كتاب : العناية شرح الهداية
المؤلف : محمد بن محمد البابرتي  

( وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا ) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِيَانَةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } إلَّا أَنَّهَا عُذِرَتْ لِاحْتِمَالِ عَجْزِهَا ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهَا فَكَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةٌ وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : جَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ .

( وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِإِرْضَاعِ ابْنٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا ( وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا ) يَعْنِي لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا ( جَازَ ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ( فَإِنْ قَالَ الْأَبُ لَا أَسْتَأْجِرُهَا وَجَاءَ بِغَيْرِهَا فَرَضِيَتْ الْأُمُّ بِمِثْلِ أَجْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ فَكَانَ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا ( وَإِنْ الْتَمَسَتْ زِيَادَةً لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أَيْ بِإِلْزَامِهِ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ .

( وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ ) أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا ، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ ، وَقَدْ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاحْتِبَاسُ فَوَجَبَتْ النَّفَقَةُ .
وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا .

وَقَوْلُهُ ( وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ ) بِأَنْ أَسْلَمَ الِابْنُ بِنَفْسِهِ وَالْأَبُ كَافِرٌ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لِمَا أَنَّ إسْلَامَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَارْتِدَادَهُ صَحِيحٌ ( كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ ، أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } الْآيَةَ ( وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ ) وَكُفْرُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي نَفَقَةِ نَفْسِهِ فَكَذَا فِي نَفَقَةِ جُزْئِهِ ( وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّهُ ) يَعْنِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ ( بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ ) أَيْ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مَوْجُودٌ ، وَالِاحْتِبَاسُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مَوْجُودًا فَتَجِبُ النَّفَقَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ مَانِعًا كَمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ فَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَغَيْرِهِمَا وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ ، وَإِنَّمَا مَبْنَاهُ عَلَى الْوِلَايَةِ ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا .
وَأَقُولُ : لَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } الْآيَةَ كَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَقَتِهِنَّ بِعِبَارَتِهِ وَعَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ بِالدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى دَفْعِ مَا يُوهِمُ كَلَامُهُ مِنْ التَّرَدُّدِ فِي سَبَبِ النَّفَقَةِ ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ هَاهُنَا الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَجَعَلَهُ فِي قَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } الْوِلَادَ وَقَبْلَهُ الِاحْتِبَاسُ الْحَاصِلُ بِالْعَقْدِ وَدَفَعَهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ) أَيْ مِنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ مَعَ مُوَافَقَةِ الدِّينِ وَمُخَالَفَتِهِ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى

الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ وَتَنْكِيرُ مَالٍ يُشِيرُ إلَى عُمُومِهِ بِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا أَوْ دُورًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ثِيَابًا .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ عَقَارٌ أَوْ ثِيَابٌ وَاحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ لِلنَّفَقَةِ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفَقَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ فَالْأَصْلُ مَنْقُوضٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فَيَتَغَيَّرُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَةِ الِاحْتِبَاسِ ، فَمَا دَامَ الِاحْتِبَاسُ قَائِمًا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً تَحْقِيقًا لِلْمُعَادَلَةِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ الْغِنَى .

فَصْلٌ ( وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ ) أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا ، وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ .
وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ لِمَا تَلَوْنَا ( وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهَا بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا لِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودٍ ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ وَجُزْءَ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ ، فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِكُفْرِهِ لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ جُزْئِهِ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنَيْنِ ، لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ .

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ ( وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ ، أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } ) قِيلَ نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ جَمِيلَةُ : يَا سَعْدُ بَلَغَنِي أَنَّك صَبَوْت ، فَوَاَللَّهِ لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ مِنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَلَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَرْجِعَ إلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهَا إلَيْهَا ، فَأَبَى سَعْدٌ وَصَبَرَتْ هِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ وَلَمْ تَسْتَظِلَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا ، فَأَتَى سَعْدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
( وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَيَتْرُكَ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ فِي تِلْكَ الْمَعِيشَةِ يَمُوتُ مِنْ الْجُوعِ ) وَقَدْ قِيلَ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنَ الْمُصَاحَبَةِ بِأَنْ يُطْعِمَهُمَا إذَا جَاعَا وَيَكْسُوَهُمَا إذَا عَرِيَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا تَلَوْنَا ) أَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ هَلْ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ أَوْ لَا .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : إذَا كَانَ الْأَبُ كَسُوبًا وَالِابْنُ أَيْضًا كَسُوبًا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْكَسْبِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَاعْتَبَرَهُ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ لِلْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ

السَّرَخْسِيُّ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الْبَالِغَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَتُهُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِفَضِيلَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ ضَرُورِيَّةً كَانَتْ كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ، أَوْ غَيْرَهَا كَشَهْوَةِ الْفَرْجِ فَإِنَّ لِلْوَالِدِ اسْتِحْقَاقَ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْوَلَدِ وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ اسْتِحْقَاقُ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْوَالِدِ ، فَلَوْ شُرِطَ هَاهُنَا عَجْزُ الْوَالِدِ عَنْ الْكَسْبِ لِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ كَمَا شُرِطَ فِي حَقِّ الِابْنِ لَوَقَعَتْ الْمُسَاوَاةُ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمُفَاضَلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
وَاسْتَشْكَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِهِ يُفْضِي إلَى التَّعَارُضِ الْمُفْضِي إلَى التَّرْكِ الْمُمْتَنِعِ فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهَذَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ .

( وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخُوهُ الْمُسْلِمِ ) وَكَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَخُوهُ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةَ بِالْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُوجِبَةٌ لِلصِّلَةِ ، وَمَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ آكَدُ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ ، فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى أَصْلَ الْعِلَّةِ وَفِي الْأَدْنَى الْعِلَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فَلِهَذَا افْتَرَقَا ( وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ ) لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُمَا فِي مَالِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا .

وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخُوهُ الْمُسْلِمِ ) مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ مُتَضَمِّنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الْعِتْقِ عِنْدَ التَّمَلُّكِ ، وَكَلَامُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ : يَعْنِي فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَالْعِتْقُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالْحَدِيثِ : يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ } وَبِالْمَعْقُولِ وَاضِحٌ خَلَا قَوْلَهُ : دَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ ، فَإِنَّ حِرْمَانَ النَّفَقَةِ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْلَى ؟ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ صِلَةُ إحْيَاءٍ حَقِيقَةً وَصِلَةُ الْعِتْقِ صِلَةُ إحْيَاءٍ حُكْمًا ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِحْيَاءَ الْحَقِيقِيَّ أَعْلَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَوْ يَبَرَّهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ، فَإِنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا فِي الْعُمْرَانِ مَعَ تَوَفُّرِ أَصْحَابِ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَعْرُوفِ نَادِرٌ ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا مِنْ جَانِبِهِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْيَاءِ الْحَقِيقِيِّ أَعْلَى مِنْ الْحُكْمِيِّ فَبَعْدَ تَسْلِيمِهِ مَرْدُودٌ بِعَدَمِ تَعَيُّنِ تَحَقُّقِهِ مِنْ جَانِبِهِ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ ) لَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَغَيْرِهِمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } فَكَانَا غَنِيَّيْنِ بِمَالِهِ ، وَالْغَنِيُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ .
فَإِنْ

قِيلَ : التَّأْوِيلُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُعَارِضُ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قُلْت : الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فَتَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ لَكِنَّ تَرْكَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِغَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قُلْت : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } يَقْتَضِي أَنْ يُشَارِكَ الْجَدُّ الِابْنَ ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } يَقْتَضِيهِ : قُلْت : لَمَّا ثَبَتَ لِلْوَالِدِ التَّأْوِيلُ فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ صَارَ غَنِيًّا بِهِ وَالْغَنِيُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَالِدِهِ فَلَا يُشَارِكُ الْجَدُّ الِابْنَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا ) أَيْ الْوَلَدُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَالِدَيْنِ ، وَالْأَقْرَبُ إلَيْهِمَا أَوْلَى لِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صِلَةٌ وَجَبَتْ بِالْقَرَابَةِ ، فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَثْلَاثًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى قِيَاسِ الْمِيرَاثِ وَعَلَى قِيَاسِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا .
وَبَيَانُهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَبَوَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ وَحَقِّ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ فَيَكُونَانِ سَوَاءً ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمَا هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ وَإِنْ انْعَدَمَ التَّوَارُثُ ، فَقَوْلُهُ ( وَهُوَ

الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ .

( وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا بَالِغًا فَقِيرًا زَمِنًا أَوْ أَعْمَى ) لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ ، وَالْفَاصِلُ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ " ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْحَاجَةِ وَالصِّغَرِ وَالْأُنُوثَةِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ .
بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا فَتَجِبُ نَفَقَتُهُمَا مَعَ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ .
قَالَ ( وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ وَالْجَبْرَ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ .

وَقَوْلُهُ ( وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ : أَيْ النَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَهُوَ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَاجِبَةٌ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا فَقِيرًا .
زَمِنًا أَوْ أَعْمَى ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا كَوْنُهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْبَعِيدِ فَيَكُونُ إشَارَةً إلَى أَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةَ ، وَتَقْيِيدُهُ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ مَسْمُوعَةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْحَاجَةِ لِاسْتِحْقَاقِهَا لِذَلِكَ ، وَالصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الصِّغَرُ وَالْأُنُوثَةُ وَالزَّمَانَةُ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يُعَدَّا غَنِيَّيْنِ بِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ إلَخْ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ ( يَجِبُ ذَلِكَ ) يَعْنِي النَّفَقَةَ ( عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْإِنْفَاقِ .
أَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْوَارِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } تَنْبِيهًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ هُوَ الْعِلَّةُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِقَدْرِ عِلَّتِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ عَلَى

قَدْرِ الْمِيرَاثِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ زَمِنًا مُعْسِرًا وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ زَمِنٌ وَلِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقُونَ مُوسِرُونَ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَخِيهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا ، فَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَعَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً لِأَنَّ مِيرَاثَ الْوَلَدِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَلَا يَرِثُ مَعَهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا يُجْعَلُ مَعْدُومًا وَتَكُونُ النَّفَقَةُ بَعْدَهُ عَلَى مَنْ يَكُونُ وَارِثًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَةً كَانَ نَفَقَةُ الْأَبِ وَالِابْنَةِ عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ خَاصَّةً ، أَمَّا نَفَقَةُ الِابْنَةِ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْوَارِثَ هَاهُنَا الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً لِأَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ وَالْأَخَ لِأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَهَا فَلَا حَاجَةَ أَنْ يَجْعَلَ الْبِنْتَ كَالْمَعْدُومَةِ ، وَلَكِنْ تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ مَعَ بَقَائِهَا ، بِخِلَافِ الِابْنِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمَعْدُومِ ؛ فَإِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ فَمِيرَاثُ الْأَبِ يَكُونُ بَيْنَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمِيرَاثُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَأَمَّا إذَا تَجَاوَزَ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ كَمَا إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ الْفَقِيرِ خَالٌ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ مُوسِرٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الَّذِي لَمْ يَرِثْ لَا عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الَّذِي هُوَ وَارِثٌ فَيَكُونُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْخَالِ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْخَالُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْكِتَابِ .

فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ النَّفَقَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمِيرَاثِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِكَوْنِهِ وَارِثًا وَلَا تَجِبُ عَلَى الْخَالِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاجِبَةٌ تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ ، وَتَحْقِيقُ صِلَةِ قَرَابَةِ ابْنِ الْعَمِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْخَالِ فَإِنَّ صِلَتَهُ وَاجِبَةٌ وَالنَّفَقَةُ مِنْهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ عَلَى أَبَوَيْهِ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ ) لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ وَالْحَسَنِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وَصَارَ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فِيهِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ ، وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا ، وَنَفَقَةُ الْأَخِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْمُوسِرَاتِ أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ ، غَيْر أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ لَا إحْرَازُهُ ، فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثُهُ يُحْرِزُهُ ابْنُ عَمِّهِ ( وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ ) لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً وَهُوَ يَسْتَحِقُّهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ ، إذْ الْمَصَالِحُ لَا تَنْتَظِمُ دُونَهَا ، وَلَا يَعْمَلُ فِي مِثْلِهَا الْإِعْسَارُ .
ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ وَالْفَتْوَى

عَلَى الْأَوَّلِ ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ .

قَالَ ( وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَوَجْهُ الْفَرْقِ ) يَعْنِي بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ حَيْثُ وَجَبَتْ بِجُمْلَتِهَا عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً وَبَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ الزَّمِنِ حَيْثُ وَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَبِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ كَمَا فِي الْإِرْثِ أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ .
فَكَذَا فِي النَّفَقَةِ عَلَى الصَّغِيرِ .
وَأَمَّا الْكَبِيرُ فَلَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِبُلُوغِهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ نَفَقَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِمِيرَاثِهِ وَمِيرَاثُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُ .
وَقَوْلُهُ أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ يَعْنِي : ثَلَاثَةُ الْأَخْمَاسِ مِنْ الْمِيرَاثِ تَكُونُ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْخُمُسُ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَالْخُمُسُ لِلْأُخْتِ لِأُمٍّ بِالْفَرْدِ وَالرَّدِّ ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ تُعْتَبَرُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْرُومًا .
وَفِي كَلَامِهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ لَا إحْرَازُهُ ، ثُمَّ نَشَرَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ يَعْنِي وَهُوَ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ كَذَلِكَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ وَابْنِ الْعَمِّ يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْخَالَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ .
وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ لَا إحْرَازُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ الْمُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ ) أَيْ اعْتِبَارِ الْإِرْثِ بِأَنْ يَكُونَ أَهْلًا لَا مُحْرِزًا ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ

وَلَا عَكْسُهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا ) قِيلَ : هَذَا إذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِ ( أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ ) إذَا كَانَ مُعْتَمِلًا يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ ) يَعْنِي أَنَّ الْيَسَارَ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إذَا كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَشْبَهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِكَوْنِهَا مَئُونَةً مِنْ وَجْهٍ ، صَدَقَةً مِنْ وَجْهٍ ، وَالنَّفَقَةُ مَئُونَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ لِوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَاهُنَا وَهِيَ مَئُونَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى .
وَنَقَلَ فِي خُلَاصَةِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَجْنَاسِ قَالَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ : يُشْتَرَطُ نِصَابُ الزَّكَاةِ .
ثُمَّ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : هَكَذَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى إنْ انْتَقَصَ مِنْهُ دِرْهَمٌ لَا يَجِبُ .

( وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قُضِيَ فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ ( وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ فِي نَفَقَتِهِ [ ] جَازَ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ( وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ ) وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ فِي حَالِ حَضْرَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي دَيْنٍ لَهُ سِوَى النَّفَقَةِ ، وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَالْأَبُ أَوْلَى لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا ، وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ حَالَةَ الصِّغَرِ وَلَا فِي الْحِفْظِ بَعْدَ الْكِبَرِ .
إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَبِ فَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِكَمَالِ الْوِلَايَةِ ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ( وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ فِي يَدِ أَبَوَيْهِ وَأَنْفَقَا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنَا ) لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا حَقَّهُمَا لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَدْ أَخَذَا جِنْسَ الْحَقِّ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي [ ] ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْحِفْظِ لَا غَيْرُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ أَمْرَهُ مُلْزِمٌ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ .
وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهِ .

( وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قَضَى فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ ) وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَا يَقْضِي بِنَفَقَةٍ فِي مَالِ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ ، إلَى قَوْلِهِ : وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ ) مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِلْأَبَوَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْأَقْضِيَةِ وَالْقُدُورِيِّ تَمْلِكُ الْأُمُّ الْبَيْعَ كَالْأَبِ لِأَنَّ مَعْنَى الْوِلَادَةِ يَجْمَعُهُمَا وَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى السَّوَاءِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْقُدُورِيِّ مُؤَوَّلًا بِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ لَكِنْ لِمَنْفَعَتِهِمَا ، فَأَضَافَ الْبَيْعَ إلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ مَنْفَعَةَ الْبَيْعِ تَعُودُ إلَيْهِمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَقَوْلُهُ ( إنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ ، لَكِنْ الْفَرْضُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ لِنَفَقَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ أَنْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَيْعَ لِلْحِفْظِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ لِلْحِفْظِ حَقِيقَةً فَبِقَصْدِهِ الْإِنْفَاقَ لَا تَتَغَيَّرُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْعَزِيمَةِ فِي تَغْيِيرِ الْحَقِيقَةِ .
لَا يُقَالُ : عَارَضَ جِهَةُ الْحِفْظِ جِهَةَ الْإِتْلَافِ بِالِاتِّفَاقِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْإِتْلَافُ بَعْدَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَفِي الْحَالِ لَمْ تَجِبْ فَلَا تَعَارُضَ .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ) يَعْنِي أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ مَلَكَ الْمَدْفُوعَ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَالِ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا

الْقَاضِي : يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُقَابَلَةُ الِاحْتِبَاسِ لَا بِطَرِيقِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ لِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى .

( وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ بِالنَّفَقَةِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ ) لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ كِفَايَةً لِلْحَاجَةِ حَتَّى لَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ كَأَمْرِ الْغَائِبِ فَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَذِنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُمْ أَيْضًا كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ كَأَمْرِ الْغَائِبِ بِهَا ، وَلَوْ أَمَرَ الْغَائِبَ بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، فَكَذَا إذَا أَذِنَ الْقَاضِي بِذَلِكَ .
وَإِذَا تَذَكَّرْت أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ لِلْكِفَايَةِ ظَهَرَ لَك وَجْهُ مَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ لِلزَّوْجَةِ فِي الشَّهْرِ مِائَةً فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِي يَدِهَا مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَحْتَسِبْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ حُوسِبَ بِهِ ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ لِلزَّوْجَةِ كِسْوَةً لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَسَرَقَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا حَتَّى تَفْرُغَ الْمُدَّةُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقَارِبِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهُمْ .

( وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَمَالِيكِ { إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ } ( فَإِنْ امْتَنَعَ وَكَانَ لَهُمَا كَسْبٌ اكْتَسَبَا وَأَنْفَقَا ) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَبْقَى الْمَمْلُوكُ حَيًّا وَيَبْقَى فِيهِ مِلْكُ الْمَالِكِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا كَسْبٌ ) بِأَنْ كَانَ عَبْدًا زَمِنًا أَوْ جَارِيَةً لَا يُؤَاجَرُ مِثْلُهَا ( أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى بَيْعِهِمَا ) لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي الْبَيْعِ إيفَاءُ حَقِّهِمَا وَإِبْقَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْخُلْفِ ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ تَأْخِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ إبْطَالًا ، وَبِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا ، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ } وَفِيهِ ذَلِكَ ، وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَفِيهِ إضَاعَتُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجْبَرُ ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) جَمَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَأَخَّرَهُ عَنْ الْجَمِيعِ وَهُوَ فِي مَحَزِّهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِهِ سِوَى الرَّقِيقِ ، وَأَمَّا فِي الدَّوَابِّ فَيُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ، وَفِي غَيْرِ الدَّوَابِّ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ ، أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَالِ كَانَ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ مَكْرُوهًا ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجِ وَالْمَمْلُوكِ فِي أَنَّ الْمَوْلَى إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا كَسْبَ لَهُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِ الْمَمْلُوكِ ، وَالزَّوْجُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَنَّ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ ، وَفِي عَدَمِهِ فَوَاتُ حَقِّ الْمَمْلُوكِ فِي النَّفَقَةِ لَا إلَى خَلَفٍ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى التَّفْرِيقِ فَوَاتُ مِلْكِ الزَّوْجِ بِلَا خَلَفٍ ، وَفِي عَدَمِهِ فَوَاتُ حَقِّ الْمَرْأَة فِي الْحَالِ إلَى خَلَفٍ لِصَيْرُورَةِ نَفَقَتِهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ تَأْخِيرًا .
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ فَكَانَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالزَّوْجِ أَشَدَّ وَكَانَ بِالدَّفْعِ أَوْلَى ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَاسَاهُ عَلَى الرَّقِيقِ ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا : يَعْنِي مِنْ عَدَمِ الْجَبْرِ لِأَنَّ إجْبَارَ الْقَاضِي الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ نَوْعُ قَضَاءٍ وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَقْضِيٍّ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا يُوجَدُ فِي الرَّقِيقِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ حَقًّا عَلَى الْمَوْلَى

وَعَلَى غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ يَسْتَحِقُّ حُقُوقًا عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا ، فَأَمَّا غَيْرُ الرَّقِيقِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى حَقًّا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْضِيًّا لَهُ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْقَضَاءِ فَيَنْعَدِمُ الْقَضَاءُ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةُ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ .
قَالَ ( الْعِتْقُ يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي مِلْكِهِ ) شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْعَقْلِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْبَالِغُ : أَعْتَقْت وَأَنَا صَبِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُعْتِقُ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَجُنُونُهُ كَانَ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْإِسْنَادِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ إذَا احْتَلَمْت لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِقَوْلٍ مُلْزِمٍ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } .

كِتَابُ الْعَتَاقِ ذَكَرَ الْعَتَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ فِي أَنَّهُ إسْقَاطٌ بُنِيَ عَلَى السِّرَايَةِ وَاللُّزُومِ كَالطَّلَاقِ حَتَّى صَحَّ التَّعْلِيقُ وَصَارَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ إمَّا إفْسَادًا فِي الْمِلْكِ أَوْ تَحْقِيقًا لِلْعِتْقِ وَلَمْ يَقْبَلْ الْفَسْخَ بَعْدَ الثُّبُوتِ كَالطَّلَاقِ .
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ ، أَنَّهُ إحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ يُخْرِجُ الْعَبْدَ عَنْ كَوْنِهِ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ إلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ .
وَتَفْسِيرُهُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ ، يُقَالُ : عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ وَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ يَصِيرُ الْمَرْءُ بِهَا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ .
وَأَسْبَابُهُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا الْإِعْتَاقُ ، وَمِنْهَا دَعْوَى النَّسَبِ ، وَمِنْهَا الِاسْتِيلَادُ ، وَمِنْهَا مِلْكُ الْقَرِيبِ ، وَمِنْهَا زَوَالُ يَدِ الْكَافِرِ عَنْهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِنَا عَبْدًا مُسْلِمًا فَدَخَلَ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمِنْهَا الْإِقْرَارُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُعْتِقِ حُرًّا بَالِغًا مَالِكًا مِلْكَ الْيَمِينِ .
وَرُكْنُهُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْعِتْقُ ؛ وَهُوَ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ ، وَكِنَايَةٌ .
وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ .
وَأَنْوَاعُهُ الْمُرْسَلُ وَالْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا بِبَدَلٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا .
( قَوْلُهُ شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِأَنَّ الْعِتْقَ ) يَعْنِي الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ قَالَ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ أَخَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْعِتْقِ الْإِعْتَاقَ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِأَهْلٍ

لِلتَّصَرُّفِ فَإِنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا الْعِتْقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ شَرْطًا إذَا قَالَ الْبَالِغُ أَعْتَقْت وَأَنَا صَبِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ الْإِعْتَاقَ كَانَ إنْكَارًا مِنْهُ لِلْإِعْتَاقِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِقَوْلٍ مُلْزِمٍ : يَعْنِي لِأَنَّ الصِّبَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَبِيًّا لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لَزِمَهُ حَتَّى لَوْ ادَّعَى بَعْدَ الْبُلُوغِ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُلْزَمَ ثَمَّةَ هُوَ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ وَإِقْرَارُهُ مُؤَكَّدٌ .

( وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُحَرَّرٌ أَوْ قَدْ حَرَّرْتُك أَوْ قَدْ أَعْتَقْتُك فَقَدْ عَتَقَ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِيهِ .
لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النِّيَّةِ وَالْوَضْعِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِخْبَارِ فَقَدْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا ( وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ الْبَاطِلَ أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ الْعَمَلِ صُدِّقَ دِيَانَةً ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ( وَلَا يَدِينُ قَضَاءً ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ( وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيق يُعْتَقُ ) لِأَنَّهُ نِدَاءٌ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ هَذَا هُوَ حَقِيقَتُهُ فَيَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْوَصْفِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا أَخْبَرَ ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا إذَا سَمَّاهُ حُرًّا ثُمَّ نَادَاهُ يَا حُرُّ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْلَامُ بِاسْمٍ عَلِمَهُ وَهُوَ مَا لَقَّبَهُ بِهِ .
وَلَوْ نَادَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَا آزَادَ وَقَدْ لَقَّبَهُ بِالْحُرِّ قَالُوا يُعْتَقُ ، وَكَذَا عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِدَاءٍ بِاسْمٍ عَلِمَهُ فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ .

وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ حُرٌّ ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِتْقُ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ .
فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْوَلَاءِ سَوَاءٌ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَوْ الْوَصْفِ أَوْ النِّدَاءِ ، أَمَّا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَأَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك ، وَأَمَّا صِيغَةُ الْوَصْفِ فَأَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ ، وَأَمَّا الْمُنَادَى فَأَنْ يَقُولَ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا مَوْلَايَ إلَخْ وَقَوْلُهُ ( وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ يَا ابْنِي عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا إذَا سَمَّاهُ حُرًّا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا حُرٌّ ( قَوْلُهُ وَكَذَا عَكْسُهُ ) يَعْنِي بِأَنْ نَادَاهُ بِقَوْلِهِ يَا حُرُّ وَكَانَ لَقَبُهُ آزَادَ .
وَقَوْلُهُ ( فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ ) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ " حُرٌّ " عَلَمًا لَهُ كَانَ قَوْلُهُ يَا حُرُّ إنْشَاءً لِلْحُرِّيَّةِ لَا إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَمًا كَانَ الْمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الْحُرِّيَّةِ ، وَالْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنْ الْمَوْصُوفِ ، وَكَانَ النِّدَاءُ إخْبَارًا بِأَنَّ الْمُنَادَى مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .

( وَكَذَا لَوْ قَالَ رَأْسُكَ حُرٌّ أَوْ وَجْهُكَ أَوْ رَقَبَتُكَ أَوْ بَدَنُكَ أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ ، وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَقَعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .وَقَوْلُهُ ( وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ ) يُرِيدُ الِاخْتِلَافَ فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ .

( وَلَوْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَنَوَى بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك ، وَيُحْتَمَلُ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُرَادًا إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ ( وَكَذَا كِنَايَاتُ الْعِتْقِ ) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ خَرَجْتِ مِنْ مِلْكِي وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ وَلَا رِقَّ لِي عَلَيْكِ وَقَدْ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ نَفْيَ السَّبِيلِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ وَتَخْلِيَةُ السَّبِيلِ بِالْبَيْعِ أَوْ الْكِتَابَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ بِالْعِتْقِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَمَتِهِ قَدْ أَطْلَقْتُك لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلَّقْتُك عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ قَالَ لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ ، وَسُمِّيَ السُّلْطَانُ بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ يَبْقَى الْمِلْكُ دُونَ الْيَدِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنَّ نَفْيَهُ مُطْلَقًا بِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا فَلِهَذَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ .

وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَمَتِهِ قَدْ أَطْلَقْتُك ) يَعْنِي إنْ نَوَى الْعِتْقَ يَقَعُ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ خَلَّيْت سَبِيلَك لِمُنَاسَبَةِ الْإِرْسَالِ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلَّقْتُك فَإِنَّهَا لَا تَعْتِقُ لِأَنَّهُ صَارَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ عَنْ النِّكَاحِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَقَوْلُهُ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ ، يُقَالُ لِفُلَانٍ سَلْطَنَةٌ وَيُرَادُ بِهَا الْقُدْرَةُ الثَّابِتَةُ مِنْ حَيْثُ الْيَدُ وَالِاسْتِيلَاءُ فَنَفْيُهُ نَفْيٌ لِلْيَدِ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يَدَ لِي عَلَيْك ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ يَعْتِقْ لِجَوَازِ أَنْ تَزُولَ الْيَدُ وَيَبْقَى الْمِلْكُ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنَّ السَّبِيلَ الْمُضَافَ إلَى الْعَبْدِ كِنَايَةٌ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى نَفَاذِ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
وَلَوْ نَفَى الْمِلْكَ بِأَنْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَنَوَى الْعِتْقَ عَتَقَ .
فَإِنْ قِيلَ : زَوَالُ الْيَدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَلْزُومًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ لَازِمًا لَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلْيَكُنْ مَجَازًا لِأَنَّ الْمَجَازَ ذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلْيَكُنْ كِنَايَةً لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلْزُومٍ لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا بِلَازِمٍ لَهُ لِانْفِكَاكِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ بِالْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْيَدَ بَاقٍ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ ، حَتَّى إذَا انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْهُ يَعْتِقُ .

( وَلَوْ قَالَ هَذَا ابْنِي وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ عَتَقَ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا ؛ ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ النَّسَبُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ وَيُعْتَقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِهِ بِحَقِيقَتِهِ ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَوْ قَالَ هَذَا مَوْلَايَ أَوْ يَا مَوْلَايَ عَتَقَ ) .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ يَنْتَظِمُ النَّاصِرَ وَابْنَ الْعَمِّ وَالْمُوَالَاةُ فِي الدِّينِ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْعَتَاقَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ فَصَارَ كَاسْمٍ خَاصٍّ لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً وَلِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَانْتَفَى الْأَوَّلُ .
وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ نَوْعُ مَجَازٍ ، وَالْكَلَامُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْعَبْدِ تُنَافِي كَوْنَهُ مُعْتَقًا فَتَعَيَّنَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : هَذِهِ مَوْلَاتِي لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ الْمَوْلَى فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ مُرَادًا الْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ وَبِالنِّدَاءِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُعْتَقُ بِأَنْ قَالَ : يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ فَكَذَا النِّدَاءُ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْإِكْرَامَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي .
قُلْنَا : الْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ ، بِخِلَافِ

مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ فَكَانَ إكْرَامًا مَحْضًا .

قَالَ ( وَلَوْ قَالَ هَذَا ابْنِي ) وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ الَّذِي يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ هَذَا ابْنِي ( وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ ) ثَبَتَ النَّسَبُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ ثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَدَّعِ بِهِ الْكَرَامَةَ وَالشَّفَقَةَ ، كَذَا فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي الْفَضْلِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ صُدِّقَ .
وَقِيلَ الثَّبَاتُ شَرْطُ النَّسَبِ لِكَوْنِ الرُّجُوعِ عَنْهُ صَحِيحًا دُونَ الْعِتْقِ .
وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ اتِّفَاقِيٌّ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ ( وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِاسْتِنَادِ النَّسَبِ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ تَعَذَّرَ ثُبُوتُ النَّسَبِ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ ) وَسَيَجِيءُ بَيَانُ تَجَوُّزِ الْمَجَازِ ( وَلَوْ قَالَ هَذَا مَوْلَايَ ) ظَاهِرٌ .
وَقِيلَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ مَعْنَى الْمَوْلَى هُوَ الْمَشْهُورُ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مَعْنًى ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ .
أَمَّا مَجِيئُهُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ فَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } وَأَمَّا بِمَعْنَى ابْنِ الْعَمِّ فَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } وَقَوْلُهُ ( وَالثَّالِثُ نَوْعُ مَجَازٍ ) يَعْنِي الْمُوَالَاةَ فِي الدِّينِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ وَلَا قُرْبَ بَيْنَ الْمَشْرِقِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَلَا مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ فَيُعْتَبَرُ الْقُرْبُ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ وَلِهَذَا جَازَ نَفْيُهُ ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَمُصَحَّحُهُ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ .
وَقَوْلُهُ ( فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ ) يَعْنِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ كَوْنُهُ عَبْدًا .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الثَّانِي ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ

يَا مَوْلَايَ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ ) يَعْنِي قَوْلَهُ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ ، مَعْنَاهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَا مَوْلَايَ يَا مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ حَيْثُ تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ مُرَادًا فَيَثْبُتُ بِهَذَا الْقَوْلِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ وَهُوَ الْوَلَاءُ وَهُوَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْعِتْقِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي فَإِنَّ مَعْنَاهُ يَا مَنْ لَهُ السِّيَادَةُ وَالْمِلْكُ عَلَيَّ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ وَالتَّلَطُّفُ .

( وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ ) لِأَنَّ النِّدَاءَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى إلَّا أَنَّهُ إذْ كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْمُنَادَى اسْتِحْضَارًا لَهُ بِالْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ يَا حُرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِوَصْفٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ دُونَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْخَلَقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ابْنًا لَهُ بِهَذَا النِّدَاءِ فَكَانَ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَاذًّا أَنَّهُ يُعْتَقُ فِيهِمَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الظَّاهِرِ .
وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ فَإِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : يَا بُنَيَّ أَوْ يَا بُنَيَّةُ لِأَنَّهُ تَصْغِيرُ الِابْنِ وَالْبِنْتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَالْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ .

وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ ) فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ يَا حُرُّ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ بِهِ دُونَهُمَا لِأَنَّ النِّدَاءَ إذَا كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ النِّدَاءُ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْمُنَادَى اسْتِحْضَارًا لَهُ بِالْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ يَا حُرُّ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إثْبَاتِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَالِ ( عَلَى مَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نِدَاءٌ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى إلَخْ ، وَإِذَا كَانَ بِوَصْفٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ دُونَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ ، وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْخَلَقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ابْنًا لَهُ بِهَذَا النِّدَاءِ فَكَانَ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ ، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْتِقَ فِيهِمَا ) أَيْ فِي قَوْلِهِ يَا ابْنِي يَا أَخِي .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ بِالنِّدَاءِ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ يَا مَوْلَايَ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِخَمْسَةِ أَلْفَاظٍ بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِقَوْلِهِ يَا ابْنِي وَيَا أَخِي وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الظَّاهِرِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ يَا ابْنُ ) ظَاهِرٌ .

( وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا : لَا يُعْتَقُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالُ الْحَقِيقَةِ فَيُرَدُّ فَيَلْغُو كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالٌ بِحَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبٌ لِحُرِّيَّتِهِ ، إمَّا إجْمَاعًا أَوْ صِلَةً لِلْقَرَابَةِ ، وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مُسْتَجَازٌ فِي اللُّغَةِ تَجَوُّزًا ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُشَابَهَةُ فِي وَصْفٍ مُلَازِمٍ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ ، بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْمَجَازِ فَتَعَيَّنَ الْإِلْغَاءُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ قَطَعْت يَدَك فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَالْتِزَامِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَطَأٌ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْأَرْشُ ، وَأَنَّهُ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْمَالِ فِي الْوَصْفِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ الْقَطْعِ ، وَمَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فَالْقَطْعُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَهُ ، أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَخْتَلِفُ ذَاتًا وَحُكْمًا فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهُ .
وَلَوْ قَالَ : هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي وَمِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ : هَذَا جَدِّي قِيلَ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقِيلَ : لَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ الْأَبُ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي كَلَامِهِ فَتَعَذَّرَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمُوجِبِ .

بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ لِأَنَّ لَهُمَا مُوجِبًا فِي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ ، وَلَوْ قَالَ : هَذَا أَخِي لَا يُعْتَقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَقُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنَتِي فَقَدْ قِيلَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَلَا يُعْتَبَرُ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي النِّكَاحِ .

قَالَ ( وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ) إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ ( هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا لَا يَعْتِقُ ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا ( وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ) وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُمَا ، وَفِي التَّكَلُّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ فَقَالَا : الْحُكْمُ هَاهُنَا مُحَالٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَجَازُ ، بِخِلَافِ الْأَصْغَرِ سِنًّا فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهِ مُتَصَوَّرَةٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْهُ وَاشْتَهَرَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ تُخْلَقَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَصَوُّرُ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِحُرَّةٍ اشْتَرَيْتُك بِكَذَا كَانَ نِكَاحًا صَحِيحًا ، وَالْحُرَّةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ بَلْ الشَّرْطُ صِحَّةُ التَّكَلُّمِ .
وَقَوْلُهُ هَذَا ابْنِي كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي مَحَلِّهِ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَهُوَ مَلْزُومٌ لِقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ مِنْ حِينِ مَلَكْت لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ إذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَمْلُوكِ كَانَ حُرًّا مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ وَذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ هُوَ الْمَجَازُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِتْقَ لَا مَحَالَةَ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَجَازِ إذْ لَيْسَ قَوْلُهُ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ مَلْزُومًا لِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ مِنْ حِينِ مَلَكْت لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُرُودِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَالثَّانِيَ يَقْتَضِي وُرُودَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ مَلْزُومًا لِمَا يُنَافِيهِ وَإِلَّا لَزِمَ انْفِكَاكُ الْمَلْزُومِ عَنْ اللَّازِمِ وَهُوَ مُحَالٌ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا يُخَالِفُ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ قَطَعْت يَدَك فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ

صِحَّةُ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ مُجَوِّزَةً لِلْمَجَازِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُتَصَوَّرًا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَطَأً سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ قَطَعْت يَدَك مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ لَك عَلَيَّ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ .
وَتَقْرِيرُ جَوَابِهِ أَنَّ الْقَطْعَ خَطَأً لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمَالٍ مُطْلَقٍ بَلْ لِمَا يُخَالِفُ الْمَالَ الْمُطْلَقَ فِي الْوَصْفِ وَهُوَ الْأَرْشُ .
حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ الْقَطْعِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ الْقَطْعِ ، فَمَا هُوَ مُسَبَّبٌ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ ، وَمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لَيْسَ بِمُسَبَّبٍ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مِمَّا تَعَذَّرَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فَيَلْغُو ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ خَطَأً مَلْزُومٌ لِلْأَرْشِ الَّذِي هُوَ مَلْزُومٌ لِلْقَطْعِ وَاللَّازِمُ وَهُوَ الْقَطْعُ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ وَهُوَ الْأَرْشُ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( أَمَّا الْحُرِّيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ ) مَعْنَاهُ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي جَعَلْنَا قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ مِنْ حِينِ مَلَكَ مَجَازًا عَنْهَا لَا تَخْتَلِفُ ذَاتًا وَهُوَ زَوَالُ الرِّقِّ وَلَا حُكْمًا وَهُوَ صَلَاحِيَتُهُ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَاتِ كُلِّهَا ( فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ ) أَيْ جَعْلُ قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي ( مَجَازًا عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْحُرِّيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْعِتْقِ أَوْ الْمَذْكُورِ ( وَلَوْ قَالَ هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي وَمِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) يَعْنِي مِنْ الْوَجْهِ فِي الْجَانِبَيْنِ فِي قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي ( وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ هَذَا جَدِّي قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ) وَالْوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ ( وَقِيلَ لَا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي

الْمِلْكِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ ) إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ الْأَبُ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي كَلَامِهِ ( فَتَعَذَّرَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمُوجِبِ ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ لَوْ كَانَتْ مَذْكُورَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ هَذَا جَدِّي أَبُو أَبِي عَتَقَ وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ ( بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ ) لِأَنَّ لَهُمَا مُوجِبًا فِي الْمِلْكِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَوْ قَالَ هَذَا أَخِي لَا يَعْتِقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّا ) أَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ الْعِتْقِ فَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ إلَخْ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْأُخُوَّةُ فِي الْمِلْكِ تُوجِبُ الْعِتْقَ ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْعِتْقِ فَلِقَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْأُخُوَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوَرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ .
وَلَا مُوجِبَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : إنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْأَخِ إنَّمَا كَانَ إذَا ذَكَرَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ هَذَا أَخِي ، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ مُقَيَّدًا وَقَالَ هَذَا أَخِي لِأَبِي أَوْ لِأُمِّي فَيَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ لِمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأُخُوَّةِ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الِاتِّحَادُ فِي الْقَبِيلَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْأُخُوَّةُ فِي النَّسَبِ ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : الْبُنُوَّةُ أَيْضًا تَخْتَلِفُ بَيْنَ نَسَبٍ وَرَضَاعٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ الرَّضَاعِ مَجَازٌ ، وَالْمَجَازُ لَا

يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ( وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنَتِي فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ .
وَقِيلَ هُوَ ) أَيْ عَدَمُ الْعِتْقِ ( بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى ) لِأَنَّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى لِمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَالْمُسَمَّى هَاهُنَا مَعْدُومٌ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا عَنْ الِابْنِ لِعَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَهُمَا .

( وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ تَخَمَّرِي وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تُعْتَقْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَقُ إذَا نَوَى ، وَكَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَائِرُ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ عَلَى مَا قَالَ مَشَايِخُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مُوَافَقَةً إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ الْعَيْنِ ، أَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَ التَّأْبِيدُ مِنْ شَرْطِهِ وَالتَّأْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ وَعَمَلُ اللَّفْظَيْنِ فِي إسْقَاطِ مَا هُوَ حَقُّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ فِيهِ بِالشَّرْطِ ، أَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَثْبُتُ سَبَبٌ سَابِقٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَكَذَا عَكْسُهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً إثْبَاتُ الْقُوَّةِ وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ أُلْحِقَ بِالْجَمَادَاتِ وَبِالْإِعْتَاقِ يَحْيَا فَيَقْدِرُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَنْكُوحَةُ فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ إلَّا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ مَانِعٌ وَبِالطَّلَاقِ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ فَتَظْهَرُ الْقُوَّةُ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فَوْقَ مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَانَ إسْقَاطُهُ أَقْوَى وَاللَّفْظُ يَصْلُحُ مَجَازًا عَمَّا هُوَ دُونَ حَقِيقَتِهِ لَا عَمَّا هُوَ فَوْقَهُ ، فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَانْسَاغَ فِي عَكْسِهِ .

( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ ) ظَاهِرٌ إلَى قَوْلِهِ وَعَمَلُ اللَّفْظَيْنِ وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْإِعْتَاقُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ وَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِثْلُ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فَأَنَّى يُشْبِهُ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْإِعْتَاقَ أَيْضًا إسْقَاطٌ بِدَلِيلِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ فِيهِمَا ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلَيْسَتْ بِوَارِدَةٍ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِسَبَبٍ سَابِقٍ وَهُوَ كَوْنُهُ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا غَيْرَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمَانِعِ فَاسْتَوَى الْإِعْتَاقُ وَالطَّلَاقُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْعِتْقِ مُحْتَمَلَ لَفْظِهِ ( يَصْلُحُ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ كِتَابَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَكَذَا عَكْسُهُ ) لِأَنَّ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ وَالشَّيْءُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا إلَّا الشَّيْءَ الْآخَرَ يُنَاسِبُهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى مَا قَالَهُ مَشَايِخُهُمْ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَفْظَةُ الطَّلَاقِ فَحَسْبُ وَأَصْحَابُهُ قَاسُوا عَلَيْهَا سَائِرَ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ ) لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا تُجَوِّزُ الِاسْتِعَارَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً إثْبَاتُ الْقُوَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَتَقَ الطَّيْرُ : إذَا قَوَى وَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ ، وَفِي الشَّرْعِ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أُلْحِقَ بِالْجَمَادَاتِ وَبِالْإِعْتَاقِ يَحْيَا فَيَقْدِرُ .
وَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ رَفْعُ الْقَيْدِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَطْلَقْت الْبَعِيرَ عَنْ الْقَيْدِ إذَا حَلَلْته وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَانِعِ عَنْ الِانْطِلَاقِ لَا إثْبَاتِ قُوَّةِ الِانْطِلَاقِ ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ لَمْ تَزَلْ مَالِكِيَّتَهُ فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ إلَّا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ مَانِعٌ وَبِالطَّلَاقِ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ فَتَظْهَرُ الْقُوَّةُ وَلَيْسَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَكُنْ وَبَيْنَ رَفْعِ الْمَانِعِ لِتَعْمَلَ الْقُوَّةُ

الثَّابِتَةُ فِي مَحَلِّهَا مُنَاسَبَةٌ .
وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَالْأَدْنَى لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِلْأَعْلَى عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فَوْقَ مِلْكِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ إذَا صَادَفَ الْجَوَارِيَ الْخَالِيَةَ عَمَّا يَمْنَعُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ ، وَأَمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَ الْيَمِينِ أَصْلًا ، وَكُلُّ مَا كَانَ هُوَ أَقْوَى فَإِسْقَاطُهُ أَقْوَى فَمِلْكُ الْيَمِينِ إسْقَاطُهُ أَقْوَى وَاللَّفْظُ يَصْلُحُ مَجَازًا عَمَّا دُونَ حَقِيقَتِهِ لَا عَمَّا هُوَ فَوْقَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَجَازِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا وَجَدْت وَصْفًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَلْزُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْهُ فِي الْآخَرِ .
وَأَنْتَ تَرَى إلْحَاقَ الْأَضْعَفِ بِالْأَقْوَى عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَتَدَّعِي أَنَّ مَلْزُومَ الْأَضْعَفِ مِنْ جِنْسِ مَلْزُومِ الْأَقْوَى وَتُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمَ الْأَقْوَى كَمَا إذَا كَانَ عِنْدَك شُجَاعٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُلْحِقَ جُرْأَتَهُ وَقُوَّتَهُ بِجُرْأَةِ الْأَسَدِ وَقُوَّتِهِ فَتَدَّعِي الْأَسْدِيَةَ لَهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَمَا تَرَى إنَّمَا يَكُونُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ دُونَ الْعَكْسِ .
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ إزَالَةَ مِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى ظَهَرَ لَك جَوَازُ اسْتِعَارَةِ أَلْفَاظِ الْعَتَاقِ لِلطَّلَاقِ دُونَ عَكْسِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّكْتَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ فِي الْأُولَى مَنْعَ الْمُنَاسَبَةِ وَإِظْهَارَ السَّنَدِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتٌ وَالطَّلَاقَ رَفْعٌ فَأَنَّى يَتَنَاسَبَانِ ، وَفِي الثَّانِي تَسْلِيمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إسْقَاطٌ لَكِنَّ الْإِعْتَاقَ أَقْوَى وَهُوَ يُنَافِي الِاسْتِعَارَةَ .

( وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ الْمِثْلَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي عُرْفًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْحُرِّيَّةِ ( وَلَوْ قَالَ : مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ ( وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ ( وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرّ عَتَقَ ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ إذْ الرَّأْسُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ .وَقَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مِثْلَ الْحُرِّ ) إطْلَاقُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ نَوَى الْعِتْقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَعْتِقْ .
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَفِي تَعْلِيلِهِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَّ الْمِثْلَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي عُرْفًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْحُرِّيَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْحُرِّيَّةَ زَالَ الشَّكُّ .
وَقَوْلُهُ ( عُرْفًا ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ يَسْتَعْمِلُونَهُ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ يَقُولُونَ زَيْدٌ مِثْلُ عَمْرٍو مَثَلًا إلَّا إذَا كَانَ عَمْرٌو مَشْهُورًا بِصِفَةٍ كَعِلْمٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ جُودٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الِاتِّحَادِ بِالْحَقِيقَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ قَالَ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ إلَخْ ) ظَاهِرٌ .

( وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ " وَاللَّفْظُ بِعُمُومِهِ يَنْتَظِمُ كُلَّ قَرَابَةٍ مُؤَيَّدَةٍ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وِلَادًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِهِ .
لَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ أَوْ لَا يَقْتَضِيه ، وَالْأُخُوَّةُ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةٍ الْوِلَادَةِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ أَوْ الِاسْتِدْلَال بِهِ ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكَاتُبُ عَلَى الْمَكَاتِبِ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ وَلَمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ ، وَالْوِلَادُ مَلْغِيٌّ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحَرُمَ النِّكَاحُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ .
وَالْمَكَاتِبُ إذَا اشْتَرَى أَخَاهُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ يُقْدِرُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالِافْتِرَاضِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، بِخِلَافِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابَةِ فَامْتَنَعَ الْبَيْعُ فَيَعْتِقُ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُمَا قُلْنَا أَنْ نَمْنَعَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ ابْنَةَ عَمِّهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ مَا ثَبَتَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالصَّبِيُّ جُعِلَ أَهْلًا لِهَذَا الْعِتْقِ ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ حَتَّى عَتَقَ الْقَرِيبُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَشَابَهَ النَّفَقَةَ .

( فَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ الْعِتْقَ الْحَاصِلَ بِالْإِعْتَاقِ الِاخْتِيَارِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَامَّةَ مَسَائِلِ الْعِتْقِ الَّذِي يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ كَإِرْثِ قَرِيبِهِ .
وَخُرُوجِ عَبْدِ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا وَوَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا ، وَالرَّحِمُ فِي الْأَصْلِ وِعَاءُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، ثُمَّ سُمِّيَتْ الْقَرَابَةُ وَصْلَةُ مَنْ جِهَةِ الْوِلَادِ رَحِمًا ، وَمِنْهُ ذُو الرَّحِمِ ، وَالْمَحْرَمُ هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى { وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ } ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَاهُ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ ، وَاللَّفْظُ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرَابَةٍ مُؤَيَّدَةٍ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وِلَادًا أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ قِيلَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ يَعُودُ إلَى مَنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ } " وَأَمْثَالِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
أُجِيبَ بِأَنَّ وُقُوعَهُ جَزَاءً لِقَوْلِهِ " مَنْ مَلَكَ " يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ فَإِنَّ تَمَلُّكَهُ يَدُلُّ عَلَى حُرِّيَّتِهِ إذْ الْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَقَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ لَوْ عَادَ إلَيْهِ كَانَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ ، فَإِنْ قِيلَ : صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } " عَطَفَهُ بِالْفَاءِ الَّتِي لِلتَّعْقِيبِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ دَلِيلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِلُزُومِ التَّعَارُضِ ، وَمَحْمَلُهُ أَنَّ مِثْلَهُ يُسْتَعْمَلُ فِي حُصُولِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ

كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ وَضَرَبَهُ فَأَوْجَعَهُ وَأَمْثَالٌ لَهُ .
قَوْلُهُ ( وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ ، وَكُلُّ مَا يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ لَا يَلْحَقُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ بِالْقِيَاسِ ، وَكُلُّ مَا لَا يَقْتَضِيهِ لَا يَدْخُلُ غَيْرُهُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ : أَيْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُلْحَقُ فِي مَعْنَى الْمُلْحَقِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكَاتُبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ وَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ } " وَلِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ .
وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَتَقَ عَلَيْهِ ، أَمَّا أَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ فَبِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَتَقَ عَلَيْهِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوِلَادِ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ تَمَلُّكُ الْقَرِيبِ الْمَحْرَمِ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْوِلَادِ وَالْوِلَادُ مُلْغًى لِأَنَّهَا أَيْ الْقَرَابَةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا ، وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحَرُمَ النِّكَاحُ .
أَمَّا حُرْمَةُ النِّكَاحِ فَبِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَةِ فَمَذْهَبُنَا ، لَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } كَانَ ثَابِتًا أَلْبَتَّةَ فَاسْتَدَلَّ بِهِ .
وَلِمَشَايِخِنَا هُنَا نُكْتَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ هَذِهِ قَرَابَةٌ صِينَتْ عَنْ أَدْنَى الذُّلَّيْنِ وَهُوَ ذُلُّ النِّكَاحِ فَلَأَنْ تُصَانَ عَنْ أَعْلَاهُمَا أَوْلَى .
فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ ذُلَّ النِّكَاحِ أَعْلَى فَتِلْكَ مُكَابَرَةٌ تَسْتَدْعِي تَفْضِيلَ الْإِمَاءِ

عَلَى الْحَرَائِرِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَإِجْمَاعُنَا عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَرْفَعُ ذُلَّ النِّكَاحِ دُونَ الرِّقِّ مِمَّا يَحْسِمُ مَادَّةَ هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ فَإِنَّ رَافِعَ الْأَعْلَى يَرْفَعُ الْأَدْنَى لَا مَحَالَةَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْقَرَابَةُ إنْ أَوْجَبَتْ الْعِتْقَ أَوْجَبَتْ بِاعْتِبَارِ الصِّلَةِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَقَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ لَا تُوجِبُ الصِّلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فَلَا تُوجِبُ الْإِعْتَاقَ أَيْضًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ عِلَّةَ النَّفَقَةِ لَيْسَتْ الْقَرَابَةَ الْمُجَرَّدَةَ فِي الْأُخُوَّةِ بَلْ بِصِفَةِ الْوِرَاثَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَمْنَعُ الْإِرْثَ فَكَذَا مَا يُبْنَى عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ مَلَكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَعْتِقْ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ، فَكَذَا لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ .
فَإِنْ قِيلَ : عَدَمُ إنْفَاذِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إذْ أَعْتَقَا لَمْ يَنْفُذْ ، وَأَمَّا إذَا مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ يَقَعُ بِالْإِعْتَاقِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِالْمِلْكِ إنَّمَا هُوَ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ مِنْهُ ، وَمَا لَزِمَ بِإِلْزَامِهِ يَلْزَمُ بِالِالْتِزَامِ أَيْضًا بِالِاسْتِقْرَاءِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِالْمَانِعِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ ضَارٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهِ لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ

لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْكِتَابِ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لَا يَنْحَصِرُ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ أَوْ كَافِرًا .
وَقَوْلُهُ ( وَالْمُكَاتَبُ إذَا اشْتَرَى أَخَاهُ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكَاتُبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ .
وَتَقْرِيرُهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ أَيْضًا .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّمَا لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ يُقَدِّرُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُلَّاكِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عَتَقَ عَلَيْهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ عِتْقَ نَفْسِهِ كَمَا كَانَ مَقْصُودًا بِالْكِتَابَةِ لِكَوْنِهِ يَتَغَيَّرُ بِالرِّقِّ فَكَذَلِكَ رِقُّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مَقَاصِدِهَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ ، وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَخِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْعَارِ بِرِقِّهِ لُحُوقَهُ بِرِقِّ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ بِنْتَ عَمِّهِ ) جَوَابُ نَقْضٍ إجْمَالِيٍّ .
تَقْرِيرُهُ : لَوْ كَانَ تَمَلُّكُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عِلَّةً لِعِتْقِهِ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ لَعَتَقَتْ ابْنَةُ الْعَمِّ الَّتِي هِيَ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهَا إذَا اشْتَرَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ مَحْرَمِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِيهَا الْقَرَابَةُ وَهَذِهِ

لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّضَاعَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ ، وَذِكْرُ هَذَا الْجَوَابِ إنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ أَصْلِ دَلِيلِهِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ ، وَالصَّبِيُّ جُعِلَ أَهْلًا لِهَذَا الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ ، فَإِذَا دَخَلَ قَرِيبُهُمَا فِي مِلْكِهِمَا بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُمَا كَالْإِرْثِ وَالْهِبَةِ عَتَقَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ تَمَلُّكُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ قَدْ وُجِدَتْ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَعْتِقُ وَكَانَ كَالنَّفَقَةِ .

( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلصَّنَمِ عَتَقَ ) لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَوَصْفُ الْقُرْبَةِ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ فَلَا يَخْتَلُّ الْعِتْقُ بِعَدَمِهِ فِي اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ .قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ) وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلصَّنَمِ عَتَقَ لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، وَوَصْفُ الْقُرْبَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ فَلَا يَخْتَلُّ الْعِتْقُ بِعَدَمِهِ فِي اللَّفْظَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَالصَّنَمَ .

( وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ ) لِصُدُورِ الرُّكْنِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .وَقَوْلُهُ ( وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ ) وَاضِحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ .

( وَإِنْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مِلْكٍ أَوْ شَرْطٍ صَحَّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ ) أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَيُجْرَى فِيهِ التَّعْلِيقُ بِخِلَافِ التَّمْلِيكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .( وَإِنْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مِلْكٍ ) بِأَنْ يَقُولَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ( صَحَّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ ) وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَكَذَلِكَ .
أَمَّا الْإِضَافَةُ فَفِيهِ خِلَافٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ ( يَجْرِي فِيهِ التَّعْلِيقُ ) بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ التَّمْلِيكَاتِ .
وَالْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ يُبْطِلُ الْيَمِينَ وَعِنْدَنَا لَا يُبْطِلُهُ ، فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ .
وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ

( وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ ) { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ حِينَ خَرَجُوا إلَيْهِ مُسْلِمِينَ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى } وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا اسْتِرْقَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً .( وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ حِينَ خَرَجُوا إلَيْهِ مُسْلِمِينَ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } " ) رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ عَبْدَيْنِ مِنْ الطَّائِفِ خَرَجَا فَأَسْلَمَا فَأَعْتَقَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا اسْتِرْقَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً ) وَقَيَّدَ بِالِابْتِدَاءِ لِجَوَازِهِ عَلَيْهِ بَقَاءً لِأَنَّهُ فِي الْبَقَاءِ مِنْ الْأُمُورِ الْحُكْمِيَّةِ دُونَ الْجُزْئِيَّةِ فَيَجُوزُ بَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ الْأَمْلَاكِ بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا .

( وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا تَبَعًا لَهَا ) إذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا ( وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ خَاصَّةً عَتَقَ دُونَهَا ) لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إعْتَاقِهَا مَقْصُودًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَلَا إلَيْهِ تَبَعًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ ، ثُمَّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ صَحِيحٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ نَفْسَهُ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجَنِينِ وَشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِعْتَاقِ فَافْتَرَقَا .وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْتَقْ أُمُّهُ لَجَازَ بَيْعُهَا وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِهِ فَهِبَةُ الْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْأَمَةِ ، وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ فِي الْهِبَةِ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .

( وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ عَلَى مَالٍ صَحَّ ) وَلَا يَجِبُ الْمَالُ إذْ لَا وَجْهَ إلَى إلْزَامِ الْمَالِ عَلَى الْجَنِينِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا إلَى إلْزَامِهِ الْأُمَّ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَاشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتِقِ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَبَلِ وَقْتَ الْعِتْقِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ .
.

وَقَوْلُهُ ( وَاشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَقِ لَا يَجُوزُ ) قِيلَ عَلَيْهِ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْعِتْقُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحَمْلُ إلَى حَدٍّ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا يَعْقِلُ الْعَقْدَ كَمَا مَرَّ فِي خُلْعِ الصَّغِيرَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ بِأَنْ كَانَتْ عَاقِلَةً تَعْقِلُ الْعَقْدَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ بِكَلِمَةِ عَلَى وَكَانَ ذِكْرُ الْمَالِ هَاهُنَا وَصْفًا لِلْإِعْتَاقِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ كَمَا فِي طَلَاقِ الصَّغِيرَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنْ ذُكِرَ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ تَوَقَّفَ ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ رِوَايَةٍ ، وَاعْتِبَارُهُ بِخُلْعِ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ، فَالتَّوَقُّفُ فِيهِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَالْحَمْلُ لَيْسَ مِنْهُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : لَمَّا عَلِمَ الْمُعْتَقُ عَدَمَ كَوْنِ الْحَمْلِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ وَقَبُولَ الشَّرْطِ وَأَقْدَمَ عَلَى الْعِتْقِ كَانَ قَاصِدًا لِلْإِعْتَاقِ بِلَا مَالٍ أَوْ يُحْمَلُ حَالُهُ عَلَى ذَلِكَ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذِهِ حَوَالَةٌ غَيْرُ رَائِجَةٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَسْأَلَةَ الْخُلْعِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّ فِي شُرُوحِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ لِجَوَازِ وُجُوبِ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ دُونَ الْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخُلْعِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ حُصُولِ شَيْءٍ لَهُمَا بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ ، فَكَمَا جَازَ عَلَيْهَا جَازَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَالْإِعْتَاقُ يُثْبِتُ الْقُوَّةَ

الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِلْعَبْدِ قَبْلَهُ ، وَكَانَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَحْصُلُ لَهُ ، وَالْأَجْنَبِيُّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْمَالِ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَبَلِ ) وَاضِحٌ لِأَنَّ التَّيَقُّنَ بِوُجُودِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْهُ ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ .

قَالَ ( وَ وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ ) لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا .قَالَ ( وَوَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ) يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ صَاحِبِ الْمَاءِ ( وَلَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ ) .
أَيْ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ مَاءَ الْأَمَةِ لَا يُعَارِضُ مَاءَهُ لِأَنَّ مَاءَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَكُونُ الْمَاءَانِ لَهُ ، بِخِلَافِ أَمَةِ الْغَيْرِ لِأَنَّ مَاءَهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا فَتَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ ، وَوَلَدُهَا مِنْ زَوْجِهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا لِتَعَارُضِ الْمَاءَيْنِ .
وَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْأُمِّ بِأُمُورٍ : مِنْهَا الْحَضَانَةُ ، وَفِيهِ نَظَرُ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا لِمَا هُوَ قَبْلَهَا .
وَمِنْهَا اسْتِهْلَاكُ مَائِهِ بِمَائِهَا لِكَوْنِ مَائِهَا فِي مَوْضِعِهِ .
وَمِنْهَا تَيَقُّنُ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهَا بِخِلَافِ مَاءِ الزَّوْجِ وَكَانَ الْفِرَاشُ مِنْ جَانِبِهَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَمِنْ جَانِبِهِ حُكْمًا فَقَطْ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لَا مَحَالَةَ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ مَا دَامَ جَنِينًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا إلَى أَنْ يَنْفَصِلَ حِسًّا وَشَرْعًا ، أَمَّا حِسًّا فَإِنَّهُ يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا وَيَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهَا حَتَّى يُقْرَضَ بِالْمِقْرَاضِ عِنْدَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إثْبَاتِهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ .

( وَوَلَدُهَا مِنْ زَوْجِهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا ) لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْأُمِّ بِاعْتِبَارِ الْحَضَانَةِ أَوْ لِاسْتِهْلَاكِ مَائِهِ بِمَائِهَا وَالْمُنَافَاةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِهِ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِأَنَّ الْوَالِدَ مَا رَضِيَ بِهِ .وَقَوْلُهُ ( وَالْمُنَافَاةُ مُتَحَقِّقَةٌ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ التَّرْجِيحُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ التَّعَارُضِ وَتَقْرِيرُهُ : التَّعَارُضُ مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ مُتَحَقِّقَةٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَ الْأُمِّ كَانَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَ الْأَبِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا فَثَبَتَتْ الْمُنَافَاةُ بِخِلَافِ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لِلْمَوْلَى : أَيُّ جَانِبٍ اُعْتُبِرَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا اُعْتُبِرَ جَانِبُ الْأَمَةِ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهَا يَتَضَرَّرُ الْأَبُ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا .
وَتَقْرِيرُهُ : الزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِرِقِّ الْوَلَدِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عَالِمًا بِأَنَّ الْوَلَدَ يُرَقُّ بِهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْوَلَدِ رَقِيقًا بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ وَكَلَامُنَا فِي شَرْعِيَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ ) ظَاهِرٌ

( وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ) لِأَنَّ جَانِبَهَا رَاجِحٌ فَيَتَّبِعُهَا فِي وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يَتَّبِعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية وَالتَّدْبِيرِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالْكِتَابَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .( وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ جَانِبَهَا رَاجِحٌ ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( فَيَتْبَعُهَا فِي وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ ) كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِتَغَايُرِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ ، فَإِنَّ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمِلْكَ كَامِلٌ وَالرِّقَّ نَاقِصٌ وَفِي الْمُكَاتَبِ عَلَى عَكْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ ( وَالتَّدْبِيرُ وَأُمِّيَّةُ الْوَلَدِ وَالْكِتَابَةُ كَالتَّفْسِيرِ لِذَلِكَ ) وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ ) عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : ( يَعْتِقُ كُلُّهُ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِضَافَتُهُ إلَى الْبَعْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْكُلِّ فَلِهَذَا يَعْتِقُ كُلُّهُ .
لَهُمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ ، وَإِثْبَاتُهَا بِإِزَالَةِ ضِدِّهَا وَهُوَ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ وَهُمَا لَا يَتَجَزَّآنِ فَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ ، أَوْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ وَالرِّقَّ حَقُّ الشَّرْعِ أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ .
وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُوَ إزَالَةُ حَقِّهِ لَا حَقِّ غَيْرِهِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضَافَةِ وَالتَّعَدِّي إلَى مَا وَرَاءَهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجْزِيءِ ، وَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَتَجِبُ السِّعَايَةُ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّةِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْعَبْدِ ، وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْبَعْضِ تُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُلِّهِ ، وَبَقَاءُ الْمِلْكِ فِي بَعْضِهِ يَمْنَعُهُ ، فَعَمِلْنَا بِالدَّلِيلَيْنِ بِإِنْزَالِهِ مُكَاتَبًا إذْ هُوَ مَالِكُ يَدٍ إلَّا رَقَبَةً ، وَالسِّعَايَةُ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ .
وَلَهُ خِيَارُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا إلَى أَحَدٍ فَلَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَقْصُودَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً ،

فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمُحَرَّمِ ، وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ ، حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَفِي الْقِنَّةِ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَكَمُلَ الِاسْتِيلَادُ .

( بَابُ الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ ) : أَخَّرَ إعْتَاقَ الْبَعْضِ عَنْ إعْتَاقِ الْكُلِّ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : يَعْتِقُ كُلُّهُ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ وَاحِدًا أَوْ مُوسِرًا إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَمِلْكُ السَّاكِتِ بَاقٍ كَمَا كَانَ حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَهَبَ عَلَى مَا يَجِيءُ ، وَكُلُّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ ( فَإِضَافَتُهُ إلَى الْبَعْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْكُلِّ فَلِهَذَا يَعْتِقُ كُلُّهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ : الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِنَا الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ لَيْسَ هُوَ أَنَّ ذَاتِ الْقَوْلِ يَتَجَزَّأُ أَوْ حُكْمَهُ يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَحَلَّ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ يَتَجَزَّأُ فَيُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ .
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ هَلْ يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ عَنْ الْمَحَلِّ كُلِّهِ أَمْ لَا ؟ عِنْدَهُ لَا يُوجِبُ بَلْ يَبْقَى كُلُّ الْمَحَلِّ رَقِيقًا وَلَكِنْ زَالَ الْمِلْكُ بِقَدْرِهِ .
وَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ عَنْ الْكُلِّ ( لَهُمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ وَإِثْبَاتُهَا بِإِزَالَةِ ضِدِّهَا الَّذِي هُوَ الرِّقُّ ) لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِزَالَةُ أَحَدِهِمَا تُوجِبُ إثْبَاتَ الْآخَرِ وَهُمَا لَا يَتَجَزَّآنِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ الْإِعْتَاقُ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ أَوْ تَجَزِّي الْعِتْقِ ، لِأَنَّهُ إذَا تَجَزَّأَ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِإِعْتَاقِ الْبَعْضِ عِتْقُ كُلِّ الرَّقَبَةِ أَوْ لَا يَثْبُتَ شَيْءٌ أَوْ يَثْبُتَ بَعْضُهُ ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ

الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَخِيرِ يَلْزَمُ تَجَزِّي الْعِتْقِ ( فَصَارَ ) الْإِعْتَاقُ ( كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ ) فِي عَدَمِ التَّجَزُّؤِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْقَاطٌ كَالطَّلَاقِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ هَاهُنَا إثْبَاتًا لِلْعِتْقِ .
قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ غَلَّبَ جِهَتَهُمَا عَلَى جِهَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ إنَّ الْإِعْتَاقَ إلَخْ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ ) وَهُوَ الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ الْمُطْلَقُ لِلتَّصَرُّفِ ( أَوْ هُوَ ) أَيْ الْإِعْتَاقُ ( إزَالَةُ الْمِلْكِ ) لَا إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الرِّقُّ وَلَا هُوَ إزَالَةُ الرِّقِّ لِيَلْزَمَ عَدَمُ التَّجَزُّؤِ ( لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُعْتِقِ ( وَالرِّقَّ حَقُّ الشَّرْعِ ) لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا اسْتَنْكَفَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ جَازَاهُ اللَّهُ فَصَيَّرَهُ عَبْدَ عَبْدِهِ ( أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ ) لِأَنَّ الْغَانِمِينَ كَمَا يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ الرَّقِيقِ يَقْتَسِمُونَهُ ( وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُوَ إزَالَةُ حَقِّهِ لَا حَقِّ غَيْرِهِ ) وَهَذَا كَمَا تَرَى بِنَاءً لِكَلَامِهِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ ، وَتَقْرِيرُهُ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مُتَجَزٍّ فَالْإِعْتَاقُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ لَا بِإِزَالَةِ الرِّقِّ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَصَرُّفٌ لَا يَتَعَدَّى وِلَايَةَ الْمُتَصَرِّفِ فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَعَدَّى وِلَايَةَ الْمُتَصَرِّفِ ، وَوِلَايَةُ الْمُتَصَرِّفِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّهُ وَحَقُّهُ الْمِلْكُ فَوِلَايَتُهُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمِلْكِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْمِلْكَ مُتَجَزٍّ فَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَجَزٍّ وَهُوَ الْعِتْقُ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَجْزِئَتَهُ وَلَا تَجْزِئَةَ

عِلَّتِهِ كَجَوَازِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَجَزٍّ تَعَلَّقَ بِمُتَجَزٍّ وَهُوَ الْأَرْكَانُ ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَجَزٍّ تَعَلَّقَ بِمُتَجَزٍّ وَهُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ تَجْزِئَتَهَا وَلَا عِلَّتَهَا وَهِيَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ .
هَذَا تَقْرِيرُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ .
وَتَقْرِيرُ الْآخَرِ : الْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مُتَجَزٍّ ، فَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ مُتَجَزٍّ وَإِزَالَةُ الْمُتَجَزِّئِ مُتَجَزٍّ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا أَسْهَلُ مَأْخَذًا ، ثُمَّ إذَا تَجَزَّى الْإِعْتَاقُ بِزَوَالِ بَعْضِ الْمِلْكِ احْتَبَسَ مَالِيَّةُ نِصْفِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ( وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( لِأَنَّ الْإِضَافَةَ ) أَيْ إضَافَةَ الْإِعْتَاقِ ( إلَى الْبَعْضِ تُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ ) لِلْعَبْدِ ( فِي الْكُلِّ ) بِاعْتِبَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ( وَبَقَاءُ الْمِلْكِ فِي بَعْضِهِ يَمْنَعُهُ ) عَنْ ثُبُوتِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ مَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْكُلِّ وَمَا يُوجِبُ بَقَاءَ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ ، وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ مُمْكِنٌ بِإِنْزَالِهِ مُكَاتَبًا فَعَمِلْنَا بِهِمَا وَجَعَلْنَاهُ مُكَاتَبًا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ يَدًا وَمَمْلُوكٌ رَقَبَةً كَالْمُسْتَسْعَى ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذْ هُوَ أَيْ مُعْتَقُ الْبَعْضِ مَالِكٌ يَدًا لِأَجْلِ السِّعَايَةِ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً كَالْمُكَاتَبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْبَعْضِ تُوجِبُ ثُبُوتَ مَالِكِيَّتِهِ فِي الْكُلِّ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا ، وَبَقَاءُ الْمِلْكِ فِي بَعْضِهِ يَمْنَعُهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَقُلْنَا إنَّهُ حُرٌّ يَدًا مَمْلُوكٌ رَقَبَةً كَالْمُكَاتَبِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ .
وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ كَانَتْ السِّعَايَةُ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ ( فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ وَلَهُ خِيَارُ أَنْ يُعْتِقَهُ

لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَعَادَ رَقِيقًا إذَا عَجَزَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ لَا يُرَدُّ رَقِيقًا لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا إلَى أَحَدٍ ) وَالْإِسْقَاطُ لَا إلَى أَحَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَا أَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ ( بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَقْصُودَةِ ) فَإِنَّهَا إسْقَاطٌ مِنْ الْمَوْلَى إلَى الْمُكَاتَبِ إقْدَارًا عَلَى تَحْصِيلِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَيُقَالُ وَيُفْسَخُ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا إلَى أَجَلٍ : يَعْنِي بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَقْصُودَةِ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ فِيهَا إلَى أَجَلٍ وَهُوَ وَقْتُ أَدَاءِ الْبَدَلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ فَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّا لَمْ نُثْبِتْ الْعِتْقَ فِي الْكُلِّ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلَيْنِ بِوُجُودِ حَالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ بَيْنَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَهِيَ الْكِتَابَةُ يُصَارُ إلَيْهَا ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ ذَلِكَ ( فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمَحْرَمِ ، وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ مُتَجَزٍّ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ) حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلَدُ عَتَقَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئًا لَاطَّرَدَ فِي الْقِنَّةِ أَيْضًا .
أَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَتَجَزَّأْ فِي الْقِنَّةِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَكَمَّلَ الِاسْتِيلَادَ وَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ لَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُتَجَزٍّ

( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ ) ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ، .قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ .
وَنُوقِشَ مُنَاقَشَةً لَفْظِيَّةً ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِتْقِ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِهِ عَتَقَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ أَوْ زَالَ مِلْكُ الشَّرِيكِ مَعَ بَقَاءِ الرِّقِّ فِي كُلِّ الْعَبْدِ .

فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ ( وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ) وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .وَقَوْلُهُ ( فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي صِفَةِ السَّبَبِ بِأَنْ يَكُونَ إعْتَاقُ أَحَدِهِمَا بِمَالٍ وَإِعْتَاقُ الْآخَرِ بِدُونِهِ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا .

( وَقَالَا : لَيْسَ لَهُ إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجْزِيءُ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَالثَّانِي : أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ سِعَايَةَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ .
لَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ ، إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا سَعَى فِي حِصَّةِ الْآخَرِ ، قُسِّمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ .وَقَوْلُهُ ( لَهُمَا فِي الثَّانِي ) يَعْنِي أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ يَعْتِقُ نَصِيبَهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا سَعَى فِي حِصَّةِ الْآخَرِ } وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ، إمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ مُفْسِدٌ عَلَى الشَّرِيكِ نَصِيبَهُ بِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ وَضَمَانُ الْإِفْسَادِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَإِمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَرَرُ تَصَرُّفِهِ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَنْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ أَوْ أَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فِي أَرْضِهِ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ مِلْكِ جَارِهِ ، وَلَكِنَّهُمَا تَرَكَا الْقِيَاسَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ ، رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَمِثْلُهُ رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ ( قَسْمٌ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ ) وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .

وَلَهُ أَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ حَتَّى انْصَبَغَ بِهِ فَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ صَبْغِ الْآخَرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَاهُنَا ، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ .وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَلَهُ أَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ ) قِيلَ عَلَيْهِ إذَا سَعَى ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَرَّطَهُ وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا سَعَى .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عُسْرَةَ الْمُعْتِقِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلسَّاكِتِ فَكَذَلِكَ تَمْنَعُهُ لِلْعَبْدِ ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا سَعَى فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ وَمَالِيَّتِهِ وَقَدْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّ سِعَايَتَهُ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَمَنْ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى قَضَاءِ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْ جِهَتِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا فِي مُعِيرِ الرَّهْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الِاسْتِسْعَاءَ بِفَقْرِ الْمُعْتِقِ ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الِاسْتِسْعَاءَ عِنْدَ عَدَمِهِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا يَقْتَضِي الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ ، فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ السِّعَايَةُ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ أَبِي حَنِيفَةَ .

ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ الْآخَرِ لَا يَسَارُ الْغِنَى ، لِأَنَّ بِهِ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَإِيصَالِ بَدَلِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، فَعَدَمُ رُجُوعِ الْمُعْتِقِ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ .
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِ فَخِيَارُ الْإِعْتَاقِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْبَاقِي إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَالتَّضْمِينُ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِهِ نَصِيبَهُ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ ، وَالِاسْتِسْعَاءُ لِمَا بَيَّنَّا .

وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ الْآخَرِ لَا يَسَارَ الْغَنِيِّ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ ) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْكَفَافَ وَهُوَ الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ وَثِيَابُ الْبَدَنِ ، وَالْحَسَنُ قَدْ رَوَى اسْتِثْنَاءَهُ .
وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ يَوْمَ الْعِتْقِ ، وَكَذَا حَالُ الْمُعْتِقِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُعْتِقُ أَعْتَقْت وَأَنَا مُعْسِرٌ وَقَالَ السَّاكِتُ بِخِلَافِهِ نَظَرَ إلَيْهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ .
وَقَوْلُهُ لَا يَسَارُ الْغَنِيِّ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّرْطَ يَسَارُ الْغَنِيِّ ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ قَدْرَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ النِّصَابِ كَانَ مُعْسِرًا اعْتِبَارًا لِلْيَسَارِ الْمَعْهُودِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ بِهِ ) أَيْ بِيَسَارِ التَّيْسِيرِ ( يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) جَانِبِ الْمُعْتِقِ وَالسَّاكِتِ ( بِتَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَإِيصَالِ بَدَلِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ ) وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَ الْمُعْتِقِ بِالْإِعْتَاقِ الْقُرْبَةُ ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِعِتْقِ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِإِيصَالِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ ، وَإِذَا مَلَكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ الْمَالِ تَمَكَّنَ مِنْ إتْمَامِ قَصْدِهِ وَإِيصَالِ بَدَلِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلْعُدُولِ إلَى غَيْرِهِ .
وَقَوْلُهُ ( ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ ) يَعْنِي إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفَيْنِ : أَيْ أَصْلَيْنِ .
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي التَّخْرِيجِ وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوقِعًا لِلْعِتْقِ فِي النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا وَيَسَارُهُ مَانِعٌ عَنْ السِّعَايَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَانْتَفَتْ السِّعَايَةُ فَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ

السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْيَسَارِ لِلْأَصْلِ الثَّانِي ، فَلَوْ رَجَعَ لَكَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ( وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ ) لِلْأَصْلِ الْأَوَّلِ ( وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِ فَخِيَارُ الْإِعْتَاقِ ) لِلشَّرِيكِ بِنَاءً عَلَى الْحَرْفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَجَزِّئًا كَانَ مِلْكُهُ فِي الْبَاقِي قَائِمًا فَجَازَ إعْتَاقُهُ ، وَأَمَّا التَّضْمِينُ فَلِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : التَّضْمِينُ عَلَى مَذْهَبِهِ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ .
أَمَّا عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّجَزُّؤَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَرْفَيْنِ مَبْنَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَذْهَبَانِ لَا مِنْ حَيْثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالضَّمَانُ فِي مَذْهَبِهِمَا مُعْتَمِدٌ عَلَى عَدَمِ التَّجَزُّؤِ لَا مَحَالَةَ .
عَلَى أَنَّا نَقُولُ : إنَّ التَّجَزُّؤَ إنْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَجَزٍّ يُوجِبُهُ مِنْ حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ إفْسَادُ النَّصِيبِ فَكَانَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالِاسْتِسْعَاءُ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالتَّضْمِينُ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّهُ اُحْتُبِسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي .

وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَقَدْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاسْتِسْعَاءِ فَكَذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ضِمْنًا فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكُلَّ لَهُ وَقَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْبَاقِيَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ إنْ شَاءَ ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ .
وَفِي حَالِ إعْسَارِ الْمُعْتِقِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْوَلَاءُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعِي عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا أَدَّى بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا لِأَنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ أَوْ لَا يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الْمُعْتَقِ إذْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعُسْرَتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ الْمُعْسِرُ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ أَوْ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوسِرِ كَقَوْلِهِمَا .
وَقَالَ فِي الْمُعْسِرِ : يَبْقَى نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ يُبَاعُ وَيُوهَبُ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَضْمِينِ الشَّرِيكِ لِإِعْسَارِهِ وَلَا إلَى السِّعَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِجَانٍ وَلَا رَاضٍ بِهِ ، وَلَا إلَى إعْتَاقِ الْكُلِّ لِلْإِضْرَارِ بِالسَّاكِتِ فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَاهُ .
قُلْنَا : إلَى الِاسْتِسْعَاءِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجِنَايَةِ بَلْ تُبْتَنَى السِّعَايَةُ عَلَى احْتِبَاسِ الْمَالِيَّةِ فَلَا يُصَارُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالضَّعْفِ السَّالِبِ لَهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ .

( وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَقَدْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ) أَيْ أَخْذُ الْقِيمَةِ ( بِالِاسْتِسْعَاءِ ) بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي ، فَكَذَا مَنْ قَامَ مَقَامَهُ كَالْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْقَاتِلِ ( وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ضِمْنًا فَصَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ لَهُ وَقَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْبَاقِيَ أَوْ يَسْتَسْعِي إنْ شَاءَ ) وَقَوْلُهُ ضِمْنًا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُكَاتَبُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ فَكَيْفَ قِيلَ ذَلِكَ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ ضِمْنِيٌّ وَالضِّمْنِيَّاتُ لَا تُعْتَبَرُ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ ) يَعْنِي إذَا ضَمِنَ الْمُعْتِقُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّا ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعَى عَلَى الْمُعْتِقِ ) ظَاهِرٌ ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ .
قَوْلُهُ ( وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُوسِرِ ) بَيَانٌ لِمَوْضِعِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مُطْلَقًا فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ هَاهُنَا .
وَقَوْلُهُ وَلَا رَاضٍ بِهِ ) أَيْ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ الرِّضَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْمَوْلَى مُنْفَرِدٌ بِالْإِعْتَاقِ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَالِمًا بِهِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا .
وَقَوْلُهُ ( فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي عِتْقَ مَا عَتَقَ وَرِقَّ مَا رُقَّ ( وَقُلْنَا إلَى الِاسْتِسْعَاءِ سَبِيلٌ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ لَا يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْجِنَايَةِ ) كَمَا فِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا ( بَلْ يَنْبَنِي عَلَى احْتِبَاسِ الْمَالِيَّةِ ) وَهُوَ مَوْجُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَإِذَا كَانَ إلَى الِاسْتِسْعَاءِ سَبِيلٌ لَا يُصَارُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ إعْتَاقِ الْبَعْضِ وَالضَّعْفِ

السَّالِبِ لَهَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأَمْثَالِهِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ .

قَالَ ( وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَصَارَ مُكَاتِبًا فِي زَعْمِهِ عِنْدَهُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِرْقَاقُ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ وَيَسْتَسْعِيه لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيَانِهِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْحَالَيْنِ فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ ، لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهُوَ السِّعَايَةُ ، وَالْوَلَاءُ لَهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُولُ عَتَقَ نَصِيبُ صَاحِبِي عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ ، وَعَتَقَ نَصِيبِي بِالسِّعَايَةِ وَوَلَاؤُهُ لِي .

قَالَ ( وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَّا مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( بِالْعِتْقِ ) أَيْ بِالْإِعْتَاقِ .
وَقَوْلُهُ ( فِي زَعْمِهِ ) أَيْ فِي زَعْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ ( فَيُصَدَّقُ ) يَعْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ ) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّدْقِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ مَمْلُوكُهُ ) يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ الْكَذِبِ فَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ ، وَإِنَّمَا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ أَعْتَقَ شَرِيكِي نَصِيبَهُ يَكُونُ الْكَسْبُ لِلْمَوْلَى ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِسْعَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ لِلْمَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مُكَاتَبًا بِاعْتِبَارِ تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ الِاسْتِسْعَاءُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ أَيْضًا جَائِزٌ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْحَالَيْنِ ) أَيْ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ( فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ ) أَيْ التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ التَّضْمِينُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحْلِيفِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ يَحْلِفُ ، فَإِذَا نَكَلَ وَجَبَ الضَّمَانُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ صَاحِبُهُ يَحْلِفُ وَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَلِفِ فَتَتَعَيَّنُ السِّعَايَةُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحْلِيفِ بَلْ تَتَعَيَّنُ السِّعَايَةُ بِلَا تَحْلِيفٍ لِأَنَّ مَآلُهُ إلَيْهِ .

( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْرَأُ عَنْ سِعَايَتِهِ بِدَعْوَى الْعَتَاقِ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا ، إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَثْبُتْ لِإِنْكَارِ الْآخَرِ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ السِّعَايَةِ قَدْ ثَبَتَتْ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ( وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إذْ الْمُعْتِقُ مُعْسِرٌ ( وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِإِعْسَارِهِ ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فَلَا يَتَبَرَّأُ عَنْهُ ( وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ مِنْهُمَا ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسَارِهِ فَيَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْعَبْدِ عَنْ السِّعَايَةِ ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحِيلُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ عَنْهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا .وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ .

( وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إنْ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ ) لِأَنَّ الْمُقْضَى عَلَيْهِ بِسُقُوطِ السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ ، كَذَا هَذَا .
وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ ، وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِسُقُوطِ النِّصْفِ كَيْفَ يُقْضَى بِوُجُوبِ الْكُلِّ ، وَالْجَهَالَةُ تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ وَالتَّوْزِيعِ ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ وَمَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ أَوْ الْبَيَانِ ، وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ أَوْ لَا يَمْنَعُهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ .

( وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ الْآخَرُ إنْ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ ، فَحَالُهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ الْبَاقِي عَلَى السَّوَاءِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَمْ يَسْعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ عَنْ السِّعَايَةِ وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ الْمُوسِرُ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْسِرَ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ وَيَتَبَرَّأُ عَنْ سِعَايَةِ الْعَبْدِ فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ عَنْهُ ، وَالْمُوسِرُ يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى لَهُ فِي حِصَّتِهِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ ) بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَمْ يَسْعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْسِرَ يَتَبَرَّأُ عَنْ السِّعَايَةِ وَالْمُوسِرُ يَدَّعِيهَا ، فَإِنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ أَيْضًا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ وَأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ وَهُوَ الْحَانِثُ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ .
وَالْمَجْهُولُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ كَذَا هَذَا .
وَلَهُمَا أَنَّا

تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ ، وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِسُقُوطِ النِّصْفِ كَيْفَ يُقْضَى بِوُجُوبِ الْكُلِّ ، وَالْجَهَالَةُ تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ وَالتَّوْزِيعِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي التَّوْزِيعِ فَسَادٌ وَهُوَ إسْقَاطُ السِّعَايَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ وَإِيجَابُهُ لِلْمُعْتَقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتَحَمِّلٌ ضَرُورَةَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْعَبْدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ بِالتَّوْزِيعِ وَقُلْنَا بِوُجُوبِ كُلِّ السِّعَايَةِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالتَّوْزِيعِ فَقَدْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ التَّوْزِيعُ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ ) قَدْ أَمْضَيْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ .

( وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ مَجْهُولٌ ، وَكَذَلِكَ الْمَقْضِيَّ لَهُ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ ، وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ مَعْلُومٌ فَغَلَبَ الْمَعْلُومُ الْمَجْهُولَ .وَقَوْلُهُ ( وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ ) ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ .

( وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ ابْنَ أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ ) لِأَنَّهُ مَلَكَ شِقْصَ قَرِيبِهِ وَشِرَاؤُهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَا مَرَّ ( وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) عَلِمَ الْآخَرُ أَنَّهُ ابْنُ شَرِيكِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ( وَكَذَا إذَا وَرِثَاهُ ، وَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : فِي الشِّرَاءِ يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَلَكَا ، بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَاهُ رَجُلَانِ وَأَحَدُهُمَا قَدْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ .
لَهُمَا أَنَّهُ أَبْطَلَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ، وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ فَلَا يُضَمِّنُهُ ، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ صَرِيحًا ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا ، وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا حَتَّى يَخْتَلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيَسْقُطَ بِالرِّضَا ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِمِلْكِهِ .

قَوْلُهُ ( وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْأَبِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا لَوْ وَرِثَاهُ ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ .
وَصُورَتُهُ امْرَأَةٌ اشْتَرَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فَمَاتَتْ عَنْ أَخٍ وَزَوْجٍ كَانَ النِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، أَوْ امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجٌ وَأَبٌ وَلَهَا غُلَامٌ وَهُوَ أَبُو زَوْجِهَا فَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ صَارَ غُلَامُهَا مِيرَاثًا بَيْنَ زَوْجِهَا وَأَبِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَقَالَا فِي الشِّرَاءِ ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِي صُورَةِ الْإِرْثِ .
وَقَوْلُهُ ( قَدْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالنِّصْفِ ، لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِشَرِكَةِ الْآخَرِ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ شِرَاءُ كُلِّ الْعَبْدِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ .
وَتَقْرِيرُهُ : الشَّرِيكُ الْآخَرَ رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ وَمَنْ رَضِيَ بِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُفْسَدَ ( كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ صَرِيحًا وَدَلَالَةُ ذَلِكَ ) أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى رِضَاهُ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ ( أَنَّهُ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ ، وَهُوَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا ) وَالْمُشَارَكَةُ فِي عِلَّةِ الْعِتْقِ رِضًا بِالْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ .
وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ التَّمَلُّكِ وَالتَّمَلُّكُ فِي الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَصْلُحْ الْعِلَّةُ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَثْبُتُ بَعْدَ مُبَاشَرَةِ عِلَّتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ ، بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ لَا إعْتَاقَ هُنَاكَ وَلِهَذَا لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ إنَّمَا كَانَ الرِّضَا مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ أَنْ لَوْ كَانَ ضَمَانَ إفْسَادٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ فَلَا

يَسْقُطُ بِهِ كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ إذْ الِاسْتِيلَادُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الْوَلَدِ لَا لِلْعِتْقِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ بِهِ ضَمَانَ عِتْقٍ وَهُوَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ فَكَانَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ .
وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّهُ ضَمَانُ إفْسَادٍ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا حَتَّى يَخْتَلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيَسْقُطَ بِالرِّضَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ الْعِلْمِ ) أَيْ بِالْقَرَابَةِ ( وَعَدَمِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ ) أَيْ الْعِلَّةِ ( كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِمِلْكِهِ ) وَالسَّبَبُ قَدْ وُجِدَ بِمَا مَرَّ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْقَرَابَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا .

( وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ نِصْفَهُ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَبَ ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ ( وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ) لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ .
وَقَالَا : لَا خِيَارَ لَهُ وَيَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا .وَقَوْلُهُ ( وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ .

( وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُوسِرًا ) وَمَعْنَاهُ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ فَلَا يَضْمَنُ لِبَائِعِهِ شَيْئًا عِنْدَهُ ، وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ .وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ( وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ ضَمِنَ لِلسَّاكِتِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَهُمَا أَنَّهُ أَبْطَلَ وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ .

( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ ) فَأَرَادُوا الضَّمَانَ فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ قِنًّا وَلَا يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ .قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ فَأَرَادُوا الضَّمَانَ ) أَيْ أَرَادَا ، لِأَنَّ مُرِيدَ الضَّمَانِ إنَّمَا هُوَ السَّاكِتُ وَالْمُدَبَّرُ دُونَ الْمُعْتَقِ ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةَ ، أَوْ أَطْلَقَ الْجَمْعَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ ( فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبَّرَ وَلَا يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ ) .

( وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِهِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ ، وَقَدْ أَفْسَدَ بِالتَّدْبِيرِ نَصِيبَ الْآخَرَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُدَبِّرَ نَصِيبَهُ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَاسِدٌ بِإِفْسَادِ شَرِيكِهِ حَيْثُ سَدَّ عَلَيْهِ طُرُقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ بَيْعًا وَهِبَةً عَلَى مَا مَرَّ ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهُ غَيْرَهُ فَتَوَجَّهَ لِلسَّاكِتِ سَبَبُ ضَمَانِ تَدْبِيرِ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقِ هَذَا الْمُعْتَقِ ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى جُعِلَ الْغَصْبُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَقْتَ التَّدْبِيرِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُكَاتَبٌ أَوْ حُرٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَكَاتِبِ بِفَسْخِهِ حَتَّى يَقْبَلَ الِانْتِقَالَ فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ ، ثُمَّ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مُدَبَّرًا ، وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ ، وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا عَلَى مَا قَالُوا .

وَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنْ كَانَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا مَثَلًا فَإِنَّ السَّاكِتَ يُضَمِّنُ الْمُدَبَّرَ تِسْعَةً وَالْمُدَبَّرَ يُضَمِّنُ الْمُعْتَقَ سِتَّةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَةِ الْقِنِّ لِمَا نَذْكُرُ ، فَبِالتَّدْبِيرِ تَلِفَتْ مِنْهُ تِسْعَةٌ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِالْإِعْتَاقِ وَاقِعًا عَلَى قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَهِيَ ثُلُثَا قِيمَةِ الْقِنِّ وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سِتَّةٌ ، فَيُضَمِّنُ الْمُدَبَّرُ الْمُعْتِقَ تِلْكَ السِّتَّةَ فَقَطْ وَلَا يُضَمِّنُهُ التِّسْعَةَ الَّتِي هِيَ نَصِيبُ السَّاكِتِ مَعَ تِلْكَ السِّتَّةِ الَّتِي يُضَمِّنُهُ إيَّاهَا ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : الْعَبْدُ لِلْمُدَبَّرِ وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ) قَوْلُهُ ( وَأَصْلُ هَذَا ) ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا مَرَّ ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ إلَخْ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبَّرَ ) بَيَانُ حَصْرِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُدَبَّرِ بَعْدَمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ أَيْضًا سَبَبَ ضَمَانٍ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ وَضَمَانَ الْمُعْتِقِ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَإِتْلَافٍ ، وَالْأَصْلُ فِي الضَّمَانِ هُوَ ضَمَانُ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ ؛ أَمَّا أَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ فَلِأَنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَهُوَ كَانَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ فَكَانَ ضَمَانُهُ مُقَابَلًا بِذَلِكَ فَانْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ مُوجِبًا لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ ، وَمَا أَتْلَفَهُ كَانَ بَعْدَ تَدْبِيرِ الْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانًا مِنْ غَيْرِ تَمَلُّكِ الْمَضْمُونِ وَذَلِكَ

خَالِصُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الضَّمَانِ ضَمَانُ الْمُعَاوَضَةِ فَوَاضِحٌ ( وَلِهَذَا جَعَلَ الْغَصْبَ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَاكْتَسَبَ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَسْبًا ثُمَّ أَبَقَ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ إبَاقِهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ ذَلِكَ الْكَسْبُ لِلْغَاصِبِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ إذَا كَانَ الْمُدَبَّرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ وَمَا أَتْلَفَهُ بِتَدْبِيرِهِ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ كَانَ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُكَاتَبٌ أَوْ حُرٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ) قَالَ الْإِمَامُ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ الْمُصَنِّفِ : هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَا قَوْلُهُ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمُكَاتَبِ بِفَسْخِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ لَيْسَ بِمُكَاتَبٍ وَلَا حُرٍّ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَفْسَخُ بِالْعَجْزِ وَلَا بِالتَّفَاسُخِ ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُدَبَّرٌ .
وَأَقُولُ : لِلسَّاكِتِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَكُلُّ مَنْ فِيهِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ فِيهِ حَقُّ الْبَيَانِ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَسْأَلَةِ الثَّابِتِ وَالْخَارِجِ وَالدَّاخِلِ أَنَّ لِلْمَوْلَى بَيَانَ حَقِّ الْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّابِتِ وَالْخَارِجِ ، فَمَا دَامَ لَهُ حَقُّ الْبَيَانِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُرًّا مِنْ وَجْهٍ عَبْدًا مِنْ وَجْهٍ ، فَكَانَ الثَّابِتُ كَالْمُكَاتَبِ ، فَكَذَا هَاهُنَا مَا دَامَ لَهُ حَقُّ السِّعَايَةِ فِي الْمُدَبَّرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ

الْمُكَاتَبِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَقْبَلُ الْفَسْخَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ فَكَذَلِكَ تَنْفَسِخُ بِالتَّرَاضِي وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا قَالُوا ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا .
قَالَ بَعْضُهُمْ : نِصْفُ قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ قَبْلَ التَّدْبِيرِ كَانَ لَهُ فِيهِ نَوْعُ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَمَا شَاكَلَهُ وَمَنْفَعَةُ الْإِجَارَةِ وَمَا شَاكَلَهَا وَقَدْ زَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْبَيْعُ وَبَقِيَ الْآخَرُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قِيمَتُهُ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ يَنْظُرُ بِكَمْ يُسْتَخْدَمُ وَهُوَ مُدَّةُ عُمُرِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ .
وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ وَالسِّعَايَةِ بَاقِيَةٌ وَمَنْفَعَةَ الْبَيْعِ زَائِلَةٌ ، وَقِيلَ الْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ .

وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ .وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَمَّا أَدَّى ضَمَانَ نَصِيبِ السَّاكِتِ وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهِ قِنًّا مَلَكَ الْمُدَبَّرُ نَصِيبَ السَّاكِتِ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا الْعَبْدِ ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الثُّلُثُ مُدَبَّرًا ، فَإِنَّ نَصِيبَهُ بَعْدَ تَدْبِيرِهِ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَفَسَدَ بِالْإِعْتَاقِ فَيُضْمَنُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ الثُّلُثِ الَّذِي تَمَلَّكَ عَلَى السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ مُسْتَنِدًا وَالْمُسْتَنِدُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ نَصِيبُ السَّاكِتِ إلَى الْمُدَبَّرِ قَامَ الْمُدَبَّرُ مَقَامَ السَّاكِتِ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ ، وَالسَّاكِتُ لَا يَمْلِكُ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ .
وَبِالْوَجْهِ الثَّانِي يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ يَضْمَنُ لِلسَّاكِتِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ تَضْمِينُ الْمُعْتِقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَيُّنِ تَضْمِينِ الْمُدَبَّرِ لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ ، فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ .
وَأَمَّا الْمُعْتِقُ فَلَمَّا قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَكَانَ لِلسَّاكِتِ وِلَايَةُ الِاسْتِسْعَاءِ كَانَ لِلْمُعْتِقِ أَيْضًا تِلْكَ الْوِلَايَةُ .

وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبِّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ .وَقَوْلُهُ ( وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقِ وَالْمُدَبَّرِ ) أَيْ بَيْنَ عَصَبَةِ الْمُدَبَّرِ ( أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبَّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتَقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ ) فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ أَدَاءُ الضَّمَانِ يُثْبِتُ مِلْكَ نَصِيبِ الْآخَرِ كَانَ لِلْمُعْتِقِ ثُلُثَا الْوَلَاءِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَدَّى إلَى الْمُدَبَّرِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتِقِ إلَى الْمُدَبَّرِ ضَمَانَ إتْلَافٍ لَا ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَبَّرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُعْتِقُ شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ مَا ضَمِنَ ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَقَدْ مَلَكَ نَصِيبَ السَّاكِتِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ التَّدْبِيرِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَ ثُلُثَيْهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ مُسْتَنِدًا فَثَبَتَ لَهُ ثُلُثَا الْوَلَاءِ وَلِلْمُعْتَقِ الثُّلُثُ لِمَا أَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ بَعْدَمَا انْتَقَلَ إلَى الْمُدَبَّرِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُعْتَقِ .
.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلْمُدَبِّرِ وَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَيَضْمَنُهُ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَأَشْبَهَ الِاسْتِيلَادَ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ .وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ ) أَيْ لِأَنَّ ضَمَانَ التَّدْبِيرِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَخِدْمَتَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ كَضَمَانِ الِاسْتِيلَادِ ( بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ) وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَكُمْ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ أَرَدْتُمْ بِهِ مُطْلَقَ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِنَايَةَ بِالْإِعْتَاقِ ، وَالْأَوَّلُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مَنْ كَسَرَ جَرَّةَ إنْسَانٍ مَثَلًا أَوْ أَتْلَفَ مِلْكًا مِنْ أَمْلَاكِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَالثَّانِي تَحَكُّمٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي ، وَالتَّحَكُّمُ مَدْفُوعٌ لِثُبُوتِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ : إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ } " فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْآخَرُ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا وَيَوْمًا تَخْدُمُ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا ) لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ انْقَلَبَ إقْرَارُ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ كَذَا هَذَا فَتَمْتَنِعُ الْخِدْمَةُ وَنَصِيبُ الْمُنْكِرِ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ فَتَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ صَدَقَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِلْمُنْكِرِ ، وَلَوْ كَذَبَ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْخِدْمَةِ فَيَثْبُتُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَلَا خِدْمَةَ لِلشَّرِيكِ الشَّاهِدِ وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالضَّمَانِ ، وَالْإِقْرَارُ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ .

قَالَ ( وَإِنْ كَانَ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ) إذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ( زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا ) أَيْ تُرْفَعُ عَنْهَا الْخِدْمَةُ يَوْمًا ( وَتَخْدُمُ الْمُنْكِرَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً ) كُلَّهَا ( لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا ) يَعْنِي لِلْمُقِرِّ بِالِاسْتِسْعَاءِ لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيلَادِ صَحَّ ، فَإِذَا أَضَافَهُ إلَى مَنْ يَمْلِكُهُ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ ذَلِكَ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَإِذَا انْقَلَبَ إقْرَارُ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ امْتَنَعَ الْخِدْمَةُ لِلْمُنْكِرِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ صَارَ بِإِقْرَارِهِ كَالْمُسْتَوْلِدِ لَهَا ، وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُنْكِرِ تَضْمِينُ الْمُقِرِّ ، لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيلَادِ فَكَانَ نَصِيبُ الْمُنْكِرِ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ مُحْتَبَسًا عِنْدَ الْجَارِيَةِ ( فَتَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ ) تَخْرُجُ إلَى الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ لِتَعَذُّرِ إبْقَائِهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى وَمِلْكِهِ بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ صُدِّقَ ) تَقْرِيرُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ قِسْمَةً حَقِيقِيَّةً لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ رَاجِعَانِ إلَى مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ وَعَدَمِهَا ، فَالْمُقِرُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ أَوْ كَاذِبًا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ( كَانَتْ الْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِلْمُنْكِرِ ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ( كَانَ لَهُ

نِصْفُ الْخِدْمَةِ فَيَثْبُتُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَلَا خِدْمَةَ لِلشَّرِيكِ الشَّاهِدِ وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ) أَمَّا عَنْ الْخِدْمَةِ فَبِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ ، وَأَمَّا عَنْ الِاسْتِسْعَاءِ فَبِدَعْوَى الضَّمَانِ فَفِي كَلَامِهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ عَلَى مَا تَرَى .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِقْرَارُ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا : يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارُ بِهَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لِرَجُلٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِنَسَبِ ذَلِكَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ( فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ ) .

( وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَمُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْتَنَى عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا ، وَهَذَا هُوَ دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ ، وَبِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا لَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ ، وَهَذَا آيَةُ التَّقَوُّمِ .

( وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا ) بِأَنْ وَلَدَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدًا فَادَّعَيَاهُ ( فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِأَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ ) خِلَافًا لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى : مِنْهَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَتَّى عَتَقَتْ لَمْ تَسْعَ لِلْآخَرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَسْعَى .
وَمِنْهَا أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ مِنْ الضَّمَانِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْتَسْعِي الْوَلَدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ( وَجْهُ قَوْلِهِمَا ) فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ ( أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا ) بِالِاتِّفَاقِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَقَوِّمٌ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ النِّكَاحِ ( أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ ) وَلَوْلَا تَقَوُّمُهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ بَيْعَهَا مُمْتَنِعٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّقَوُّمِ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَبِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا لَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ .

غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا قَالُوا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالسِّعَايَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْفَائِتَ مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ ، أَمَّا السِّعَايَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ بَاقِيَانِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ وَهِيَ مُحْرَزَةٌ لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّقَوُّمِ وَالْإِحْرَازُ لِلتَّقَوُّمِ تَابِعٌ ، وَلِهَذَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عَمَلُهُ فِي حَقِّ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ فِي إسْقَاطِ التَّقَوُّمِ ، وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ فِيهِ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِهِ فَافْتَرَقَا .
وَفِي أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ قَضَيْنَا بِتَكَاتُبِهَا عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَفْتَقِرُ وُجُوبُهُ إلَى التَّقَوُّمِ .

وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ) بَيَانٌ لِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ ) لِلتَّمَوُّلِ وَلَا إحْرَازَ لِلتَّمَوُّلِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّمَوُّلِ .
وَقَوْلُهُ ( لَا لِلتَّقَوُّمِ ) مَعْنَاهُ لِلتَّمَوُّلِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ( وَالْإِحْرَازُ لِلتَّقَوُّمِ تَابِعٌ ) أَيْ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِأَنَّهُ إذَا حَصَّنَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ظَهَرَ أَنَّ إحْرَازَهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا لِقَصْدِ التَّمَوُّلِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ ) جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ وَالْإِحْرَازُ لِلتَّقَوُّمِ تَابِعٌ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَسَعَتْ لِغَرِيمٍ أَوْ وَارِثٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَكِنْ اللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ الْمَلْزُومُ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَهِيَ مُحْرَزَةٌ لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّقَوُّمِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ : يَعْنِي بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُحْرِزٍ لِلنَّسَبِ وَلِهَذَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا ) إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَبَيَانُهُ ( أَنَّ السَّبَبَ فِيهَا ) أَيْ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ( مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ ) وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمِلْكِ وَالتَّقَوُّمِ جَمِيعًا ( إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عَمَلُهُ فِي حَقِّ ) زَوَالِ ( الْمِلْكِ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ ) كَمَا لَمْ يُظْهِرْ فِي زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِذَلِكَ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إسْقَاطِ التَّقَوُّمِ فَعَمِلَ فِيهِ السَّبَبُ ، وَأَمَّا فِي الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ السَّبَبَ يَنْعَقِدُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَنَا قَبْلَ وُجُودِهِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَقَوْلُهُ ( وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ

فِيهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَبِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا لَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا .
وَتَقْرِيرُهُ : كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِهِ ، إذْ لَوْ جَازَ الْبَيْعُ لَامْتَنَعَ مَقْصُودُ الْمُدَبَّرِ وَهُوَ الْعِتْقُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفِي أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَا عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ ( قَضَيْنَا بِتَكَاتُبِهَا عَلَيْهِ ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ التَّكَاتُبِ ، وَلَكِنْ لَمَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا هَكَذَا ( دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْجَانِبَيْنِ ) أَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَلِئَلَّا تَبْقَى تَحْتَ يَدِ نَصْرَانِيٍّ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ فَلِئَلَّا يَبْطُلَ مِلْكُهُ مَجَّانًا فَلَمَّا كَانَتْ هِيَ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ كَانَ مَا أَدَّتْهُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَفْتَقِرُ وُجُوبُهُ إلَى تَقَوُّمِ مَا يُقَابِلُهُ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ وَفَكُّ الْحَجْرِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ تَكَاتُبَهَا لَمْ يَقْتَضِ تَقَوُّمَ أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَاطَّرَدَ مَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ : أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ وَاحِدٌ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِتْقَ مَنْ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ رُبُعُهُ ) أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ ، وَهُوَ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَأَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فَيُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا النِّصْفُ ، غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ اسْتَفَادَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي رُبُعًا آخَرَ لِأَنَّ الثَّانِيَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاخِلِ ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْحُرِّيَّةِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَشَاعَ النِّصْفُ الْمُسْتَحَقُّ بِالثَّانِي فِي نِصْفَيْهِ ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْأَوَّلِ لَغَا ، وَمَا أَصَابَ الْفَارِغَ بَقِيَ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ فَتَمَّتْ لَهُ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هُوَ بِالثَّانِي يَعْتِقُ نِصْفُهُ ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الدَّاخِلُ لَا يَعْتِقُ هَذَا النِّصْفُ فَيَنْتَصِفُ فَيَعْتِقُ مِنْهُ الرُّبُعُ بِالثَّانِي وَالنِّصْفُ بِالْأَوَّلِ ، وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَمَّا دَارَ الْإِيجَابُ الثَّانِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ وَقَدْ أَصَابَ الثَّابِتَ مِنْهُ الرُّبُعُ فَكَذَلِكَ يُصِيبُ الدَّاخِلَ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا ، وَقَضِيَّتُهُ التَّنْصِيفُ وَإِنَّمَا نَزَلَ إلَى الرُّبُعِ فِي حَقِّ الثَّابِتِ لِاسْتِحْقَاقِهِ النِّصْفَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلدَّاخِلِ مِنْ قَبْلُ فَيَثْبُتُ فِيهِ النِّصْفُ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ قُسِمَ الثُّلُثُ عَلَى هَذَا ) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سِهَامِ الْعِتْقِ وَهِيَ

سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ فَنَقُولُ : يَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْ الْآخَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَيَبْلُغُ سِهَامُ الْعِتْقِ سَبْعَةً ، وَالْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَمَحَلُّ نَفَاذِهَا الثُّلُثُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ ضِعْفَ ذَلِكَ فَيُجْعَلَ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى سَبْعَةٍ وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةٌ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةٍ وَيَعْتِقُ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ ، فَإِذَا تَأَمَّلْت وَجَمَعْت اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْعَلُ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى سِتَّةٍ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الدَّاخِلِ عِنْدَهُ سَهْمٌ فَنَقَصَتْ سِهَامُ الْعِتْقِ بِسَهْمٍ وَصَارَ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَبَاقِي التَّخْرِيجِ مَا مَرَّ .

بَابُ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ عِتْقِ بَعْضِ الْعَبْدَيْنِ عِتْقَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ وَاحِدٌ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ) وَلَمْ يُسَمِّ كُلًّا مِنْهُمْ بِاسْمِ الْفِعْلِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ خَارِجًا وَدَاخِلًا وَثَابِتًا يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ مَا دَامَ حَيًّا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَيَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ وَيَعْتِقُ الَّذِي عَيَّنَهُ ، فَإِنْ بَيَّنَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِي الْخَارِجِ عَتَقَ الْخَارِجُ ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي وَيَعْتِقُ مَنْ عَيَّنَهُ ، وَإِنْ بَيَّنَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِي الثَّابِتِ عَتَقَ الثَّابِتُ وَبَطَلَ الْكَلَامُ الثَّانِي لِأَنَّهُ صَارَ خَبَرًا فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِتْقَ ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ .
وَإِنْ بَدَأَ بِبَيَانِ الْكَلَامِ الثَّانِي وَقَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الثَّانِي الدَّاخِلَ عَتَقَ الدَّاخِلُ وَيُؤْمَرُ بِبَيَانِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الثَّانِي الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي وَتَعَيَّنَ الْخَارِجُ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَيَعْتِقُ الْخَارِجُ أَيْضًا ( وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَتَقَ مِنْ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) يَعْنِي الثَّابِتَ أُعِيدَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ( ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ) يَعْنِي الْخَارِجَ وَالدَّاخِلَ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ كَذَلِكَ ) يَعْنِي يَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَمِنْ الْخَارِجِ نِصْفُهُ ( إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ ) وَهُوَ الدَّاخِلُ ( فَإِنَّهُ يَعْتِقُ رُبُعُهُ ) بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أُنَاسًا إلَى بَنِي

خَثْعَمَ لِلْقِتَالِ ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ فَقَتَلَهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِنِصْفِ الْعَقْلِ } بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّجُودَ مِنْهُمْ كَانَ مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إسْلَامًا .
وَيَجِبُ بِقَتْلِهِمْ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَقِيَّةً مِنْ الْقَتْلِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ مِنْ السُّجُودِ لِتَعْظِيمِ عُظَمَائِهِمْ تَوَقِّيًا مِنْ شَرِّهِمْ فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِهِمْ الدِّيَةُ ، فَلَمَّا وَجَبَتْ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ تَجِبْ مِنْ وَجْهٍ أَوْجَبَ النِّصْفَ وَأَسْقَطَ النِّصْفَ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخُنْثَى يُعْطِيهِ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِي مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ بِصِفَةِ الِاسْتِمْرَارِ كَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ ، وَالْخُنْثَى لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَفَلَّكَ لَهَا ثَدْيٌ أَوْ تَنْبُتَ لَهُ لِحْيَةٌ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ الِاشْتِبَاهُ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
هَذَا إذَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ ( فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ ) فَإِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا كَانَ الثُّلُثَ وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِ وَصَايَاهُمْ لِأَنَّ الْعِتْقَ حِينَئِذٍ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ كُلٌّ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ ، فَيَجْعَلُ أَوَّلًا كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ( لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ ) فَالْخَارِجُ يَضْرِبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ سَهْمَانِ ، فَكَذَا الدَّاخِلُ وَيَضْرِبُ الثَّابِتُ بِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَمَجْمُوعُ سِهَامِ الْوَصَايَا

سَبْعَةٌ فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ سَبْعَةً كَانَ الْجَمِيعُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَثُلُثَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ لَا مَحَالَةَ فَيَعْتِقُ مِنْ الْخَارِجِ سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ ، وَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ ، وَيَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي الْأَرْبَعَةِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَيَضْرِبُ الْخَارِجَ بِسَهْمَيْنِ وَالثَّابِتِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَالدَّاخِلِ بِسَهْمٍ ، فَكَانَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا سِتَّةً ، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ سِتَّةً كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَالْخَارِجُ يَعْتِقُ مِنْهُ سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةٍ وَالثَّابِتُ يَعْتِقُ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةٍ ، وَالدَّاخِلُ يَعْتِقُ مِنْهُ سَهْمٌ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ ، فَكَانَ نَصِيبُ السِّعَايَةِ وَهُوَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَسِهَامُ الْوَصَايَا سِتَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقُوا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِمْ أَصْلًا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا مَعْلُومًا ، أَمَّا إذَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ وَالِانْقِسَامِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَلَا لِأَنَّ ثُبُوتَهُ حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا .

( وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَهُنَّ غَيْرُ مَدْخُولَاتٍ وَمَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ سَقَطَ مِنْ مَهْرِ الْخَارِجَةِ رُبُعُهُ وَمِنْ مَهْرِ الثَّابِتَةِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ ثُمُنُهُ ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خَاصَّةً ، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ رُبُعُهُ ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ وَتَمَامَ تَفْرِيعَاتِهَا فِي الزِّيَادَاتِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا ) أَيْ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ ( فِي الطَّلَاقِ وَهُنَّ غَيْرُ مَدْخُولَاتٍ وَمَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ سَقَطَ مِنْ مَهْرِ الْخَارِجَةِ رُبُعُهُ .
وَمِنْ مَهْرِ الثَّابِتَةِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ ثُمُنُهُ ) وَهِيَ مَسْأَلَةُ الزِّيَادَاتِ يَحْتَجُّ بِهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا حَيْثُ اخْتَلَفَ فِيهَا نَصِيبُ الدَّاخِلَةِ وَالْخَارِجَةِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدَةٌ وَالثُّمُنُ فِي الصَّدَاقِ بِمَنْزِلَةِ الرُّبُعِ مِنْ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالطَّلَاقِ سُقُوطًا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعِتْقِ ثُبُوتًا فِي الْإِيجَابِ الثَّانِي ( فَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَسْقُطُ رُبُعُهُ ( وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا ) فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، وَفُرِّقَ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ حِينَ تَكَلَّمَ كَانَ لَهُ حَقُّ الْبَيَانِ وَصَرْفُ الْعِتْقِ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ الثَّابِتِ وَالْخَارِجِ ، فَمَا دَامَ لَهُ حَقُّ الْبَيَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ حُرًّا مِنْ وَجْهٍ عَبْدًا مِنْ وَجْهٍ ، فَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ كَالْمُكَاتَبِ كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي صَحِيحًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ أَصَابَ الثَّابِتُ مِنْهُ الرُّبُعَ وَالدَّاخِلُ النِّصْفَ لِمَا قُلْنَا : فَأَمَّا الثَّابِتَةُ فِي الطَّلَاقِ فَمُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً لِأَنَّ الْخَارِجَةَ إذَا كَانَتْ مُرَادَةً بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الثَّابِتَةُ مَنْكُوحَةً فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّابِتَةُ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَيَلْغُو الْإِيجَابُ الثَّانِي ، فَجُعِلَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَسْقُطُ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ مُوَزَّعًا بَيْنَ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ وَالثَّابِتَةِ فَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ

مِنْهُمَا الثُّمُنَ .
وَأَمَّا التَّفْرِيعَاتُ فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ إذَا كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبِيدُ أَحْيَاءً .
وَمِنْهَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا وَمَاتَ أَحَدُ الْعَبِيدِ ، فَإِنْ مَاتَ الثَّابِتُ عَتَقَ الْخَارِجُ وَالدَّاخِلُ ، أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ فَبَطَلَتْ بِمَوْتِهِ مُزَاحَمَتُهُ ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الثَّانِي أَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ ، وَبَطَلَتْ مُزَاحَمَةُ الثَّابِتِ هَذَا عِنْدَهُمَا ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يَعْتِقُ الْخَارِجُ لِمَا قُلْنَا ، وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ لَمَّا تَعَيَّنَ لِلرِّقِّ بِمَوْتِهِ ظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَصَارَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا وَإِنْ مَاتَ الدَّاخِلُ قِيلَ لِلْمَوْلَى أَوْقِعْ الْعِتْقَ عَلَى أَيِّهِمَا شِئْت مِنْ الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الْخَارِجِ عَتَقَ الثَّابِتُ أَيْضًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا عِنْدَ الْإِيجَابِ الثَّانِي وَبَطَلَ مُزَاحَمَةُ الدَّاخِلِ بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الثَّابِتِ لَمْ يَعْتِقْ الْخَارِجُ بِلَا شُبْهَةٍ ، وَكَذَا الدَّاخِلُ لِأَنَّ الْمَضْمُومَ إلَيْهِ حُرٌّ .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ : هَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَجِبُ أَنْ يُعْتِقَ الْخَارِجَ وَالثَّابِتَ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ تَعَيَّنَ لَهُ الثَّابِتُ بِمَوْتِ الدَّاخِلِ فَأَوْجَبَ تَعْيِينُهُ تَعَيُّنَ الْخَارِجِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ مَاتَ الْخَارِجُ تَعَيَّنَ الثَّابِتُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَبَطَلَ الْكَلَامُ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَضْمُومَ إلَيْهِ حُرٌّ ، هَذِهِ تَفْرِيعَاتُ الْعَتَاقِ .
وَأَمَّا تَفْرِيعَاتُ الطَّلَاقِ : فَمِنْهَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ حَيًّا وَالنِّسْوَةُ أَحْيَاءً وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ عَلَى الْخَارِجَةِ صَحَّ الْكَلَامُ الثَّانِي ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الثَّابِتَةِ أَوْ الدَّاخِلَةِ بِالثَّانِي ، وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الثَّابِتَةِ لَغَا

الْكَلَامُ الثَّانِي ، وَإِنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ عَلَى الدَّاخِلَةِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْخَارِجَةِ أَوْ الثَّابِتَةِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الثَّابِتَةَ لَوْ مَاتَتْ وَالزَّوْجُ حَيٌّ طَلُقَتْ الْخَارِجَةُ وَالدَّاخِلَةُ لِمَا قُلْنَا مِنْ بُطْلَانِ الْمُزَاحَمَةِ بِمَوْتِهَا وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ ، وَإِنْ مَاتَتْ الدَّاخِلَةُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الْخَارِجَةِ طَلُقَتْ الثَّابِتَةُ أَيْضًا لِانْعِدَامِ مُزَاحَمَةِ الدَّاخِلَةِ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الثَّابِتَةِ لَمْ تَطْلُقْ الْخَارِجَةُ ، فَإِنْ مَاتَتْ الْخَارِجَةُ طَلُقَتْ الثَّابِتَةُ وَلَمْ تَطْلُقْ الدَّاخِلَةُ لِمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَة الْعَتَاقِ .
وَمِنْهَا أَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ وَهُوَ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ يَنْقَسِمُ بَيْنَ الدَّاخِلَةِ وَالْأُولَيَيْنِ نِصْفَيْنِ ، نِصْفُهُ لِلدَّاخِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا إحْدَى الْأُولَيَيْنِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا لَيْسَتْ بِأَوْلَى بِهِ .

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ مَاتَ أَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَتَقَ الْآخَرُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ وَلِلْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ بِالْبَيْعِ وَلِلْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالتَّدْبِيرِ فَتَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ ، وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ قَصَدَ الْوُصُولَ إلَى الثَّمَنِ وَبِالتَّدْبِيرِ إبْقَاءَ الِانْتِفَاعِ إلَى مَوْتِهِ ، وَالْمَقْصُودَانِ يُنَافِيَانِ الْعِتْقَ الْمُلْتَزَمَ فَتَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ دَلَالَةً وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ إحْدَاهُمَا لِلْمَعْنَيَيْنِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مَعَ الْقَبْضِ وَبِدُونِهِ وَالْمُطْلَقِ وَبِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ مُلْحَقٌ بِهِ فِي الْمَحْفُوظِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَالْهِبَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالصَّدَقَةُ وَالتَّسْلِيمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ ؛ .

قَالَ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ) كَلَامُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ ، خَلَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ .
أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَى هَاتَيْنِ ابْنَتِي أَوْ أُمُّ وَلَدِي وَمَاتَتْ إحْدَاهُمَا لَمْ تَتَعَيَّنْ الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِيلَادُ فِي الْحَيَّةِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ بِصِيغَتِهِ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِهَذَا عَنْ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ فَيَرْجِعَ إلَى بَيَانِ الْمَوْلَى وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْحَيِّ ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ إذَا مَاتَ الْآخَرُ لِأَنَّ الْبَيَانَ قَائِمٌ بِوَصْفَيْنِ ، بِوَصْفِ الْإِنْشَاءِ ، وَبِوَصْفِ الْإِظْهَارِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يُثْبِتُ الْعِتْقَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ ، وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ الْعِتْقُ غَيْرُ ثَابِتٍ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيَانُ إنْشَاءً ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِتْقَ لَا يَعْدُوهُمَا كَانَ الْبَيَانُ إظْهَارًا ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ الْبَيَانُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِوُجُودِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الصِّحَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ الْبَيَانُ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ وَالْمَيِّتُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ إحْدَاهُمَا ) يَعْنِي إذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ أُمَيَّةِ الْوَلَدِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بِهَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ عَنْهَا ، وَإِذَا انْتَفَى عَنْ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ فِي الْأُخْرَى لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِلْمَعْنَيَيْنِ ) يَعْنِي عَدَمَ مَحَلِّيَّةِ الْعِتْقِ بِالِاسْتِيلَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِبْقَاءَ الِانْتِفَاعِ إلَى مَوْتِهِ ( وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مَعَ الْقَبْضِ وَبِدُونِهِ وَ ) ( الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ) عَنْ

الْخِيَارِ ( وَ ) الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ( لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ ( وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا ) وَهُوَ أَنَّهُ قَصَدَ الْوُصُولَ إلَى الثَّمَنِ وَالْوُصُولُ إلَيْهِ يُنَافِي الْعِتْقَ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لَهُ ( وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ فِي الْمَحْفُوظِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا سَاوَمَ أَحَدَهُمَا كَانَ بَيَانًا : يَعْنِي لِتَعَيُّنِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ قِيلَ مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا سُمِعَ وَحُفِظَ وَلَمْ تَثْبُتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مَكْتُوبَةً .
وَقَوْلُهُ ( وَالْهِبَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالصَّدَقَةُ وَالتَّسْلِيمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ) قِيلَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ : إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ عَتَقَ الْآخَرُ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُعَيِّنُ الْآخَرَ لِلْعِتْقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ تَصَرُّفٍ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَقَدْ وُجِدَ .

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لِمَا نُبَيِّنُ ( وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ جَامَعَ إحْدَاهُمَا ) لَمْ تَعْتِقْ الْأُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا تَعْتِقُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ فَكَانَ بِالْوَطْءِ مُسْتَبْقِيًا الْمِلْكَ فِي الْمَوْطُوءَةِ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَلَهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمُنَكَّرَةِ وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَكَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا فَلَا يُجْعَلُ بَيَانًا وَلِهَذَا حَلَّ وَطْؤُهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتِي بِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ الْعِتْقُ غَيْرُ نَازِلٍ قَبْلَ الْبَيَانِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ أَوْ يُقَالُ نَازِلٌ فِي الْمُنَكَّرَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ تَقَبُّلِهِ وَالْوَطْءُ يُصَادِفُ الْمُعَيَّنَةَ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدُ ، وَقَصْدُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ ، أَمَّا الْأَمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَطْئِهَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِبْقَاءِ

( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فَتُعَيَّنُ الْأُخْرَى لَهُ ( وَكَذَا لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لِمَا نُبَيِّنُ ) فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ ( وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ جَامَعَ إحْدَاهُمَا لَمْ تَعْتِقْ الْأُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تَعْتِقُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ ) لَا مِلْكَ فِيهَا فَالْوَطْءُ لَا يَحِلُّ فِيهَا ، فَإِذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا جُعِلَ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ فِيهَا لِيَقَعَ الْوَطْءُ حَلَالًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ تِلْكَ لِلْمِلْكِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ ) أَيْ فِي الَّتِي تُوطَأُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ قَائِمًا كَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا ، أَمَّا أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فَلِأَنَّ إيقَاعَ الْعِتْقِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُنْكِرَةِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْمَوْطُوءَةُ غَيْرُ مُنْكِرَةٍ بَلْ هِيَ ( مَعْنِيَّةٌ ) فَلَا يَكُونُ الْإِيقَاعُ فِيهَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيقَاعُ فِيهَا لَا يَكُونُ الْمِلْكُ عَنْهَا زَائِلًا ، وَأَمَّا أَنَّ الْمِلْكَ إذَا كَانَ قَائِمًا كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا فَظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، وَإِذَا كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ( وَلِهَذَا حَلَّ وَطْؤُهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِ ) وَهَذَا فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ وَيَلُوحُ مِنْهُ سِيَّمَا التَّحْقِيقُ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ ) قِيلَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَةَ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْعِتْقُ لَا تَخْلُو عَنْهُمَا ، وَمَبْنَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِيهِ تَلْوِيحًا إلَى تَرْكِ أَبِي حَنِيفَةَ الِاحْتِيَاطَ ، وَأَرَى أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مَغْمَزًا لِأَبِي حَنِيفَةَ بِتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ .
فَإِنْ قِيلَ :

الْعِتْقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَازِلًا أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ نَازِلٍ كَانَ إهْمَالًا لِلَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُمَا .
أَجَابَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشِّقَّيْنِ فَقَالَ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي ( ثُمَّ يُقَالُ الْعِتْقُ غَيْرُ نَازِلٍ قِيلَ الْبَيَانُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ ) أَيْ لِتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِالْبَيَانِ فَكَانَ كَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَهُوَ غَيْرُ نَازِلٍ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَكَذَا هَذَا ، وَقَالَ عَلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ ( أَوْ يُقَالُ نَازِلٌ ) أَيْ الْعِتْقُ نَازِلٌ ( فِي الْمُنْكِرَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ تَقْبَلُهُ ) كَالْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ يَقْبَلُهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ ( وَالْوَطْءُ ) لَا تَقْبَلُهُ الْمُنْكِرَةُ لِأَنَّهُ ( يُصَادِفُ الْمُعَيَّنَةَ ) إذْ هُوَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْمُعَيَّنِ ، وَوَطْءُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ بَيَانًا فِي الْأُخْرَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ وَقَعَ بَيَانًا فِي الطَّلَاقِ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدُ ، وَقَصْدُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ أَمَّا الْأَمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَطْئِهَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِبْقَاءِ ) وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ جِوَارَهُ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَخْلَصِ الْمَعْرُوفِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ أَوْ فِي تَقْرِيرٍ .

( وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا وُلِدَ أَوَّلًا عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَنِصْفُ الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامُ عَبْدٌ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْأُمُّ بِشَرْطٍ وَالْجَارِيَةُ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لَهَا ، إذْ الْأُمُّ حُرَّةٌ حِينَ وَلَدَتْهَا ، وَتَرِقُّ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَيَعْتِقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَتَسْعَى فِي النِّصْفِ ، أَمَّا الْغُلَامُ يَرِقُّ فِي الْحَالَيْنِ فَلِهَذَا يَكُونُ عَبْدًا ، وَإِنْ ادَّعَتْ الْأُمُّ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الْمَوْلُودُ أَوَّلًا وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةُ صَغِيرَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ لِإِنْكَارِهِ شَرْطَ الْعِتْقِ ، فَإِذَا حَلَفَ يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَإِنْ نَكَلَ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّةَ الصَّغِيرَةِ مُعْتَبَرَةٌ لِكَوْنِهَا نَفْعًا مَحْضًا فَاعْتُبِرَ النُّكُولُ فِي حَقِّ حُرِّيَّتِهِمَا فَعَتَقَتَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ كَبِيرَةً وَلَمْ تَدَّعِ شَيْئًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا عَتَقَتْ الْأُمُّ بِنُكُولِ الْمَوْلَى خَاصَّةً دُونَ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ الْكَبِيرَةِ ، وَصِحَّةُ النُّكُولِ تُبْتَنَى عَلَى الدَّعْوَى فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْكَبِيرَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِسَبْقِ وِلَادَةِ الْغُلَامِ وَالْأُمُّ سَاكِتَةٌ يَثْبُتُ عِتْقُ الْجَارِيَةِ بِنُكُولِ الْمَوْلَى دُونَ الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا ، وَالتَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يُعْرَفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ ) كَلَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ .
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي ذُكِرَ لَيْسَ جَوَابَ هَذَا الْفَصْلِ ، بَلْ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمَوْلَى بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ حَلَفَ فَهُمْ أَرِقَّاءٌ .
وَأَمَّا جَوَابُ الْكِتَابِ فَفِي فَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ ، فَوَلَدَتْهُمَا جَمِيعًا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَوَّلُ فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ وَالِابْنَةُ حُرَّةٌ ، وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَهِيَ حُرَّةٌ وَالْغُلَامُ رَقِيقٌ ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ وَالْغُلَامُ وَالْأُمُّ رَقِيقَانِ ، فَالْأُمُّ تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَالْغُلَامُ عَبْدٌ بِيَقِينٍ وَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ إمَّا بِعِتْقِ نَفْسِهَا وَإِمَّا بِعِتْقِ الْأُمِّ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَهُ بِالْيَمِينِ ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ غَدًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ أَمْ لَا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي شَرْطِ الْعِتْقِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْغُلَامِ أَوَّلًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَذْكُورًا فِي طَرَفَيْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ

الْكَيْسَانِيَّاتِ .
وَقَوْلُهُ ( وَبِهَذَا الْقَدْرِ يُعْرَفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) قِيلَ هِيَ سِتَّةُ أَوْجُهٍ فَصَّلُوهَا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَحَدُهَا أَنْ يَتَصَادَقُوا أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا ، وَجَوَابُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَنْ يَعْتِقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَالْجَارِيَةِ وَيُسْتَسْعَيَانِ فِي النِّصْفِ وَالْغُلَامُ رَقِيقٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَالثَّانِي أَنْ تَدَّعِيَ الْأُمُّ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الْمَوْلُودُ أَوَّلًا وَيُنْكِرُ الْمَوْلَى ذَلِكَ وَالْجَارِيَةُ صَغِيرَةٌ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ثَانِيًا ؛ وَجَوَابُهُ وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ تَدَّعِيَ الْأُمُّ أَنَّ الْغُلَامَ أَوَّلٌ وَالْجَارِيَةَ كَبِيرَةٌ وَلَمْ تَدَّعِ شَيْئًا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ثَالِثًا ؛ وَجَوَابُهُ وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِيهِ .
وَالرَّابِعُ أَنْ تَدَّعِيَ الْجَارِيَةُ وَهِيَ كَبِيرَةٌ وَالْأُمُّ سَاكِتَةٌ أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ رَابِعًا بِجَوَابِهِ وَوَجْهِهِ .
وَالْخَامِسُ أَنْ يَتَصَادَقُوا أَنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الَّتِي وُلِدَتْ أَوَّلًا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِعَدَمِ شَرْطِ الْعِتْقِ .
وَالسَّادِسُ أَنْ يَتَصَادَقُوا أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأُمَّ تَعْتِقُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ تَبَعًا لِلْأُمِّ ، وَالْغُلَامُ عَبْدًا لِأَنَّهُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْأُمِّ فِي حَالِ الرِّقِّ لِكَوْنِ وِلَادَتِهِ شَرْطَ عِتْقِهَا وَالشَّرْطُ يَسْبِقُ الْمَشْرُوطَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَابِعًا لَهَا فِيهِ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي الْكِتَابِ لِظُهُورِهِمَا .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ ) اسْتِحْسَانًا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ( وَإِنْ شُهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُنَّ ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الشَّهَادَةُ فِي الْعِتْقِ مِثْلُ ذَلِكَ ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى بِالِاتِّفَاقِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَإِذَا كَانَ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطًا عِنْدَهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ .
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ انْعَدَمَ الدَّعْوَى .
أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَعَدَمُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى شَرْطًا فِيهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى لِمَا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَشَابَهُ الطَّلَاقَ ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدَا فِي صِحَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ .

قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ) الشَّهَادَةُ عَلَى طَلَاقِ إحْدَى نِسَائِهِ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَعَلَى إعْتَاقِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ ، كَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ( وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى بِالِاتِّفَاقِ ) وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عِنْدَهُ وَمِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عِنْدَهُمَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الشَّرْعِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَفِيهِ انْتِفَاءُ ذُلِّ الرِّقِّ وَالْمَمْلُوكِيَّة وَكُلُّ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ لَا مَحَالَةَ ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِ ، فَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِدُونِ الدَّعْوَى ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ تُقْبَلُ بِدُونِهَا ، وَعِتْقُ الْأَمَةِ مِنْ حُقُوقِهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلِذَلِكَ تُقْبَلُ بِدُونِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ عِتْقَهَا يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ فَرْجِهَا عَلَى مَوْلَاهَا ، وَذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ كَالشَّهَادَةِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَلَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ أَمَةٍ وَهِيَ أُخْتُ مَوْلَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ إذَا جَحَدَتْهُ ، إذْ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْفَرْجِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ثَابِتٌ بِحُكْمِ الرَّضَاعِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا بِالْإِعْتَاقِ

.
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ إذَا لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَى إلْزَامِ الْمُنْكِرِ ، وَهَاهُنَا وَقَعَتْ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَوْلَى بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَبَعْدَهُ يُوجِبُهُ لِكَوْنِ بُضْعِهَا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا عَنْ وَطْئِهَا بِالْمَحْرَمِيَّةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَبَدَلُ بُضْعِهَا يَكُونُ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْفَرْجِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ تَبَيَّنَ وَجْهُ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَإِذَا كَانَ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطًا عِنْدَهُ ) إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ ) قِيلَ عَلَيْهِ إذَا ادَّعَيَا ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الدَّعْوَى حَصَلَتْ مِنْ مُعَيَّنٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ ، فَدَعْوَاهُمَا دَعْوَى غَيْرِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَبِأَنَّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مُطَابِقَةً لِلشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ لَا عَلَى الْعَبْدَيْنِ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ ) كَصُورَةِ نَقْضٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ شَرْطًا فِي حَقِّ الْأَمَةِ وَلَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا .
وَوَجْهُ دَفْعِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى لِمَا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَشَابَهَ الطَّلَاقَ ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ لَهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ إلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا حَلَّ وَطْؤُهُمَا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ أَنَّ الْعِتْقَ إذَا حَصَلَ اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بَعْدَهُ زِنًا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ اسْتِرْقَاقِهِ ، وَذَلِكَ أَيْضًا حَقُّ اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ

تُسْتَغْنَى الشَّهَادَةُ فِيهِ عَنْ الدَّعْوَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّ لَازِمَ عِتْقِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَلَازَمَ عِتْقِهِ حُرْمَةٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا خَطَأٌ .

أَمَّا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ شَهِدَا عَلَى تَدْبِيرِهِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ تُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُمَا وَقَعَ وَقَعَ وَصِيَّةً ، وَكَذَا الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ ، وَالْخَصْمُ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْمُوصِي وَهُوَ مَعْلُومٌ .
وَعَنْهُ خَلَفٌ وَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَشِيعُ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا مُتَعَيَّنًاوَقَوْلُهُ ( أَمَّا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ) بَيَانُ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ اسْتِحْسَانًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُمَا وَقَعَ وَقَعَ وَصِيَّةً ) يَعْنِي سَوَاءٌ وَقَعَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَالِ الْمَرَضِ .
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ : أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ مُطْلَقًا وَالْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ ( وَالْخَصْمُ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْمُوصِي ) لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصَايَا حَقُّ الْمَيِّتِ فَكَانَ الْمَيِّتُ مُدَّعِيًا تَقْدِيرًا ( وَعَنْهُ خَلَفٌ وَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ ) فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَالثَّانِي أَنَّ الْعِتْقَ يَشِيعُ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا فِي حَالِ عَجْزِهِ عَنْ الْبَيَانِ فَكَانَ إيجَابًا لَهُمَا وَلِهَذَا يَعْتِقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا مُتَعَيِّنًا ) وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ الْقِيَاسِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَالدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لِظُهُورِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ .

وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَقَدْ قِيلَ : لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ .
وَقِيلَ تُقْبَلُ لِلشُّيُوعِ هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : لَا نَصَّ فِيهِ ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ ( لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ ) حَتَّى يَكُونَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُوصِي وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُقْبَلُ لِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا مُتَعَيَّنًا فَكَانَتْ دَعْوَاهُمَا صَحِيحَةً وَهُوَ يَقْتَضِي قَبُولَ الشَّهَادَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ ) : ( وَمَنْ قَالَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَيْسَ لَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ دَخَلَ عَتَقَ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَئِذٍ تَقْدِيرُهُ يَوْمَ إذْ دَخَلْت ، إلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ الْفِعْلَ وَعَوَّضَهُ بِالتَّنْوِينِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدُّخُولِ وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَبْدٌ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى دَخَلَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَعْتِقْ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي لِلْحَالِ وَالْجَزَاءُ حُرِّيَّةُ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَى الْجَزَاءِ تَأَخَّرَ إلَى وُجُودٍ فَيَعْتِقُ إذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الدُّخُولِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْيَمِينِ .

بَابُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ : الْحَلِفُ بِالْعِتْقِ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْعِتْقَ جُزْءَ الشَّرْطِ وَلَمَّا كَانَ الْمُعَلَّقُ قَاصِرًا فِي السَّبَبِيَّةِ أَخَّرَ التَّعْلِيقَ عَنْ التَّنْجِيزِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ ) ظَاهِرٌ .
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْتِقَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَرِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَإِنْ قَالَ يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ وَلَا إلَى سَبَبِهِ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ لِذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ دَلَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمئِذٍ مَعْنَاهُ إنْ مَلَكْت مَمْلُوكًا وَقْتَ دُخُولِي الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ فِيهَا لَا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدُّخُولِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي لِلْحَالِ ) قِيلَ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ ، وَالِاخْتِصَاصُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَالِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْحَالِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً .

( وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي ذَكَرٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَهُ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا لَمْ يَعْتِقْ ) وَهَذَا إذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْحَالِ ، وَفِي قِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْيَمِينِ احْتِمَالٌ لِوُجُودِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بَعْدَهُ ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَ الْمُطْلَقَ ، وَالْجَنِينُ مَمْلُوكٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ لَا مَقْصُودًا ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ وَاسْمُ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْأَنْفُسَ دُونَ الْأَعْضَاءِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ الذُّكُورَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي تَدْخُلُ الْحَامِلُ فَيَدْخُلُ الْحَمْلُ تَبَعًا لَهَا .وَقَوْلُهُ ( وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي ذَكَرٍ فَهُوَ حُرٌّ ) ظَاهِرٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَالْجَنِينُ لَيْسَ بِكَامِلٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ ( وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ الذُّكُورَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي تَدْخُلُ الْحَامِلُ ) فَيَدْخُلُ الْحَمْلُ تَبَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ حَتَّى الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ .
حَتَّى لَوْ قَالَ نَوَيْت الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لَمْ يَصْدُقْ قَضَاءً

( وَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ ، أَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى آخَرَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ غَدٍ عَتَقَ الَّذِي فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً يُقَالُ : أَنَا أَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا وَيُرَادُ بِهِ الْحَالُ ، وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَالِاسْتِقْبَالُ بِقَرِينَةِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ فَيَكُونُ مُطْلَقُهُ لِلْحَالِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَشْتَرِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ .

( وَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَمْلِكُهُ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا آخَرَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ غَدٍ عَتَقَ الَّذِي فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ ) لَا الَّذِي اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُ بَعْدَ غَدٍ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ حُرٌّ لَا لِقَوْلِهِ أَمْلِكُهُ فَإِنَّ أَمْلِكُهُ لِلْحَالِ ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ غَدٍ بِالرَّفْعِ لِيَكُونَ فَاعِلُ جَاءَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً بِالرَّفْعِ لِيَكُونَ خَبَرَانِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُخَالِفُ رِوَايَةَ النَّحْوِ وَهِيَ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ ، وَظَاهِرُ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لَا نُسَلِّمُ الْمُخَالَفَةَ لِأَنَّ كَوْنَهُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ لِلِاسْتِقْبَالِ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةً وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِالدَّلِيلِ إذَا وُجِدَ وَقَدْ وُجِدَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ الْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْجُودٌ فَلَا يُعَارِضُهُ الْمُسْتَقْبَلُ الْمَعْدُومُ .
وَأَقُولُ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ يَأْبَى قَوْلَ هَذَا الشَّارِحِ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِعَيْنِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَيْسَ النَّحْوِيُّونَ مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بَلْ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازٌ فِي الْحَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْجَزَاءُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَشْتَرِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ .

( وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ ، أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا آخَرَ فَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَ وَقْتَ الْيَمِينِ مُدَبَّرٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ، وَإِنْ مَاتَ عَتَقَا مِنْ الثُّلُثِ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ : يَعْتِقُ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ وَلَا يَعْتِقُ مَا اسْتَفَادَ بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي إذَا مِتّ فَهُوَ حُرٌّ .
لَهُ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةً لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا سَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا صَارَ هُوَ مُدَبَّرًا دُونَ الْآخَرِ .
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إيجَابُ عِتْقٍ وَإِيصَاءٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ وَفِي الْوَصَايَا تُعْتَبَرُ الْحَالَةُ الْمُنْتَظَرَةُ وَالْحَالَةُ الرَّاهِنَةُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ مَنْ يُولَدُ لَهُ بَعْدَهَا .
وَالْإِيجَابُ إنَّمَا يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ إلَى سَبَبِهِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيجَابُ الْعِتْقِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيصَاءٌ يَتَنَاوَلُ الَّذِي يَشْتَرِيهِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الْمُتَرَبِّصَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ حَالَةُ التَّمَلُّكِ اسْتِقْبَالٌ مَحْضٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَوْ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ بَعْدَ غَدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ وَلَيْسَ فِيهِ إيصَاءٌ وَالْحَالَةُ مَحْضُ اسْتِقْبَالٍ فَافْتَرَقَا .
وَلَا يُقَالُ : إنَّكُمْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : نَعَمْ لَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إيجَابِ عِتْقٍ وَوَصِيَّةٍ ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ .

( وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى آخَرَ فَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُدَبَّرٌ ) مُطْلَقٌ ( وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ) مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ( وَإِنْ مَاتَ عَتَقَا مِنْ الثُّلُثِ ) مُشْتَرَكَيْنِ فِيهِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ : يَعْتِقُ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ ) بِطَرِيقِ التَّدْبِيرِ ( وَلَا يَعْتِقُ مَا اسْتَفَادَ بَعْدَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُرَادًا عَلَى أَصْلِنَا وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إيجَابُ عِتْقٍ وَإِيصَاءٍ ) أَمَّا إنَّهُ إيجَابُ عِتْقٍ فَبِقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَوْلَى فَهُوَ حُرٌّ ، وَأَمَّا إنَّهُ إيصَاءٌ فَبِقَوْلِهِ بَعْدَ مَوْتِي ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَفِي الْوَصَايَا تُعْتَبَرُ الْحَالَةُ الْمُنْتَظَرَةُ أَيْ الْمُتَرَبِّصَةُ ) وَالْحَالَةُ الرَّاهِنَةُ أَيْ الْحَاضِرَةُ ؛ سُمِّيَتْ بِالرَّاهِنَةِ لِأَنَّ الرَّهْنَ هُوَ الْحَبْسُ وَالْمُرْتَهِنُ مَحْبُوسٌ فِيهَا لَا فِيمَا قَبْلَهَا وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهَا الْمَوْجُودُ عِنْدَهَا ، وَمَنْ يُولَدُ بَعْدَهَا إذَا عَاشَ إلَى وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي .
وَالْإِيجَابُ إنَّمَا يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ إلَى سَبَبِهِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيجَابُ الْعِتْقِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ لِيَصِيرَ الْإِيجَابُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيصَاءٌ يَتَنَاوَلُ الَّذِي يَشْتَرِيهِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الْمُتَرَبِّصَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَيَصِيرُ مُدَبَّرًا بَعْدَهُ وَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا قَبْلَهُ كَاَلَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ حَالَةَ

التَّمَلُّكِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِيجَابُ لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَإِلَى سَبَبِهِ ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْإِيصَاءُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَكَانَ حَالُ التَّمَلُّكِ اسْتِقْبَالًا مَحْضًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا حَالَ التَّمَلُّكِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْمَوْتِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَوْ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ لِدُخُولِهِ حِينَئِذٍ تَحْتَ الْحَالِ الْمُتَرَبِّصَةِ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا لِكَوْنِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةً ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَمْلِكُهُ أَوْ لِي حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ وَلَيْسَ فِيهِ إيصَاءٌ ، وَالْحَالَةُ مَحْضُ اسْتِقْبَالٍ لَا يَتَنَاوَلُهَا الْإِيجَابُ لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَإِلَى سَبَبِهِ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ ( وَالْإِيجَابُ إنَّمَا يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَفِي الْوَصَايَا مَعْنَى لَا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ .
قَالَ .
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْإِيجَابُ الْمُشْتَرِيَ أَصْلًا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ ، لِأَنَّ التَّنَاوُلَ إنَّمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ إلَى سَبَبِهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي حَقِّهِ بِمَوْجُودٍ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ تَنَاوُلَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِيصَاءِ لَا الْإِيجَابِ الْحَالِيِّ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا يُقَالُ إنَّكُمْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إيجَابَ عِتْقٍ وَوَصِيَّةَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي طَرَفَيْ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ صِفَاتِ اللَّفْظِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّنَافِيَ بَيْنَ طَرَفَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيجَابَ عِتْقٍ فِي الْحَالِ أَوْ كَوْنَهُ إيصَاءً فَقَطْ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيجَابَ عِتْقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ

تَدْبِيرٌ وَالتَّدْبِيرُ حَيْثُمَا وَقَعَ وَقَعَ وَصِيَّةً وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَالَةُ الرَّاهِنَةُ وَالْمُنْتَظَرَةُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ وَمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَمَّا مَا بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَهُ فَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَحْدَثُ مُدَبَّرًا حَتَّى يَمُوتَ لَعَلَّهُ كَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا وَأَسْلَمَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ ) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِقَبُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا ، وَمَا شَرَطَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ وَالْعَرَضِ وَالْحَيَوَانِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَشَابَهَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَكَذَا الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ ، وَلَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ ؛ لِأَنَّهَا يَسِيرَةٌ .

بَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ : الْجُعْلُ بِالضَّمِّ مَا جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُهُ ، وَكَذَلِكَ الْجِعَالَةُ بِالْكَسْرِ ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِكَوْنِ الْمَالِ غَيْرِ أَصْلٍ فِي بَابِ الْعِتْقِ ( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ) أَيِّ مَالٍ كَانَ مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ( مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ) أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا أَوْ عَلَى أَنْ تَجِيئَنِي بِأَلْفٍ ( فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ ) سَاعَةَ قَبُولِهِ .
لَا يُقَالُ كَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ فَيَكُونُ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا لَا لِمَا قِيلَ إنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلشَّرْطِ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ بَعْضَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ دَخَلَتْ فِيهِ عَلَى الْأَفْعَالِ ، بَلْ لِمَا قِيلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مُرَادُهُ التَّنْجِيزَ بِعِوَضٍ لَا التَّعْلِيقَ فَكَانَ الصَّارِفُ عَنْ الشَّرْطِيَّةِ دَلَالَةَ الْحَالِ ( وَإِنَّمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ ) فَقَوْلُهُ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ مَالٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا : أَحَدَهَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لِأَنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ كَانَ مَا بَذَلَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ ؛ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَالِ وَالثَّانِي الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِمَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِي

ذَاتِهِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِبَيْعِ نَفْسِهِ مِنْهُ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ .
ذُكِرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْلَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ عِنْدَ الْمَوْلَى .
وَالثَّالِثَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا فَلَمْ يَدْخُلْ بِهِ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ .
غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهُ ثَبَتَ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ لَا مَحَالَةَ ، فَكَانَ مَا بَذَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ مَا هُوَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْهُمَا .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا ، وَإِنْ رَدَّ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ الْمَجْلِسِ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ قَطْعُ الْمَجْلِسِ بَطَلَ ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مَا شَرَطَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ بِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، إذْ الْقِيَاسُ يَنْفِي أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ضَرُورَةُ حُصُولِ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ وَحُصُولُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى اقْتَصَرَ عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْكَفَالَةِ .
وَقَوْلُهُ ( وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ .
وَقَوْلُهُ ( فَشَابَهَ النِّكَاحَ ) يَعْنِي إذَا شَابَهَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ هُنَا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ ( وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ ) كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ

عَلَى مِائَةِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ ( وَلَا يَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ ) بِأَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ رَبِيعِيَّةٌ أَوْ خَرِيفِيَّةٌ ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً .

قَالَ ( وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ وَصَارَ مَأْذُونًا ) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَحَّ أَنَّهُ يُعْتَقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّهُ رَغَّبَهُ فِي الِاكْتِسَابِ بِطَلَبِهِ الْأَدَاءَ مِنْهُ ، وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ دُونَ التَّكَدِّي فَكَانَ إذْنًا لَهُ دَلَالَةً .وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ ) لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ : أَعْنِي قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ صِيغَةُ التَّعْلِيقِ فَيَتَعَلَّقُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ .
وَقَوْلُهُ ( مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا ) يَعْنِي لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْمُكَاتَبِينَ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُ ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَالْعَبْدُ رَقِيقٌ يُورَثُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ ، وَلَوْ كَاتَبَ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ لَمْ يُعْتَقْ وَلَدُهَا ، وَلَوْ حَطَّ الْمَالَ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ ، وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَمِيعِ .
وَقَوْلُهُ ( وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ ) يَعْنِي مِنْ التَّرْغِيبِ فِي الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَشْرُوعَةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ ( دُونَ التَّكَدِّي ) لِأَنَّهُ يُدْنِئُ الْمَرْءَ وَيَخُسُّهُ .

( وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبْضِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ أَنَّهُ يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالَ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ ، فَعَلَى هَذَا يَدُورُ الْفِقْهُ وَتَخْرُجُ الْمَسَائِلُ نَظِيرُهُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .
وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ .
ثُمَّ لَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ لِاسْتِحْقَاقِهَا ، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَهَا بَعْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ ، ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْت

لَا يَقْتَصِرُ ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ مَتَى .

وَقَوْلُهُ ( وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) يُرِيدُ بِهِ الثَّمَنَ وَبَدَلَ الْخُلْعِ وَبَدَلَ الْكِتَابَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا .
وَقَوْلُهُ ( أَنَّهُ ) يَعْنِي الْمَوْلَى ( يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ ) بِرَفْعِ الْمَانِعِ سَوَاءٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِجْبَارِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ ، وَقَوْلُهُ ( إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا ) احْتِرَازٌ عَنْ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعْلِيقٍ لَفْظِيٍّ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعْلِيقٌ لَفْظِيٌّ .
لِعَدَمِ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ ) تَوْضِيحٌ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفَ يَمِينٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ ) تَقْرِيرُهُ : لَا جَبْرَ إلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَلَا اسْتِحْقَاقَ ( قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ) وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ ( مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ ) فَكَانَ الْجَبْرُ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ( وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ ) كَمَا ذَكَرْنَا ( وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالُ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ ) بِأَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ( حَتَّى ) لَوْ طَلَّقَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ( كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ وَلَا يَكُونَ

الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ ) فَإِنَّهُ مَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ إلَّا لِيَنَالَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً أَصْلًا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْأَدَاءِ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ عَبْدٌ وَهُوَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَدَاءِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ثَبَتَ شَرْطُ صِحَّتِهِ اقْتِضَاءً وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِالْمُؤَدَّى فَيَثْبُتُ هَذَا سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ مَتَى وُجِدَ الْأَدَاءُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَانَ اكْتَسَبَ مَالًا قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى ذَلِكَ عَتَقَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْمُعَارِضُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ حُصُولَ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عَنْ حُصُولِهِ اقْتِضَاءً ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ قَائِمٌ فِيهَا وَهِيَ مُعَاوَضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، فَلَأَنْ يَصِحَّ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ أَوْلَى فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالْكِتَابَةِ دَلَالَةً وَقَوْلُهُ ( فَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ ( يَدُورُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ وَتَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ ) الْمُتَعَارِضَةِ : يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أَلْحَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِمَحْضِ التَّعْلِيقِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، وَأَلْحَقَ فِي

بَعْضِهَا بِالْكِتَابَةِ مِنْ جَبْرِ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ تَعْلِيقًا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ : شَبَهِ التَّعْلِيقِ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَشَبَهِ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَالَةِ الِانْتِهَاءِ .
كَمَا فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ تَجُزْ فِي الْمُشَاعِ ، وَاشْتَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ وَبِيعَ انْتِهَاءً حَتَّى لَمْ يَتَمَكَّنْ الْوَاهِبُ مِنْ الرُّجُوعِ وَجَرَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ ، وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْإِجْبَارُ عَلَى قَبُولِ الْكُلِّ ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَمَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْبَعْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَتَقَ بِمَا أَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءُ جَمِيعِ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ هُوَ الْقِيَاسُ ، لَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ، كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَعْضَ الْبَاقِيَ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْجَمِيعِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُهُ كَانَ كَمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كُلُّهُ ، وَإِذَا حَطَّ الْجَمِيعَ لَمْ يُعْتَقْ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ هَذَا ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَيَتَحَقَّقُ إبْرَاؤُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ ، وَلَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى مِثْلِهَا فَلِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَدَّاهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَدَائِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى

الِاكْتِسَابِ لِيُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهِ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَتَقَ فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ لِمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَلْفِ مُسْتَحَقَّةً لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَرْطَ الْحِنْثِ كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ وَأَدَّاهُ ( ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ الْعَبْدُ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَانَ كَالتَّخْيِيرِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَدَاءُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَجْلِسِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ يَكُونُ فِي صُورَةِ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فِيهِمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ ، وَيَقْتَصِرُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَتَّجِرُ فِيهِ وَيُؤَدِّي الْمَالَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ لِقِيَامِ الرِّقِّ .
قَالُوا : لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدِ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .

( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ ) لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِئَلَّا يَقَعَ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ ( فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ) لِأَنَّهُ إضَافَةُ إيجَابِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى زَمَانٍ وَالْقَبُولُ مُتَأَخِّرٌ إلَيْهِ لِئَلَّا يَقَعَ قَبْلَ الْإِيجَابِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَيَكُونُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ ) مَعَ قَبُولِهِ ( لِقِيَامِ الرِّقِّ ) إذْ التَّدْبِيرُ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا فَيَكُونُ الرِّقُّ قَائِمًا وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى عَبْدِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى قَدْ يَسْتَوْجِبُ مَالًا عَلَى مُعْتَقِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ فِي الْمُدَبَّرِ عَلَى أَلْفٍ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَعْلِيقِ التَّدْبِيرِ بِالْقَبُولِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا بَيَانُ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالْقَبُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْمَالُ .
وَقَوْلُهُ ( قَالُوا ) يَعْنِي الْمَشَايِخَ ( لَا يُعْتَقُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ) أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ( وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ ) أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي ( لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ ) فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ ( صَحِيحٌ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوجِبِ شَرْطٌ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَقَدْ عُدِمَتْ بِالْمَوْتِ

، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ وَالْمَوْتُ شَرْطٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجْنُونٌ ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَالتَّدْبِيرِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَقْ إلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ لِانْتِقَالِ الْعَبْدِ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْمَوْتِ فَلَا يُشْتَرَطُ إعْتَاقُ الْوَارِثِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعْنَاهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ فَيَكُونُ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي الْحَالِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبُولُ أَيْضًا فِيهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ إضَافَةُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَضَافَ الْحُرِّيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَفْظًا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ .

قَالَ : ( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ) أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِوَضًا فَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالْقَبُولِ ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْجَارِيَةِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْخِدْمَةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ ، وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ نَظِيرَهَا .

قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ) أَيْ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ ( فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ ، فَلَوْ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ .
أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ ) وَكُلُّ مَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ فَالْعِتْقُ يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِهِ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ فِي الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا ، وَقَدْ وُجِدَ الْقَبُولُ فَنَزَلَ الْعِتْقُ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِحُدُوثِ حُكْمِ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا صَلُحَتْ صَدَاقًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْأَبْضَاعِ بِالْأَمْوَالِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } ( فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ ) أَيْ مَسْأَلَةُ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ بِالْجَارِيَةِ إذَا اُسْتُحِقَّتْ ( مَعْرُوفَةٌ ) فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ وَلَا قِيمَةَ لِلْعِتْقِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْخِدْمَةِ بِمَوْتِهِ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهَا .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخِدْمَةَ بَدَلُ مَالٍ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ لَكِنْ الْبَدَلُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعَبْدُ ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ

تَسْلِيمُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ هَذَا فِي الْمَبْنِيِّ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ مِنْ وَجْهٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَشَابَهَ بِذَلِكَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَغَيْرَهُمَا حَتَّى صَحَّ بِأَيِّ مَالٍ كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ مِنْ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَوْلَاهُ وَشَابَهَ بِذَلِكَ بَيْعَ عَبْدٍ بِجَارِيَةٍ ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
وَأَمَّا الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ فَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ ، لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إيفَاءِ الْبَدَلِ ، وَلَيْسَ لِلْمُبْدَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ قِيمَةٌ فَيَجِبُ قِيمَةُ الْبَدَلِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ بَدَلُ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ ، كَمَا إذَا تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى ) يَعْنِي أَنَّ مَوْتَ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ فَصَارَ نَظِيرَ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءً .

( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ ) ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمَأْمُورِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْأَلْفُ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ جَائِزٌ وَفِي الْعَتَاقِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( وَلَوْ قَالَ : أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُسِّمَتْ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا ، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَنِّي تَضَمَّنَ الشِّرَاءُ اقْتِضَاءً عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَابَلَ الْأَلْفَ بِالرَّقَبَةِ شِرَاءً وَبِالْبُضْعِ نِكَاحًا فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا ، وَوَجَبَتْ حِصَّةُ مَا سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ وَبَطَلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَهُوَ الْبُضْعُ ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لَهَا فِي الْوَجْهَيْنِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47