماء في مبسوطات الفن على تعريف كل واحد من جزئيه باعتبار الإضافة والأهم هنا معرفة معناه اللقبي إذ هو المدون له الكتاب
واعلم أن التعريف يشتمل في الغالب على جنس وفصول فقوله علم جنس الحد والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق الثابت وهذا هو معناه الأخص
وقد يقال على ما يشمل الظن وكثيرا ما يستعمله الفقهاء في هذا الأخير وهو معناه الأعم والمراد به هنا ما يشمل المعنيين جميعا أي الاعتقاد الجازم الخ والظن فقط فإن كان لفظ العلم مشتركا بينهما فاستعمال المشترك في معنييه وإن كان مهجورا في التعاريف فالمقام هنا مشعر بالمراد فتزول به الجهالة وإن كان ليس بمشترك كما أفاده في المواقف فإنه قال إن
تسمية الظن علما وجعله مندرجا فيه كما ذهب إليه الحكماء مخالف لاستعمال اللغة والعرف والشرع فقد قيل عليه إنه لا مانع من إطلاقه عليه مجازا والتعريف بالمجاز المشهور قد أجازوه
فإن قلت فيحمل هنا العلم على معناه الأول وهو الذي يسمونه الأخص قلت يمنع عن حمله هنا عليه أنه قد تقرر أن من قواعد هذا الفن ما هو ظني وقد أوضحناه في رسالة مستقلة ويأتي التنبيه عليه في مواضع فلا تغتر بقولهم مسائل أصول الفقه قطعية وقد أشار في الفصول إلى هذا فقال بعد تعريفه لأصول الفقه بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخر ما هنا لفظه وقيل العلم بها أو الظن فأشار بقوله أو الظن إلى أن قواعد أصول الفقه ما هو ظني وأراد بلفظ العلم في عبارته المعنى الأخص فلذا عطف عليه الظن وقد استشكل الشيخ لطف الله في شرحه عليه عطفه الظن
عليه ولا وجه لاستشكاله كما عرفت
وقوله بأصول جمع أصل وهو لغة ما يبنى عليه غيره وترادفه القاعدة وعرفوها بأنها قضية كلية تعرف أحكام جزيئات موضوعها نحو قولك هنا الأمر للوجوب مثلا فإنه يدخل تحته جزيئات تعرف منه أحكامها نحو أقم الصلاة وآت الزكاة وحج البيت وغير ذلك هذا ولما كانت الأصول ترادف القواعد وقد عرفه ابن الحاجب بقوله العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى آخره وقوله هناك وصلة بها لإخراج هو صفة لقوله بأصول أي يتوصل بها إلى إخراج الأحكام الخمسة الآتية عن أدلتها كما ستعرفه فالباء سببية واللام في لإخراج بمعنى إلى مثلها في قوله تعالى سقناه لبلد ميت كل يجري لأجل وحذف فاعل لإخراج للعلم به إذ فاعل المصدر يجوز حذفه أي إخراج الأصول أو المجتهد
وقوله عن الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فبها أي الأصول أو القواعد يخرج المجتهد الأحكام عن هذه الأدلة والأحكام المراد بها الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة وما يتعلق بها والتعريف فيها وفي الأدلة للعهد الخارجي لأنها معلومة بين أهل الأصول فلا يتوهم أن في التعريف جهالة
وقوله أحكامنا مفعول المصدر جمع حكم وعرفوه بأنه القضايا والنسب
التامة نحو قولنا الحج واجب فخرجت التصورات وقوله لإخراج أولى من قولهم لاستخراج ولاستنباط لما عرف أن السين للطلب غالبا والمراد هنا الإخراج نفسه لا طلبه وبهذا القيد خرج علم العربية بأقسامه وعلم الكلام فإن قوله بها أي بسببها المراد به السبب القريب فإنها أي الباء ظاهرة فيه وإضافة التوصل إلى غير أصول الفقه مما هو سبب بعيد لأنه يتوصل به لكن بالواسطة وعبر ابن الإمام في الغاية بقوله الموصلة لذاتها الخ لئلا يرد أنه قد يتوصل بغيرها من قواعد العربية والكلام لأنهما من مبادىء علم الأصول لكن التوصل بهما لإخراج الأحكام ليس لذاتها فإن علم العربية ونحوه وإن كان يتوصل به إلى إخراج الأحكام لكنه توصل بعيد إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولتها الوضعية وبواسطة ذلك يتوصل بها إلى إخراج الأحكام وأما علم الكلام فإنه يتوصل بقواعده إلى ثبوت الكتاب والسنة وصدقهما وبه يتوصل إلى ذلك
وقوله الشرعية يخرج به العلم بالأحكام العقلية كقبح الظلم وحسن العدل
وقوله الفرعية تخرج الشرعية غير الفرعية من الأحكام الشرعية الأصلية
وقوله وقيدت تلك أي الأدلة بتفصيلية بيان للواقع لا إنه لإخراج الأدلة الإجمالية ككون الكتاب حجة فإنه لا يستنبط منه حكم حتى يحتاج إلى إخراجه ولا خلل في زيادة قيد في الحد للإيضاح والبيان فإن مثله واقع في التعريفات مع أنه ينبغي أن يعلم أن هذه الحدود إنما هي من التعريفات
وليست بحدود حقيقية وسيأتي بيان الفرق بين الأمرين في آخر الكتاب حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى وفي قوله وقيدت إشارة إلى عدم الحاجة إلى التقييد وفي شرح المحلي أنه قيد بتفصيلية لإخراج اعتقاد المقلد فإنه لا يسمى علما
واعلم ان هذا التعريف لأصول الفقه مأخوذ من تعريف ابن الحاجب بمختصره المنتهى ومبني على أن أصول الفقه هو العلم بالقواعد ومن الأصوليين من جعله القواعد بنفسها وقد ذكر في الفصول التعريفين معا وقدم الثاني وحكى الأول بقيل قال الشيخ لطف الله في شرحه وكأنه اختار الأول أي في عبارته وهو القواعد لما قيل من أنه أرجح لوجوه
أحدها أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من بيانية تلك القواعد وإن لم يعرفه الشخص
وثانيها أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم ويقولون هذا كتاب في أصول الفقه
وثالثها أن الأصول في اللغة الأدلة والقواعد أدلة للفقه إذ ينبني عليها فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي انتهى
وقال بعض المحققين العلامة المقبلي في نجاح الطالب الحق أن يقال
أن أصول الفقه ونحوه نفس القواعد فإن العلم المتعلق بها الحال بقلب زيد ليس هو حقيقة الأصول كما تقوله في سائر الحقائق فليس السيف العلم بالحديد المخصوص بل نفسه فعلى هذا لا يتحقق الوجود الخارجي لهذه الحقائق المحدودة كما هو شأن سائر الماهيات لكن هذه ليس لها جزء خارجي كما لماهية الفرس مثلا لأنها أشخاص ومسمى أصول الفقه مثلا مجموع قواعد بمنزلة مائة وألف وكون الأمر للوجوب والنهي للحصر مثلا كأفراد المائة والألف مثلا جزء لمسمى جزئي ذلك اللقب ومسمى اللقب الملتئم من أجزاء كلها عقلية عقلي انتهى وهو كلام حسن هذا
وأما حده مضافا في الاصطلاح فالأصل الدليل والفقه فيه العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وقد استفيد من القيود خروج العلم بغير الأحكام كالذوات والصفات والأحكام التي لم تؤخذ من الشرع بل من العقل كالعلم بأن العالم حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام النظرية الشرعية اعتقادية أو أصولية مثل الإيمان واجب والإجماع حجة أصولية وخرج بقوله عن أدلتها التفصيلية علم المقلد على القول بأنه يسمى علما وذلك لأن حرف الجر متعلق بمحذوف صفة للعلم أي العلم الحاصل عن الأدلة وعلمه غير حاصل عنها فلذا لا تسمى أقوال المفرعين المجردة عن الأدلة فقها كما حقق في محله
واعلم أنه قد سبقت إشارة إجمالية إلى موضوع هذا الفن وهو ان موضوعه الأدلة السمعية الكلية وهي ما عرفت الكتاب العزيز والسنة
النبوية والإجماع والقياس فعنها وقع بحثهم في هذا الفن من حيث دلالتها على الأحكام إما مطلقا أو من حيث تعارضها أو استنباطها منها وأما غايته فالعلم بأحكام الله تعالى وبها ينال الفوز في الدارين ... وانحصرت أبوابه في عشره ... تأتي على الترتيب في ماذكره ...
انحصار أبوابه في ذلك ليس بحاصر عقلي اقتضاه بل وقع التدوين كذلك تمييزا بين أبحاث أقسام الموضوع والضمير عائد إلى نظم الكافل لأن أبوابه كذلك وليس عائدا إلى العلم نفسه لأن الباب الأول المشتمل على الأحكام وتوابعها ليس من موضوع العلم فلا يصح عوده إليه إلا بنوع تأويل كالتغليب
الباب الأول في الأحكام الشرعية ... أولها أحكامنا الشرعية ... تتبعها توابع مرعية ...
هذا أول الأبواب والضمير لها والأحكام جمع حكم تقدم تفسيره آنفا وإضافتها إلينا لكوننا المأمورين بها وجمعها لأنها خمسة كما عرفت قريبا ووصفها بالشرعية لما مر ونسبت إلى الشرع لثبوتها به إما بنقله عن أصله أو بتقريره على أصله على حد لو نقل بدلا عن إمساكه لصح كما ورد المنع عن ذبح ما لا يحل أكله فإن الشرع هنا قرر ما في العقل بخلاف ما ورد به الشرع مطابقا للعقل مما يقضي العقل فيه بقضية لا يصح أن يغيرها الشرع كوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وقبح الظلم ونحو ذلك فإن هذا لا يسمى شرعيا وقوله تتبعها أي الأحكام توابع مرعية المراد ما يتبعها من الصحة والبطلان بل ومن تقسيم الواجب إلى مخير وموسع ونحوها فإن هذه توابع الأحكام والأصل في البحث هو الأحكام لذاتها وهذه أقسام وصفات لها ملاحظة بالتبعية
واعلم أن الأحكام لها نسبة إلى الحاكم وإلى ما فيه الحكم وهو الفعل فتسمى بالنظر إلى الأول إيجابا مثلا وتسمى إذا نسبت إلى الثاني وجوبا فهما متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا ومن هنا تراهم يجعلون أقسام الحكم الإيجاب والتحريم تارة والوجوب والحرمة أخرى كما وقع هنا وقد رسمت باعبتار صفة الحاكم وباعتبار متعلقاتها والناظم رسمها بالاعتبار الثاني موافقة لأصله
فقال ... وهي وجوب حرمة والندب ... كراهة إباحة يا ندب ...
في القاموس الندب الخفيف في الحاجة الظريف النجيب
ولا يخفى حسن الجناس ... وعرفوها بالتي تعيقت ... بها فخذ رسومها كما أتت ...
أي تعلقت بها قال في الأصل وتعرف بمتعلقاتها ... فما استحق الفاعل الثواب ... بفعله وتركه العقابا ... فواجب وعكسه الحرام ...
هذا هو تعريف الواجب والحرام كقوله فما استحق مبتدأ وكلمة ما موصولة و الجملة صلتها والعائد أغنى عنه تعريف الفاعل وأصله فاعله أو محذوف أي عليه وقوله فواجب خبره دخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولك تقديره فهو واجب والمراد بالفاعل المكلف والثواب الجزاء كما في القاموس والمراد به هنا ما وعد الله به عباده من الجزاء على فعل الواجبات على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم واستحقاق الفاعل له
بوعد من لا يخلف الميعاد بإثابته والمراد ما من شأنه أن يستحق عليه الثواب فيدخل فيه فرض الكفاية والمخير وبهذا القيد خرج الحرام والمكروه والمباح لأنها قد دخلت في قوله والحكم فإنه مقدر أي فالحكم الواجب ما استحق إلى آخره ضرورة أنه جنس للخمسة فهو مراد ولأن كلمة ما في قوله ما استحق بمعنى فعل أي فعل استحق فدخلت فيه وقوله وتركه العقابا هو من العطف على معمولي عاملين مختلفين على رأي الفراء وبفعله يتعلق بالثواب وهو مصدر يتعلق به الظرف وتركه معمول العقاب وتقديمه عليه جائز من باب فلما بلغ معه السعي وبهذا القيد خرج المندوب والمباح وبهما كان التعريف جامعا مانعا إن قلت كان يكفي استحقاق العقاب بتركه قلت زيادة قيد الثواب بفعله احتيج إليه ليتم الاختصار بقوله وعكسه الحرام ويعرف به المراد ولو حذف ما عرف المراد بالعكس وهو وجه إيراده في الأصل كذلك والناظم يعتمد عبارة ما نظمه فلا يرد أنه كان يكفي أن يقال الواجب ما استحق تاركه العقاب والحرام بالعكس على أن العبارة قد اشتملت على لطف المقابلة بين الفعل والترك والعقاب والثواب وفيها من الإشارة إلى الترغيب والترهيب ما يزيدها حسنا ولطفا ولأنه لا بد من ذكر ذلك في المندوب والمكروه والمباح فحسن الإتيان بهذا في الواجب والحرام ليكون الكل على منوال واحد والمراد بالعكس اللغوي أي ما يستحق الثواب بتركه والعقاب بفعله فهو الحرام فيخرج بالقيد الأول الواجب والمندوب وبالثاني المكروه والمباح والمراد أن من شأنه عقاب فاعله كما أن من شأن تارك الواجب عقابه فلا ينافيه جواز العفو فإن ذلك مقتض
للعقاب ما لم يمنع مانع العفو والتوبة والشفاعة واعلم أنه لا يشمل الحد التروك عند من يجعلها أفعالا ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
فائدة واعلم أن كل فعل طلب الشارع تركه أو ذم فاعله أو مقته أو لعنه أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله أو نفي الرضا به أو الرضا عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جاء له مانعا للهدى أو استعاذ الأنبياء عليهم السلام منه أو جعله سببا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل أو نسبه الله تعالى أو رسوله إلى عمل الشيطان أو تزيينه أو لعداوة الله أو محاربته أو الاستهزاء به أو سخريته أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو بضلالة أو بأنه ليس من الله في شيء أو بأنه ليس من الرسول صلى الله عليه و سلم أو أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر ان من فعله قيض الله له شيطانا فهو له قرين أو جعل فعله سببا لإزاغة قلب فاعله أو لصرفه عن آياته وفهم آلائه أو يسأل الله تعالى عن علة الفعل لم فعل تصدون عن سبيل الله من آمن لم تلبسون الحق بالباطل مامنعك أن تسجد فهذه كلها ونحوها تدل على المنع من الفعل ودلالتها على التحريم أظهر من دلالتها على الكراهة وأما نحو يكرهه الله ورسوله فدلالتها على التحريم أظهر فاكثر ما يستعمل في المحرم ... وبعده المندوب يا همام ...
الهمام كغراب العالي الهمه كما في القاموس والمندوب لغة المدعو إليه يقال ندبته لكذا فانتدب وأصله المندوب إليه فتوسع فيه بحذف حرف الجر فاستتر فيه الضمير ثم صار إسما لهذا القسم من الأحكام ورسموه بقوله ... ما يستحق الأجر فيه إن فعل
خرج به الحرام والمكروه والمباح وبقي الواجب أخرجه بقوله ... ولا عقاب إن يكن عنه غفل ...
فالمندوب ما استحق فاعله الثواب ولم يستحق تاركه العقاب
واعلم أن كل فعل عظمه الله تعالى أو رسوله أومدحه أومدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره أو لهدايته إياه أو لرضاه عنه أو لمغفرة ذنبه أو لتكفير سيئاته أولقبوله أو لنظره إليه أو لنصره أو وصفه بأنه قربة أو أقسم به أو بفاعله كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها وضحك الرب سبحانه من فاعله أو إعجابه به فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب
والرابع والخامس ما في قوله ... وعكسه المكروه والمباح ... ما فقدا فيه فلا جناح ...
فالرابع المكروه ما استحق تاركه الثواب ولم يستحق الفاعل عليه العقاب وهذا الذي يسميه الفقهاء بأنه مكروه تنزيها ويسمونه خلاف الأولى وأما المكروه كراهة حظر فإنه داخل في قسم الحرام وليس قسما
مستقلا والمراد بغفل عنه تركه عمدا فلا يتوهم من لفظ غفل أنه من لم يعلم به إذ الغافل لا يكلف بشيء من الأحكام والقرينة على الإرادة المقام فبالفصل الأول يخرج الواجب والمندوب والمباح وبالفصل الثاني الحرام والخامس المباح المرسوم بقوله ما فقدا فيه أي فعل فقد فيه الإثابة على فعله والعقاب على تركه ولذا قيل فلا جناح أي لا حرج على فاعله وتاركه وضمير فيه للمباح والمراد فقدا فيه فعلا وتركا
واعلم أنها تستفاد الإباحة من كلام الشارع من لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال نحو من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ونحوه من السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان إقرار الرب وإقرار رسوله صلى الله عليه و سلم فمن إقرار الرب حديث جابر كنا نعزل والقرآن ينزل ومن إقرار الرسول صلى الله عليه و سلم قول حسان لعمر كنت أنشد وفيه من هو خير منك
واعلم أن المراد من قوله ما استحق فاعله الخ أي ما صار حقا على فعله الإثابة وصار حقا على تركه العقوبة والحق عليه تعالى وهو وإن كان يوافق رأي المعتزلة لكنا قد أشرنا إلى توجيهه وكان الأوفى بمقام الأدب أن يقال الواجب ما وعدنا بالإثابة على فعله وتوعدنا بالعقاب على تركه وعكسه الحرام ولك أن تكتفي بما توعد على تركه وعكسه الحرام
هذا وقد أورد الجلال في النظام وسبقه إليه غيره بأنه دور فلا يعرف
الاستحقاق إلا بعد معرفة الوجوب ولا الوجوب إلا بعد معرفة الاستحقاق وأجيب بأن استحقاق الإثابة والعقاب يعرف بتعريف الشارع إما بنصه على ذلك وذلك يعرف باستقراء الأدلة وحينئذ فلا يتوقف معرفة الاستحقاق على معرفة الوجوب ثم إنه لو رسم الأمران بقوله في الأول الواجب ما أمر به الشارع والحرام ما نهى عنه مع تقريرهم أن الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي الخطر لكان رسما صحيحا سالما عما أورده على غيره ... والفرض والواجب قد ترادفا ... والناصر الاطروش فيه خالفا ...
الخلاف بين الجمهور والناصر والحنفية فذهب الأولون إلى ترادف اللفظين أي يتحدان معنى كاتحاد ليث وأسد وذهب الآخرون إلى أنهما متغايران فما كان دليله قطعيا سندا ودلالة سموه فرضا وما كان ظنيا سندا ودلالة أو أحدهما سموه واجبا وقد يستعملون أحدهما مكان الآخر وفي شرح المختصر إن الخلاف لفظي وقيل معنوي وإن تارك الفرض يفسق بخلاف تارك الواجب هذا وأما الحرام فإنه يرادفه المحظور ويسمى معصية وذنبا ومزجورا عنه ومتوعدا عليه ثم أشار إلى تقسيم الواجب إلى أقسامه فالقسمة الأولى هي المشار إليها بقوله ... وانقسم الواجب في الدرايه
بكسر الدال المهملة درى يدري أي علم ويستعمل لما فيه ضرب من الحيلة وهو يقابل الرواية عند إطلاقه ... إلى فروض العين والكفاية ...
انقسام الواجب له جهتان الأولى بالنظر إلى المحكوم عليه وهو المكلف فإن كان الفعل المطلوب من المكلف لا يسقطه عنه فعل مكلف آخر ففرض عين أو يسقطه ففرض كفاية فالأول كالصلاة والثاني كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعلم أن سنة الكفاية كفرضها قال في جمع الجوامع وسنة الكفاية كفرضها قال الزركشي هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية وعين والفرق بينهما أن سنة الكفاية يكون النظر فيها إلى الفعل من غير نظر إلى الفاعل كتشميت العاطس وابتداء السلام والأضحية في حق البيت الواحد والجهة الثانية أفادها قوله ... ثم إلى التعيين والتخيير ...
وهذا بالنظر إلى المحكوم فيه وهو الفعل فإنه إن كان المطلوب منه إيقاعه بعينه كالصلوات الخمس فمعين وإلا فمخير بين إفراده كخصال الكفارة ثم له تقسيم آخر باعتبار إيقاع الفعل هو المفاد بقوله ... ومطلق و الغير في تحبير ...
التحبير مصدره حبره تحبيرا إذا حسنه
فالواجب انقسم إلى مطلق وهو ما لم يعين وقته كالنذر المطلق وقضاء صوم رمضان وإلى معين وقته وذلك كالصلوات الخمس والحج والصيام وقوله ... مؤقت مضيق أو وسعا
بدل من الغير أو بيان له أتي به لبيان المراد بالغير أي غير المطلق وإدخال آلة التعريف عليه شائع في عبارات العلماء غير وارد في كلام العرب أي والواجب المؤقت ينقسم أيضا إلى مضيق وقته وموسع فالأول هو ما لا يتسع الوقت المقدر له شرعا إلا لفعل الواجب وذلك مثل الصيام والثاني وهو ما يزيد وقته على فعل الواجب وذلك كالصلوات الخمس وهذا هو الذي أفيد بقوله مضيق او وسعا فمضيق مجرور صفة لمؤقت وقد يعبر عنه بالواجب الموسع والواجب المضيق على سبيل المجاز وإنما المضيق والموسع صفة للوقت ولما فرغ من تقسيم الواجب بتلك الاعتبارات أخذ في بيان ترادف بعض الألفاظ عند بعض أهل الأصول فقال ... والمستحب رادف التطوعا ... ورادف المندوب المسنون ... أخص من كليهما يكون ...
ها هنا ألفاظ حكموا عليها بالترادف فقالوا المندوب والمستحب والتطوع مترادفة معنى كل منهما معنى الآخر فهي ما يستحق الثواب بفعلها ولا عقاب في تركها وقوله والمسنون مبتدأ خبره أخص من كليهما فإنهم
رسموه بما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم وواظب عليه فزادوا فيه قيد المواظبة وأرادوا بما أمر به أمر ندب فلا يرد الواجب فكل مسنون مندوب ولا عكس وعبر عن ذلك في الغاية بقوله ما أمر به عليه السلام ندبا فإن واظب عليه فمسنون وإلا فمستحب وفي جمع الجوامع أنه يرادف المندوب أيضا وإن الكل معناه الفعل المطلوب طلبا غير جازم ونقل عن القاضي حسين أنه يقول في المسنون بمثل كلام الناظم وأنه أخص لأخذ المواظبة فيه واعلم أن التقسيم الذي في الواجب يجري في المندوب أيضا فيشبه فرض العين التوجه فإنه مشروع في الصلاة بألفاظ مخصوصة ولا يسقط بفعل مكلف آخر فمن تركها أو بدلها فقد خالف السنة ومثلها أيضا الأذكار المعينة عقيب الصلوات وفيها ومندوب الكفاية كالسلام ابتداء من جماعة والتشميت للعاطس منهم على قول من لم ير وجوبه على كل من السامعين وإن كان حديث إذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقا على كل من سمعه أن يقول له يرحمك الله أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن حبان يقتضي وجوب تشميت كل عاطس حامد على كل سامع والمعين كسنة الفجر مثلا فالمطلوب إيقاعها بخصوصها والمخير كالقراءة ب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد أو الآيتين من سورة البقرة وآل عمران والمطلق كصلاة النافلة من حيث هي والذكر من حيث هو والمؤقت كصيام البيض ويكون مضيقا كهذا الصيام وموسعا كرواتب الفراض ... هذا وما وافق أمر الشارع ... فهو الصحيح أول التوابع
تقدمت إشارة إلى توابع الأحكام هذا أولها وهو تقسيم للواجب بالنظر إلى إيقاعه على وقف شروطه وأسبابه المعتبرة شرعا أعم من أن تكون عبادة أو معاملة فانقسم بهذا الاعتبار إلى صحيح وباطل الأول الصحيح وهو لغة السليم واصطلاحا ما أفاده النظم بأنه الفعل الذي وافق أمر الشارع أي ما كملت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع كالصلوات بشرائطها من الطهارة وستر العورة وغيرهما وهذا رسمه باعتبار العبادة وأما باعتبار المعاملة فالصحة فيها ترتب الأثر المطلوب منها عليها وفي جمع الجوامع أن الصحة موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع وقيل في العبادة إسقاط القضاء وفي العقود ترتب أثره عليه وهو ما شرع العقد له كحل الانتفاع في البيع
واعلم أنه خص في الأصل التوابع بما ذكر مع أن تقسيم الواجب الذي تقدم آنفا هو من صفات الحكم فلو عد من التوابع لكان صحيحا وهو امر سهل فإنه اصطلاح والقسم الثاني الباطل أفاده مع الفاسد قوله ... نقيضه الباطل أما الفاسد ... فقيل قد رادفه فواحد ...
الباطل لغة الذاهب واصطلاحا نقيض الصحيح ويجري في العبادات والمعاملات أيضا فهو فيهما عدم ترتب الأثر المقصود من الفعل عليه ففي العبادة عدم موافقة أمر الشارع أو عدم سقوط القضاء وفي المعاملة عدم حل الانتفاع بالمبيع وأما الفاسد ففيه خلاف منهم من يقول إنه مرادف للباطل فمعناه معناه كما أفاده قوله فواحد أي فمعناهما واحد ومن لم يقل بترادفهما رسمه بقوله ... وقال في تعريفه من ينفي ... ما شرع الأصل بدون الوصف ...
أي أنه عرفه من ينفي الترادف بينه وبين الباطل ويجعله قسما مستقلا بأنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه وهو قول من يثبت الواسطة بين الباطل
والصحيح إلا أنه ينبغي أن يعلم أنهم متفقون في العبادات سوى الحج أنه لا واسطة فيها بل إما صحيحة أو بطالة والحاصل أن من فسر الفاسد بعدم ارتفاع وجوب القضاء كان كالباطل ومن قال إنه المشروع بأصله الممنوع بوصفه كان واسطة فيقول في العبادات مثلا صوم العيدين الصوم مشروع بأصله ولكن الوصف وهو كونه في ذلك اليوم مثلا منعه الشارع وفي المعاملات كبيع درهم بدرهمين إن البيع مشروع بأصله ولكن الوصف وهو اشتمال أحد الجانبين على الزيادة ممنوع فهو عنده خلل يوجب ترتب بعض الآثار فالبيع الفاسد يوجب جواز الفسخ وعدم الملك إلا بالقبض بإلاذن والقيمة لا الثمن وأما الباطل فلا يترتب على عقد البيع عليه شيء وجعل الفاسد واسطة هومذهب الهدوية والحنفية وأما الناصر والشافعية فهم قائلون بالترادف وعدم الواسطة ولهم في المطولات أمثلة لا نطول بذكرها
تنبيه لم يتعرض في الأصل للإجزاء وهو عندهم كالصحة فرسمه رسمها إلا أنه يختص بالعبادات واجبة كانت أو مندوبة وقيل يختص بالواجب ومنشأ الخلاف وروده في الحديث النبوي في الأضاحي ومن قال إنها سنة قال تتصف به السنة والواجب لحديث لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن أخرجه الدارقطني وصححه وقيل لا يختص بالعبادات بل يجرى في المعاملات كرد الوديعة فإنه إذا حجر على المودع ما أودعه لم يجز الرد عليه بخلاف إذا لم يحجر عليه ورد بأنه ليس فيها إلا تسليمها لمستحق التسليم فليس رد الوديعة يجري على وجهين مجز وغير مجز
ويطلق الجائز في المباح ... وممكن والكل في اصطلاح ... كذا على المشكوك ثم ما استوى ... الفعل والترك به ولا سوى ...
هذا في ذكر الجائز وما يطلق عليه فإنه يطلق على المباح فكلمة في بمعنى على مثل قوله تعالى لأصلبنكم في جذوع النخل فالنظم قد أفاد أنه يطلق الجائز على أربعة أشياء
الأول مما يطلق عليه المباح المعرف بما تقدم من رسمه
الثاني الممكن وهو إما ما لا يمتنع شرعا أي ما لا يحرم وهو شامل للأربعة الأحكام الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأما ما لا يمتنع عقلا كأن يقال كون جبريل في أرض جائز أي لا مانع منه في العقل ومثلوا ما لا يمتنع شرعا كأن يقال الأكل بالشمال جائز أي لا مانع عنه شرعا كذا مثلوه به وفيه نظر
الثالث أن يطلق على ما استوى فعله وتركه عقلا كفعل الصبي وكذلك شرعا كالمباح
والرابع المشكوك فيه وهو ما تعارضت فيه أمارات الثبوت والانتفاء أمارة تقضي ثبوته وأخرى تقتضي نفيه في العقل أو الشرع ومثلوه في العقل بمن يتوقف في أصل الأشياء هل على الحظر أو الإباحة فإنه يقول بأنه جائز الأمرين أي الحظر وعدمه لاستوائهما عند تعارض دليليهما وفي الشرع كمن يتوقف في لحم الأرنب ووجوب صلاة العيدين لتعارض أمارتي الأمرين فيوصف بأنه جائز بهذين الاعتبارين فهذه الأربعة المعاني التي أفادها النظم
وللجائز أربعة معان باعتبار المشكوك فيه استوفاها في الفواصل فلا نطيل بذكرها لعدم مساس الحاجة إليها ثم من توابع الحكم باعتبار إيقاع الفعل وهو يختص بالعبادات ما تضمنه قولنا
وما أتى في وقته منك ابتدا ... مقدرا شرعا له فهو الأدا ...
اعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا الثاني لا يوصف بأداء ولا قضاء ولا إعادة كالنوافل المطلقة والأذكار التي لم توقت والأول وهو ما له وقت معين إما أن يكون وقته المعين محدود الطرفين أو لا الثاني يوصف بالأداء لا غير كالحج ولا يوصف بالقضاء إلا مجازا لأجل المشابهة للمقضي في الاستدراك كما قيل والأول يوصف بالثلاثة
إذا عرفت هذا فالأداء قد رسمه الناظم بما سمعته فقوله مقدرا حال من وقته أي الفعل الذي أتى منك في وقته المقدر له ابتداء هو الاداء وحمل الأداء على قوله ما أتى صحيح لأن المصدر بمعنى المفعول قيل وقد صار إطلاقه عليه هنا حقيقة عرفيه وابتداء منصوب بمقدر المذكور أي فعل في وقته المقدر له ابتداء فخرج بقوله في وقته النوافل المطلقة وبقوله المقدر له ابتداء القضاء كصلاة الظهر مثلا فإن وقتها الأول هو الأداء والثاني وقت ذكرها إذا نسيها أو نام عنها فإذا أوقعها فيه فليست بأداء قلت ولك أن تقول ابتداء منصوب بأتى فلا تخرج عن الأداء فإنه فعلها ابتداء عند ذكرها في وقتها وقد قال الشارع إنه لا وقت لها إلا ذلك فهو من قسم الأداء ولم يفعل ثانيا
وقوله شرعا يخرج ما إذا عين المكلف للقضاء الموسع وقتا وكذا الزكاة إذا عين الإمام لقبضها شهرا فهو عرفي لا شرعي وعلى هذا التقدير فالإعادة من قسم الأداء وهو الذي قرره العضد وتبعه الجلال في شرح الفصول وهذا على تقدير تعلق ابتداء بمقدر وقيل إنه يتعلق بأتى أي وما أتى منك
ابتداء فتخرج الإعادة وقوله في وقته مقدرا تخرج النوافل المطلقة وعلى هذا بنى الشيخ لطف الله في شرح الفصول وعليه اعتمد صاحب الغاية فيه
واعلم أن ظاهر الرسم خروج صلاة أدرك منها فاعلها ركعة في وقتها ثم خرج الوقت وأتى بباقيها خارجة وحديث الصحيحين من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة يقضي بأنها أداء ولهذا عرف الأداء في جمع الجوامع بقوله والأداء فعل بعض وقيل كل ما دخل وقته قبل خروجه وإذا عرفت مما ذكرناه آنفا أن هناك ثلاث صفات للفعل فقد قدمنا رسم الأول منها وهو الاداء ورسم الآخرين أفاده قولنا ... وما فعلت بعده استدراكا ... لواجب مطلقه عراكا ... فهو القضا في الشرع للعباده ...
فهذا هو ثاني الثلاثة وهو القضاء وضمير بعده عائد إلى الوقت أي ما فعلته بعد وقت الاداء استدراكا إلى آخره وقيد مطلقا في قوله مطلقه أي مطلق الوجوب ليوافق قوله في الأصل استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا قال شارحه وقوله مطلقا قيد للوجب أي سواء كان على القاضي أو على غيره فيدخل في ذلك قضاء الحائض للصوم لأنه وإن لم يسبق له وجوب عليها فقد سبق على غيرها وحكى ابن الحاجب أن بعض الأصوليين في حده للقضاء يحذف مطلقا فعليه لا يسمى صوم الحائض قضاء وعلى الأول يسمى قضاء
وقد ثبت حديث عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم لا الصلاة والمراد به الأداء وهو معناه لغة والخلاف لفظي لأن حالة العذر يجب عليها ترك الصوم وحالة عدمه يجب عليه الإتيان به اتفاقا وعرفت أنه خرج بقوله بعد الأداء والإعادة وبقوله استدراكا الصلاة المؤداة خارج الوقت قضاء ثم أعادها بجماعة على القول بأنها تكون أي الأولى نافلة
فإن قلت من مات فحج عنه يكون من الأداء أو القضاء قلت قد جعلوا الحج من المؤقت ووقته العمر فما فعل بعده كان قضاء وأما من فسد حجه فأتى به صحيحا فلا يسمى قضاء إلا مجازا كما يطلق عليه الفقهاء
واعلم أن لفظ النسخة من النظم الأولى التي شرحها مؤلف الفواصل رحمه الله كانت بلفظ السابق وجوبه علاكا بحذف قيد الإطلاق فخرج منها صوم الحائض عن أن يسمى قضاء وهو قول بعض الأصوليين إلا أنا حولنا إلى ما هنا ليوافق الأصل فإنه قيد بالإطلاق لإدخال ذلك وأما السبق فإنه وإن فات في الذي عوضناه فقوله بعده يغني عن ذلك وقيد استدراكا قيل لا حاجة إليه لأنه ليس من مفهوم القضاء وإن كان عرضا لأن العرض للشيء خارج عن ذاته
والثالث وهو الإعادة أشار إليه قولنا ... وخذ هديت الرسم للإعادة ... بما فعلت ثانيا وقت الأدا ... لخلل فيما أتى في الإبتدا ...
الإعادة هي ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الفعل الأول فقوله ثانيا يخرج الأداء وقوله وقت الأداء يخرج القضاء وقوله خلل في الأول أي من فوات ركن أو شرط يخرج ما ليس كذلك كالمنفرد إذا صلى ثانية مع
الجماعة يعني فلا تسمى إعادة وبعضهم رسم الإعادة بما فعل ثانيا في وقته لعذر من خلل أو نقصان فضيلة وهو أعم من الأول لشموله إعادة المنفرد مع الجماعة ولا يخفى أن هذا إنما يتمشى على رأي من يجعل الفريضة هي الفعل الثاني وعلى صحة الرفض شرعا وتجدد الطلب بعده وذلك مما لا دليل عليه كما بيناه في حواشي ضوء النهار وغيره هذا وللحكم تقسيم آخر باعتبار وصفه بالرخصة والعزيمة أشار إليه قولنا ... والرسم للرخصة والعزيمة ... ما شرعت وما اقتضى تحريمه ... باق لعذر فهو رسم الأولى ... وعكسها قرينها في الإملا ...
هذا بيان العزيمة والرخصة فالعزيمة لغة القصد المؤكد ومنه عزمت على فعل كذا والرخصة لغة التيسير والتسهيل ومنه رخص السعر إذا تيسر وتسهل وهذا تقسيم للحكم باعتبار مشروعيته فإما أن يشرع لعذر مع بقاء مقتضى التحريم لولاه أو لا الأول الرخصة والثاني العزيمة فرسم الرخصة قوله ما شرعت فما الموصولة مبتدأ وقوله فهو رسم الأولى خبره وقوله ما شرعت أي ما شرع الله للمكلف فعله كأكل الميتة أو تركه كترك الصوم وهذا جنس الحد وقوله وما اقتضى تحريمه باق فصل ثان يخرج ما نسخ تحريمه أي شرعت ودليل التحريم باق وقوله وما اقتضى تحريمه ما موصولة واقتضى صلتها وفاعله ضمير للموصول وتحريمه مفعول وباق خبر الموصول أي ما شرعت والدليل المقتضي لتحريمه باق وهذا القيد يخرج به ما نسخ من الأحكام لعذر كوجوب ثبات الواحد للعشرة
وقوله لعذر فصل أول والمراد به أمر طارىء في حق المكلف فخرج
الحكم ابتداء ومنه وجوب الإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة لأنه الواجب ابتداء على فاقد الرقبة كما أن الإعتاق هو الواجب ابتداء على واجدها واعلم أنه قد زاد في مختصر ابن الحاجب في الرسم لفظ لولا العذر وحذفها في الأصل الذي نظمناه وحذفه في جمع الجوافع أيضا ووجه حذفه أنه قد تم الرسم من دون ذكره ووجه ذكره ممن ذكره رفع إيهام اجتماع الضدين في حالة واحدة وهو بقاء مقتضى التحريم ومشروعيته للعذر ولا خفاء أن دفع الإيهام ليس من وظيفة الرسم هذا
وقد قسموا الرخصة إلى واجبة كأكل الميتة للمضطر ومندوب ومباح ومكروه وبيانها وأمثلتها في المطولات إلا أن ظاهر عبارة النظم والأصل أنها لا تجري إلا في الواجب والمحرم وقد زاد في الفصول مع بقاء المحرم أو الموجب ثم لا يخفى أن رسم الرخصة بما شرع إلى آخره هو الواقع في غالب كتب الأصول وفيه تسامح لا يخفى لأن الذي شرع هو الفعل لا الرخصة فإنها رفع التحريم أو الكراهة عن نحو أكل الميتة لعذر الجوع وأما العزيمة فقد أفاد رسمها بقوله
وعكسها قرينها في الإملا ... فهي ما شرعت لا لعذر مع بقاء ...
مقتضى التحريم هذا هو الذي يقتضيه ظاهر العكس وإلى هنا انتهى الكلام في الحكم التكليفي وتوابعه ولما أهمل مصنف الأصل الحكم الوضعي مع عموم الحاجة إليه زاده الناظم بقوله ... وهما هنا زيادة في الحكم ... أهملها في أصل هذا النظم ... قد قسموا الحكم إلى تكليف ... وهو الذي قد مر في تأليف ... ثم إلى الوضعي وهو المانع ... والشرط والأسباب هذا جامع ...
أي جامع لأقسامها وهي ثلاثة الأول الشرط أشار إلى تعريفه بقوله ... فإن يؤثر عدمه في العدم ...
الأول بسكون الدال المهملة والثاني بتحريكها مفتوحة ... فالشرط أو وجوده فلتعلم ...
قوله فالشرط جزاء قوله فإن يؤثر أي حقيقة الشرط ان يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ومثلوه بالحلول في وجوب الزكاة وقوله أو وجوده عطف على قوله عدمه أي وإن أثر وجوده وجوابه ما يأتي في قوله ... بأنه إن أثر العدم فقد ... سموه بالمانع ثم ما ورد
فهو الثاني وهو المانع ورسموه بأنه ما أثر وجوده عدم الحكم وذلك كالأبوة في منع القصاص وقوله ... مؤثرا وجوده الوجودا ... وعدمه في عدم فقودا ...
يريد فقودا مصدر فقدت الشيء فقودا نحو قعدت قعودا مؤثرا حال من فاعل ورد أي والذي ورد من المعرفات وهي الأحكام الوضعية مؤثرا وجوده وجود الحكم عدمه الحكم فعدمه عطف على قوله وجوده أي ومؤثرا عدمه عدم الحكم وفقودا مفعول مؤثرا المقدر أي مؤثرا في عدم الحكم فقوده وقوله ... فالسبب المعروف كالزوال ... لواجب الظهر بلا مقال ...
خبر لقوله ما ورد فهذا هو ثالت الأحكام الوضعية وهو السبب فتحصل من هذا ان ما أثر عدمه عدم الحكم فهو الشرط وما أثر وجوده عدم الحكم فهو المانع وما أثر وجوده وجودا لحكم وعدمه عدمه فهوالسبب فهذه الثلاثة هي الأحكام الوضعية وهي مقابلة للخمسة التكليفية ومن قال بإدراجها فيها فقد تكلف ولا غنى لطالب هذا الفن من معرفتها تفصيلا
فأولها على ترتيب ذكرها في النظم الشرط وهو يطلق على انواع المراد منها هنا ما يؤثر عدمه في عدم الحكم المشروط ومثلوه بالحول لوجوب الزكاة وبالطهارة في صحة الصلاة وإن كان قد نوقش في هذا المثال الآخر ويطلق على الشرط اللغوي وهو ما علق بأحد حروف الشرط وهو الذي يأتي في باب التخصيص ويطلق على جعل الشيء شرطا لشيء آخر كشراء الدابة بشرط كونها حاملا وهو من أبحاث علم الفروع والمراد هنا الأول الذي رسموه بما أشرنا إليه ويعبرون عنه في رسمه بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته واقتصرنا في النظم على
القيد الذي يتحقق به كونه شرطا وهو عدم الحكم المشروط به لعدمه لأنه كاف في تمييزه عن أخويه وهما السبب والمانع ولعلماء الأصول في الشرط تفصيل وأمثلة في إيرادها تطويل
والثاني المانع المشار إليه بأنه ما أثر وجوده العدم فإنهم رسموه أيضا في الأصول بقولهم إنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم وقد قسموه إلى مانع الحكم ومانع سبب الحكم ومانع السبب تقدم مثاله بالأبوة في مانع القصاص ومنعه هنا لحكمة وهي أن الأب سبب لوجود الابن
فلا يكون الابن سببا في عدم أبيه ولهم هنا تطويل وذكر أمثلة إذا عرفت القاعدة عرفت
الثالث السبب وقد رسموه أيضا بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ومثلوه بالزوال لوجوب صلاة الظهر كما أشرنا إلى ذلك كله فهذا بيان لما ذكره مما أهمله صاحب الأصل وفي هذه الثلاثة الأحكام الوضعية تفاصيل وإيرادات في بيان الفروق بينها قد أتى بها في الفواصل ونقل أقوال العلماء في ذلك مما لا يخلو عن تطويل ولا يصفو عن كدر فلا يروى الغليل وفيما أشرنا إليه ما يكفي أهل التحصيل
فقد تحصل أن الأحكام ثمانية خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتوابع الأولى الأداء والإعادة والقضاء والرخصة والعزيمة والصحة والبطلان فهذه المعاني المبحوث عنها فيما سلف خمسة عشر وأما الفاسد فالحق أنه الباطل وليس قسما برأسه
الباب الثاني في الأدلة ... وجاء في الثاني من الأبواب ... أدلة السنة والكتاب ...
أي ما دلا على حكمه أو على دليليته فدخل الإجماع والقياس كما هو مبين فيما سيأتي من فصول هذا الباب هذا والأدلة جمع دليل والدليل في اللغة المرشد وهو العلامة الهادية وناصبها وذاكرها قالوا إنه يطلق على كل واحد من الثلاثة قال فالله تعالى دليل لأنه ناصب الأدلة وذاكرها في كتابه وإن كان إطلاق الدليل عليهما لا يكون إلا مجازا لما تقرر من أن حقيقة الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وعلى رأي من يشترط في حقيقة إطلاق المشتق وجود معناه لا يكون الدليل أيضا هو نفس المنصوب والمذكور بل الدليل هو العلم بوجه دلالتها كما يقتضيه رسم الدلالة المذكور وهذا الذي ذكروه في معناه لغة لم أجده في القاموس كما ذكروه وأما معناه اصطلاحا فهو ما أشار إليه قولنا ... دليلنا ما يمكن التوصل ... بالنظر الصحيح فهو الموصل ... لنا إلى العلم وبالأماره ... ظن وقد يدعى به استعاره ...
أضاف الدليل إلى نفسه وإلى غيره من العلماء إرشادا إلى أن المراد رسم
معناه الاصطلاحي وأتى بقيد الإمكان للإشارة إلى أن الدليل من حيث هو دليل يكفي فيه التوصل بالقوة لا بالفعل فلا يخرج الدليل عن كونه دليلا بأن لا ينظر فيه أصلا ولو اعتبر فيه وجود التوصل لخرج من التعريف ما لم ينظر فيه أحد أبدا وقوله التوصل قال المحلي هو الوصول بكلفة وقوله بالنظر النظر لغة الانتظار وتقليب الحدقة والرؤية وبهذا المعنى يتعدى بالام وبهذا المعنى يتعدى بإلى واالتأمل والاعتبار وبهذا المعنى يتعدى بفي وهو في الاصطلاح الفكر المطلوب به علم أو ظن والفكر انتقال النفس بالمعاني انتقالا بالقصد ويفسر بأنه ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول وقد يفسر الفكر بأنه حركة النفس في المعقولات بانتقاله فيها انتقالا قصديا تدريجيا والمراد بالنظر ما يتناول النظر في الدليل نفسه وفي صفاته وأحواله فيشمل المقدمات التي هي بحيث إذا ركبت أدت إلى المطلوب والمفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر إلى أحواله أوصل إليه كالعالم وقيده بالصحيح وهو المشتمل على شرائطه مادة وصورة لأن الفاسد لا يمكن أن يتوصل به إلى المطلوب
إذ ليس هو في نفسه سببا للتوصل ولا آلة له ومعرفة النظر الصحيح من الفاسد يعرف من علم الميزان المؤلف لمعرفة شرائط الأدلة من حيث المادة والصورة ونحوهما
وقوله فهو الموصل أي أنه لا يوصل إلى النظر الصحيح إيصالا مطردا والفاسد وإن اتفق الوصول به نادرا لا اعتداد به وقوله إلى العلم قد حذف متعلقه وهو مطلوب خبري فالمراد الموصل إلى العلم بمطلوب خبري وهو من تمام الرسم وحذفه للعلم به فلا يرد دخول القول الشارح في التعريف وبهذا القيد أخرجه في الفصول
واعلم أن هذا التعريف جار على اصطلاح المتكلمين في أنه لا بد في الدليل من إفادته العلم فيخرج ما يفيد الظن فلا يسمى دليلا عندهم ويسمى أمارة وقد أشار إليها قوله بالأمارة أي والتوصل بالأمارة يفيد الظن لا العلم لزوما عاديا لا عقليا كما إذا أغيم الهوى بالغيم الرطب فإنه يحصل ظن حدوث المطر وقد يتخلف ولو كان عقليا لما تخلف هذا كلام الجمهور وقد اختلف فيه على قولين الأول ما سمعته من عدم اللزوم الثاني أنه لازم وهو قول الملاحمية قال في نظام الفصول هو الحق لأن الأمارة إنما سميت أمارة بدلالتها على مدلولها ظنا فما لم تدل على مدلولها رأسا لا تسمى أمارة وحاصله أن ظن المطر في المثال المذكور ملازم لظن رطوبة الغيم بحيث
لا ينفك أحدهما عن الآخر كما لا ينفك العلم الحاصل عن الدليل عن العلم بوجه دلالة الدليل فإذا زال ظن المطر كشف زواله عن زوال ظن الرطوبة فإنه هو الأمارة لا نفس الغيم فإنه مشاهد لا مظنون ولا نفس الرطوبة فإنها في حيز المجهولات لعدم تحققها إلا بتحقق المطر نعم بين العلم والظن فرق فإن العلم لا ينفك عن متعلقه بخلاف الظن انتهى بتلخيص وخلاف الملاحمية لم يذكره ابن الحاجب ولا شراح كلامه بل أطبقوا على القول الأول وقال العضد في تعليله إنه ليس بين الظن وبين شيء علاقة لانتفائه مع بقاء سببه قال عليه المقبلي في نجاح الطالب ولا يسع عقلي ذلك فإنه إذا كان الغيم الرطب والبرق والرعد والوابل الذي بينك وبينه مثلا مائة ذراع متزاحفا إليك بسرعة يحصل معك الظن قطعا وربما انكشف عدم وصول المطر إلى حيزك ثم قال وعلى الجملة فكل صورة حصل عنها الظن فإنه يحصل عند مساويها وكل عاقل راجع نفسه لا ينكر ذلك والذي أظنه أن موجب تطبيقهم بسبب انتقال ذهني من أمارة الظن إلى الظن ومع هذا فهو بعيد على الجمهور وتحقيقه أن الدليل يلزم عنه العلم والعلم يلزمه مطابقة المعلوم ولا يجوز عدم المطابقة إذ حقيقته ذلك والأمارة يلزم عنها الظن كلزوم العلم سواء وهما عاديان لا يفترقان لكن ليس من لازم الظن المطابقة ولهذا قد يحصل الظن ولا يحصل المظنون ولا يجوز حصول العلم ولا يحصل المعلوم وهذا الافتراق غير ذلك الاتفاق وكأنه اتفق للنظار التباس أحد الأمرين بالآخر وقد بحثت عن هذا جهدي في كلام الرازي وأبو الحسين وغيرهما
قلت وكأنه ما عرف خلاف الملاحمية وقد وافقه كلام النظام والحق معهما وهذا مما تركه الأول للآخر والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء قوله وقد يدعى به استعارة أي أنه قد يسمى أي الظن علما فإنه قد يطلق لغة على اليقين نحو الذي يظنون أنهم ملاقو ربهم وعن الخليل بن أحمد أنه قال الظن شك ويقين وظاهر كلامه أنه مشترك فقوله استعارة ليس المراد الاستعارة الاصطلاحية بل المراد أنه لغة يكون بأحد معنييه بمعنى العلم ثم لما ذكر العلم بالدليل أخذ في ذكر حقيقته فقال ... والعلم معنى يقتضي السكونا ... لنفس من قام به يقينا ... بأن ما يعلمه كما اعتقد ...
اعلم أن كلامنا هنا في العلم بالمعنى الأخص الذي لا يشمل الظن لأنه قسيمه كما عرفت هنا وتعرفه مما يأتي في تعريف الظن وإذا عرفت هذا فاعلم أنه قد اختلف العلماء هل يحد العلم أو لا فقيل يحد وقيل لا يحد لتعسر معرفة جنسه وفصله وقيل بل لجلائه ووضوحه فهو ضروري وعلى القول الأول فله تعريفات كثيرة قد أودعت شرح مختصر ابن الحاجب وغيره وقد أشرنا إلى رسمه بما أشار إليه في الأصل فقوله معنى جنس الحد شامل لجميع أنواع التصورات والتصديقات وقوله يقتضي السكونا لنفس من قام به فصل يخرج الظن والشك والوهم والتبخيت والتقيلد وقوله بأن ما يعلمه كما اعتقد أي لا يمكن تغيره ولا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه فصل ثان يخرج به الجهل المركب إذ هو معرض للزوال لاحتمال أن يعرف صاحبه حقيقة الأمر فاندفع
ما قيل من أنه لا حاجة إلى هذا القيد ولا يحترز به عن شيء بل الحاجة إليه ضرورية فإنه لا يخرج الجهل المركب إلا به فإنه يشمله قوله معنى يقتضي سكون النفس
فإن قلت علم الله غير داخل في الحد فإن سكون النفس يختص بعلم الإنسان قلت لا ضير في خروجه لأن الرسم للعلم الكاسب والمكتسب وذلك إنما هو علم المخلوق من الملك والجن والإنس بخلاف الخالق فإنه لذاته لا لسبب من الأسباب وعلم الله تعالى قديم لا يوصف بضرورة ولا كسب ثم إن التعريف إنما يراد به تعميم إفراد ما يحتاج إلى معرفته بحسب الحاجة ولا ضرورة ملحة إلى دخول علمه تعالى في الرسم لا يقال الرسم دوري لأنه أخذ العلم في رسم نفسه لأنه يقال المأخوذ في التعريف هو المعلوم والمحدود العلم وهذا كاف في المغايرة في الجملة ولقد تعددت العبارات في رسمه وما خلا شيء عن مقال
ثم إن ينقسم إلى ضروري وكسبي وكل منهما له حقيقة تخصه فأشار إلى ذلك قولنا ... وهو ضروري أتى بغير كد ... خلافه الكسبي ثم الأول ... ماليس للتكشيك فيه مدخل ...
هذا رسم الضروري لأنه ما أتى بغير كد أي بلا طلب واكتساب كعلم أحدنا بنفسه
وأما البديهي فقال في المواقف وشرحه البديهي إنما يثبته مجرد العقل أي يثبته بمجرد التفاته إليه انتهى من غير استعانة بحس أو غيره تصورا كان أو تصديقا فهو أخص من الضروري وقد يطلق مرادفا له والكسبي هو الحاصل بالكسب وهو مباشرة الأسباب بالاختيار كصرف
العقل والنظر في المقدمات والاستدلالات والإصغاء وتقليب الحدقة ونحو ذلك في الحسيات
وفي النسفية وشرحها أن أسباب العلم ثلاثة الحواس الخمس السليمة والخبر الصادق والعقل وقال السعد لا تنحصر في الثلاثة بل هاهنا أشياء أخر مثل الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المبادىء والمقدمات والضروري يقال تارة في مقابلة الكسب ويفسر بما لا يكن تحصيله مقدورا للمخلوق وتارة في مقابلة الاستدلالي ويفسر بما يحصل بدون فكر ونظر في دليله ومن هنا جعل بعضهم العلم الحاصل بالحواس اكتسابيا أي حاصلا بمباشرة الأسباب بالاختيار وبعضهم جعله ضروريا أي حاصلا بدون استدلال نص عليه السعد في شرح العقائد
واعلم أن انقسام العلم إليهما لا يحتاج إلى الاستدلال بل يعرف بالوجدان فكم بين العلم بأن الشمس مشرقة والنار محرقة وبين العلم بأن العالم حادث فالأول ضروري والثاني كسبي نظري وقوله ما ليس للتشكيك فيه مدخل خبر عن قوله ثم الأول أو عن مبتدأ محذوف والكل خبر عن الأول فالضروري ما لا يقبل التشكيك فإن قيل النظري بعد النظر الصحيح لا يقبل أيضا التشكيك كعلمنا بأن العالم حادث فإنه لا يقبل التشكيك بأنه غير حادث قط فما الفرق أجيب بأن الضروري لا يقبل التشكيك البتة بخلاف الكسبي فإنه يدخل عليه التشكيك في الجملة وينفيه تصحيح النظر وتجديده وحين فرغ من تعريف العلم أخذ في تعريف الظن بقوله ... والظن تجويز يكون راجحا
أي إذعان نفس المجوز بوقوع أحد الأمرين بعينه دون الآخر سواء كان الحال كذلك في الواقع أو لا والمراد بالأمرين طرفا الممكن كوجود زيد وعدمه إذ كل من الواجب والممتنع لا يتصور فيه التجويز المذكور ... والوهم مرجوح فخذه واضحا ...
الوهم تجويز مرجوح فهو الطرف المقابل للظن الذي أذعنت النفس لتجويز وقوعه وفي قوله فخذه واضحا لطف لا يخفى ... والاستوا شك والاعتقاد ...
أي استواء طرفي الممكن والمراد إذعان النفس بإمكان وقوع كل من الأمرين بدلا عن الآخر لا مزية لأحدهما عن الآخر تقتضي رجحان وقوعه دون الآخر عند المجوز هو الشك وقد يطلق لغة علىالظن وقوله والاعتقاد مبتدأ خبره قوله ... جزمك بالشيء كما أفادوا ...
فخرج من قوله جزمك الظن والوهم إذ لا جزم فيهما وهو مبني على أن الاعتقاد قسم ثالث مقابل للعلم وللظن وقد يطلق على ما يشملهما مع غيرهما فهو كالعلم بمعناه الأعم وقد يطلق على العلم بالمعنى الأخص وقوله ... لا تسكن النفس به فإن غدا ...
جملة لا تسكن النفس صفة لموصوف محذوف أي جزمك بالشيء جزما لا تسكن النفس به وجملة كما أفادوا جملة اعتراضية جيء بها لإصلاح النظم وفيها إشارة إلى أن في كلامهم شيئا لأن أخذ عدم سكون النفس خلاف المطلوب إذ يرد عليه بأن الجزم بالشيء ينافي عدم سكون النفس فلا يمكن الجزم مع عدم سكونها وقد يجاب بأن المراد الجزم هنا في الجملة بمعنى أن طرفي الأمر المعتقد مما يجوز في نفس الأمر أن يكون على خلاف ما اعتقد ولا يمتنع حينئذ أن ينتفي سكون النفس أو يكون في نفس الأمر كما أعتقده ولكن
لا يمتنع أن ينتفي ذلك الجزم والاعتقاد معه بانتقاله إلى خلاف ما كان عليه كما يتفق في كثير من الاعتقادات فكأنه قيل الاعتقاد هو الجزم الذي يقبل التشكيك في الجملة أشار إليه السعد في حواشي شرح العضد
ثم إنه ينقسم الاعتقاد إلى صحيح وفاسد كما أفاده قولنا ... مطابقا فهو الصحيح أو عدا ...
ذلك هو فاسد وجهل فالصحيح من الاعتقاد ما طابق الواقع والفاسد بخلافه فالأول كاعتقاد المقلد بمشروعية رفع اليدين في تكبيرة الإحرام في الصلاة مثلا والثاني كاعتقاد الملاحدة أن العالم قديم فهو اعتقاد فاسد ويقال له جهل مركب أيضا إذ هو جهل لما في الواقع وجهل بكونه جاهلا
واعلم أن مطابقته للواقع قد تكون معلومة بالدليل لنا كاعتقاد حدوث العالم لقيام الأدلة عليه التي يمكن معها معرفة مطابقة الاعتقاد للواقع ومثل مسألة رفع اليدين فيما مثل وقد لا يعلم بالأدلة ولا ضير في ذلك لأن حقيقة الاعتقاد الصحيح مطابقته للواقع لا الاطلاع عليها كما قلناه في المجتهد المصيب للحق المأجور أجرين لأنه لا يعرف إصابته للحق إلا يوم الجزاء أو بخبر الرسول صلى الله عليه و سلم وقد فقد الوحي وإذا عرفت هذا فلا يرد الترديد الذي أورده الجلال في شرح الفصول من أنه إن أريد الواقع في نفس الأمر فكيف السبيل إلى ذلك ولا يتم إلا في ما طريقه التواتر أو كان ضروريا وإن أريد ما هو حاصل عند المعتقد فكذلك الفاسد
ولا يخفى أن المعتقد ليس عنده مطابقة واقع ولا عدمها فكيف يجعله قسيما لما طابق في نفس الأمر فالتحقيق أنه ليس المراد إلا مطابقة ما في نفس الأمر ولا يلزم الاطلاع عليها في المغيبات ولا في غيرها فمن اعتقد أن زيدا في الدار لأمارة دلت على ذلك وسكنت إليه نفسه وانكشف أنه فيها فاعتقاده صحيح وإن لم يكن فيها فهو فاسد
واعلم أنه قد تحصل من قوله والعلم معنى يقتضي السكونا إلى هنا تعريف الأقسام كلها فالعلم هو المعنى الذي اقتضى سكون النفس بما علمته وهو الذي يعبرون عنه بانه التصديق الجازم المطابق مع سكون النفس والاعتقاد الصحيح هو التصديق الجازم المطابق مع عدم سكونها والاعتقاد الفاسد هو التصديق الجازم غير المطابق والظن هو الإدراك الراجح غير الجازم والوهم هو الإدراك غير الجازم المرجوح والشك هو الإدراك غير الجازم المستوي الطرفين وبقي من الأقسام المشار إليها في النظم الجهل وهو قسمان مركب وبسيط فأشار إلى الأول قولنا ... مركب جاء بهذا النقل ...
صفة لقوله جهل فالجهل المركب هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع وإنما سمي مركبا لأنه جهل المدرك ما في الواقع فهذا جهل أول وجهل أنه جاهل فهذا جهل ثان فكان مركبا وهو الاعتقاد الفاسد ومثاله المثال المتقدم وسواء كان هذا الإدراك مستندا إلى شبهة أو تقليد قال المحققون إن هذا الجهل يختص بالتصديقات ولا يجري في التصورات بناء على ما هو عندهم من الحق من أن التصورات لا تحتمل عدم المطابقة بخلاف التصديقات قال في شرح المواقف لا يوصف التصور بعدم المطابقة أصلا فإنا إذا رأينا من بعيد شبحا هو حجر مثلا وحصل منه في أذهاننا صورة إنسان فتلك الصورة صورة إنسان وعلم تصوري له والخطأ إنما هو في حكم العقل بأن هذه الصورة للشبح المرئي إنسان فالتصورات كلها مطابقة له موجودا كان أو معدوما أو ممتنعا وعدم المطابقة في أحكام العقل المقارن لتلك التصورات
فهذا هو القسم الأول من قسمي الجهل والثاني منه ما في قولنا ... والفقد للعلم يسمى جهلا ... وهو البسيط فاتبع ما يملا
والفقد هو العدم فقده يفقده فقدا وفقدان وفقودا عدمه قاله في القاموس فالمراد عدم العلم بالشيء عمن من شأنه أن يكون عالما فخرج الجماد والبهيمة ولا يتصفان بالجهل وفي جمع الجوامع أنه انتفاء العلم بالمقصود قال فخرج الجماد والبهيمة لأن انتفاء العلم إنما يقال فيمن من شأنه العلم وخرج بقوله بالمقصود ما لا يقصد كأسفل الأرض وما فيه فلا يسمى انتفاء العلم به جهلا ودخل في عدم العلم بالشيء السهو والغفلة والذهول قال الآمدي الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة وكلها مضادة للعلم بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه
وفي جمع الجوامع وشرحه السهو الذهول أي الغفلة عن المعلوم الحاصل فينبهه له أدنى تنبيه بخلاف النسيان فهو زوال المعلوم فيستأنف تحصيله ... فصل حوى الأدلة الشرعية ... وهي أصول ما أتت فرعية ...
بعد تعريف الدليل وما تفرع عنه من العلم وأقسامه أخذ في ذكر الأدلة الشرعية وهي الكتاب العزيز والسنة النبوية والإجماع والقياس فهذه أصول المسائل الفرعية
ووجه الحصر في الأربعة أن الدليل إما أن يكون صادرا عن النبي صلى الله عليه و سلم أو لا والأول إما أن يكون قولا فقط مع قصد الإعجاز فهو الكتاب أو لا يكون كذلك يعني بل أعم من القول مع عدم قصد الإعجاز فالسنة والثاني إما أن يكون صادرا عن جماعة معصومة فهو الإجماع أو لا فالقياس ولم يجعل الاستدلال قسما مستقلا لكونه عائدا إلى الأربعة كما يأتي تحقيقه ولما كان الكتاب أصل الأدلة قدم البحث فيه فقال ... أولها الكتاب فهو المنزل ... على الذي أوصافه لا تجهل ... محمدا قصدا لإعجاز البشر ... بسورة منه كأقصر السور
الكتاب لغة اسم المكتوب غلب في عرف الشرع على القرآن كما غلب في عرف العربية على كتاب سيبويه فهو علم بالغلبة للمجموع الشخصي المؤلف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس إلا أنه لا يخفى أنه لا بحث للأصولي عنه من هذه الجهة بل بحثه عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذلك إفراد آياته بل جمله الصادق عليها بعض آية فالمراد منه عند الأصولي المفهوم الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه وتعريف الناظم هنا صادق على هذا المعنى كما أنه صادق على المعنى العلمي
وقوله وهو المنزل أي الكلام المنزل فالكلام جنس الرسم وقوله المنزل فصل يخرج ما لم ينزل من اللوح المحفوظ وقوله على الذي أوصافه لا تجهل فصل يخرج ما أنزل على غير محمد صلى الله عليه و سلم من الكتب السماوية وقوله لإعجاز البشر قيد تخرج به الأحاديث القدسية وغيرها من الوحي وقوله البشر ليس لإخراج غيرهم كالجن مثلا بل لأن الخطاب ظاهر في أن طلب التحدي وقع لهم غالبا وإن وقع للجميع أيضا في قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله وقوله بسورة من تمام الفصل الثالث بتحقيق المراد من التعريف ولبيان القدر الذي يكون به الإعجاز فإنه لو أطلق لتوهم أن الإعجاز بكله ومراده بقوله بسورة أي بقدر سورة من كلامهم لا أنها نفسها فإنه لا يعجز عن الإتيان بها ووضوح المراد كفى عن بيانه كما أن وضوحه في قوله منه أي من مثله لا منه كفى وضوحه عن بيانه وقد اتفقت كلمة الأصوليين على هذا الرسم وقد أفاد تميز القرآن عن غيره وهو المراد من الرسوم
وقد أوردت عليه أسئلة وأجوبة اشتمل عليها الفواصل لا حاجة إلى التطويل بها ومما أورد ولم يذكره فيها أن تعليل الإنزال بالإعجاز لم يثبت في كتاب ولا سنة وأنه وإن وقع التعجيز بمثله فلذلك آية من آياته لا علة لتنزيله
قلت جوابه أنه قد طلب تعالى من عباده المعاندين أن يأتوا بسورة من مثله وبعشر سور من مثله فيصح منا أن نعلل إنزاله بأنه إنزال لإعجازهم وإن لم يات التعليل لإنزاله بذلك فإنه صالح للعلية في نفس الأمر لوقوع العجز عنه ولا ينافي ذلك أنه تعالى علل إنزاله بقوله كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فإنها تعددت العلل للإنزال ولا مانع من التعليل نصا أو استنباطا وقد علله تعالى بأنه أنزله تبيانا لكل شيء ومنه بيان عجزهم عن معارضته إذا عرفت هذا الرسم وأنه لمفهومه الكلي الصادق على المجموع وعلى أي بعض منه فقد قال السعد في التلويح ثم كل من الكتاب والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع وعلى كل جزء منه لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذاك آية لا مجموع القرآن فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصه بهما ككونه معجزا منزلا على الرسول مكتوبا في المصاحف منقولا بالتواتر فاعتبر بعضهم في تفسيره جميع الصفات لزيادة التوضيح وبعضهم التنزيل والإعجاز لأن الكتبة والنقل ليسا من لوازم القرآن لتحقق القرآن بدونهما في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وبعضهم اعتبر الإنزال والكتبة والنقل لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبي صلى الله عليه و سلم وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتبة في المصاحف لا ينفك عنهما في زمانهم فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم وأوضحها دلالة علىالمقصود بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء منه إذ المعجزة هو السورة أو مقدارها أخذا من قوله فأتوا بسورة من مثله
ورسموا السورة بأنها الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث أيات كما في الكشاف ولا يقال إنه رسم دوري لتوقف معرفة القرآن على السورة ومعرفة السورة على القرآن لأخذ كل واحد منهما في رسم الآخر لأنا
نقول قد عرفت أن قوله بسورة منه ليس من فصول الرسم ولا من تمامه بل جيء به لإيضاح المعجوز عنه نعم قد قدمنا لك أنه أورد على رسم القرآن أسئلة وأجوبة ولم تكد تصفو عن كدر وأقول إنه لو قيل بتعذر رسم القرآن لشهرته كما قالوه في العلم على ما سلف من أنه لا يحد لجلائه ووضوحه لكان حسنا فإنه لا أوضح من القرآن ولا أشهر منه عند كل إنسان ممن يعرف الشرعيات إذ هو المراد في هذه العلوم فلا يلتبس القرآن عنده بغيره حتى يرسم له فإنه لا يزيده رسمه عنده إلا خفاء ولما زاد بعضهم تواترا في رسم القرآن كما عرفته من كلام السعد وهو الذي في الفصول وقد اعترضه في النظام فلهذا لم يدخله الناظم فيه بل ذكره شرطا للقرآنية كما في أصله فقال ... وشرطه في نقله التواتر ... فما أتى بغيره لا ينظر ...
أي أنه يشترط في كونه قرآنا تواترا نقله وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع استواء الوسط والطرفين وأن يكون مستندا إلى أحد الحواس كما يأتي فما أتى نقله آحاديا فإنه لا تثبت له قرآنية فلذا قال فما أتى بغيره أي بغير التواتر لا ينظر أي لا ينظر إلى أنه قرآن وإن كان ينظر إليه من جهة آخرى في الاستدلال كما يأتي قلت هكذا أطبق العلماء عليه وعندي فيه توقف لأنا نعلم قطعا أنه كان يأتي جبريل إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فيلقي إليه الوحي بالقرآن فإذا سري عنه صلى الله عليه و سلم طلب واحدا ممن كان يكتب الوحي فيأمره بكتب ما أنزل الله تعالى فهذا هو الطرف الأول ثم يتناقله الصحابة بينهم ويحفظونه ويعرفه جماعة فالطرف هذا آحادي قطعا عن خبر من هو معلوم صدقه بالمعجزة وقد يكون آحاديا من الطرف الثاني وهو أن لا يبلغ الصحابة الذين يبلغون الوحي من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكونوا جماعة يحيل العادة إلى آخره ومن
عرف كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول علم هذا علم يقينا ولماجمع أبو بكر القرآن أمر زيد بن ثابت أنه من أتى إليه بآية ومعه شاهدان أن يكتبها وأنه وجد زيد بن ثابت آخر أية في سورة براءه مع خزيمة بن ثابت وحده فأثبتها لأنه صلى الله عليه و سلم جعل شهادته بشهادة رجلين وعلل الجمهور شرطية التواتر في ذلك ما أشار إليه قوله ... لأنها تقضي بهذا العاده ... قطعا كما قرر في الإفاده ...
فهذا دليل الدعوى بأنه لا يثبت قرآنا إلا ما تواتر قالوا وذلك لأن القرآن لإعجازه الناس عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه مما تتوافر الدواعي على نقله تواترا وقوله كما قرر في الإفادة إشارة إلى أن هذا كلام أئمة الأصول الذين قرروه وفيه نزاع طويل قد أوضحناه في حواشي شرح الغاية ولا يخفى أنه الآن ومن قبل الآن قد صار كون القرآن ما حواه دفتا المصحف
إجماعا قطعيا لا يدخله تشكيك وأنه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... وحرموا بما عدا السبعية ... قراءة الذكر على البرية ...
قال في الأصل وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما عدا السبع يريد قراءة نافع وأبي عمرو والكسائي وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة قالوا فهذه السبع متواترة وإنما أضفنا التحريم إليهم لما يأتي لنا من البحث في ذلك وقال الحافظ السيوطي في الإتقان عند الكلام على المتواتر والمشهور والآحاد وغيرها ما لفظه وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه أبو الخير بن الجزري قال في أول كتابه النشر كل قراءة
وافقت العربية ولو بوجه ووافقت إحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أو العشرة أو غيرهم من الأئمة المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عن من هو أكثر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق كما صرح بذلك مكي والداني والمهدوي وأبو شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد خلافه انتهى
وقال فعرفت من كلامه أن السبع لا يعتبر بها حتى توافق الثلاث القواعد التي ذكرها وإن ما وافقها فهو القرآن من السبع كان أو من غيرها وادعى ابن الجزري أن هذا مذهب سلف الأمة كما سمعته وقد قال الحافظ السيوطي إنه أحسن من تكلم في ذلك وفي قوله بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن جمل منه لحديث أنزل القرآن على سبعة أحرف على القراءات وهو قول من قريب أربعين قولا ذكرها في الإتقان وهجن على من قاله إنه أريد به القراءات السبع المعروفة الآن التي أشير إليها في النظم وفي أصله
ثم إن ها هنا بحثين الأول قد عرفت أن الدليل أنه لا يكون القرآن إلا ما تواتر هي العادة التي أشرنا إليها وليس لهم دليل غيرها وقد تعقب بعض المحققين هذا الدليل وقال مثال العادة طلوع الشمس من المشرق وغروبها من المغرب واستمرار الجبل حجرا ثم قال فهذه العادة التي يحال على مثلها وعمدتها حصول العلم بمقتضاه ويترتب على العلم بمتقضاها العلم بمكابرة منكرها وهذه العادة التي ذكرت هنا المسلم منها لزوم تواتر في الجملة وجمهور التفاصيل وقد وقع بفضل الله تواتر أكثر مما تقضي به العادة من ذلك وأما ما ادعوه هنا فلا قضى به عقل ولا ساعده الواقع وكثير من الناس العقلاء العلماء لا سيما المختصون بعلم القرآن على خلاف هذه الدعوى وتهجينها وقد ذكروا ذلك وأقرب شيء من الكتب المحيطة المتداولة النشر لابن الجزري ومن ادعى على الناس أنهم منكرون للتواتر الضروري الذي يراجع كل منصف نفسه بعد مبالغته في البحث فيحكم على دعواهم بالبطلان فمنزلة هذا المدعي الإهمال انتهى
فهذا البحث الأول في قولهم وكل ما لم يتواتر فإنه ليس بقرآن الذي أشار إليه قوله فما أتى بغيره لا ينظر البحث الثاني على قول ابن الجزري الذي نقله في الإتقان واستحسنه من أن كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها إلى آخر كلامه فإنه قد أورد عليه ذلك المحقق أن الذي اشترطه غير صحيح أما موافقة خط المصحف فلا دليل على ذلك كيف وقد خولف المصحف في مواضع لم يقرأ أحد على مقتضاه فيها فهل قرأ أحد أو لاأذبحنه ولا أوضعوا خلالكم ونحو ذلك ولا نسلم استقرار خط المصحف على قانون والعمدة إنما هو النقل والمصاحف وضعت لضبط الجملة
ولا وقع عليها إجماع بل ربما لم يطلع عليها جمهور سادات الصحابة وحفاظهم كأبي وابن مسعود المشهور لهم بجودة القراءة وكذلك وغيرهم وذلك لا يخفى على الباحث
وكذلك اشتراط وجه في العربية غير صحيح وإن كان عليه تصرف الزمخشري وكثير وهل يقضي بما صح من امرىء القيس على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو العربي حقا المتلقي له عن جبريل عن الله تعالى وأما العربي فإنما نعمل بكلامه لظننا أنه تكلم على حسب الوضع ولذا إذا شذ لم يعمل بقوله إذا عارضه الجمهور حتى نجوز تغليظه لظننا في بعض المواد أنه تكلم على غير الوضع وقد ذكر هذا ابن الحاجب توجيها لقول سيبويه إن بعض العرب يغلطون ثم يقال لهؤلاء المدعين أتشكون في هذا الجمهور من سادات الصحابة كأبي وابن مسعود وابن عباس
وعلي بن أبي طالب وفاطمة في قراءة من أنفسكم بفتح الفاء وعائشة في مثل تلقونه بألسنتكم ومن لا يحصى من أكابرهم منهم من روي عنه القراءة والقراءتان ومنهم المكثر جدا كأبي وابن مسعود ومنهم المتوسط ثم كذلك التابعين وتابع التابعين فإن شككتم في روايتهم وأنهم غلطوا فقد شككتم في جملة الدين فإنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه و سلم وبيننا وما رووه قرآنا أحق بالاحتياط والتحفظ وإن كان شككتم في من بعدهم فكذلك يلزم تعطيل الشريعة لأنهم رواتها
وأما قولهم إنه يجوز أن يدخل أحدهم مذهبه في مصحفه ويجعله في نظم القرآن مع كثرة ذلك في مصحف أبي وابن مسعود وسائر من رويت عنهم القراءات فرميهم بهذا لا يجوز ولا يجوز فيهم فهم خير القرون وهم حملة الدين والسفرة بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأمة فما أسمج هذا التجويز وأوقح وجه من جوزه انتهى
قلت وبهذين البحثين يعرف الحق ثم لا يخفى أن كلام ابن الجزري الذي استحسنه السيوطي ونقله في الفصول قاض بعدم القول بوجوب تواتر
أفراد القرآن لقوله صح سندها فإن المتواتر لا ينظر في سنده أصلا ولذا قال ابن الجزري بعد ذلك ما لفظه وقولنا وصح سندها نعني أن يروى تلك القراءة العدل الضابط عن مثله هكذا حتى ينتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن غير معدودة عندهم من الغلط أو ما شذ بها بعضهم قال وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ماجاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن قال وهذا لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من رسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن الرسول صلى الله عليه و سلم وجب قبوله وقطع فيه بكونه قرآنا سواء كان موافقا للرسم أم لا وإذا شرطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابتة عن السبعة ذكره في الإتقان
فتحصل من مجموع ما ذكر عدم تمام دعوى تواتر السبع وعدم تحريم القرءاة بغيرها كما في الأصل والنظم وهو أيضا غالب ما في كتب الأصول أو كلها والنظم إنما يأتي بما في الأصل وإن كان الناظم يختار خلافه وقد أشرنا إلى ذلك بقولنا وجزموا وأما حكم ما عدا السبعة فقد أشار إليه قولنا ... وهي نظير الخبر الآحادي ... يلزم ما فيها على العباد ...
أي أن القراءة الخارجة عن السبع في حكمها كالخبر الآحادي وحكمه وجوب العمل به فكذلك الشاذة هذا مختار الجمهور قالوا فيعمل بقراءة ابن مسعود في قوله فصيام ثلاثة أيام متتابعات ويجب التتابع قالوا وإنما يعمل بها في الأحكام العملية لا العلمية لأن الآحاد لا تفيد العلم واستدلوا على ذلك بأنه لا يخلو من أن يكون قرآنا أو سنة لأن الغرض أن نقلها عنه صلى الله عليه و سلم صحيح وترك شيء من صحيح القرآن أو السنة لا يجوز وخالف الشافعي وجماعة فقالوا قد اتفقنا على شرطية تواتر القرآن وقد
انتفت قرآنيتها لعدم تواترها وبكونها نقلت قرآنا انتفت عنها السنية وأجيب بأن العمل بها ليس لوصفها أعني القرآنية أو السنية بل لذاتها التي هي صحة نسبتها إلى الشارع في الأول والخطأ في الوصف بالقرآنية إن سلم وجوب التواتر لايستلزم الخطأ في نسبة الذات التي هي نسبة الحكم إلى الشارع ولم يشترط في الرواي أن لا يخطىء رأسا بل يكفي رجحان ضبطه على سهوه والفرض أن الرواي كذلك والندرة لا تبطل الرجحان ... وآية من صدر كل سورة ... لفظة بسم الله في المشهورة ...
وفي المشهور صفة لموصوف محذوف أي في الأقوال المشهورة واعلم أنه لا خلاف في ثبوت البسملة خطأ في أوائل السور وأنها قرآن في سورة النمل أعني قوله إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وإنما الخلاف في كونها قرآنا منزلا أوائل السور فمن ناف لقرآنيتها في جميعها ومن مثبت ثم المثبتون اختلفوا هل هي آية مستقلة أنزلت للفصل بين كل سورتين أو آية من الفاتحة فقط أو آية منها بعض آية من غيرها من السور فالذي رجحه الجمهور ما أشار إليه النظم من أنها آية من أول كل سورة واستدلوا على ذلك بإجماع أهل البيت حكاه في حواشي الفصول وحكاه ابن عطية النجراني في تفسيره وبأنها وردت الأحاديث بذلك المحصلة للتواتر المعنوي فإنه نقل السيوطي في الإتقان ثلاثة عشر حديثا ثم قال فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآنا منزلا أوئل السور وزاد عليها ابن الإمام في شرح الغاية حتى بلغت سبعة وثلاثين حديثا بما ذكره في الإتقان
قلت لكن من نظر بعين الإنصاف في تلك الأحاديث علم أنها بمراحل
عن إفادة التواتر المعنوي الدال على كونها قرآنا منزلا في أوائل كل سورة وقد صرح القاضي سيلان في حاشيته على شرح الغاية بأنه لا شيء منها يدل على المطلوب غير ما أخرجه الثعلبي عن علي عليه السلام موقوفا أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص وكان يقول هي تمام السبع المثاني فقوله إذا افتتح السورة هي أعم من الفاتحة وغيرها وقوله هي تمام السبع المثاني دال على أنه يرى أنها آية من الفاتحة ومن غيرها من السور والأحاديث في جهره صلى الله عليه و سلم بها في صلاته وعدمه متعارضة وغير ناهضة على إثبات المدعي وهي أحاديث كثيرة قد ساقها النووي في شرح المهذب وأطال
قال في الفواصل وأحسن الأدلة إجماع الصحابة على تجريد المصاحف عما لم يكن قرآنا وبالمبالغة في ذلك حتى لم يثبتوا آمين ومنع بعضهم العجم أي الإعجام وكون البسملة سنة مشهورة في كل أمر ذي بال لا يسوغ كتابتها في المصاحف وإلا لكتبت الاستعاذة فهي آكد السنن عند تلاوته بل قد قيل بوجوبها كما هو ظاهر الأمر بقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله
وأيضا قد تواتر ثبوتها في أول كل سورة في المصاحف وهذا كاف في تواترها قرآنا حيث قد ثبت إجماع الصحابة على أن لا يكتبوا إلا ما كان قرآنا إلا أنه إذا التفت نظرك إلى الأحاديث الدالة على إنزالها أول كل سورة للفصل ولتعريف النبي صلى الله عليه و سلم بانقضاء السورة عرفت أنه وجه نير لكتابتها في المصاحف وعذر واضح في عدم النكير من الصحابة رضي الله عنهم وحينئذ فلا يتم الاستدلال على المدعى بدليل قطعي وقد بسطنا البحث في حواشي البحر المسماة بالاستظهار
مسألة في المحكم والمتشابه ... وما أتى متضحا معناه ... فمحكم وما الخفا حواه ... خلافه وليس فيه ما لا ... معنى له حاشاه عمن قالا ...
اشتمل النظم على أمرين الأول أن في آيات القرآن محكما ومتشابها كما أفاده نص كلام الله تعالى حيث قال منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وقد وصف الله تعالى القرآن بأن آياته كلها محكمة في قوله كتاب أحكمت آياته ووصفها كلها بالمتشابه الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فالوصف لكل آية بالإحكام مراد به إتقان نظمه والوصف كلها بالمتشابه مراد به تماثله بلاغة وفصاحة وإعجازا فعلى هذا المعنى كل محكم متشابه وكل متشابه محكم وأما المقصود هنا فهو ما في الآية الأولى وقد سمعت تفسير المحكم بأنه ما كان معناه متضحا والمتشابه بخلافه وقد فسرهما الطيبي بذلك حيث قال والمراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه لأن اللفظ الذي يقبل المعنى إما أن يحتمل غيره أو لا الثاني النص والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى أرجح أو لا الأول هو الظاهر والثاني إما أن تكون معانيه متساوية أو لا
والأول هو المجمل والثاني هو المؤول فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه انتهى ما نقله السيوطي عنه في الإتقان
فقول الناظم معناه أي المراد ما عني به فيخرج المؤول من تعريف المحكم إذ هو من المتشابه وإن صدق عليه أنه متضح المعنى المستفاد من الوضع فليس هذا هو المعني وكذا في المتشابه ليس المراد بالمعنى إلا ما عني به فيدخل المؤول فيه فإنه وإن لم يكن معناه خفيا من حيث الوضع فإنه خفي من حيث المعنى المقصود منه
وفي ترجيح أساليب القرآن أن المتشابه يطلق على معنيين لغوي وشرعي أما اللغوي فهو ما لا يمكن فهم المراد منه وهو المسمى بالمجمل في أصول الفقه وقد يكون في المفرد كالقرء للحيض والطهر والمختار اسم الفاعل واسم المفعول وفي المركب نحو أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
والقسم الثاني من المتشابه الشرعي هو ما لا يتضح في العقل حكمته أو صحته أو معناه كالحروف في أوائل السور وإنما انقسم المتشابه إلى القسمين لأن التشابه تفاعل من أشبه هذا ذلك ولما كانت الأمثال والأشباه يلتبس بعضها ببعض كثيرا صار الاشتباه من ملزومات الالتباس فكأنه قال تعالى منه آيات بينات لا لبس فيها وأخر محل لبس ولا يخفى أن اللبس يصدق على ما بلغ غايته فيه بأن لا يفهم معناه العارف باللسان أصلا وذلك كالحروف المقطعة أوائل السور فإنه لم يأت فيها دليل قاطع على تعيين معنى من المعاني التي قالوها وقد بلغت قريب عشرة أقوال كلها تظنين وتخمين وكل من
قال بقول قائل بأنه يجوز أن يريد الله معنى لا يعرفه المكلف فكونها لا يعرف لها معنى معين قطعا اتفاق بين الأمة وهذا مقتضى قراءة الوقف على الجلالة والوقف عليها يروى عن أربعة من علماء الصحابة وعن جماهير القراء وهذا القسم هو الذي سلف أنه متشابه شرعي لأن تشابهه ليس من حيث اللغة إذ لم تأت عن أهل اللغة هذه الأحرف المقطعة على هذا الأسلوب إذا عرفت هذا القسم فحظ المؤمن أن يقف على الجلالة وأن يقول آمنا به كل من عند ربنا واعتقاد أنه لا يعلم تأويله إلا الله وليس هذا القسم من مباحث أصول الفقه إنما من مباحثه القسم الثاني وهو ما فيه لبس دون ذلك فقد قدما أمثلته وهو مما يفهم معناه ويزال لبسه بالرد إلى المحكم بالأدلة ولذا كانت الآيات المحكمات أم الكتاب لأنه يرد إليها المتشابه فإن قيل يلزم على هذا التقدير أن ضمير تأويله عائد على أحد قسمي المتشابه وهو خلاف الظاهر قلت هذا لا ضير فيه فقد جاء نظيره في القرآن قال تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى ان قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فإن المطلقات شامل للبائنات وضمير بعولتهن للرجعيات ووهن بعض المطلقات وهذا هنا نظيره
واعلم أن هذه الآية من المتشابه لأنه لا يتضح معناها إلا بعد ردها إلى المحكم فإن ضمير تأويله يتبادر عوده إلى المتشابه من حيث هو الظاهر وإنما صرفناه إلى أحد قسميه بالدليل وهو أن من المعلوم أن ذلك القسم الذي يرد إلى المحكم وهو ام الكتاب أنزله الله تعالى للعمل به وفهم معناه والتكليف بالبحث عنه كما في قوله أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه غير متضح المعنى لتردده بين الزوج والولي فيجب إرجاعه إلى أم الكتاب حتى يتضح المراد لأنه أنزل للعلم به فلا بد من إرجاعه إلى المحكم فهذا الأمر الأول مما اشتمل عليه النظم والأمر الثاني قوله وليس فيه ما لا معنى له فإنه إشارة إلى رد قول الحشوية بسكون الشين المعجمة كما قاله الزركشي نقلا عن
ابن الصلاح قال وفتحها كثير على الألسنة وهو غلط قال لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فلما أنكر ما قالوا قال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها وعن ابن الصلاح إجازة الفتح
ومن أقوالهم المنكورة تجويز أن يكون في القرآن ما لا معنى له أصلا قال الزركشي فإنهم قالوا يجوز بل هو واقع كمثل كهيعص ونحوها من الحروف المقطعة أوائل السور ومثل كأنه رؤوس الشياطين ثم قال والصحيح أن ذلك ممتنع إذ اللفظ بلا معنى هذيان لا يليق بالعاقل فكيف بالباري سبحانه إلى آخر كلامه ثم ذكر بعد ذلك تنبيها فقال إن خلاف الحشوية فيما له معنى لكن لم نفهمه كالحروف المقطعة وآيات الصفات ثم قال أما ما لا معنى له أصلا فباتفاق العلماء لا يجوز وروده في كلام الله تعالى وما ذكره في التنبيه فهو إشارة إلى الاعتراض على ابن السبكي حيث قال في جمع الجوامع ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة خلافا للحشوية وكلام ابن السبكي ككلام الناظم والمسألة نقلية ولم يأت أحد الرجلين بالبرهان على ما جعله محل النزاع ولو كان محله ما قاله الزركشي لما كان لتخصيصه بالحشوية معنى لأن القول بأن الحروف المقطعة أوائل السور وآيات الصفات مما له معنى لا يفهم كلام جماعة من أئمة التحقيق كما أشرنا إليه قريبا قال الزركشي إن الحاق الحديث يريد قول الجمع أي جمع الجوامع
والسنة ذكره صاحب المحصول وقال الأصفهاني في شرحه لم أره لغيره
وقوله حاشاه عمن قالا أي أنزه القرآن أو الرب تعالى عن قول من قال إن فيه ما لا معنى له
مسألة في أنه لم يأت في القرآن ما لا يعني به غير ظاهره بغير دليل كما أفاده قولنا ... ولا به يعني خلاف الظاهر ... بلا دليل فاستمع وذاكر ...
عطف على قوله وليس فيه ما لا معنى له أي ليس فيه يعني القرآن لفظ يراد به خلاف ظاهره من غير دليل يقوم على حمله عليه وهذا أشار إلى رد خلاف المرجئة بالهمزة من الإرجاء وهو التأخير وقد تخفف الهمزة بمثناة تحتية وقال في القاموس أرجأ الأمر أخره ومنه سميت المرجئة ويقال المرجية بالياء مخففة
واعلم أن المرجية ست فرق كما في الملل والنحل فعد منهم فرقة تقول إن آيات الوعيد خاصة بمستحل الحرام دون من يفعله معتقدا للتحريم وفرقة قطعت بغفران ما دون الكفر وأن الفاسق لا يعاقب قطعا فهاتان الفرقتان ينبغي أن تكونا مراد الأصوليين في هذه المسألة لأنهم حملوا آيات الوعيد على خلاف ظاهرها من غير دليل قال أئمة الأصول ردا عليهم الصحيح أن
ذلك لا يجوز لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل واحترز بقوله بغير دليل عن ورود العموم وتأخر الخصوص ونحوه
قلت واعلم أنه نقل الشارح التلميذ رحمه الله عن شرح الشيخ لطف الله للفصول أن المرجئة الذين يجوزون في آيات الوعيد شروطا واستثناء بلا دليل قالوا في نحو قوله تعالى إن الفجار لفي جحيم المعنى إن أراد الله عذابهم أو إلاأن يعفو عنهم أو إن كانوا كفارا ونحو ذلك وقد أجيب عليهم بأنه مع كونه لا دليل عليه يلزم مثله في الأمر والنهي والوعد فيقال في مثل أقيموا الصلاة إن المراد إن اخترتم ذلك أو إن لم يشغلكم أرب أو نحو ذلك وأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين وتجويز أنا غير مكلفين بما أمرنا به ونهينا عنه وأنا على غير ثقة مما وعدنا به من الجنة هذا حاصل ما نقله
وقد أورد عليه أن القائل بعدم إدراك المتشابه قائل بأنه أريد به غير ظاهره بلا دليل يبين المراد منه وإن قولكم إن المرجئة قالوا ذلك بلا دليل غير صحيح لأنكم إن أردتم بلا دليل أصلا فقد استدل المرجئة لما زعموه بأدلة معروفة وإن أردتم بلا دليل صحيح فإن أردتم صحيح في نفس الأمر فلا يلزمهم لاحتمال الخطأ في الأدلة لما في نفس الأمر وإن أردتم الصحة عندهم وبحسب معتقدهم فما قالوه إلا وهو عندهم صحيح قطعا وإذا عرفت هذا عرفت أن الأولى أن يراد بالمرجئة من ذكرنا من فرقهم وأنه كان الأولى أن يقول أهل الأصول خلافا لبعض فرق المرجئة على أنه لا يتم أن الفرقتين قالوا ما قالوه لا عن دليل ولذا قلنا فاستمع وذاكر إشارة إلى أن المسألة لا تصفو عن كدر ولا تخلو عن نظر
ولما نجز الكلام على الدليل الأول وهو الكتاب أخذ في الكلام على الدليل الثاني وهو السنة فقال ... فصل وأما سنة المختار ... محمد صلى عليه الباري ...
كأنه قال أما الكتاب فكذا وأما السنة فلأنها قسيمته كذا في نسخ
جرى عليها قلم المؤلف ولعل ما في هذه النسخة أظهر والله أعلم وذلك لأنها قسيمته في الدليلية أي في كون كل واحد منهما دليلا
واعلم أن السنة لغة الطريقة المعتادة قال الله تعالى سنة الله التي قد خلت أي طريقته وعادته ومنه حديث عشر من سنن المرسلين أي من طرائقهم وسماها في القرآن بالحكمة كما قال أئمة التفسير في قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة إن المراد بالحكمة هي السنة وتطلق على الخير والشر ومنه حديث من سن في الإسلام خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم والضياء عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه
وتطلق في عرف المتشرعين على ما يقابل الفرض وعلى ما صدر عنه صلى الله عليه و سلم من أقواله وأفعاله وتقريرارته وهذا هو المراد هنا كما يفيده قوله ... فإنها الأقوال والأفعال ... كذلك التقرير فالأقوال ...
فإنه اشتمل النظم على ذكر أقسامها الثلاثة وهكذا عد أقسامها أكثر أئمة الأصول ولم يذكروا الترك لأن التروك داخلة في الأفعال لأنها كف والكف فعل ولا يقال والتقرير كف أيضا فلا حاجة إلى ذكره لأنا نقول إنما قلنا بدخول التروك في الأفعال توجيها لما وقع منهم كعبارة الغاية بلفظ ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير نعم عبارة جمع الجوامع بلفظة السنة
أقوال محمد صلى الله عليه و سلم وأفعاله قال شارحه والتقرير داخل في الأفعال لأنه كف ومثلها عبارة أصل النظم إذا عرفت هذا فالأقوال هي أقواله صلى الله عليه و سلم الصادرة عنه بعبارته فالقرآن خارج عنها وكذلك الأحاديث القدسية لأنها من قول الله تعالى ولما اشتركت الثلاثة في كونها سنة وأدلة أشار إلى التفاضل بينها في القوة بقوله فالأقوال وهو مبتدأ خبره قوله ... أقوى من الاثنين والمختار ... بأن ما يفعله المختار ...
المختار الأول مبتدأ خبره الجملة بعده والمراد بالمختار الأول القول وبالثاني الرسول صلى الله عليه و سلم فإن من أوصافه المختار لأن الله اختارة لرسالته واصطفاه وفي البيت جناس تام وكون الأقوال أقوى من الأفعال والتقارير وهو المختار وذلك لاستقلالها بالدلالة على تعدي حكمها إلينا فلا يحتاج معها إلى غيرها بخلاف الأفعال فلا يستدل بها بدون القول ولعمومه فإن القول يدل على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس بخلاف الفعل فإنه يختص بالموجود المحسوس إذ المعقول والمعدوم لا يمكن مشاهدتهما وللاتفاق على أن القول دليل بخلاف الفعل فإن من الناس من يقول إن الأفعال لا يستدل بها ولا تكون بيانا فهذه ثلاثة وجوه لكون الأقوال أقوى من الأفعال وإذا كانت أقوى من الأفعال فبالأولى أن تكون أقوى من التروك
واعلم أنه قال الزركشي إنه كان ينبغي لصاحب جمع الجوامع أن يزيد وهمه أي يجعل همه صلى الله عليه و سلم بالفعل من من أقسام سنته كالقول والفعل قال وقد احتج الشافعي في الجديد على استحباب تنكيس الرداء في خطبة الاستسقاء بجعل أعلاه أسفله بحديث أنه صلى الله عليه و سلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها
فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه فجعلوا ما هم به ولم يفعله سنة انتهى قلت وفي الخلافيات للبيهقي برجال ثقات وهو عن أبي داود من حديث عائشة وفيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلت أو حول رداءه وعند أحمد أنه حول الناس معه قال ابن دقيق العيد في الإمام إن إسناده على شرط الشيخين ففيه انه وقع منه صلى الله عليه و سلم التحويل فعلا على أنه قد تعقب أبو زرعة كلام الزركشي قائلا بأن الهم امر خفي لا بد أن يقترن بقول أو فعل فيعود إليهما
ولما كانت أفعالة صلى الله عليه و سلم تنقسم إلى أربعة أقسام جبلي وخاص به وما ليس كذلك وبيان المجمل أشار إليهما الناظم بقوله ... إن لم يكن من واضح الجبلة ... أو كان خاص فيه بالأدلة ...
قوله من واضح الجبلة بالجيم والموحدة في القاموس أنها كطمرة الخلقة والطبيعة انتهى والجبلي كالقيام والقعود والأكل والشرب أي أنفسهما لا هيئاتهما من الأكل باليمين واختصار اللقمة وإطالة المضغ والقعود غير متربع وفي الشرب ثلاثة أنفاس وغير ذلك من حيث كونها من ضروريات البشر لا من حيث لها تعلق التشريعات
والثاني ما قام الدليل على انه من خواصه صلى الله عليه و سلم وذلك كإيجاب الوتر والمشاروة والنكاح بلا شهود وحل الجمع بين تسع نسوة
والثالث وهو ما ليس جبليا ولا مختصا به يأتي حكمه فالأولان لا يشرع التأسي به صلى الله عليه و سلم فيها بل يحرم في الثاني والثالث يأتي حكمه وأما الرابع وهو الفعل الذي قصد به البيان وقد أشرنا إليه بقولنا ... أما إذا كان بيان المجمل ... فهو كما بين والأمر جلي ...
في أن حكمه حكم ما بينه من وجوب أو غيره وذلك نحو أفعال الحج مع قوله خذوا عني مناسككم فإن أفعاله صلى الله عليه و سلم فيه بيان لمجمل قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم في الصلاة صلوا كما رأيتموني أصلي فإن أفعاله في الصلاة بيان لمجملها في القرآن والسنة وهذا الرابع لم يذكره في أصل المنظومة فهو من الزيادات عليه والحكم فيه له جهتان كما قاله الزركشي من حيث البيان فهو تابع لما بينه ومن حيث التشريع واجب مطلقا أي يجب عليه صلى الله عليه و سلم البيان وإن كان حكم المبين الندب واتباع التأسي إنما هو في الأول وفلأ قوله واضح الجبلة إشارة إلى أن ما لم يتضح فيه أمر الجبلة بل تردد بين الشرعي والجبلي أنه لا يجزم بأنه جبلي كما قاله في جمع الجوامع ومثله في الحج راكبا قال ففيه تردد هل
يحمل على الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه عليه السلام بعث مبينا للشرعيات قال وقد حكى الرافعي الوجهين في مسألة ذهابه صلى الله عليه و سلم إلى العيد في طريق ورجوعه في أخرى وقال إن الأكثرين على التأسي فهذه أحكام الثلاثة من أفعاله وأما الرابع وهو ما عداها وقد جعلناها ثالثا فيما سلف لما عرفت من أنه في أصل المنظومة كذلك فالحكم فيه ما أفاده قولنا ... كان التأسي واجبا علينا ...
وهو خبر قوله بأن ما يفعله المختار إلا أنه لما قيد صلة اسم إن بقوله إن لم يكن إلى آخره ووقع الاعتراض بين اسم إن وخبرها بقوله إن لم يكن إلى آخره طال الفصل بينهما وهو جائز إذا أدى إليه ارتباط الكلام وأخذ بعضه ببعض كما هنا والمعنى أن الذي يفعله المختار صلى الله عليه و سلم يجب علينا التأسي به فيه إذا لم يكن فعله ذلك جبليا أو خاصا أو بيانا لمجمل فإن الأولين لا تأسي فيهما والثالث حكمه حكم ما بينه من الأقوال فهو في التحقيق عائد حكمه إلى حكم القول فكأنه قول لا فعل فعرفت أن التأسي مفتقر إلى بيان حقيقته وقد أبانها قوله ... ورسمه فيما انتهى إلينا ... فعلك أو تركك فعل الغير ... متابعا في الوجه والتصوير ...
الأسوة لغة القدوة كما في القاموس وهنا رسمها الأصوليون بما سمعته قال عضدالدين معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله انتهى
فقوله فعلك أو تركك لأنه يجري التأسي في الترك وقوله فعل الغير أي مثل فعل الغير وقرينة حذف مثل واضحة عقلية إذ لا يمكن فعل فعل الغير نفسه حتى يتوهم أن مفعول الغير مفعول فعلك وقوله تركك مثله وقوله متابعا في الوجه المراد من الوجه الحكم من وجوب أو ندب أونحوهما وفي نسخة أخرى من النظم في الحكم والنسخة الأولى متابعة لعبارتهم وقوله والتصوير أي مشابهة الفعل لفعل الغير في الصورة وقد أفاده قوله فعل الغير وإنما هو تأكيد وتفهيم وقد أبان الوجه المذكور بقوله ... فما علمنا وجوبا يجب ... وما علمنا حسنه فيندب ... إن كان للقربة فيه قصد ... ما لم فقل إباحة لما عدا ...
اعلم أن في حكم هذا القسم خلافا بين أئمة أهل الأصول وقد عرفت أنه ينقسم إلى قسمين الأول ما عرف وجهه وصفته والثاني ما لم يعلم فالأول إن كان الوجه هو الوجوب فأمته مثله في الوجوب قالوا للقطع بأن الصحابة كانوا يرجموه إلى فعله المعلوم وجهه وذلك يقتضي علمهم بالتشريك عادة ولقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهي الفعل على الوجه كما عرفت ولقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا إلى قوله لكي لا يكون على المؤمنين حرج فلولا التشريك لما علل تزويج النبي صلى الله عليه و سلم بذلك في حق المؤمنين هذا إن علم وجه ذلك الفعل وإذا لم يعلم فينظر إن ظهر قصد القربة بالفعل ثبت رجحانه وهو مفاد الندب كما أفاده عجز البيت الأول وبتقييده بقوله إن كان للقربة خرج المباح فإنه حسن لكنه خرج بذلك القيد وأما الواجب فإنه وإن صدق عليه أنه حسن وأنه
يقصد به القربة فالسياق مناد على أنه غير مراد وإن لم تظهر القربة فيما فعله فإنه يدل على جوازه أي ما لم يظهر قصد القربة فذاك جائز لما عدا أي لما عدا ما عرف وجوبه ولما لا يعرف قصد القربة فيه فإنه يكون مباحا وهو الذي اختاره ابن الحاجب وذلك لفقد المعصية والوجوب والندب زيادة لم تثبت فتعين الجواز وقيل بل الوقف والدليل على الوقف أن الفعل متردد بين الوجوب والندب والإباحة ومجرد الفعل لا ينهض على معين منها فلم يبق إلا الوقف عن تعيين الحكم ومع جواز فعله للإباحة الأصلية لا تتحقق الإباحة الشرعية بل لعدم تحقق الحكم قلت لو قيل إنه لا يتحقق في حقه في فعله صلى الله عليه و سلم الإباحة فلا يتحقق مجهول الوجه لكان قويا لما عرف من أن المباحات تنقلب مندوبات بحسن النيات وهو صلى الله عليه و سلم أحق خلق الله بأن لا يفعل فعلا إلا بنية القربة فليس في أفعاله مجهول الصفة بل أقلها ما يكون وجهه الندب ولعله الذي حمله من قال بذلك في مجهول الصفة أي صفة الحسن لكنه رده ابن الحاجب بأنه لو كان للندب أو للإباحة لوجب التبليغ لأنها أحكام شرعية والفرض أنه ليس الموجود إلا مجرد الفعل ولذا عدل الناظم عن عبارة الكافل فإن عبارته وإلا فإباحة وقد عد أهل الأصول في المطولات صورا وأمثلة مما تدل على وجه الفعل فلا نطول بها ثم ذكرنا ما ذكره في الأصل بقولنا ... وتركه ما كان آمرا به ... ينفي الوجوب فاتبع وانتبه ...
هذه المسألة لم يذكرها ابن الحاجب ولا صاحب جمع الجوامع في هذا البحث والمراد أن تركه لشيء قد أمر به يدل على عدم وجوبه عليه وعلينا وذلك كتركه قسمة أرض مكة وسبي أهلها مع أن الحق أنها فتحت عنوة وهذا مما لا يقم عليه دليل على أنه خاص به كتركه القسم بين أزواجه قلت ولا يخفى أن التمثيل بأرض مكة في ذلك يقال عليه إن أريد أن أرض مكة لو فتحت مرة أخرى عنوة فلا تجب قسمتها فهذا لا معنى له لأنه حرم القتال
فيها ما دامت الدنيا وإنما أحلت له صلى الله عليه و سلم ساعة من نهار وعادت حرمتها إلى يوم القيامة وإن أريد أنه إذا فتح الإمام ! أرضا جاز له ترك قسمتها فمسألة أخرى ... وفعله الأمر الذي عنه نهى ... إباحة قال به أولوا النهى ...
أي أن فعله صلى الله عليه و سلم للأمر الذي نهى عنه يقتضي الإباحة ولا تخفى لطافة ذكر الأمر والنهي ومثلوه بنهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي كما ثبت ذلك في الأمهات وغيرها ثم رآه ابن عمر وقد استدبر القبلة عند قضاء الحاجة كما ثبت ذلك في الأمهات أيضا قالوا فإن فعله صلى الله عليه و سلم المتأخر دال على إباحة ما نهى عنه وهو مجرد مثال وإن كان في المسألة أقوال وقد بسطناها في سبل السلام بسطا شافيا وإنما جزموا بأن فعله لما كان نهى عنه يقتضي الإباحة لأنها لا تجوز عليه المعصية فيماطريقه التبليغ فيحكم بأنه مباح لا حرج في فعله وتركه
مسألة وأما تقريره صلى الله عليه و سلم فأفاده قوله ... سكوته مع علمه بما جرى ... وهو على إنكاره مقتدرا ... ولم يكن من غيره إنكار وليس مما يفعل الكفار ...
هذه شروط أربعة للسكوت الذي يكون تقريرا
الأول علمه صلى الله عليه و سلم بوقوع فعل أو قول من أي فاعل
مكلف أو غير مكلف والتعميم بالقول والفعل صرح به في الفصول إذ لا فرق بين الأقوال والأفعال في ذلك وتعميم الفاعل الدال على عدم اشتراط أن يكون من أقر صلى الله عليه و سلم فعله أو قوله مكلفا هو الذي تقتضيه عبارة الأصل وعبارة جمع الجوامع حيث قال فإذا لا يقر محمد أحدا ونصره صاحب الآيات البينات واستدل له بأن الباطل قبيح شرعا وإن صدر من غير مكلف إذ لا يجوز تمكين غير المكلف منه وإن لم يأثم به إذ يوهم من جهل حكم ذلك الفعل جوازه وعليه يدل كلام الهادوية في الفروع وشرطية علمه صلى الله عليه و سلم هي عبارة الأصل وقيل لا يشترط تحقق علمه بل يكفي إذا انتشر الخبر انتشارا يبعد أن لا يعلمه صلى الله عليه و سلم ونقل عن الشافعي فيه قولان
الشرط الثاني كونه صلى الله عليه و سلم مقتدرا على إنكاره فما لم يقتدر على إنكاره لا يكون سكوته صلى الله عليه و سلم تقريرا لفاعله دالا على إباحته هكذا جزم به ابن الحاجب ومن تابعه على هذا الشرط واعترضه الجلال في نظام الفصول فقال الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا إلا للتبيلغ فلا يجوز عليهم السكوت قط لأنه ترك للتبيلغ وقد ثبت عصمتهم اتفاقا وسبقه إلى هذا البرماوي في شرح منظومته قائلا إن من خصائصه صلى الله عليه و سلم أن وجوب الإنكار عليه لا يسقط عنه بالخوف على نفسه قلت ومن طالع سيرته صلى الله عليه و سلم علم هذا فإنه كان يجاهد صناديد قريش وفجارهم بتقبيح ما هم عليه في مواطن لا يأمن على نفسه
منهم وأما دخوله بعد عوده من الطائف في جوار المطعم بن عدي بعد وفاة عمه أبي طالب فلزيادة التقوى وزجر السفهاء عن التعرض له وقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم خاف أول الأمر وقال إني أخاف أن يتلفوا رأسي فأمنه الله بما وعده به من النصر والفتح وحينئذ فقد يقال لا يتم في حقه أن يخاف على نفسه وهذا كله قبل نزول قوله تعالى والله يعصمك من الناس وأمابعدها فلا كلام فيه
الشرط الثالث قوله ولم يكن من غيره إنكار فإنه لو أنكر غيره بحضرته لم يكن سكوته تقريرا لاكتفائه بنكار الغير فإنه لو كان إنكاره في غير موضعه لما قرر صلى الله عليه و سلم يشكله ولأنكر عليه إنكاره ما ليس بمنكر ويدل عليه ما ثبت في قصة كعب بن مالك فإنه صلى الله عليه و سلم لما سأل في تبوك ما فعل كعب بن مالك قال بعض من حضر شغله النظر في عطفيه فقال بعض الحاضرين عنده صلى الله عليه و سلم والله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت صلى الله عليه و سلم مقررا للبعض في رده عليه غيبة كعب وإنكاره على من اغتابه
الرابع قوله وليس مما يفعل الكفار أي أنه إن كان سكوته عن ش علمه إنكاره كمضي كافر إلى كنيسة فإن سكوته عليه لا يكون تقريرا له وإباحة لفعله سواء قدر على إزالته أو لا فإذا جمع سكوته هذه الشروط فالحكم فيه ما يفيده قوله ... يبيح ما هذا يكون حاله
وهذه الجملة خبر قوله سكوته وهي بيان لحكم التقرير المذكور وأنه إباحة الفعل والقول الذي سكت صلى الله عليه و سلم عليهما ومرادهم بالإباحة ما يستوي معها الطرفان وقد أورد عليه أن غاية ما أفاده السكوت ورفع الحرج عما سكت عليه فمن أين الدلالة على الجزم بالإباحة المقتضية لاستواء الطرفين وكأنه أراد المورد أن هذا السكوت يكون كالفعل الذي جهل فيه قصد القربة وقد منع المحققون دلالته على الإباحة كما عرفت بل قالوا يدل على الجواز وقيل بالوقف وكل هذا فيما لم يسبق له تحريم عقلي أو شرعي أما لو كان قد سبق له تحريم فالسكوت ناسخ أو مخصص وقد قيل إن من ذلك سكوته على لبس الزبير الحرير للعلة وهذا مثال وإلا فإنه قد عرف أنه قد ثبت الإذن منه صلى الله عليه و سلم بالقول لإباحة لبس الزبير الحرير
مسألة في عدم تعارض أفعاله صلى الله عليه و سلم ... ولم تعارض أبدا أفعاله ...
جزم أئمة الأصول بأن أفعاله صلى الله عليه و سلم لا تتعارض إذ حقيقة التعارض بين الشيئين تقابلهما وحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر وذلك لا يتصور بين فعلين بحيث يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر لأنهما إن لم يتناقض حكمهما كصلاتين في وقتين فلا تعارض وإن تناقضا كصوم يوم وإفطار ذلك اليوم بعينه فكذلك أيضا لجواز أن يكون الفعل واجبا في وقت وفي الوقت الآخر بخلافه من غير أن يكون مبطلا لحكم الفعل الأول
لانه لا عموم في الأفعال وهذا الذي عليه الجمهور ونقل فيه خلاف لا يتحقق إلا بين قرائن الأفعال لا في الأفعال نفسها وكلامنا فيها من غير نظر إلى قرائنها وأما بين أفعاله صلى الله عليه و سلم وأقواله أو بين أقواله فإنه يقع التعارض وأشار إلى ذلك بقوله ... فإن تعارض قوله والفعل ... أو كان في قولين كان الفعل ... بأن ما كان أخيرا ناسخا ... أو كان تخصيصا إذا ما أرخا ...
اعلم أن الفعل إذا تقدم وقام الدليل على تكراره ثم وقع القول بخلافه وقع حينئذ التعارض وإذا وقع فلا بد من أحد أمرين إما الجمع بينهما أو الترجيح وقد أشار في النظم إلى ذلك بقوله كان الفعل أي العمل في الجمع بين المتعارضين فلفظ الفعل هنا غيره في صدر البيت وبينهما جناس تام ومثلوا ذلك بأن ينقل إلينا استقباله صلى الله عليه و سلم بالحاجة وقد نهى عن ذلك فالجمع بينهما أنه إن علم التاريخ فالأخير ناسخ هذا إن تأخر مدة تتسع للعمل كما ياتي أنه شرط في النسخ وإن جهل التاريخ كان تخصيصا مثاله أن يقول صلى الله عليه و سلم صوم يوم الجمعة واجب علينا فيفطر فيه قبل صومه فهذا يكون تخصيصا له صلى الله عليه و سلم لامتناع حمله على النسخ على المختار فالمراد من قولنا ناسخا أنه يرفع مقتضى الحكم لا النسخ بالمعنى المصطلح فإنه ليس الآخر ناسخا على كل حال
ولك أن تقول مقابلته بالتخصيص قرينة قوية على أن المراد بالنسخ الحقيقي إن كملت شروطه وإلا فالتخصيص وقد قالوا في الحديث الوارد في النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة عند قضاء الحاجة لما عارضه حديث
ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم يقضيها مستقبلا للشام مستدبرا للقبلة إنه تخصيص له صلى الله عليه و سلم عن عموم النهي أو إنه تخصيص للعمران
وقوله إذا ما أرخ قيد لناسخا وما زائدة أي إذا أرخ ومع التاريخ يعلم تقدمه أو تأخره فإن جهل التاريخ فالحكم قوله ... أو جهل التاريخ فالترجيح ...
أي إن جهل تاريخ المتقدم من المتأخر مع تعذر الجمع بين الفعل والقول فإنه يرجع إلى الترجيح ويأتي في باب الترجيح وتقد إشارة إليه أن القول أرجح وقد طولت المسألة في المطولات وكثرت فيها المقالات المفروضات ولا حاجة إلى ذلك بعد معرفة القاعدة
مسألة في طريق نقل الأحاديث والرواية للسنة النبوية التي يثبت بها صحة المنقول بسند إليه صلى الله عليه و سلم والرواية منحصرة في قسمين لا غير التواتر والآحاد وإليهما أشار بقوله ... ثم طريق نقلها الصحيح ... تواتر الأخبار والآحاد ... فما روى جماعة أفادوا ... بنفسه العلم بصدق ما روي ... فأنه الأول والقول القوي ... فقد اعتبار العدد المحصور ... بل ما أفاد علمنا الضروري ...
الطريق لغة ما يوصل إلى المطلوب الحسي واستعير هنا لما يوصل إلى المطلوب المعنوي والطريق تذكر وتؤنث والصحيح صفة له على الأول أو لأن
إضافته إلى النقل تكسبه التذكير وإنما قيده بالصفة لأن الصحيح هو المعتبر وإن كان التدوين لأعم من ذلك والأخبار جمع خبر أريد به هنا النسبة الثبوتية أو السلبية والآحاد جمع أحد بمعنى الواحد كبطل وأبطال
والتواتر لغة تتابع الشيء مع تراخ واصطلاحا أفاده قوله فما روى جماعة إلى آخره وهو تعريف للمتواتر لأنه المقصود بالبحث وهو مبتدأ خبره قوله فإنه الأول ودخول الفاء لتضمن المبتدأ لمعنى الشرط ونسبة الإفادة إلى الجماعة وإن كانت الإفادة القريبة لخبرهم لأنهم السبب البعيد وقوله بنفسه يتعلق بأفادوا والمراد أفادوا بنفس خبرهم وهو احتراز عما يفيد ذلك بالقرائن من أخبار الآحاد عند من يقول به وقد حققناه في شرح التنقيح فخرج أخبار جماعة لا يفيد العلم وخبر الواحد الذي يفيده بالقرينة
ولما اختلف أئمة الأصول هل يشترط عدد الجماعة الذين يحصل بخبرهم التواتر أو لا ذهب قوم إلى اشتراطه ثم اختلفوا فيه فقيل أربعة وهو أقل ما قيل وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر وهو أكثر ما قيل وبينهما أقوال في تعيين أعدادهم وكلها أقوال لا ينهض على شيء منها الاستدلال فلذا قلنا إن فقد عدم اعتبار عدد محصور برتبة معينة هو القول القوي وإنما ضابطه حصول العلم إلا أن إفادته العلم تختلف باختلاف المخبرين في التدين والجزم والتنزه عن الكذب وتباعد الأقطار وارتفاع تهم الأغراض والاطلاع من المخبرين على المخبر به عادة كدخاليل الملك إذا أخبروا عن أحواله الباطنة وتختلف باختلاف السامع فكم من سامع يحصل له العلم بخبر جماعة لا يحصل لآخر بذلك الخبر لاختلافهم في تفرس أخبار الصدق وانتفائها والإدراك والفطنة وتختلف باختلاف المخبر عنه كأن يكون خبرا خفيا أو غريبا أو ظاهرا أو مبتذلا
إذ لا يخفى على الذكي أن الاختلاف فيه موجب للاختلاف بخبر أقل أو أكثر وهذا حاصل مع ما في العضد وحواشيه
هذا وقد ذكر للتواتر شروط لازمة له منها تعدد المخبرين بحيث يمتنع عادة توافقهم وتواطؤهم على الكذب بأن يكون خبرهم مستندا إلى الحس من مشاهدة أو سماع ونحوها ذكره الرازي والآمدي وأتباعه والذي صرح به الأقدمون اشتراط كونه عن ضرورة قالوا وإنما شرط استناده إلى الحس لجواز الغلط لو استند إلى غيره
وتعقب بأن الحس قد يقع الغلط فيه وأجيب بأنه يمتنع وقوعه عادة من الجمع المعتبر هنا
واحترزوا بالمحسوس عن الأخبار بالمعقولات فإن أخبار عدد التواتر عن حدوث العالم مثلا لا يفيد بنفسه العلم ما لم يؤيد بالنظر
والثالث استواء الطرفين والوسط في حصول العلم بخبر الرواة لا في العدد والمراد أن لا ينقص العدد لا أن لا يزيد فالزيادة مرادة ولعل هذه الشروط تتبعها من الخبر الذي أفاد بنفسه العلم وأنها لازمة له لا تفارقه وإلا فالمعتبر عندهم ليس إلا إفادته العلم ثم الأكثر على أن العلم المستفاد من التواتر ضروري لا نظري لحصوله لمن ليس له أهلية النظر كالعامي إذ النظر ترقب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون والعامي ليس له أهلية ذلك فلو كان نظريا لما حصل لهم واعلم أنها قد ذكرت له شروط زينها المحققون وأشار إلى دفع بعضها بقوله
وحاصل بفاسق وكافر ...
فإنه رد لمن شرط العدالة في رواة التواتر فلا يقع من الفساق أو الإسلام فلا يقع من الكفار قال من اشترط ذلك لأن الكفر والفسق مظنة الكذب فعدمها يكون شرطا ولأنه إخبار أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة ولأنه أخبر أمة من اليهود بقتل المسيح ولم يحصل بخبرهم العلم بقتله ورد بأنه لو أخبر أمة من الفساق بخبر كقتل ملك بلدتهم لحصل العلم بصدق خبرهم ضرورة وبأن خبر اليهود بقتل عيسى حصل به العلم لتواتره بروايتهم وحصول شرط التواتر لكنه تعالى أكذبهم في كتابه العزيز فنفى ما حصل من العلم بخبرهم ليس لخلل في شروط التواتر بل لأمر خارق سماوي وليس ذلك لكون الرواة كفارا وقد زيدت شروط غير هذين وقد ردها أئمة الأصول فلا حاجة إلى ذكرها
مسألة في انقسام التواتر إلى اللفظي والمعنوي ... واللفظ لا يختص بالتواتر ... بل جاء في المعنى كإقدام الوصي ... كرم ربي ذلك الوجه الرضي ...
التواتر ينقسم إلى لفظي وهو اتفاق الرواة على لفظ واحد عمن يروونه عنه ومن أمثلته حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
فإنه ذكر البزار في مسنده أنه رواه عنه صلى الله عليه و سلم إثنان وسبعون نفسا من الصحابة منهم العشرة المشهود لهم بالجنة قال وليس في الدين حديث اجتمع على روايته العشرة غيره ولا نعرف حديثا يروى عن اكثر من ستين نفسا من الصحابة سوى هذا الحديث انتهى
قلت وفي تنقيح الأنظار أن منه حديث رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام بالصلاة فإنه روي من طرق كثيرة قال ابن عبد البر رواه ثلاثة عشر من الصحابة وقال ابن كثير نيف وعشرون وجمع زين الدين العراقي رواته فبلغوا خمسين صحابيا منهم العشرة ومنه حديث المسح على الخفين قال صاحب الإلمام عن ابن المنذر أنه قال روينا عن الحسن البصري أنه قال حدثني سبعون من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أنه مسح على الخفين وقال زين الدين رواه أكثر من ستين نفسا من أصحاب محمد صلى الله
عليه وآله وسلم منهم العشرة رضي الله عنهم وبه يعرف عدم صحة دعوى البزار وأنها محمولة على ما عرفه
والتواتر واللفظي في أول ما سقناه مجزوم به وفيماعداه الأظهر تواتر لفظه أيضا وإلا فلا يخفى أن الناقلين لرواية رفع اليدين ! عند تكبيرة الإحرام رووا فعله صلى الله عليه و سلم لذلك وأنهم رأوه يرفعهما ! لا أنهم رووا أنه قال صلى الله عليه و سلم ارفعوا أيديكم فهي من رواية الفعل تواترا فيحسن أن يقال والتواتر يجري في أقسام السنة من فعل وقول وتقرير ومثال تواتر الفعل مسألة رفع اليدين والمسح على الخفين وكلام أهل الأصول على هذا محمول فإنهم فسموا طريق نقل السنة النبوية مطلقا إلى تواتر وآحاد فيدخل تحت القسمة أنواع السنة الثلاثة
وأما التواتر المعنوي وهو اختلاف ألفاظ المخبرين عن خبر رووه واتفقت ألفاظهم على معناه فإنه كثير واسع وعليه مدار غالب التواتر ويفيد تواتر القدر المشترك ومثاله تواتر شجاعة علي عليه السلام فإن الأخبار تواترت عن وقائعه في حروبه من أنه فعل في بدر كذا وكذا وفي أحد كذا وهزم يوم خيبر كذا ونحو ذلك فإنها تدل بالالتزام على تواتر شجاعته ومن ذلك حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فإن له مائة وخمسين طريقا قال العلامة المقبلي بعد سرد بعض طرق هذا الحديث ما لفظه فإن لم يكن هذا معلوما فما في الدنيا معلوم وجعل هذا الحديث في الفصول من المتواتر لفظا وكذلك حديث المنزلة وهو قوله صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة
هارون من موسى الحديث وعدها ابن الإمام في شرح الغاية من المتواتر معنى وأقر الجلال كلام الفصول في تواتر حديث الغدير ولم يسلمه في حديث المنزلة وإنما قال إنه صحيح مشهور لا متواتر وذكر الحافظ السيوطي في كتابه تدريب الراوي أنه ألف كتابا في هذا النوع لم يسبق إلى مثله سماه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ولخصته في جزء لطيف سميته قطف الأزهار
واعلم أن التواتر المعنوي لا يفيد علما بخصوصية جزئي من جزيئات ما روي فيه وفي جواهر التحقيق ما لفظه والتحقيق أن الأخبار الجزئية المتعلقة بخصوصيات الوقائع لها حالتان حالة الانفراد وحالة الاجتماع ففي حالة الانفراد لا تفيد علما قطعيا أصلا بخصوصية الشجاعة مثلا ولا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك لأنها باعتبار الانفراد من جملة أخبار الآحاد وهي لا تفيد علما قطعيا وفي حالة الاجتماع تفيد علما قطعيا بالشجاعة المطلقة التي هي القدر المشترك ولا تفيد علما قطعيا بخصوصية شيء من جزيئات الشجاعة لأنها بهذا الاعتبار من جملة الأخبار المتواترة بالنسبة إلى الشجاعة المطلقة ومن جملة الأخبار الآحادية بالنسبة إلى خصوصيتها فليتأمل انتهى ببعض اختصار
واعلم أنه مثل في شرح الغاية بشجاعة علي عليه السلام وجود حاتم وجعل دلالة الوقائع المتعددة في المثال الأول دالة على شجاعة علي عليه السلام بالالتزام قال وذلك لأن الشجاعة من الملكات النفسية فيمتنع أن يكون نفس الهزم المحسوس أو جزءا منه لكن الشجاعة لازمة لجزيئات الهزم والقتل في الوقائع الكثيرة فتكون دلالة الهزم ونحوه في الوقائع الكثيرة على الشجاعة
بطريق الالتزام وجعل الثاني من الدلالة التضمنية قال فإن ما يحكى من عطاياه من الإبل والخيل والعين وغيرها يدل بالتضمن على جوده قال لأن الجود يطلق في الظاهر على الأثر الصادر عن الملكة النفسانية التي هي الحقيقة للجود وقد أريد بالجود هنا ما هو الظاهر وهو إعطاء ما ينبغي لا للعوض مطلقا فيكون جزء من الإعطاءات المخصوصة فتكون دلالة كل واحدة من خصوصيات الإعطاء عليه بطريق التضمن ولو أريد بالجود الملكة النفسانية لم يكن إلا من الدلالة الالتزامية
قلت ولا يخفى أن الفرق بين المثالين غير تام بل هما معا من الدلالة الالتزامية فإن تلك الأفعال خارجة عن مسمى الشجاعة والجود فليست بجزء منها حتى تكون من دلالة التضمن كما أنها ليست نفسها حتى تكون من دلالة المطابقة والقول إن الجود يطلق على الملكة النفسانية ويطلق في الظاهر على الأثر الصادر عنها الذي فسره بما ذكر اي الجود فيكون جزءا من كل إعطاء مخصوص بأحد الاعتبارين سجود يرى بعينه في الشجاعة فإنها كما أنها تطلق على الملكة النفسانية تطلق على الأثر الصادر عنها وهو القتل والهزم فتكون الشجاعة جزءا من كل قتل وهزم ودعوى الظهور في إطلاق الجود على الأثر الصادر دون الشجاعة ممنوع فلا فرق بين المثالين ولذا اقتصر في النظم على أحدهما على أن ابن الهمام صرح في التحرير بنفي الدلالة التضمنية والالتزامية بالمعنى الأخص فقال
وليس شيء منهما يدل على السجية ضمنا إذ ليس الجود من مفهوم إعطاء الألف تضمنا ولا التزاما إلا بالمعنى الأعم لجواز أن يتغفل قاتل ألفا
بلا حضور معنى الشجاعة فما قيل المعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام تساهل انتهى
قلت ولا يخفى أن نفيه لكونه لازما غير صحيح واستدلاله بجواز الغفلة غير ناهض لتصريحهم أنه لا يلزم المتكلم استحضار لوازم كلامه عند تكلمه بل صرحوا بأنه لا تكفير بالالتزام لأن المتكلم كثيرا ما يلقى كلامه غير قاصد للازمه ولا منتبه له وإنما اللفظ يدل عليه ولا يلزم قصد المتكلم دلالته عليه وإنما شرطوه في المزايا واللطائف والنكات البيانية
وإذا عرفت أن الأخبار انقسمت إلى التواتر والآحاد وعرفت التواتر بقسميه فاعلم أن الآحاد أيضا ينقسم إلى قسمين كما دل على قوله ... وانقسم الآحاد فهو مسند ... ومرسل والظن منه يوجد ...
اشتمل البيت على مسألتين الأولى تقسيم الحديث الآحادي وقد عرفت أن الآحادي قسيم المتواتر فيدخل في الآحادي المتلقى بالقبول والعزيز والمشهور وهو المستفيض فهذه من الآحاد وتحقيقها في علوم أصول الحديث وقد حققنا ذلك بحمد الله في نظم النخبة المسمى بقصب السكر وفي شرحها المسمى بإسبال المطر وبسطناه في شرح تنقيح الأنظار بسطا ينتفع به النظار وقد انقسم الآحاد كما قال فالآحاد ينقسم إلى مسند ومرسل
فالأول المسند وهو في اصطلاح الأصوليين ما اتصل من راويه إلى النبي
صلى الله عليه و سلم وهو التفسير الذي قطع به الحاكم أبو عبدالله وهو قول لأهل الحديث
والثاني المرسل وهو عندهم أيضا ما سقط من إسناده راو أو أكثر من أي موضع فدخل فيه المعلق والمنقطع والمعضل وهي أنواع من المرسل مبينة في علوم الحديث
الثانية في ما يفيده الخبر الآحادي وقد جزم في النظم أنه يفيد الظن وهو اتفاق إنما الخلاف في إفادته العلم فالضمير في قوله منه عائد إلى الآحاد وحاصل القول فيما يفيده الخبر الآحادي ثلاثة أقوال أشار إليها في جمع الجوامع حيث قال خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة وقال الأكثر لا مطلقا أحمد يفيد العلم مطلقا انتهى
فالقول بأنه لا يفيد العلم هو قول الجمهور من أئمة الأصول وعرفت أن من الآحاد المتلقى بالقبول وهو الذي تكون الأمة ما بين عامل به ومتأول له فهو لا يفيد العلم لأنه من الآحاد إلا أن يجعل التلقي بالقبول من القرائن التي حفت الخبر فأفاد العلم معها على من يقول إن الآحاد إذا حفته القرائن أفاد العلم
واعلم أنا قد بحثنا في شرح التنقيح في علوم الحديث في هذه القاعدة وهي إفادة الآحاد الظن أو العلم بأنه يختلف باختلاف أحوال المخبر والمخبر اسم فاعل والمخبر اسم مفعول فمنه ما يفيد العلم ومنه ما يفيد الظن فليست إفادته العلم وعدم إفادته حكما كليا وإلى عدم إفادته العلم ووجوب العمل به في الفروع قلنا ... لا غيره واجب في الفرعي ... قبوله لا في الدليل القطعي ...
قوله لا غيره عطف على قوله والظن منه يوجد أي لا غير الظن وهو العلم لقرينة المقام وإن كان لفظ غيره أعم وقول من قال أنه يفيد العلم إذا حفته القرائن لا يناسب البحث إذ النفي باعتبار النظر إلى الآحاد من حيث هي فلا ينافيه أن الآحادي المحفوف بالقرائن يفيد العلم فإن الإفادة ليست من الخبر الآحادي بل مما انضم إليه وإذا عرفت أنه قد اتفق على إفادته الظن فقوله وواجب في الفرع إشارة إلى مسألة ثالثة تتعلق بوجوب العمل بالخبر الآحادي فإذا كان يفيد الظن فقد عرفت أنه يجب العمل بالظن في الأحكام الفرعية كما عرفته من بحث الدليل ورسمه وقد عرفت مما سلف أن الظن يعمل به في مسائل الأصول كما قررناه في رسم أصول الفقه فقولنا هنا لا في الدليل القطعي إشارة إلى كلام الجمهور أنه لا يقبل في مسائل الأصول إلا الأدلة القطعية موافقة لما في الأصل الذي نظمناه وإلا فمختارنا خلافه
فقولنا لا في الدليل القطعي أي أنه لا يجب قبول الآحادي في الأدلة القطعية التي تشترط في مسائل الأصول
ثم لما كان قد وقع الخلاف في قبول أخبار الآحاد أشار إلى دليل ما أفاده قولنا ... لبعثه المختار للآحاد ... وما أتى عن صحبه الأمجاد ...
الجار يتعلق بقوله وواجب قبوله والبيت تضمن الإشارة إلى دليلين على وجوب قبول خبر الآحاد هما عمدة أدلة المسألة
الأول أنه تواتر عنه صلى الله عليه و سلم تواترا معنويا وعلم ذلك من ضرورة سيرته بعثه الآحاد إلى كثير من العباد لطلب الإسلام وإبلاغ الأحكام كإرساله إلى قيصر وكسرى وصاحب مصر وغيرهم وكإرساله معاذ بن جبل وأبي موسى إلى اليمن وأمره معاذا بأنهم إذا لم يسلموا عاقبهم بأخذ الجزية ورتب صلى الله عليه و سلم على ذلك قبول إسلامهم وعدمه وعاقب من امتنع بالقتال والدعاء عليه كما دعا على كسرى حينما مزق كتابه بتمزيق ملكه ورتب علىعدم إسلام هرقل غزوه وتجهيز جيش مؤتة إلى بلاده وتواتر أنه صلى الله عليه و سلم قبل خبر الآحاد ورتب عليه كما ذكروا كقبوله خبر الوليد بن عقبة في أن بني المصطلق ارتدوا وهم بغزوهم لولا أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ وهذه الأدلة قاضية بوجوب العمل وقاضية بقبول الآحاد في أصول الشرائع وغيرها وما قيل من أن إرساله الآحاد من المحفوف بالقرائن لأنه لم يرسلهم إلا وقد شاعت دعوته وذاعت وبلغت الآفاق فلا يتم الاستدلال بذلك على وجوب قبول الآحاد مطلقا ضعيف لأنا نقول هذه القرائن لا تفيد أن من
جاءهم بكتابه صلى الله عليه و سلم مثلا وهو رسول منه وأن الكتاب كتابه وإنما هذا الشيوع بالبعثة يفيد خير من يخبر أن محمدا صلى الله عليه و سلم ادعى النبوة فيقال قد حف خبره قرينة شيوع الدعوة فهو صادق في خبره وأما إفادة أن هذا كتابه صلى الله عليه و سلم وأنا رسوله فلا تفيده قرينة الشيوع شيئا بل لا يستفاد أنه كتابه وأنه رسوله إلا من خبره
والدليل الثاني ما أفاده قوله وما أتى عن صحبه الأمجاد وهو إشارة إلى ما تواتر عن الصحابة من العمل بالآحاد وهو أمر لا ينكره إلا من يجهل أحوالهم وسيرتهم وقد ذكر في المطولات قصص كثيرة من ذلك لا حاجة إلى التطويل بها
وقد أورده على هذا الدليل أن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة حتى رواه معه محمد بن مسلمة وأن عمر بن الخطاب لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد قلت لا يخفى أنه غير وارد لأنه لم يخرج بانضمام من ذكر إلى من توقف في روايته عن الآحادي فإن الاثنين من الآحاد ولعله إنما توقف بما ذكر من تلك الروايات عن الواحد تثبتا وبزيادة اطمئنان لأن تلك الأخبار مما لا تخفى ولا يكاد يتفرد بها فرد من الرواه سيما مثل الاستئذان الذي تعم به البلوى كل إنسان والاستثبات في رواية الفرد مثل ذلك لا يدل على رده فإنه صلى الله عليه و سلم لما قال له ذو اليدين
أقصرت الصلاة أم نسيت استثبت وقال أحقا ما يقول ذو اليدين فإنه لما انفرد بذلك والحاضرون في الصلاة أعيان الصحابة قد سكتوا كان محلا للاستثبات وإلا فقد قبل صلى الله عليه و سلم أخبار الآحاد في عدة وقائع ومن هنا تعلم أن المراد من قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم العلم الأعم الشامل للظن وهو الذي أريد به أيضا في قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فهو نهي عن العمل بلا علم ولا ظن فلا يتم الاستدلال بها لمن قال لا يعمل بالآحاد لأنها لا تفيد إلا الظن كما لا يتم له أيضا الاستدلال بقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن قال فإنه تعالى ذمهم على اتباع الظن فدل على أنه لا يعمل به ووجه أنه لا يتم الاستدلال بالآية أن الظن لغة يطلق على الشك كما في القاموس الظن التردد الراجح فجعل التردد وهو الشك أول معنييه وقيام الأدلة على العمل بالراجح هي القرينة أنه أريد بالمذموم الشك ومنه إن الظن لا يغني من الحق شيئا بعد قوله إن يتبعون إلا الظن
واعلم أنه قد أفاد قوله في النظم أنه يفيد الظن أنها إفادة عامة للمسند والمرسل وأنه يجب قبول الكل وفي المرسل خلاف وتفاصيل مودعة في الفصول وغيره من مطولات الفن وقد ألم به في الفواصل والذي
نختاره قبول المراسيل لشمول دليل قبول الآحاد ما لم تحصل ريبة نائشة من تساهل المرسل وقد حققنا البحث في شرحنا على تنقيح الأنظار تحقيقا شافيا قوله لا في الدليل القطعي عطف على قوله وواجب قبوله في الفرعي أي أنه يجب قبول الآحاد في غير المسائل التي تطلب فيها الأدلة القطعية وزاده بيانا قوله ... وفي الأصول أهملوا الآحادا ... إهمال ما يشملنا اعتقادا ...
فإن المراد بالأصول أصول الفقه وبقوله يشملنا اعتقادا مسائل أصول الدين اقتضى النظم هذا التعداد وإلا فالكل أصول وإن كان عند الإطلاق للفظ الأصول لا يتبادر إلا أصول الفقه وهذا هو ما ذهب إليه الجمهور فإنهم قالوا لا يقبل الآحاد في الأصول لأن المطلوب فيها اليقين وقد أشرنا إلى خلاف ما ذهبوا إليه في شرح رسم أصول الفقه وحققنا أن غالب مسائله
ظنية وقد حققنا وجوب العلم بالظن فيما رسموه أصول الدين في رسالة لنا مستقلة بل بينا أن قسمة المسائل الشرعية إلى أصول وفروع بدعة لم تأت بها سنة كقسمة الصوفية للدين إلى شريعة وطريقة أو حقيقة كل هذا ابتداع ... أو عملا لكن لهم خلاف ... فيه وفي أمثاله اختلاف ...
أي أو كان الخبر الآحادي ما يشملنا أيها الأمة عملا فإن في قبوله والعمل به خلافا وهذه هي المسألة التي يترجمها أئمة الأصول بأن الآحاد لا يقبل فيما تعم به البلوى عملا قال الجلال في نظام الفصول إن كلامهم فيها غير منقح لأن التكاليف كلها مما تعم به البلوى إما من جهة المحكوم عليه وهو المكلف أو فيه قال في الفواصل إنه كشف ابن الهمام القناع عن محل النزاع وحاصله أنه إذا ورد خبر الواحد فيما يحتاج إليه المكلف ويكثر تكرر وقوعه منه فإنه لا يثبت به الوجوب عند الحنفية إلا إذا اشتهر أو تلقي بالقبول فمحل النزاع حينئذ فيما يثبت به الوجوب على المكلف بشرط أن يحتاج إليه ويكثر تكرره من ذلك كحديث من مس ذكره فليتوضأ قال الجمهور على قبوله والعمل به ولاخلاف فيه لعامة الحنفية كما قاله ابن الهمام واحترر ابن الهمام بقوله يثبت به الوجوب عن مثل ما قيل من الآحاد في سنن الصلاة
ويشترط التكرار عن النادر كقبولهم الآحاد في نقض الوضوء بالقهقهة في
الصلاة وبالحجامة والفصد ووجوب الغسل من التقاء الختانين فكل هذا مقبول عند الحنفية إذ ليست مما تعم به البلوى على ما قرره ابن الهمام والمسألة أصلها للحنفية وتبعهم فيها بعض الهدوية والاكثر منهم أنه يقبل فيما تعم به البلوى عملا وإنما لم يعملوا بحديث مس الذكر لأنه ضعيف عندهم ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو اكثرهم عملا وحديث انتقاض الوضوء من مس الذكر مروي عن عدة من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأبي أيوب وجابر وأم حبيبة وقيس بن طلق وجماعة قد سردناهم في سبل السلام شرحنا لبلوغ المرام وحققنا ما فيه وفيما عارضه من حديث ما هو إلا بضعة منك
واعلم أنه زاد في أصل النظم أي وكذا فيما تعم به البلوى علما وكذا لا تقبل الآحاد فيما تعم به البلوى علما أي اعتقادا قال كخبر الإمامية أي في النص على اثني عشر إماما معينين والبكرية في الخبر الذي رووه في إمامة أبي بكر فلم نشر إليه في النظم لأنه قد دخل في قولنا اعتقادا كما قاله
في القسطاس أنه لا خفاء أن هذا داخل في صدر المسألة لأن مسائل أصول الدين مما تعم به البلوى علما انتهى وهو كما قال فلذا لم نفرده بالذكر كما فعله في الأصل وإذا عرفت ما ذكرناه في خبر الآحادي فإن للراوي له شروطا أشار إليها قولنا ... واشترطوا عدالة في المخبر ... وضبطه لما روى في الخبر ...
فهذا إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يشترط في المخبر اسم الفاعل العدالة ورسمها أئمة الأصول بأنها ملكة تمنع من ارتكاب الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة ورذائل المباحات مما يدل على دناءة الهمة كالأكل في السوق وكثرة السخرية والمجون وقال ابن الحاجب هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة وفي الغابة لابن الإمام أن العدالة ملكة في
النفس تمنعها من اقتراف الكبائر والرذائل وعبارة أهل الأصول متطابقة على هذا المعنى وكذلك أئمة أصول علوم الحديث ويزيدون قيد عدم البدعة كما في شرح النخبة لابن حجر
واذا عرفت أن العدالة ما ذكر فلا حاجة إلى ذكر قيد التكليف والإسلام إذ لا يتصف بها إلا من كان كذلك
واعلم أنا قد بحثنا في رسالة ثمرات النظر في علم الأثر وفي شرح التنقيح ومنحة الغفار في هذا الرسم الذي تطابقوا عليه ولم يأتوا بدليل عليه بل خلت كتب الأصول المطولات عن الاستدلال عليه كأنه أمر قطعي معلوم من ضرورة الدين قلت ولا يرتاب عارف أن هذا الرسم بالملكة التي هي كيفية راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة يمتنع بها عن الإتيان بكل فرد من الكبائر وصغائر الخسة ليس معها بدعة فهذا تشديد لا يتم وجوده إلا في حق المرسلين المعصومين وإن هذا ليس معنى العدالة لغة بل قد صرحوا أن معناها لغة التوسط في الأمر وفي القاموس العدل ضد الجور وفي الصحاح العدل خلاف الجور وفسره الجوهري بأنه الميل عن القصد وفي النهاية العدل الذي لا يميل به الهوى وللمفسرين في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل أقوال في تفسيره قال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله تعالى ! إن الله يأمر بالعدل قال شهادة أن لا إله إلا الله وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه عن علي بن أبي طالب
أنه قال العدل الإنصاف فهؤلاء أهل اللسان العربي ومن نزل القرآن بلغتهم وشاهدوا نزوله وقد فسر الصحابة الاستقامة في قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بعدم الرجوع إلى عبادة الأوثان وأنكر أبو بكر على من فسرها بعدم الإتيان بذنب وقال حملتم الآمر على الشدة وفسرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإتيان بالفرائض وإذا عرفت هذا فهذا بحث لغوي لم يخرجه الشرع عن معناه
فالعدل هو المتوسط في الأمور الذي يغلب خيره على شره ويطمئن القلب إلى خبره وقد بسطنا البحث في ثمرات النظر وغيرها مما ذكرناه وفي هذا كفاية ولم نجد أحدا نبه عليه مع وضوحه بل تابع الآخر الأول فيه
وها هنا ذكر أئمة الأصول تعريف الكبيرة وعدد أفرادها ولهم في رسمها وعدها خلاف لا حاجة إلى ذكره هنا وقد أوضحنا في ثمرات النظر الخلاف بينهم أنه هل الأصل الإسلام أو الفسق وذكرنا أدلة ذلك وهنا أصل آخر وهو هل الأصل في المعصية الصغر أو الكبر قال بالأول الشافعية وبالثاني من أهل البيت الناصر والمنصور وغيرهما والمختار تجويزها حتى يقوم دليل أفاد
معناه في الفصول وفي شرحه للجلال الأولى أن يقال الأصل براءة الذمة عن المعصية فإذا قام عليها دليل فإن كان قطعيا وانضم إليه قرائن الكبيرة فكبيرة وإلا فملتبسة وإن لم يكن قطعيا فالأصل البراءة عن موجب الفسق وهو الكبر لعدم القطع بالمعصية أو لأنها مظنونة ويكون الأصل في المعصية المظنونة الصغر لأنه الأقرب إلى ماهيتها كما في مخالفة الواجبات الظنية انتهى
المسألة الثانية مما تضمنه النظم هو ضبط الراوي لما رواه وهو أن يكون الغالب على حاله الضبط لا أنه يكون في أعلى درجات الحفظ والإتقان وهو قسمان ضبط الصدر وهو الحفظ وضبط المسطور فإذا كان الراوي ضبط سماعه من كتاب وقابله على نسخة شيخه أو على ما قوبل عليها وأمن من التغيير صح تحديثه ويعرف إما باستشهاره أو بموافقة الحفاظ له وقد حققنا ذلك في شرح التنقيح وذكرنا من استوى حفظه وعدمه ومن كان حفظه أغلب وعكسه فليراجعه من أحب ذلك والشرط الثالث من شروط قبول خبر الآحاد أشار إليه قوله ... ولا يرد قاطعا قد علما ... ولم يكن لشهرة مستلزما ...
هذان شرطان لقبول الخبر الآحادي الأول أن لا يصادم قاطعا عقليا فيقطع بكذب كل خبر قضى بتشبيه أو جبر لم يمكن تأويله أو بوهم راويه كبعض أحاديث الصفات ونحوها هذا لفظ الفصول قال في شرحه
الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل النظام ما لفظه مثل حديث إن الجبار يضع قدمه في النار حتى تقول قط قط وحديث فحج آدم وموسى إلا أن الحكم بوهم الراوي في مثل ذلك لا وجه له إذ مثل ذلك موجود في القرآن نحو بل يداه مبسوطتان وما تشاؤون إلا أن يشاء الله وذلك من الكناية التي لا تستلزم وجود المعنى الحقيقي انتهى قلت الآية الأولى جعلها أئمة البيان من الكناية عن الجود والكرم وأما الثانية فلا إشكال فيها لأن مفعول المشيئة والاستقامة الدال عليها قوله تعالى قبلها لمن شاء منكم أن يستقيم ثم إنه يمكن تأويل الحديثين بل قد صرح شراح الحديث بتأويلهما على أن الأحوط الإيمان بما ورد وتفويض بيان معناه إلى الله وهذا لا بد منه في كل صفة له تعالى ثابتة بالنصوص القرآنية والأحاديث الثابتة فإن صفة القادر والعالم وغيرهما كلها لا يعرفها من خوطب بها إلا في الأجسام وقد آمنوا بها وأطلقوها عليه تعالى من غير تشبيه فليطلق عليه ما ثبت وروده وصح سنده وتفوض كيفية معناه إلى الرب تعالى وقد بينا هذا بيانا شافيا في كتاب إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة فهذا شرح الشرط الأول
والثاني الذي تضمنه المصراع الثاني من البيت وهو أن لا يكون مدلول الخبر الآحادي الذي روي مستلزما للشهرة فإنه إذا ورد عن الواحد وكان مستلزما لها ورد خبره قالوا لأن العادة تقضي باشتهاره واستفاضته وذلك
كخبر الواحد بقتل خطيب على المنبر فإنه يرد خبره حيث تفرد به من بين الجمع الكثير ونحوه مما توفر الدواعي على نقله وقد سبقت إشارة إليه في شرح قوله أو عملا لكن لهم خلاف إلا أنها في حكمه وهذا في بيان كونه عندهم شرطا لقبول الخبر الآحادي
ولما كانت العدالة شرطا في قبول الراوي وهي أمر صار لا يعرف إلا بطريق النقل أشار إليه قولنا ... هذا وهم قد أثبتوا العدالة ... بقول عدل صادق المقالة ... أو حكم من يشرطها في الشاهد ... أو عمل الحبر بقول الواحد ...
فهذه أربع طرق للتعديل الأولى قول العدل من أئمة التعديل إنه ثبت أنه حجة أو ثبت حافظ وعدوا في علوم الحديث رتب التعديل أربعا بالنظر إلى ألفاظ الائمة المعدلين محلها هناك الثانية قد دخلت تحت الأولى وإن جعلها أئمة الأصول رتبة ثانية وذلك قول المزكي هو عدل لكذا أي لأني صحبته سفرا وحضرا فما أتى بشيء يخرم العدالة فهذا قد شمله قوله بقول عدل صادق المقالة بل قد اعترض عدها رتبة غير الأولى
الثالثة قوله حكم من يشرطها في الشاهد أي أنه إذا حكم حاكم بشهادة الراوي فإن حكمه بها تعديل له وقولنا من يشرطها أي العدالة في الشاهد ضبط للفظ الأصل ومثلها عبارة الفصول وقد اعترض عليه
شيخه بأن شرط عدالة الشاهد إجماع فلا حاجة إلى قولهم عند من يشرطهما في الشاهد
الرابعة قوله أو عمل الحبر بفتح الحاء المهملة وتكسر العالم فإن عمله برواية الراوي تعديل له ولا حاجة إلى تقييده بالذي لا يقبل المجهول لأن من يقبله ليس معدودا في الناظرين في العدالة وطرقها لأن قبوله المجهول أسقط عنه البحث عن ذلك فلا يدخل فيمن عقدت لهم القاعدة
واعلم أنه لا بد في كون حكم الحاكم تعديل أن لا يكون له مستند في حكمه إلا الشهادة وأن لا تكون الشهادة إلا قدر نصابها وهم الاثنان أو الرجل والمرأتان ولا بد في كون عمل العالم تعديلا أن لا يكون له مستند سوى تلك الرواية عن ذلك الراوي ومن شرط عمله بها أن يكون في تحليل أو تحريم لا في الفضائل فإنه نقل البرماوي عن ابن تيمية أن الحديث إذا كان من أحاديث الفضائل فلا يكون عمل العامل به تعديلا لراويه لتساهلهم في أحاديث الفضائل واعلم أنهم عدوا من طرق التعديل ما فيه ضعف فأشرنا إليه وإلى ضعفه بقولنا ... قيل وأن يروي عنه عدل ... وهو ضعيف قاله الأقل ...
وللعلماء في المسألة ثلاثة أقوال الأول أن رواية العدل عن غيره لا تكون تعديلا مطلقا وهو أقواها الذي أشير إليه في النظم وذلك لما علم يقينا من رواية الأئمة عن الضعفاء حتى البخاري ومسلم مع أنهما أعز العلماء شرطا كما قيل وقد وجد في رواتهما ضعفاء كما أوضحناه في شرح التنفيح فكيف بغيرهما وبه تعرف ضعف هذا القول
القول الثاني أنه تعديل مطلقا
الثالث التفصيل وهو أنه كان لا يروى عن عدل فروايته تعديل
وإلا فلا واختار هذا التفصيل أئمة من الأصوليين وأهل الحديث وقد قيل إنه شرط الشيخين وقد وجد في رجالهما جماعة ضعفهم الأئمة من حيث العدالة كما أشرنا إليه وإذا عرفت أن التعديل من باب الرواية ومثله الجرح احتيج إلى ذكر الخلاف هل يكفي عدل واحد كما لوح به قولنا بقول عدل صادق أو لا يكفي فقلنا ... ويكتفى في الجرح والتعديل ... بواحد ولو بلا تفصيل ...
إشارة إلى مسألتين الأولى أنه يكفي الواحد في الإخبار بالعدالة والإخبار بالجرح وهذا فيه خلاف ذهب قوم أنه لا بد من نصاب الشهادة في الجرح والتعديل قال في تشنيف المسامع في الاكتفاء بجرح الواحد وتعديله في الرواية والشهادة مذاهب أحدها الاكتفاء به فيهما وبه قال القاضي أبو بكر في التقريب وعبارته في التقريب وهذا القول قريب ولا شيء عندنا يفسده انتهى وقال الإمام المهدي في المعيار وهو الأصح إذا القصد الظن وهما خبر لا شهادة
الثاني يكفي في الرواية لا الشهادة ونسب للأكثر قال الزركشي لأن شرط الشيء لا يزيد على أصله بل قد ينقص كالإحصان يثبت باثنين وإن لم يثبت الزنى إلا بأربعة فإذا قبلت رواية الواحد فلأن تقبل تزكية الواحد وجرحه أولى لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه فإذا لم يقبل في الشهادة إلا اثنان لم يقبل في تزكيتهما أقل من اثنين
قلت إن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزكيين ليكون للشاهدين أربعة مزكين فقد زاد الشرط على المشروط وإن أراد أنه لا بد لكل شاهد من مزك فهو لا يخرج من قول قابل الواحد غايته أن قابل الواحد يقول يكفي في الشاهدين جارح أو مزك فالحق قول قابل الواحد في الأمرين أي الشهادة والرواية كما قواه المهدي إذ هو من باب الإخبار ويلزم من شرط الاثنين مذهب الجبائي في عدم خبر الفرد الواحد
المسألة الثانية التي تضمنتها الإشارة بقوله ولو بلا تفصيل فإنها إشارة إلى الخلاف بين العلماء في الإخبار بالجرح والتعديل هل يكفي فيه الإجمال أو لا بد من التفصيل وفيها أقوال قيل يكفي فيهما الإطلاق ولا يجب ذكر السبب لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال وهذا رأي الباقلاني والثاني يجب ذكر سببهما للاختلاف في أسباب الجرح والمبادرة إلى التعديل بالظاهر الثالث يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر والرابع عكسه يجب في الجرح دون التعديل وهو قول الشافعي إذ قد يجرح ما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد قلت وهذا أحسن الأقوال وقد أوضحناه في شرح التنقيح
واعلم أنه لا بد في الجارح والمزكي أن يكون عارفا بصيرا بأسباب الأمرين ذا خبرة طويلة بالرجلين كما صرح به المهدي في البحر في كتاب الشهادات ولم يأت بقيد عارف للعلم بأنه لا يقبل الأمران إلا من عارف بأسبابهما وإلا لم يعتد به إذ مع الجهل بهما لا يعد تعديلا ولا جرحا وفي الفروع قول فيه تفصيل وهو أنه إن كان الجرح قبل الحكم كفى فيه الإجمال وإن كان بعد الحكم فلا بد فيه من التفصيل ثم إذا تعارض الجرح والتعديل ففيه أقوال أشرنا إلى الراجح منها بقولنا ... والجارح الأولى على الصحيح ... وإن يزد عدا على الترجيح ...
اختلف أهل الأصول في هذه المسألة فالفحول على أن الجارح أولى وإن زاد عدد المعدلين على الجارح فضمير يزد يعود إلى المعدل الدال عليه السياق ووجه أرجحية هذا القول أن قبول الجرح جمع بين كلامي الجارح والمعدل لأن قول المعدل هو عدل معناه لا أعلم جارحا وقول الجارح بخلافه معناه علمت فيه ما يخرم عدالته فكان قبول الجارح تصديقا لهما وهذا إذا أطلق وكان مذهبهما واحدا في أسباب الجرح والتعديل وقد قيد هذا الإطلاق لأن ذلك فيمن كان محتملا للأمرين لا لو كان المجروح ممن علمت
عدالته واشتهرت نزاهته كعلي بن الحسين زين العابدين وإبراهيم بن ادهم فلا يسمع الجرح فيهما وقد حققنا هذا في ثمرات النظر
القول الثاني الترجيح بين خبر الجارح وخبر المعدل وهو ظاهر كلام ابن الحاجب
الثالث التعديل مطلقا لأن الجارح قد يجرح بما ليس بجارح في نفس الأمر والمعدل لا يعدل حتى يتحقق بطريقة ظنه سلامته من كل جارح وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف
الرابع تقديم التعديل إذا كان أكثر لأن لكثرة تأثيرا في قوة الظن وإذا تعارض القياس وخبر الواحد فيها خلاف أشار إليه قولنا ... وكلما نافى القياس يقبل ... وهو له عند الكثير مبطل ...
هذه المسألة تعارض القياس وخبر الآحاد مع تعذر الجمع بينهما ولذا قلنا نافي القياس فهو محل النزاع أما مع إمكان الجمع بين الخبر والقياس
فليس من محل النزاع فالضمير في قوله وهو يعود إلى الخبر المراد بفظ ما في كلما المدلول عليه بالسياق كما عاد إليه ضمير نافي وفي له للقياس وقد اختلف العلماء في ذلك هل يرجع القياس أو خبر الآحاد الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الآل وغيرهم أنه يقدم الخبر ويطرح القياس وروي عن مالك أنه يقدم القياس وقيل إنه محل اجتهاد فما غلب على ظن المجتهد اتبعه ودليل الأولين أن الصحابة تركوا الاجتهاد أي القياس عند وجود خبر الآحاد وقد عدوا في المطولات قضايا من ذلك للشيخين وغيرهما هجروا فيها القياس لأجل خبر الآحاد وبأنه وقع في حديث معاذ تقديم الخبر على القياس ويأتي خبر معاذ في القياس وأقر صلى الله عليه و سلم معاذا على ذلك وبأن خبر الواحد أصل للقياس ومستقل بنفسه كنص الكتاب فالقياس فرع عليه فلو قدم عليه لكان من تقديم الفرع على الأصل وبأن مقدماته أقل من مقدمات القياس فإن مقدماته عدالة الراوي ودلالة الخبر بخلاف القياس فإنه يتوقف على مقدمات حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعيين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وهذا إذا لم يكن أصل القياس خبرا آحاديا وإلا وجب الاجتهاد في الأمور الستة وفي الأمرين الأولين اللذين هما مقدمة خبر الآحادي فإذا قدم القياس عليه كان تقديما للأضعف على الأقوى وهو باطل إجماعا وذلك لأن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر فاحتمال الخطأ فيه أقوى والظن الحاصل به أضعف فهذه أربعة أدلة لتقديم الخبر الآحادي على القياس وقد عارضها من اختار تقديم القياس بما لا يقاومها ولهذا جزمنا في النظم بهذا القول وأشرنا إلى قول من قدم القياس وهم الأقل بقولنا وهو له عند الكثير مبطل أي أن الجمهور قدموا الخبر الآحادي وأبطلوا به حكم
ما عارضه من القياس فأفهم أنه عند الأقل غير مبطل وإذا كان لا يبطله فهو معمول به فهذا حكم الخبر الآحادي إذا خالف القياس وأما حكمه إذا خالف الأصول فهي مسألة أخرى تضمنها قوله ... ورد ما خالف ما قد قررا ... من الأصول فاستمع ما حررا ...
اعلم أن معنى رد الحديث عدم العمل به في غير مورده لا الحكم بكذبه ويكون ما أفاده مما فعله صلى الله عليه و سلم قضية عين موقوفة على محلها لا تتعداها وهذه مسألة ذكرت في الأصل وذكرها في الفصول وجعلوا الآحادي هنا قسمين ما خالف الأصول نفسها وفسروها بالكتاب والسنة والإجماع المعلومة لا المنظونة فإن المنظون ليس بأصل ومخالفة الآحادي لها بأن يقضي بخلاف مقتضاها كأن تقضي بالتحليل لعين ما قضت فيه بالتحريم وهو الأول والثاني أن يخالف مقتضاها فان يقضي فيما لم يوجد فيها حكم بعينه بخلاف حكم نظيره قالوا فالأول يرد فيه خبر الآحاد إذ لا يقوى على مقاومة القطعي وهذا هو الذي تضمنه النظم فلذا قلنا من الأصول بيان لما قد قرر وأما ما خالف مقتضاها فقال في الفصول إنه يقبل ووقع الخلاف في أحاديث آحادية وردت بأحكام هل هي مخالفة للأصول نفسها أو لمقتضاها كخبر القرعة الذي أخرجه مسلم وغيره في إقراعه صلى الله عليه و سلم بين السنة العبيد الذين أعتقهم من لا يملك غيرهم فأعتق صلى
الله عليه وآله وسلم اثنين وأرق أربعة وخبر المصراة المتفق عليه بأن من ابتاعها وفسخها بعد أن حلبها ردها وصاعا من تمر ذهبت طائفة إلى قبول هذه الأخبار لأنها إنما خالفت مقتضي الأصول لا الأصول نفسها وقال أبو عبدالله الكرخي إنها خالفت الأصول أنفسها فلا تقبل قال لنقل الأول الحرية عن الثلث الذي ينفذ في كل واحد لأن العتق في مرض الموت حكمه حكم الوصية وعن الثلثين الباقيين بعد الثلث أيضا إذ العتق قد تسرى إليهما والإجماع منعقد على أنه لا يطرأ عليها الرق ولمخالفة الثاني أي خبر المصراة ما أجمع عليه من ضمان المتلف بمثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان قيميا ثم مثل لما خالف مقتضى الأصول بما لا حاجة بنا إلى ذكره إذ النظم لم يشر إلا إلى القسم الأول ونقل أن الشافعي جعل الحديثين مما خالف مقتضى الأصول فقبلهما وقال بحكمهما قلت وهو الحق وقد أوضحناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار وفي العدة حاشية شرح العمدة وإنما اقتصرنا علة ما ذكرنا لأن النظم تابع للأصل كما قد نبهنا عليه على أن في الأمثلة كما قال في نظام الفصول بحثا وهو أن الأصل الذي خولف فيها هو الإجماع والإجماع لم يكن في عصره صلى الله عليه و سلم حجة وبعده يستلزم نسخ الحديثين بالإجماع والإجماع لا ينسخ به كما علم قلت إلا أنا
نمنع تحقق الإجماع هنا كيف وهذا الشافعي يخالف في محل النزاع فالحق أن الآحاد من الأصول وكون الكتاب ومتواتر السنة قطعي المتن فهو ظني الدلالة فهو الآحاد فيها واعلم أنه اختلف الأئمة في جواز الرواية للحديث بالمعنى فأشرنا إليه بقولنا ... هذا وقد جوزت الرواية ... للفظ بالمعنى لذي الدرايه ...
فهذه مسألة رواية الحديث بالمعنى وهي مسألة خلاف فالجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى من عارف بأساليب الكلام يمكنه تأدية المراد والوفاء به كما قال لذي الدراية والمراد به العدل العارف الضابط أما العدالة فشرطها قد عرف من حيث أنه خبر ولا يقبل إلا من عدل وأما العرفان بمعاني الألفاظ وضبطها فكامل الدراية لا يتم وصفه بها إلا بهما وقد دل للجواز ما أخرجه الخطيب في الكفاية عن يعقوب بن عبدالله بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده قال أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا بآبائنا وأمهاتنا إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس وقد أخرجه الحكيم والطبراني وابن عساكر وأخرجه الحكيم أيضا عن أبي هريرة فقد نبه صلى الله عليه و سلم على أن الملاحظ هو إصابة المعنى وقد استدل أيضا بإجماع الصحابة فإنه كان يروي من يروي
منهم حديث الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة ولا ريب أن الأولى هو المحافظة على اللفظ النبوي ما أمكن إلا أن هذا الإطلاق مخصوص بما ورد من ألفاظ الصفات الإلهية فإنه لا يجوز تبديلها بلفظ آخر وقد نبهنا عليه في كتابنا إيقاظ الفكرة وكذلك ما كان من جوامع الكلم وكذلك الأدعية فإنه يتحرى فيها الألفاظ الواردة لأن ألفاظ الدعاء مقصودة والإخلال بها إخلال بالمعنى وهو اللفظ الذي قصد ولأن الأدعية مما تتوفر الدواعي إلى حفظها والحرص عليها والغالب على الأدعية النبوية الإيجاز في ألفاظها أي فلا يعسر حفظها ويدل على المنع في الأدعية ما أخرجه جماعة من الأئمة أحمد والبخاري والترمذي من حديث البراء بن عازب قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول قولوا هذه الكلمات عند المضطجع ويعلمناهن اللهم إني وجهت وجهي إليك الحديث وفيه قال فرددتهن لأستذركهن فقلت وآمنت برسولك الذي أرسلت فقال قل آمنت بنبيك الذي أرسلت فرد عليه وقد كان صلى الله عليه و سلم علمه لفظ نبيك وغيره هو بلفظ رسولك فرد عليه وأخذ منه أنه لا يؤتي في الأدعية النبوية إلا باللفظ
ولما اختلف العلماء في بعض الرواة ممن جمع صفات القبول إلا أنه نقل عنه اعتقاد يلزم منه كفره أو فسقه تأويلا قلنا ... واختلفوا في كافر التأويل ... وفاسق التأويل في القبول ...
هذه مسألة قبول فساق التأويل كفاره في الرواية واعلم أن كافر التصريح وفاسقه كشارب الخمر لا يقبلان في الرواية بالاتفاق وإنما الخلاف في
كافر التأويل وهو من أتى من أهل القبلة ما يوجب كفره غير معتمد كذا قاله في الفصول ومثله بالمشبه فإنه يتضمن رد القرآن وهو قوله تعالى ليس كمثله شيء قلت وينبغي أن يراد بالمشبه من جزم به في قوله كمن قال إنه تعالى جسم صفته كذا مثله كذا لا أنه من أتى بقول فألزمه خصمه التشبيه فإن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب واعلم أنه قد تساهل الناس في هذه المسألة تساهلا كبيرا وهو أمر خطير على أنا وجماعة المحققين لا نثبت كفر التأويل وقد أوضحناه في غير هذا الموضع في رسالة مستقلة ولذا قلنا ... والحق عندي أنه مقبول ... وقاله الأئمة الفحول ...
إذا عرفت هذا فإنه قال المنصور بالله والإمام يحيى وغيرهما إنها تقبل رواية كافر التأويل وادعى الإجماع على ذلك وعند جماعة من أهل البيت والمعتزلة وغيرهم وآخرين أنها لا تقبل روايته وادعى الإجماع على هذا كما ادعي على خلافه واستدل الأولون بأنه صلى الله عليه و سلم حكم بإيمان الجارية التي قالت إن الله تعالى في السماء أخرجه مسلم وغيره وهو مستلزم للجهة التي تستلزم الجسمية والعرضية ولأن الأصل في من علم قيامه بفرائض الإيمان عدم ما يرفع الإيمان واستدل المانعون لقبوله بقياسه على كافر
التصريح وأجيب بأنه قياس مع الفارق وأي فارق أعظم من القيام بالإيمان ووظائفه وأما فاسق التأويل فهو من أتى من اهل القبلة ما يوجب فسقه غير متعمد ومثلهم في الفصول بالخوارج قال الجلال في شرحه وأشار بالتمثيل بالخوارج إلى ما أشار بالمشبهة في كفر التأويل لأن معنى كفر التأويل كما قدمناه لك استلزام القول عدم الإيمان بدين ضروري ومعنى فسق التأويل استلزام الاجتهاد عدم العمل بدين ضروري وإن كان مؤمنا بشرعيته فالخوارج مؤمنون بحرمة أموال المسلمين ودمائهم وإنما انتهكوها لشبهة عرضت لهم هي توهم أن المعاصي كفر الشرك انتهى
قلت وفي فتح الباري ذكر أقوال في حكم الخوارج على أمير المؤمنين علي عليه السلام ومنهم كفرهم تكفيرا صريحا والأدلة مستوفاة هناك
واعلم أنه نقل السيد محمد بن إبراهيم في العواصم والروض الباسم وفي التنقيح نقل الإجماع على قبول فساق التأويل عن عشرة من أئمة الإسلام وعلماء الدين من أهل البيت وغيرهم وأطال النفس في الاستدال لذلك ما يقارب أربعين دليلا وقد وفينا المقام حقه في شرحنا لتنقيح الأنظار وأول الأدلة له إجماع الصحابة فإنه لما ظهرت فيهم الفتن وتفرقوا وتحزبوا وانتهى أمرهم إلى القتل والقتال لم يعلم من أحد منهم الرد لرواية وهذا ناهض على قبول رواية فساق التأويل لا كفاره لأنه لم يقع التكفير بالتأويل في عصر الصحابة ولكن قد نقل الإجماع على قبول كفار
التأويل المنصور بالله والقاضي زيد وجماعة ثم إن الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد لم تفصل فهي شاملة لأهل التأويل ثم إن الاعتماد عندنا على صدق الرواي بعد تحقق إسلامه كما قررناه في ثمرات النظر وغيرهما ولما كان الصحابة رضي الله عنهم هم أول الرواة للشريعة النبوية وعنهم تلقاها الأمة احتيج إلى بيان حقيقة الصحابي وعدالته فقلنا ... ومن يطل للمصطفى المجالسة ... متبعا لشرعه مذ جالسه ... فهو الصحابي وهم عدول ... إلا الذي يأيى وهم قليل ...
اشتمل البيتان على مسألتين
الأولى في حقيقة الصحابي والمراد به هنا من صحب النبي صلى الله عليه و سلم وثبتت له أحكام الصحبة ولفظ الصحابي قد صار عند الإطلاق كالعلم بالغلبة لا يتبادر منه إلا من صحبه صلى الله عليه و سلم فالمراد بالصحابي في النظم الشخص المنسوب إلى صحبته صلى الله عليه و سلم فيشمل المرأة الصحابية ولما صار كالعلم بالغلبة فلا بد من اعتبار طول المجالسة والملازمة إذ الغلبة إنما تكون بكثرة الاستعمال في الشيء حتى إنه يصير مختصا به من بين أفراد ما يطلق عليه ولا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فهو كالإضافة ولا عهد إلا لمن طالت مجالسته له صلى الله عليه و سلم فقولك صاحب رسول الله عليه وآله وسلم وصحابي مستويان في أنه يشترط فيهما طول الملازمة بحيث لا يحتاج إلى قرينة عند الإطلاق فظهر بهذا صحة اشتراط طول الملازمة في الصحابي كما هو نص النظم وهذا الكلام كله لفظ الصاحب فإنه لغة يطلق لأدنى ملابسة ولو بينه وبين الجماد نحو يا صاحبي السجن وكذلك أصحاب الجنة وأصحاب النار وقيل إنه لا بد من اشتراط طول الملازمة فإنهما إنما سمى صاحبي السجن لطول الملازمة وإلا لسمي يوسف صاحب السجن وكذلك أصحاب الجنة وأصحاب النار فالملازمة معتبرة في لغة وفي اشتراطها هنا خلاف فالمحدثون لا يشترطونها قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر إن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه و سلم مؤمنا به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة في الأصح انتهى
وأما اشتراط أن يروي عنه وأن يغزو معه فمما لا يدل عليه المعنى اللغوي وإن كان اصطلاحا فلا مشاححة فيه لكن مع تحقيق الأدلة وتحرير محل النزاع تجد في البحث خبطا وقد وضحه في الفواصل وقد نقل ابن الصلاح عن أبي المظفر السمعاني أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر يقع على كل من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه و سلم وكثرت مجالسته على طريق التبع له
المسألة الثانية عدالة الصحابي قد أفاد النظم أن كل الصحابة عدول وهذا هو الأصل إلا من أبي وهذا اللفظ اقتباس من الحديث النبوي وهو ما أخرجه البخاري مرفوعا كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى انتهى
والصحابة داخلون تحت عموم اللفظ وقد ثبت أحاديث أنه يذاد جماعة منهم عن الحوض كما قال السيد محمد رحمه الله في العواصم إن الأحاديث
في أنه يذاد عن الحوض جماعة من الصحابة وردت من طرق صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة انتهى
وأئمة الحديث وإن أطلقوا بأن الصحابة كلهم عدول فقد بينوا أنه من العام المخصوص وخرجوا جماعة منهم مثل الوليد بن عقبة وغيره كما بينه السيد محمد في التنقيح وزدناه توضيحا في شرحنا في التوضيح وأما الأدلة على عدالة الصحابة فكثيرة جدا قد استوفيناه في التوضيح أيضا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية
واعلم أن الذي نختاره أن الأصل عدالة الصحابة إلا من ظهر
اختلالها منه بارتكاب مفسق وهم قليل كما أفاده النظم وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت والمعتزلة واختاره المهدي في شرح المعيار وهو كلام الباقلاني من الأشعرية ولفظ الفصول أئمتنا والمعتزلة وهم عدول إلا من ظهر فسقه
وهذا بعينه هو مذهب المحدثين كما قرره السيد محمد في العواصم والتنقيح لما كانت الرواية للأحاديث لها طرق متعددة ألم بها النظم جملة في قولنا ... هذا هو المختار فيما قد مضى ... وللرويات طريق ترتضى ...
الإشارة بقوله هذا هو المختار إلى ما مضى إلى مسألة الصحابي رسما وحكما كما قررناه في الشرح لا أنه يعود إلى جميع ما سلف في باب الأخبار فقد عرفت أنا أخترنا في الشرح أشياء تخالف ما في النظم فتذكر وهذه مسألة طرق الروايات أشرنا إليها بقولنا وللروايات طريق ترتضي إفراد الطريق لإرادة الجنس وإلا فلها طرق والطريق لغة ما يوصل إلى محسوس واستعمل فيما يوصل إلى المعقول وهذه المسألة تحقيقها في علوم الحديث ولنذكر هنا ما يفيد الناظر
فاعلم أنهم جعلوا للصحابي سبع مراتب فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم
الأولى سمعته يقول أو حدثني أو أخبرني أو قال لي مما يدل على الاتصال ولا يتطرق إليه الاحتمال
الثانية قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو خطب أو وعظ وهذه تحتمل الواسطة فيكون مرسل صحابي
الثالثة أمر رسول الله عليه وآله وسلم أو رخص ونحوهما فهذه دون الثانية لأنه يزيد مع احتمال الإرسال احتمال أنه ظن الصحابي أن ما ليس بأمر أمرا
الرابعة قوله أمرنا بكذا أو امر بصيغة البناء للمفعول أو نهينا عن كذا فإنه يحتمل أن الأمر غير رسول صلى الله عليه و سلم من أحد الخلفاء أو أنه استنباط من الصحابي وأنه سمع النهي فاستنبط منه الأمر بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده
الخامسة قوله من السنة كذا فإنه يحتمل أنها سنة الخلفاء أو طريق المسلمين فكل هذا خلاف الظاهر عند الجمهور
السادسة قوله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يحتمل عدم السماع منه صلى الله عليه و سلم
السابعة كانوا يفعلون وكنا نفعل فإنه قيده بعهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمختار أنه مرفوع كما أن المختار في الطريقة الأولى والتي بعدها ذلك على تفصيل في بعضهما معروف في مطولات الفن وقد استوفى ذلك التلميذ رحمه الله في الفواصل وقد جمعنا هذه الطرق في قولنا ... لفظ الصحابي إذا روى خبرا ... عن البشير النذير خير بشر ... حدثنا ثم قال ثم أمر ... ثم أمرنا وقيت كل ضرر ... ثم من السنة ثم عنه وقل ... كنا وكانوا مقيدا بخبر ...
ولم يتعرض لهذه الطرق بخصوصها في النظم إلا أنها قد دخلت فيه إجمالا كما تعرفه من قولنا ... جملة ما في الأصل منها أربع ... قراءة الشيخ على من يسمع ...
أي قراءة الشيخ هو المبتدأ وخبره تقدم وهو قوله منها وهو الجار والمجرور واعلم أن هذه الأربع باعتبار صنيع الأداء تسمى مراتب وتسمى باعتبار الأخذ عن الشيوخ طريقا
فالأولى من الأربع قراءة الشيخ والرواي يسمع سواء كانت قراءته من حفظه أو من كتابه قاصدا للتحديث أولا وهنا يقول الراوي حدثنا وأخبرنا وقال لنا إذا كان معه غيره وإن كان معه غيره وإن كان منفردا بالسماع أفرد الضمير
الثانية قوله ... أو من روى أو غيره لديه ...
أي أو قراءة من روى عن الشيخ وهو التلميذ أو قراءة غيره أي غير التلميذ مع كون الراوي حاضرا لدى الشيخ أي حاضرا في سماع قراءة ذلك الغير فقيد لديه قيد لمحضره وبحضرته الذي أتى به في الأصل وغيره وشرطوه لتحقيق سماعه لما قرأه ذلك الغير على الشيخ إذ ليس مجرد قراءة الغير
مع عدم تحقق السماع كافية ويسمون هذه الطريقة عرضا ويختارون أن يقول الراوي بها حدثنا قراءة أو اخبرنا قراءة عليه أو نحوه بشرط التقيد بالقراءة إذ نسبة الأخبار والتحديث إليه بدون ذلك القيد كذب إذ لا تحديث من الشيخ ولا إخبار فإنه لا يشترط في هذه الطريقة تقرير من الشيخ باللفظ ولا بتحريك رأسه بل يكفي سكوته من غير إكراه له ولا غفلة إذ سكوته تقرير لا يجوز إلا مع صحة ما قرىء عليه وسلامته من التحريف والغلط ولو كان كذلك كان قادحا في عدالته
الثالثة من الطرق قولنا ... أو ناول المسموع من يديه ...
ضمير ناول للشيخ أي إذا كان طريق الرواية أن الشيخ ناول تلميذه ما سمعه أو قوبل على ما سمعه وكذلك يدخل فيه ما إذا أتاه التلميذ بنسخة فتأملها بلا غلفة ولا إكراه ثم يقول هذا مسموعي من طريق كذا والتقييد بقوله من يديه يخرج ما إذا أشار إلى كتاب معين وقال أجزت لك رواية هذا عني وهو سماعي من فلان فهذا يكون خروجا عن هذه الطريق إلى طريق الإجازة كما يراه أهل الحديث فإن اشتراط المناولة من اليد هو الذي عليه أئمة الحديث وقد خالف الغزالي وغيره وقالوا لا تشترط المناولة والأولى ما قاله المحدثون لأن هذا قسم يسمى المناولة فلا بد منها باليد وإذا لم تكن باليد خرج منها إلى قسم الإجازة وهذه الطريق خالف في جوازها بعض أهل العلم والمختار الجواز وبه قال الجمهور وادعى
القاضي عياض الإجماع على جوازها ويقول التلميذ في الرواية بها أخبرنا مناولة أو ناولني ونحوها
الرابعة من الطرق أشار إليها قولنا ... كذا إذا أجاز ما يرويه ... والأول الأقوى وما يليه ...
وهذه آخر الطرق المذكورة هنا وهي الإجازة مصدر أجزت إجازة أي سوغت له وأبحت والإجازة أنواع إما الخاص في خاص كأجرت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني أو خاص في عام كأجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي وإما عام في خاص نحو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي رواية الكتاب الفلاني وإما عام في عام نحو أجزت لأهل العصر رواية جميع مسموعاتي ولها أنواع عديدة قد بيناها في شرح تنقيح الأنظار وفي جوازها أقاويل وتفاصيل هنالك مستوفاة والأصح جوازها من الموجود للموجود وعليها الناس قديما وحديثا ويقول التلميذ أخبرني فلان بالإجازة أو أجازني أو نحوها وبقي طريقان الوجادة والمكاتبة وقد استوفاهما في الفواصل وهما مستوفاتان مع بقية الأبحاث في علوم الحديث ... وجاز أن يروي من تيقنا ... سماعه أي كتاب عينا ... وإن أضاع ذهنه التفصيلا
الراوي إما أن يتيقن سماعه تفصيلا لكتاب على شيخ فلا كلام في جواز الرواية لذلك عن شيخه كما أنه لا خلاف في عدم جوازها إذا تيقن عدم سماعه وإنما الكلام فيما إذا تيقن السماع جملة لا تفصيلا فهذا محل الخلاف فإنه نقل الخلاف في جوازه عن أبي حنيفة وفي الفصول حكى الإجماع على جوازه وأما إذا ظن السماع جملة مع سلامة النسخة من التغيير فهذا فيه الخلاف كما حكاه ابن الصلاح قال بجوازه أكثر أهل الحديث بشرط أن يكون السماع بخطه أو بخط من يوثق به والكتاب مصون من تطرق التحريف ولا بد من كون النسخة معينة كما أشار إليه النظم لأنه يقوي الظن بذلك والأصح ما ذهب إليه الجمهور فإنه إذا وجد سماعه بخطه أو بخط من يثق به وحصل له ظن جازت الرواية والعمل ودليله عمل الصحابة بكتبه صلى الله عليه و سلم ككتاب عمرو بن حزم وغيره فإنهم عملوا بها ورووها عنه لحصول الظن بنسبتها إليه صلى الله عليه و سلم إذ مدار ذلك على حصول الظن للمجتهد في ذلك
فائدة هل يجوز النقل من الكتب الموجودة المنسوبة إلى مؤلفيها نسبة اشتهار لمن لا إجازة له فيها ولا قراءة أن ينقل منها وينسب ما نقل إليها وأن هذا قول فلان أعني مؤلف الكتاب وقد تكلم في هذا البحث الإمام المهدي فقال ما لفظه اعلم أن لنا كلاما في جواز الأخذ عن الكتب الموضوعة والرواية عنها لم يذكره غيرنا وها نحن ذاكروه لأن هذا موضعه فنقول اعلم أن الكتب الموضوعة في الإسلام لا تخلو إما أن تكون في العلوم العقلية أو النقلية
أما التي في العقلية فلا كلام أنه يجوز الأخذ عنها وإن لم تقرأ على مصنفها بشروط ثلاثة
الأول أن يحصل للناظر فيها العلم اليقيني بما نظر فيه منها من تصحيح أو فساد وله أن يحكيه عن منصفه إن تيقن أنه المؤلف له أو غلب في ظنه
ما لم يغلب في ظنه أنه قد حصل فيه تحريف أو تصحيف أو زيادة أو نقصان إذ الأصل السلامة وقد صح له أنه كتابه فجاز له الإضافة إليه وليس له أن يحكيه مذهبا لمصنفه إلا حيث علم أو غلب في ظنه أنه لا قول له سواه
الثاني أن لا يجوز على نفسه تصحيف ما يحكيه ومعرفة ذلك ممكنة لا سيما في العقليات
الثالث أن لا يغلب في ظنه أن المصنف لا يرضى بحكاية ذلك القول عنه بل يكره ذلك لغرض ديني أو دنيوي فإنه حينئذ يكون بمنزلة من استودع أخاه سرا فأذاعه اللهم إلا أن يكون في كتمه مفسدة أو تدليس أو أي وجه من وجوه التلبيس المخلة بالدين فإنه لا يجوز حينئذ كتمانه
وأما الكتب الموضوعة في العلوم النقلية فاعلم أن كل من تصدى لتصنيف كتاب في العلوم الدينية فإنما يريد بتصنيفه إفادة المسلمين وهدايتهم فإذا كان كذلك فإما أن يعلم من قصده أنه لم يحجر أحدا من المسلمين عن روايته عنه بل أراد منهم أن يأخذوا به ويرووه عنه فهو في حكم المجيز لكل المسلمين أن يرووه عنه بشرط أمان التصحيف والتحريف فإذا عرفت ذلك فلكل أحد أن يأخذ عن ذلك الكتاب بشروط ثلاثة
الأول أن يكون الناظر فيه من أهل البصيرة الوافية فيما تضمنه الكتاب من الفنون ليأمن من الغلط في نقله للمعنى المأخوذ
الثاني أن لا يروي ما أخذه من ذلك الكتاب على وجه التحديث عنه بل يقول قال في الكتاب الفلاني أو رواه فلان في كتابه الفلاني وله أن يرويه مذهبا له حيث تيقن أنه المصنف ولو جوز أن له قولا آخر ما لم يغلب في ظنه أنه قول القديم
الثالث أن يكون آمنا فيما نقله من ذلك الكتاب إذا رواه من كون غيره قد ضبط تلك الألفاظ ضبطا يخرج به عن مراد المصنف وذلك لا يخفي على ذي
البصيرة الوافية في ذلك الفن فما تردد في بعض ألفاظه أو في بعض مقاصده فليس له أن يرويه عنه إلا أن يشعر بالترديد والاحتمال فحصل من المجموع ما ذكرناه أنه لا حجر عن الأخذ عن الكتب الموضوعة في الإسلام والرواية عنها على الوجه الذي لخصناه مهما عرف من تنسب إليه ولم يكن من الكتب التي لم يتواتر تعيين مصنفها ولا اشتهر ولا نقله عدل ولم يظهر الخلل في نقلها وضبطها ويكفي المقلد في جواز التقليد لمصنفها ما نقله الآخذ الجامع للشروط التي ذكرناها فهذا هو الذي يترجح لنا في ذلك إذ لا دليل على تحريمه ولا أمارة تثمر الظن ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو متجاهل وإنما ذكرنا هذا لئلا يقال إن من جمع مصنفا من كتب له فيها سماع ولا إجازة فلا يوثق بما جمعه انتهى بأكثر ألفاظه وهو كلام حسن وعليه عمل الناس قديما وحديثا وهذا عند الفراغ من مباحث السنة وما يتعلق بها اخذنا في بيان تعريف الخبر وبيان أحكام يعرف بها صحة الدليل وفساده فقلنا ... ودونك التنبيه يا نبيلا ...
اختلف العلماء في تعريف الخبر كاختلافهم في تعريف العلم فقيل لا يعرف لأن العلم به ضروري والضروري لا يحد إذ الحد إنما هو لتعريف المجهول والفرض أنه ضروري وقيل لا يحد لعسر تحديده واختار الجمهور تعريفه ومنعوا دعوى ضرورية معرفة حقيقته وعرفوه بتعاريف اخترنا في النظم ما أفاد قولنا ... والخبر الكلام ذو الإسناد ... حيث له من خارج مفاد
فقولنا ذو الاسناد أي الكلام الذي يحسن من المتكلم السكوت عليه فصل يخرج المركبات الناقصة فإن المراد بالإسناد الإسناد الأصلى المقصود لذاته وهو النسبة الواقعة بين طرفي الجملة بإفادة تامة وقولنا حيث له من خارج مفاد قيد يخرج به الكلام في الإنشائي ومفاد صفة لخارج أي خارج مفاد عن النسبة من غير نظر إلى وجودها في الخارج حقيقة أو لا والمراد بالخارج أن يكون للنسبة من حيث هي وجود خارجي مفاد عنها ثم إنه ينقسم الخبر إلى الصدق والكذب فأشرنا إلى ذلك بقولنا ... يكون صدقا إن هما تطابقا ... ما لم فكذب إن هما تفارقا ...
ضمير يكون عائد إلى الخبر وضمير هما عائد إلى الإسناد والخارج والمراد أنه إذا تطابق الإسناد والخارج كان الخبر صدقا وإن تفارقا بأن لم يتطابقا كان كذبا وذلك بأن تكون النسبة على خلاف ما في الخارج وقولنا كذب بكسر الكاف وسكون الذال قال في القاموس كذب يكذب كذبا كذبا كذبة انتهى فهي أحد اللغات فيه وأشرنا إلى أنها تختلف أسماؤه بقولنا ... وسمه قضية وجمله ... فإن أتى جزءا من الأدلة ... فإنها عندهم مقدمة ...
في التلويح أن المركب التام من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبر ومن حيث إفادته إخبار ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث يطلب الدليل نتيجة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات وهنا أشير إلى بعض الإطلاقات
وهي أنها إذا كانت جزءا من الدليل سميت مقدمة وهو عرف أهل المنطق في القياس الاقتراني والاستثنائي فتقول في مثل قولك العالم متغير وكل متغير حادث أن كل جملة تسمى مقدمة الأولى يقال لها الصغرى والثانية يقال لها الكبرى والتقاسيم هنا كثيرة لا حاجة إلى استيفائها ولما ذكر في الأصل من أحكام الأخبار التناقض أشرنا إليه بقولنا ... هذا ومن أحكامه المترجمة ...
المراد بالترجمة ما سمي باسم خاص كالتناقض والعكس ونحو ذلك وقوله من أحكامه خبر مقدم بقوله ... تناقض القضيتين أن يختلفا ... نفيا وإثباتا وأن يأتلفا ... في وحدات قدرت ثماني ... وراجح الأقوال في الميزان ... بحيث يأتي صدق كل منهما ... عن كذب الأخرى فخذ ما رسما ...
هذا من تمام حد التناقض فقوله بحيث يتعلق بقوله أن يختلفا والمراد بقوله يأتي يلزم وهو اللزوم الذاتي كما قال في الغاية بحيث يلزم لذاته من صدق كل كذب الأخرى وإنما قيدوه بقولهم لذاته احتراز عن اختلافهما لأجل واسطة نحو زيد إنسان زيد ليس بناطق فإنه إنما يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى بواسطة أن كل إنسان ناطق وإنما الذي يكون لذاته زيد إنسان زيد ليس بإنسان واعلم أن هذا البيت كان ينبغي أن يتقدم على قوله في وحدات الخ ليتصل بما يتعلق به لكن اقتضى النظم تأخيره ثم عبارة التهذيب ولا بد من اختلاف في الكيف والكم والجهة والاتحاد فيما عداها والمصنف في أصل النظم اقتصر على الاختلاف نفيا وإثباتا
فتبعه الناظم في ذلك وزاد الناظم الائتلاف في الثمان الوحدات وهذا ابتداء كلام في بعض أحكام القضايا وهو التناقض فقولنا نفيا وإثباتا يخرج اختلافهما بالاتصال والكلية والجزئية ونحو ذلك فإنه وإن كان اختلافا فلا يسمى تناقضا والتناقض المحقق في مثل قولك زيد إنسان زيد ليس بإنسان ولكن لا بد من الاتفاق في وحدات ثمان كما ذكرنا بقولنا وإن يأتلفا أي يتفقا وهذه الوحدات تحقيقها في علم الميزان وهو المنطق فهذه الأبحاث دخيلة هنا وهي من مباحثه لا من مباحث أصول الفقه وحاصله أنه لا بد في تحقيق التناقض من اتحاد اختلاف فالاختلاف يكون في الكم أي الكلية والجزئية والكيف أي الإيجاب والسلب والجهة أي الضرورة والإمكان مثلا وغيرهما من الجهات والاتحاد فيما عداها وبعد ذكرنا التناقض أشرنا إلى العكس المستوى وعكس النقيض فإنهما من أحكام الخبر المترجمة فقلنا ... والعكس أعنى المستوى لك البقا ... تحويل جزئي جملة مع بقا ... صدقهما والعكس للنقيض ... تحويل كل منه بالتعريض ... فتجعل المقدم الموخرا ... من بعد أن تنقض كلا ظاهرا ...
المراد بجزئي الجملة المبتدأ والخبر على اصطلاح النحاة والموضوع والمحمول على عرف أهل المنطق ومن التحويل أن يجعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا نحو كل إنسان حيوان عكسه مستويا بعض الحيوان إنسان وإنما قلنا بعض لأنا قد شرطنا بقاء الصدق ولا يصدق إلا في بعض الحيوان إنسان ولو قلت كل حيوان إنسان لكان كذبا وذلك لأن عكس القضية لازم لها ويستحيل صدق الملزوم بدون لازمه وتحقيقه في علم الميزان وأما عكس النقيض فإليه الإشارة بقولنا والعكس للنقيض أي من أحكامه المترجمة عكس النقيض وضمير منه عائد على جزئي الجملة كما ينادي له
السياق وإفراده باعتبار كل جزء منها أي تحويل كل واحد من جزئي الجملة بنقيضه وزيادة نقيضه تفهم من قولنا من بعد أن تنقض كلا والمراد من التحويل أن تجعل نقيض الموضوع مكان المحمول وبالعكس كما يفيده قوله فتجعل المقدم المؤخر وحذف من النظام تمام التعريف وهو قولهم على وجه يصدق اكتفاء بما سبق من ذكره بالعكس المستوى لاشتراكهما في شرطية بقاء الصدق في الجزئين ولم يأت إلا بما تخالفا فيه وهو تحويل نقيض كل منهما ومثاله كل إنسان حيوان ينعكس إلى كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان وله تفاصيل في علم الميزان باعتبارات في السور والجهات وإنما أشار في الأصل إلى العكسين باختصار فتبعناه في ذلك وبعد استيفاء الكلام على الكتاب والسنة أخذ في ذكر الدليل الثالث وهو الإجماع فقال ... فصل وأما ثالث الأدلة ... فهو اتفاق العلماء الجلة ...
بالجيم المكسورة قال في القاموس وقوم جلة بالكسر عظماء سادة ذوو أخطار انتهى
... مجتهدي العدول منهم لا سوى ... في أي عصر بعد عصر المصطفى ...
فقوله اتفاق هو جنس الحد وقوله العلماء فصل يخرج به اتفاق العامة وقوله مجتهدي العدول يخرج به من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من العلماء والفاسق والكافر المجتهدان وفي أي عصر بيان لتحقيق معنى الاتفاق وبعد عصر المصطفى لإخراج اتفاق مجتهدي الصحابة في حياته صلى الله عليه و سلم على فرض وقوعه وقد خرج به الإجماع الواقع بالأمم السالفة فإنه على فرض وقوعه وكونه حجة إنما كان قبله صلى الله عليه وآله
وسلم ولعلماء الأمة خلاف كثير طويل شهير في الإجماع منهم من قال بعدم إمكان وقوعه وإن من يدعيه كاذب ومنهم من قال بإمكان وقوعه ولكنه ليس بحجة ومنهم من قال بإنه واقع وإنه حجة وهذا الأخير قول الجمهور الذي عدوه من الأدلة وعليه وقع نظمنا واستدل القائلون بأنه حجة لأدلة عقلية ونقلية وكلها أدلة مدخولة غير ناهضة وأسد الأدلة قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا قولوا ووجه الاستدلال بها توعد الله سبحانه على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على حرمة مخالفتهم وهو المطلوب في كون الإجماع حجة واعترض عليه بأن وضع الإضافة بقول سبيل المؤمنين للعهد كما صرح به أئمة النحو والبيان وقد تتعمل في غيره مجازا ولا يعدل إليه مع إمكان الحقيقة وإجماع المؤمنين عند نزول الآية غير معهود إذا لإجماع في عصره صلى الله عليه و سلم والمعهود عند نزولها هو الإيمان واتباع الكتاب والسنة وقد اعترض هذا الدليل باعتراضات كثيرة ولهذا صرح شارح غاية السؤال ومن قبله الإمام المهدي في المعيار بأن الآية حجة ظنية وقد تقرر أنه لا يثبت هذا الأصل بالأدلة الظنية وقد استدلوا بالأحاديث النبوية وهي كثيرة بالغة حد التواتر المعنوي منها أنها لا تجتمع أمتي على ضلالة
وحديث يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض ومن فارق الجماعة شبرا دخل النار وفي معناها عدة أحاديث إلا أنه لا يخفي أن نفي اجتماع الأمة على الضلالة لا يدل على وقوع الإجماع الذي نحن بصدده ولا عدمه على أن الضلالة هي الكفر فهو إخبار بأن الأمة لا ترتد كما تفيده أحاديث أخر والتوعد بالنار لمن فارق الجماعة دليل على أن المراد به فارقهم بالخروج عن الإسلام وغاية ما تدل عليه الأحاديث بعد الإغماض عن الاحتمالات أن تدل على الإجماع والمدعي دلالة ظنية والأصوليون لا يكتفون بها في إثبات الأصول وإن رجحنا نحن أنه يكتفي بها إلا أن على صحة ثبوته من بعد عصر الصحابة بحثا واضحا وهو أنه بعد انتشار نطاق الإسلام وتباعد أقطاره وكثرة علمائه يستحيل أن يثبت عنهم إجماع فإن من أنصف من نفسه علم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بأشخاص فضلا عن معرفة قول كل فرد منهم في المسألة الفلانية فالحق ما قاله بعض أئمة التحقيق الجلال من المتأخرين أنه لم يقع الإجماع إلا على ضروري كأركان الإسلام والدليل الضرورة ولو فرضنا وقوعه لما علمناه لمحالات عادية إما في وقوعه فلأن مستنده إن كان ضروريا استحال عدم نقله إلى من بعدهم وإن كان ظنيا استحال الاتفاق عليه لاختلاف القرائح
وقد أجيب عن الأول بأنه يستغنى بنقل الإجماع عن نقل القاطع لارتفاع الخلاف المحوج إلى نقل القاطع وهو جواب باطل لأن الاستغناء بالإجماع فرع
ثبوت حجيته وهي محل نزاع ثم إن الحاجة إلى نقل القاطع ليس هو الحاجة إلى دفع الخلاف بل نفس ضروريته من الدين التي لا يمكن خفاؤها على مسلم فضلا عن مجتهد وعن الثاني لأن الدليل الظني قد يكون جليا فلا يبعد الاتفاق على مدلوله وأجيب بأن جلاء المدلول لا يستلزم جلاء السند للخلاف في شروط الراوي والرواية ومقدار الرواة والمذاهب في الجرح والتعديل وغير ذلك فيستحيل الاتفاق منها على غير ضروري استحالة بعض العلوم العادية وأما في نقله عنهم لوقوع فمستحيل أيضا لخفاء بعضهم أو انقطاعه أو أسره أو خموله أو كذبه أو عدم نظره أو الرجوع عن النظر قبل قول الآخر ثم النقل
أما الآحاد فلا يفيد وأما التواتر فبعيد وقد أجيب بعدم الاستحالة مسندا بالوقوع أيضا للقطع بإجماعهم على تقديم النص القاطع على المضمون وهذا جواب باطل لأن تقديم القاطع على المظنون بضرورة العقل والنزاع في الشرعيات والحجة الضرورة كما علمت لا الإجماع ومن تتبع كلام القائلين لثبوت الإجماع علم أنه لا يتم الدليل على دليليته ولا على وقوعه وتحققه وأما قول بعضهم بإثبات الوقوع أنهم أجمعوا على استقبال الكعبة فهذا مما علم أنهم أجمعوا عليه ولنا علم بضرورة العقل والشرع وهو علمنا بأنهم عقلاء وأنهم أيضا لا يكذبون الشارع لأن رد الضرورة الشرعية بمنزلة التكذيب ولهذا يكفرون من جحد ضروريا من الدين فيما أبعد دعوى وقوع الإجماع المحقق في الصحابة وأكذبها ممن بعدهم فلو ساءلت مدعي وقوع الإجماع المحقق عن محال المسلمين وبلدانهم بل أوسع من ذلك من خطط الأرض الإسلامية
لم يحط بها علما كيف بإفراد الخليقة ثم بصفاتهم ثم باستقرارها ريثما يحصل الإجماع
ولذا قال ابن حنبل إنه يقطع بكذب ناقله وزاد غيره ويكون ناقله مجروح العدالة إذا عرفت هذا فالأحاديث الواردة في مثل ذلك عليكم بالسواد الأعظم ونحوه مما جعلوه أدلة للإجماع وقد علمت تعذره لا يبعد حملها على ما قاله بعض المحققين من المتأخرين إن المراد بهم الأكثر قال فإنا إذا جمعنا المستدلين من أهل العصر الأول والأخر من عصر الصحابة إلى وقتنا فلا شك أن الأكثر مظنة الإصابة ولذا ترجح الأدلة بعمل الأكثر ومثاله خلاف ابن عباس بالحمر الأهلية وعلي عليه السلام في بيع أمهات الأولاد ثم إن المظنات إنما تعتبر عند عدم البرهان الذي يجب عليه العمل والاعتماد إذ لا معنى للمظنة مع حصول المئنة مع أنها هناك إنما تكون مرجحة كما ذكرنا لا دليلا مستقلا فشد يديك بهذه النكتة
وقال ابن تيمية إن الإجماع ثلاثة أنواع
الإحاطي وهو الإحاطة بأقوال العلماء جميعا في المسألة وهذا علمه متعدد مطلقا
الثاني الإجماع الإستقرائي وهو أنك تتبعت أقوال العلماء فلم تجد مخالفا وهذا يحتاج إلى استقراء قول عامة المجتهدين وهذا إذا أمكن في غاية الصعوبة وأسهل منه
الثالث وهو الإجماع الإقراري وهو لا يعلم أن الأمة أقرت عليه إلا بعد البحث التام هل أنكر ذلك القول منكر وغايته العلم بعدم المنازع والمنكر وهو صعب جدا ولا يعلمه إن علمه إلا الأفراد انتهى
قلت وهذا الإقراري هو الذي يسمونه السكوتي واعلم أن الأحاديث التي سبق إليها إشارة استدل بها الجمهور وادعوا أنها تواترت معنى ووردت بألفاظ كقوله الله عليه وآله وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة يد
الله مع الجماعة لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا فاتبعوا السواد الأعظم يد الله على الجماعة من شذ شذ في النار يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض من خالف الجماعة شبرا دخل النار ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال وغير ذلك من الأحاديث مما يؤدي معنى ما ذكرنا وقد أجيب على الاستدلال بها على حجية الإجماع المدعى بعدم تمام تطبيقها على المدعى وذلك أن حديث لا تجتمع أمتي وما في معناه إنما يدل على نفي اجتماع الأمة على ضلالة ولا يلزم منه وقوع الإجماع وثبوته أيضا فالوعيد بأن من فارق الجماعة فهو في النار إنما يدل على مخالفة الإجماع القطعي وقد عرفت أن القطعي ليس إلا ما كان في ضروري من الدين والوعيد مبتدأ بدخول النار لترك خبره الضروري من الدين ولئن سلم ان في الإجماع ما هو قطعي فالاستدلال بأحاديث الإجماع أعم من ظنى وقطعي وأيضا فالوعيد بدخول النار دليل على أن المراد من فارق الجماعة جماعة أهل الإسلام والحاصل أن من أنصف عرف أن الأحاديث لا تتم دليلا على هذا المدعى بخصوصه وكيف تحمل على أمر يعز تحقيقه أو يتعذر وإنما معناها والله أعلم بشرى هذه الأمة إنها لا تفارق الحق ولا ترتد على أدبارها وإنها لا تزال طائفة منهم على الإسلام
قال ابن تيمية في بعض رسائله إن السلف إنما كانوا ينكرون على من شذ عن الجماعة في مبايعة الإمام ولزوم جماعة المسلمين وعلى من يعتزل الجمعة والجماعة كما أنكروا على سعد تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر وكما سئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يشهد جمعة ولا جماعة فقال هو في النار وهذا هو معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والناجية فإنما ذلك أمر باجتماع المسلمين على أمر دينهم ودنياهم وأن لا يتفرقوا ويتباغضوا بالتفرق والتهاجر بل عليهم أن يوالي بعضهم بعضا ويتحابوا ويتناصحوا انتهى
فحمل الأحاديث على ما تراه ونعم ما قال ... وليس بالشرط انقراض العصر ... وفقد سبق بخلاف يجري ...
هذه إشارة إلى مسألتين
الأولى أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين بل إذا اتفقوا على حكم كان حجة عليهم وعلى غيرهم ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته والدليل على هذا ما سبق من أدلة ثبوت حجية الإجماع من دون شرط انقراض أهل عصرهوالمسألة الثانية أنه لا يشترط في انعقاده عدم سبق خلاف يجري بين الأمة وذلك نحو أن يفترق أهل عصر على قولين فيأتي أهل العصر الآخر
فيجمعون على أحد القولين فإن هذا الأخير إجماع لا تجوز مخالفته وهو رأي الجمهور لشمول أدلة الإجماع له وسبق الخلاف لا يؤثر فيه ولعلماء الأصول أقوال في هذا اشتملت عليها مطولات الفن وليس ها هنا إلا الإتيان بعيون المسائل التي اكتحلت بأنوار الواضح من الدلائل ... هذا ولا بد له من مستند ... وإن جهلناه وإن كان السند ...
أي الأمر والشأن هو ما ذكرناه والحالة أنه لا بد للإجماع من دليل يستند إليه أهل الإجماع فلا يقع إلا عن دليل شرعي لما علم من أن الأحكام الشرعية لا تكون إلا عن مستند فإنه لا يقدم مجتهد والأمة على حكم لا مستند له ولكنه لا يلزمنا معرفة مستندهم لأنه إنما يلزمنا معرفة دليل الحكم مثلا وقد قام الإجماع على الحكم الواقع فيه الإجماع وحينئذ فلا يلزمنا إلا معرفة الإجماع لأنه قد صار الدليل في ذلك الحكم ولذا قلنا وإن جهلناه ثم المستند يكون من الكتاب العزيز أو السنو النبوية أو القياس إلا الإجتهاد كما أشار إليه قولنا ... قياسنا والاجتهاد فيه ... وباطل لسبق ما ينفيه ...
فالقياس ظاهر والمراد بالاجتهاد أن يكون السند صادرا عن دلالات النصوص التي لا تثبت إلا بالاجتهاد كالمفاهيم وغيرها وقيل المراد بالقياس ما له أصل معين وبالاجتهاد ما لا يكون له أصل معين وفي المسألة خلاف وجدال في صحة كون مستنده القياس ولكن بعد ما عرفت من تعذر الإجماع لا نطيل بذكر ما في فروعه من النزاع
وأما قولنا وباطل لسبق ما ينفيه فهو إشارة إلى أنه لما تقرر عصمة الأمة عن الخطأ كان تعارض الإجماعين باطلا فإذا انعقد الإجماع على حكم شيء
بعينه لم يصح إجماع على نفيه لا يتأتى وقوعه فمعنى النظم أن الإجماع الآخر إن فرض وقوعه فهو باطل لسبق ما ينفيه من الإجماع وفيه خلاف يأتي في باب النسخ ... وما له بالخلفا انعقاد ... وليس بالشيخين يستفاد ...
أي أن الإجماع لا ينعقد وتقوم به الحجة بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم إذ هم بعض الأمة والأدلة إنما قامت على حجية إجماع مجتهديها الجميع وخالف فيه احمد فيما روي عنه وأبو خازم بالخاء والزاي المعجمتين عبد العزيز بن عبد الحميد الحاكم في خلافة المعتضد فإنه حكم بذلك وكتب إلى الآفاق برد أموال من المواريث على ذوي ارحام بعد أن صارت إلى بيت المال عملا بإجماع الخلفاء الأربعة ولم يلتفت إلى قول زيد بن ثابت واستدلوا بقوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم وقال على شرطهما
وأجيب عن الاستدلال بالحديث بأنه لا دلالة فيه على تعيين الأربعة بل هو عام لكل خليفة اتصف بتلك الصفة التي صرح بها الحديث وقولهم الدليل على تعيين الأربعة حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا أخرجه أبو داود والترمذي وقد كانت ثلاثون هي خلافة الأربعة
ومدة خلافة الحسن عليه السلام ولكنها لما لم تطل ولم تظهر آثارها لم يعتد بها ورد بأنه باطل لأنه من جملة الخلفاء بالنص على المدة ولا تكتمل إلا بالاعتداد بخلافته وبأنه لم يعرف في الصحابة القول إن ما اتفق عليه الأربعة خلفاء فهو إجماع بل خالف ابن عباس جميع الصحابة في عدة مسائل وكذلك ابن مسعود وغيرهما ولم يقل أحد إنهما خالفا إجماع الخلفاء فالحديث محمول على بيان أن الخلفاء أهل للاقتداء بهم ثم إن ها هنا دقيقة لم يتفطن لها المستدلون بهذا الحديث ولا يعرفه إلا أفراد الناظرين وهو أن الاقتداء حقيقة هو أن تعمل مثل عمل من اقتديت به ولذا قال أئمة الأصول إن شرطه موافقته حتى الموافقة في النية فلو صلى النبي صلى الله عليه و سلم ركعتين بنية الفرض وصليناهما بنية النفل لم نكن مقتدين ولذا قال العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في أبياته الدالية ... من قلد النعمان أضحى شاربا ... لمثلث رجس خبيث مزبد ... ولو اقتدى بأبي حنيفة لم يكن ... إلا إماما راكعا في المسجد ...
يريد النعمان أبا حنيفة فإنه قال بجواز شرب المثلث ولم يشربه فمن شربه لم يكن مقتديا بأبي حنيفة وإن كان مقلدا له فالاقتداء غير التقليد وكذلك من ترك السنن النبوية واشتغل بالمباحات لم يكن مقتديا برسوله صلى الله عليه و سلم وإن كان صلى الله عليه و سلم هو الذي أباحها وإلى مثل كلامه رحمه الله قلنا في ذم التقليد في الأبيات النجدية ... وشتان ما بين المقلد في الهدى ... ومن يقتدي والضد يعرف بالضد ... فمن قلد النعمان أصبح شاربا ... نبيذا وفيه القول للبعض بالحد ... ومن يقتدي أضحى إمام معارف ... وكان أويسا في اعبادة والزهد
فمقتديا في الحق كن لا مقلدا ... وخل أخ التقليد في الأسر بالقد ...
إذا عرفت هذا فالأحاديث أمرت بالاقتداء بالخلفاء الأربعة وسلوك طرائقهم بإقامة الدين وردع المبتدعين وجهاد الكفار والباغين والزهد في زهرة هذه الدار والإقبال على ما ينفع في دار القرار لا أنهم حجة ولا أن إجماعهم في الشرعيات حجة فقد كمل الله الدين على لسان سيد المرسلين صلوات الله عليه و على آله الطاهرين وقال تعالى في آخر ما أنزل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ثم الأمر بالاقتداء بهم أمر بمكرمة ينالها العبد في دينه فإنهم السابقون الأولون الذين أقاموا قناة الدين وكانوا في جهاد أعداء الله وأعلى كلمته أساطين وليس بواجب كما قررناه آنفا من ترك السنن والاشتغال بغيرها وليس هذه الأحاديث إلا كأحاديث اهتدوا بهدي عمار ونحوه مما حث فيه على اتباع خصلة غير خص بها بعض الصحابة كما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة وخزيمة بأنها تقوم شهادته مقام شهادتين فوضع أحاديث الاقتداء في أدلة الإجماع خير موافق لمدلوله وبهذا يعرف أنه لا يتم الاستدلال بحديث اقتدوا بأبي بكر وعمر على حجية قولهما كما استدل به من قال
بذلك فلا نطيل بذكر ما في ذلك من قال وقيل لأن هذا في المدعي هو عمدة الدليل
وأما قول الصحابي إذا انفرد فقال ابن القيم إنه حجة وإنه ذهب إلى ذلك مالك وأبو حنيفة وهو نص أحمد وقول الشافعي وأطال في ذلك المقال وبسط الاستدلال واختاره لنفسه ومن تأمل الأدلة التي ساقها بعين الإنصاف علم أنه قول لا ينهض عليه الدليل وقد تكلمنا على أدلته وما فيها مما لا يقم على صحة ما ذهب إليه والله أعلم ... ولا بسكان جوار أحمد ...
أي ولا له أي الإجماع انعقاد بسكان المدينة النبوية إذ هم بعض الأمة والأدلة التي استدل بها الجمهور على إجماع الأئمة إنما دلت على إجماعهم لا على إجماع أهل بقعة معينة وقد نسب القول بأن إجماع أهل المدينة حجة إلى مالك وأتباعه وأنكر جماعة من المحققين أنه قول مالك وحملوا ما نسب إليه بأنه إنما أراد تقديم روايتهم على غيرهم وحمله آخرون على أنه يريد في المنقولات المستمرة المتكررة كالأذان والإقامة ما تقضي العادة أن تكون في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ويبعد تغيرها عن ما كانت عليه وفي حمل كلامه على غير ظاهره أقوال أخر منها ما يقضي به استدلال ابن الحاجب أنه أراد الصحابة والتابعين وتابعيهم وبالجملة فالنزاع في أصل الاجماع كما عرفت فكيف بإجماع بعض الأمة فلا نطيل بأدلة هذه الدعوى ... قيل ولا بالآل أهل الرشد ...
أي قال جمهور الأمة إنه لا انعقاد للإجماع بأهل البيت بمعنى أنهم إذا
أجمعوا على انفرادهم على حكم فإنه لا يكون إجماعهم حجة على الأمة كإجماع الأمة وذهب أكثر الآل إلى أنه حجة وقد أشرنا إلى أدلته وأحقيته بقولنا ... والحق فيما قاله الأجله ... حجته لقوة الأدله ...
والأدلة من الكتاب العزيز والسنة النبوية التي أشرنا إليها بقولنا ... كيذهب الرجس وأهل بيتي ... وما عليها عدنا لا يأتي ... وكم أتت في فضلهم من آية ... وانظر إذا ما شئت شرح الغاية ... فإنه قد حقق الدراية ... وجاء في الأمرين بالنهاية ...
هذه مسألة إجماع أهل البيت مسألة جليلة استوفى شارح غاية السؤل أدلتها وبيان وجه دلالتها كما أشرنا إليه فالدراية بيان وجه ودلالة تلك الأدلة على المدعي والرواية ما سرده من متون الآيات والأحاديث وقولنا في الأمرين أي الرواية والدراية وإن لم يتقدم لفظ الرواية فالسياق مناد به
ولنشر إلى خلاصة ما فيها وفي غيرها من الأدلة فنقول قد استدل أهل البيت بحجية إجماعهم بالكتاب والسنة أما الكتاب فقد أشرنا إلى أنهض الآيات في ذلك وهو قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنه الدليل الذي ارتضاه المحققون من علماء الآل وقرروا أوجه الاستدلال بأنه تعالى أخبر مؤكدا بأداة الحصر بإرادته إذهاب الرجس عنهم وطهارتهم عنه ولا بد من وقوع ما أراده الله تعالى من أفعاله قالوا فثبت بلا ريب أنه مطهر لهم أكمل تطهير وأتمه كما يدل عليه التأكيد بالمصدر ولما كان الرجس بمعنى الأقذار غير مراد في المقام تعين أن المراد تطهيرهم عن الأرجاس المنافية للأمور الدنية إلا أنه لما كان ظاهر الحال بأن المعاصي والخطايا واقعة من أفراد أهل البيت على سبيل الجملة ولم يتنزه عنها كل فرد منهم تعين أن يكون المراد تطهير جماعتهم عن تلك الأرجاس المنافية للديانات وعصمتهم عنها وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لا يجمعون على باطل
وأن الذي يجمعون عليه هو الحق الذي لا تجوز مخالفته هذا هو المطلوب هذا تقريرهم في الاستدلال ويأتي بما ناقش فيه من خالف في حجية إجماعهم
وأما السنة فأحاديث واسعة ولأنواع كل خير جامعة سردها في شرح الغاية وأتى بما فيه النهاية والهداية منها أحاديث أنهم قرناء الكتاب وأنهم لا يفارقونه إلى ورود الحوض في يوم الحساب وأنهم أمان للأمة من الاختلاف وأن الأمة لا تضل إذا تمسكت بكتاب الله وعترته وانه إذا أخبره ربه عز و جل أنهما لا يفترقان إلى أحاديث جمة نقلها من المحدثين عيون الأئمة
قال في نجاح الطالب للعلامة المقبلي عند قول ابن الحاجب ولا ينعقد بأهل البيت خلافا للشيعة ما لفظه هذا ينافي حكايته عن الشيعة نفي حجية الإجماع والمشهور الذي لا يجهله إلا مقلد في النقل لا يصح تقليده أن الشيعة يقولون بحجية إجماع الأمة وحجة إجماع أهل البيت فالرافضة لدخول المعصوم في الموضعين وأما الزيدية فلا يقولون بالعصمة في الإمام ولا باشتراطها والنقل عنهم باشتراط ذلك باطل ولكن يقولون بإجماع الأمة بمثل أدلة غيرهم وبإجماع أهل البيت لأحاديث تواترت معنى أن أهل البيت والكتاب لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض لكثرة طرقها منها عند من التزم الصحة كمسلم والحاكم وابن حبان وعند غيرهم كأحمد والطبراني والخطيب وابن أبي شيبة والدارمي وأبي يعلى الموصلي وغيرهم من أحاديث جماعة
من الصحابة قد ذكرناهم في العلم الشامخ وزعم البرزنجي أنه بلغ بهم إلى خمسة وعشرين صحابيا ويشهد له حديث مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق أخرجه الحاكم وابن جرير والخطيب والطبراني والبزار وكذا أخرج أحمد حديث النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس ومن أنصف علم أن هذا الدليل أقوى من أدلة إجماع الأمة بمراتب ولكن إهمال المصنف وكذا غيره لدليلهم يريد به ابن الحاجب في مختصر المنتهى كالجواب عليه صلى الله عليه و سلم لقوله فانظروا ا كيف تخلفوني فيهما وهل يترك مثل هذا ويقول بحجية قول أهل المدينة مع عدم تحققه كما بيناه لأنه عزي إلى مالك ويطول المصنف ذلك التطويل فخذها عبرة إن كنت ممن يعتبر واعبد الله ولا تعبد الأسلاف انتهى بلفظه
واعلم أنه قد قرر الأدلة الإمام الحسن بن عزالدين في شرح المعيار
ثم قال ما لفظه وقد اعترض الأول بمثل أن أهل البيت هم أزواجه صلى الله عليه و سلم اللاتي في بيوته لأن أول الآية وآخرها فيهن ولو سلم فإنما يثبت ذلك في حق علي وفاطمة والحسنين لأن الخطاب إنما وجه إليهم فلا يتم وما أردتم ولو سلم فالرجس هو ما فحش من المعاصي ولو سلم فلا نسلم تناوله للخطأ المعفو عنه ولو سلم فغايته الظهور وحجية الإجماع أصل كلي لا يثبت بالظاهر على أن قولكم في تبرير الاستدلال في الآية ولا بد من وقوع ما أراده الله من أفعاله قد أجيب عنه لأن ذلك فيما لم يعلقه باختيار المكلفين لا كما هنا فإنه يردي تطهيرهم عن الرجس باختيارهم لا بإجباره لهم عليه وإلا لم يوجد فيهم عاص وهو خلاف المعلوم وأما الاستدلال بالأحاديث فإنه قال الإمام الحسن أيضا إنه أورد عليه أن لا نسلم تواترها لا لفظا وهو ظاهر ولا معنى إذ لم يحصل لنا الجزم بمعناه وكونه حصل لكم لا يفيدنا ولو سلم فلا يقتضي خطأ المخالف لأنه فرع ثبوت المفهوم ولا نقول به ولو سلم فغايته الظن وهو لا يجدي فيما نحن بصدده ولو سلم فهو متروك الظاهر لأن مقتضا خطأ اتباع الكتاب وحده لإفادة الواو الجمعية وهو خلاف الإجماع ولو سلم فإنما يفيد وجوب الاتباع حيث اتفق الكتاب وقول العترة والحجة حينئذ إنما هو الكتاب ولو يسلم فغايته الظهور فلا يثبت به أصل كلي ثم قال وللأصحاب أجوبة عن بعض ذلك وليس فيها ما يخرج تلك الأدلة عن حيز الظهور إلى حيز القطع انتهى بأكثر ألفاظه
وأقول بعد هذا إنه لا يخفى أن أهل البيت قد نشر الله منهم الكثير الطيب في جميع أقطار الدنيا بحيث لا يخلو منهم قطر بل هم رؤوس الناس في أقطار الإسلام فهم ملوك اليمن كابرا عن كابر من ثلاثمائة سنة إلى يومنا هذا ونحن في القرن الثاني عشر وإن تخلل تغلب البعض من غيرهم بإمارة وهم أيضا ملوك مكة في الغالب وهم ملوك العجم في الغالب وملوك العرب وتضم في جميع الأقطار الرومية التي ملكها صاحب الروم نقباء الأشراف ولا ريب أن في كل قطر علماء منهم أئمة محققون وبالجملة تفرقهم في الآفاق كتفرق الأمة الإسلامية في الأقطار وقد اتسعت لأهل البيت عليهم السلام دولة
قوية في الجبل والديلم مدة طويلة وإذا عرفت أن الإحاطة بمعرفة أقوال مجتهديهم متعذرة لا سيما ومنهم شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة كل أهل قطر على رأي من ينشؤون في أرض مذهبه ومنهم من أحال الاجتهاد بعد الأربعة المذاهب وفيهم قائلون بهذا وبهذا يتقرر أنه لا سبيل إلى معرفة إجماعهم أصلا وقد تقول طائفة ممن شارف على علوم الآل في قطر من الأقطار كأهل اليمن ورأى كتابا من كتبهم فيه أن هذه المسألة أجمع عليها العترة كما يدعونه في المسح على الخفين أنه أجمع العترة على عدم شرعيته أو على نسخه والحال أنه ثبت وصح القول بالمسح عليهما عن إمام العترة بل إمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام فتراه أي من اطلع على دعوى إجماع أهل البيت يجادل به بما يضلل ويضلل من خالفه ويقول خالف إجماع أهل البيت وهذا من الغباوة والجهل بحقيقة إجماع الآل بل الجهل بالآل فإنه لم يخرج الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى اليمن إلا وقد تفرق أئمة الآل وعلمائهم في الأقطار الشاسعة والبلدان الواسعة وقد وصل الغرب الأقصى أئمة منهم لا تعرف أقوالهم كالإمام إدريس بن عبدالله وذريته ووصل أولاد محمد بن عبدالله النفس الزكية بعد قتله إلى الهند إلى أرض كابل فليتق الله عبد
وجد دعوى إجماعهم عن القول به والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب والتضليل لمن خالفه والتفسيق لمن أنكره فقد ولع الجهال من أتباع أئمة المذاهب بدعوى إجماع الأئمة ودعوى إجماع الآل من غير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير كما قررناه فيما سلف من إحالة معرفة إجماع الأمة بل إحالة وقوعه وكذب ناقله ومدعيه نقوله هنا أيضا فإن قلت فإذا لم تقم الآيات والأحاديث أدلة على إجماعهم وأنه حجة ومعلوم أن أقوال أفرادهم غير حجة وقد ثبت في الأحاديث الأمر باتباعهم وأنهم قرناء القرآن لا يفارقونه فماذا تكون فائدة تلك الأدلة قلت قد بسطنا الجواب عن هذا في حاشيتنا على كتاب تيسير الوصول المسماة بالتحبير على التيسير بما فيه الشفا بحمد الله فلينظره من أراده
مسألة ... وإن أتى لأمة المختار ... قولان في عصر من الأعصار ... فجائز إحداث ما لم يرفع ... كذا دليل ثالث ورابع ... كذلك التعليل والتأويلا ...
هذا إلمام بمسائل تتصل ببحث الإجماع الأولى أنه إذا اختلف أهل عصر على قولين فهل يجوز إحداث قول ثالث ففي المسألة لعلماء الأصول إطلاقان وتفصيل وذكر القولين ترجيح منا لما ترجح منا كما في ذلك القيل
المسألة الثانية التي أشار إليها قولنا كذا دليل ثالث أي كذا جائز إحداث دليل ثالث ورابع وذلك أنه إذا استدل أهل العصر على مسألة بدليلين مثلا فإنه قد قيل لا يجوز إحداث غير ما استدلوا به لأنه خروج عن سبيلهم وهذا قول ضعيف لأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها والممنوع مخالفة الحكم لا مخالفة الدليل وقيل بل يجوز إحداث ذلك وهذا الذي أفاده النظم بقوله دليل ثالث فإن الإشارة بقوله كذا إلى جواز لا إلى التفصيل السابق في البيت الأول إذ لا يتصور جريانه فيما نحن فيه والتقييد بقولنا ثالث تبع للأصل وأصله المعيار وكأنهما أرادا مثلا فإن الخلاف واقع من غير شرطية تقديم دليلين فلو اتفق أهل العصر على دليل جاء الخلاف في إحداث دليل غيره والدليل لما اخترناه من الجواز أن إحداث دليل غير دليلهم لا مخالفة فيه لما أجمعوا عليه ولا رفع لما أحدثوه ثم إن المطلوب من الأدلة أحكامها كما عرفت وحكي عن
ابن حزم المنع إذا كان الدليل الذي أحدث الاستدلال به من تأخر نص لم يعرفه الأولون لا إذا لم يكن كذلك فيجوز وكأنه ناظر إلى مسألة هل يجوز عدم علم الأمة بدليل راجح عملوا بما اقتضاه فقيل لا يجوز لأن الراجح سبيل المؤمنين فيلزم من عملهم بغير سلوكهم غير سبيل المؤمنين وهو لا يجوز عليهم وجوابه إنا لا نسلم أنه يتعين إطلاعهم على الدليل الراجح فلم يكن في عدم اطلاعهم عليه مخالفتهم سبيل المؤمنين لأن الذي توعد على مخالفته سبيلهم هو ما اتفقوا عليه وسلكوه والدليل الراجح الذي جهلوه لم يتحقق كونه سبيلا للمؤمنين قد سلكوه نعم من شأنه أن يكون سبيلا لهم وفرق بين صلاحيته بأن يكون سبيلا لهم وبين كونه قد ثبت وتحقق أنه سبيلهم
المسألة الثالثة إذا اختلفوا في تعليل حكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم إحداث علة أخرى لذلك الحكم المختار جواز ذلك أيضا إذ لا مخالفة لمن سبق تقضي ببطلان تعليلهم واقتصار الأولين على علة لا يقضي بالمنع من إحداث غيرها ومن قال لا يجوز علل ذلك ببيت العنكبوت كما عرف في موضعه ولما كان الإجماع ينقسم إلى قولي وفعلي وسكوتي فلا بد من طريق توصل إلى معرفة وقوعه أشار النظم إلى الأولين فقال ... فأسلك إلى العلم به سبيلا ... سماع ما قالوه والمعاينه ... والنقل عن كل على ما عاينه
قولنا سماع بدل من سبيلا وهذه هي الطريق الأولى أعني سماع قول كل مجتهد وهي أعلاها وأعزها وجودا والثانية المعاينة وهي أن يعاين أهل الإجماع يفعلون فعلا من الأمور الشرعية أو يتركونه ويعرف بقرائن المقال مرادهم فإنه يكون إجماعا وهوالمسمى بالإجماع الفعلي
وإلى الثالث بما أفاده قوله ... أو بعضهم مع الرضا ممن سكت ...
قوله أو بعضهم عطف على قوله كل أي أو ينقل عن بعضهم وهذا هو الإجماع المعروف بالسكوتي وهو أن ينقل عن بعض أهل الإجماع قولا أو فعلا أو تركا يقوله ذلك المجتهد مع رضاء الباقين من أهل الاجتهاد بما قاله من الحكم ورضاهم يعرف بأحد أمور ثلاثة أشار إليها قوله ... واعرفه منهم بامور قد أتت ... بفقد إنكار مع اشتهار ... وما لهم عذر من الإنكار ... وكونه مما المحق فيه ... فرد وهذا عند مثبتيه ...
الأول من الثلاثة التي يعرف بها رضى أهل الإجماع فقد الإنكار أي عدم إنكارهم مقالة ذلك البعض ولكن لا يكفي في ذلك فقد الإنكار إلا بشرط اشتهار المسألة وانتشارها كما قيدناه به إذ لو لم تشتهر لم يدل السكوت على الرضا لجواز أنهم ما عرفوها
الثاني أنه يشتهر ولا يكون لهم عذر من الإنكار كخوفهم من الفرقة والفتنة وغيرهما مما يبيح السكوت عن الإنكار وهو التأدية إلى أنكر منه أو عدم قبوله
الثالثة أن تكون المسألة من المسائل القطعية كما أشار إليه قوله مما المحق فيه فرد إذ المخطىء فيه آثم فلو لم يكن السكوت عن رضى لأنكروه لوجوبه ولو لم ينكروه مع ذلك لكانوا قد أجمعوا على ضلاله
وهم معصومون عنها فما سكتوا إلا لموافقتهم له فيما قاله فكان إجماعا وهذا في المسائل القطعية لا الاجتهادية إذ القائلون بأن الحق فيها مع واحد يقولون إن مخالفه مخطىء لكنه مأجور فلا ينكر عليه والقائلون بالتصويب اختلفوا في كونه إجماعا ثم إنهم قيدوا أصل المسألة بأن يكون قبل انتشار المذاهب إذ بعد تقررها قد جرت العادة بعدم النكير على من خالفها وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يكون إجماعا أولا فقال جماعة إنه ليس بإجماع ولا حجة وهو مختار الإمام يحيى وقال إنه الذي عليه أئمة الزيدية وأكثر المعتزلة ومال إليه أهل الظاهر وارتضاه الغزالي وبه قال الباقلاني وادعى أنه آخر القولين للشافعي إذ قال الشافعي لا ينسب إلى ساكت قوله ونسب إلى إمام الحرمين وإليه يشير قول الناظم وهذا عند مثبتيه فإنه مشعر بأنه لا يقول به وهو هكذا عندنا غير إجماع ولا حجة وذلك لكثرة احتمال السكوت من التقية والتروي في المسألة وعدم تقرر النظر أو يرى أنه لو انكر لما التفت عليه وأن من لا يرى النكير في المسائل الخلافية إن كانت منها وغير ذلك مما لا يبقى لاحتمال رضاهم معه مجال وقد أوضحنا ذلك في رسالة تطهير الاعتقاد إيضاحا لا يبقى معه شك عند النقاد وبينا أن الإجماع الذي يسمونه
سكوتيا لا يدخل في مداخل الأدلة ولا يحوم حول حمى من أحمتها عند الجلة
وذهب الأكثر من الحنفية إلى أنه إجماع قالوا لأنه لو شرط السماع عن كل مجتهد لتعذر وقوعه خلاف ما قد تقرر أي من علم تعذر وقوعه قلت وفيه ما عرفته من عدم نهوض الدليل على وقوعه وثبوته وذهب جماعة من علماء العترة إلى أنه حجة ظنية لا إجماع واختارة الرازي والآمدي وابن الحاجب قالوا لأن السكوت مع انتشار الفتيا انتشارا يبعد معه أن يخفي على المجتهد من أهل العصر ولم يقع من أحد مخالفة ظاهرة في الموافقة قالوا تلك الاحتمالات لا تدفع الظهور قالوا وأقل مراتبه أن يكون كالقياس وظواهر الآحاد ولا يتم هذا إذ الآحاد والقياس قد قام الدليل على التعبد بهما بخلاف الإجماع السكوتي وقد ذكرنا هذا الذي يسمونه سكوتيا وصرحنا به في قولنا ... يدعى سكوتيا فأما الأول ... فإنه القولي فيما أصلوا ...
قد عرفت أن طرق معرفة الإجماع قوليا كان أو سكوتيا سماع ما قالوه من اتفاقهم على الحكم وهذا طريق قولي مستند إلى سماع أقوالهم إن كان الإجماع قوليا أو المعاينة لما يفعله أهل الإجماع إن كان فعليا أو معاينة تركهم إن كان تركا وأما السكوتي فطريقة النقل عن البعض أو فعله أو تركه مع رضى الباقين من المجتهدين بما قاله أو فعله أو تركه ومعرفة رضاه لما عرفته آنفا والنقل طريق لغير السكوتي والسكوتي إنما الفرق أنه في غير السكوتي يؤخذ عن قولهم الجميع وفيه عن قول بعضهم وقوله ... وهو من الأدلة الظنية ... ولو أتى من طرق قطعية ...
الضمير للسكوتي أي أنه بعد تقرير ثبوته دليلا يكون من الأدلة الظنية ولو كانت طرق وصوله إلينا قطعية تكون تواترية واعلم أن النظم وقع فيه ما وقع في أصله من اشتراط أن يكون مما الحق فيه مع واحد ! وذلك في
المسائل القطعية ثم قال ها هنا إنه من الأدلة الظنية إلا أنه لما تدافع كلام الأصل أشرنا بقولنا عند مثبتيه فإنه إشارة إلى أن من الناس من ينفيه ونفيه إنما يكون في المسائل الاجتهادية والقطعية فإنه اتفاق كما عرفت فقولنا وهو من الأدلة الظنية أي السكوتي الذي فيه الخلاف إثباتا ونفيا وليس إلا ما في المسائل الاجتهادية والحاصل أن السكوتي مع حصول شرائطه يكون إجماعا في المسائل القطعية بلا خلاف وأما في الاجتهادية فهو دليل ظني عند المثبتين ! له ولك أن تقول إن الحكم يكون من الأدلة الظنية لا ينافي كون الكلام أي كلام الأصل فيه بالنظر إلى المسائل القطعية فإن استفادة القطع من أمور خارجة وهي وقوعه فيها لا لذاته وفي هذا دفع لما يقال كيف يصح إثبات المسائل القطعية في السكوت وهو ظني فإنه إذا وقع فيها كان قطعيا بقرائن المقام ... وأجمعت أصحابه من بعده ... على خطا من مال بعد عقده ... ومثلهم لا يجمعون إلا ... عن قاطع في مثله قد دلا ...
هذا دليل ثان بعد الأدلة السمعية السابقة على حجية الإجماع وهو كما في النظم إن الصحابة قد أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف والعادة قاضية بأنهم لا يجمعون إلا على دليل قاطع وذلك لما لهم من الصفات الحميدة وتزكية رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بأنهم خير القرون وثناء الله عليهم في القرآن بمثل كنتم خير أمة أخرجت للناس و محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم الآية فلذا قال ومثلهم أي من كان بتلك الصفات وليس إلا هم وبه يعرف أنه لا يرد إجماع اليهود على عدم نسخ شريعة موسى وإجماع النصارى على قتل عيسى وذلك أنه قد أبان الله حقيقة حالهم وباطن أمرهم وما هم عليه من التحريف والتبديل والكذب وغيرها من الصفات القاضية ببطلان إجماعهم وبالجملة فإنما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود وانتفاؤه ظاهر وقوله في مثله أي مثل الحكم بخطأ من خالف الإجماع بعد انعقاده من
الأمور الشرعية إشارة إلى دفع النقص بإجماع الفلاسفة على قدم العالم فإنه عن نظر عقلي باطل لا عن دليل شرعي وإنما قلنا في النظم أصحابه ولم نقل أمته كما وقع في بعض كتب الأصول لأنه أورد عليه أن من الأمة من أنكر ثبوت الإجماع كالنظام والخوارج ودفعه أن الاعتداد بخلافهم لا يسمع فإنهم من الأمة كما قدمناه وقد أورد على هذا الدليل بأن لا نسلم ثبوت إجماع الصحابة إلا على تخطيط مخالف الضرورة كالخارج عن ملة الإسلام والنزاع في غير ذلك سلمنا ثبوته لكن لا بد من تواتره نقلا حتى يتم الاستدلال فيه على إثبات أصل من أصول الشريعة ونحن نطالبكم بإثباته عنهم بطريق الآحاد فضلا عن التواتر وقد أورد على هذا الدليل إيرادات كثيرة تشتمل عليها المطولات ولذا صرح في شرح الغاية بضعف الأدلة العقلية قال وهذا أشفها عندهم
تنبيه إذا عرفت جميع ما سقناه علمت أنه لا يتم نهوض الأدلة على حجية الإجماع ولو فرض أنها دلت عليه لما قامت على وقوعه ولو قامت عليه لما قامت على نقله تواترا فلا يشتغل الناظر لدينه بالبحث عنه وعن الأدلة عليه وما قيل فيها وقد أشار قولنا ... وإن أتى القولي آحاديا ... فإنهم يرونه ظنيا ...
إلى طريق نقل الإجماع القولي وأنها إما أن تكون آحادية وقد عرفت أن الآحادي لا يفيد إلا الظن كما عرفت إلا إذا حفته قرائن كما أشرنا إليه سابقا والظني حجة ظنية وهذا مما لا خلاف فيه وإما أن يكون نقله بالتواتر فقد أشار إليه قولنا ... وإن يكن طريقه التواترا ... فحجة قاطعة بلا مرا ...
أي فإما أن يكون طريق نقل الإجماع القولي التواتر الذي عرفت حقيقته فإنه يكون الإجماع حينئذ حجة قطعية بلا شك وأشار إلى حكم مخالف القطعي وإلى أدلة حجية الإجماع بقوله
بفسق من خالفه لما أتى ... من قوله ويتبع وما روى ... أئمة الآثار عن خير الورى ... من الأحاديث فسائل من ترى ...
فصدر البيت يشير إلى حكم من خالف الإجماع القطعي وهو المنقول تواترا بأنه بمخالفته إياه يكون فاسقا والفاسق من له منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر وحكمه في الدين معروف لا تقبل له رواية ولا شهادة ولا يصلى خلفه وغير ذلك وفي الآخرة إن مات وهو غير تائب أنه من أهل النار خالدا فيها مخلدا والمسألة مقررة في علم الكلام واعلم أن كون الإجماع حجة قطعية إن روي تواترا مسألة خلاف وتفصيل فإن كان مما علم ضرورة كالصلوات الخمس مثلا وإن كان وجوبها علم من ضرورة الدين لا من باب الإجماع بخصوصه فمخالف هذا لا خلاف في كفره وليس من محل النزاع وإنما وقع به التمثيل لاستيفاء ما قيل وإن لم يكن مما علم من الدين ضرورة فقيل يكفر مخالفه ونسب إلى الحنفية وقال الجمهور لا يكفر لكنه يفسق قالوا لأنه تعالى توعده بالإصلاء في النار وأقل أحواله أن يكون فاسقا
قلت والمسألة عائدة إلى تحقيق معنى الكبيرة والخلاف مبسوط في محله فإن فسرت بما توعد عليه بالنار ثم الاستدلال بالآية لا يتم على التفسيق إلا بتقرير كون الآية قطعية الدلالة على الإجماع وقد أورد عليه المهدي في شرح المعيار وغيره من الخدش في دلالتها على ذلك بما كاد يخرجها عن مرتبة الظن فضلا عن القطع والمراد بالآية ما أشار إليه الناظم بقوله ويتبع فهو إشارة إلى قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ووجه الاستدلال بها أنه تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد مشاققة الرسول صلى الله عليه و سلم فدل على تحريم مخالفتهم وهو المطلوب ولكن قد قدمنا في أول بحث الإجماع تحقيق الكلام على الآية وأنها لا تنهض دلالتها على حجة الإجماع ولا على فسق من يخالفه
فتذكر وقد أشرنا إلى ما ورد من الأحاديث الدالة على حجية الإجماع وهي أحاديث واسعة ساقها أئمة الأصول إلا أنها وإن تواترت فمدلولها ظني وكما كان لك فليس بقطعي والحاصل أنها لا تنهض الأدلة من الكتاب والسنة على قطعية حجية الإجماع فلا يفسر مخالفه على أنه على تقدير قطعيته فإنه ليس بين الفسق والقطع ملازمة بل الفسق ملزوم لكن المعصية كبيرة ولم يقم دليل على كبر مخالفة الإجماع فهذا في الأدلة السمعية وهنا انتهى بحث الإجماع
وهذا بحث القياس قال الناظم ... فصل وهذا مبحث القياس ... وهو دليل ثابت الأساس ...
هذا هو رابع الأدلة الشرعية وعليه تدور أكثر المسائل الفرعية وهو في اللغة بمعنى التقدير وأما في الاصطلاح فهو ما أفاده ... وعرفوا معناه في العلوم ... بحمل معلوم على معلوم ...
في حكمه بجامع وينقسم
ضمير عرفوا إلى أئمة الأصول واللام في العلوم للعهد أي علم الأصول لأن السياق فيه وهو تعريف رسمي فالحمل كالجنس للمحدود ما بعده فالفصل له ولا بد للقياس من أربعة أركان أصل وفرع وعلة وحكم والباقي جامع تعلق بحمل وهي سببية وقد شمل ذلك النظم فقوله معلوم الأول هو الفرع ومعلوم الثاني هو الأصل وفي حكمه المراد به أحد الأحكام الخمسة وهو ثالث الأركان وبجامع رابعها ويسمى هذا القياس القياس التمثيلي ومرادنا من المعلوم ما هو أعم من المعلوم والمظنون ولم يقيد الحكم بالشرعي ليشمل العقلي واللغوي عند من أثبته ويذكر الجامع خرج ما كان ثبوت الحكم في شيئين بالنص كالبر والشعير المشتركين في حكم الربا فإن الحكم ثابت بالنص لا بجامع واعلم
أولا أن هذا هو رسم القياس التمثيلي ويطلق القياس على الاستثنائي
والاقتراني وهو القطعي المنطقي وحجيته قطعية بخلاف التمثيلي
وثانيا أن المراد بالجامع ما هو أعم من الصريح والضمني ويدخل قياس الدلالة في الرسم ومثاله إلحاق النبيذ بالخمر بجامع الرائحة المشتدة فالعلة الباعثة على الحكم هي الشدة المطربة وهي غير مذكورة صريحا إلا أنها مذكورة ضمنا لإشعار الرائحة مشتدة بالشدة المطربة
وأما قياس العكس وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم فإنه من باب الملازمة وإنما يذكر القياس لبيانها ومثلته الحنفية والهادوية بقولهم لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تصر شرطا له بالنذر فالأصل الصلاة والفرع الصوم والحكم في الأصل عدم وجوبها بالنذر والعلة فيه كونها لم تجب بالنذر والحكم في الفرعي كون الصوم شرطا في صحة الاعتكاف والعلة فيه وجوبه بالنذر فافترقا حكما وعلة فلا يصح دخوله في الرسم للقياس فيلزم أن حد القياس غير جامع والجواب أنه ليس من القياس بل من الملازمة وبيان أنه منها أن المثال المذكور راجع إلى قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لم يكن واجبا بالنذر لكنه قد وجب بالنذر فيكون شرطا فهذا تمثيل بين التلازم ولما كانت دعوى الملازمة تحتاج إلى دليل بينت بالقياس المستعمل عند الفقهاء المراد ! إدخاله في الحد بأن ما لم يكن شرطا لشيء لم يكن شرطا له بالنذر كالصلاة فإنها لما لم تكن شرطا للاعتكاف لم تكن شرطا بالنذر وخلاصته أن قياس العكس يشتمل على الأمرين على الملازمة وعلى القياس الذي لبيانها المراد إدخاله في الحد فإن أراد المعترض خروج قياس الملازمة فنحن نسلم خروجه ولا يضرنا وإن أراد خروج القياس الذي لبيانها فلا نسلم خروجه
وفي الفصول فإن أريد جمعها القياس أي قياس الطرد وقياس العكس بحد واحد قيل تحصيل مثل حكم الأصل أو نقيضه في الفرع لاشتراكهما في علة الأصل أو لافتراقهما فيها ولما كانت للقياس أقسام أشار إليها قولنا ... ستة أقسام على ما قد علم ... إلى جلي وخفي وإلى ... طرد وعكس فاتبع ما مثلا ...
للقياس أقسام كثيرة اشتملت عليها مبسوطات الفن وقد ذكرناها هنا منها ما هو الأهم
فالأول الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل وفرعه وذلك كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق الثابت في العبد في الصحيحين ويسمى أيضا قطعيا على أحد المعنيين في تفسيره ويسمى قياسا في معنى الأصل بالنظر إلى إلغاء الفارق أعم من أن يكون عن قطع أو لا
والثاني الخفي وهو ما قابل الأول وهو ما لم يقطع فيه بنفي الفارق كقياس النبيذ على الخمر لاحتمال أن يكون بخصوصية المحل اعتبار في العلة
والثالث قياس الطرد وهو ما كان في المساواة بين الأصل والفرع في الحكم والعلة على جهة التحقيق
والرابع قياس العكس وهو ما كانت العلة فيه على جهة الفرض والتقدير وهذا على ما قررناه من شمول اسم القياس لقياس العكس ثم أشار إلى بقية الأقسام الستة بقوله ... وعلة دلالة فاستملي ... أمثالها من أي حبر يملي ...
هذا التقسيم باعتبار الجامع وهو العلة فالأولى قياس العلة وهو ما صرح فيه بالنص نحو أن يقال النبيذ حرام لإسكاره كالخمر والثاني ما لم يصرح بها فيه بل ذكر ما يدل عليها من لازمها أو أثرها أو حكمها فهو قياس الدلالة
مثال الأول أن يقال النبيذ حرام للرائحة المشتدة كالخمر إذ الرائحة المخصوصة دالة على الشدة المطربة ويرجع إلى الاستدلال بالرائحة التي توجب الإسكار على الإسكار وبالإسكار على التحريم الذي يوجبه الإسكار فاكتفى بذكر الرائحة عن التصريح بالإسكار
ومثال الثاني أن يقال القتل بالمثقل إثم يوجب القصاص كالقتل بالمحد فالإثم هو أثر العلة التي هي العمد العدوان ولما كان الأثر يدل على المؤثر اكتفي بذكره
ومثال الثالث أن يقال في قطع الأيدي باليد قطع يقتضي وجوب الدية
على القاطعين فيجب كما يجب القصاص في قتل الجماعة بواحد فإن وجوب الدية ليس هو العلة الموجبة للقصاص بل حكم من أحكامها بل العلة الموجبة له القتل وهو يقتضي وجوب الدية أو القصاص فالقطع قد شاركه القتل الموجب لأحد الأمرين في أحدهما وهو وجوب الدية وإيجاب الشارع لأحد الأمرين بالقتل لحكمة الزجر وقد وجد في القطع أحدهما وهو الدية فيوجد الآخر وهو القصاص لأنهما متلازمان بالنظر إلى اتحاد العلة والحكمة من دون نظر إلى عدم الملازمة باعتبار الخطأ والعمد وعفو الأولياء عن القصاص
وعند الفراغ من ذكر هذه الأقسام أشرنا إلى الخلاف في كون القياس من الأدلة الشرعية أولا والجمهور على أنه منها كما أشار إليه قوله ... ومن يقل ليس من الأدله ... فإنه قد خالف الأجله ...
اختلف العلماء في القياس هل يجوز التعبد به أم لا ثم القائلون بالأول اختلفوا هل هو واقع أم لا واعلم أن مسمى القياس خمسة أنواع تحقيق المناط وتنقيح المناط وتعيين المناط وتخريج المناط وإلغاء المناط وفي كل واحد وقع الخلاف في كونه دليلا متعبدا به أو لا ومعنى التعبد أنه يكلف المجتهد بطلب المناط بالحكم الشرعي ليحكم في محاله بحكمه فالأكثر على أنه غير ممتنع عقلا وواقع شرعا ويجب العمل به وعن النظام والظاهرية أنه يمتنع شرعا التعبد به وذلك لأن الشريعة مبنية على الجميع بين المختلفات كالتسمية في الفدية بين قتل الصيد خطأ أو عمدا والتسوية بين الزنى للمحصن والردة في إيجاب القتل والوطء في الصوم والظهار في إيجاب الكفارة ومن التفريق بين المتماثلات كإيجاب الغسل بخروج المني دون البول والغسل من بول الجارية دون الصبي وقطع السارق دون الغاصب وإن عصب أضعاف نصاب السرقة وغير ذلك والقياس على خلاف هذا فيستحيل التعبد به وأجيب عنه بأن القياس بجامع والمختلفات يجوز اجتماعها في صفة مشتركة
تصلح أن تكون هي الداعي والمقتضي للحكم وتشريكها فيه ثم إن من المتماثلات ما يجوز افتراقها لعدم صلاحية الجامع أو وجود معارض في الأصل أو في الفرع يقضي بعدم التماثل بينهما وخلاصته أن للقياس شروطا واعتبارات لا بد من ملاحظتها في نظر المجتهد فليس مجرد التماثل في ظاهر الأمر يوجب الجمع ولا مجرد الاختلاف يقضي بالافتراق وقد استدل الأكثر بأدلة من الكتاب والسنة كلها ظنية الدلالات على التعبد بالقياس وقد بسطت في الكتب المطولة هي وردودها وهذه المسألة أصل من الأصول لا يكفي فيها إلا الدليل القاطع وأشف الأدلة عندهم هو ما أشار إليه قولنا ... كيف وقد أجمعت الصحابة ... وهذه قطعية الإصابة ... وشاع فيهم عملا وذاعا ... فكان إذ لم ينكروا إجماعا ...
فقوله فشارع فيهم الخ عطف تفسيري لقوله أجمعت وبيان له وقوله إذ لم ينكروا إشارة إلى أنه إجماع سكوتي وهو ظني الدلالة فأشرنا إلى دفع هذا بقولنا وهذه قطعية الإصابة ومعناه أن مثل هذا الأصل الذي يدور عليه أكثر الأحكام الشرعية تقضي العادة بأنه لا يكون إلا عن وفاق منهم وإلا لأنكروه هذا تقرير مرادهم أصل النظم وقد أورد عليه أنه يثبت ذم القياس عن الخلفاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود وأجيب بأنه ثبت عن علي عليه السلام القياس بمحضر من الصحابة حين شاورهم عمر في زيادة الجلد على الأربعين فقال علي أنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد الفرية قالوا هذا قاله بمحضر من الصحابة وعمل به عمر وأجيب بأن هذا لا يصح عن علي عليه السلام كيف ومعناه غير واضح بالمراد فإن الهاذي غير مكلف ولا حد في قذفه إذا أريد بالافتراء القذف وإلا فهو أعم منه وقد أورد على هذا
الأثر المنسوب إلى علي عليه السلام بأن ليس كل من شرب الخمر يسكر فشارب الجرعة لا يسكر وهو يحد وليس كل شارب يهذي ولا من يهذي يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان ثم إن كان يجلد لفرية لم تصدر منه فهو ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين في أنه لا يحل لأحد أن يعاقب أحدا بما لم يفعله لجواز أنه يفعله ثم من المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات فهنا يقام بلا شبهة ثم إنه إن كان الحد للفرية فأين حد الخمر وإن كان حد الخمر فأين حد الفرية ولا يجوز ثبوت حد بإقامة آخر ثم إنه أيضا إذا سكر هذى وإذا سكر سرق وزنى وقتل وأفسد في أموال الناس وأقر لغيره في ماله أفتلزمونه هذه الأحكام هذا مما لا تقولونه وإن قلتم به في شيء دون شيىء فهذا هو التحكم الذي لا يقوله عارف بأحكام الشريعة وبهذا يعلم أنه كذب افتراء موضوع على علي كرم الله وجهه ويدل أنه غير صحيح أنه صح حده للوليد بن عقبة أربعين في خلافة عثمان وأمر علي عليه السلام عبدالله بن جعفر بجلده وهو يعد إلى الأربعين فهذا يؤكد كذب هذا المروي وأنه لم يقله قط فقد نزهه الله عن مثل هذا ولا تغتر بتطابق كتب الأصول وغيرها على نسبته إلى علي رضي الله عنه فما كل منسوب إلى عالم يصح عنه وإن قيل إنه صحيح فلا بد من صحة معناه ومعرفة المراد
والمتشابه لا يكون إلا في كلام الله الذي لم يتعبدنا بمعرفته قيل ويقع في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما كلام العلماء فلا يقول به أحد
والأبحاث والإيرادات على القائلين بالقياس والرادين عليهم كثيرة وقد بسطت في مطولات الفن
وأما عمر فإنه في حد الخمر إنما عمل بقول عبدالرحمن بن عوف حيث قال له أخف الحدود ثمانون فجعله ثمانين كما في الصحيحين إن قيل هذا أيضا قياس قلنا ليس بالقياس المصطلح فإنه لا جامع بين السكر والقذف وإنما هو رأي محض وبالجملة ادعاء الإجماع في هذا غير صحيح ولهذا خالف جماعة من الائمة واختاروا أن حد الشارب أربعون وكونهم أجمعوا على القياس لا دليل عليه على أنه لو سلم فغاية الواقع منهم جواز العمل به لا وجوبه الذي هو المدعى قالوا بل أوجبوا الأحكام الثابتة به على العباد ولو كان العمل به غير واجب لما جاز لهم إلزام العباد بأحكام بنيت عليه
واعلم أن التحقيق أن القياس لم يقم الدليل على التعبد به إلا فيما كانت علته منصوصة بأي طرق النص كما يأتي تحقيقه وغيرها من المسالك الآتية ستعلم أنه لم يقم عليها دليل التعبد بالعمل به ويأتي إن شاء الله تحقيقه وقد بسطناه في رسالتنا المسماة الاقتباس في معرفة الحق من أنواع القياس
ولما اختلف في جريان القياس في الأحكام كلها أو عدمه أشرنا بقولنا ... وليس بالجاري في الأحكام ... جميعها في نظر الأعلام ... فإن ما معناه منها يجهل ... فليس في باب القياس يدخل ...
النفي في قوله وليس بالجاري متوجه إلى القيد أعني لفظ جميعها والمراد أن القياس لا يكون جاريا الاستدلال به في إثبات كل حكم شرعي لأنه
قد تقرر أن من الأحكام ما لم يدرك معناه الذي هو الداعي والمفضي للحكم بل قد يكون تعبديا والذي في كتب الأصول مسألتان إحداهما هذه وهو أنه اختلف في جريان القياس في جميع الأحكام الشرعية والمختار نفيه لأنه ثبت في الأحكام ما لا يعقل معناه كفرض الدية على العاقلة وإجراء القياس في مثله تعذر لما عرف من أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل وهذا ذكره ابن الحاجب والعضد
قلت وهذه المسألة قليلة الجدوى عديمة الفائدة إذ قد علم أنها إن تكاملت شرائط القياس وارتفعت موانعه كان دليلا على أي مسألة وإلا فليس بدليل لفوات شرائطه أو وجود موانعه
والمسألة الثانية أنه هل يجري القياس في الحدود والكفارات فقال الجمهور يجري فيهما وقالت الحنفية لا يجري فيهما واستدل الجمهور بأن دليل التعبد بالقياس شامل لهما فإذا عقل المعنى وجب فيه الحكم بالقياس كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد وقطع النباش على قطع السارق فالعلة والحكم فيهما معلومان وأما ما لا يعلمان فيه فلا يجري فيه القياس وكذلك اختلف في جريانه في الأسباب أو لا والكلام فيه مستوفى في المطولات والناظم هنا ما تعرض إلا لما في الأصل ثم أشار بقوله ... ثبوت حكم الأصل بالدليل ... كاف لدى الأكثر لا القليل ... فإنه يشترط الإجماعا ... أو اتفاقا من يرى النزاعا ...
إلا أنه يكفي في صحة القياس إثبات حكم الأصل المقيس عليه بالدليل من نص أو إجماع ثم تثبت العلة بمسلك من مسالكها التي تأتي وهذا رأي
الجمهور المشار إليهم بالأكثر وخالف بشر المريسي وهو المراد بالقليل أنه لا يكفي في صحة القياس مجرد قيام الدليل على حكم الأصل بل لا بد مع ذلك من الاتفاق إما من الأمة وهو قوله فإنه يشترط الإجماع أو بين الخصمين المتنازعين وهذا الذي نسب إلى المريسي يؤخذ من عبارة جمع الجوامع أنه رأي الجمهور فإنه قال في شروط حكم الأصل وكون الأصل متفقا عليه قيل بين الأمة والأصح بين الخصمين ثم لما كان للقياس أركان أشار إليها فقال ... هذا وأركان القياس أربعه ... أصل وفرع حكمه والجامعه ...
أركان الشيء أجزاؤه التي تتألف منها ماهيته مثاله أن تقول النبيذ حرام لأنه مسكر كالخمر فقد ركبت القياس هذا من أربعة أركان أعني المقيس عليه وهو الخمر وفرع وهو النبيذ وحكم وهو التحريم وجامع أي علة جمعت بين الأصل والفرع في الحكم وهو الإسكار وحقيقتها في عرف أهل الأصول ما ثبت الحكم الشرعي لأجله باعثا أو كاشفا كما يأتي وأما حكم الفرع وهو تحريم النبيذ فلا يعد من الأركان لأنه يتوقف على معرفة القياس وركن الشيء لا يتوقف عليه وإنما هو ثمرة القياس ولكل واحد من أركان القياس من الأربعة الأركان شرط فبدأ بشروط الأصل فقال ... فشرط حكم ما يعمد أصلا ... أن لا يكون النسخ فيه حلا ...
جعل هذا الشرط في أصل النظم شرطا للأصل ولكنه لما كانت شرطيته
إنما هي باعبتار الحكم فإنه الذي يرد عليه النسخ زدنا لفظ الحكم إعلاما بأنه المراد بالنسخ ولذلك تجد كثيرا من الأصوليين يقتصرون على شروط الحكم ولا يجعلون للأصل شرطا وإنما شرط أن لا يدخل النسخ حكم الأصل لما عرفت من المراد من القياس إلحاق حكم الفرع بحكم الأصل فإذا كان قد نسخ فلا حكم فلا إلحاق وهذا تتابع على ذكره الأصوليين ولكن لا حاجة إليه إذا ما نسخ حكمه فقد رفع التعبد به وطوي بساط الإلحاق عليه والشرط الثاني قوله ... ولا يكون خارجا عن السنن ... كشفعة الجار على ما في السنن ...
السنن الأول بفتح السين المهملة والثانية بالضم جمع سنة والمراد ما جاء في السنة من إثبات الشفعة للجار ومعنى عدم خروجه عن سنن القياس أن يعقل المعنى أي العلة في الحكم ويوجد في محل آخر يمكن تعديته إليه وذلك لأن القياس فرع تعقل العلة كما تقدم فلا يصح القياس والخارج عنه نوعان
الأول أن يكون مما خفي معناه المقتضي للحكم وذلك كالشفعة والقسامة لأنهما معدولان عن سنن القياس الشرعي فإن القسامة تجب على
من لا يدعي عليه ولي الدم القتل ويجب فيها تحليف من لم يثبت الحق عليه والقياس أن لا تجب إلا على من ادعى عليه وكذلك الشفعة مطلقا مخالفة للقياس لأنها أخذ مال الغير من غير رضاه بلا عقد وهذا النوع هو الذي أشار إليه الناظم
والثاني أن يكون معناه ظاهرا لكن منع من إلحاق نص الشارع بالخصوصية كإجزاء أبي بردة في التضحية بالجذع من المعز وقصره عليه بقوله صلى الله عليه و سلم ولا تجزىء غيرك وهذا الثاني لم يشر إليه النظم لعدم ذكره في أصله
الشرط الثالث قوله ... ولا يكون الحكم بالقياس ... قال بهذا جلة الأكياس
أي من شروط صحةالقياس أن لا يكون حكم الأصل ثابتا بالقياس فإنه لا يجوز القياس عليه على المختار واستدلوا لذلك بأن العلة في القياس إما أن تتحد أو تختلف إن اتحدت كقياس التفاح على السفرجل في الربويات مع قياسه على البر كان تطويلا للمسافة بلا فائدة للاستغناء بقياس التفاح على البر وإن اختلفت العلة لزم فساد القياس لعدم الاتحاد في العلة بين القياسين ومثلوه بأن يقال الجذام عيب يفسخ به البيع كما يفسخ به النكاح قياسا على الرتق فيقول الغير لا نسلم أن الرتق يفسخ به النكاح فيثبته المستدل بالقياس على الجب بجامع فوات الاستمتاع فيقول هذا القياس فاسدا لاختلاف الجامع بين الأصل والفرع الذي قصد إثبات الحكم به إذ العلة في الجذام كونه عيبا ينفسخ به البيع والعلة في الرتق هي فوات الاستمتاع فبطل القياس هكذا قاله الجمهور ولا يخفى أن ما ذكره في الأول من المثالين مناقشة لفظية لا تقتضي بطلان القياس المذكور وما ذكره في الثاني دل على انه بطل القياس لعدم الاتحاد في العلة لا لأنه قياس على مقيس فهذه شرط الأصل الذي جعلها صاحب أصل النظم شروطا للأصل
وأما شروط الفرع فثلاثة الأول منها موافقته في أمور ثلاثة أشار إليها بقوله ... واشترطوا في فرعه الموافقه ... في الحكم والعلة والمطابقه ... للأصل في التغليظ والتخفيف ...
هذا هو الشرط الأول للفرع وهو وجودي والشرطان الآخران عدميان وإنما جعلوا هذا شرطا واحدا لأنه مساواة الفرع لأصله وذلك في ثلاثة أمور الأول في الحكم بأن يتحدا في الحكم المستفاد من العلة وهذا في الحقيقة مأخوذ في ماهية القياس كما عرفت في رسمه
والثاني مساواته في العلة وذلك بأن يوجد في الفرع علة أصله كالكيل في الربويات عند معتبره فتقاس النورة عليها لوجود علتها فيها بخلاف ما لو قيل العلة هي الطعم فإنها لا توجد في النورة فلا يصح القياس
والثالث الموافقة في التغليظ والتخفيف فلا يصح قياس التيمم على الوضوء في التثليث لأن التخفيف ينافي التغليظ فيكون ذلك أمارة الفرق فلا تتحقق المشاركة التي تقتضي الإلحاق وليس الجمع لوجود الجامع أولى من الفرق لوجود الفارق وهذا الشرط اعتبره المهدي وجماعة
وذهب الأكثر إلى عدم اشتراطه قالوا لأنهما وصف للحكم والحكم إذا ثبت في الأصل على أحدهما من التغليظ والتخفيف ثبت في الفرع كذلك فإن ثبت المانع بنص كان بطلان القياس لأجله لا لمجرد المخالفة في التخفيف والتغليظ
الثاني من شروط الفرع الثلاثة وهما شرطان عدميان أشار إليها قوله ... ولم يكن في حكمه المعروف ... شرعية من قبل حكم الأصل ... ولا أتى في ذاك نص نقلي ...
هذا الشرط الأول أن لا نقدم شرعية الفرع على حكم الأصل ومثاله قياس الوضوء على التيمم في شرعية وجوب النية فإن وجوب النية في التيمم
ظاهر من نص قوله تعالى فتيمموا وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء فلا يقاس إيجاب النية في الوضوء على التيمم
والثاني منهما ما أفاده قوله ولا أتى في ذاك نص نقلي أي أنه يشترط في القياس أن لا يأتي على حكم الفرع نص نقلي أي دليل ظاهر دال على ثبوت حكم الفرع إذ يكون دليله النص لا القياس إلا أنه يجوز الاستدلال بالقياس استظهارا وتقوية ومعاضدة
وأما شروط الحكم فهو ما أشار إليه قوله ... وأن يكون حكمه شرعيا ... لا لغويا كان أو عقليا ...
هذا شرط للحكم الذي ثبت بالقياس هنا وهو أن لا يكون الحكم عقليا ولا لغويا وهذا شرطه في هذا الفن إذ قد يجري في غيره القياس العقلي كما في أصول الدين والمراد بكونه شرعيا أي من الأحكام الخسمة فإنه لا يهتدي إليها العقل إلا بالأدلة الشرعية والمراد بنفي اللغوي نفي أن يكون الثابت بالقياس الشرعي حكما لغويا نحو أن يقال في اللواط وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانيا كواطىء المرأة فهذا لا يصح لأن الأسماء لا تثبت إلا بالوضع اللغوي لا بالقياس الشرعي وبنفي كونه عقليا أنه لا يثبت بالقياس الشرعي حكم عقلي نحو أن يقال في نقل العين المغصوبة استيلاء
حرمه الشرع فيجب كونه ظلما كالغاصب الأول فهذا لا يصح لأن الظلم إنما يصح إذا حصل وجهه وهو كونه ضررا عاريا عن نفع ودفع واستحقاق
وأما شروط العلة فقد أفادها قوله ... وقد أتى عندهم للعلة ... شرائط قد جمعت في ستة ...
العلة هي الوصف الذي علق عليه الحكم الشرعي ويسمى الباعث على الحكم ولها ستة شروط
الأول قوله ... لا تصدم النص ولا إجماعا ...
بأن يكون ما أثبتته في الفرع مخالفا لهما مثال الأول قول الحنفي المرأة مالكة بضعها فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياسا على بيع سلعتها فإنه قياس صادم قوله صلى الله عليه و سلم أيما امراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل أخرجه أبو داود وغيره ومثال الثاني قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر فإنه مخالف للإجماع على وجوب أدائها
الشرط الثاني من الستة قوله ... ولا يكون جزؤها مضاعا ...
أي ملغى عن الاعتبار كما بينه قوله من غير تأثير فإنه بيان لمعنى إضاعته ... من غير تأثير له في الحكم ...
ومعناه أن العلة إذا كانت متعددة الأوصاف عند من قال به فشرطها أن لا يكون في أوصافها ما لا تثير له في الحكم بحيث لو قدر عدم ذلك الوصف لم يعدم الحكم فيه مثاله أن نقول في تحريم التفاضل في النورة مثلا مثلي ليس بلبن المصراة فيضمن بمثله فقوله ليس بلبن المصراة وصف
ملغى غير معتبر لا يصح أن يكون باعثا على الحكم ولا أمارة فلا فائدة فيه حينئذ وليس ذلك بدافع للنقض كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى حتى يقال هو الفائدة
الثالث من شروطها أفاده قولنا ... ولا يكون الوصف نفس الإسم ...
ويعني به الجامد المشتق مثال الجامد التعليل في حرمة الخمر بكونه خمرا وتعليل تحريم الربا في البر بكونه برا فإنه لا تأثير له في الحكم بل هو وصف طردي غير معتبر وإلى هذا أشرنا بقولنا فإنه ليس له تأثير
قال المهدي في شرح المعيار إنه لا يعلم خلافا في ذلك وقال الرازي قد وقع الاتفاق على عدم الجواز أيضا قال فإنا نعلم بالضرورة أنه لا أثر في تحريم الخمر لتسميته خمرا قلنا دعوى الاتفاق غير صحيحة فإنه قد حكى في جمع الجوامع الخلاف ونسبه إلى أبي اسحاق الشيرازي فإنه قال يجوز أن يكون وصف العلة صفة كالطعم في البر أو اسما كقولنا تراب وما قال لان كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص جاز أن يستنبط من النص ويعلق الحكم عليه كالصفات قال الزركشي والصحيح هو الجواز
قال وقد استعمله الشافعي في بول ما يؤكل لحمه قال لأنه بول شابه بول الآدمي وينسب إلى أحمد بن حنبل القول به هذا وإنما قيدنا بالجامد لان المشتق كالسارق والزاني جائز التعليل به اتفاقا إلا أنه قال الزركشي في شرح الجمع إنه منع بعضهم التعليل بالاسم مطلقا نقله سليم الرازي في التقريب
والشرط الرابع أشار إليه قولنا ... والطرد شرط قاله الكثير ...
الطرد للعلة مرادنا به أنها كلما وجدت العلة وجد الحكم وعدمه هو تخلف الحكم عنها في بعض الصور وهو المسمى بالنقض ولا يخفى أن هذا في الأصل هو الخامس لأنه جعل عدم مخالفة العلة الحكم تغليظا وتخفيفا شرطا ونحن اكتفينا بما مضى في شروط الفرع أن لا يخالط أصله تغليطا وتخفيفا فإنه يعلم أن العلة يشترط فيها ذلك وإنما قلنا في النظم في شروط العلة ستة باعتبار كلام الأصل ولذا قلنا عندهم أي لا عندنا
واعلم أن العلة إما أن تثبت بنص قطعي أو ظني أو استنباط فالتخلف إما أن يكون لمانع أو عدم شرط أو لا وقد اختلف العلماء في اشتراط الاطراد لصحة العلة على أقوال الأول ما أشرنا إليه من اشتراط ذلك مطلقا إلا لمانع أو عدم شرط فيجوز ذلك لأن الحكم الشرعي لا بد له من باعث عليه وقد جزم صاحب الآيات البينات بان تخلفها لا مانع ولا عدم شرط محال
واستدل مشترط الاطراد مطلقا أن الحكم لا يتخلف عن علته إلا لمانع أو عدم شرط قالوا فيكون عدم المانع ووجود الشرط من أجزاء العلة فوجود بعض أجزائها حينئذ في محل الحكم بدون الحكم دليل على أن ذلك البعض ليس هو العلة بمجرده وإلا لوجد الحكم في ذلك المحل مثاله لو ورد أن علة تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلا هو الوزن ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع وجود الوزن فيه تبين لنا أن العلة في منع بيع الحديد بالحديد كونه موزونا مع كونه ليس بأبيض أو مع أنه أسود فانتفاء المانعية وهو البياض أو وجود الشرط وهو السواد قد صار جزءا من أجزاء العلة فبطل حينئذ أن تكون العلة هي الوزن على انفراده فهذا دليل مشترطي الاطراد مطلقا وللمخالفين أقوال مسطورة في مطولات الفن وإليه أشير بمفهوم قولنا قاله الكثير أي ونازع فيه القليل فقالوا لا يشترط الاطراد وإلى الشرط الخامس من شروط العلة أشار قولنا ... والعكس عند البعض ثم قد أتى ... نفيا وفي الأغلب جاء مثبتا ...
فقوله والعكس هو الشرط الخامس ومعناه انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وهذا الشرط مبني على عدم جواز تعليل الحكم بعلتين فيكون عدم انعكاس العلة قدحا لا يصح معه عليتها لأنه لا يصح ثبوت الحكم بدون العلة والمراد انتفاء العلم او الظن بالحكم لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول لجواز أن يثبت بدليل آخر
وكون الحكم يجوز تعليله بعلتين مسألة خلاف بين أئمة الأصول فمن قال بجوازه قال لا يشترط انعكاس العلة كما أشير إليه بقوله في النظم عند البعض والمختار تعدد العلل المستقلة بإثبات الحكم بمعنى أنها إذا وجدت منفردة ثبت بها الحكم ومثاله وجوب القتل فإنه حكم ثابت بعلة القصاص وبعلة الردة وبعلة ترك الصلاة وبعلة الزنى من المحصن فكل واحدة علة مستقلة يثبت بها الحكم وقال المانع إن المثال متردد الحكم لا العلة قال فالقتل بالقصاص غيره بالردة مستدلا بأنه ينتفي القتل بالقصاص عند العفو مثلا ويبقى القتل بالردة ولو كان متحدا لانتفاء القتل من حيث هو وأجيب بأن تعدد الإضافة لا يوجب الاختلاف الذاتي وإلا لزم تعدد الواحد بالشخص باعتبار الاضافات كالأبوة والبنوة والأخوة وأما ارتفاع بعضها دون بعض كما في الصورة المذكورة فلا يضرنا لأنه لمقتض أوجب ذلك ولا يلزم منه ثبوت تعدد الحكم في كل ما وقع فيه النزاع ألا ترى أن الغسل إذا وجب بالحيض والوطء كفى غسل واحد ولو تعدد لتعدد العلل ما كفى ذلك وهذا شرح صدر البيت
وأما عجزه فإنه لما لم يكن من شروط العلة بل بحث آخر أتى بثم إشارة إلى أنه حكم آخر مترتب على ما قبله وهو حكم من أحكام العلة وقدم النفي لكونه الأصل فإن الوجوب طار على العدم والمصدر بمعنى اسم المفعول أي منفيا كما يدل له المقابلة بقوله مثبتا ثم إن التعليل بالمثبت والأغلب كما دلت له العبارة وعليه وقع الاتفاق وفي التعليل بالعدم خلاف فالحنفية لا يجوزون التعليل به والحق جوازه ووقوعه قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و لكي لا يكون دولة بين الأغنياء و لكي لا تأسوا على ما فاتكم قالوا النفي بمعنى الإثبات وهو الكف وهو أمر محقق وجودي قلنا عاد الخلاف لفظيا على أن المعلوم لغة أنه لا يفهم من قوله لعبده لم يمتثل إلا سلب ما دخلت عليه آلة النفي لا لأنه قعد أو كف نفسه فدعوى ما ذكرتم افتراء على اللغة إذ آلة النفي الداخلة على الفعل إنما تفيد سلبه ثم لا يخفى أن الصور أربع
الأولى أن يكون الوصف ثبوتيا والحكم كذلك كتعليل تحريم الخمر بكونه مسكرا
الثانية أن يكونا عدميين معا كتعليل عدم نفاذ بيع الصبي والمجنون بعدم العقل
الثالثة أن يكون الوصف وجوديا والحكم الثابت عنه عدمي كتعليل عدم نفاذ التصرف من المسرف بالإسراف
والرابعة عكسها وذلك كتعليل جواز ضرب الزوجة بعدم الامتثال ثم أشار إلى بعض أحكام الوصف وهو العلة الجامعة بقوله ... ومفردا كما أتى مركبا ...
أي وأتى الوصف مفردا كالإسكار في باب الخمر ولا خلاف في جواز التعليل بالمفرد وأتى مركبا يعني أنه يكون الوصف متعددا كالقتل العمدي العدوان في القصاص فالمختار وعليه الجمهور جوازه إذ لا مانع منه وقد وقع والوقوع دليل الصحة وخالف فهي من خلاف بلا دليل ناهض وقوله ... وخلقه كالطعن في باب الربا ...
بكسر الخاء العجمية أي يكون وصفا حقيقيا خلقيا في محل الحكم يدرك بالحس ويعقل باعتبار نفسه لا بوضع عرفي كالشرف والحسب في باب الكفاءة ولا شرعي كالنجاسة والطعم لا يتوقف على شيء مما ذكر بل يدرك بالحس ثم نظم مسائل تتعلق بالوصف يذكرها الأصوليون وهي اربع كونه شرعيا وكونه يقارنه مثله وكونه يعقبه وكون الأوصاف تعارض فيرجع إلى الترجيح أشار إلى الأولى فقال ... وجاء شرعيا وعنه قد حصل ... حكمان شرعيان ثم في العلل ... تقارن قد صح والتعاقب ... كذلك الترجيح حكم لازب ...
فقوله وجاء أي وجاء الوصف شرعيا سواء كان لجلب مصلحة أو لدفع مفسدة كما يفيده الإطلاق وهو رأي الجمهور وفي المطولات خلاف
وتفاصيل لا حاجة إلى تفصيلها وذلك كما يعلل عدم صحة بيع الكلب لكونه نجسا فإن النجاسة حكم شرعي وقوله وعنه أي عن الوصف الواحد قد حصل حكمان شرعيان أو أكثر ومثاله تعليل تحريم دخول المسجد وقراءة القرآن والصلاة والصوم والوطء بالحيض فهذه أحكام متعددة عن وصف واحد وكالسرقة يترتب عليها حكمان شرعيان القطع والفسق
والثاني قوله تقارن أي يصح تقارن العلل المتعددة لحكم واحد وذلك كالقتل للردة والزني إذا تقارن وجودهما فإنهما علتا القتل وقد تقدم في بحث العكس
والثالث قوله والتعاقب أي تعاقبها بأن يقتضي وصف حكما ثم يقتضي وصف آخر ذلك الحكم ومثاله تعليل تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء أما ترجيح بعض العلل على بعض الذي أشير إليه فهو عند تعارض العلل وسيأتي بيانه وأمثلته في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى
وحين انتهى بنا الكلام في شروط العلة أخذنا في بيان طرق معرفتها ومسالك إثباتها فقلنا ... مسالك العلة فيها أربع ... أولها عندهم أن يجمعوا ...
حذف التاء من أربع لكونه قد أضيف إلى مؤنث وهو العلة فأجرى عليه حكم المعدود المؤنث وجعلها أربعة هو الذي اختاره ابن الحاجب وغيره بإدخال تنبيه النص وإيمائه في مسلك النص ومن عدها ستة جعلهما مسلكين وأولى الأربعة الإجماع وقدم لكونه أقوى ولأن مسلك النص منتشر ومعناه
أن تجمع الأمة على تعليل حكم بعلة معينة ومثل الذي أجمع على عليته بالصغر فإنه علة في الولاية على المال والمراد بالإجماع هنا أن يجمعوا على أن الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني من غير نظر إلى تعدي العلة ووقوع القياس فاندفع ما قيل إنه كيف يتصور الإجماع مع نفاة القياس لأن الكلام في إثبات علة الحكم والدليل عليها أعم من أن يحصل عنها قياس أو لا ويدل عليه قوله في متعلق أن يجمعوا ... بأن هذا علة والثاني ... نص وقد عد له قسمان ...
والمراد بالنص ما دل على العلية من نص كتاب أو سنة سواء كان صريحا وهو ما دل بوضعه أو غير صريح وهو ما لزم من مدلول اللفظ فهذا هو ما أردناه بقولنا وقد عد له قسمان ثم بين الأول بقولنا ... فما أتى فيه بحرف العلة ... فهو صريح النص بالأدلة ... كاللام والباء وكي والفاء ... وما بمعناها من الأسماء ...
أي الذي أتى فيه بحرف يدل على العلة وضعا فهو صريح النص في الدلالة عليها ومعنى الصراحة هنا هو أن الحرف الفلاني يدل على العلية وضعا سواء احتمل غيرها أو لا فدخل فيها الظاهر فهو من قسم النص الصريح في هذا الإطلاق فإن كانت تنحصر دلالته عليها فهو النص وفي العلية بالمعنى الأخص وإن احتمل غيرها فهو الظاهر إذا عرفت هذا فأقواها ما انحصرت دلالته على العلية ككي ومن أجل كذا وإذا أكل قال تعالى كي تقر عينها ومن أجل ذلك كتبنا وإذا لأذقناك ومن السنة كما قال صلى الله عليه و سلم إنما جعل الاستئذان من أجل النظر وغير ذلك
ثم بعده في الدلالة على العلية ما يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا بكونه يطلق على غيرها مثل اللام لأنه تأتي لغير التعليل نحو ... ولدوا للموت وابنوا للخراب ...
ظاهرة كانت نحو لتخرج الناس من الظلمات إلى النور أو مقدرة نحو أن كان ذا مال وبنين أي لأن كان وهذا على رأي من لا يجعل أن للتعليل فأما من يجعلها له فلا يقدر اللام
ومن ذلك إن المكسورة المشددة مثل إن النفس لأمارة بالسوء وفي الحديث إنها ليست بنجس إنها من الطوافين وهو كثير في الكتاب والسنة وبكونها للتعليل صرح الرازي والآمدي
ومن ذلك الباء نحو جزاء بما كانوا يعملون
ثم الفاء إذا دخلت على العلة نحو زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون الحديث في الشهداء وأما الفاء الداخلة على الحكم نحو السارق والسارقة فاقطعوا فليست للتعليل وقد صرح أئمة العربية أن الفاء تكون للسببية فلذا عدها الأصوليون حرف علة
وقوله وما بمعناها من الأسماء يدخل من أجل ذلك ونحوها وإن كان يمكن إدراكها فيما قبلها وهذا في الصريح من النص الدال بوضعه على العلية وأما الثاني وهو غير الصريح وهو الدال عليها بلازم وضعه فقد أفاده قوله ... وغيره ما أفهم التعليلا ... من غيرها وراجع التمثيلا
أي وغير النص ما أفهم العلية من لازم لفظه لا من وضعه وخص أئمة الأصول هذا القسم بالتسمية بتنبيه النص وإيمائه كما قال ... وسمه تنبيه نص واعرف ... أنا هنا لما سيأتي تكتفي ...
يريد في باب المنطوق فإنه يأتي بيان أقسام التنبيه والإيماء وأما قوله في البيت الأول وراجع التمثيلا فهو إحالة على ما في الأصل من الأمثلة
واعلم ان حقيقة التنبيه والإيماء هو أن يقترن الوصف الملفوظ به بحكم ولو مستنبط لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل عن ذلك الاقتران بعد وقوعه من الشارع لمعرفته بأساليب الكلام ومطابقة مقتضى الحال وجعلوا منه اقتران النظير كخبر الخثعمية وهو قولها يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إذا حججت عنه فقال صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كان على أبيك دينا فقضيته أكان ينفعه قالت نعم أخرجه الستة فذكر صلى الله عليه و سلم لها نظيرا ما سألته عنه ليثبت له ما ثبت لنظيره أي فكما ثبت نفع الميت بقضاء دينه ثبت نفعه بالحج عنه وأما مثال اقتران الوصف فمثاله خبر المواقع في نهار رمضان ولفظه عند ابن ماجه واقعت أهلي في رمضان فقال صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم له أعتق رقبة أخرجه الستة فأمره بالإعتاق بعد ذكره الوقاع دال بالإيماء والتنبيه على أنه علة الحكم فكان في قوة إذا واقعت فكفر ومن الأمثلة إذا منع نهي الشارع عما يمنع من إيجاد واجب بعد تقديم الأمر به نحو قوله تعالى وذروا البيع فإن
النهي عن البيع بعد الأمر بالسعي فيه تنبيه وإيماء إلى أن علة ذلك هو الأمر بالسعي ولولا ذلك لكان اقترانه به بعيدا في كلام الشارع لعدم الفائدة
ومن ذلك أن يفرق بين حكمين بصفة نحو للراجل سهم وللفارس سهمان كذا يمثل به الأصوليون وإن كان ليس لفظ الحديث فهو في معناه فقد ذكر حكمان في الحديث أحدهما للراجل والآخر للفارس وفرق بينهما بالفروسبة والرجولية تنبيها وإيماء إلى نفي العلة في ذلك الحكم وقد يذكر أحد الوصفين دون الآخر نحو قوله صلى الله عليه و سلم القاتل عمدا لا يرث فإنه لم يتعرض لغير قاتل العمد وقد فصل بين الوارثين بالقتل وعدمه فلولا أن الصفة هي العلة في عدم الإرث لما كان لذكرها فائدة
ومن مراتب الإيماء والتنبيه أن يفرق بين الحكمين بغاية مثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرهن فإنه فرق في الحكم بين الحيض والطهر أو فرق بينهما بالاستثناء نحو قوله تعالى فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون ففرق بين العافية وغيرها بسقوط المهر بالعفو أو يفرق بشرط نحو حديث فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم وكالاقتران بالاستدراك نحو قوله تعالى لا يؤاخذكم الله بالغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان
ومن مراتبه أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا له نحو قوله
لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه فيه تنبيها على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مشوش للنظر وموجب للاضطراب وأمثلة هذا كثيرة في المطولات
ولما بينا المسلك الثاني أخذنا في بيان الثالث بما حواه قولنا ... ثالثها السير مع التقسيم ... وتارة يطلق في العلوم ... بحجة الإجماع وهو الحصر ... لكل وصف ثم يأتي السبر ... إبطالها إلا الذي تعينا ... بما به من الوجوه بينا ...
التقسيم هو حصر الأوصاف والسبر إبطال بعضها فقوله إبطالها من السبر وهو لغة الاختبار فالسبر تابع للتقسيم لا يكون إلا بعده وعبارة النظم قد أرشدت إلى هذا للإتيان بمع التي يكون مدخولها في الغالب متبوعا وهي أولى من قولهم السبر والتقسيم لخلوصها عن المناقشة بأن السبر لا يكون إلا بعد التقسيم وضمير هو عائد إلى ما دل عليه الكلام وهذا تعريف للسبر والتقسيم فالتقسيم هو الحصر لكل وصف يصلح في بادىء الرأي للعلية ثم يأتي السبر أي اختبار الأوصاف فيبطل ما لا يصلح للعلية ويستبقى ما يصلح لها ومثال ذلك قياس الذرة على البر في تحريم الربا بجامع التقدير والجنس مثلا وإبطال ما عداهما من الطعم والكيل والادخار بما يأتي من دليل الإبطال فإذا منع الحصر الذي ذكره المستدل في تحصيل ظن العلة كفى ان نجيب
بحثت فلم أجد غيرها أي الأوصاف التي حصرها والأصل عدم غيرها فيقبل قوله لعدالته وديانته وقوله بحجة الإجماع أي الحجة المستندة إلى الإجماع كما يقال دليل الكتاب ودليل السنة وخص هذا المسلك بهذا الاسم وإن كان غيره من المسالك دليل الإجماع كما قال في شرح المعيار سمي حجة الإجماع لأن المعلل فيه يعود في تعيين الوصف الذي اختار كونه علة إلى الاحتجاج بالإجماع على أنه لا بد من علة فلما كان الإلغاء لما عدا الوصف المستبقي مفتقرا إلى طريق يعرف به كيفية بعد الإشارة إليه بقوله أو لا بما به من الوجوه بينا قال ... أما ثبوت حكمه بدونه ... أو كونه طرديا أو بكونه ... مناسبا للحكم غير ظاهر ...
فهذا بيان للوجوه التي بين بها الإبطال وضمير حكمه عائد على المتعين المفهوم من البيت الأول وفي بدونه إلى البعض المحذوف وقرينة السياق دالة على ذلك فالأول من الوجوه هو ثبوت الحكم في محل الوصف المستبقى بدونه أي بدون بعض الأوصاف المحذوفة بأن يقول في المثال لا يصلح أن تكون العلة الطعم ولا القوت لأن الملح ربوي بالنص وليس بالطعم ولا قوت فتعين أن العلة التقدير والجنس ونحو ذلك من الأمثلة والثاني ما أفاده قوله أو كونه طرديا أي كون المحذوف طرديا والطردي الوصف الذي لم يعتبره الشارع إما مطلقا كالطول والقصر فإنه لم يعتبره في شيء من الأحكام لا في القصاص ولا الكفارة ولا العتق ولا في شيء من الأحكام فلا يعلل بهما حكم أصلا أو في محل دون محل كالأنوثة والذكورة فإنه اعتبرها في باب الشهادة ولم يعتبرها في العتق في الأجزاء وإن كان اعتبارها فيه في الثواب وإنما ألغى الطرد لعدم كونه مناسبا فهو داخل في الطريق الثالثة وهي ما أشار إليه قوله أو بكونه أي بكون الوصف المحذوف غير مناسب أي ليس بظاهر في المناسبة ويكفي في ذلك قول المستدل بحثت فلم أجد إذ هو عدل فيصدق
فإن قال المعترض المستبقى غير مناسب أيضا فيكفيه إبانة وجه المناسبة بحسب ظنه ولما كان لهذه الطريق والطريق الأخرى شرطا قاله العلماء أوضحه قوله ... والشرط في ذا والطريق الآخر ... إجماعهم بأنه في الجملة ... معلل لا أن هذا العلة ...
أراد بالطريق الآخر المناسبة ولم يذكر غيرهما من المسالك أي السبر والمناسبة من المسالك لما تبين من عدم صحة العمل به ومعين قوله بأنه في الجملة أي أن الحكم في نفس الأمر معلل وإن ذلك معتبر في كل فرد من أفراد الأحكام ... رابعها يوسم في المخاطره ... إخالة وتارة مناسبه ...
الإخالة بكسر الهمزة والخاء المعجمة وهي مصدر أخال بمعنى ظن والهمزة للصيرورة كأغد البعير أي صار ذا غدة فمعنى أخال الوصف صار ذا مخيلة أي مظنة للبعث على الحكم وقوله يوسم أي يسمى ويدعى بمعنى يسم ولذا عداه بنفسه وقوله وثالثا مناسبة إشارة إلى أنه كما يسمى إخالة يسمى أيضا مناسبة ويسمى استخراجها تخريج المناط
كما قال ... كذلك التخريج للمناط ... من جملة الألقاب بالتواطي
أي تواطؤ أئمة الأصول إذ هي أوضاع عرفية والمناط مصدر ميمي من أناط الشيء إناطة ومناطا والمناط سار اسما بما يعلق عليه الشيء ولما كانت العلة تعلق بها الأحكام سميت مناط الحكم ولما كانت المناسبة تستنبط بها علة تسمى الوصف المناسب للحكم بينها بقوله ... ثم هي التعيين للأوصاف ... بغير ما مر من الأطراف ... بل كونها ذاتية كالشدة ... للخمر في الحكم له بالحرمة ...
وقوله التعيين للأوصاف كالجنس يدخل فيه سائر مسالك العلة ومراده بالأوصاف اللغوية ليشمل ما يصلح للعلة من الحكم الشرعي وغيره وقوله بغير ما مر كالفصل لأخراج ما مر من تعيين العلة بالسبر مع التقسيم أو بالنص ولما كان لا يخرج ما سيأتي من الشبه والطرد قال بل بكونها ذاتية أي بكون المناسبة ذاتية بالمناسب فخرج بهذا القيد جميع المسالك من نص وإجماع وغيرهما ولذا عبر ب بل إذ تعيين العلة في كل ما ذكر ليست بالمناسبة بل بغيرها والمراد بالمناسبة الملاءمة في أنظار العقلاء للحكم وقد أوضح المراد بالمثال تنبيها على أن التعريف كالتقريب لتصوير المناسبة وإلا فإن تعيين الأوصاف ليس هو المناسبة قطعا إذا عرفت هذا فالشدة المسكرة في الخمر وصف مناسب لتعليق الحكم عليه فإن من نظر في المسكر وما يترتب عليه من إزالة العقل المتعين حفظه في كل ملة ظهر له مناسبة تعليق الحكم على ذلك الوصف وهذا هو الاستنباط القياسي الذي عظم فيه الخلاف وأنكره الظاهرية وغيرهم من نفاة القياس ولما كان الوصف المناسب لا يعتبر مطلقا بل إذا تجرد عما يفيده قولنا ... واعلم هديت أنها تنخرم ... إن كان عن إثباته يسلتزم ... مفسدة ترجح أو تساوي
اختلف أئمة القياس في انخرام الوصف المناسب أي عدم اعتباره إذا اشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة أو مساوية هل يكون مع ذلك معتبرا أولا فالمختار أن المناسبة تنخرم لعدم اعتبارها حينئذ لوجود مانع اعتبارها وهو وجود المفسدة المذكورة وذلك لما تقرر من أن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح عند المساواة فكيف إذا كانت المفسدة أرجح ويدل له أن العقلاء قاطبة يعدون فعل ما فيه مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عبثا وسفها وذلك كمن استأجر إنسانا بعشرة دراهم ليقبض له مثلها من المحل الفلاني ثم أخذنا في البيان المناسب لقولنا ... وخذ له الحد الصحيح الحاوي ... قل هو وصف ظاهر منضبط ... يقضي به العقل وعنه يضبط ...
ضمير له للوصف المناسب باعتبار معناه الأعم لا بالمعنى السابق ففي النظم استخدام ومعناه الأعم وما يشمل النص والإجماع والاستنباط فالتعريف للمناسب باعتبار ما يصلح لنفسه للتعليل سواء كان بنص أو غيره وقيد الوصف بالظهور والانضباط لأنه إذا كان خفيا أو غير منضبظ اعتبرت فيه المظنة كما يأتي ويتعين كون ما اعتبرت فيه المظنة قسيما للمناسب المحدود هنا لا قسما منه كما هو الظاهر من صنيع الأصولين حيث فرعوا على الحد المذكور ما اعتبرت فيه المظنة وذلك لوضوح خروجه من هذا الحد وقوله يقضي به العقل إلى آخره أي يقضي بسببه ولأجله العقل بأنه الباعث فقوله ... بأنه الباعث للمعبود ... على الذي ألقاه للعبد
يتعلق بيقضي أي يقضي العقل بأن هذا الوصف الظاهر المنضبط وهو وجه الحكمة الموجبة للحكم الباعث عليه تذلك ! كالإسكار في تحريم الخمر وذلك لأن ترتب الحكم على الوصف يوافق عادة العقلاء فيقصي العقل بأنه الباعث على ثبوت الحكم وإلقائه منه تعالى على العباد فتحريم الخمر لإزالته العقل بإسكاره وافق عادة العقلاء في إيجاب حفظ العقل ولم يقيد الباعث بجلب مصلحة أو دفع مفسدة لظهور إرادة ذلك كما يرشد إليه معنى الباعث
واعلم أن هذا التعريف للمناسب إنما هو باعتبار ما يصلح بنفسه للتعليل كما سبقت إشارة إليه فيكون قسيما لما اعتبرت فيه المظنة ولهذا لم يفرع الناظم عليه ذلك بل عطف في النظم بالواو فقال ... وحيث ذاك عنده لم يظهر ... أو ليس بالمنضبط المؤثر ... اعتبروا ملازما للوصف ... ملقبا مظنة في العرف ...
الضمير في عنده للعقل والمؤثر قيد للمنضبط والمراد به ما يصلح اعتباره سواء كان عن نص أو إجماع أو استنباط فلا يتوهم قصره على ما كان عن نص أو إجماع كما هو المعروف في الاصطلاح والمراد أنه حيث لا ينضبط الوصف اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه ملازمة عقلية أو عرفية أو عادية بمعنى أن ذلك الوصف يوجب بوجود ملازمة الظاهر المنضبط فيجعل الملازم معرفا للحكم ويعبر عندنا بالمظنة وقد مثله الناظم بقوله ... كالسفر اللازم للمشقة ... وغيره من أيما مظنة ...
والمراد أن المشقة مناسبة لترتب الترخيص عليها تحصيلا لمقصود الشارع أي التخفيف ولا يمكن اعتبار المشقة بعينها إذ هي غير منضبطة إذ هي ذات
مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يتعلق الترخيص بالكل ولا يمتاز البعض لنفسه وحينئذ فيتعلق الحكم وهو الترخيص بما يلازمها وهو السفر
وقوله وغيره إشارة إلى القسم الذي يعده الأصوليون خفيا وذلك نحو القتل العمد العدوان فإنه وصف مناسب لترتب الحكم عليه أعني القصاص دفعا لانتشار الفساد لكن العمد أمر نفسي لا يدرك فاعتبرت المظنة وهو استعمال الجارح في المقتل فإنه مظنة العمد فإنه معرف للعمدية والعدوان قيل ولكن في تعريفه له بعد لأنها إنما تعلن بانتفاء دليل عدمه من الخطأ والمدافعة والاستحقاق
واعلم أنها اتفقت كلمة الأصوليين أن الوصف الباعث على شريعة القصر للمسافر والإفطار هو المشقة ولكن لاختلاف مراتبها نيطت بما يلازمها وهو السفر وقد أورد عليهم أنها لو كانت المشقة الباعثة في الترخيص في الأمرين لكان الترخيص بهما في حق من هو مقيم يزاول أعمالا شاقة في الحظر في أيام الحر الشديد كالحداد والعمار أولى من المسافر فإن الملك الذي يسافر في المحفة وعنده كل ما يريده ويسير كل يوم بمسيرة فرسخ أو أقل لا مشقة عليه في سفره قد أجيب بما لا يشفي والتحقيق عندي أن الترخيص للمسافر في الأمرين ليس للمشقة بل لما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وقد سأله عمر أنهم قد أمنوا فما بال القصر كأنه فهم من قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الله رخص لهم القصر لأجل مخافة فتنة الذين كفروا فأجاب عليه بأنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فأخبر صلى الله عليه و سلم أن هذه الرخصة صدقة من الله تعالى يجب قبولها وتقر في
محلها فليس لنا أن نقيس عليها بتخفيف واجب أو تأخيره ولم يتعرض صلى الله عليه و سلم للمشقة وإنما هذه صدقة على المسافر الذي يضرب في الأرض لا لغيره وإن كان في أشق الأعمال وأشدها فقولهم إن مقصود الشارع في شرعية هذه الرخصة التخفيف صحيح وقد أشار إليه تعالى في ترخيصه للمريض والمسافر في ترك صوم رمضان وصيامه في أيام أخر حيث عقب ذلك بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولإحاطته تعالى بكل شيء علما رخص لمن ذكر لا غير ولم يلاحظ المشقة في غيره وإلا فغير من لم يرخص له ممن ذكرناه من أهل الأعمال الشاقة في الحظر أحوج إلى التخفيف بالنسبة إلى ما نظنه لكن حكمة أرحم الراحمين أجل من أن يحاط بها فله حكمة فيمن خصه بالرخصة لا نحيط بها فلذا قلنا إن المشقة من حيث هي غير ملاحظة له تعالى فنقف على من رخص له لا غير وبعد هذا رأيت في الفواصل نقلا عن ابن الهمام والجلال شيئا يقرب مما ذكرناه إلا أنه عقبه بعد أن أورد النقص بأن التعليل بما لا ينضبط واقع كالمرض فإنها لا تنضبط مراتبه وقد جعل هو الوصف المناسب للترخيص وغير ذلك من الأمثلة واعلم أن للمناسب تقسيما آخر باعتبار قوته وضعفه أفاده قوله ... وقسم المناسب الأعلام ... أربعة جاء بها النظام ...
اعلم أن أئمة الأصول قسموا المناسب بهذا الاعتبار إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل قالوا لأنه إما غير معتبر شرعا أو معتبر والمعتبر إما أن يعتبر بنص أو إجماع أو لا بل لمجرد المناسبة ترتب الحكم على وفقه أي ثبوت الحكم معه في المحل فقط فهذه ثلاثة أقسام غير معتبر رأسا معتبر بنص أو إجماع معتبر بمجرد ترتب الحكم على وفقه الأول هو المرسل وقسموه إلى ثلاثة ما علم إلغاؤه وما لم يعلم منقسما أيضا إلى قسمين ملائم علم اعتباره بالجملة بأي الثلاثة الاعتبارات وغريب لم يعلم فيه أحدها فالغريب ومعلوم الإلغاء مردودان اتفاقا والملائم هو المصالح المرسلة كما سيأتي والثاني هو المؤثر والثالث ينقسم إلى ما علم اعتباره بأحد الثلاثة الاعتبارات وإلى
ما لا يعلم وهو الغريب فصارت الأقسام ستة مؤثر وملغي ولا لبس بينهما وملائم المعتبر وملائم غير المعتبر وغريب معتبر وغريب غير المعتبر ويأتيك بيانها كلها ولكل قسم منا اسم يخصه أفاده قوله ... مؤثر ملائم غريب ... ومرسل هذا هو الترتيب ...
أي الذي رتبه الأصوليون بتقديم الأقوى فالأقوى لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو لا فالمعتبر شرعا يكون على ثلاثة أنواع بيان الأولين منها في قوله ... فما بنص كان أو إجماع ... إثباته فهو بلا نزاع ...
أي ما ثبت اعتبار الشاعر إما بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فهو الأول ولا نزاع في كونه أعلى المراتب وأقواها ولذا سمي المؤثر لظهور تأثيره فيما اعتبر به ولا يحتاج إلى تطلب مناسب بعد النص والإجماع على كونه علة مثال النص قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر حرام فإن عين السكر قد أثر في عين التحريم بالنص ولا فرق بين النص والإيماء ومثال الإجماع اعتبار عين الصغر في عين ولاية المال بالإجماع وهذا هو الذي أفاده بقوله ... أولها وهو اعتبار العين ... في العين والثاني خلا عن ذين ...
وقوله والثاني أي من الأربعة الأقسام وهو المسمى الملائم والمراد من ذين هما النص والإجماع فالملائم ما خلا عنهما في اعتبار العين في العين وإنما استفيد اعتبار العين في العين بترتب الحكم على وفقه وهو الذي أردناه بقولنا
بل إنما ترتب الحكم على ... وصف به هذا القياس عللا ...
وينقسم أي الملائم ثلاثة أنواع اعتبار العين في الجنس واعتبار الجنس في العين أو الجنس في الجنس بالنص أو الإجماع مع اعتبار عينه في عينه بترتب الحكم على وفقه في كل من الاعتبارات الثلاثة بخلاف المؤثر فإنه اعتبار العين في العين بنص أو إجماع من غير نظر إلى مناسبة وهذه الأنواع شملها قوله ... إن صح بالنص أو الإجماع ... فيه اعتبار أي ذي الأنواع ...
فسرها وبينها الإبدال منها بقوله ... العين في الجنس كذا بالعكس ... أو اعتبار جنسه في الجنس ...
سمي هذا الجنس ملائما لأن عليته إنما ثبتت بالمناسبة والموافقة بترتب الحكم عليه في اعتبار العين في العين لا بنص ولا إجماع على ان هذه علة ولذا قلنا فيما سلف وصف به هذا القياس عللا أي دلا دليل عليه إلا ترتب الحكم على وفقه أي بسبب وجوده معه في المحل مثال الأول من أمثلة ملائم المعتبر وهو ما اعتبر فيه عين العلة في جنس الحكم التعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في إثبات الولاية الذي هو الحكم فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية فإنها تنوع بتنوع ما أضيفت إليه كما يقال ولاية مال وولاية نكاح فثبوتها في جنس النوعين بالإجماع بمعنى أنهم أجمعوا على كون الصغر علة في
مطلق الولاية غير مقيد بولاية مال ولا نكاح وليس المراد أنهم أجمعوا أن عين الصغر علة في ولاية النكاح وإلا لكان ذلك من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثاني وهو ما اعتبر فيه جنس العلة في عين الحكم التعليل بالحرج في حمل رخصة الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر عليه بالسفر فإن جنس الحرج معتبر في رخصة الجمع وإن لم يكن حرج المطر معتبرا في عين رخصة الجمع بالنص بل يترتب الحكم على وفقه أي وجود الحكم في المحل مع الوصف ولو فرض نص أو إجماع على أن المطر هو العة لكان من المؤثر لا من الملائم
ومثال الثالث وهو اعتبار الجنس في الجنس التعليل بجناية العمد العدوان في حمل المثقل على المحدد في القصاص فإن الجناية جنس يشمل الجناية بالمحدد والمثقل وهذا الجنس معتبر في جنس الحكم الذي هو القصاص لأنه يتنوع بإضافته إلى أنواعه كالأطراف كالنفس وغيرها كما يقال قصاص نفس قصاص عين ونحو ذلك فهذه الثلاثة الأمثلة التي تضمنها البيت
هذا وأما الغريب من المعتبر فهو ما أفاده قوله ... وما عليه حكمه ترتبا ... لوفقه ولم يكن مستصحبا ... لغيره من تلكم الأقسام ... فإنه الثالث في النظام ...
أي والوصف الذي يثبت اعتباره بمجرد ترتب الحكم على وقفه ولم يثبت معه أحد الأمور الثلاثة كما ثبت في الملائم والمراد قولنا ولم يكن مستصحبا لغيره من تلكم الأقسام أي الثلاثة الثابتة في الملائم فهذا هو الثالث مما سبق في قولنا مؤثر ملائم غريب فهذا هو الغريب لما سيأتي عن قريب وحاصله أنه إنما يقف الحكم على الوصف المعين في المحل المعين بدون ثبوت شيء من التقادير الثلاثة المعتبرة في الملائم وهذا القسم هو الذي يثبت بطريق السبر والتقسيم والدوران والمناسبة ولا بد من المناسبة في الجميع ليتم أخذها من ترتب الحكم على وفقه ويقوى في ظن المجتهد مع ذلك مثاله قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار على تقدير أنه لم يرد نص في العلة وإلا فإنه قد ورد النص بأن الإسكار علة
والرابع من الأقسام ما أفاده قولنا ... رابعها المرسل وهو ما خلا ... عنها جميعا فلهذا أرسلا ...
أي خلا عن جميع ما ذكر في المؤثر والملائم والغريب فلذا قال عنها جميعا وقوله فلها فلهذا أرسلا إشارة إلى وجه تسميته بأنه أرسل عن
الاعتبارت كلها ثم المرسل ينقسم في نفسه إلى قسمين إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم إلغاؤه وإليها أشار قوله ... فبعضه مؤثر ويلغى ... منه الغريب عندهم والملغى ...
الأول الملغى والثاني ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار جنسه في جنسه أو عينه في جنسه أو العكس لكن لا شيء من تلك الاعتبارات السابقة بل النظر إلى ثبوته في الجملة من دون أصل معين يلائم رده إليه ويقرب من جنسه وإلى ما لا يعلم أن الشارع اعتبره بشيء من ذلك وهو الغريب وقد اشتمل النظم عليها وبدا منها بالملائم فقال ... فالأول الملائم الصدر ... ليس له أصل به يعتبر ...
أي صدر به البحث في قوله فبعضه مؤثر وقيد النفي بقوله ... معين لكنه مطابق ... لمقصد الشرع له موافق ...
لإفادة أنه ليس له أصل معين يعتبره الشارع للإعلام بأنه وإن رد إلى أصل بعيد لا يلائمه ولا يقرب من جنسه فإنما هو للاستظهار بكونه معتبرا في الجملة ومن ذلك كقتل المسلمين المترس بهم عند الضرورة فإنه إذا تترس الكفار بالمسلمين وقصدونا جاز لنا قتل من تترسوا به لمصلحة وهي أن يسلم أكثر منهم من المسلمين وقد دعت الضرورة إليه وهي المدافعة عن أرواح المسلمين فجاز قتلهم ولا دليل على الجواز إلا القياس المرسل ورعاية الأصلح في الجملة لأهل الإسلام ولا أصل له معين يرده إليه وإنما يرده إلى حملي هي رعاية مصالح الإسلام وقال ... لبعض ما يقصده في الجملة ... متعلق بقوله موافق ... وليدع بالمصالح المرسلة
فإن المصالح المرسلة لا تحتاج إلى أصل معين في اعتبار الحكم ... أمثالها معروفة مشتهره ... والحق فيها أنها معتبره ...
أي مثال المصالح المرسلة منها القول بتحريم النكاح على العاجز عن الوطء لما فيه من تعريض الزوجة للزنى وقد تتبعنا مقاصد اشارع فرأيناه يحرم ما فيه ذريعة إلى فعل القبيح وهو داع إليه كتحريمه قليل المسكر قطعا لتناول الكثير والخلوة بالأجنبية دفعا عن الزنى إذ من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه فهل الأصل الذي لوحظ عند من يحكم بتحريم النكاح المذكور ليس المقصود منه إثبات الحكم بل الاستظهار بحصول المناسبة في الحكم لتحريم ما يدعو إلى القبيح وإن هذا أمر يلاحظه الشارع وهذا من اعتبار الجنس البعيد وهو مطلق التحريم في الجنس البعيد وهو سد الذريعة إلى فعل القبيح والأمثلة كثيرة وإلى الثاني أشار بقوله ... والثاني الغريب مما أرسلا ... وذلك الأول مما أهملا ...
أي والثاني من أقسام المرسل وهو الغريب المرسل فلا بد في إطلاقه من تقييده بالإرسال ولذا قلنا مما أرسلا لإخراج غريب المعتبر وهو مردود بالاتفاق وقيل فيه خلاف مالك وحقيقته قوله ... وهو الذي ليس له نظير ... في الشرع مما قاله الجمهور ... لكنها تستحسن العقول ... لأجله الحكم وذا معقول
أشار بنسبته إلى الجمهور بأن جعل غريب المرسل قسما مستقلا إنما هواصطلاح ابن الحاجب ومن تبعه من المتأخرين ولا فغيره إنما ينقسم المرسل إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لا يعلم مثاله التعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في قياس البات للطلاق في مرضه على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض قصده وهو حرمانه من الإرث في صورة القاتل وتوريث الزوجة في الفرع والجامع مع كون فعلها محرما لأجل غرض فاسد وليس في هذا اختلاف في الحكم بالنظر إلى أنه معارض وإذا اختلفت الجهة في الأصل وفرعه وإنما كان هذا غريبا مرسلا لأنه لم يعتبر الشارع عين القتل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة ولا جنسه في عينها ولا جنسه في جنسها ولم يثبت ولا إجماع اعتبار عينه في جنس المعارضة بنقيض المقصود ولا قريبا ولا بعيدا وقد نوقش في المثال ولكنه لا يضر في القاعدة والقسم الثالث من المرسل قوله ... والثالث الملغى الذي يصادم ... نصا ولكن جنسه يلائم ...
هذا القسم الثالث من المرسل وقد عرفه النظم تعريفا واضحا بقوله ... في نظر الشرع وذا مطرح ... مثل الغريب فاتبع ما صححوا ...
ومثال ذلك تعيين الصوم ابتداء في كفارة الوقاع في نهار رمضان على من ظن أنه يسهل عليه العتق فإن تعيين الصوم مناسب للزجر بالنظر إلى من يسهل عليه العتق لكنه مصادم للنص فإنه لم يوجبه إلا على من لا يجد مايعتق روي أن يحيى بن يحيى صاحب مالك عالم الأندلس أفتى الأمير
عبدالرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس وكان قد نظر إلى جارية يحبها حبا شديدا ولم يملك نفسه أن وقع عليها في نهار رمضان ثم سأل الفقهاء عن توبته وكفارته فقال له يحيى بن يحيى يصوم شهرين متتابعين فلما بدر يحيى العلماء بالصيام سكتوا فلما خرجوا قالوا ليحيى ما لك لا تفتيه بمذهب مالك وهو التخيير بين العتق والإطعام والصيام فقال لو فتحنا هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود فهذا يستحسنه العقل فلذا قلنا لكنها تستحسن العقول
واعلم أنه قد سبق في الأبيات أن المصالح المرسلة معتبرة وهو أحد أقوال العلماء ولهم فيها ثلاثة مذاهب
الأول قبولها مطلقا وهو المنسوب إلى مالك
والثاني ردها مطلقا وهو قول البلاقلاني وابن الحاجب ومن تبعهما
الثالث التفصيل وهو مختار أكثر أهل البيت والجمهور من غيرهم وهو قبوله بشرط إذا كان المصلحة غير مصادمة لنصوص الشرع وإن تكون ملائمة لقواعد أصوله خالصة عن معارض لا أصل لها معين هكذا قاله في الفصول وقال الغزالي بقبوله بشرط اشتماله على مصلحة ضرورية قطعية كلية وذلك كما لو تترس الكفار بأسارى المسلمين حال التحام الحرب وقطعنا بأنه لو لم نقتل الترس لاستولوا على المسلمين فإنه وإن كان قتل المسلم بلا ذنب غريب لم يشهد له أصل معين لكنا نعلم قطعا أن حفظ المسلمين أقرب إلى مقاصد الشرع وإنه يؤثر الكلية على الجزيئة فإذا فات شيء من الشروط
المذكورة لم يصح قبوله مثاله أن يقتل الترس من المسلمين لأجل فتح قلعة إذ لا ضرورة ولا يرمى واحد منهم لظن الاستئصال بل لا بد من القطع ولا يرمى في البحر بعض أهل السفينة لسلامة الباقين فيها إذ ذلك ليس كل المسلمين واعلم أن هذه الصور التي جمعت القيود لا ينبغي وقوع خلاف فيها ولما أراد الناظم بعد الفراغ من المسالك الأربعة التنبيه على ما قد عد من المسالك غيرها وليس بمعتبر قال ... فهذه المسالك المرتبه ... لا غيرها وقيل فيها الشبه ...
بفتح الشين المعجمة والموحدة ومعناه الشبيه يقال هذا شبه هذا وشبهه وشبيهه كما يقال مثله ومثله ومثيله وعرفناه بقولنا ... وذاك وصف يوهم المناسبة ... في الحكم والتحقيق لا المناسبة ... بأن يدور مع ذا الحكم ... وجوده بوجده والعدم ... بعدمه مع التفات الشارع ... إليه في شيء من المواضع ...
فقوله يوهم المناسبة خرج به المؤثر والملائم وخرج بقوله بأن يدور الشبه والتقسيم للدخول في القيد إذ الوصف المستبقى فيه يكفي فيه مجرد الصلاحية وقوله مع التفات الشارع يخرج به الطرد فإنه لا يتلفت إليه الشارع في شيء من الأحكام
والشبه له معنيان أعم وهو ما يرتبط الحكم به على وجه يمكن القياس
عليه وهذا يعم العلل كلها والأخص هو المراد هنا فهذه ثلاثة مسالك الشبه والدوران والطرد فقد أشرنا إلى ضعفها بمجردها كما يتضح لك
واعلم أن الشبه في عرف جماعة أئمة الأصول منهم المهدي في المعيار ليس بمسلك مستقل كما وقع في غيره والناظم جرى على ما في الأصل وليس مقصده إلا التقريب بنظمه من غير بيان مرجوح عنده من راجح غالبا فقد تبع ما في المعيار من أن مسلك الشبه الدوران وقوله مع التفات الشارح إليه في بعض المواضع وذلك بإن يكون قد اعتبره في بعض الأحكام وبيان كونه من طرق العلة أن الوصف كما أنه قد يكون مناسبا فيظن أنه العلة في التحريم كذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنا ما بالعلية الخ وهو هكذا في شرح الكافل لابن لقمان ومثلوه في الكيل في تحريم التفاضل على رأي من جعله هو العلة في التحريم مثلا فإن التعليل به لم يثبت بنص ولا تنبيه نص ولا إجماع ولا حجة إجماع وإنما ثبت لكون الحكم يثبت بثبوته وينتفي بانتفائه
قلت وكذلك من جعل عليه تحريم الربا الاتفاق في الجنس والتقدير وهم الهادوية والحنفية والجنس والطعم وهم الشافعية أو الجنس والاقتيات وهم المالكية فإن هذه العلل لم تثبت بنص ولا إجماع ولا غيرهما وإنما ثبتت بكونه دار عليها الحكم وجودا وعدما فالعلة شبيه وقد بسطنا القول في رسالة
سميناها القول المجتبى في تحقيق مسائل الربا أثبتنا فيها أنه لا دليل على تحريمه في غير الستة التي ورد بها النص
ولما كان الأصوليون قد اعتادوا ذكر أبحاث الاعتراض في آخر بحث القياس وكان أصل النظم قد ذكر تنبيها في ذلك وذكر عدم الاحتياج إلى مثلها وأنها راجعة إلى شيئين إلى منع أو معارضة وأن من أتقن ما سلف من شرائط القياس لا يحتاج إليها قال الناظم ... تنبيه أما الاعتراضات فلا ... فصاحب الأصل لها قد أهملا ... وقال من حقق ما قد سلفا ... فهو لها بما مضى قد عرفا ... مرجعها منع أو المعارضه ... موضوعة للبحث والمناقضه ... أبحاثها تبسط في الشروح ... يعرفها ذو النظر الصحيح ...
قوله أما الاعتراضات اللام للعهد الخارجي لأنه قد عرفت بين الأصوليين لا تخلو عنها مطولات تأليفهم وأنهوه إلى خمسة وعشرين اعتراضا وهي في التحقيق من علم الجدل وقد وضعت فيه علوم آداب البحث فلا حاجة للأصول من حيث هو أصول إلى تفاصيلها إذ من حقق شرائط الأصل والفرع والعلة التي سلفت استغنى عنه فلذا قلنا فهو لها بما مضى قد عرف فمن عرف شرائط أركان القياس وعلله وأنواعه استغنى عن تفاصيل معرفة الاعتراضات
مثاله الاعتراض بفساد الوضع وهو أحد الخمسة والعشرين قد
عرف من اشتراط كون العلة لا تصادم نصا وكذلك الاعتراض بالفرق أو باختلاف الضابط يفهم من اشتراط مساواة الفرع للأصل في العلة والحكم عينا وجنسا فإن الاعتراض بما ذكر إنما يتوجه إذا ظن المساواة فيما ذكر وعلى هذا فمن أتقن الشرائط للقياس وأركانه عرف أن الاعتراضات كلها راجعة إلى أمرين المنع والمعارضة بل بعضهم أرجعها إلى المنع فقط لأن المعارضة منع للعلة عن الجريان فيما أراده المستدل كما ذكرنا وعلى هذا أكثر الجدليين
وأما الأصوليون فأبلغوها خمسة وعشرين غير متداخلة وداخلها في المعيار حتى عدها بأحد عشر وذكر أن ابن الحاجب عدها خمسة وعشرين وبيان رجوعها إلى الأمرين المنع والمعارضة هو أن غرض المستدل وهو القياس إثبات دعواه بدليله ولا يكون إلا بصحة مقدمات الدليل ليصح شهادته له على دعواه و سلامته عن المعارضةلينفذ سهم إلى مطلوبه و غرض المعترض رد شهادته كرد الخصم شهادة خصمة عند الحاكم وذلك بجرحها كذلك هنا المعترض بجرح الشهادة بالقدح في صحة الدليل لمنع مقدمته أومعارضته بما يقاومه فإن أتى بشيء خارج عن الأمرين فإنه لا يسمع ولا يشتغل المدعي بجوابه إذ هو خروج عن محل النزاع واشتغال بما لا يعني وتشويش للبحث وقصور عن إقامة حدود الجدل
وقولنا موضوعه للبحث والمناقضة إشارة إلى أنه لا يجب معرفتها على المجتهد كما قدمنا الإشارة إليه في الشرح إذ الذي يحتاج إليه المجتهد في استنباطه الفروع الجزئية عن الأدلة التفصيلية قد تكفل به القياس وشرائطه فالزيادة عليه ليس من طريقة الأصول من حيث هو أصول
واعلم أن أهم ما يعرفه المجادل والمناظر وما يوصي به قبل خوضه في المناظرة مع الأحياء أو مع نظره في كلام الأموات من العلماء هو تقوى الله عز و جل وإشعار النفس الخوف ومجاهدتها على قبول الحق من أي متكلم عظيم أو حقير صغير أو كبير وأن لا ينحاز إلى مركز من مراكز المذاهب فيناضل عنه ويجاهد دونه بل لا يكون همه إلا معرفة الحق وقبوله ولا يأنف من رد كلامه وتضعيفه ولا يقصد مباهة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة وإن يكون مقبلا على الغير متواضعا متأملا لما يلقيه وأن يلقي سمعه حتى يفرغ من كلامه ولا يجاذبه أطراف البحث قبل فراغه ثم يتوقف في الجواب وإبانة الصواب بأقصر عبارة وأوضحها وألطفها فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه والفحش ما كان في شيء إلا شانه فمن استعمل في المناظرة هذه الآداب لا معترض ومجيب وفق للإصابة وفاز بالإثابة ودخل تحت الامر بمشروعية الجدال الدال عليه قوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في المسائل العلمية والمناظرة هذا ولما ذكر الأصوليون أنواعا من الاستدلال خارجة عما تقدم أشار إليها قولنا ... فصل وقد زيد دليل خامس ... ليس له فيما مضى مجانس ...
قد عرفت أنه قد سلف أربعة أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس وزاد أكثر العلماء دليلا عليها خامسا وسماه الاستدلال كما قال ... وهو بالاستدلال في العرف اشتهر ...
الاستدلال لغة طلب الدليل أو اتخاذه دليلا كاستأجر يعني اتخذ أجيرا وفي الاصطلاح يطلق على إقامة الدليل مطلقا أي سواء كان نصا أو إجماعا أو غيرهما وعلى نوع خاص منه وهو المراد في المقال ولذا قال ليس له
فيما مضى مجانس أي ليس من جنس ما مضى وقد عد العلماء له انواعا يتحقق فيها
أفاده قوله ... أنواعه كثيرة والمعتبر ... ثلاثة أولها التلازم ... من غير تعليل لما يلازم ... ما بين حكمين كمن صح الشرا ... عنه يصح بيعه بلا مرا ...
أي أنواع الاستدلال كثيرة عند العلماء من حيث اختلافهم في تشخيص أنواعه والمعتبر منها ثلاثة
الأول التلازم بين الحكمين من دون تعيين علة وإلا كان من قياس العلة وقد سلف ولذا قلنا من غير تعليل وأقسام التلازم أربعة لأنه لا يكون إلا بين حكمين فصارت أقسامه أربعة تلازم بين ثبوتين أو بين نفيين أو بين نفي وثبوت بمعنى أنه يكون الثبوت ملزوما والنفي لازما أو بين ثبوت ونفي عكس ما قبله في التلازم مثال الأول وهو التلازم بين ثبوتين كما ذكرناه في النظم من صح شراؤه صح بيعه ودليل التلازم الطرد وهو أننا تتبعنا هذا فوجدناه كذلك مطردا من دون نظر إلى علة ويقوى الطرد بالعكس وهو انا تتبعنا فوجدنا كل من لا يصح شراؤه لا يصح بيعه والطرد وحده كاف في التلازم إنما يؤتى بالعكس لتقويته وهذا العكس هو مثال تلازم النفيين
وأما من لم يجعله قسما مستقلا من الأدلة فإنه أرجعه إلى أحد الأدلة الشرعية التي تقدمت لأن التلازم إنما يثبت بالاسقراء وهو في الامور العقلية ظاهر محسوس وأما في الشرعيات التي بحثنا فيها فإنما يعرف من جهة الشارع فمن لم يعلم التلازم من جهة اتجه له منعه ويصير الحكم في حيز الدعوى
فلا يتم له جعله دليلا مستقلا تثبت به الأحكام الشرعية إلا برجوعه إلى أحدها وإلى الثاني من الثلاثة أشار قوله ... والثاني استصحاب حال الحكم ... في أي وقت قبله للعدم ...
الاستصحاب مؤكد من الصح
بة والاستفعال طلب الفعل نحو استسقى طلب السقيا فالاستصحاب طلب الصحبة ومعنى ذلك أن العقل إذا فهم ثبوت شيء اقتضى صحبته واقترانه معه في المستقبل فالاستصحاب دوام التمسك بالدليل حتى يأتي ما يغيره قال المهدي هو دوام التمسك بدليل عقلي شرعي حتى يرد ما يغيره حال الحكم أي دليله وقولنا للعدم أي استصحبناه لعدم ما يغيره وقولنا بأي وقت هو معنى قولهم دوام التمسك وفسره ابن فرشته من أئمة الحنفية في كتابه في أصول الفقه بقوله هو إبقاء ما كان على ما كان قال الجلال في شرح الفصول مستدلا بالقول به ما لفظه بقاء ما تحقق وجوده في حال ولم يظن طرد معارض يزيله فإنه يلزم ظن بقائه هذا ضروري لا يدفع إذ الفرض لم يتحقق عليه إلا الزمان والحكم ليس مما تفنيه الأزمنة ولو كان تجدد الأزمنة بمجرده يفني هذا الظن لما ساغ لعاقل مراسلة من فارقه ولا الاشتغال بما يستدعي زمانا كالحراثة والتجارة لأن ذلك يكون سفها لأنه عمل مع انتفاع المقتضي ومع وجود المانع وأيضا يحرم الاستمتاع لمن لم يتيقن أنها زوجه إجماعا ويحل الاستمتاع لمن تيقن كونها زوجه إجماعا ولا فرق بين الصورتين إلا باستصحاب الأول ليكون هو مستند الإجماع ويكون القول بعدم العمل به مخالفة للإجماع انتهى إذا عرفت هذا فالتمسك به يستمر حتى يأتي ما يغيره كما قال لصالح التغيير نحو من غدا ... مصليا بالترب ثم وجدا ... ماء فلا يخرج من صلاته ... وقيل لا صحة في إثباته ...
فقوله لصالح يتعلق بقوله للعدم أي لعدم صالح واللام للتقوية وقوله نحو من غدا إلى آخره إبراز للمسألة في صورة المثال الذي به تظهر فائدة الاختبار وذلك أن القائلين بأن الاستصحاب دليل وهم بعض الشافعية قالوا إن من تيمم لعدم الماء ثم دخل في صلاته ثم رأى في أثنائها الماء فإنه يستمر في صلاته ولا تبطل برؤية الماء استصحابا للحال الأولى لإنه قد كان عليه المضي في صلاته قبل رؤية الماء للتغير والإجماع قائم على صحتها قبل رؤية الماء وأجيب عنه بأن الإجماع الذي ذكره دليلا للمدى إنما كان قبل رؤية الماء فاستصحابه لصحة الصلاة بعد رؤية الماء مغالطة فإنه بعد الرؤية لا إجماع إذ الإجماع مشروط بعدم الرؤية وإن كان الراجح صحة الصلاة مع رؤية الماء لكن لا للإجماع بل لعدم الدليل على كون رؤية الماء تفسد الصلاة
إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن الاستصحاب دليل قال الإمام يحيى بن حمزة إن الذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة وأئمة الأشعرية أنه دليل مستقل بنفسه لكنه متأخر عن الأدلة المتقدمة وهو آخر قدم يخطو بها المجتهد إلى تحصيل حكم الواقعة والحاصل أن المخالف قائل إنه يعمل بالاستصحاب لا على أنه دليل بل لأنه عائد إلى ما تقدم من الأدلة الشرعية لأن مجرد الوجود لا يدل على الاستمرار فاستمرار
البقاء الذي هو معنى الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي لا بمجرد الوجود وخلاصته أن الاستصحاب إنما يثبت بدليل شرعي أي الدليل وذلك أنا قد علمنا أن الأدلة يجب العمل بمقتضاها حتى يرد ما يغيرها ومن ذلك ربط الأحكام بأدلتها فإذا ثبت الحكم بدليل شرعي وجب البقاء عليه حتى يرد ما يغيره وبعد هذا يعود الخلاف لفظيا بين النفاة والمثبتين
والتحقيق عندي أنه إن أريد أنه دليل فرسم الدليل هو ما يمكن التوصل بالنظر الصحيح فيه إلى مطلوب خبري واستصحاب الدليل أي التمسك به حتى يأتي ما يرفعه لا يصدق عليه رسم الدليل وإن أريد العمل باستصحاب الدليل فلا ريب في أن العمل به متعين لا يجوز خلافه حتى يأتي رافعه فهذا هو الحق وما وقع من النزاع والجدال كان غفلة عن حقيقة الدليل فتأمل ... ثالثها شرع الذي تقدما ... من رسل الله فقال العلما ... الحق أن المصطفى محمدا ... ما كان مأمورا بشرع أبدا ...
اختلف العلماء في تعبده صلى الله عليه و سلم قبل بعثته هل تعبد بشرع نبي من الأنبياء أو لا فنفاه جماعة وعليه دل النظم وقال جماعة إنه صلى الله عليه و سلم كان متعبدا بما ثبت أنه شرع عنده من شريعة أي نبي لا أنه تعبد بشريعة معين فما صح له أنه من أحكام رسل الله عليهم السلام لزمه العمل به قالوا والدليل أن الله قد أرسل رسله إلى عباده ولم ينقطع التكليف من بعثة آدم ونوح عموما أو خصوصا كإبراهيم ومن بعث من ولده ولم يترك تعالى عباده هملا قال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير