كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ أَوْ إلَى شَهْرٍ صَحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا لِلدَّنَانِيرِ كُلِّهَا وَالدَّرَاهِمِ إلَّا مِائَةً وَتَأْجِيلًا لِلْبَاقِي فَلَا يُجْعَلُ مُعَاوَضَةً تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَلْزَمُ

( بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الصُّلْحِ عَنْ عُمُومِ الدَّعَاوَى ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْخَاصِّ وَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ ، لِأَنَّ الْخُصُوصَ أَبَدًا يَكُونُ بَعْدَ الْعُمُومِ .
قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ ) بَدَلُ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ ) الصُّلْحُ ( عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بَلْ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي ) وَقَيَّدَ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْغَصْبِ كَذَلِكَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ ( كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ) جِيَادٌ حَالَّةٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ بَاعَهُ ( فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ وَلَوْ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ صَحَّ ) وَيُحْمَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ مُعَاوَضَةً بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ عَلَى إسْقَاطِ الْبَاقِي ، كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ بَطَلَ الصُّلْحُ ، لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ فَتَعَيَّنَ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً ، إذْ التَّصَرُّفُ فِي الدُّيُونِ فِي مَسَائِلِ الصُّلْحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي ذَلِكَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً فَلَا يَجُوزُ ( وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ ) فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِسْقَاطِ ( لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ ) لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ

حَقِّهِ وَهُوَ ( خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ ) لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهِ مِنْ الدَّيْنِ ( وَ ) صِفَةُ ( التَّعْجِيلِ فِي مُقَابَلَةِ الْبَاقِي وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ ) رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ : إنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا .
وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّسَاءِ لَيْسَتْ إلَّا لِشُبْهَةِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْأَجَلِ ، فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَوْلَى بِذَلِكَ ( وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ جَازَ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى إذَا كَانَ أَدْوَنَ مِنْ حَقِّهِ فَهُوَ إسْقَاطٌ كَمَا فِي الْعَكْسِ ، وَإِنْ كَانَ أَزْيَدَ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ ( لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لَهُ ) فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ اسْتِيفَاءً ( فَيَكُونُ مُعَاوَضَةَ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِيَادَةَ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا ) فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ حَقُّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَبَهْرَجَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ النَّبَهْرَجَةِ وَجَازَ الصُّلْحُ وَالزِّيَادَةُ مَوْجُودَةٌ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَانَ رِبًا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهَا قُوبِلَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ السُّودِ وَهُوَ رِبًا ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقَعْ فَذَلِكَ صَرْفٌ وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ فِيهِ سَوَاءٌ يَدًا بِيَدٍ ( وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ أَوْ مُؤَجَّلَةٍ صَحَّ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ إسْقَاطًا لِلدَّنَانِيرِ كُلِّهَا وَالدَّرَاهِمِ إلَّا مِائَةً ) إنْ كَانَتْ حَالَّةً وَإِسْقَاطًا لِذَلِكَ ( وَتَأْجِيلًا لِلْبَاقِي ) إنْ كَانَتْ

مُؤَجَّلَةً ( تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَلْزَمُ ) لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِيطَةِ وَالْحَطُّ هَاهُنَا أَكْثَرُ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ أَلْزَمَ مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَعُودُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَالْأَدَاءُ لَا يَصِحُّ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَجَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا فَلَا يَعُودُ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ .
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ غَرَضًا حِذَارَ إفْلَاسِهِ وَتَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةٍ أَرْبَحَ مِنْهُ ، وَكَلِمَةُ عَلَى إنْ كَانَتْ لِلْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ ، وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ ، وَسَتَخْرُجُ الْبُدَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَالثَّانِي إذَا قَالَ صَالَحْتُك مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ تَدْفَعُهَا إلَيَّ غَدًا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّك إنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْك عَلَى حَالِهِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ التَّقْيِيدِ فَيُعْمَلُ بِهِ .
وَالثَّالِثُ إذَا قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا وَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا ، وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا

وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ حَصَلَ مَقْرُونًا بِهِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا يَقَعُ مُطْلَقًا ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَا يَقَعُ مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ فَافْتَرَقَا .
وَالرَّابِعُ إذَا قَالَ أَدِّ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ وَلَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَلَا يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا لَا يَكُونُ الْأَدَاءُ غَرَضًا صَحِيحًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي مُطْلَقِ الْأَزْمَانِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَلَا يَصْلُحُ عِوَضًا ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الْغَدِ غَرَضٌ صَحِيحٌ .
وَالْخَامِسُ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت .
فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ صَرِيحًا ، وَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَاتِ بِالشُّرُوطِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِصَرِيحِ الشَّرْطِ فَحُمِلَ عَلَى التَّقْيِيدِ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ ) وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ فَقَالَ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ .
قِيلَ مَعْنَاهُ فَقَبِلَ فَهُوَ بَرِيءٌ فِي الْحَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : فَأَدَّى إلَيْهِ ذَلِكَ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ عَادَ الْأَلْفُ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَعُودُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَيِّدُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَهِيَ عَلَى ، وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا ، لِأَنَّ حَدَّ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَسْتَفِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فَجَرَى وُجُودُهُ : أَيْ وُجُودُ جَعْلِ الْأَدَاءِ عِوَضًا مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَعُودُ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتُك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ .
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ وَالْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ : أَيْ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لَيْسَ عِلَّةً لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ فَاتَ لِبَقَائِهِ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ غَرَضًا حَذَارِ إفْلَاسِهِ أَوْ تَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةِ أَرْبَعٍ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ وَكَلِمَةُ عَلَى وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُعَاوَضَةِ لَكِنْ تَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فِيهِ ، فَإِنَّ فِيهِ مُقَابَلَةَ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ كَمَا كَانَ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَتَحْتَمِلُ

عَلَى الشَّرْطِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَكَأَنَّهُ مِنْهُمَا قَوْلٌ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ : أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْعِوَضِ لَكِنْ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّرْطُ ( قَوْلُهُ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ : يَعْنِي أَنَّ حَمْلَ كَلِمَةِ عَلَى عَلَى الشَّرْطِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ وَإِمَّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ بِأَنْ يَكُونَ تَعْجِيلُ الْبَعْضِ مُقَيَّدًا لِإِبْرَاءِ الْبَاقِي ، وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ لَمْ تَنْقُدْ غَدًا فَلَا صُلْحَ بَيْنَنَا ( قَوْلُهُ وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِلَّا كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِغَرِيمٍ أَوْ كَفِيلٍ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت أَوْ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ هُوَ التَّعْلِيقُ بِهِ فَكَيْفَ كَانَ جَائِزًا ؟ وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى .
أَمَّا لَفْظًا فَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّرْطِ صَرِيحًا وَالتَّعْلِيقُ بِهِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ فِي التَّقْيِيدِ بِهِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عَلَى عَرْضِيَّةِ أَنْ يَزُولَ إنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ ، وَتَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ جَائِزٌ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ ، وَتَعْلِيقُ

التَّمْلِيكِ بِهِ لَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الْقِمَارِ الْحَرَامِ .
وَالْإِبْرَاءُ لَهُ شُبْهَةٌ بِهِمَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
فَقُلْنَا : لَا يُحْتَمَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عَمَلًا بِشَبَهِ التَّمْلِيكِ ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ ، وَيَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ بِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْإِسْقَاطِ وَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَرْفُ شَرْطٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَرْفُ شَرْطٍ فَكَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ وَالْمُقَيَّدُ بِهِ يَفُوتُ عِنْدَ فَوَاتِهِ كَمَا مَرَّ ( قَوْلُهُ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَسَتَخْرُجُ الْبُدَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ ) وَعْدٌ بِالْجَوَابِ عَمَّا قَالَ أَبُو يُوسُفَ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا ذَكَرْت لَك فِي هَذَا الْوَجْهِ ظَهَرَ لَك وَجْهَ الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي حَصْرِ الْوُجُوهِ عَلَى خَمْسَةٍ : إنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَوْ لَا ، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَلَا يَخْلُو ، وَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَ مَعَهُ بَقَاءَ الْبَاقِي عَلَى الْمَدْيُونِ صَرِيحًا عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ لَا ، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ فَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَدَأَ فَهُوَ الْخَامِسُ .
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ ، وَالثَّالِثُ

وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِاسْتِخْرَاجِ الْجَوَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ أَوَّلًا لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، فَإِذَا قُدِّمَ الْإِبْرَاءُ حَصَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ بِذِكْرِ مَا بَعْدَهُ وَقَعَ الشَّكُّ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عِوَضًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَزُلْ بِهِ الْإِطْلَاقُ ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا يُقَيَّدُ بِهِ وَزَالَ الْإِطْلَاقُ ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الثَّابِتُ أَوَّلًا ، وَفِي عَكْسِهَا عَكْسُ ذَلِكَ .
وَالرَّابِعُ وَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا ظَهَرَ أَنَّ أَدَاءَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فِي مُطْلَقِ الْأَزْمَانِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِيَحْصُلَ بِهِ التَّقْيِيدُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جِهَةُ الْعِوَضِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْخَامِسُ تَعْلِيقٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَا أُقِرُّ لَك بِمَالِك حَتَّى تُؤَخِّرَهُ عَنِّي أَوْ تَحُطَّ عَنِّي فَفَعَلَ جَازَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ ذَلِكَ سِرًّا ، أَمَّا إذَا قَالَ عَلَانِيَةً يُؤْخَذُ بِهِ .وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَا أُقِرُّ لَك بِمَا لَك عَلَيَّ حَتَّى تُؤَخِّرَهُ عَنِّي أَوْ تَحُطَّ عَنِّي بَعْضَهُ فَفَعَلَ ) أَيْ أَخَّرَ أَوْ حَطَّ ( جَازَ عَلَيْهِ ) أَيْ نَفَذَ هَذَا التَّصَرُّفُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ إنْ أَخَّرَ وَأَبَدًا إنْ حَطَّ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ التَّحْلِيفِ .
لَا يُقَالُ : هُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُقِرَّ ، لِأَنَّ تَصَرُّفُ الْمُضْطَرِّ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَيْنًا بِطَعَامٍ يَأْكُلُهُ لِجُوعٍ قَدْ اُضْطُرَّ بِهِ كَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا ( وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ ذَلِكَ سِرًّا ، أَمَّا إذَا قَالَ عَلَانِيَةً يُؤْخَذُ ) الْمُقِرُّ ( بِجَمِيعِ الْمَالِ ) فِي الْحَالِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِصِفَةٍ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بِالْقَبْضِ ، إذْ مَالِيَّةُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَةِ الْقَبْضِ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَاجِعَةٌ إلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَتَصِيرُ كَزِيَادَةِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَلَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مَالِكِ الْقَابِضِ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ فَيَمْلِكُهُ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ ، وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَوْرُوثِ بَيْنَهُمَا وَقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشْتَرَكِ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ : لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ الْقَابِضَ قَبَضَ نَصِيبَهُ لَكِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَ ) لِمَا قُلْنَا ( ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْبَاقِي ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْمَقْبُوضِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ .

فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ) أَخَّرَ بَيَانَ حُكْمِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ يَتْلُو الْمُفْرَدَ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ إلَخْ ) إذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ بِنِصْفِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ مِنْ الشَّرِيكِ ، إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبْعَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لِشَرِيكِهِ فِي اتِّبَاعِ الْغَرِيمِ أَوْ شَرِيكِهِ الْقَابِضِ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ أَوْ غَيْرُهُمَا ، لِأَنَّ الدَّيْنَ ازْدَادَ خَيْرًا بِالْقَبْضِ ، إذْ مَالِيَّةُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَةِ الْقَبْضِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَاجِعَةٌ إلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَيَصِيرُ كَزِيَادَةِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَلَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الدَّيْنِ بِالْقَبْضِ كَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ لَمَا جَازَ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ لَكِنَّهُ : أَيْ الْمَقْبُوضَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ مُشَارَكَةَ الْقَابِضِ فِيهِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ فَيَمْلِكُهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ ، عُرِفَ الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ مَبِيعٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِأَنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنٌ عَلَى حِدَةٍ فَبَاعَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنُ مَالٍ مُشْتَرَكٍ وَمَوْرُوثٍ مُشْتَرَكٍ وَقِيمَةٍ مُسْتَهْلَكٍ مُشْتَرَكٍ .
وَقَيَّدَ الصَّفْقَةَ بِالْوَحْدَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ

مِنْ رَجُلٍ بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَكًّا وَاحِدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ ، لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّحَادِ الصَّكِّ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا وَيُقَالَ : إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ نَصِيبَ فُلَانٍ مِنْهُ مِائَةٌ وَنَصِيبَ فُلَانٍ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ ، لِأَنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعِينَ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ نَصِيبَهُ خَمْسَمِائَةٍ بَخِّيَّةً وَنُصِيبُ الْآخَرِ خَمْسُمِائَةٍ سُودٌ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَهُ ، لِأَنَّ بِالتَّسْمِيَةِ تَفَرَّقَتْ وَتَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَصْفًا ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَهُ لِأَنَّهُ شَرَطَ الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ قَالَ ( إذَا عَرَفْنَا هَذَا ) وَنَزَلَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ هَذَا إذَا كَانَ صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ ، وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ ثُمَّ يَرْجِعَانِ بِالْبَاقِي عَلَى الْغَرِيمِ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْمَقْبُوضِ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ مِنْ الشَّرِكَةِ .

قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ سِلْعَةً كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ ) لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ كَامِلًا ، لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالْحَطِيطَةِ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ دَفْعَ رُبْعِ الدَّيْنِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَخَيَّرُ الْقَابِضُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ .
وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتْبَعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ ، فَلَوْ سَلَّمَ لَهُ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ، وَلَوْ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَضٍ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَلَيْسَ بِقَبْضٍ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ كَانَتْ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ السِّهَامِ ، وَلَوْ أَخَّرَ أَحَدَهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا عَيْنًا مِنْهُ أَوْ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَهُوَ قَبْضٌ وَالِاسْتِئْجَارُ بِنَصِيبِهِ قَبْضٌ ، وَكَذَا الْإِحْرَاقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالتَّزَوُّجُ بِهِ إتْلَافٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ .

قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ إلَخْ ) وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ ثَوْبًا كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبْعَ الدَّيْنِ وَلَيْسَ الشَّرِيكُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِ رُبْعِ الدَّيْنِ وَنِصْفِ الثَّوْبِ كَمَا كَانَ فِي صُورَةِ الصُّلْحِ ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ مَا لَزِمَهُ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ كَمَلًا : أَيْ مِنْ غَيْرِ حَطِيطَةٍ وَإِغْمَاضٍ ، لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَمِثْلُهُ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ وَالْإِغْمَاضُ وَالْحَطِيطَةُ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ فِي الصُّلْحِ تَضْمِينَ رُبُعِ الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ تَضَرَّرَ فَيُخَيَّرُ الْقَابِضُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ أَمَّا كَانَ بِبَعْضِ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَقْبُوضِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَمْ يَقَعْ بِمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَلْ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ ، إذْ الْبَيْعُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَالْإِضَافَةُ إلَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ مِنْ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ إنْ تَحَقَّقَتْ لَا تُنَافِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ النُّقُودَ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ .
وَإِذَا ظَهَرَتْ الْمُقَاصَّةُ انْدَفَعَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَزِمَتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا ، وَأَمَّا الصُّلْحُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُصَالِحِ شَيْءٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَكَانَ الشَّرِيكُ بِسَبِيلٍ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ ( وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَّبِعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الصُّلْحِ عَنْ

نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ وَاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ بِالنُّقُودِ وَشِرَاءِ السِّلْعَةِ بِنَصِيبِهِ ( لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ بَاقٍ ، لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ ) لِئَلَّا يَنْقَلِبَ مَالُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ خَلَفٌ بَاطِلٌ ( فَلَوْ سَلَّمَ السَّاكِتُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ ) فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ ( لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ) كَمَا إذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ لِذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَيْنٌ لِلْغَرِيمِ قَبْلَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَضٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ أَوَّلِهِمَا ، إذْ الْعَكْسُ يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَالْقَضَاءُ لَا يَسْبِقُهُ ( وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَلَيْسَ بِقَبْضٍ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ كَانَتْ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ السِّهَامِ ) حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُمَا عَلَى الْمَدْيُونِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَأَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْخَمْسَةِ وَلِلسَّاكِتِ بِالْعَشَرَةِ ( وَلَوْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) خِلَافًا لَهُمَا ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَةِ الِاخْتِلَافِ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَيْثُ ذُكِرَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَذَلِكَ سَهْلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ التَّأْخِيرَ لِكَوْنِهِ إبْرَاءً مُؤَقَّتًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ ، وَقَالَا : يَلْزَمُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِاتِّصَافِ أَحَدِهِمَا بِالْحُلُولِ

وَالْآخَرِ بِالتَّأْجِيلِ ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِتَأْخِيرِ الْبَعْضِ هَلْ يَتَمَيَّزُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ أَوْ لَا ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَطَلَ قَوْلُكُمْ وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِكَذَا وَكَذَا .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَعْضِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ التَّمْيِيزَ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُهُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِيهِ ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لِاسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ الِامْتِيَازَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَجُوزُ إبْرَاءُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِهِ وَذِكْرُ الْإِبْرَاءِ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِكَوْنِ بَعْضِهِ مَطْلُوبًا وَبَعْضَهُ لَا فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ بِمَوْجُودٍ فَلَا قِسْمَةَ .
لَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الْقِسْمَةُ أَمْرًا وُجُودِيًّا لَزِمَ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَإِنَّمَا هِيَ رَفْعُ الِاشْتِرَاكِ أَوْ الِاتِّحَادِ أَوْ مَا شِئْت فَسَمِّهِ وَذَلِكَ عَدَمِيٌّ ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْقِسْمَةُ إفْرَازُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا لَا مَحَالَةَ ، وَارْتِفَاعُ الشَّرِكَةِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ( وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا عَيْنًا مِنْهُ أَوْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَهُوَ قَبْضٌ ) لِأَنَّ ضَمَانَ الْهَالِكِ قِصَاصٌ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ فَيَصِيرُ قَضَاءً لِلْأَوَّلِ ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ الْغَرِيمِ بِنَصِيبِهِ دَارًا وَسَكَنَهَا فَأَرَادَ شَرِيكُهُ اتِّبَاعَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَضِيًا نَصِيبَهُ وَقَدْ قَبَضَ مَالَهُ حُكْمُ الْمَالِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لِأَنَّ

مَا عَدَا مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ الْمَنَافِعِ جُعِلَ مَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ( وَكَذَا الْإِحْرَاقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ) وَصُورَتُهُ : مَا إذَا رَمَى النَّارَ عَلَى ثَوْبِ الْمَدْيُونِ فَأَحْرَقَهُ وَهُوَ يُسَاوِي نَصِيبَ الْمُحْرَقِ ، وَأَمَّا إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ ثُمَّ أَحْرَقَهُ فَإِنَّ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُحْرِقَ بِالْإِجْمَاعِ .
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِحْرَاقَ إتْلَافٌ لِمَالٍ مَضْمُونٍ فَكَانَ كَالْغَصْبِ ، وَالْمَدْيُونُ صَارَ قَاضِيًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَيُجْعَلُ الْمُحْرِقُ مُقْتَضِيًا ، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُتْلِفَ نَصِيبَهُ بِمَا صَنَعَ لَا قَابِضَ ، لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ إتْلَافٌ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى نَفْسِ الْمَدْيُونِ حَتَّى سَقَطَ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، فَكَذَا إذَا جَنَى بِالْإِحْرَاقِ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ حِصَّتِهِ شَيْئًا مَضْمُونًا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ فَكَانَ كَالْجِنَايَةِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ بِالنَّصِيبِ لَفْظًا فَهُوَ بِمِثْلِهِ مَعْنًى فَيَكُونُ دَيْنُ الْمَهْرِ الْوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ فَيَصِيرُ قَضَاءً لِلْأَوَّلِ فَيَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ وَالِاقْتِضَاءُ ، وَالصُّلْحُ عَلَى نَصِيبِهِ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ إتْلَافٌ كَالتَّزَوُّجِ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا قَابِلًا لِلشَّرِكَةِ بَلْ أَتْلَفَ نَصِيبَهُ .
قِيلَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَمْدًا لِأَنَّهُ فِي الْخَطَإِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَأَطْلَقَ فِي الْإِيضَاحِ فَقَالَ : وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ عَلَى حِصَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْ الشَّرِيكَ شَيْءٌ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُوضِحَةِ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ ، وَأَرَى أَنَّهُ قَيَّدَهُ

بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْشَ قَدْ يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فَلَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ ، فَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى عَوْدِ السَّلَمِ بَعْدَ سُقُوطِهِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا خَلَطَا رَأْسَ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ خَلَطَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ إلَخْ ) إذَا أَسْلَمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَفْسَخَ عَقْدَ السَّلَمِ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا بِإِجَازَةِ الْآخَرِ ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَمَا بَقِيَ مِنْ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَازَ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ ، فَإِنَّ أَحَدَ الدَّائِنَيْنِ إذَا صَالَحَ الْمَدْيُونَ عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى بَدَلٍ جَازَ وَكَانَ الْآخَرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدْيُونِ بِنَصِيبِهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ ) بِجَامِعِ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إقَالَةٌ وَفَسْخٌ لِعَقْدِ السَّلَمِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فَإِمَّا أَنْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً أَوْ فِي النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ نَصِيبِهِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالتَّمْيِيزِ ، وَلَا تَمْيِيزَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ لِتَنَاوُلِهِ بَعْضَ نَصِيبِهِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ الْمُتَنَازِعَ عَلَى شِرَاءِ الْعَبْدِ وَتَقْرِيرِهِ ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ فَإِنَّا إذَا اخْتَرْنَا فِيهِ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ التَّرْدِيدِ لَمْ يَلْزَمْ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِيهِ فِي السَّلَمِ وَهُوَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ .
وَاسْتَظْهَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ إنَّمَا صَارَ وَاجِبًا بِعَقْدِ السَّلَمِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ

جَازَ الصُّلْحُ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ يَرْجِعُ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي قَبَضَهُ الشَّرِيكُ حَيْثُ لَمْ يُسْلِمْ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَقَدْ كَانَ سَاقِطًا بِالصُّلْحِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ سُقُوطِهِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ ، فَإِذَا شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِي النِّصْفِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَرِيمِ وَفِيهِ عَوْدُ الدَّيْنِ بَعْدَ سُقُوطِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَ الدَّيْنِ وَأَخْذُهُ يُؤْذِنُ بِتَقْرِيرِ الْمُبْدَلِ لَا بِسُقُوطِهِ ، بَلْ يَتَقَاصَّانِ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَفِي السَّلَمِ يَكُونُ فَسْخًا وَالْمَفْسُوخُ لَا يَعُودُ بِدُونِ تَجْدِيدِ السَّبَبِ ( قَالُوا ) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا ( هَذَا ) الِاخْتِلَافُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا إنَّمَا هُوَ ( إذَا خَلَطَا رَأْسَ الْمَالِ ) وَعَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَخْلِطَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَخْلُوطًا أَوْ غَيْرَهُ وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِي الْجَوَازِ ، وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شِرْكَتِهِمَا فِي الْمَقْبُوضِ وَلَا مُشَارَكَةَ عِنْدَ انْفِرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَمُنْشَأُ اخْتِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي صُورَةِ خَلْطِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي الْبُيُوعِ مَعَ ذِكْرِ الْخَلْطِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مَعَ تَصْرِيحِ عَدَمِ الْخَلْطِ أَنَّ الْآخَرَ لَا

يُشَارِكُهُ فِيمَا قَبَضَ الْمُصَالِحُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ لِأَجْلِ الِاتِّفَاقِ .
وَقِيلَ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ : لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلشَّرِكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ هُوَ الشَّرِكَةُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ بِاتِّحَادِ الْعَقْدِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِيمَا خَلَطَا أَوْ لَمْ يَخْلِطَا .

( وَإِذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ وَالتَّرِكَةُ عَقَارٌ أَوْ عُرُوضٌ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ إيَّاهُ أَوْ كَثِيرًا ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا .
وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ ، فَإِنَّهُ صَالَحَ تَمَاضُرَ الْأَشْجَعِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رُبُعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ كَانَ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً فَهُوَ كَذَلِكَ ) لِأَنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي وَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إنْ كَانَ جَاحِدًا يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ ( وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ ) احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَرَضًا جَازَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الرِّبَا ، وَلَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَبَدَلُ الصُّلْحِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ أَيْضًا جَازَ الصُّلْحُ كَيْفَمَا كَانَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِلصَّرْفِ .

( فَصْلٌ فِي التَّخَارُجِ ) التَّخَارُجُ تَفَاعُلٌ مِنْ الْخُرُوجِ ، وَهُوَ أَنْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ بِمَالٍ مَعْلُومٍ .
وَوَجْهُ تَأْخِيرِهِ قِلَّةُ وُقُوعِهِ ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَرْضَى أَحَدٌ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَيْنِ بِغَيْرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ .
وَسَبَبُهُ طَلَبُ الْخَارِجِ مِنْ الْوَرَثَةِ ذَلِكَ عِنْدَ رِضَا غَيْرِهِ بِهِ ، وَلَهُ شُرُوطٌ تُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، وَتَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الضَّوْءِ وَالرِّسَالَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ إلَخْ ) وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ حَالَ كَوْنِ التَّرِكَةِ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا جَازَ قَلَّ مَا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثُرَ ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ النُّقُودِ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ سَنَذْكُرُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ إبْرَاءً لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ لَا يَصِحُّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ بَيْعًا لَشُرِطَ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ التَّرِكَةِ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْسِدُ الْبَيْعَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ تُفْسِدُ الْبَيْعَ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِمُقْتَضَى الْبَيْعِ ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ فَلَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَصَارَ كَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا وَاشْتَرَاهُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مِقْدَارَهُ .
وَفِي جَوَازِ التَّخَارُجِ مَعَ جَهَالَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ أَثَرُ عُثْمَانَ .
وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَهِيَ تُمَاضِرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ

فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ ، ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ وَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَوْلَادٌ فَحَظُّهَا رُبْعُ الثُّمُنِ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَلَمْ يُفَسَّرْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ .
وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي لَكِنْ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا غَيْرَ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إنْ كَانَ جَاحِدًا لِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ : أَيْ الْقَبْضِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ بِأَنْ يَكُونَ قَبْضَ أَمَانَةٍ أَوْ قَبْضَ ضَمَانٍ نَابَ أَحَدُهُمَا مَنَابَ الْآخَرِ ، أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَالْمَضْمُونُ يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ دُونَ الْعَكْسِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّتُهَا مُقِرًّا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ إلَى مَكَان يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ ( وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِيَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ ) فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِنَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ بَطَلَ الصُّلْحُ لِوُجُودِ الرِّبَا ، أَمَّا إذَا كَانَ مُسَاوِيًا فَلِزِيَادَةِ الْعُرُوضِ وَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَلِزِيَادَةِ الْعُرُوضِ وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَفِيهِ شُبْهَةُ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَلَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ أَيْضًا

لِمَا مَرَّ ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ حِصَّتَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ .
وَقِيلَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ عَلَى مِثْلِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدَّرَاهِمِ حَالَةَ التَّصَادُقِ ، أَمَّا إذَا ادَّعَتْ مِيرَاثَ زَوْجِهَا وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجِيَّةَ فَصَالَحُوهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ جَازَ ، لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهَا حِينَئِذٍ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا ( وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَرْضًا جَازَ مُطْلَقًا ) قَلَّ أَوْ كَثُرَ وُجِدَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَا ، وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَبَدَلُ الصُّلْحِ كَذَلِكَ جَازَ كَيْفَمَا كَانَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْمُصَالِحَ عَنْهُ وَيَكُونَ الدَّيْنُ لَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ ( وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَهُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ ، وَهَذِهِ حِيلَةُ الْجَوَازِ ، وَأُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مُتَبَرِّعِينَ ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ .
وَالْأَوْجُهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوا عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ .
وَيُجِيلهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، قِيلَ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا ، وَقِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَكِنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَيْعًا إذْ الْمُصَالَحُ عَنْهُ عَيْنٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِقِيَامِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ فِي يَدِ الْبَقِيَّةِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَلَا الْقِسْمَةُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا الْوَارِثُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحُوا مَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهُ فَتُقَدَّمُ حَاجَةُ الْمَيِّتِ ، وَلَوْ فَعَلُوا قَالُوا يَجُوزُ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَتَجُوزُ قِيَاسًا .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ إلَخْ ) وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ صَالَحَ عَنْ الدَّيْنِ وَيَكُونُ الدَّيْنُ لَهُمْ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا ، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ ، وَأَمَّا فِي الْعَيْنِ فَلِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ .
وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِطُوا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ ( وَأُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ مُتَبَرِّعِينَ ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ) أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لُزُومُ النَّقْدِ عَلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ نَسِيئَةٌ وَالنَّقْدُ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ ( وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوا عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ وَيُحِيلُ الْوَرَثَةَ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ بِأَنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الصُّلْحِ أَوْ أَقَلُّ ( وَقِيلَ يَجُوزُ ) وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَإِنْ كَانَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ أَوْ أَقَلَّ فَفِيهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ ( وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَكِنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ) فَصَالَحُوا عَلَى

مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( قِيلَ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَيْعًا ) إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً ( لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ عَيْنٌ ) وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ بَيْعًا كَانَتْ الْجَهَالَةُ مَانِعَةً ( وَقِيلَ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُفْضِيَةٍ إلَى النِّزَاعِ لِقِيَامِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ فِي يَدِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ) فَمَا ثَمَّةَ احْتِيَاجٌ إلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى النِّزَاعِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ التَّرِكَةِ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ وَلَا يَعْلَمُونَ مِقْدَارَهُ لَمْ يَجُزْ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ غَيْرَهُ ؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَلَا الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَمْ يَتَمَلَّكْ التَّرِكَةَ ، وَفِي الثَّانِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحُوا مَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهُ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ ، وَلَوْ فَعَلُوا قَالُوا يَجُوزُ .
وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ إنَّهَا لَا تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَتَجُوزُ قِيَاسًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ تَمَلُّكَ الْوُرَّاثِ ، إذْ مَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ قَبْلَ قَضَائِهِ ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّرِكَةَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ فَتُقْسَمُ نَفْيًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ؛ سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَبَيْنِ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ عَنْهُ ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِيَنْتَظِمَ مَصْلَحَةُ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ .
وَبُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ ، ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ ، وَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ ، وَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لِتَمَلُّكِهِ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ بِعَمَلِهِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ حَتَّى اسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ .
قَالَ ( الْمُضَارَبَةُ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ) وَمُرَادُهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ( وَالْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ) وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ لَوْ شُرِطَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً ، وَلَوْ شُرِطَ جَمِيعُهُ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا .
قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا وَقَالَ بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ لَهُ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِك حَيْثُ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ ، لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ .
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ لَكِنْ يَقَعُ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْآمِرِ فَيَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعَرَضِ .

كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ ) قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَارِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ ( وَالْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ) ؛ وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَالِبًا طَلَبًا لِلرِّبْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَفِي الِاصْطِلَاحِ : دَفْعُ الْمَالِ إلَى مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ( وَمَشْرُوعِيَّتهَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَبَيْنَ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ ) أَيْ خَالِي الْيَدِ عَنْ الْمَالِ فَكَانَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا انْتِظَامُ مَصْلَحَةِ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ سَبَبِ الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا .
وَرُكْنُهَا اسْتِعْمَالُ أَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ : دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً أَوْ مُعَامَلَةً أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ أَوْ اعْمَلْ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَكَذَا .
وَشُرُوطُهَا نَوْعَانِ : صَحِيحَةٌ وَهِيَ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ ، وَفَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ .
وَحُكْمُهَا الْوَكَالَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالشَّرِكَةُ بَعْدَ الرِّبْحِ ( قَوْلُهُ وَبُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَيَانُ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ ( وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ ) عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ { الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ إذَا دَفَعَ مُضَارَبَةً شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَأَنْ لَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْسَنَهُ } .
وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُعَايِنُهُ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ عَلَى مَا عُلِمَ ( وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ ) مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا .
قَالَ ( ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إلَخْ ) الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ مِنْ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ ، وَكُلُّ مَقْبُوضٍ كَذَلِكَ فَهُوَ أَمَانَةٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ ، فَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لِتَمَلُّكِهِ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ بِعَمَلِهِ وَهُوَ شَائِعٌ فَيُشْرِكُهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ فَيَصِيرُ مَا شَرَطَ مِنْ الرِّبْحِ كَالْأُجْرَةِ عَلَى عَمَلِهِ فَلِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْإِجَارَةِ إذَا فَسَدَتْ ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِجَارَاتِ ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ .
قَالَ ( الْمُضَارَبَةُ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَخْ ) هَذَا تَفْسِيرُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ ، وَكَانَ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ لِأَنَّهُ قَالَ : عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِيمَا ذَا ؟ فَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَمُرَادُهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ لَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ الرِّبْحِ : أَيْ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَمَلِ مِنْ جَانِبِ الْمُضَارِبِ ، وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهَا : أَيْ بِدُونِ الشَّرِكَةِ إشَارَةً إلَى انْتِفَاءِ الْعَقْدِ بِانْتِفَائِهَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِ الشَّرِكَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ لَوْ شُرِطَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً ، وَلَوْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، أَوْ فُلُوسًا رَائِجَةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِمَا سِوَاهَا لَا تَجُوزُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا وَقَالَ بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ : يَعْنِي أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْكِيلِ ، وَالْإِجَارَةُ بِالرَّاءِ وَالْإِجَازَةُ بِالزَّايِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْكُلُّ الْجُزْءَ فَلَا مَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِك فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ هَذَا التَّوْكِيلَ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ : أَيْ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَيْثُ قَالَ : وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ إلَخْ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْمُشْتَرِي وَالدَّيْنُ بِحَالِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَصِحُّ وَلَكِنْ يَقَعُ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْآمِرِ فَيَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعَرْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

قَالَ ( وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً ) مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا بُدَّ مِنْهَا كَمَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ) لِفَسَادِهِ فَلَعَلَّهُ لَا يَرْبَحُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَتَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْ لِفَسَادِهِ ، وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ وَلَا تُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ ، وَيَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَجْرَ الْأَجِيرِ يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ أَوْ الْعَمَلِ وَقَدْ وُجِدَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا فَوْقَهَا ، وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ اعْتِبَارًا بِالصَّحِيحَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي يَدِهِ ، وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهُ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ .

قَالَ ( وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا إلَخْ ) وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا ، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ مِنْ الرِّبْحِ مُسَمَّاةً لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ يُنَافِي الشَّرِكَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِجَوَازِهَا ، وَالْمُنَافِي لِشَرْطِ جَوَازِ الشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ انْتَفَى الْآخَرُ كَمَا إذَا ثَبَتَ الْوُجُودُ انْتَفَى الْعَدَمُ ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِفَسَادِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَتَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ وَهَذَا ) أَيْ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ ( لِأَنَّهُ ) عَمِلَ لِرَبِّ الْمَالِ بِالْعَقْدِ وَ ( ابْتَغَى بِهِ عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ) وَلَا بُدَّ مِنْ عِوَضِ مَنَافِعَ تَلِفَتْ بِالْعَقْدِ ( وَ ) لَيْسَ ذَلِكَ فِي الرِّبْحِ ( لِكَوْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ) فَتَعَيَّنَ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ ( وَلَا تُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) قِيلَ : وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجِبُ ) بَالِغًا مَا بَلَغَ ( كَمَا بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ ، وَأُجْرَةُ الْأَجِيرِ تَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ ) كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ فَإِنَّ فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ تَسْلِيمَ مَنَافِعِهِ ( أَوْ ) بِتَسْلِيمِ ( الْعَمَلِ ) كَمَا فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ( وَقَدْ وُجِدَ ) ذَلِكَ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ ) لَهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يَرْبَحْ ( اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ ) فَإِنَّهُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ( مَعَ أَنَّهَا فَوْقَ الْفَاسِدَةِ ) فَفِي الْفَاسِدَةِ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : مَا جَوَابُ وَجْهِ

ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الصَّحِيحِ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ إذَا كَانَ انْعِقَادُ الْفَاسِدَةِ مِثْلَ انْعِقَادِ الْجَائِزِ كَالْبَيْعِ ، وَهَاهُنَا الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً لَا إجَارَةً ، وَالْفَاسِدَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً فَتُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عِنْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ، وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالصَّحِيحَةِ ، وَالثَّانِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَيْنٌ اُسْتُؤْجِرَ الْمُضَارِبُ لِيَعْمَلَ بِهِ هُوَ لَا غَيْرُهُ ، وَلَا يَضْمَنُ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ أَجِيرِ الْوَحْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَجِيرٌ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِآخَرَ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا يُمْكِنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ .
وَقِيلَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَضْمَنُ إذَا تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَحَّتْ أَوْ

فَسَدَتْ أَمَانَةٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عِنْدَهُ مُضَارَبَةً فَقَدْ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا وَلَهُ وِلَايَةُ جَعْلِهِ أَمِينًا .
وَلَمَّا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَمِنْهَا مَا يُبْطِلُ فِي نَفْسِهِ وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ إلَى ذَلِكَ بِأَمْرٍ جُمْلِيٍّ فَقَالَ ( وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ ) كَمَا إذَا قَالَ لَك نِصْفُ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثُهُ وَشَرَطَا أَنْ يَدْفَعَ الْمُضَارِبُ دَارِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِيَسْكُنَهَا أَوْ أَرْضَهُ سَنَةً لِيَزْرَعَهَا ( فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ ) وَهُوَ الرِّبْحُ ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ وَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَمَلِ مَجْهُولَةً ( وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا وَيُفْسِدُ الشَّرْطَ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ) أَوْ عَلَيْهِمَا .
وَالْوَضِيعَةُ اسْمٌ لِجُزْءٍ هَالِكٍ مِنْ الْمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ غَيْرَ رَبِّ الْمَالِ ، وَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ الْجَهَالَةَ فِي الرِّبْحِ لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ .
قِيلَ شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ وَلَا يَبْطُلُ فِي نَفْسِهِ بَلْ يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ كَمَا سَيَجِيءُ فَلَمْ تَكُنْ الْقَاعِدَةُ مُطَّرِدَةً .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَالَ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا : أَيْ الْمُضَارَبَةَ ، وَإِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُضَارَبَةٍ ، وَسَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ الْمَعْدُومِ صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ زِيدَ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِبَصِيرٍ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا بِخُطُوطٍ : وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ مَعْنَاهُ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِهِ .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ وَلَا يَدَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ ) لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْعَمَلَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْلُصَ الْمَالُ لِلْعَامِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
أَمَّا الْعَمَلُ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَوْ شَرَطَ خُلُوصَ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ تَنْعَقِدْ الشَّرِكَةُ ، وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ خُلُوصَ يَدِ الْمُضَارِبِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ لَهُ ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُضَارِبِ ، وَكَذَا أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَاقِدِ مَعَ الْمُضَارِبِ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ يُفْسِدُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا فَكَذَا اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِمَا بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ .

قَالَ ( وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ إلَخْ ) لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ وَلَا يَدَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ بِتَصَرُّفٍ أَوْ عَمَلٍ ، لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ جَانِبٍ وَالْعَمَلَ مِنْ جَانِبٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّخَلُّصِ لِلْعَمَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَبَقَاءُ يَدِ غَيْرِهِ يَمْنَعُ التَّخَلُّصَ .
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فَالْعَمَلُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَوْ شَرَطَ خُلُوصَ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا انْتَفَى الشَّرِكَةُ وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ إذَا دَفَعَ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مَالَهُ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ لَهُ ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُضَارِبِ ، وَكَذَا أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهِ فَسَدَتْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا ، وَإِذَا شَرَطَ الْعَاقِدُ الْغَيْرُ الْمَالِكِ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمُضَارَبَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا دَفَعَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَا الْعَمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ جَازَتْ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً فَكَانَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ جَائِزًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَالْمَأْذُونِ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً فَسَدَتْ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَلَكِنَّ يَدَ تَصَرُّفِهِ ثَابِتَةٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَرُّفِ فَكَانَ قِيَامُ

يَدِهِ مَانِعًا عَنْ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ وَيُودِعَ ) لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ ، فَيَنْتَظِمُ الْعَقْدُ صُنُوفَ التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِمْ ، وَكَذَا الْإِبْضَاعُ وَالْإِيدَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى ، كَيْفَ وَأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ .
وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ دَفَعَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ ، وَالظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ ( وَلَا يُضَارِبُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك ) لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوْ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ إلَيْهِ وَكَانَ كَالتَّوْكِيلِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا إذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك ، بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ وَالْإِبْضَاعِ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَيَتَضَمَّنُهُ ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَاضِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ .
وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ وَهُوَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ وَهُوَ الرِّبْحُ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، أَمَّا الدَّفْعُ مُضَارَبَةً فَمِنْ صَنِيعِهِمْ ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْقَوْلِ .

قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً إلَخْ ) الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ مَا لَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان نَحْوُ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَيَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ سَائِرِ التِّجَارَاتِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ ، فَالْعَقْدُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ صُنُوفِهَا وَيَصْنَعُ مَا هُوَ صُنْعُ التُّجَّارِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ فَيُوَكِّلُ وَيُبْضِعُ وَيُودِعُ لِأَنَّهَا مِنْ صَنِيعِهِمْ وَيُسَافِرُ ، لِأَنَّ الْمُسَافَرَةَ أَيْضًا مِنْ صَنِيعِهِمْ ، وَلَفْظُ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ يُمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ ، وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ دُفِعَ إلَيْهِ فِي بَلَدِ الْمُضَارِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَدِيمُ الْغُرْبَةَ مَعَ إمْكَانِ الرُّجُوعِ ، فَلَمَّا أَعْطَاهُ عَالِمًا بِغُرْبَتِهِ كَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُسَافَرَةِ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى وَطَنِهِ ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يُرِيدُ قَوْلَهُ وَالْمُسَافَرَةُ : يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ ( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُضَارِبَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ ) وَلَا يَرِدُ جَوَازُ إذْنِ الْمَأْذُونِ لِعَبْدِهِ وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْإِجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ فَإِنَّهَا أَمْثَالٌ لِمَا يُجَانِسُهَا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ أَمْثَالَهَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَضَمَّنَتْ الْأَمَانَةَ أَوَّلًا وَالْوَكَالَةَ ثَانِيًا ، وَلَيْسَ

لِلْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ الْإِيدَاعُ وَالتَّوْكِيلُ فَكَذَا الْمُضَارِبُ لَا يُضَارِبُ غَيْرُهُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْبَوَاقِي سَيَجِيءُ فِي مَوَاضِعِهَا ( بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ وَالْإِبْضَاعِ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فَيَتَضَمَّنُهُمَا ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَاضِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهِ ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ الْإِقْرَاضُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَرْضِ ، وَأَمَّا الدَّفْعُ مُضَارَبَةً وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ فَمِنْ صَنِيعِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْقَوْلِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَالْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ يَحْصُلُ بِهَا تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ عَلَى جِهَةِ الْعَدَمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ جِهَتَيْ الْجَوَازِ وَالْعَدَمِ صَالِحٌ لِلْعِلِّيَّةِ فَلَا يَتَرَجَّحُ غَيْرُهَا بِهَا كَمَا عُرِفَ

قَالَ ( وَإِنْ خَصَّ لَهُ رَبُّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ .
وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَيَتَخَصَّصُ ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِضَاعَةً إلَى مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَاشْتَرَى ضَمِنَ ) وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ ، وَلَهُ رِبْحُهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى رَدَّهُ إلَى الْكُوفَةِ وَهِيَ الَّتِي عَيَّنَهَا بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ثُمَّ تَرَكَ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ ، وَكَذَا إذَا رَدَّ بَعْضَهُ وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي الْمِصْرِ كَانَ الْمَرْدُودُ وَالْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ شَرَطَ الشِّرَاءَ بِهَا هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ ضَمِنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالشِّرَاءِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ احْتِمَالِ الرَّدِّ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ ، أَمَّا الضَّمَانُ فَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الشِّرَاءَ لِلتَّقَرُّرِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفِيدُ التَّقْيِيدُ ، إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالنَّهْيِ بِأَنْ قَالَ اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِ السُّوقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ وَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا ، وَكَذَا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ ، أَوْ قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ أَوْ قَالَ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ

الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ ، أَمَّا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشُورَةِ ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، أَوْ دَفَعَ فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ جَازَ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ ، وَفَائِدَةَ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ .

( وَإِنْ خَصَّ لَهُ رَبُّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ سِلْعَةً بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ ) وَالتَّوْكِيلُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ يَخْتَصُّ بِهِ ( وَفِي التَّخْصِيصِ ) فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ ( فَائِدَةٌ ) مِنْ حَيْثُ صِيَانَةُ الْمَالِ عَنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ وَصِيَانَةُ الْمُضَارِبِ وَتَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَفِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا لَمْ يُسَافِرْ فَيَجِبُ رِعَايَتُهَا تَوْفِيرًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ خَرَجَ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَاشْتَرَى ضَمِنَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي وَرِبْحُهُ لَهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ بِخِلَافِ أَمْرِهِ ) فَصَارَ غَاصِبًا ( وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ وَرَدَّهُ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي عَيَّنَهُ سَقَطَ الضَّمَانُ كَالْمُودَعِ الْمُخَالِفِ إذَا تَرَكَ الْمُخَالَفَةَ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ ) فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَائِلَةٌ ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَزُلْ ، لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالشِّرَاءِ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ رَجَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ .
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهَا زَالَتْ زَوَالًا مَوْقُوفًا حَيْثُ ضَمِنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ ( وَإِذَا اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ مِنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الَّذِي عَيَّنَهُ كَانَ الْمَرْدُودُ وَالْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا ) مِنْ الْبَقَاءِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِيهِ وَبِبَعْضٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ

لِمَا اشْتَرَاهُ فِي غَيْرِهِ وَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا لِبَعْضِ الْمَالِ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا بَقِيَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيفُهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْءَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ مَوْضُوعٌ إذَا اسْتَلْزَمَ ضَرَرًا ، وَلَا ضَرَرَ عِنْدَ الضَّمَانِ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالشِّرَاءِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ احْتِمَالِ الرَّدِّ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ ، أَمَّا الضَّمَانُ فَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الشِّرَاءَ ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( لِلتَّقَرُّرِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالنَّهْيِ فَقَالَ اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ وَالْوِلَايَةِ إلَيْهِ ) وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا تَبِيعَ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ صَحَّ وَلَمْ يُعَدَّ مُخَالِفًا وَجَوَابُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَيْدَ الْمُفِيدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَّبَعٌ وَغَيْرُهُ كَذَلِكَ لَغْوٌ وَالْمُفِيدُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مُتَّبَعٌ عِنْدَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ وَلَغْوٌ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْهُ ، فَالْأَوَّلُ كَالتَّخْصِيصِ بِبَلَدٍ وَسِلْعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَالثَّانِي كَصُورَةِ النَّقْضِ فَإِنَّ الْبَيْعَ نَقْدًا بِثَمَنٍ كَانَ ثَمَنُ النَّسِيئَةِ خَيْرٌ لَيْسَ إلَّا فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُضِرًّا .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالنَّهْيِ عَنْ السُّوقِ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْبَلَدَ ذَاتُ أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَحُكْمًا فَإِنَّهُ إذَا

شَرَطَ الْحِفْظَ عَلَى الْمُودَعِ فِي مَحَلِّهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْأَسْعَارُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهِ ، وَغَيْرُ مُفِيدٍ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ كَمَا كَانَ وَاحِدٌ كَمَا إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي السَّلَمِ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْمِصْرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَحَلَّةَ فَاعْتَبَرْنَاهُ حَالَةَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ لِوِلَايَةِ الْحَجْرِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ إلَخْ ) ذَكَرَ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ : وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ : وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا : أَيْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ مَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى التَّخْصِيصِ وَمَا لَا يَدُلُّ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ : سِتَّةٌ مِنْهَا تُفِيدُ التَّخْصِيصَ وَاثْنَانِ مِنْهَا تُعْتَبَرُ مَشُورَةً ، وَالضَّابِطُ لِتَمْيِيزِ مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ عَمَّا لَا يُفِيدُهُ هُوَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَعْقَبَ لَفْظَ الْمُضَارَبَةِ كَلَامًا لَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَيَصِحُّ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِئَلَّا يَلْغُوَ ، وَإِذَا أَعْقَبَهُ مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ لَمْ يُجْعَلْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ لِانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا ، أَوْ قَالَ خُذْهُ تَعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ مَجْزُومًا وَمَرْفُوعًا ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَحْتَمِلُهُمَا ، أَوْ قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ أَوْ قَالَ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ أَوْ قَالَ لِتَعْمَلَ بِهِ بِالْكُوفَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعْمَلُ بِهِ بِالرَّفْعِ يُعْطِي مَعْنَاهُ فَقَدْ أَعْقَبَ لَفْظَ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ بِقَوْلِهِ تَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ لَكِنَّهُ يَصِحُّ جَعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا

تَقَدَّمَ ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ شَرْطًا وَالْمُفِيدُ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ ، وَهَذَا يُفِيدُ صِيَانَةَ الْمَالِ فِي الْمِصْرِ ، وَقَوْلُهُ تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ خُذْهُ مُضَارَبَةً ، وَقَوْلُهُ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِيهَا لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ وَالْمُتَّصِلُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْمُبْهَمِ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَكَذَا قَوْلُهُ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ ، وَيَقْتَضِي الْإِلْصَاقَ مُوجِبُ كَلَامِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَالِ مُلْصَقًا بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهَا ، وَإِذَا قَالَ دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ اعْمَلْ بِالْكُوفَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ أَوْ بِهِ فَقَدْ أَعْقَبَ مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ ، أَمَّا بِغَيْرِ الْوَاوِ فَوَاضِحٌ ، وَأَمَّا بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَاعْتُبِرَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيُجْعَلُ مَشُورَةً كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا كَانَ أَنْفَعَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا تَجْعَلُ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ؟ أُجِيبَ بِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ هَاهُنَا ، لِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا حَالَ الْأَخْذِ ، وَلَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَضَاءً وَاقْتِضَاءً وَمُنَاقَشَةً فِي الْحِسَابِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ الشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ دَفَعَ فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ جَازَ ، لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ : يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْكُوفَةُ ، وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ رَجُلٍ كُوفِيٍّ .
وَفَائِدَةُ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ

وَهُوَ الصَّرْفُ وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ لَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ) يَعْنِي غَيْرَ الْمَكَانِ فِي الْأَوَّلِ ، وَالنَّوْعُ فِي الثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى التَّقْيِيدِ ، وَيَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَمَّا يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَإِنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهُ مِنْ كُوفِيٍّ لَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ قَدْ يُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ الْمَنْعُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْكُوفَةِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِهَا ، وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ الْمُعَامَلَةَ فِي الصَّرْفِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ مَعَ تَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعُ الصَّرْفِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ

قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ وَقْتًا بِعَيْنِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّهِ ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَيَتَوَقَّتُ بِمَا وَقَّتَهُ وَالتَّوْقِيتُ مُفِيدٌ وَأَنَّهُ تَقْيِيدٌ بِالزَّمَانِ فَصَارَ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْمَكَانِ .وَقَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالزَّمَانِ مُفِيدٌ فَكَانَ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْمَكَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِقَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ بِالتَّصَرُّفِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لِعِتْقِهِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمُضَارَبَةِ شِرَاءُ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالشِّرَاءِ بِالْمَيْتَةِ .
بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ .
قَالَ ( وَلَوْ فَعَلَ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي نَفَذَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ يُعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَيُفْسِدُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ أَوْ يُعْتِقُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ( وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ ضَمِنَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِالنَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ ، إذْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ لِيُعْتَقَ عَلَيْهِ ( فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ ) لِمِلْكِهِ بَعْضَ قَرِيبِهِ ( وَلَمْ يَضْمَنْ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا ) لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْ جِهَتِهِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَلَا فِي مِلْكِهِ الزِّيَادَةَ ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ ( وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ اُحْتُسِبَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ فَيَسْعَى فِيهِ كَمَا فِي الْوَرَثَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَوَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ

اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ صَحِيحَةٌ فِي الظَّاهِرِ حَمْلًا عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَعْنِي الْأُمَّ وَالْوَلَدَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَارَ أَعْيَانًا كُلُّ عَيْنٍ مِنْهَا يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ كَذَا هَذَا ، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ الْآنَ ظَهَرَ الرِّبْحُ فَنَفَذَتْ الدَّعْوَةُ السَّابِقَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ ثُمَّ ازْدَادَتْ الْقِيمَةُ .
لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ ، فَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ ، أَمَّا هَذَا فَإِخْبَارٌ فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ عَتَقَ الْوَلَدُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إلَيْهِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ ، وَهَذَا ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي وَلَمْ يُوجَدْ ( وَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ ) لِأَنَّهُ اُحْتُبِسَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالْخَمْسَمِائَةِ رِبْحٌ وَالرِّبْحَ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ .
ثُمَّ إذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ

وَتَوَقَّفَ نَفَاذُهَا لِفَقْدِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمِلْكُ نَفَذَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ كَذَا هَذَا ؛ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَرَّ .

قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إلَخْ ) وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِقَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَالْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّصَرُّفِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ لِعِتْقِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ .
وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ مُطْلَقًا إنْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبْحَ الْمُحْتَاجَ إلَى تَكَرُّرِ التَّصَرُّفِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْوَكَالَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَبِيعُهُ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَانَ مُخَالِفًا ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ هَذَا الْعَقْدِ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ لَا يُدْخِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ شِرَاءَ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَالْخَمْرِ وَالشِّرَاءِ بِالْمَيِّتَةِ لِانْتِفَاءِ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ بَيْعَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَيَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ ، وَلَوْ فَعَلَ أَيْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي نَفَذَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ ، وَقَوْلُهُ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فَإِنَّ شِرَاءَهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَالْمَوْلَى ، ثُمَّ إنْ كَانَ نَقْدُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَتَخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا شِرَاءُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمُضَارِبِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ

أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ وَيَفْسُدُ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ لِانْتِفَاءِ جَوَازِ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَسْعًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ يَعْتِقُ الْكُلُّ عِنْدَهُمَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ ضِمْنَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ إنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حَيْثُ لَا شَرِكَةَ لَهُ ، فَإِذَا ازْدَادَتْ قِيمَتُهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ لِتَمَلُّكِهِ بَعْضَ قَرِيبِهِ ، وَلَمْ يَضْمَنْ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا لِأَنَّ ازْدِيَادَ الْقِيمَةِ وَتَمَلُّكُهُ الزِّيَادَةَ : أَيْ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ ، كَامْرَأَةٍ اشْتَرَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فَمَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأَخًا عَتَقَ نَصِيبُ الزَّوْجِ وَلَا يَضْمَنُ لِأَخِيهَا شَيْئًا لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ وَحِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَيَسْعَى الْعَبْدُ فِيهِ كَمَا فِي الْوِرَاثَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ إلَخْ ) وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَوَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ لِنَفْيِ شُبْهَةٍ هِيَ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فِي حَقِّ

الْوَلَدِ ، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ إذَا كَانَ مُوسِرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ صَحِيحَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِصُدُورِهَا مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا حَمْلًا عَلَى الْفِرَاشِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْبَائِعُ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْهُ فَوَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ لَكِنَّهُ : أَيْ الِادِّعَاءَ لَمْ يَنْفُذْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمِّ وَالْغُلَامِ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَارَ أَعْيَانًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ فِي الْجَارِيَةِ مِلْكٌ وَبِدُونِ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ .
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْوَلَدِ فَتَبْقَى كَذَلِكَ وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ كُلُّهُ رِبْحًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَرَسَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا كَانَ لَهُ رُبْعُهُمَا حَتَّى لَوْ وَهَبَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ صَحَّ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَعَيُّنَهَا كَانَ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ لَا لِأَنَّهَا رَأْسُ الْمَالِ ، فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الدَّرَاهِمُ وَبَعْدَ الْوَلَدِ تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَذَهَبَ تَعَيُّنُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِ فَاشْتَغَلَا بِرَأْسِ الْمَالِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْيَانًا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَالْفَرَسَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ يُقْسَمَانِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، وَإِذَا اُعْتُبِرَا جُمْلَةً حَصَّلَ الْبَعْضَ رِبْحًا ، بِخِلَافِ الْعَبْدَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يُقْسَمَانِ جُمْلَةً بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَالِهِ لِيَكُونَ الرَّقِيقُ أَجْنَاسًا

مُخْتَلِفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ : وَإِذَا امْتَنَعَتْ الْقِسْمَةُ لَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ عَلَى مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَدْ ظَهَرَ الرِّبْحُ وَنَفَذَتْ الدَّعْوَةُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ سَبَبَهَا كَانَ مَوْجُودًا وَهُوَ فِرَاشُ النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَنْفُذْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الْمِلْكِ ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ صَارَ نَافِذًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَ الْوَلَدُ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ وَلَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِخْبَارٌ فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ حُدُوثِهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَةُ وَنَفَذَتْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَعَتَقَ الْوَلَدُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا .
وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْمُسْكِرِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا ، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ ، وَإِنْ انْتَفَى الضَّمَانُ بَقِيَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ وَالْإِعْتَاقِ ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلْعِتْقِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَخَمْسَمِائَةٍ رِبْحٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ .
قِيلَ لِمَ لَا

تُجْعَلُ الْجَارِيَةُ رَأْسَ الْمَالِ وَالْوَلَدُ كُلُّهُ رِبْحًا ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ بِالسِّعَايَةِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَالْجَارِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ ، فَكَانَ تَعْيِينُ الْأَلْفِ مِنْ السِّعَايَةِ لِرَأْسِ الْمَالِ أَنْسَبَ لِلتَّجَانُسِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْجَارِيَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ ، لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْوَلَدِ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الرِّبْحِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ تَمَلَّكَ الْمُدَّعِي نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا بِجَعْلِهَا أُمَّ وَلَدٍ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَيَضْمَنُ ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا بَلْ يَعْتَمِدُ التَّمَلُّكَ وَقَدْ حَصَلَ ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ ، كَالْأَخِ تَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ أَخِيهِ فَاسْتَوْلَدَهَا فَمَاتَ الْمُزَوِّجُ وَتَرَكَ الْجَارِيَةَ مِيرَاثًا بَيْنَ الزَّوْجِ وَأَخٍ آخَرَ فَمَلَكَهَا الزَّوْجُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ وَهُوَ إتْلَافٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ صُنْعِهِ .
وَقَوْلُهُ كَمَا مَرَّ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْعُقْرَ وَهُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ فَصَارَ كَالْكَسْبِ .

قَالَ ( وَإِذَا دَفَعَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ بِالدَّفْعِ وَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي حَتَّى يَرْبَحَ ، فَإِذَا رَبِحَ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِرَبِّ الْمَالِ ) وَهَذَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا عَمِلَ بِهِ ضَمِنَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الْإِيدَاعِ ، وَهَذَا الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ إيدَاعٌ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالْعَمَلِ فَكَانَ الْحَالُ مُرَاعًى قَبْلَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ إيدَاعٌ وَبَعْدَهُ إبْضَاعٌ ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِمَا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً ، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ عَمِلَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِيهِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّانِيَ .
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودِع الْمُودَعِ .
وَقِيلَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مُودِعِ الْمُودَعِ أَنَّ الْمُودَعَ الثَّانِيَ يَقْبِضُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا ، أَمَّا الْمُضَارِبُ الثَّانِي يَعْمَلُ فِيهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا .
ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ

بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الثَّانِي وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ كَمَا فِي الْمُودَعِ وَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ .
وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ ضَمِنَهُ ابْتِدَاءً ، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلثَّانِي وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى لِأَنَّ الْأَسْفَلَ يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ وَلَا خُبْثَ فِي الْعَمَلِ ، وَالْأَعْلَى يَسْتَحِقُّهُ بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ خُبْثٍ .

( بَابُ الْمُضَارِبِ يُضَارِبُ ) مُضَارَبَةُ الْمُضَارِبِ مُرَكَّبَةٌ ، فَأَخَّرَهَا عَنْ الْمُفْرَدَةِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي مُوجِبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ ؛ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ بِالدَّفْعِ وَلَا بِتَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ الثَّانِي حَتَّى يَرْبَحَ ، فَالْمُوجِبُ هُوَ حُصُولُ الرِّبْحِ ، فَإِنْ رَبِحَ الثَّانِي ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِرَبِّ الْمَالِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : إذَا عَمِلَ بِهِ ضَمِنَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ : ضَمِنَ بِالدَّفْعِ ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ هُوَ الدَّفْعُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيدَاعِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ بِغَيْرِهِ ، وَدَفْعُ الْمُضَارِبِ مُضَارَبَةً لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْإِيدَاعِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَهُمَا أَنَّ دَفْعَهُ إيدَاعٌ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالْعَمَلِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَهُ مُرَاعًى : أَيْ مَوْقُوفًا إنْ عَمِلَ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ إيدَاعٌ ، وَبَعْدَهُ إبْضَاعٌ ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِمَا لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ بِهِمَا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِاشْتِرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ ، وَفِي ذَلِكَ إتْلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِالرِّبْحِ أَوْ الْعَمَلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ لِيَتَنَاوَلَ كُلًّا مِنْهُمَا فَإِنَّ الْأُولَى إذَا كَانَتْ فَاسِدَةً أَوْ الثَّانِيَةَ أَوْ كِلْتَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَضْمَنْ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الثَّانِيَ أُجْبِرَ فِيهِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ الْأُولَى فَاسِدَةً لَمْ يُتَصَوَّرْ جَوَازُ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ

مَبْنَاهَا عَلَى الْأُولَى فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّقْسِيمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَازِ الثَّانِيَةِ حِينَئِذٍ مَا يَكُونُ جَائِزًا بِحَسَبِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِلثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الرِّبْحِ وَمِائَةٌ مَثَلًا وَلِلثَّانِي نِصْفُهُ ( قَوْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّانِيَ وَقِيلَ ) اخْتِيَارًا مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ ( يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودَعِ الْمُودَعِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( بِإِجْمَاعِ ) أَصْحَابِنَا وَ ) هَذَا الْقَوْلُ ( هُوَ الْمَشْهُورُ ) مِنْ الْمَذْهَبِ ( وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُ ) لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ مُودَعِ الْمُودَعِ ( وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُودَعَ الثَّانِيَ يَقْبِضُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَا يَضْمَنُ وَالْمُضَارِبُ الثَّانِي يَعْمَلُ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ) مِنْ حَيْثُ شَرِكَتُهُ فِي الرِّبْحِ ( فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ ) الثَّانِيَةُ ( لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْمُخَالَفَةِ بِالدَّفْعِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ ) أَيْ بِسَبَبِهِ ( لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ ( كَمَا فِي الْمُودَعِ ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَلَامَهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَهَاهُنَا قَالَ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ .
وَأُجِيبَ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِيَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ شَرِكَتِهِ فِي الرِّبْحِ وَعَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي

الِابْتِدَاءِ مُودَعٌ وَعَمَلُ الْمُودَعِ وَهُوَ الْحِفْظُ لِلْمُودِعِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُهُ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَقُلْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ ( وَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ ) فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ غَرَّهُ وَالثَّانِي اعْتَمَدَ قَوْلَهُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمَغْرُورُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ ( وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ ) الثَّانِيَةُ ( وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ، لِأَنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ ضَمِنَهُ ابْتِدَاءً ، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلثَّانِي وَلَا يَطِيبُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ وَلَا خُبْثَ فِيهِ وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّهُ بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ خُبْثٍ ) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ .

قَالَ ( فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَذِنَ لَهُ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَدَفَعَهُ بِالثُّلُثِ وَقَدْ تَصَرَّفَ الثَّانِي وَرَبِحَ ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي الثُّلُثُ وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ السُّدُسُ ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً قَدْ صَحَّ لِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ وَرَبُّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ إلَّا النِّصْفُ فَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفُهُ إلَى نَصِيبِهِ وَقَدْ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْجَمِيعِ لِلثَّانِي فَيَكُونُ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّدُسُ ، وَيَطِيبُ لَهُمَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي وَاقِعٌ لِلْأَوَّلِ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ( وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَك اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ ) لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رُزِقَ الْأَوَّلُ وَقَدْ رُزِقَ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ فَافْتَرَقَا ( وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ فَمَا رَبِحْت مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ وَقَدْ دَفَعَ إلَى غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ فَلِلثَّانِي النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّهُ .
وَقَدْ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَبِحَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَرْبَحْ إلَّا النِّصْفُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ( وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِي نِصْفُهُ أَوْ قَالَ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ وَقَدْ دَفَعَ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَلِرَبِّ

الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مُطْلَقِ الْفَضْلِ فَيَنْصَرِفُ شَرْطُ الْأَوَّلِ النِّصْفَ لِلثَّانِي إلَى جَمِيعِ نَصِيبِهِ فَيَكُونُ لِلثَّانِي بِالشَّرْطِ وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِيَخِيطَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِمِثْلِهِ ( وَإِنْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي ثُلُثَيْ الرِّبْحِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي النِّصْفُ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي سُدُسَ الرِّبْحِ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّهُ شَرَطَ لِلثَّانِي شَيْئًا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْطَالِ ، لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا فِي عَقْدٍ يَمْلِكُهُ وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ سَبَبُ الرُّجُوعِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَدَفَعَهُ إلَى مَنْ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ .قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ إلَخْ ) هَذِهِ الْمَسَائِلُ إلَى آخِرِهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى شَرْحٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ يَطِيبُ لَهُمَا ذَلِكَ : أَيْ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الثُّلُثُ وَالسُّدُسُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ بَاشَرَ الْعَقْدَيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْضَعَ الْمَالَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ أَبْضَعَهُ رَبُّ الْمَالِ حَتَّى رَبِحَ كَانَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ طَيِّبًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا إذَا قَالَ الْآخَرُ هَذَا الطَّرِيقُ آمِنٌ فَاسْلُكْهُ وَلَمْ يَكُنْ آمِنًا فَسَلَكَهُ فَقُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ وَأُخِذَ مَالُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .

( وَإِذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ وَلِنَفْسِهِ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً خُصُوصًا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إذْنٌ لَهُ ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ أَخْذِ مَا أَوْدَعَهُ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعِ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ يَكُونُ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَالثُّلُثَانِ لِلْمَوْلَى ، لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ .
هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْمَوْلَى ، وَلَوْ عَقَدَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ وَشَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَ لِلْمُضَارِبِ بَعْدَ إدْخَالِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ رَبِّ الْمَالِ حُكْمُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَقَالَ ( وَإِذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ مَعَهُ وَلِنَفْسِهِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ ) فَقَوْلُهُ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْئَانِ : عَبْدُ الْمُضَارِبِ ، وَالْأَجْنَبِيُّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاحْتِرَازٍ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ حُكْمَ عَبْدِ الْمُضَارِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ الثَّانِي ، فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ صَحَّ الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ جَمِيعًا وَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَعَمِلَ الْأَجْنَبِيُّ مَعَهُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الْأَوَّلِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ الْمَشْرُوطُ لِلْأَجْنَبِيِّ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ، لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِضَمَانِ الْعَمَلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .
وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ مَعَهُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحَّ الشَّرْطُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ عَبْدَ الْمُضَارِبِ أَوْ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ فِي حَقِّهِ جَعَلْنَاهُ شَرْطًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ، لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطٌ لِلْعَبْدِ شَرْطٌ لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدَ الْمُضَارِبِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ ، وَالْمَشْرُوطُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا الشَّرْطِ لِلْعَبْدِ وَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ لِلْمُضَارِبِ ،

لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ فَالْمَشْرُوطُ لِرَبِّ الْمَالِ بِلَا خِلَافٍ ، وَأَمَّا إذَا شَرَطَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ صَرِيحًا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَا سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ( لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إذْنٌ لَهُ ، وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً ( لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ أَخْذِ مَا أَوْدَعَهُ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْيَدِ مُعْتَبَرَةً خُصُوصًا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ ( يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَدْيُونًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَإِذَا كَانَ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ ) وَالشَّرْطُ ( يَكُونُ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَالثُّلُثَانِ لِلْمَوْلَى ، لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْمَوْلَى ، وَلَوْ عَقَدَ الْمَأْذُونُ لَهُ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْمُضَارِبُ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ ، وَكَذَا مَوْتُ الْوَكِيلِ وَلَا تُورَثُ الْوَكَالَةُ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .فَصْلٌ فِي الْعَزْلِ وَالْقِسْمَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحِ آلَ الْأَمْرُ إلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَهُ وَهُوَ عَزْلُ الْمُضَارِبِ وَقِسْمَةُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْمُضَارِبُ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ إلَخْ ) إذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْمُضَارِبُ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَبِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ عِنْدَ الْمُضَارِبِ بَعْدَمَا اشْتَرَى شَيْئًا ، كَالْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، ثُمَّ لَوْ هَلَكَ بَعْدَمَا أَخَذَهُ ثَانِيًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَانْعَزَلَ إذَا عَزَلَهُ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَمَا اشْتَرَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضًا كَمَا فِي الْوَكِيلِ إذَا عَلِمَ بِهِ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا عَادَ الْمُضَارِبُ عَلَى مُضَارَبَتِهِ إذَا لَحِقَ رَبُّ الْمَالِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا كَالْوَكِيلِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ سَيَأْتِي .

( وَإِنْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْإِسْلَامِ ) وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ( وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ) ( بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ) لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَقَبْلَ لُحُوقِهِ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ مُضَارِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لَهُ فَصَارَ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ ( وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا ) لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً ، وَلَا تُوقَفُ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ .

( وَإِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ) : يَعْنِي إذَا لَمْ يَعُدْ مُسْلِمًا ، أَمَّا إذَا عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَكَانَتْ الْمُضَارَبَةُ كَمَا كَانَتْ ، أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِحَقِّ الْمُضَارِبِ كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً ، وَأَمَّا قَبْلَ لُحُوقِهِ فَيَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ لِرَبِّ الْمَالِ فَكَانَ كَتَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ وَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ ، فَكَذَا تَصَرُّفُ مَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً ، لِأَنَّ صِحَّتَهَا بِالْآدَمِيَّةِ وَالتَّمْيِيزِ وَلَا خَلَلَ فِي ذَلِكَ ، وَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ مَبْنَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَتَوَقَّفَ تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ ، وَلَا تَوَقُّفَ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمْ بِهِ فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ ، خَلَا أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ فِي الْعُهْدَةِ فِيمَا بَاعَ وَاشْتَرَى يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعُهْدَةِ يَتَوَقَّفُ بِرِدَّتِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ لَقُضِيَ مِنْ مَالِهِ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِيهِ ، فَكَانَ كَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إذَا تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حَالَتُهُ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَهِيَ فِيهِ قَبْلَهَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ .

قَالَ ( فَإِنْ عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ حَتَّى اشْتَرَى وَبَاعَ فَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ قَصْدًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ ( وَإِنْ عَلِمَ بِعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ مِنْ ذَلِكَ ) لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الرِّبْحِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ تُبْتَنَى عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْبَيْعِ .
قَالَ ( ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا شَيْئًا آخَرَ ) لِأَنَّ الْعَزْلَ إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ ضَرُورَةَ مَعْرِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ حَيْثُ صَارَ نَقْدًا فَيَعْمَلُ الْعَزْلُ ( فَإِنْ عَزَلَهُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ نَضَّتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إعْمَالِ عَزْلِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الرِّبْحِ فَلَا ضَرُورَةَ .
قَالَ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِهِ وَصَارَ كَالْعُرُوضِ ، وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا .
قَالَ ( وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَالرِّبْحُ كَالْأَجْرِ لَهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاقْتِضَاءُ ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ ، ( وَيُقَالُ لَهُ وَكِّلْ رَبَّ الْمَالِ فِي الِاقْتِضَاءِ ) لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْكِيلِهِ وَتَوَكُّلِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ حَقُّهُ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : يُقَالُ لَهُ أَجِّلْ مَكَانَ قَوْلِهِ وَكِّلْ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَكَالَةُ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْوَكَالَاتِ وَالْبَيَّاعُ

وَالسِّمْسَارُ يُجْبَرَانِ عَلَى التَّقَاضِي لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَجْرٍ عَادَةً .

قَالَ ( فَإِنْ عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ إلَخْ ) إذَا عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى وَبَاعَ جَازَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ ، وَعَزْلُ الْوَكِيلِ قَصْدًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ ، وَإِذَا عَلِمَ بِعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ عَنْ ذَلِكَ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً حَتَّى لَوْ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ نَسِيئَةً لَمْ يَعْمَلْ بِنَهْيِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الرِّبْحِ بِمُقْتَضَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالْقِسْمَةِ وَالْقِسْمَةُ تَبْتَنِي عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بِتَمْيِيزِهِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ إنَّمَا يَنِضُّ : أَيْ يَتَيَسَّرُ وَيَحْصُلُ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ إذَا بَاعَ شَيْئًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ شَيْئًا آخَرَ ، لِأَنَّ الْعَزْلَ إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ ضَرُورَةً مَعْرِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ حَيْثُ صَارَ نَقْدًا فَيَعْمَلُ ، وَإِنْ عَزَلَهُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَقَدْ نَضَّتْ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إعْمَالِ عَزْلِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الرِّبْحِ لِظُهُورِهِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ الْأَعْمَالِ ، قَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِهِ وَصَارَ كَالْعُرُوضِ ( قَوْلُهُ عَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعَزْلَ الْحُكْمِيَّ كَالْقَصْدِيِّ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ .
فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَصِحَّ الْعَزْلُ الْقَصْدِيُّ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمِيُّ ، لِأَنَّ عَدَمَ عَمَلِ الْعَزْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمُضَارِبِ ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَزْلَيْنِ ( وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَأَجْرُهُ الرِّبْحُ ، وَإِنْ لَمْ

يَرْبَحْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ ) حِينَئِذٍ وَالْوَكِيلُ مُتَبَرِّعٌ ( وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ ) فَإِنْ قِيلَ : رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ كَالْمُودَعِ ( فَيُقَالُ لَهُ وَكَّلَ رَبُّ الْمَالِ فِي الِاقْتِضَاءِ ) فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ زَالَتْ يَدُهُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ( لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَيْهِ ) فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْ يُضَيِّعْ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَالُ لَهُ أَجِّلْ مَكَانَ قَوْلِهِ وَكِّلْ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَكَالَةُ ) فَكَانَ فِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً ، وَمُجَوِّزُهَا مَعْرُوفٌ وَهُوَ اشْتِمَالُهَا عَلَى النَّقْلِ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَجِّلْ رُبَّمَا يُوهِمُ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُضَارِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْوَكَالَاتِ ) يَعْنِي الْوَكِيلُ إذَا بَاعَ وَانْعَزَلَ يُقَالُ لَهُ وَكَّلَ الْمُوَكِّلُ بِالِاقْتِضَاءِ ( وَ ) أَمَّا ( الْبَيَّاعُ وَالسِّمْسَارُ ) وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِلْغَيْرِ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً فَإِنَّهُمَا ( يُجْبَرَانِ عَلَى التَّقَاضِي لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِالْأَجْرِ عَادَةً ) وَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ أَجْرُهُ أُجْبِرَ عَلَى تَمَامِ عَمَلِهِ وَاسْتِئْجَارُهُ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ فَسَادٍ ، لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى شِرَاءِ شَيْءٍ فَقَدْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ الْبَائِعِ عَلَى بَيْعِهِ وَقَدْ لَا يُسَاعِدُهُ ، وَقَدْ يَتِمُّ بِكَلِمَةٍ وَقَدْ لَا يَتِمُّ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ فَكَانَ فِيهِ نَوْعُ جَهَالَةٍ .
وَالْأَحْسَنُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَجْرًا فَيَكُونُ وَكِيلًا مُعَيَّنًا لَهُ ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ عُوِّضَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ

أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .

قَالَ ( وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ ) لِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ وَصَرْفُ الْهَلَاكِ إلَى مَا هُوَ التَّبَعُ أَوْلَى كَمَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ فِي الزَّكَاةِ ( فَإِنْ زَادَ الْهَالِكُ عَلَى الرِّبْحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ ( وَإِنْ كَانَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ تَرَادَّا الرِّبْحَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ ) لِأَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَا تَصِحُّ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَبَعٌ لَهُ ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَمَانَةً تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَوْفَيَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مَا اسْتَوْفَاهُ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ( وَإِذَا اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ رِبْحٌ وَإِنْ نَقَصَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ ) لِمَا بَيَّنَّا

قَالَ ( وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ إلَخْ ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ رَأْسَ مَالِهِ } فَكَذَا الْمُؤْمِنُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ نَوَافِلُهُ حَتَّى تُسَلَّمَ لَهُ عَزَائِمُهُ ، أَوْ قَالَ فَرَائِضُهُ ، وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَصْلٌ وَالرِّبْحُ تَبَعٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ قَبْلَ حُصُولِ الْأَصْلِ ، فَمَتَى هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ اُسْتُكْمِلَ مِنْ التَّبَعِ ، فَإِذَا زَادَ الْهَلَاكُ عَلَى الرِّبْحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَإِنْ اقْتَسَمَاهُ تَرَادَّا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُفِيدُ مِلْكًا مَوْقُوفًا إنْ بَقِيَ مَا أُعِدَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ إلَى وَقْتِ الْفَسْخِ كَانَ مَا أَخَذَهُ كُلٌّ مِنْهُ مِلْكًا لَهُ ، وَإِنْ هَلَكَ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْسُومَ رَأْسُ الْمَالِ

( وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَفَسَخَا الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ عَقَدَاهَا فَهَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ الْأَوَّلَ ) لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَالثَّانِيَةَ عَقْدٌ جَدِيدٌ ، وَهَلَاكُ الْمَالِ فِي الثَّانِي لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا آخَرَ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَنْتَظِمُهُ إطْلَاقُ الْعَقْدِ إلَّا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ لَا يَبِيعُ التُّجَّارُ إلَيْهِ لِأَنَّ لَهُ الْأَمْرَ الْعَامَّ الْمَعْرُوفَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَفِينَةً لِلرُّكُوبِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ .
وَلَوْ بَاعَ بِالنَّقْدِ ثُمَّ أَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقَايِلَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ ثُمَّ الْبَيْعَ بِالنَّسَاءِ .
بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ .
وَلَوْ احْتَالَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ أَوْ الْأَعْسَرِ جَازَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَحْتَالُ بِمَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَنْظَرُ ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَتَوَابِعِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ لِأَنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالْإِيدَاعُ وَالْإِبْضَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَمْلِكُهُ إذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك ، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فَيَلْحَقَ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَفْعِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ شَرِكَةً إلَى غَيْرِهِ

وَخَلْطِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِشَرِكَتِهِ لَا بِشَرِكَةِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ جِهَةٌ فِي التَّثْمِيرِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُوَافِقُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ .
وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَا بِقَوْلِهِ اعْمَلْ بِرَأْيِك إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ الِاسْتِدَانَةُ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَعْدَمَا اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ السِّلْعَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَالُ زَائِدًا عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَأَخَذَ السَّفَاتِجَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِدَانَةِ ، وَكَذَا إعْطَاؤُهَا لِأَنَّهُ إقْرَاضٌ وَالْعِتْقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِ مَالٍ وَالْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْإِقْرَاضُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ .

( فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ إلَخْ ) : ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوَّلِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُضَارَبَةِ زِيَادَةً لِلْإِفَادَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَقْصُودِيَّةِ أَفْعَالِ الْمُضَارَبَةِ بِالْإِعَادَةِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ إلَخْ ) مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ يَتَنَاوَلُهُ إطْلَاقُ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُضَارِبُ وَمَا لَا فَلَا ، فَجَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، إلَّا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ لَا يَبِيعُ التُّجَّارُ إلَيْهِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : بِأَنْ بَاعَ إلَى عَشْرِ سِنِينَ لِخُرُوجِهِ حِينَئِذٍ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَفِينَةً لِلرُّكُوبِ .
قِيلَ هَذَا فِي مُضَارِبٍ خَاصٍّ كَالطَّعَامِ مَثَلًا ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُخَصَّ كَانَ لَهُ شِرَاءُ السَّفِينَةِ وَالدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى طَعَامًا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ لِلرُّكُوبِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ لِلْحَمْلِ فَهُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا : أَيْ السَّفِينَةَ وَالدَّوَابَّ مُطْلَقًا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى طَعَامًا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ صَنِيعِهِمْ .
وَقَيَّدَ بِالْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ ابْنَ رُسْتُمَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ ، وَلَوْ بَاعَ نَقْدًا ثُمَّ أَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ ذَلِكَ ، فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ لِكَوْنِهِ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ أَوْ بِعَرْضِيَّةِ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ كَمَا تَقَدَّمَ ،

وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَ الْعَقْدَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، فَجُعِلَ تَأْجِيلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَالْبَيْعِ نَسِيئَةً ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالْبَيْعَ نَسِيئَةً بَعْدَمَا بَاعَ مَرَّةً لِانْتِهَاءِ وَكَالَتِهِ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالْبَيْعَ نَسِيئَةً كَمَا قَالَاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ الْمُضَارِبُ بِالْحَوَالَةِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَعْسَرَ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ أَقَالَ الْعَقْدَ مَعَ الْأَوَّلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ جَازَ ، فَكَذَا إذَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ وَلِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَحْتَالُ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ نَظَرِيٌّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَيْسَرَ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْلَ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .

قَالَ ( وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَهْرَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْعَقْدُ لَا يَتَضَمَّنُ إلَّا التَّوْكِيلَ بِالتِّجَارَةِ وَصَارَ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ اكْتِسَابٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تِجَارَةً لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ فَكَذَا هَذَا .ثُمَّ قَالَ ( وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ) لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْعَقْدُ لَا يَتَضَمَّنُ إلَّا التَّوْكِيلَ بِهَا ( وَجَوَّزَ أَبُو يُوسُفَ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ ) بِلُزُومِ الْمَهْرِ وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَسْبٌ فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ) وَقَالَ زُفَرُ : تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِيهِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً .
وَلَنَا أَنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ قَدْ تَمَّتْ وَصَارَ التَّصَرُّفُ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ فَيَصْلُحُ رَبُّ الْمَالِ وَكِيلًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالْإِبْضَاعُ تَوْكِيلٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِرْدَادًا ، بِخِلَافِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً عَلَى مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَعَمَلِ الْمُضَارِبِ وَلَا مَالَ هَاهُنَا ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ يُؤَدِّي إلَى قَلْبِ الْمَوْضُوعِ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى .

قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى رَبِّ الْمَالِ إلَخْ ) فَإِنْ دَفَعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ لَمْ تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ ، خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ تَصَرَّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فَيَكُونُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَالِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً .
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَقَدْ تَمَّتْ فَصَارَ التَّصَرُّفُ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ .
وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَرَبُّ الْمَالِ صَالِحٌ لِذَلِكَ ، وَالْإِبْضَاعُ تَوْكِيلٌ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ ، وَلَمَّا صَحَّ اسْتِعَانَةُ الْمُضَارِبِ بِالْأَجْنَبِيِّ فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَشْفَقَ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَكُونُ اسْتِرْدَادًا ، بِخِلَافِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : رَبُّ الْمَالِ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَعْمَلُ فِي مَالِ غَيْرِهِ بَلْ فِي مَالِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمَالِ فَجَازَ تَوْكِيلُهُ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً عَلَى مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَعَمَلِ الْمُضَارِبِ وَلَا مَالَ هَاهُنَا ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لِآدَمِيٍّ إلَى قَلْبِ الْمَوْضُوعِ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : رَبُّ الْمَالِ إمَّا أَنْ يَصِيرَ بِالتَّخْلِيَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزْ الْإِبْضَاعُ ، فَالْقِيَاسُ شُمُولُ الْجَوَازِ وَعَدَمُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ .
قَوْلُهُ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ .
قُلْنَا : مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الْمَالَ لِلدَّافِعِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، بِخِلَافِ الْبِضَاعَةِ فَإِنَّهَا

تَوْكِيلٌ عَلَى مَا مَرَّ وَلَيْسَ الْمَالُ مِنْ لَوَازِمِهِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَيْسَ الْمَالُ لَهُ ( وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ ) الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ ( بَقِيَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى ) وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْإِبْضَاعِ بِبَعْضِ الْمَالِ حَيْثُ قَالَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْضًا أَوْ كُلًّا ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ ، وَقَيَّدَ بِدَفْعِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَخَذَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَنْزِلِ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِهِ أَمْرٍ وَبَاعَ وَاشْتَرَى ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا فَقَدْ نَقَضَ الْمُضَارَبَةَ ، إذْ الِاسْتِعَانَةُ مِنْ الْمُضَارِبِ لَمْ تُوجَدْ حَيْثُ لَا دَفْعَ مِنْهُ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ انْتِقَاضُ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ عَرْضًا لَا يَكُونُ نَقْضًا لِأَنَّ النَّقْضَ الصَّرِيحَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرْضًا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا فَهَذَا أَوْلَى .

قَالَ ( وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَتْ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ ، وَإِنْ سَافَرَ فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَكِسْوَتُهُ وَرُكُوبُهُ ) وَمَعْنَاهُ شِرَاءٌ وَكِرَاءٌ فِي الْمَالِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ سَاكِنٌ بِالسُّكْنَى الْأَصْلِيِّ ، وَإِذَا سَافَرَ صَارَ مَحْبُوسًا بِالْمُضَارَبَةِ فَيَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ ، أَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الرِّبْحُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ، فَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَبِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ ، وَبِخِلَافِ الْبِضَاعَةِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ .
قَالَ ( فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا قَدِمَ مِصْرَهُ رَدَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ ) لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهُ دُونَ السَّفَرِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَغْدُو ثُمَّ يَرُوحُ فَيَبِيتُ بِأَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّوقِيِّ فِي الْمِصْرِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبِيتُ بِأَهْلِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْمُضَارَبَةِ ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ مَا يُصْرَفُ إلَى الْحَاجَةِ الرَّاتِبَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْ ذَلِكَ غَسْلُ ثِيَابِهِ وَأُجْرَةُ أَجِيرٍ يَخْدُمُهُ وَعَلَفُ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا وَالدُّهْنُ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَادَةً كَالْحِجَازِ ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَضْمَنَ الْفَضْلَ إنْ جَاوَزَهُ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ بَيْنَ التُّجَّارِ .
قَالَ ( وَأَمَّا الدَّوَاءُ فَفِي مَالِهِ ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لِإِصْلَاحِ بَدَنِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التِّجَارَةِ إلَّا بِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ وَإِلَى الدَّوَاءِ بِعَارِضِ الْمَرَضِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ

الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَدَوَاؤُهَا فِي مَالِهَا .
قَالَ ( وَإِذَا رَبِحَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ بَاعَ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً حَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَتَاعِ مِنْ الْحِمْلَانِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يَحْتَسِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمَالِيَّةِ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَالثَّانِيَ لَا يُوجِبُهَا .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَّرَهَا أَوْ حَمَلَهَا بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ) لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ هَذَا الْمَقَالُ عَلَى مَا مَرَّ ( وَإِنْ صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ حَتَّى إذَا بِيعَ كَانَ لَهُ حِصَّةُ الصَّبْغِ وَحِصَّةُ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِخِلَافِ الْقِصَارَةِ وَالْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ ، وَلِهَذَا إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ ضَاعَ وَلَا يَضِيعُ إذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ ، وَإِذَا صَارَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك انْتِظَامَهُ الْخُلْطَةَ فَلَا يَضْمَنُهُ .

قَالَ ( وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ إلَخْ ) فَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الِاحْتِبَاسِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ وَذَلِكَ وَاضِحٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ .
وَالْمُسْتَبْضِعُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لِمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُ هَؤُلَاءِ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ فِيمَا إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ لِأَجْلِ الْعُرْفِ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَبْضِعِ بِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْأَجِيرِ بِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِبَدَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ ، أَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الرِّبْحُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ، فَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ حُكْمُ الْإِجَارَةِ ، وَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا لِلنَّفَقَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَقَدِمَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ رَدَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا فَضَلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ ، وَجُعِلَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَغْدُو ثُمَّ يَرُوحُ فَيَبِيتُ بِأَهْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّوقِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إذْ ذَاكَ لَهَا وَالنَّفَقَةُ مَا تُصْرَفُ إلَى الْحَاجَةِ الرَّاتِبَةِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَكِسْوَتِهِ وَرُكُوبِهِ شِرَاءً أَوْ كِرَاءً كُلُّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ .
وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ مُعَدَّاتٍ تُكْثِرُ تَثْمِيرَ الْمَالِ كَغَسْلِ الثِّيَابِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْخَادِمِ وَالْحَلَّاقِ وَعَلَفِ الدَّابَّةِ وَالدُّهْنِ فِي مَوْضِعٍ

يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ كَالْحِجَازِ ، فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا كَانَ طَوِيلَ الشَّعْرِ وَسِخَ الثِّيَابِ مَاشِيًا فِي حَوَائِجِهِ يُعَدُّ مِنْ الصَّعَالِيكِ وَيَقِلُّ مُعَامِلُوهُ فَصَارَ مَا بِهِ تَكْثُرُ الرَّغَبَاتُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ ، وَالدَّوَاءُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا رَبِحَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ إلَخْ ) يُرِيدُ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ كَامِلًا فَتَكُونُ النَّفَقَةُ مَصْرُوفَةً إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ كَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ، فَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْمَتَاعَ بَعْدَمَا أَنْفَقَ مُرَابَحَةً حَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَتَاعِ مِنْ الْحِمْلَانِ وَنَحْوِهِ كَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ ، وَلَا يَحْسِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَرَهَا أَوْ حَمَلَهَا بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا الْمَقَالُ لَا يَنْتَظِمُهُ كَمَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بَعْدَمَا مَرَّ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ كَالْحُمْرَةِ إلَّا السَّوَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنٌ قَائِمٌ بِالثَّوْبِ فَكَانَ شَرِيكًا بِخَلْطِ مَالِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ .
وَقَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك يَنْتَظِمُهُ ، فَإِذَا بِيعَ الثَّوْبُ كَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الصَّبْغِ يَقْسِمُ ثَمَنَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا عَلَى قِيمَتِهِ مَصْبُوغًا وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ فَمَا بَيْنَهُمَا حِصَّةُ الصَّبْغِ إنْ بَاعَهُ مُسَاوَمَةً ، وَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً قَسَمَ الثَّمَنَ هَذَا عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى الْمُضَارِبُ الثَّوْبَ بِهِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فَمَا

بَيْنَهُمَا حِصَّةُ الصَّبْغِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، بِخِلَافِ الْقَصَارَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ وَلَمْ يَزِدْ بِهِ شَيْءٌ ، وَلِهَذَا إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فَازْدَادَ الْقِيمَةُ بِهِ ضَاعَ فِعْلُهُ وَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ مَجَّانًا ، وَإِذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ لَمْ يَضَعْ بَلْ يَتَخَيَّرُ رَبُّ الثَّوْبِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لَا يَوْمَ الِاتِّصَالِ بِثَوْبِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ يَوْمَ صَبْغِهِ وَتَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ كَذَلِكَ فَالْمُضَارِبُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُضَارِبُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّبْغِ كَانَ بِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ كَالْغَاصِبِ بِلَا تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُضَارِبٍ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْخَلْطَ وَبِالصَّبْغِ اخْتَلَطَ مَالُهُ بِمَالِ الْمُضَارِبِ فَصَارَ شَرِيكًا فَلَمْ يَكُنْ غَاصِبًا فَلَا يَضْمَنُ ، وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا قِيلَ الْمُضَارِبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِهَذَا الْفِعْلِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا وَقَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ كَالْغَاصِبِ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ غَاصِبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمَالِكِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ .

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا بَزًّا فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهُمَا حَتَّى ضَاعَا يَغْرَمُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُضَارِبُ خَمْسَمِائَةٍ وَيَكُونُ رُبْعُ الْعَبْدِ لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ) قَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ حَاصِلُ الْجَوَابِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ إذْ هُوَ الْعَاقِدُ ، إلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَضَّ الْمَالُ ظَهَرَ الرِّبْحُ وَلَهُ مِنْهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا صَارَ مُشْتَرِيًا رُبْعَهُ لِنَفْسِهِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِلْمُضَارَبَةِ عَلَى حَسَبِ انْقِسَامِ الْأَلْفَيْنِ ، وَإِذَا ضَاعَتْ الْأَلْفَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ وَيَخْرُجُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الرُّبْعُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي الْمُضَارَبَةَ ( وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ ) لِأَنَّهُ دَفَعَ مَرَّةً أَلْفًا وَمَرَّةً أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ( وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَلْفَيْنِ ) لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا بِيعَ الْعَبْدُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ يَرْفَعُ رَأْسَ الْمَالِ وَيَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَهُ إيَّاهُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ) لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ بِجَوَازِهِ لِتَغَايُرِ الْمَقَاصِدِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ بِيعَ مِلْكُهُ بِمِلْكِهِ إلَّا

أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ ، وَمَبْنَى الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ فَاعْتُبِرَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ وَهُوَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ .

( فَصْلٌ آخَرُ ) هَذِهِ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْمُضَارَبَةِ فَذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ) مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاضِحٌ ، وَمَبْنَاهُ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ رَبِّ الْمَالِ لِلْبَائِعِ بِسَبَبِ هَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَانِعٍ لَهَا ، فَالْمَضْمُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ، وَضَمَانُ الْمُضَارِبِ لِلْبَائِعِ بِسَبَبِ هَلَاكِهِ مَانِعٌ عَنْهَا .
وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهَا بَزًّا فَهُوَ مُضَارَبَةٌ ، فَإِذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ظَهَرَتْ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ ، فَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفَيْنِ وَقَعَ رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ رُبْعَ الثَّمَنِ لَهُ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ فَإِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ صَارَ غُرْمُ الرُّبْعِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَالْبَاقِي عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَإِذَا غَرِمَ الْمُضَارِبُ رُبْعَ الثَّمَنِ مَلَكَ رُبْعَ الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا مَلَكَ رُبْعَهَا خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُضَارَبَةِ عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَيَكُونُ الضَّمَانُ مُنَافِيًا لَهَا .
وَلَوْ أَبْقَيْنَا نَصِيبَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لَأَبْطَلْنَا مَا غَرِمَ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَأْسَ الْمَالِ فَيَصِيرُ مُضَارِبًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ .
ثُمَّ لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ صَارَ رُبْعُ الثَّمَنِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَذَلِكَ أَلْفٌ وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، لِأَنَّ ضَمَانَ رَبِّ الْمَالِ يُلَائِمُ الْمُضَارَبَةَ وَلَا يَضِيعُ مَا يَضْمَنُ بَلْ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ) مَعْنَاهُ وَاضِحٌ ، وَقَوْلُهُ ( لِتَغَايُرِ الْمَقَاصِدِ ) لِأَنَّ مَقْصُودَ رَبِّ الْمَالِ

وُصُولُهُ إلَى الْأَلْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ ، وَمَقْصُودُ الْمُضَارِبِ اسْتِفَادَةُ الْيَدِ عَلَى الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ ) أَيْ عَدَمِ الْجَوَازِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِهِ عَنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ عَبْدٌ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ أَلْفًا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ فَاعْتُبِرَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ كَثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْأَكْثَرُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ بِمَالِهِ

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْفِدَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرُبْعُهُ عَلَى الْمُضَارِبِ ) لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَقَدْ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَالُ عَيْنًا وَاحِدًا ظَهَرَ الرِّبْحُ وَهُوَ أَلْفٌ بَيْنَهُمَا وَأَلْفٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفَانِ ، وَإِذَا فَدَيَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ ، أَمَّا نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَلِقَضَاءِ الْقَاضِي بِانْقِسَامِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْقِسْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِسْمَةِ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِمَا بِالْجِنَايَةِ ، وَدَفْعُ الْفِدَاءِ كَابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا لَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَخْدُمُ الْمُضَارِبَ يَوْمًا وَرَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .

( قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً ) كَانَ الدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ إلَيْهِمَا ، فَإِنْ دَفَعَاهُ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ فَدَيَاهُ ( فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْفِدَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرُبْعُهُ عَلَى الْمُضَارِبِ ، لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَكَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَمَّا صَارَ عَيْنًا وَاحِدًا ظَهَرَ الرِّبْحُ وَهُوَ أَلْفٌ بَيْنَهُمَا ) وَلِهَذَا عَتَقَ الرُّبْعُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبَهُ ( وَأَلْفٌ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ ) وَقَيَّدَ الْعَيْنَ بِالْوَحْدَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ عَيْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ( فَإِذَا فَدَيَاهُ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ ، أَمَّا نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ ) أَنَّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ أَمَانَةً وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَمَانَةٌ ( وَأَمَّا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَلِقَضَاءِ الْقَاضِي بِانْقِسَامِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ انْقِسَامَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا ) لِاسْتِخْلَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفِدَاءِ مَا يَخُصُّهُ ( وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْقِسْمَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ) يَعْنِي بِهِ مَا إذَا ضَاعَ الْأَلْفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ لَا تَنْتَهِي الْمُضَارَبَةُ هُنَاكَ ( لِأَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ ) لِكَوْنِهِ الْعَاقِدَ ، وَالدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ لَيْسَ بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالزَّائِلِ ) لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِالْجِنَايَةِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْهَلَاكِ ( فَدَفْعُ الْفِدَاءِ كَابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا خَارِجًا عَنْ الْمُضَارَبَةِ يَخْدُمُ الْمُضَارِبَ يَوْمًا وَرَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ) يُرِيدُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهِيَ

مَا إذَا ضَاعَ الْأَلْفَانِ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ

قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَدْفَعُ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ الثَّمَنَ وَرَأْسُ الْمَالِ جَمِيعُ مَا يَدْفَعُ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ ) لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا ، وَالِاسْتِيفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ وَحُكْمُ الْأَمَانَةِ يُنَافِيهِ فَيَرْجِعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ ، ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْجِعُ مَرَّةً ، وَفِيمَا إذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ الْمَالَ فَهَلَكَ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا ، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثُمَّ لَا يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ .

( فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا وَهَلَكَ قَبْلَ النَّقْدِ إلَى الْبَائِعِ رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ جَمِيعَ مَا يَدْفَعُهُ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ ) وَقَدْ هَلَكَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ دَيْنًا وَهُوَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ( وَ ) بِالْقَبْضِ ثَانِيًا ( لَا يَصِيرُ ) الْمُضَارِبُ ( مُسْتَوْفِيًا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ ) وَقَبْضُ الْمُضَارِبِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بَلْ هُوَ أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَلَا يَجْتَمِعَانِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْعُهْدَةَ بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ ( بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ ) فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ( لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إذَا وَكَّلَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ ) فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمِينًا فِيهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تَعَدٍّ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى قَبْضِ الْأَمَانَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَا جَمِيعًا ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَبَبٌ سِوَى الْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَتَهُ لِإِثْبَاتِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ ، وَلَوْ غَصَبَ أَلْفًا فَضَارَبَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ وَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ كَانَ كَصُورَةِ الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ مَا يَنْفِيهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا وَالدَّلِيلُ إمْكَانُ ذَلِكَ وَالْإِمْكَانُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ

عَنْهُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ دَفْعُ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُسْتَوْفِيًا لَبَطَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى أَصْلًا ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَضُرُّ الْمُضَارِبَ فَاخْتَرْنَا أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فَضَرَرُهُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ غَصَبَ أَلْفًا إلَخْ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ رِوَايَةٌ تُحْوِجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ ) لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ ، وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَوَّلِ وَيَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا ، وَفِي الثَّانِي لَا يَرْجِعُ أَصْلًا وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ فَقَالَ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْت أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَا بَلْ دَفَعْت إلَيْك أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَفِي مِثْلِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ ( وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ هِيَ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَ أَلْفًا وَقَالَ فُلَانٌ هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ) لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ أَوْ شَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ أَوْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ أَقْرَضْتنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ وَهُوَ يُنْكِرُ .
وَلَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ وَقَالَ الْآخَرُ مَا سَمَّيْت لِي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ ، وَالتَّخْصِيصُ يُعَارِضُ الشَّرْطَ ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْخُصُوصُ .
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى التَّخْصِيصِ ، وَالْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِحَاجَتِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إلَى

الْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ آخِرَ الشَّرْطَيْنِ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ .

فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ ) أَخَّرَ هَذَا الْفَصْلَ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ فِي الِاخْتِلَافِ وَهُوَ فِي الرُّتْبَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ إلَخْ ) اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ إذَا كَانَ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُضَارِبُ وَمَعَهُ أَلْفَانِ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْت أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَا بَلْ دَفَعْت إلَيْك أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ الْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ كَالْغَاصِبِ أَوْ أَمِينًا كَالْمُودَعِ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِمِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ ، وَإِذَا كَانَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ مَعَ ذَلِكَ : أَيْ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي رَأْسِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَانِ وَالْمَشْرُوطُ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَقَالَ الْمُضَارِبُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ وَالْمَشْرُوطُ نِصْفُهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ : أَيْ فِي الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ : يَعْنِي وَفِي رَأْسِ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ كَمَا كَانَ ، أَمَّا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَلِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَأَمَّا فِي الرِّبْحِ فَلِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ بِضَاعَةً كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ، فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْفَضْلِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْفَضْلِ فِي الرِّبْحِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ ، وَإِذَا كَانَ فِي صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ كَمَا إذَا قَالَ مَنْ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ هِيَ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ

بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَتْ أَلْفًا وَقَالَ فُلَانٌ هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ بِمُقَابَلَةِ الرِّبْحِ وَشَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَهُوَ يُنْكِرُ .
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ هِيَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَمْلِيكَ الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَسَمَّاهُ مُضَارِبًا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقْرَضَهُ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ ، وَلَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْقَرْضَ وَالْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِذْنِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ أَقَامَاهَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ ، أَمَّا إذَا أَنْكَرَ الْخُصُوصَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا يَذْكُرُ ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ إنْكَارَهُ ذَلِكَ نَهْيًا لَهُ عَنْ الْعُمُومِ .
وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْهُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ إذَا ثَبَتَ مِنْهُ الْعُمُومُ نَصًّا فَهَاهُنَا أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي الْعُمُومَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ يَدَّعِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْعُمُومُ وَالتَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ صَحَّ وَمَلَكَ بِهِ جَمِيعَ التِّجَارَاتِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْعُمُومَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ كَالْوَكَالَةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُدَّعِي الْعُمُومِ مُتَمَسِّكًا

بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ .
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْإِذْنُ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِحَاجَتِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إلَى الْبَيِّنَةِ ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ ، وَبِأَنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَيَلْزَمُهَا نَفْيُ الضَّمَانِ فَأَقَامَ الْمُصَنِّفُ اللَّازِمَ مَقَامَ الْمَلْزُومِ كِنَايَةً ، وَبِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ثَابِتٌ بِإِقْرَارِ الْآخَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ ( وَلَوْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ آخِرَ الشَّرْطَيْنِ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ ) وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتَا أَوْ وُقِّتَتَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهِمَا مَعًا لِلِاسْتِحَالَةِ وَعَلَى التَّعَاقُبِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهِمَا تَعْمَلُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ( الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ إذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ } وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى الِاسْتِيدَاعِ ، فَلَوْ ضَمِنَاهُ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُهُمْ .

كِتَابُ الْوَدِيعَةِ ) وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا تَقَدَّمَ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَارِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْعَارِيَّةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لِلتَّنَاسُبِ بِالتَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ لَا تَمْلِيكٌ بِشَيْءٍ .
وَفِي الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ ، وَفِي الْهِبَةِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ ، وَفِي الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ ، وَهِيَ أَعْلَى مِنْ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ وَاللَّازِمُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِمَّا لَيْسَ بِلَازِمٍ .
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا اشْتِمَالُهَا عَلَى بَذْلِ مَنَافِعِ بَدَنِهِ وَمَالِهِ فِي إعَانَةِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِيجَابِهِ الْأَجْرَ وَالثَّنَاءَ عَلَى ذَلِكَ .
وَسَبَبُهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّعَاضُدُ وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا .
وَمَشْرُوعِيَّتهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } بِإِطْلَاقِهِ .
وَتَفْسِيرُهَا لُغَةً التَّرْكُ ، وَسُمِّيَتْ الْوَدِيعَةُ بِهَا لِأَنَّهَا تُتْرَكُ بِيَدِ أَمِينٍ .
وَفِي الِاصْطِلَاحِ التَّسْلِيطُ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ .
وَرُكْنُهَا : أَوْدَعْتُك هَذَا الْمَالَ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُودَعِ حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا ، فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ وَقَالَ هَذَا وَدِيعَةٌ عِنْدَك وَذَهَبَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثُمَّ غَابَ الْآخَرُ وَتَرَكَ الثَّوْبَ ثَمَّةَ فَضَاعَ كَانَ ضَامِنًا ، لِأَنَّ هَذَا قَبُولٌ لِلْوَدِيعَةِ عُرْفًا .
وَشَرْطُهَا : كَوْنُ الْمَالِ قَابِلًا لِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْإِيدَاعَ عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِدُونِ إثْبَاتِ الْيَدِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، فَإِيدَاعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَحُكْمُهَا : كَوْنُ الْمَالِ أَمَانَةً عِنْدَهُ .
قَالَ ( الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعَقْدِ ، وَالْأَمَانَةُ

أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي ثَوْبٍ فَأَلْقَتْهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ حَمْلُ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ ، الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ ( إذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ } ) وَالْغُلُولُ وَالْإِغْلَالُ : الْخِيَانَةُ إلَّا أَنَّ الْغُلُولَ فِي الْمَغْنَمِ خَاصَّةً وَالْإِغْلَالُ عَامٌّ قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَوْلُ شُرَيْحٍ لَيْسَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلِأَنَّ شَرْعِيَّتَهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا ، فَلَوْ ضَمَّنَّا الْمُودَعَ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِهَا ، وَفِي ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ )

قَالَ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ فِي عِيَالِهِ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ حِفْظَ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَى عِيَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَةُ بَيْتِهِ وَلَا اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ فِي خُرُوجِهِ فَكَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ ( فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُمْ ضَمِنَ ) لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ ، وَالْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ ، وَالْوَضْعُ فِي حِرْزِ غَيْرِهِ إيدَاعٌ ، إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ الْحِرْزَ فَيَكُونُ حَافِظًا بِحِرْزِ نَفْسِهِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَيُسَلِّمَهَا إلَى جَارِهِ أَوْ يَكُونَ فِي سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى ) لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَرْتَضِيهِ الْمَالِكُ ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَرُورَةً مُسْقِطَةً لِلضَّمَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِذْنَ فِي الْإِيدَاعِ .

قَالَ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ فِي عِيَالِهِ ) قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُسَاكِنُهُ لَا الَّذِي يَكُونُ فِي نَفَقَةِ الْمُودَعِ فَحَسْبُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُودِعَ عِنْدَهَا شَيْءٌ جَازَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ إلَى زَوْجِهَا ، وَابْنُ الْمُودَعِ الْكَبِيرُ إذَا كَانَ يُسَاكِنُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفَقَتِهِ وَتَرَكَهُ الْأَبُ فِي بَيْتٍ فِيهِ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَضْمَنْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمْ بِمَنْ فِي عِيَالِهِ الْخِيَانَةَ ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَحَفِظَ بِهِمْ ضَمِنَ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُنْهَ عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ ( لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ حِفْظَ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ ) وَهُوَ إنَّمَا يَحْفَظُ مَالَهُ بِمَنْ فِي عِيَالِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ الْوَدِيعَةَ ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ الْعِيَالُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُودَعَ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى وَكِيلِهِ وَهُوَ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ أَوْ دَفَعَ إلَى أَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ فِي مَالِهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ فِي مَالِهِ كَانَ فِي الْوَدِيعَةِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ : أَيْ الْمُودَعَ ( لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَى عِيَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَةُ بَيْتِهِ ) لَا مَحَالَةَ ( وَلَا اسْتِصْحَابَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِ ) وَهَذَا مَعْلُومٌ لِلْمُودَعِ ( فَيَكُونُ رَاضِيًا بِهِ ، فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ ) بِأَنْ تَرَكَ بَيْتًا فِيهِ الْوَدِيعَةُ وَخَرَجَ وَفِيهِ غَيْرُ عِيَالِهِ ( أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُمْ ) بِأَنْ نَقَلَهَا مِنْ بَيْتِهِ وَأَوْدَعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ ( ضَمِنَ ، لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ وَ ) الْحَالُ أَنَّ ( الْأَيْدِيَ تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ ) قِيلَ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَلْتَزِمَ حِفْظَ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْدِعَ مَالَهُ عِنْدَ

غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ إيدَاعَ الْوَدِيعَةِ أَيْضًا ، وَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ الظَّاهِرُ أَنْ يَلْتَزِمَ حِفْظَ مَالِ غَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِيدَاعِ ، لِأَنَّ الْإِيدَاعَ اسْتِحْفَاظٌ لَا حِفْظٌ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ ) قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ النَّقْضِ بِالْمُسْتَعِيرِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ فِعْلِ مَا فُعِلَ بِهِمْ ، وَالْوَعْدُ بِالْجَوَابِ فِي مَظَانِّهَا وَلَا بَأْسَ بِذَكَرِهِ هَاهُنَا إجْمَالًا ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ فَيَمْلِكُ كُلٌّ مِنْهُمَا التَّمْلِيكَ ( وَالْوَضْعُ فِي حِرْزِ الْغَيْرِ إيدَاعٌ ) كَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ( إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ فَيَكُونُ حَافِظًا بِحِرْزِ نَفْسِهِ ) ( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ ضَمِنَ ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْلِيمُ إلَى جَارِهِ أَوْ الْإِلْقَاءُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى طَرِيقًا لِلْحِفْظِ فَيَكُونُ مَرْضِيَّ الْمَالِكِ وَيَنْتَفِي الضَّمَانُ ، لَكِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دَعْوَى ذَلِكَ لِادِّعَائِهِ ضَرُورَةً مُسْقِطَةً لِلضَّمَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالْإِلْقَاءُ فَصَارَ كَدَعْوَى الْإِذْنِ بِالْإِيدَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
وَقَالَ فِي الْمُنْتَقَى : إذَا عَلِمَ احْتِرَاقَ بَيْتِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ يَعْنِي بِلَا بَيِّنَةٍ .

قَالَ ( فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَحَبَسَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ضَمِنَهَا ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِإِمْسَاكِهِ بَعْدَهُ فَيَضْمَنُهُ بِحَبْسِهِ عَنْهُ .قَالَ ( فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَحَبَسَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ضَمِنَهَا إلَخْ ) إذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ وَحَبَسَهَا الْمُودَعُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إذْ الْمُتَعَدِّي هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ الْوَدِيعَةِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْمُودَعُ فَإِذَا طَلَبَهُ لَمْ يَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِمْسَاكِهِ وَقَدْ حَبَسَهُ فَصَارَ ضَامِنًا

قَالَ ( وَإِنْ خَلَطَهَا الْمُودَعُ بِمَالِهِ حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إذَا خَلَطَهَا بِجِنْسِهَا شَرِكَهُ إنْ شَاءَ ) مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ الدَّرَاهِمَ الْبِيضَ بِالْبِيضِ وَالسُّودَ بِالسُّودِ وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ .
لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ صُورَةً وَأَمْكَنَهُ مَعْنًى بِالْقِسْمَةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَلَهُ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لَهَا ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْخَالِطَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَخْلُوطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي الدَّيْنِ وَقَدْ سَقَطَ ، وَعِنْدَهُمَا بِالْإِبْرَاءِ تَسْقُطُ خِيرَةُ الضَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ ، وَخَلْطُ الْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَكُلِّ مَائِعٍ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً وَكَذَا مَعْنًى لِتَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خَلْطُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ وَالْقِسْمَةُ .
وَلَوْ خَلَطَ الْمَائِعَ بِجِنْسِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إلَى ضَمَانٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ أَجْزَاءً ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرِكَهُ بِكُلِّ حَالِ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الرَّضَاعِ ، وَنَظِيرُهُ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا إذَابَةً لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ .

وَالْخَلْطُ النَّافِي لِلتَّمْيِيزِ تَعَدٍّ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ وَيَقْطَعُ الشَّرِكَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : إنْ خَلَطَ بِالْجِنْسِ شَرِكَهُ إنْ شَاءَ ، مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ الدَّرَاهِمَ الْبِيضَ بِمِثْلِهَا وَالسُّودَ بِمِثْلِهَا وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَإِلَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ صُورَةً وَأَمْكَنَهُ مَعْنًى بِالْقِسْمَةِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ مَعَهُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ وَهَذَا مُسَلَّمٌ عِنْدَ الْخَصْمِ ( قَوْلُهُ وَأَمْكَنَهُ مَعْنًى ) غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِكَةِ ( فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لَهَا ) لِئَلَّا يَنْقَلِبَ الْمَعْلُولُ عِلَّةً ( وَلَوْ أَبْرَأَ ) الْمَالِكُ ( الْخَالِطَ سَقَطَ حَقُّهُ عَنْ ذِمَّةِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي الدَّيْنِ وَقَدْ أُسْقِطَ وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ خِيَرَةُ الضَّمَانِ لِتَعَيُّنِ الدَّيْنِ لِصَرْفِ الْإِبْرَاءِ إلَيْهِ فَتَبْقَى الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ وَ ) إنْ خَلَطَ الْمَائِعَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ كَ ( خَلْطِ الْحُلِّ ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ دُهْنُ السِّمْسِمِ ( بِزَيْتِ الزَّيْتُونِ ) صَارَ مَذْهَبُهُمَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَ ( يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَمَعْنًى لِتَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِسْمَةِ بِالْإِفْرَازِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ( وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ) أَيْ مِنْ قَبِيلِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ ( خَلْطُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ فِي الصَّحِيحِ ) وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ كَالْجَوَابِ فِي خَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ فَكَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ ( لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الْآخَرِ فَيَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ )

صُورَةً وَمَعْنًى ( وَإِنْ خَلَطَ الْمَائِعَ بِجِنْسِهِ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ ) فَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ وَيَضْمَنُ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ ( اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ أَجْزَاءً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرِكَهُ بِكُلِّ حَالٍ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْخَلْطُ بِالْقَلِيلِ أَوْ بِغَيْرِهِ ( لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ لِمَا مَرَّ فِي الرَّضَاعِ ) إذَا جُمِعَ بَيْنَ لَبَنِ امْرَأَتَيْنِ فِي قَدَحٍ وَصُبَّ فِي حَلْقِ رَضِيعٍ يَثْبُتُ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ( وَنَظِيرُهُ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا إذَابَةً لِصَيْرُورَتِهِ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ )

قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا ) كَمَا إذَا انْشَقَّ الْكِيسَانِ فَاخْتَلَطَا لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ فَيَشْتَرِكَانِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ .
قَالَ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهَا بِالْبَاقِي ضَمِنَ الْجَمِيعَ ) لِأَنَّهُ خَلَطَ مَالَ غَيْرِهِ بِمَالِهِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ .( وَإِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِ الْمُودَعِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، كَمَا لَوْ انْشَقَّ الْكِيسَانِ فَاخْتَلَطَا صَارَا شَرِيكَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ ) فَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا جَمِيعًا إذْ الْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ مِنْ مَالِهِمَا وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي ضَمِنَ الْجَمِيعَ ) الْبَعْضَ بِالِاسْتِهْلَاكِ اتِّفَاقًا وَالْبَعْضَ بِهِ خَلْطًا .
لَا يُقَالُ : فَاجْعَلْ الرَّدَّ قَضَاءً لَا خَلْطًا لِعَدَمِ تَفَرُّدِهِ بِالْقَضَاءِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ مَا أَنْفَقَ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ دُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِبَقَاءِ الْحِفْظِ فِيهِ وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبْ الْبَاقِي ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَإِنْ أَخَذَ وَلَمْ يُنْفِقْ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ فَهَلَكَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ أَخْذَهُ لَمْ يُنَافِ الْحِفْظَ ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إنْسَانٍ وَلَمْ يَفْعَلْ .

قَالَ ( وَإِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ فَرَدَّهَا إلَى يَدِهِ زَالَ الضَّمَانُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ حِينَ صَارَ ضَامِنًا لِلْمُنَافَاةِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ لِإِطْلَاقِهِ ، وَارْتِفَاعُ حُكْمِ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ نَقِيضِهِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْحِفْظِ شَهْرًا فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ حَفِظَ فِي الْبَاقِي فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ .
قَالَ ( فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ضَمِنَهَا ) لِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ بِالرَّدِّ فَقَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ بِالْإِمْسَاكِ غَاصِبٌ مَانِعٌ فَيَضْمَنُهَا ، فَإِنْ عَادَ إلَى الِاعْتِرَافِ لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ، إذْ الْمُطَالَبَةُ بِالرَّدِّ رَفْعٌ مِنْ جِهَتِهِ وَالْجُحُودُ فَسْخٌ مِنْ جِهَةِ الْمُودَعِ كَجُحُودِ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ وَجُحُودِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَتَمَّ الرَّفْعُ ، أَوْ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَنْفَرِدُ بِعَزْلِ نَفْسِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُسْتَوْدِعِ كَالْوَكِيلِ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ ، بِخِلَافِ الْخِلَافِ ثُمَّ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ ، وَلَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبِهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعِ الطَّامِعِينَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ أَوْ طَلَبِهِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ .

قَالَ ( وَإِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ إلَخْ ) وَإِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ فَرَكِبَ الدَّابَّةَ أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ أَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ فَرَدَّهَا إلَى يَدِهِ زَالَ الضَّمَانُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ حِينَ صَارَ ضَامِنًا ، لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لِكَوْنِهَا أَمَانَةً تُنَافِي الضَّمَانَ ، وَإِذَا ثَبَتَ الضَّمَانُ انْتَفَى الْمُنَافِي الْآخَرُ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ لِإِطْلَاقِهِ عَنْ التَّقْيِيدِ بِوَقْتٍ فَيُوجِبُ بَقَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ ، وَارْتِفَاعُ حُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحِفْظُ الْمَذْكُورُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ نَقِيضِهِ وَهُوَ الْأَمَانَةُ بِالْمُخَالَفَةِ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِإِثْبَاتِهِ مَا دَامَتْ الْمُخَالَفَةُ بَاقِيَةً فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِدَوَامِ الْحِفْظِ ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ رَدٌّ لِلْأَمْرِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْجُحُودِ فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِرَفْعِ الْمُخَالَفَةِ كَالِاعْتِرَافِ بَعْدَ الْجُحُودِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهِ رَدٌّ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِإِبْطَالِهِ أَوْ بِمَا يُنَافِيهِ ، وَالْمُخَالَفَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَيْسَتْ بِمَوْضُوعَةٍ لِإِبْطَالِ الْإِيدَاعِ وَلَا تُنَافِيهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَقُولَ لِلْغَاصِبِ أَوْدَعْتُك وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ ، بِخِلَافِ الْجُحُودِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مَوْضُوعٌ لِلرَّدِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِقَوْلِ مِثْلِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُحُودَ فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ رَدٌّ لَهَا يَكْفُرُ بِهِ وَالْمُخَالَفَةُ

بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ مَأْمُورٌ بِهِ لَيْسَتْ بِرَدٍّ وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ بِهَا ( قَوْلُهُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ ) تَنْظِيرٌ لِمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ بِالِاسْتِئْجَارِ فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ تَرْكُ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ كَوْنِهَا وَدِيعَةً ، فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْحِفْظِ شَهْرًا فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْحِفْظِ فِي الْبَاقِي فَإِنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أَمِينًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا التَّنْظِيرَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ، لِأَنَّ بَقَاءَ كَوْنِهِ أَمِينًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ اللَّازِمَ وَغَيْرَ اللَّازِمِ فِي الِانْتِقَاضِ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةُ تَنْتَقِضُ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ وَرُدَّ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ فِي الْمُدَّةِ وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَبِتَرْكِ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَيَكُونُ بَاقِيًا لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَذَا فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ بَدَلٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُودَعَ نَائِبُ الْمَالِكِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْمُخَالَفَةُ وَعَادَ مُودَعًا حَصَلَ الرَّدُّ إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ .
وَقَوْلُهُ ( فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا إلَخْ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبِهَا ) كَأَنْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا حَالُ وَدِيعَةِ فُلَانٍ ؟ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةٌ ( لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَكَذَا لَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك ؟ فَقَالَ لَيْسَ لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ ( خِلَافًا لِزُفَرَ ) وَإِنَّمَا ذَكَرَ خِلَافَهُمَا فَحَسْبُ ، وَإِنْ

كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ .
قِيلَ لِأَنَّ هَذَا الْفَصْلَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ فَذَكَرَ كَذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْجُحُودَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَ الْمَالِكِ أَوْ لَا كَالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعِ الطَّامِعِينَ .

قَالَ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ ، لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إطْلَاقُ الْأَمْرِ ، وَالْمَفَازَة مَحَلٌّ لِلْحِفْظِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَتَقَيَّدُ ، وَالشَّافِعِيُّ يُقَيِّدُهُ بِالْحِفْظِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْحِفْظُ فِي الْأَمْصَارِ وَصَارَ كَالِاسْتِحْفَاظِ بِأَجْرٍ .
قُلْنَا : مُؤْنَةُ الرَّدِّ تَلْزَمُهُ فِي مِلْكِهِ ضَرُورَةَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ فَلَا يُبَالِي بِهِ وَالْمُعْتَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْمِصْرِ لَا حِفْظُهُمْ ، وَمَنْ يَكُونُ فِي الْمَفَازَةِ يَحْفَظُ مَالَهُ فِيهَا ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْفَاظِ بِأَجْرٍ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ ( وَإِذَا نَهَاهُ الْمُودِعُ أَنْ يَخْرُجَ الْوَدِيعَةِ فَخَرَجَ بِهَا ضَمِنَ ) لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إذْ الْحِفْظُ فِي الْمِصْرِ أَبْلَغُ فَكَانَ صَحِيحًا .

قَالَ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ إلَخْ ) وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ قَالُوا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا كَانَ آمِنًا وَلَهُ بُدٌّ مِنْ السَّفَرِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَسَافَرَ بِأَهْلِهِ لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ سَافَرَ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ تَرْكُهَا فِي أَهْلِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ ، وَقَالَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ ، لَكِنْ قِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ بَعِيدًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَا .
لِأَبِي حَنِيفَةَ إطْلَاقُ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْآمِرَ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ لَكِنَّ الْمَانِعَ عَنْهُ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ كَوْنُ الْمَفَازَةِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحِفْظِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْمَفَازَةُ مَحَلٌّ لِلْحِفْظِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَلِهَذَا : أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَفَازَةِ مَحَلًّا لِلْحِفْظِ يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ الْمُسَافَرَةَ بِمَالِ الصَّبِيِّ ، فَلَوْ كَانَ التَّلَفُ مَضْمُونًا لَمَا جَازَ لَهُمَا ذَلِكَ ، قِيلَ مُسَافَرَةُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ بِمَالِ الصَّبِيِّ لِلتِّجَارَةِ وَالنَّاسُ يُخَاطِرُونَ بِالتِّجَارَةِ لِطَمَعِ الرِّبْحِ وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ حَقُّ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْمُودَعِ صَحِيحًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَوْضِيحٌ لِلِاسْتِدْلَالِ ، وَلَئِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ نَظَرِيَّةٌ .
وَأَوْلَى وُجُوهِ النَّظَرِ رِعَايَتُهُ عَنْ مَوَاضِعِ التَّلَفِ ، فَلَوْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَهْمُ التَّلَفِ لَمَا جَازَ ، وَحَيْثُ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ انْتَفَى وَهْمُ

التَّلَفِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَيَلْزَمُ الْمَالِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، لَكِنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ السَّفَرَ الْقَرِيبَ عَفْوًا قِيَاسًا عَلَى الْغَبَنِ الْيَسِيرِ فِي التِّجَارَاتِ ، وَالشَّافِعِيُّ يُقَيِّدُهُ بِالْحِفْظِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْحِفْظُ فِي الْأَمْصَارِ وَجَعَلَهُ كَالِاسْتِحْفَاظِ بِالْأَجْرِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِيَحْفَظَ مَالَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ السَّفَرَ بِذَلِكَ الْمَالِ ، وَإِنْ سَافَرَ ضَمِنَ ( قَوْلُهُ قُلْنَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُؤْنَةَ تَلْحَقُ الْمَالِكَ لَكِنَّهُ لَيْسَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُودَعِ بَلْ مِنْ حَيْثُ ضَرُورَةُ امْتِثَالِ الْمُودَعِ أَمْرَهُ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ ، فَهُوَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْمَالِكِ فَلَا يُبَالِي بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُعْتَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْمِصْرِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَادَ كَوْنُ الْمُودَعِينَ وَقْتَ الْإِيدَاعِ فِي الْمِصْرِ ( لَا حِفْظُهُمْ ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ يَحْفَظُ مَالَهُ فِيهَا ) وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى الْأَمْصَارِ ( بِخِلَافِ الِاسْتِحْفَاظِ بِالْأَجْرِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ ، وَإِذَا نَهَاهُ الْمَالِكُ أَنْ يَخْرُجَ الْوَدِيعَةِ فَخَرَجَ بِهَا ضَمِنَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ ، إذْ الْحِفْظُ فِي الْمِصْرِ أَبْلَغُ فَكَانَ صَحِيحًا )

قَالَ ( وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةً فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ نَصِيبَهُ مِنْهَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَدْفَعُ إلَيْهِ نَصِيبَهُ ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ثَلَاثَةٌ اسْتَوْدَعُوا رَجُلًا أَلْفًا فَغَابَ اثْنَانِ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ ، وَقَالَا : لَهُ ذَلِكَ ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْمُخْتَصَرِ .
لَهُمَا أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا يُؤْمَرُ هُوَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمُفْرَزِ وَحَقِّهِ فِي الْمُشَاعِ ، وَالْمُفْرَزُ الْمُعَيَّنُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ ، وَلَا يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ دَفْعُهُ قِسْمَةً بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا .
قَوْلُهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ .
قُلْنَا : لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُجْبَرَ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةً إلَخْ ) إذَا تَعَدَّدَ الْمُودِعُ وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهَا فِي غَيْبَةِ الْبَاقِينَ لَمْ يُجْبَرْ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْبَاقِي .
وَقَالَا : يَدْفَعُ إلَيْهِ نَصِيبَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةً عَلَى الْغَائِبِ ، حَتَّى أَنَّ الْبَاقِيَ إنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ كَانَ لِلْغَائِبِ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِيمَا قَبَضَ .
وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَدُلَّ بِوَضْعِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَدِيعَةُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْأَلْفُ وَهُوَ مَوْزُونٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْخِلَافَ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ .
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ : إنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَحِكَايَةُ الْحَمَّامِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورَةٌ : لَهُمَا أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَمَنْ طَلَبَ مَا سَلَّمَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُودَعِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ نَصِيبِهِ بَلْ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمُفْرِزِ وَحَقُّهُ لَيْسَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْمُفْرَزَ الْمُعَيَّنَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَلَا يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فِي ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَا يَقَعُ دَفْعُهُ قِسْمَةً بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ : أَيْ حَقِّ الْمَدْيُونِ ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَلَا يَكُونُ هَذَا تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ بَلْ الْمَدْيُونُ يَتَصَرَّفُ فِي

مَالِ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالدَّفْعِ إلَى مَنْ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِّهِ لِلشَّرِيكِ لَا لِلْمَدْيُونِ كَمَا وَقَعَ فِي الشُّرُوحِ ، وَمَعْنَاهُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُطَالِبُ الْمَدْيُونَ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ : أَيْ بِقَضَاءِ حَقِّهِ ، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَالْمِثْلُ مَالُ الْمَدْيُونِ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَالْقَضَاءُ إنَّمَا يَقَعُ بِالْمُقَاصَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَتَقْرِيرُهُ جَوَازُ الْأَخْذِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ ، إذْ الْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْجَوَازِ : يَعْنِي مِنْ لَوَازِمِهِ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ ، كَمَا إذَا كَانَتْ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ : أَيْ لِغَرِيمِ الْمُودِعِ بِالْكَسْرِ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَكِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ فَيَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَحْفَظَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْمُرْتَهِنَيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ بِالشِّرَاءِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ .
وَقَالَا : لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَ بِإِذْنِ الْآخَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
لَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ إلَى الْآخَرِ وَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ .
وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا كُلِّهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَتَى أُضِيفَ إلَى مَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي تَنَاوَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْكُلَّ فَوَقَعَ التَّسْلِيمُ إلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ وَلَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ لِأَنَّ مُودِعَ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا وَلَا يُمْكِنُهُمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَمْكَنَهُمَا الْمُهَايَأَةُ كَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِدَفْعِ الْكُلِّ إلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ .قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ ) مَا يُقْسَمُ هُوَ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّفْرِيقِ الْحِسِّيِّ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَمَا لَا يُقْسَمُ هُوَ مَا يَتَعَيَّنُ بِهِ كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالطَّبَقِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ ، لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَمَانَةِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَمَانَةِ وَاحِدٍ ، فَإِذَا كَانَ الْحِفْظُ مِمَّا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا عَادَةً لَا يَصِيرُ رَاضِيًا بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا لِلْكُلِّ

قَالَ ( وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ لَا تُسَلِّمُهُ إلَى زَوْجَتِك فَسَلَّمَهَا إلَيْهَا لَا يَضْمَنُ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا نَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إلَى مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لَا يَضْمَنُ ) كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ دَابَّةً فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى غُلَامِهِ ، وَكَمَا إذَا كَانَتْ شَيْئًا يُحْفَظُ فِي يَدِ النِّسَاءِ فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ مَحْمَلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا فَيَلْغُو ( وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ضَمِنَ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُفِيدٌ لِأَنَّ مِنْ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فَاعْتُبِرَ ( وَإِنْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّ الْبَيْتَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ ( وَإِنْ حَفِظَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى ضَمِنَ ) لِأَنَّ الدَّارَيْنِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ فَكَانَ مُفِيدًا فَيَصِحُّ التَّقْيِيدُ ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ ظَاهِرًا بِأَنْ كَانَتْ الدَّارُ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتَانِ عَظِيمَةً وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنْ الْحِفْظِ فِيهِ عَوْرَةً ظَاهِرَةً صَحَّ الشَّرْطُ .

( وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ لَا تُسَلِّمْهَا إلَى زَوْجَتِك فَسَلَّمَهَا إلَيْهَا لَا يَضْمَنُ ) مَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا بُدٌّ ، عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ ( إذَا نَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إلَى مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لَا يَضْمَنُ ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ دَابَّةً فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى غُلَامِهِ ، أَوْ كَانَتْ شَيْئًا يُحْفَظُ عَلَى أَيْدِي النِّسَاءِ فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى امْرَأَتِهِ ) وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( وَهُوَ مَحْمَلُ الْأَوَّلِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَالْعَمَلُ بِهِ مُمْكِنًا وَجَبَ مُرَاعَاتُهُ وَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ تُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا أَوْ كَانَ وَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَلْغُو ، وَعَلَى هَذَا إذَا نُهِيَ عَنْ الدَّفْعِ إلَى امْرَأَتِهِ وَلَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى أَمِينَةٌ ، أَوْ عَنْ الْحِفْظِ فِي الدَّارِ وَلَهُ أُخْرَى فَخَالَفَ فَهَلَكَ ضَمِنَ ، وَإِذَا نُهِيَ عَنْ الْحِفْظِ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ فَحَفِظَ فِي غَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ عَوْرَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ نَهَى عَنْ الدَّفْعِ إلَى امْرَأَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ سِوَاهَا أَوْ عَنْ الْحِفْظِ فِي دَارٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا فَخَالَفَ لَمْ يَضْمَنْ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَالثَّانِي غَيْرُ مَقْدُورٍ الْعَمَلُ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا آخَرَ فَهَلَكَتْ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْآخَرَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ) لَهُمَا أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ ضَمِينٍ فَيُضَمِّنُهُ كَمُودَعِ الْغَاصِبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسْلِيمِ وَالثَّانِي بِالْقَبْضِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَلَهُ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ أَمِينٍ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ لِحُضُورِ رَأْيِهِ فَلَا تَعَدِّيَ مِنْهُمَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ فَيَضْمَنُهُ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمُسْتَمِرٌّ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فَلَا يَضْمَنُهُ كَالرِّيحِ إذَا أَلْقَتْ فِي حِجْرِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً إلَخْ ) إذَا أَوْدَعَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ ضَمِنَ دُونَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ ضَمِينٍ ، لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ بِغَيْرِهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الثَّانِي ، وَالثَّانِي قَدْ قَبَضَ مِنْهُ ، وَالْقَابِضُ مِنْ الضَّمِينِ ضَمِينٌ كَمُودَعِ الْغَاصِبِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ أَمِينٍ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ لِوُجُودِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حِفْظٍ بِحَضْرَةِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَا مِنْ حِفْظٍ بِصُورَةِ يَدِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ إلَى مَنْ يَحْفَظُهُ بِحَضْرَتِهِ كَعِيَالِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِالدَّفْعِ ضَامِنًا لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الثَّانِي مِنْ ضَمِينٍ فَلَمْ يُوجَدْ تَعَدٍّ مِنْهُمَا ، فَإِذَا فَارَقَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ فَيَضْمَنُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَمُسْتَمِرٌّ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهُوَ الْقَبْضُ مِنْ أَمِينٍ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ صُنْعٌ فَلَا يَضْمَنُهُ ، كَالرِّيحِ إذَا أَلْقَتْ فِي حِجْرِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفٌ فَادَّعَاهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَيْنَهُمَا ) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ فَيَسْتَحِقُّ الْحَلِفَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ ، وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ الْقَاضِي جَازَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ .
وَلَوْ تَشَاحَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ ، ثُمَّ إنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي ، فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ ، وَإِنْ نَكَلَ أَعْنِي لِلثَّانِي يَقْضِي لَهُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ ، وَإِنْ نَكَلَ لِلْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَلَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهِ فَيَقْضِي بِهِ ، أَمَّا النُّكُولُ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي فَيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْقَضَاءِ ، وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَيَغْرَمُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَذْلِهِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَذَلِكَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، وَبِالصَّرْفِ إلَيْهِمَا صَارَ قَاضِيًا نِصْفَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَغْرَمُهُ ، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ حِينَ نَكَلَ ذَكَرَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَإِذَا نَكَلَ يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي لِأَنَّهُ يُقَدِّمُهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ ، وَوَضَعَ

الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ وَإِنَّمَا نَفَذَ لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَقْضِي لِلْأَوَّلِ وَلَا يَنْتَظِرُ لِكَوْنِهِ إقْرَارَ دَلَالَةٍ ثُمَّ لَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي مَا هَذَا الْعَبْدُ لِي لِأَنَّ نُكُولَهُ لَا يُفِيدُ بَعْدَمَا صَارَ لِلْأَوَّلِ ، وَهَلْ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْعَبْدُ وَلَا قِيمَتُهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ .
قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ بِالْقَضَاءِ إلَى غَيْرِهِ يَضْمَنُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْإِطْنَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ أَلْفٌ فَادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أُودَعَهَا إلَخْ ) ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا قَوْلُهُ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَلْفًا .
قَوْلُهُ وَإِنْ نَكَلَ : أَعْنِي الثَّانِي : أَيْ بَعْدَ مَا حَلَفَ الْأَوَّلُ .
قَوْلُهُ وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ : يَعْنِي لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِيَ رُبَّمَا يَقُولُ إنَّمَا نَكَلَ لَك لِأَنَّك بَدَأْت بِالِاسْتِحْلَافِ فَلَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا ( قَوْلُهُ فَيَنْكَشِفُ وَجْهُ الْقَضَاءِ ) بِأَنْ يُقْضَى بِالْأَلْفِ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لِلثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالْأَلْفُ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ ( وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي ) أَيْضًا كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا ( فَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَنْ الْقَضَاءِ ) حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُهُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُودَعَ الْمُنْكِرَ ( أَوْجَبَ الْحَقَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَذْلِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَبِإِقْرَارِهِ ) عِنْدَهُمَا ( وَلَوْ قَضَى لِلْأَوَّلِ حِينَ نَكَلَ قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنَّهُ يَحْلِفُ لِلثَّانِي ، وَإِذَا نَكَلَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدَّمَهُ إمَّا بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي ) وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لِلثَّانِي مَاذَا حُكْمُهُ .
وَقَالَ أَخُوهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ حَلَفَ يُقْضَى بِنُكُولِهِ لِلْأَوَّلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِكَوْنِهِ إقْرَارًا ) أَيْ لِكَوْنِ النُّكُولِ إقْرَارًا ( دَلَالَةً ) وَقَوْلُهُ ( مَا هَذَا الْعَبْدُ لِي ) يَعْنِي لَا يَقْتَصِرُ عَلَى لَفْظِ الْعَبْدِ بَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ ، وَلَا قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِ لَا يُفِيدُ إقْرَارُهُ بِهِ لِلْقَاضِي لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَى الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( بِنَاءً ) أَيْ قَالَ الْخَصَّافُ يُحَلِّفُهُ عِنْدَ

مُحَمَّدٍ بِنَاءً ( عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ بِالْقَضَاءِ إلَى غَيْرِهِ يَضْمَنُهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ) كَمَا إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ قَالَ : أَخْطَأْت بَلْ هِيَ لِهَذَا .
كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَا صَحِيحٌ وَرُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَيَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهَا لِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا لِلثَّانِي ، وَأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا عَلَى الثَّانِي لِإِقْرَارِهِ بِهَا لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهَا ، وَهَذَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ، فَإِنْ دَفَعَهَا بِقَضَاءٍ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا الْفَوَاتُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ فَلَا يَضْمَنُ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَلَّطَ الْقَاضِيَ عَلَى الْقَضَاءِ بِهَا لِلْأَوَّلِ لِإِقْرَارِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُودِعٌ لِلثَّانِي ، وَالْمُودِعُ إذَا سَلَّطَ عَلَى الْوَدِيعَةِ غَيْرَهُ صَارَ ضَامِنًا ، وَلِلْمَسْأَلَةِ تَفْرِيعَاتٌ ذُكِرَتْ فِي الْمُطَوَّلَاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ : ( الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ " وَقَدْ { اسْتَعَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ } ( وَهِيَ تُمْلِيك الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ ، لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَلِذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهَا النَّهْيُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ ، وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ .
وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ : بِعِوَضٍ ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ .
ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ ، فَكَذَا الْمَنَافِعُ ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ ، وَهِيَ تَمْلِيكٌ .
وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً .
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ ، وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ فَلَا يَتَحَصَّلُ الْمَنَافِعَ عَلَى مِلْكِهِ .
وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك ) ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ( وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ( وَمَنَحَتْك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ تُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا .
قَالَ ( وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ ( وَدَارِي لَك سُكْنَى ) ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك ( وَدَارِي لَك عُمْرَى

سُكْنَى ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمُرِهِ .
وَجَعَلَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ آخِرِهِ .

كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ) : قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ لِمَا قَبْلَهُ .
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا دَفْعُ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ : قِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّنَاوُبُ ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهِ اصْطِلَاحًا فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ ( هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ ) قِيلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ ( لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ ، وَالنَّهْيُ يَعْمَلُ فِيهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ ) وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إبَاحَةٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بِضَرْبِ الْمُدَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَجْهُولِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْمُعِيرَ يَمْلِكُ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمَا مَلَكَهُ كَالْأَجِيرِ لَا يَمْلِكُ نَهْيَ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ الِانْتِفَاعِ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْتَأْجَرَ لِتَمَلُّكِهِ الْمَنَافِعَ ، فَلَوْ كَانَتْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكًا لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ ( وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ ) وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ تَمْلِيكًا ( وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَلَّكْتُك مَنْفَعَةَ دَارِي هَذِهِ شَهْرًا وَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَنَافِعُ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَلَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ

كَالْأَعْيَانِ ) وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ ( وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ ) وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ ( ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ فَكَذَا الْمَنَافِعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَرِّفُ إذَا عَرَّفَ شَيْئًا بِالْجَامِعِ وَالْمَانِعِ ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ النَّقْضِ فَذَاكَ ، وَإِنْ اُنْتُقِضَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعِ أَوْ مَانِعٍ يُجَابُ عَنْ النَّقْضِ إنْ أَمْكَنَ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقَاتِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ ، وَالْمَوْضُوعَاتُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَوْضُوعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّيًا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ رَسْمِيٌّ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا ذُكِرَ فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ وَعَرَّفْنَاهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ .
وَوُجِّهَ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهَا تَمْلِيكًا قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ

الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِعَدَمِ اللُّزُومِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَارِيَّةِ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ يَعْمَلُ النَّهْيُ فِيهِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ عَمَلَ النَّهْيِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِالنَّهْيِ يُمْنَعُ الْمُسْتَعِيرُ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ يَتَمَلَّكْهَا بَعْدُ ، وَلَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ : أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ كَمَا فِي الْهِبَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا أَوْ حُكْمِهَا .
وَشَرْطُهَا قَابِلِيَّةُ الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا .
وَسَبَبُهَا مَا مَرَّ مِرَارًا مِنْ التَّعَاضُدِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ الْمَدَنِيِّ بِالطَّبْعِ ، وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ نَوْعُ إحْسَانٍ " وَقَدْ { اسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ } وَإِنَّمَا قَدَّمَ بَيَانَ الْجَوَازِ عَلَى تَفْسِيرِهَا لِشِدَّةِ تَعَلُّقِ الْفِقْهِ بِهِ .
قَالَ ( وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك إلَخْ ) هَذَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْعَارِيَّة وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ : أَيْ حَقِيقَةٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ .
قِيلَ أَيْ مَجَازٌ فِيهِ ، وَفِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَنَّهُ مَجَازٌ فَهُوَ صَرِيحٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ وَالْمَجَازُ الْمُتَعَارَفُ صَرِيحٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ .
وَالْجَوَابُ : كِلَاهُمَا صَرِيحٌ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ فَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ

مُسْتَعْمَلٌ : أَيْ مَجَازٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآخَرَ حَقِيقَةٌ وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ : أَيْ أَعْطَيْتُك الْمِنْحَةَ وَهِيَ النَّاقَةُ : أَيْ أَوْ الشَّاةُ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ لِيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إذَا ذَهَبَ دَرُّهَا ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ فِي كُلِّ مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مُنِحَ ، وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ : أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا الْهِبَةُ لِأَنَّهَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ عُرْفًا ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ الْعَامُّ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْدَامِ وَهِيَ الْعَارِيَّةُ ، وَدَارِي سُكْنَى لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك وَهِيَ الْعَارِيَّةُ ، وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ قَوْلِهِ لَك ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَك يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِذَا مَيَّزَهُ تَعَيَّنَ فِي الْمَنْفَعَةِ فَحُمِلَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِدَلَالَةِ آخِرِهِ حُمِلَ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ .

قَالَ : ( وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ } وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ .وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ ، وَفِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِمَا عَرَفْت أَنَّ الْمِنْحَةَ عَارِيَّةٌ خَاصَّةٌ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ وَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ عَنْهُ .

قَالَ : ( وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيَضْمَنُهُ ، وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا لِنَقْضِ الْقَبْضِ .

قَالَ ( وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ إلَخْ ) إنْ هَلَكَتْ الْعَارِيَّةُ ، فَإِنْ كَانَ بِتَعَدٍّ كَحَمْلِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَحْمِلُهُ مِثْلُهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا اسْتِعْمَالًا لَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهَا مِنْ الدَّوَابِّ أَوْجَبَ الضَّمَانَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ ، فَيَضْمَنُ قَوْلُهُ لِنَفْسِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَدِيعَةِ ، لِأَنَّ قَبْضَ الْمُودَعِ فِيهَا لِأَجْلِ الْمُودِعِ لَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ : أَيْ لَا عَنْ اسْتِيجَابِ قَبْضٍ بِحَيْثُ لَا يَنْقُضُهُ الْآخَرُ بِدُونِ رِضَاهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْبِضُ الْمُسْتَأْجَرَ لِحَقٍّ لَهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ النَّقْضُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِدُونِ رِضَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هُوَ قَبْضٌ بِإِذْنِهِ وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَالضَّرُورَةُ حَالَةُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ هَلَكَتْ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْإِذْنُ لِكَوْنِهِ وَرَاءَ الضَّرُورَةِ ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ : يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَبْضُ مَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ إذَا هَلَكَ ضَمِنَ فَكَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ : يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْإِذْنِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لَهُ .
أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ

، وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ .
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا وَقَعَ تَعَدِّيًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَأَمَّا الْإِذْنُ فَلِأَنَّ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ ، لِأَنَّ إذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَالْإِذْنُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَيْنَ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ نَصًّا وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْعَيْنِ ، وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ : يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ ، لَكِنَّ الْقَبْضَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَكُنْ ثُمَّ تَعَدٍّ وَلَا ضَمَانَ بِدُونِهِ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمُؤْنَةِ الْقَبْضِ الْحَاصِلِ لِلْمُسْتَعِيرِ كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ، وَلَيْسَ لِنَقْدِ الْقَبْضِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ الرَّدَّ فِيهِ وَاجِبٌ فَنَقَضَ الْقَبْضَ لِكَوْنِهِ بِلَا إذْنٍ ، فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الرَّدَّ وَجَبَ الضَّمَانُ .

وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ ؛ فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَلِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لَازِمًا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُعِيرِ ، وَفِي وُقُوعِهِ لَازِمًا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ ، وَضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا ، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ .
قَالَ ( وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ .
وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا .
وَنَحْنُ نَقُولُ : هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ .
قَالَ الْعَبْدُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47