كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها » (1) .
قال النووي في الكلام على هذا الحديث معناه : في الإحسان إلى كل حيوان حي يسقيه ونحوه أجر، وسمى الحي ذا كبد رطبة؛ لأن الميت يجف جسمه وكبده.
ففي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله، فأما المأمور بقتله فيتمثل أمر الشرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر والحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن.
وأما المحترم: فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضا بإطعامه وغيره، سواء كان مملوكا أولا، وسواء كان مملوكا له أو لغيره.. والله أعلم.
قال في [كشاف القناع]: ولا يجوز قتلها- أي: البهيمة- ولا ذبحها للإراحة؛ لأنها مال مادامت حية وذبحها إتلاف لها، وقد نهي عن إتلاف المال كالآدمي المتألم بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد؛ لأنه معصوم مادام حيا. ومعنى هذا كثير في كتب الحنابلة ولا نطيل بذكره مما يدل على تحريم قتل ما لا يؤكل لحمه كالحمر ونحوها حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا فيحرم قتلها. لذلك كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. فبهذا يتضح أن ما قيل من جواز قتل ما كان ميؤوسا منه من الحمر الأهلية غير مسلم. وقد صرح أيضا الإمام النووي بتحريم قتل الحمر والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3143),صحيح مسلم السلام (2245),مسند أحمد بن حنبل (2/507).

وذكر الإمام النووي أيضا ما معناه: إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه، فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته، كما يأخذه لنفسه، فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا، وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا. اهـ.
ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب ميؤوسا منه أو غير ميؤوس أو يمكن الانتفاع بها أو لا، كما صرح به من قبل. اهـ.
قال الشيخ الشبراملي الشافعي : (ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا).
قال في [مغني المحتاج]: وعليه علف دوابه وسقيها، فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح، وفي غيره على بيع أو علف، ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. اهـ.
هذا ما تيسر إيراده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار رقم (48) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396هـ
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان 1396 هـ جرى من المجلس الاطلاع على خطاب سمو وزير الشئون البلدية والقروية رقم (987 \ 3 \ ق) وتاريخ 17 \ 2 \ 1396 هـ بخصوص المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة .
كما جرى الاطلاع على الفتوى الصادرة في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (1075) وتاريخ 2 \ 9 \ 1395 هـ ، وعلى الفتوى الصادرة من عضو المجلس سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد بموجب خطابه رقم (305 \ 1) وتاريخ 12 \ 1 \ 1396 هـ الموجه إلى سمو وزير الشئون البلدية والقروية بخصوص ما ذكر ، وعلى البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد دراسة ما ذكر وتداول الرأي والمناقشة قرر بالأكثرية ما يلي :
إن سائبة المواشي لا تخلو : إما أن تكون مما يؤكل لحمها أو لا ، فإن كانت مما يؤكل لحمها فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجازها وبيع ما يمكن بيعه منها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها ، فإن جاء صاحبها أعطي ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع ، وإن كانت مما لا يمكن بيعه لمرضه أو كبره أو نحو ذلك فلولي الأمر

أن ينظر شأنها بما يراه محققا للمصلحة العامة ودافعا للضرر . وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق العامة من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة وذلك بوسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة . وإن كانت مما لا يؤكل لحمه كالحمير فنظرا إلى ثبوت الضرر من توافرها على جوانب الطرق العامة وحيث تبين أنه ليس لها ملاك ولا سوق نافقة لبيعها ، فإن إزالة ضررها متعينة بأي طريق يضمن ذلك ، فإن وجد من يأخذها للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق العامة بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها ، وبذلك ينتهي إشكالها ، هان أمكن نقلها إلى جهات أهلها بحاجة إليها فكذلك ، وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة أمن الطريق موفرة أسباب الدهس والصدم والحوادث وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال وبذل جهات الاختصاص جهودا كبيرة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات ، فإن لولي الأمر أن يتخذ ما يراه مناسبا للقضاء على ما توافر وجوده في الطرق العامة وعلى جوانبها بذبحها والإحسان إليها في ذلك وإطعامها حيوانات أخرى ، وذلك لأمور :
الأول : انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس .
الثاني : ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توفرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدهس ، والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس ، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما ، ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب

مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها .
الثالث : أن جمعها والإبقاء عليها والحال ما ذكر ، فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وتوظيف عمال يقومون بذلك ، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة ، ومما لا شك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل ، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه .
الرابع : جواز ذبح المأكول لحمه مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو الخلاص من مشقة النفقة عليه ورعايته ، فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة .
الخامس : ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى ؛ كالفواسق الخمس والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية ، ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن مفلح في كتابه [الآداب الشرعية] حول حكم قتل الكلاب المؤذية ، حيث قال : على قولنا يمنع لها أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها . اهـ .
وما ورد من النهي عن قتل الكلاب والثناء على من يسقيها إذا عطشت وذم من يحبسها أو يؤذيها فذلك فيما لا يؤذي من الحيوانات . وما ورد أيضا من النهي عن اتخاذ الحيوانات غرضا ، فذلك من أجل قتلها صبرا وهو في غير الحيوانات المؤذية بدليل الأمر بقتل ما يؤذي منها كالخمس الفواسق وغيرها .

وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
أعضاء هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة التاسعة
محمد بن علي بن حركان
عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر ورأي بشأن المواشي السائبة
على جوانب الطرق العامة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في الطائف اتخذ في دورته التاسعة بالأكثرية القرار رقم (48) في يوم 20 \ 8 \ 1396 هـ بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة . أجاز فيه في بعض الصور ذبح هذه المواشي بحجة أن هذا هو الطريق الوحيد للتخلص مما تسببه من أضرار من جراء تسييبها على جوانب هذه الطرق . . إلى آخر ما جاء في القرار المشار إليه . وحيث إنني عضو في هذا المجلس ولم أوافق على الحكم الذي أصدره- فإنني أسجل رأيي في الموضوع موضحا وجهة نظري في ذلك ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون وأستلهم الصواب :
جاءت النصوص الكثيرة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم تعذيب الحيوان أو قتله بغير وجه مشروع ، كما في [ صحيح مسلم ] عن عبد الله بن المغفل قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال : « ما بالهم الكلاب » (1) ؟! " ، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم ، ولا شك أن المنهي عن قتله في هذا الحديث جميع أنواع الكلاب ، سواء كانت مما ينتفع به ككلب الصيد والماشية أو لا ينتفع به ، وقد ورد النهي عن قتلها مع ورود النهي عن اقتنائها ، وأنه ينتقص من أجر مقتنيها كل يوم قيراط ، إضافة إلى أنها تسبب أضرارا محققة كتنجيسها للشوارع والإزعاج بأصواتها في الأوقات التي يسكن فيها الناس .
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (280),سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1486),سنن النسائي الصيد والذبائح (4280),سنن أبو داود الطهارة (74),سنن ابن ماجه الصيد (3205),مسند أحمد بن حنبل (4/85),سنن الدارمي الصيد (2008).

كما ورد النهي عن قتل الحيوان أو تعذيبه بصيغة اللعن .
فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئا فيها الروح غرضا ، ولعن صلى الله عليه وسلم من وسم الحمار في وجهه ، والقتل أشد من الوسم . كما نهى عليه الصلاة والسلام : أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل .
قال النووي : قال العلماء : صبر البهائم : أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى : « لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا » (1) .
وقد صرح الشيخ تقي الدين بتحريم قتل ما لا يؤكل لحمه حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا . ويقول الشيخ الشبراملي الشافعي : ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا .
وأصرح من ذلك ما ذكره الإمام النووي من تحريم قتل الحمار والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه ، وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر .
فهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء كلها صريحة في النهي عن قتل الحيوان ، ولم تفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم ، ولا بين المنتفع به وغير المنتفع به ، إذا كان الأمر كذلك فإن ما وجهت به الأكثرية قرارها بجواز الذبح لانتفاء مالية تلك الحيوانات . . بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس غير ظاهر لما هو واضح من هذه النصوص وأقوال العلماء ، وقد صرح العلماء كذلك بوجوب نفقة الحيوان على مالكه ، سواء كان مأكولا أو غير مأكول ، وسواء كان منتفعا به أو غير منتفع به .
يقول الشيخ الصاوي المالكي على [حاشية الشرح الصغير] : ودخل في الدابة الواجبة نفقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957).

لم تقدر على الانصراف ، فإن قدرت عليه لم تجب ، لأن له طردها . وذكر الإمام النووي ما معناه : إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه ، فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته ، كما يأخذه لنفسه ، فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا ، وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا . ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب ميئوسا منه أو غير ميئوس أو يمكن الانتفاع به أو لا ، كما صرح به من قبل .
وجاء في [مغني المحتاج] : وعليه علف دوابه وسقيها فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف ، ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله .
وأما ما قيل من أن جمع هذه الحيوانات والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها ، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة ، وأن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل ، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه إلى غير ذلك مما أوردوه من تعليلات ، فهي غير مسلمة لأمور :
الأول : إن الشريعة الإسلامية رتبت الأجر العظيم على رعاية تلك الحيوانات والقيام عليها حتى التي لا تدرك لها فائدة ولا منفعة في ظاهر الأمر ، فامرأة بغي غفر لها بسبب سقيها لكلب كان يأكل الثرى من العطش .

فالكلب ليس مملوكا لها ولا هو مما يؤكل لحمه ولم ينتفع به بصيد أو ماشية ، والحرمة ثابتة لكل حيوان حتى ولو كان زمنا كبيرا أو مكسرا إذا كان الأمر كذلك ، فكيف يقال : إن سقيها والإنفاق عليها خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق مصلحة حاضرة ولا منتظرة ؟! كيف وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : « في كل كبد رطبة أجر » (1) ؟ وإذا كانت هناك دول غير إسلامية تنشئ جمعيات للرفق بالحيوان استبشاعا لقتلها أو إيذائها ، وينفقون في ذلك الأموال الطائلة لرعايتها وعلاجها من المرض والعجز ، يستوي في ذلك لديهم المأكول وغير المأكول ، والميئوس منها من عدمه- فما بال المسلمين ينزعون إلى تعمد مخالفة النصوص التي تحترم الحيوان وتؤكد الأجر العظيم لمن قام بذلك ؟! .
الثاني : بالإمكان التعرف على أصحاب هذه الحيوانات السائبة وإلزامهم شرعا بالإنفاق عليها وإبعادها عن جانبي الطريق ، ومن لم يلتزم بذلك يعاقب بما يكون مناسبا .
الثالث : في حالة تخلي أربابها عنها يمكن نقلها إلى قرى نائية كالتي تقع في شعوف الجبال وبطون الصحاري ، التي لا تصل إليها السيارات ، وأهل تلك المناطق بحاجة إليها .
الرابع : ما يبقى من الحيوانات بعد ذلك مما لا يدخل فيما تقدم إذا وجد . ففي بيت المال متسع للإنفاق عليه ورعايته ولله الحمد ، وقد قامت الدولة بالإنفاق على السباع الضارية والوحوش الكاسرة في (حدائق الحيوانات) وإذا عجز بيت المال وتزاحمت عليه الحقوق فقد يرد تعليلهم بأن في المسألة تحميلا لبيت المال للإنفاق عليهما . . إلخ .
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2234),صحيح مسلم السلام (2244),سنن أبو داود الجهاد (2550),مسند أحمد بن حنبل (2/375),موطأ مالك الجامع (1729).

الخامس : يؤكد القرار على أن في ترك المواشي سائبة على جانبي الطرق أضرارا وتهديدا لأمن الطريق وخطرا على الأموال والأنفس . . إلخ .
ولكن الواقع الملموس ليس على الصورة التي رسمها القرار للأمرين التاليين :
الأولى : أن الحوادث في هذه الطرق ناتجة عن عوامل كثيرة منها : سرعة السائقين وتهورهم ، ومنها : خلل في محركات السيارات وآلاتها ، ومنها : وعورة الطريق وكثرة منحنياته ومنعطفاته وما شابه ذلك ، ونسبة حدوث ذلك من المواشي بجانب ما ذكرنا قليل جدا .
الثاني : السبب الحقيقي لاصطدام السيارة بالحيوان سرعة السائق وتهوره وعدم أخذ الحيطة الكافية أثناء سيره ، إذ من المعلوم أن الذي يسير سيرا معتدلا يكون متمكنا من سيارته تمكنا يقيه بإذن الله مما يظهر على الطريق من مفاجآت كمنحنى خطر أو إصلاحات في الطريق أو سيارة أخرى تقابله أو حيوان وما شابه ذلك .
السادس : القول بذبحها يؤدي إلى تجرؤ رجال الإمارات التي على الطرق في أخذها وبيعها بأي ثمن أو أكلها ولو كانت بعيدة عن الطريق ؛ لأن ضبط مثل ذلك وتحديده أمر متعذر ، والنفوس لا حدود لطمعها لا سيما إذا وجدت متنفسا من نظام أو حكم : ويؤدي ذلك بالتالي إلى حصول المشاغبات والمنازعات بين هؤلاء وأرباب البوادي والقرى بسبب التعرض لمواشيهم بحجة هذا الحكم .
يتضح مما تقدم أنه من الممكن دفع الأضرار الناجمة من هذه المواشي-

على التسليم بوجودها- إما بالتزام أصحابها بحفظها وإبعادها عن الطريق أو نقلها إلى أمكنة بعيدة يتوفر فيها الماء والكلأ ، كالصمان والدهناء وأمثالها ، أو نقلها إلى بعض القرى النائية في شعوف الجبال مما لا تصل إليها السيارات فينتفعون بها ركوبا وحملا كالمناطق الجنوبية من المملكة ، هذا ما ظهر لنا .
وبالله التوفيق . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
عبد الله بن محمد بن حميد
عضو هيئة كبار العلماء

النفقة على الضوال من المواشي التي تتصل بالمواشي المملوكة
قرار رقم (141) وتاريخ 9 \ 11 \ 1407هـ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا ورسولنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته القويمة إلى يوم الدين . . وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف بتاريخ 1 \ 11 \ 1407هـ إلى 9 \ 11 \ 1407هـ اطلع على كتاب معالي وكيل وزارة الداخلية الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (17 \ 20629) وتاريخ 16 \ 3 \ 1407 هـ المشفوع به كتاب صاحب السمو الملكي أمير المنطقة الشرقية رقم (14 \ 1 \ 9737 \ 1) في 25 \ 2 \ 1407هـ المتضمن طلب الاستفتاء عن حكم النفقة على الضوال من المواشي التي قد تتصل ببعض المواشي المملوكة وما ينبغي اتخاذه نحو هذه الضوال .
كما اطلع المجلس على البحث المعد في هذا الموضوع وعلى بعض أقوال العلماء فيه وعلى فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في ذلك :
وبعد المناقشة والتأمل وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي :
أولا : أن يجتهد من لحقت هذه الضوال بمواشيه في طردها وإبعادها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل : « ما لك ولها ؟ دعها ، فإن معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري في اللقطة (2304),صحيح مسلم اللقطة (1722),موطأ مالك الأقضية (1482).

ثانيا : إذا لم يتمكن من التخلص منها فعليه أن يبادر بالاتصال بأقرب قاضي إليه ، ويخبره بالواقع ، وعلى القاضي أن يجري ما يراه الأصلح في ذلك .
ثالثا : تزود المحاكم بنسخة من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في حكم الضوال مع هذا القرار .
وبالله التوفيق . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
عبد الله خياط اعتذر لمرضه ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
. ... محمد بن جبير ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد المجيد حسن ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
صالح بن غصون ... صالح اللحيدان ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... عبد الله البسام ... عبد الله بن غديان
حسن بن جعفر العتمي ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... محمد بن صالح العثيمين
صالح الفوزان ... . ... .

(8)
حوادث السيارات وبيان ما يترتب
عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السيارات
وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة التاسعة المنعقدة بمدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ من إدراج موضوع حوادث السيارات من صدم ودهس وانقلاب وبيان حكم ما يترتب على ذلك بالنسبة لحق الله وحق عباده في جدول أعمالها بالدورة العاشرة- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي :
1 - تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام .
2 - دهس سيارة ونحوها لشيء وانقلابها وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام .
3 - بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام

المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث .
4 - توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم .
وفيما يلي الكلام على هذه الموضوعات إن شاء الله تعالى .

الموضوع الأول : تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام
تمهيد :
يحسن بنا أن نمهد بين يدي النقل عن فقهاء الإسلام في الموضوع ببيان منشأ اختلاف الأحكام أو اختلاف الفقهاء فيها بذكر ما يأتي :
إن ما يترتب على تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى من الأحكام يختلف باختلاف عدة أمور :
الأول : حال القائد أو السائق من كونه عامدا أو مخطئا أو مغلوبا على أمره في وقوع الحادث أو كونه لا يحسن القيادة .
الثاني : اختلاف الفقهاء في ضابط العمد والخطأ وشبه العمد وما تحمله العاقلة وما لا تحمله .
الثالث : اعتبار فعل كل من الجانبين في حق نفسه وحق صاحبه أو اعتباره في حق صاحبه فقط .
الرابع : تعدي كل من الطرفين بالنسبة للحادث أو تعدي أحدهما دون الآخر .
الخامس : اعتبار التسبب أو المباشرة منهما أو من أحدهما أو من غيرهما .
السادس : الاختلاف في تحقيق المناط (التطبيق) .

وفيما يلي نقول من بعض كتب الفقهاء في حكم حوادث المواصلات وآلات النقل في زمنهم يتضح منها حكم وسائل النقل في زمننا :
جاء في [تكملة فتح القدير على الهداية] (1) : (وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) .
وقال زفر والشافعي : يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر ، لما روي في ذلك عن علي رضي الله عنه ، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه ؛ لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه ، كما إذا كان الاصطدام عمدا أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة ، أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا . ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه ؛ لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق ، فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه ، وفعل صاحبه وإن كان مباحا لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان ؛ كالنائم إذا انقلب على غيره .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية ، فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا . وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق . اهـ .
وقال الكاساني (2) : إذا اصطدم فارسان فماتا فدية كل واحد منهما على
__________
(1) [تكملة فتح القدير] (8 \ 348) .
(2) [بدائع الصنائع] (7 \ 273) .

عاقلة الآخر في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ، وعند زفر رحمه الله على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر ، وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه) قول زفر أن كل واحد منهما مات بفعلين : فعل نفسه وفعل صاحبه ، وهو صدمة صاحبه وصدمة نفسه ، فيهدر ما حصل بفعل نفسه ويعتبر ما حصل بفعل صاحبه ، فيلزم أن يكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر ، كما لو جرح نفسه وجرحه أجنبي فمات ، أن على الأجنبي نصف الدية لما قلنا ، كذا هذا .
(ولنا) ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال مثل مذهبنا ، ولأن كل واحد منهما مات من صدم صاحبه إياه فيضمن صاحبه ، كمن بنى حائطا في الطريق فصدم رجلا فمات ، أن الدية على صاحب الحائط كذا هذا . وبه تبين أن صدمه نفسه مع صدم صاحبه إياه فيه غير معتبر ، إذ لو اعتبر لما لزم باني الحائط على الطريق جميع الدية ؛ لأن الرجل قد مشى إليه وصدمه ، وكذلك حافر البئر يلزمه جميع الدية وإن كان الماشي قد مشى إليها . رجلان مدا حبلا حتى انقطع فسقط كل واحد منهما ، فإن سقطا على ظهريهما فماتا فلا ضمان فيه أصلا ؛ لأن كل واحد منهما لم يمت من فعل صاحبه ، إذ لو مات من فعل صاحبه لخر على وجهه ، فلما سقط على قفاه علم أنه سقط بفعل نفسه ، وهو مده فقد مات كل واحد منهما من فعل نفسه فلا ضمان على أحد ، وإن سقطا على وجهيهما فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر ؛ لأنه لما خر على وجهه علم أنه مات من جذبه ، وإن سقط أحدهما على ظهره والآخر على وجهه فماتا جميعا فدية الذي سقط على وجهه على عاقلة الآخر ؛ لأنه مات بفعله وهو جذبه ، ودية الذي سقط

على ظهره هدر ؛ لأنه مات من فعل نفسه ولو قطع قاطع الحبل فسقطا جميعا فماتا فالضمان على القاطع ؛ لأنه تسبب في إتلافهما ، والإتلاف تسببا يوجب الضمان كحفر البئر ونحو ذلك ، صبي في يد أبيه جذبه رجل من يده والأب يمسكه حتى مات فديته على الذي جذبه ، ويرثه أبوه ، لأن الأب محق في الإمساك ، والجاذب متعد في الجذب ، فالضمان عليه ، ولو تجاذب رجلان صبيا وأحدهما يدعي أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فمات من جذبهما فعلى الذي يدعي أنه عبده ديته ، لأنه متعد في الجذب ؛ لأن المتنازعين في الصبي إذا زعم أحدهما أنه أبوه فهو أولى به من الذي يدعي أنه عبده ، فكان إمساكه بحق وجذب الآخر بغير حق فيضمن ، رجل في يده ثوب تشبث به رجل فجذبه صاحب الثوب من يده ، فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق ؛ لأن حق صاحب الثوب في دفع الممسك وعليه دفعه بغير جذب ، فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم الضمان بينهما ، رجل عض ذراع رجل فجذب المعضوض ذراعه من فيه ، فسقطت أسنان العاض وذهب لحم ذراع هذا تهدر دية الأسنان ، ويضمن العاض أرش الذراع ؛ لأن العاض متعد في العض والجاذب غير متعد في الجذب : لأن العض ضرر وله أن يدفع الضرر عن نفسه .
رجل جلس إلى جنب رجل فجلس على ثوبه وهو لا يعلم فقام صاحب الثوب فانشق ثوبه من جلوس هذا عليه يضمن الجالس نصف ذلك ؛ لأن التلف حصل من الجلوس والجذب والجالس متعد في الجلوس ، إذ لم يكن له أن يجلس عليه فكان التلف حاصلا من فعليهما ، فينقسم الضمان عليهما ، رجل أخذ بيد إنسان فصافحه فجذب يده من يده فانقلب فمات فلا

شيء عليه ؛ لأن الآخذ غير متعد في الأخذ للمصافحة ، بل هو مقيم سنة وإنما الجاذب هو الذي تعدى على نفسه ، حيث جذب يده لا لدفع ضرر لحقه من الآخذ وإن كان أخذ يده ليعصرها فآذاه فجر يده ضمن الآخذ ديته ؛ لأنه هو المتعدي ، وإنما صاحب اليد دفع الضرر عن نفسه بالجر ، وله ذلك فكان الضمان على المتعدي ، فإن انكسرت يد الممسك وهو الآخذ بالجذب لم يضمن الجاذب ، لأن التعدي من الممسك فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
في [المدونة] (1) :
(قلت) : أرأيت إذا اصطدم فارسان فقتل كل واحد منهما صاحبه ؟
(قال) مالك : عقل كل واحد منهما على قبيل صاحبه ، وقيمة كل فرس منهما في مال صاحبه .
(قال) : أرأيت لو أن سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها ؟
(قال) : قال مالك : إن كان ذلك من الريح غلبتهم أو من شيء لا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم ، وإن كانوا لو شاءوا أن يصرفوها صرفوها فهم ضامنون .
وفي [بداية المجتهد] لابن رشد (2) :
اختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما ، فقال مالك
__________
(1) [المدونة] (4 \ 505) .
(2) [بداية المجتهد] (2 \ 409) .

وأبو حنيفة وجماعة : على كل منهما دية الآخر ، وذلك على العاقلة ، وقال الشافعي وعثمان البتي : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه .
قال أحمد الدردير في [الشرح الكبير لمختصر خليل] (1) : وإن تصادما أي : المكلفان أو غيرهما (أو تجاذبا) حبلا أو غيره ، كأن جذب كل منهما يد صاحبه فسقطا (مطلقا) ، سواء كانا راكبين أو ماشيين أو مختلفين أو بسفينتين على الراجح (قصدا) ، منهما (فماتا) معا فلا قصاص لفوات محله (أو) مات (أحدهما فقط) (فالقود) جواب للمسألتين ، وهو على حذف مضاف ، أي : فأحكامه ثابتة بينهما وحكمه في موتهما نفيه وفي موت أحدهما ثبوته ، ومن أحكامه أنه إذا كان أحدهما بالغا والآخر صبيا فلا قصاص على الصبي أو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فلا يقتص للرقيق من الحر ويحكم بحكم القود أيضا فيما لو قصد أحدهما التصادم أو التجاذب دون الآخر ، وهو داخل في قوله قصدا (وحملا عليه) أي : على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ ، وإنما يظهر في موت أحدهما فقط للقصاص من الحي (عكس السفينتين) إذا تصادمتا فتلفتا أو إحداهما وجهل الحال ، فيحملان على عدم القصد فلا قود ولا ضمان ؛ لأن جريهما بالريح وليس من عمل أربابهما ، وهذه العلة تدل على أن المراد بعدم القصد هو العجز لا الخطأ وهو كذلك على الراجح ، وأما الخطأ ففيه الضمان فظهر أن لقوله : عكس السفينتين فائدة حيث حمل على العجز .
__________
(1) [الشرح الكبير لمختصر خليل] (4 \ 247) .

وأما المتصادمان ففي العمد القود كما قال ، وفي الخطأ الضمان . ولو سفينتين فيهما ولا شيء في العجز ، بل هدر ولو غير سفينتين كما أشار له بقوله (إلا لعجز حقيقي) أي : إلا أن يكون تصادمهما لعجز حقيقي ، لا يستطيع كل منهما أن يصرف نفسه أو دابته عن الآخر فلا ضمان ، بل هدر ، ولا يحملان عند الجهل عليه ، بل على العمد كما تقدم ، لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين كالخطأ ، فيه ضمان الدية في النفس والقيم في الأموال بخلاف السفينتين فهدر ، وحملا عند الجهل عليه ؛ لأن جريهما بالريح كما تقدم ، (لا لخوف غرق أو ظلمة) . فخرج من قوله : عكس السفينتين ، أي : فإنهما يحملان على العجز عند الجهل فلا قود ولا ضمان (إلا لخوف غرق أو ظلمة) فالضمان : أي : لا إن قدروا على الصرف فلم يصرفوا خوفا من غرق أو نهب أو أسر أو وقوع في ظلمة حتى تلفتا أو إحداهما أو ما فيهما من آدمي أو متاع فضمان الأموال في أموالهم ، والدية على عواقلهم ؛ لأن هذا ليس من العجز الحقيقي لقدرتهم على الصرف ، وليس لهم أن يسلموا من الهلاك بهلاك غيرهم ، (وإلا) يكن التصادم في غير السفينتين أو فيهما أو التجاذب قصدا ، بل خطأ (فدية كل) من الآدميين (على عاقلة الآخر) للخطأ ، وقيمة فرسه مثلا ، وإنما خص الفرس ؛ لأن التصادم غالبا يكون في ركوب الخيل (في مال الآخر) لا على عاقلته ؛ لأن العاقلة لا تحمل غير الدية (كثمن العبد) أي : قيمته لا يكون على عاقلة ؛ لأنه مال ، بل في مال الحر ، ودية الحر في رقبة العبد حالة ، فإن تصادما فماتا فإن زادت دية الحر على قيمة العبد لم يضمن سيده الزائد ، لأنها تعلقت برقبة العبد ، ورقبته زالت ولو زادت قيمة العبد على دية الحر أخذ سيده الزائد من

مال الحر حالا . اهـ .
قال محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق في شرحه [التاج والإكليل لمختصر خليل] (1) : (وإن تصادما أو تجاذبا مطلقا قصدا فماتا أو أحدهما فالقود ) .
قال مالك : إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر .
قال مالك : ولو أن حرا وعبدا اصطدما فماتا جميعا فقيمة العبد في مال الحر ، ودية الحر في رقبة العبد يتقاصان ، فإن كان ثمن العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر ، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء .
وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا غرم كل واحد ما كان على صاحبه ، وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه . قال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها فلا شيء في ذلك على أحد ؛ لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا وإلا فلا شيء عليهم .
__________
(1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] (6 \ 243) .

قال ابن القاسم : ولو قدروا على حبسها إلا أن فيها هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم ويضمنوا الأموال في أموالهم ، وليس لهم أن يطلبوا نجاتهم بغرق غيرهم ، وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة ودية من مات على

عواقلهم ، ولكن لو غلبتهم الريح أو غفلوا لم يكن عليهم شيء . انتهى . من ابن يونس بن عرفة . قال ابن شاس : وسواء كان المصطدمون راكبين أو ماشين أو بصيرين أو ضريرين أو أحدهما ضريرا وبيده عصا ، وإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض فيه حكم القصاص ، ولو كانا صبيين ركبا بأنفسهما أو أركبهما أولياؤهما فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص ، ولو جذبا حبلا فانقطع فتلف فكاصطدامهما ، وإن وقع أحدهما على شيء فأتلفه ضمناه .
ابن عرفة يؤيد هذا ما في [المدونة] و[المجموعة] إن اصطدم فرسان فمر أحدهما على صبي فقطع إصبعه ضمناه . انظر هنا في ابن عرفة القصاص . من قتل خارجة ولم يتلفت لإثبات قوله : أردت عمرا وأراد الله خارجة ، ومن قتل رجلا عمدا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص ، ومن رمى رجلا بحجر فاتقاها المرمي عليه فقتلت آخر كما لو هرب أمام القاتل فسقط على طفل فقتله كالأربعة الذين تعلق بعضهم ببعض وسقطوا على الأسد فقتلهم (وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز حقيقي إلا كخوف غرق أو ظلمة) قد تقدم جميع ما نقل ابن يونس عن ابن القاسم في اصطدام السفينتين والراكبين .
وقال ابن الحاجب : لو اصطدم فارسان عمدا فإحكام القصاص وإلا فعلى عاقلة كل واحد دية الآخر ، ثم قال : فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف والمعتبر العجز حقيقة لا لخوف غرق أو ظلمة ، ابن عبد السلام : قول ابن الحاجب يوهم أن حكم الفارسين مخالف لحكم السفينتين وليس كذلك ؛ لأن الفارسين إذا جمح بهما فرساهما فكان تلف

لم يضمنا إلا أن الفرسين إذا جهل أمرهما حمل على أنهما قادران على إمساكهما وفي السفينتين على العجز .
ابن عرفة قوله : إذا جمح الفرس ولم يقدر راكبه على صرفه أنه لا يضمن يرد بقولها إن جمحت دابة براكبها فوطئت إنسانا فهو ضامن وبقولها إن كان في رأس الفرس اعتزام فحمل بصاحبه فاصطدم فصاحبه ضامن ؛ لأن سبب جمحه من راكبه وفعله به إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه (وإلا فدية كل على عاقلة الآخر وفرسه في مال الآخر كثمن العبد) .
وقال أبو إسحاق الشيرازي في [المهذب] (1) :
(فصل) : وإن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر .
وقال المزني : إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المنكب دية المستلقي وهدر دمه ؛ لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول ، وهذا خطأ ؛ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه ، فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه ، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه .
ووجه قول المزني : لا يصح ؛ لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته . وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين ، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما
__________
(1) [المهذب] (2 \ 195) .

فاصطدما ماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه .
وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين ، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما .
(فصل) : وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم ؛ لأنه هالك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه ، كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها . وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم ؛ لأنه قتله بصدمة هو متعد فيها ، وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ؛ لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق . وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم ، والمصدوم وقد بيناه .
(فصل) فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما " ؛ فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصرا في آلتهما أو قدرا على ضبطها فلم يضبطا أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها ، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف ، وإن كانت لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ، ونصف قيمة ما فيها ، لما بيناه في الفارسين ، فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة كل واحد

منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه ، فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه ، وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان :
أحدهما : يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين .
والثاني : لا يجب ؛ لأنها تلفت من غير تفريط منهما فأشبه إذا تلفت بضاعة ، واختلف أصحابنا في موضع القولين ، فمنهم من قال : القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها ، فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا ؛ لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين .
وقال أبو إسحاق وأبو سعيد : القولان في الحالين ، وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام ، والقيم لا يمكنه ضبط السفينة ، فإن قلنا : إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرط إلا في القصاص ، فإنه لا يجب مع عدم التفريط ، وإن قلنا : إنه لا يجب الضمان نظرت ، فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان ، وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن ، لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط ، وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمله بأجرة لم يجب ضمان السفن ؛ لأنها أمانة ، وأما المال فهو مال في يد أجير مشترك ، فإن كان مع صاحبه لم يضمن ، وإن لم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير

المشترك وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين ، والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين .
وقال الشيخ محمد الشربيني الخطيب في [شرح المنهاج] :
(فصل) فيما يوجب الشركة في الضمان وما يذكر معه ، إذا (اصطدما) أي : حران كاملان راكبان أو ماشيان أو راكب وماش طويل ، سواء أكانا مقبلين أو مدبرين أم أحدهما مقبلا والآخر مدبرا كما يشعر به إطلاقه ، وإن قيد الرافعي بالمدبرين وقيد المصنف الاصطدام بقوله (بلا قصد) كاصطدام أعميين ، أو غافلين ، أو كانا في ظلمة ليشمل ما إذا غلبتهما الدابتان ، وسيأتي محترزه في كلامه ، واستفيد تقييد الاصطدام بالحرين من قوله (فعلى عاقلة كل) منهما (نصف دية مخففة) أما كونه نصف دية ؛ فلأن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه فيهدر النصف ، كما لو جرحه مع جراحة نفسه ، وأما كونها مخففة على العاقلة ، فلأنه خطأ محض ، ولا فرق في ذلك بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين ، أو أحدهما منكبا والآخر مستلقيا اتفق المركوبان كفرسين أو لا كفرس وبعير وبغل اتفق سيرهما أو اختلف كأن كان أحدهما يعدو والآخر يمشي على هينته (وإن قصدا) جميعا الاصطدام (فنصفها مغلظة) على عاقلة كل منهما لورثة الآخر ، أما كونها نصف دية فلما مر .
وأما كونها مغلظة على العاقلة ؛ فلأن القتل حينئذ شبه عمد ؛ لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت فلا يتحقق فيه العمد المحض ، ولذلك لا يتعلق به القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر (أو) قصد (أحدهما)

الاصطدام دون الآخر وماتا (فلكل) منهما (حكمه) من التخفيف والتغليظ .
(تنبيه) : محل ذلك ما إذا لم تكن إحدى الدابتين ضعيفة بحيث قطع بأنه لا أثر لحركتها ، فإن كانت كذلك لم يتعلق بحركتها حكم كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة نقله في [الروضة] ، عن الإمام وأقره : وجزم به ابن عبد السلام ، ولا ينافيه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ، سواء أكان أحد الراكبين على فيل والآخر على كبش ، لأنا لا نقطع بأنه لا أثر لحركة الكبش مع حركة الفيل ، ومثل ذلك يأتي في الماشيين ، كما قاله ابن الرفعة وغيره ، والصحيح : أن على كل منهما في تركته (كفارتين) :
إحداهما : لقتل نفسه ، والأخرى لقتل صاحبه ؛ لاشتراكهما في إهلاك نفسين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ وأن قاتل نفسه عليه كفارة ، وهو الأظهر .
والثاني : على كل كفارة بناء على أنها تتجزأ (وإن ماتا مع مركوبهما فكذلك الحكم دية وكفارة (و) يزاد على ذلك أن (في تركة كل) منهما (نصف قيمة دابة الآخر) أي : مركوبه ؛ لاشتراكهما في الإتلاف مع هدر فعل كل منهما في حق نفسه ، وقد يجيء التقاص في ذلك ولا يجيء في الدية إلا أن يكون عاقلة كل منهما ورثته وعدمت الإبل .
(فروع) لو كان مع كل من المصطدمين بيضة ، وهي ما تجعل على الرأس فكسرت ففي [البحر] ، : أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال : على كل منهما نصف قيمة بيضة الآخر ، ولو تجاذبا حبلا لهما أو لغيرهما فانقطع وسقطا وماتا فعلى عاقلة كل منهما نصف دية الآخر وهدر الباقي ؛ لأن كلا

منهما مات بفعله وفعل الآخر ، سواء أسقطا منكبين أم مستلقيين أم أحدهما منكبا والآخر مستلقيا ، فإن قطعه غيرهما فماتا فديتهما على عاقلته ؛ لأنه القاتل لهما ، وان مات أحدهما بإرخاء الآخر الحبل فنصف ديته على عاقلته وهدر الباقي ؛ لأنه مات بفعلها ، وإن كان الحبل لأحدهما والآخر ظالم فالظالم هدر وعلى عاقلته نصف دية المالك ، ولو كان شخص يمشي فوقع مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق لزمه نصف الضمان ؛ لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه (وصبيان أو مجنونان) أو صبي ومجنون في اصطدامهما (ككاملين) فيما سبق فيهما ومنه التغليظ بناء على أن عمدهما عمد ، وهو الأصح إن كانا مميزين ، هذا إن ركبا بأنفسهما ، وكذا إن أركبهما وليهما لمصلحتهما وكانا ممن يضبط المركوب (وقيل) ونص عليه في [الأم] ، (إن أركبهما الولي تعلق به الضمان) ؛ لما فيه من الخطر وجوازه مشروط بسلامة العاقبة ، والأصح المنع كما لو ركبا بأنفسهما .
(تنبيه) : محل الخلاف كما نقلاه عن الإمام وأقراه ما إذا أركبهما لزينة أو لحاجة غير مهمة ، فإن أرهقت إلى إركابهما حاجة كنقلهما من مكان إلى مكان فلا ضمان عليه قطعا ، قالا : ومحله أيضا عند ظن السلامة فإن أركبهما الولي دابة شرسة جموحا ضمن الولي لتعديه .
قال الأذرعي : ومحله أيضا فيمن يستمسك على الدابة فلو أركبه دابة هادية وهو لا يستمسك عليها تعلق به الضمان .
قال ابن الرفعة : ويستثنى من عدم تضمين الولي ما إذا كانا غير مميزين كابن سنة وسنتين فأركبهما الولي فيجب على عاقلته دية كل منهما .
قال البلقيني : وينبغي أن يضاف إلى ما ذكره الإمام أن لا ينسب الولي

إلى تقصيره في ترك من يكون معهما ممن جرت العادة بإرساله معهما .
قال : والمراد بالولي هنا ولي الحضانة الذكر لا ولي المال ، وذلك ظاهر من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وبسط ذلك .
ثم قال : ولم أر من تعرض له .
وقال الزركشي في [التكملة] ، : يشبه أنه من له ولاية التأديب من أب وغيره خاص وغيره .
وقال في [الخادم] ، ظاهر كلامهم والي المال . اهـ .
والأوجه كلام البلقيني (ولو أركبهما أجنبي) بغير إذن الولي ولو لمصلحتهما (ضمنهما ودابتيهما) ؛ لتعديه بإركابهما ، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع .
(تنبيه) شمل إطلاقه تضمين الأجنبي ما لو تعمد الصبيان الاصطدام وهو كذلك ، وإن قال في [الوسيط] : يحتمل إحالة الهلاك عليهما بناء على أن عمدهما عمد ، واستحسنه الشيخان ؛ لأن هذه المباشرة ضعيفة فلا يعول عليها كما قاله شيخي ، وقوله : ضمنهما ودابتيهما ليس على إطلاقه ، بل الضمان الأول على عاقلته ، والثاني عليه ، وقضية كلام الجمهور : إن ضمان المركب بذلك ثابت ، وإن كان الصبيان ممن يضبطان الركوب وهو كذلك وإن كان قضية نص الأم أنهما إن كانا كذلك فهما كما لو ركبا بأنفسهما ، وجزم به البلقيني أخذا من النص المشار إليه ، وإن وقع الصبي فمات ضمنه المركب ، كما قاله الشيخان ، وظاهره : أنه لا فرق بين أن يكون إركابه لغرض من فروسية ونحوها أو لا ، وهو كذلك في الأجنبي ، بخلاف الولي فإنه إذا أركبه لهذا الغرض وكان ممن يستمسك على الدابة

فإنه لا يضمنه ، وقول المتولي : لا فرق فيه بين الولي والأجنبي خصه ابن الرفعة في الأجنبي على ما إذا أركب بإذن- معتبر . أو اصطدم (حاملان وأسقطتا) بأن ألقتا جنينيهما وماتتا (فالدية كما سبق) من وجوب نصفها على عاقلة كل منهما وإهدار النصف الآخر ، لأن الهلاك منسوب إلى فعلهما (وعلى) أي : ويجب في تركة (كل) من الحاملين (أربع كفارات على الصحيح) بناء على الصحيح : أن الكفارة تجب على قاتل نفسه ، وأنها لا تتجزأ ؛ فيجب كفارة لنفسها ، وثانية : لجنينها ، وثالثة : لصاحبتها ، ورابعة : لجنينها ؛ لأنهما اشتركا في إهلاك أربعة أنفس .
والثاني : تجب كفارتان بناء على عدم الوجوب وعلى التجزي (و) يجب (على عاقلة كل) منهما (نصف غرتي جنينيهما) نصف غرة لجنينها ونصف غرة لجنين الأخرى ؛ لأن الحامل إذا جنت على نفسها فألقت جنينا وجبت الغرة على عاقلتها ، كما لو جنت على حامل أخرى ولا يهدر من الغرة شيء بخلاف الدية فإنه يجب نصفها ويهدر نصفها كما مر ؛ لأن الجنين أجنبي عنهما بخلاف أنفسهما .
(تنبيه) : كلامه قد يوهم وجوب رقيق واحد نصفه لهذا ونصفه لذلك ، وعبارة ابن يونس له أن يسلم نصف رقيق عن واحد ونصف رقيق عن الآخر ، وعلى هذا فكان الأولى للمنصف أن يقول : نصف غرة لهذه ونصف غرة للأخرى (أو) اصطدم (عبدان) وماتا (فهدر) سواء ماتا معا بهذا الاصطدام أم أحدهما بعد الآخر قبل إمكان بيعه ، وسواء اتفقت قيمتهما أم اختلفت ؛ لأن جناية العبد تتعلق برقبته وقد فاتت .
(أو) اصطدم سفينتان وغرقتا (فكدابتين) اصطدمتا وماتتا في حكمهما

السابق (والملاحان) فيهما تثنية ملاح ، وهو النوتي صاحب السفينة سمي بذلك لإجرائه السفينة على الماء المالح حكمهما (كراكبين) ماتا باصطدام في حكمهما السابق (وإن كانتا) أي : السفينتان وما فيهما (لهما) فيهدر نصف قيمة كل سفينة ونصف بدل ما فيها ، فإن ماتا بذلك لزم كلا منهما كفارتان كما سبق ولزم عاقلة كل منهما نصف دية الآخر .
(تنبيه) يستثنى من كون الملاحين كالراكبين ما إذا قصد الملاحان الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مهلكا مغرقا فإنه يجب نصف دية كل منهما في تركة الآخر ، بخلاف المصطدمين فإنها على العاقلة ، ولو مات أحدهما بما صدر من المتعمد دون الآخر وجب القصاص على الحي بناء على إيجاب القصاص على شريك جارح نفسه ولو كان في السفينة من يقتلان به فعليهما القصاص إذا مات بذلك ، فلو تعدد الغرقى قتل بواحد ووجب في مال كل واحد نصف ديات الباقين وضمان الكفارات بعدد من أهلكا ، وإن كان الاصطدام لا يعد مهلكا غالبا وقد يهلك فشبه عمد فتجب الدية مغلظة على العاقلة ولو كان الملاحان صبيين وأقامهما الولي أو أجنبي فالظاهر كما قال الزركشي إنه لا يتعلق به ضمان ؛ لأن الوضع في السفينة ليس بشرط ؛ لأن العمد من الصبيين هنا هو المهلك (فإن) كانت السفينتان لهما (وكان فيهما مال أجنبي لزم كلا) منهما (نصف ضمانه) سواء أكان المال في يد مالكه وهو السفينة أم لا ، لتعديهما ويتخير الأجنبي بين أخذ جميع بدل ماله من أحد الملاحين ثم هو يرجع على الآخر . وبين أن يأخذ نصفه منه ونصفه من الآخر ، فإن كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما (وإن كانتا لأجنبي) والملاحان فيهما أمينين أو أجيرين للمالك (لزم كلا نصف

قيمتهما) ؛ لأن مال الأجنبي لا يهدر منه شيء ، ويتخير كل من المالكين بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من ملاحه ثم يرجع هو بنصفهما على الملاح الآخر . أو يأخذه نصفها منه ونصفهما من الملاح الآخر ، فلو كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما .
(تنبيه) : محل هذا التفصيل : إذا كان الاصطدام بفعلهما أو لم يكن ، وقصرا في الضبط ، أو سيرا في ريح شديدة فإن حصل الاصطدام بغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر بخلاف غلبة الدابة فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه فالقول قولهما بيمينهما عند التنازع في أنهما غلبا ؛ لأن الأصل براءة ذمتهما وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر فلكل حكمه وإن كانت إحداهما مربوطة فالضمان على مجري السائرة .
وفي [المغني] ، لابن قدامة (1) رحمه الله :
(مسألة) قال : (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) .
وجملته : أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين ، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين ، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق .
وقال مالك والشافعي : على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر ؛ لأن التلف حصل بفعلهما ، فكان الضمان منقسما عليهما كما لو
__________
(1) [المغني] (4\89) .

جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما ، ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها ، كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة .
إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا ، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة ، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وإن نقصت فعليه نقصها .
(فصل) : فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق ؛ لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف .
(مسألة) : قال : (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف) نص أحمد على هذا ؛ لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه ، وإن مات هو أو دابته فهو هدر ؛ لأنه أتلف نفسه ودابته ، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين ؛ لأن التلف حصل من فعلهما ، وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر ؛ لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه ، كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان .
(مسألة) : قال : (وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي رضي الله عنه والخلاف فيها في الضمان ، كما الخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص هاهنا في الضمان ؛ لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد

منهما . إن اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون الضمان على المتصادمين تقاصا ، ولا يجب القصاص سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ، ولا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى ، فإن كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها ؛ لأنهما اشتركتا في قتله ، وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتهما في الجنين ، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين .
وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنينين بغرة إذا سقطا ميتين وعتق رقبتين ، وإن اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين ، وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين .
(فصل) وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما ؛ لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلف ، وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي ، فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها ، وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ، ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة العبد في تركة الحر ، فيتقاصان ، فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة ؛ لأنها لا متعلق لها ، وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شيء كلى العبد ؛ لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته ، وإن مات العبد وحده

فقيمته في ذمة الحر ؛ لأن العاقلة لا تحمل العبد وإن مات الحر وحده تعلق ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين ، وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت ، وإن قتله أجنبي فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته ، لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه .
(مسألة) : قال : (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها) .
وجملته : أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلو من حالين : أحدهما : أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف ، أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة ؛ لأنها مسألة الكتاب ، ولا يخلوان من حالين :
أحدهما : أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما ، فعلى المنحدر ضمان الصاعدة ؛ لأنها تنحط عليها من علو ، فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل المنحدرة بمنزلة السائر والصاعدة بمنزلة الواقف ، وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط ، فيكون الضمان على المصعد ؛ لأنه المفرط وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه ؛ لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها ، ولا يكلف الله

نفسا إلا سعها .
الحال الثاني : أن يكونا متساويتين فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان ، وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما ، وللشافعي في حال عدم التفريط قولان : أحدهما : عليهما الضمان ؛ لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما .
ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالفان الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما وان كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده ، فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه ؛ لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إن كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى .
(فصل) : فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص هاهنا ؛ لأن من يجب به غير من يجب عليه ، وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص ، وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كانا حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتيهما فإن تلفا جميعا

سقط الضمان ، وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد ، وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن ؛ لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان ؛ لأن الهلاك بأمر غير مستطاع .
(فصل) وإن كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة ، وعلى السائرة ضمان الواقفة إن كان مفرطا ، ولا ضمان عليه إن لم يفرط على ما قدمنا . اهـ .
وذكر أبو الفرج في [شرحه الكبير للمقنع] ، نحو ما تقدم .
وفي [الفروع] ، لابن مفلح (1) رحمه الله :
وإن اصطدم راجلان أو راكبان أو ماش وراكب - قال في [ الروضة] : بصيران أو ضريران أو أحدهما- فماتا أو دابتاهما ضمن كل واحد متلف الآخر ، وقيل : نصفه ، وقدم في [الرعاية] : وإن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن وجزم به في [الترغيب] ، وإن اصطدما عمدا ويقتل غالبا فهدر ، وإلا شبه عمد ، وما تلف للسائر منهما لا يضمنه واقف وقاعد ، في المنصوص ، وقيل : بلى مع ضيق الطرق ، وفي ضمان سائر ما أتلف لواقف وقاعد في طريق ضيق وجهان : وإن اصطدم قنان ماشيان فهدر ، لا حر وقن فقيمة قن .
وقيل : نصفها في تركة حر ، ودية حر ويتوجه الوجه أو نصفها في تلك
__________
(1) [الفروع] (6 \ 6-8) .

القيمة ، اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد متلف الآخر وفي [المغني] : إن فرطا ، وقاله في [المنتخب] ، وأنه ظاهر كلامه ولا يضمن المصعد منهما ، بل المنحدر إن لم يغلبه ريح نص عليه .
وفي [الواضح] وجه لا يضمن منحدر .
وفي [الترغيب] السفينة كدابة والملاح كراكب ويصدق ملاح في إن تلف مال بغلبة ريح ، ولو تعمدا الصدم فشريكان في إتلاف كل منهما ومن فيهما ، فإن قتل غالبا فالقود إلا شبه عمد ولا يسقط فعل المصادم في حق نفسه مع عمد ولو خرقها عمدا أو شبه عمد أو خطأ عمل على ذلك ، وهل يضمن من ألقى عدلا مملوءا بسفينة ما فيها أو نصفه أو بحصته ؟ يحتمل أوجها وإن أركب صبيين غير وليهما فاصطدما ضمن .
وفي [الترغيب] : تضمن عاقلته ديتهما وإن ركباها فكبالغين مخطئين وكذا إن أركبهما ولي لمصلحة ، قال ابن عقيل : ويثبتان بأنفسهما .
وفي [الترغيب] : إن صلحا للمركوب وأركبهما ما يصلح لركوب مثلهما ، وإلا ضمن ويضمن كبير صدم الصغير ، وإن مات الكبير ضمنه من أركب الصغير ، نقل حرب : إن حمل رجل صبيا على دابة فسقط ضمنه إلا أن يأمره أهله بحمله . اهـ .

وفي [الإنصاف على المقنع] (1) :
قوله : ( وإن اصطدم نفسان ) قال في [الروضة] : بصيران أو ضريران أو أحدهما ، قلت : وكذا قال المصنف والشارح : (فماتا فعلى عاقلة كل واحد
__________
(1) [الإنصاف على المقنع] (10 \ 35) .

(منهما دية الآخر) هذا المذهب جزم به الخرقي و[المحرر] و[المفتي] ، و[الشرح] والزركشي و[النظم] و[الوجيز] و[المنور] و[منتخب الأدمي] ، وغيرهم وقدمه في [الرعايتين] و[الحاوي الصغير] ، و[ الفروع] وقيل : يجب على عاقلة كل منهما نصف الدية وهو تخريج لبعضهم .
(تنبيه) ظاهر كلام المصنف أنه سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب ، وقيل : إذا كان عمدا يضمنان دون عاقلتهما ، وقال في [الرعاية] ، : وهو أظهر (قوله : وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) ، وهذا المذهب جزم به في [المغني] ، و[الشرح الكبير] ، و[المحرر] ، وغيرهم وقدمه في [الفروع] ، وغيره ، وقيل : على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر ، وقدم في [الرعايتين] ، إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن ، وجزم به في [الترغيب] ، و[الوجيز] و[الحاوي الصغير] .
قوله : (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه . وعليه ضمان ما تلف به) ذكر المصنف هنا مسألتين :
إحداهما : ما يتلف السائر إذا كان الآخر واقفا أو قاعدا فقطع بضمان الواقف ودابته على السائر إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه وهو أحد الوجهين وهو المذهب منهما ، ونص عليه وجزم به في [المغني] ، و[الشرح] ، و[الوجيز] ، وهو ظاهر ما جزم به في [الرعاية] ، و[الحاوي] وقيل : يضمنه السائر سواء كان الواقف في طريق ضيق أو واسع وقدمه في [المحرر] ، و[النظم] ، والزركشي ، وهو ظاهر كلام الخرقي

وأطلقهما في [الفروع] .
المسألة الثانية : ما يتلفه الواقف أو القاعد للسائر في الطريق الضيق فجزم المصنف هنا أنه يضمنه وجزم به في [الشرح] ، و[شرح ابن منجا] واختاره المصنف ، والصحيح من المذهب : أنه لا يضمن ، نص عليه وقدمه في [المحرر] و[النظم] ، و[الرعايتين] ، و[الحاوي الصغير] ، و[الفروع] ، وأما ما يتلف للسائر إذا كان الطريق واسعا فلا ضمان على الواقف والقاعد على الصحيح من المذهب ، وقطع به كثير منهم وقدمه في [المحرر] و[النظم] ، و[الرعايتين] و[الحاوي] و[الفروع] وغيرهم ، وقيل : يضمنه ، ذكره الزركشي وغيره .
تنبيهان : أحدهما : قوله : (فعلى السائر ودابته ضمان الواقف يكون على عاقلة السائر ، وضمان دابة الواقف يكون على نفس السائر صرح به الأصحاب فظاهر كلام المصنف غير مراد .
الثاني : قوله : (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا) قال ابن منجا : لا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد ؛ لأنه إذا كان مملوكا لم يكن متعديا بوقوفه فيه ، بل السائر هو المتعدي بسلوكه ملك غيره بغير إذنه . انتهى .
قال أبو محمد ابن حزم (1) رحمه الله (2) :
وأما المصطدمان راجلين أو على دابتين أو السفينتين يصطدمان فروي
__________
(1) [المحلى] لابن حزم ، ص (502- 504) طبع منير .
(2) [المحلى] لابن حزم ، (12 \ 283- 286) مكتبة الجمهورية العربية 1391 هـ .

عن الشعبي في السفينتين يصطدمان لا ضمان في شيء من ذلك .
وقال الشافعي : لا يجوز فيه إلا أحد قولين : إما أنه يضمن مدير السفينة نصف ما أصابت سفينته لغيره أو أنه لا يضمن البتة إلا أن يكون قادرا على صرفها بنفسه أو بمن يطيعه فلا يفعل فيضمن ، والقول قوله مع يمينه أنه ما قدر على صرفها ، وضمان الأموال إذا ضمن في ذمته ، وضمان النفوس على عاقلته .
قال أبو محمد : وقال بعض أصحابنا : إذا اصطدمت السفينتان بغير قصد من ركابهما لكن بغلبة أو غفلة فلا ضمان في ذلك أصلا ، فإن حملا سفينتهما على التصادم فهلكتا ضمن كل واحد نصف قيمة السفينة الأخرى ؛ لأنها هلكت من فعلها ومن فعل ركابها ، وأما الفارسان يصطدمان فإن أبا حنيفة ومالكا والأوزاعي والحسن بن حيي قالوا : إن ماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر كاملة ، وقال عثمان البستي وزفر والشافعي : على كل واحد منهما نصف في دية صاحبه .
وقال بعض أصحابنا : بمثل قول الشافعي في ذلك ، وكذلك أوجبوا إن هلكت الدابتان أو إحداهما فنصف قيمتها أيضا ، وكذلك لو رموا بالمنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فمات فإن الدية على عواقلهم وتسقط منها حصة المقتول ؛ لأنه مات من فعله وفعل غيره ، قالوا : فلو صدم أحدهما الآخر فقط فمات المصدوم فديته على عاقلة الصادم إن كان خطأ ، وفي مال القاتل إن قتلت في العمد .
قال أبو محمد : والقول في ذلك وبالله تعالى التوفيق أن السفينتين إذا اصطدمتا بغلبة ريح أو غفلة فلا شيء في ذلك ؛ لأنه لم يكن من الركبان في ذلك عمل أصلا ولم يكسبوا على أنفسهم شيئا وأموالهم وأموال عواقلهم

محرمة إلا بنص أو إجماع ، فإن كانوا تصادموا وحملوا وكل أهل سفينة غير عارفة بمكان الأخرى لكن في ظلمة لم يروا شيئا فهذه جناية ، والأموال مضمونة ؛ لأنهم تولوا إفسادها وقال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } (1)
وأما الأنفس فعلى عواقلهم كلهم ؛ لأنه قتل خطأ وإن كانوا تعمدوا فالأموال مضمونة كما ذكرنا وعلى من سلم منهم القود أو الدية كاملة والقول في الفارسين أو الرجلين يصطدمان كذلك وكذلك أيضا الرماة بالمنجنيق تقسم الدية عليه وعليهم وتؤدي عاقلته وعاقلتهم ديته سواء ، برهان ذلك : أنه في الخطأ قاتل نفسه مع من قتلها وقد ذكرنا قبل أن في قاتل نفسه الدية بنص قول الله تعالى في قاتل الخطأ فعم تعالى كل مقتول ولم يخص خطأ ، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (2)
قال أبو محمد : ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول : أما قولهم في المصطدمين أن الميت مات منهما من فعل نفسه ومن فعل غيره فهو خطأ ، والفعل إنما هو مباشرته الفاعل وما يفعله فيه وهو لم يباشره بصدمة غيره في نفسه شيئا ولا يختلفون فيمن دفع ظالما إلى ظالم آخر ليقاتله فقتل أحدهما الآخر أن على القاتل منهما القود أو الدية ، كلها إن فات القود ببعض العوارض وهو قد تسبب في موت نفسه بابتداء القتال كما تسبب في موت نفسه بالصدم ولا فرق وهذا تناقض منهم .
قال أبو محمد : وكذلك القول في المتصارعين ولا فرق ، وما أباح الله
__________
(1) سورة الشورى الآية 40
(2) سورة مريم الآية 64

تعالى في اللعب شيئا حظره في الجد ، وأما من سقط من علو على إنسان فماتا جميعا أو مات الواقع أو الموقوع عليه فإن الواقع هو المباشر لإتلاف الموقوع عليه بلا شك وبالمشاهدة ؛ لأن الوقعة قتلت الموقوع عليه ولم يعمل الموقوع عليه شيئا فدية الموقوع عليه إن هلك على عاقلة الواقع إن لم يتعمد الوقوع عليه ؛ لأنه قاتل خطأ ، فإن تعمد فالقود واقع عليه إن سلم أو الدية ، وكذلك الدية في ماله إن مات الموقوع عليه قبله فإن ماتا معا أو مات الواقع قبل فلا شيء في ذلك ، لما ذكرنا من أن الدية إنما تجب بموت المقتول المجني عليه لا قبل ذلك ، فإذا مات في حياة قاتله فقد وجبت الدية أو القود في مال القاتل وإذا مات مع قاتله أو بعد قاتله فلم يجب له بعد شيء لا قود ولا دية في حياة القاتل فإذا مات فالقاتل غير موجود والمال قد صار للورثة وهذا لا حق له عندهم وليس هكذا قتل الخطأ ؛ لأن الدية لا تجب في مال الجاني وإنما تجب على عاقلته ، فسواء مات القاتل قبل المقتول أو معه أو بعده لا يسقط بذلك وجوب الدية : إما على العاقلة إن علمت ، وإما في كل مال المسلمين ، كما جاء في سهم الغارمين ، وبالله تعالى التوفيق .
لا شيء لوارث الواقع إن مات في جميع هذه الوجوه لا دية ولا غيرها ؛ لأنه لم يجن أحد عليه شيئا وسواء وقع على سكين بيد الموقوع عليه أو على رمح أو غير ذلك لا شيء في ذلك أصلا ؛ لأنه إن عمد فهو قاتل نفسه عمدا ولا شيء في ذلك بلا خلاف ، وإن كان لم يعمد فلم يباشر في نفسه جناية وإنما هو قتيل حجر أو حديدة أو نحو ذلك وما كان هكذا فلا شيء في ذلك كله .
وبالله تعالى التوفيق .

مما تقدم تتبين أحكام حوادث آلات النقل والمواصلات في نظر فقهاء الإسلام السابقين بالنسبة لما كان مستعملا منها في زمنهم كالسفن والدواب وأحكام حوادث المصارعة والتجاذب وما إليهما مع اختلاف وجهة نظرهم في بعض المسائل ولا يزال الكثير من هذه الآلات والوسائل وأحداثها قائما ، وجد إلى جانبها وسائل أخرى للنقل والمواصلات كالسيارات والطيارات والدبابات والدراجات ولا غنى للناس عن استعمالها ، بل صارت من ضرورات الحياة ، ولذا كثر استعمال الناس لها في تحقيق مصالحهم وقضاء حاجاتهم ونشأ عن ذلك كثير من الحوادث فوجب على علماء هذا العصر أن يتبينوا حكمها على ضوء الأصول الشرعية وما سبق من النظائر التي حكم فيها أئمة الفقه الإسلامي باجتهادهم وذلك بتخريج حوادث الوسائل الجديدة على نظائرها من حوادث الوسائل القديمة ، ليعرف الحكم فيها بتحقيق المناط وتطبيق القواعد الشرعية عليها ، كما فعل المجتهدون السابقون في بناء الأحكام على أصولها واستنباطها منه وتخريجها على نظائرها ، وعلى هذا يمكن أن يقال :
أولا : إن تصادمت سيارتان وكان ذلك من السائقين عمدا فإن ماتا فلا قصاص لفوات المحل وتجب دية كل منهما ودية من هلك معه من النفوس وما تلف معه من السيارة والمتاع في مال صاحبه بناء على عدم اعتبار اعتدائه وفعله في نفسه ومن هلك معه واعتبار ذلك بالنسبة لصاحبه ومن هلك أو تلف معه ، أو يجب نصف دية كل منهما ونصف دية من هلك معه ونصف قيمة ما تلف معه في مال صاحبه ، بناء على اعتبار اعتدائه وفعله في حق نفسه وحق صاحبه ، وإن مات أحدهما دون الآخر اقتص منه لمن مات

بالصدمة ، لأنها مما يغلب على الظن القتل به ، وإن كان التصادم منهما خطأ وجبت الدية أو نصفها لكل منهما ولمن مات معه على عاقلة صاحبه ، وتجب قيمة ما تلف من سيارة كل منهما أو متاعه أو نصفها في مال صاحبه بناء على ما تقدم من الاعتبارين ، وإن كان أحدهما عامدا والآخر مخطئا فلكل حكمه على ما تقدم ، ومن كان منهما مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه إلا إذا كان ذلك بسبب تفريط منه سابق .
ثانيا : إذا صدمت سيارة سائرة سيارة واقفة في ملك صاحبها أو خارج طريق السيارات أو على جانب طريق واسع ضمن سائق السائرة ما تلف في الواقفة من نفس ومال بصدمته ، لأنه المتعدي ، فإن انحرفت الواقفة فصادف ذلك الصدمة فالضمان بينهما على ما تقدم في تصادم سيارتين ، وإن كانت واقفة في طريق ضيق غير مملوك لصاحبها فالضمان على صاحب الواقفة ، لتعديه بوقوفه ، ويحتمل أن يكون الضمان بينهما لتفريط كل منهما وتعديه .
وإن صدمت سيارة نازلة من عقبة مثلا سيارة صاعدة فالضمان على سائق المنحدرة إلا إذا كان مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه أو كان سائق الصاعدة يمكنه العدول عن طريق النازلة فلم يفعل فالضمان بينهما ، وإن أدركت سيارة سيارة أمامها فصدمتها ضمن سائق اللاحقة ما تلف من النفوس والأموال في سيارته والسيارة المصدومة ؛ لأنه متعد بصدمه لما أمامه والأمامية بمنزلة الواقفة بطريق واسع إلا إذا حصل من سائق الأمامية فعل يعتبر سببا أيضا في الحادث ، كأن يوقف سيارته فجأة أو يرجع بها إلى الخلف أو ينحرف بها إلى ممر اللاحقة ليعترض طريقها فالضمان بينهما

على ما تقدم من الخلاف في حكم تصادم سيارتين .
ثالثا : وإذا وقف سائق سيارة بسيارته أمام إشارة المرور مثلا ينتظر فتح الطريق فصدمت سيارة مؤخر سيارته صدمة دفعتها إلى الأمام فصدمت بعض المشاة مثلا فمات أو أصيب بكسور - ضمن من صدمت سيارته مؤخر السيارة الأخرى كل ما تلف من نفس ومال ؛ لأنه متعد بصدمه ، والسيارة الأمامية بمنزلة الآلة بالنسبة للخلفية فلا ضمان على سائقها ؛ لعدم تعديه .

الموضوع الثاني :
حوادث دهس السيارات وانقلابها ، أو سقوط شيء منها على أحد
أو قفز أحد ركابها أو تعلق أحد بها وما يترتب على ذلك من أحكام
:
يعتبر ما تقدم في التمهيد أمام النقول في الموضوع الأول من بيان مبنى الأحكام في الحوادث ومنشأ الخلاف فيها ؛ تمهيدا للنقول عن فقهاء الإسلام في الموضوع الثاني يقصد به هنا ما قصد به هناك .
وعلى هذا نبدأ في ذكر النقول عن الفقهاء ، ثم نتبعها تخريج الأحكام في موضوع البحث إن شاء الله .
قال شمس الدين المعروف بقاضي زاده في [تكملة فتح القدير على الهداية] (1) : (الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت ، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها) والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة ؛ لأنه يتصرف في حق نفسه من وجه وفي حق غيره من وجه ؛
__________
(1) [التكلمة] (8 \ 344-354) .

لكونه مشتركا بين كل الناس ، فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين ، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه ، ولم يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه ؛ لما فيه من المنع من التصرف وسد بابه وهو مفتوح والاحتراز عن الإبطاء وما يضاهيه ممكن ، فإنه ليس من ضرورات التسيير فقيدناه بشرط السلامة عنه ، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به (فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا) ؛ لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف ، وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل به فيضمنه .
قال : (وإن أصابت بيدها أو برجلها ، حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن ، وإن كان حجرا كبيرا ضمن) ؛ لأنه في الوجه الأول لا يمكن التحرز عنه ، إذ سير الدواب لا يعرى عنه- وفي الثاني ممكن ؛ لأنه ينفك عن السير عادة وإنما ذلك عن تعنيف الراكب ، والرديف فيما ذكرنا كالراكب ؛ لأن المعنى لا يختلف ، قال : (فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن) ؛ لأنه من ضرورات السير فلا يمكن الاحتراز عنه ، (وكذا إن أوقفها لذلك) ؛ لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف ، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن ؛ لأنه متعد بهذا الإيقاف ؛ لأنه ليس من ضرورات السير ، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير ؛ لأنه أدوم مدة ، فلا يلحق به (والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها) . والمراد : النفحة قال رضي الله عنه : هكذا ذكره القدوري في [المختصر] ، وإليه مال بعض المشايخ ، ووجهه أن

النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه الاحتراز عنه .
وقال بعض المشايخ : إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها ، إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها ، وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح .
وقال الشافعي : يضمنون النفحة كلهم ، لأن فعلها مضاف إليهم ، والحجة عليه ما ذكرناه ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « الرجل جبار » (1) ، ومعناه النفحة بالرجل وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره ، وهذا تخويف بالضرب (قال : وفي [الجامع الصغير] : وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد) ؛ لأنهما مسببان بمباشرتها شرط التلف وهو تقريبها إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب (إلا أن على الراكب الكفارة فيما أوطأته بيدها أو برجلها (ولا كفارة عليهما) ولا على الراكب فيما وراء الإيطاء ، لأن الراكب مباشر فيه ؛ لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له ؛ لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له ، وهما مسببان ؛ لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء ، وكذا الراكب في غير الإيطاء ، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب ، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوضعية دون السائق والقائد ؛ لأنه يختص بالمباشرة (ولو كان راكب وسائق قيل : لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة) ؛ لأن الراكب مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب والإضافة إلى المباشر أولى ، وقيل : الضمان عليهما ؛ لأن كل ذلك سبب الضمان .
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4592).

ثم قال (1) ( ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن ، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه ، وكذا ما يحمل عليها ) ؛ لأنه متعد في هذا التسبب ؛ لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام بخلاف الرداء ؛ لأنه لا يشد في العادة ، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل فيقيد بشرط السلامة .
قال : ( ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة ) ؛ لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق وقد أمكنه ذلك ، وقد صار متعديا بالتقصير فيه والتسبب بوصف التعدي سبب للضمان إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه ، وضمان المال في ماله ( وإن كان معه سائق فالضمان عليهما ) ؛ لأن قائد الواحد قائد للكل وكذا سائقه لاتصال الأزمة ، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل ، أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه ، ويضمنان ما تلف بما بين يديه ؛ لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام والسائق يسوق ما يكون قدامه ، ثم قال : ( ومن سار على دابة في الطريق فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب ) هو المروي عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - ولأن الراكب والمركوب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده ، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد
__________
(1) [ التكملة] ( 8\349-354 ) .

فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين ؛ لأنه متعد في الإيقاف أيضا .
قال : ( وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا ) ؛ لأنه بمنزلة الجاني على نفسه ( وإن ألقت الراكب أيضا فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس ) ؛ لأنه متعد في تسببه وفيه الدية على العاقلة .
قال : ( ولو وثبت بنخسه على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب ) لما بيناه والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء ، وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين ؛ لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة ، والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما ، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها ولا ضمان عليه في نفحتها ؛ لأنه أمره بما يملكه إذ النخس في معنى السوق فصح أمره فانتقل إليه معنى الأمر .
قال : ( ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها بإذن الراكب ؛ فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في ثؤرها الذي نخسها ) ، لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما والأذن يتناول فعلة السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف .
فمن هذا الوجه يقتصر عليه ، والركوب وإن كان علمه للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة ، بل هو شرط أو علة للسير والسير علة للوطء ، وبهذا لا يترجح صاحب العلة كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق فمات ؛ فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا . . إلى أن قال : ( ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلتت من

يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس ، وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره ) لأنه مضاف إليه . . ثم قال : ( ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته ؛ فالضمان على من نصب ذلك الشيء ) ؛ لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله : اهـ بتصرف .

وفي [ المدونة] (1) :
قلت : أرأيت الرجلان يترادفان على الدابة فوطئت الدابة رجلا بيديها أو رجليها فقتلته ؟
قال مالك : أراه على المقدم إلا أن يعلم أن ذلك كان من الدابة بسبب المؤخر مثل أن يكون حركها أو ضربها فيكون عليهما جميعا ؛ لأن المقدم بيده لجامها ، أو يأتي من سبب فعلها أمر يكون من المؤخر لم يكن المقدم يقدر على دفع شيء منه فيكون على المؤخر بمنزلة ما لو ضربها المؤخر ، فرمحت لضربه فقتلت إنسانا ، فهذا وما أشبهه على عاقلة المؤخر ؛ لأنه يعلم أن المقدم لم يعنتها شيئا ، ولم يمسك لها لجاما ولا تحريكا من رجل ولا غيرها ، فيكون شريكا فيما فعل .
قلت : أرأيت إن كان الرجل راكبا على دابته فكدمت إنسانا فأعطبته أيكون على الراكب شيء أم لا ؛ قال : سمعت مالكا يقول في الرجل يكون على الدابة راكبا فتضرب برجلها رجلا فتعطبه قال : لا شيء على الراكب إلا أن يكون ضربها فنفحت برجليها فيكون عليه ما أصابت ، وأرى الفم عندي بمنزلة الرجل إن كدمت من شيء فعله بها الراكب فعليه وإلا فلا
__________
(1) [ المدونة] ص ( 505) .

شيء عليه . قلت : أرأيت ما وطئت بيديها أو رجليها ؟ قال : هو ضامن ما وطئت بيديها أو رجليها عند مالك ؛ لأنه هو يسيرها . قال ابن القاسم : وإن كانت قد ضربت من فعل الرديف برجلها فأصابت إنسانا فلا شيء على المقدم من ذلك ؛ لأن المقدم لا يضمن النفحة بالرجل إلا أن يكون ذلك من فعله عند مالك ، قال ابن القاسم : وأرى إن كان فعل الرديف بها شيئا فوثبت الدابة من غير أن يعلم المقدم بذلك فوطئت إنسانا ؛ فالضمان على الرديف إذا كان يعلم أن المقدم لم يكن يستطيع حبسها فهو على الرديف . قلت : أرأيت حين قلت : إن اللجام بيد المقدم فلم لا تضمنه ما كدمت الدابة ؟ قال : لأن الدابة تكدم وهو غافل لا يعلم بذلك ، فإذا كان شيئا يستيقن أنه من غير سببه فليس عليه شيء ، وإن كان يعلم أنه من سببه فهو له ضامن ) .
قلت (1) : أرأيت إن أوقف دابة في سبيل المسلمين حيث لا يجوز له أيضمن ما أصابت في قول مالك ؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت من قاد دابة فوطئت بيديها أو رجليها أيضمن القائد ما أصابت في قول مالك ؟ قال : نعم ، قلت : فإن ضربت برجلها فنفحت الدابة ، فأصابت رجلا فأعطبته أيضمن القائد ما أصابت أم لا في قول مالك ؟ قال : لا يضمن في رأي إلا أن تكون نفحت من شيء صنع بها . قلت : أرأيت السائق أيضمن ما أصابت الدابة في قول مالك ؟ قال : نعم يضمن ما وطئت بيديها أو رجليها بحال ما وصفت لك في قائد الدابة . . ) .
__________
(1) [ المدونة] ص ( 506 ) .

قلت : أرأيت إن نخس رجل دابة فوثبت الدابة على رجل فقتلته على من تكون دية هذا المقتول ؛ قال : على عاقلة الناخس . قلت : وهو قول مالك ؟ قال : هو قوله . قلت : أرأيت الدابة إذا جمحت براكبها فوطئت إنسانا فعطبت أيضمن ذلك أم لا في قول مالك ؟ قال : قال : هو ضامن . قلت : هل كان مالك يضمن القائد والسائق والراكب إذا اجتمعوا : أحدهم سائق والآخر راكب والآخر قائد ؟ قال : ما سمعت من مالك فيه شيئا إذا اجتمعوا جميعا ، وما أقوم لك على حفظه ، وأرى أن ما أصابت الدابة على القائد والسائق إلا أن يكون الذي فعلت الدابة من شيء كان من سبب الراكب ، ولم يكن من القائد والسائق عون في ذلك فهو له ضامن . قلت : أرأيت الرجل يقود القطار فيطأ البعير من أول القطار أو من آخره على رجل فيعطب أيضمن القائد ؟ قال : ما سمعت من مالك فيه شيئا وأراه ضامنا . اهـ .
وفي [المهذب] للشيرازي (1) :
( فصل ) وإن كان معه دابة فأتلفت إنسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالتبول في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه ، لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته .
وفيه أيضا (2) : وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمن ؛ لأن الصياح سبب لوقوعه ، وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ ، وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ ، وإن كان بالغ على طرف
__________
(1) [المهذب] ص ( 195 ) .
(2) [المهذب] ص ( 193 ) .

سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتا ، ففيه وجهان : أحدهما : أنه كالصبي ؛ لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي ، والثاني : لا يضمن ؛ لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة .
وفي [المغني] لابن قدامة (1) :
( مسألة ) قال : وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال ، وكذلك إن قادها أو ساقها ) وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك : لا ضمان عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « العجماء جرحها جبار » (2) ، ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها . ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الرجل جبار » (3) رواه سعيد بإسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتخصيص الرجل بكونها جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها ، ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يد له عليها وحديثه محمول على من لا يد له عليها .
( مسألة ) قال : ( وما جنت برجلها فلا ضمان عليه ) وبهذا قال أبو حنيفة ، وفي رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي ؛ لأنه من جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الرجل جبار » (4) ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها ، فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك ضمن جناية رجلها ؛ لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه
__________
(1) ( 9\171 ) مطبعة الإمام .
(2) صحيح البخاري الديات (6514),صحيح مسلم الحدود (1710),سنن الترمذي الزكاة (642),سنن النسائي الزكاة (2495),سنن أبو داود الديات (4593),سنن ابن ماجه الديات (2673),مسند أحمد بن حنبل (2/454),موطأ مالك العقول (1622),سنن الدارمي الديات (2377).
(3) سنن أبو داود الديات (4592).
(4) سنن أبو داود الديات (4592).

ولو كان السبب في جنايتها غيره مثل أن نخسها أو نفرها ، فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائدها ؛ لأن ذلك هو السبب في جنايتها .
( فصل ) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما ؛ لأنه المتصرف فيها القادر على كفها إلا أن يكون الأول صغيرا أو مريضا أو نحوهما ، ويكون الثاني هو المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه ، وإن كان مع الدابة قائد وسائق فالضمان عليهما ، لأن كل واحد منهما لو انفرد لضمن فإذا اجتمعا ضمنا وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان : أحدهما : الضمان عليهم جميعا لذلك ، والثاني : على الراكب ؛ لأنه أقوى يدا وتصرفا ، ويحتمل أن يكون على القائد ؛ لأنه لا حكم للراكب مع القائد .
( فصل ) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته ؛ لأنه في حكم القائد ، فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا تضمن جنايته إلا أن يكون له سائق ؛ لأن الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته ؛ لأنه لا يمكنه حفظه .
( فصل ) وإن وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم ؛ لأنه متعد بوقفها فيه ، وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان : إحداهما : يضمن وهو مذهب الشافعي ؛ لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة ، وكذلك لو ترك في الطريق طينا فزلق به إنسان ضمنه . والثانية : لا يضمن ؛ لأنه غير متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن ، كما لو وقفها في موات وفارق الطين ؛ لأنه متعد بتركه في الطريق .
بناء على ما تقدم في التمهيد من القواعد الشرعية والعلل التي بنيت

عليها أحكام حوادث وسائل النقل القديمة وعلى ما ذكر بعد ذلك من المسائل يمكن تخريج أحكام حوادث السيارات في الموضوع الثاني من البحث عليها ، فيقال :
أولا : إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة ومتبعا خط السير حسب النظام فقفز رجل فجأة أمامه فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها أمكن أن يقال : بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها ، وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة ، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال ، بناء على ما تقدم عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين ، ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد وبضمان المصدوم نصف ذلك ؛ لاعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه ، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين ، ويحتمل أن يقال : أنه هدر لانفراده بالتعدي . ولو قدر أنه اصطدم بجانب السيارة فمات أو كسر والسيارة على ما ذكر من الحال كان الضمان بينهما على ما تقدم من الاحتمالات .
ثانيا : إذا مر إنسان أو حيوان أمام سيارة ( ونيت ) مثلا فاستعمل سائق السيارة الفرملة تفاديا للحادث فسقط أحد الركاب وقفز آخر فماتا أو أصيبا بكسور علما بأن باب السيارة قد أحكم إغلاقه ضمن السائق دية من سقط أو

أرش إصابته ؛ لأن سقوطه كان بعنفة الفرملة ، وقد كان عليه أن يعمل لذلك احتياطا من قبل فيهدئ من السرعة ، وليس له أن يتسبب في قتل شخص ليسلم آخر ، ويحتمل ألا يضمن إذا كان متبعا للنظام في سرعته وخط سيره ؛ لأنه مأمور بالفرملة تفاديا للحادث .
أما من قفز فهو كاسر نفسه أو قاتلها فلا يضمنه السائق .
ثالثا : إذا تعهد السائق سيارته قبل السير بها ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها مع مراعاته النظام في سرعته وخط سيره وغلب على أمره فصدمت إنسانا أو حيوانا أو وطئته فمات أو كسر مثلا لم يضمن السائق دية ولا قيمة ولو انقلبت بسبب ذلك فمات أو كسر من فيها أو تلف ما فيها لم يضمن ، وكذا لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف فلا ضمان عليه ؛ لعدم تعديه وتفريطه ، قال الله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (1)
وإن فرط السائق في تعهد سيارته أو زاد في السرعة أو في حمولتها أو نحو ذلك - ضمن ما أصاب من نفس ومال . وإن سقط شيء من السيارة ضمنه إن كان في حفظه بأن كان موكولا إليه ، إلا أن عليه شده بما يصونه ويضبطه ، وإن سقط أحد منها لصغره وليس معه قيم فأصيب ضمن ذلك لتفريطه .
رابعا : إن سقط شيء من السيارة فأصاب أحدا فمات أو كسر أو أصاب شيئا فتلف - ضمن ما أصاب من نفس أو مال لتفريطه ، وإن سقط منها
__________
(1) سورة البقرة الآية 286

مكلف لازدحام يخالف نظام المرور فمات ضمن السائق لتعديه ، ويحتمل أن يكون الضمان على السائق ومن هلك بالسقوط مناصفة ؛ لاشتراكهما في الاعتداء .

الموضوع الثالث :
بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث :
من الواجب على ولي الأمر العام النصح لأمته ، والمحافظة على رعيته والسعي في تحقيق ما فيه صلاحهم وما به دفع الضرر عنهم معتصما في ذلك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى الأمة النصح له ، وإعانته على شئون الدولة ، وحفظ كيانها ، وطاعته في المعروف ، وعلى هذا إذا رأى باجتهاده في أمور الناس ومعاملاتهم المباحة وشئون حياتهم التي ليس فيها نص شرعي بأمر أو نهي إنما وكلت إلى اختيارهم أن يلزمهم بأحد طرفي المباح تحقيقا للمصلحة ، ودفعا لمضرة الفوضى عنهم ، وجب عليهم أن يطيعوه واعتبر من عصاه في ذلك من المعتدين .
من ذلك : تنظيم العمل في الوزارات والدوائر والمؤسسات والمدارس بتحديد زمان العمل ومكانه ووضع اللوائح ومناهج العلوم وجداول الدراسة ، ونحو ذلك مما يضبط العمل ويساعد على الاستفادة منه على أكمل الوجوه ، فإذا فعل ذلك أو نائبه وجبت طاعته وحق له تعزير من يعصيه ويخالفه بما يراه مكافئا لمخالفته .
ومنه : تنظيم خط السير في الطرق برا وبحرا وجوا ، وإلزام قادة

السيارات والبواخر والطائرات ونحوها خطوطا محدودة وسرعة مقدرة ومواعيد مؤقتة ، وأن يحملوا بطاقات تثبت الإذن لهم في القيادة وتدل على صلاحيتهم لها ، فيجب على قادة وسائل النقل والمواصلات أن يلتزموا بما وضع لهم ؛ محافظة على الأمن والدماء وسائر المصالح ، ودفعا للفوضى والاضطراب وما ينجم عنهما من الحوادث والأخطار وفوات الكثير من المصالح ، ومن خالف في ذلك كان من المعتدين ، وحق لولي الأمر أو نائبه أن يعزره بما يردعه ويحفظ الأمن والمصلحة والاطمئنان من حبس وسحب بطاقة القيادة وغرامة مالية في قول بعض العلماء وحرمانه من القيادة ونحو ذلك ، ومن جنى على غيره ، وهو مخالف للنظام ضمن ما أصاب من نفس ومال على ما تقدم بيانه في مسائل الموضوع الأول والثاني من هذا البحث .

الموضوع الرابع :
توزيع الجزاء على من اشتركوا
في وقوع حادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم
:
إن لاشتراك جماعة في وقوع حادث صورا كثيرة ومتنوعة يختلف الحكم فيهم باختلافها في وحدة موضع جنايتهم في البدن أو العضو وتعدده وفي اتفاق زمن حصول الحادث منهم وتتابعه ، وفي تساوي مبلغ الإصابة وما ترتب عليها من الآثار والتفاوت في ذلك وفي المباشرة للحادث والتسبب فيه إلى غير هذا مما يختلف باختلافه الحكم على من اشترك في الحادث أو يوجب تساويهم في الحكم عليهم ، كما يختلف الحكم باختلاف الجناية إذا وقعت من واحد .

ونذكر فيما يلي نقولا عن بعض فقهاء الإسلام يتبين منها ذلك ، ثم نتبعها بالكلام عن توزيع الجزاء على المشتركين في حادث بنسب متساوية أو متفاوتة .
في [المدونة] (1) :
قلت : أرأيت لو أن رجلا جرح رجلا جرحين خطأ ، وجرحه آخر جرحا واحدا خطأ فمات من ذلك فأقسمت الورثة عليهما كيف تكون الدية على عاقلتهما ، أنصفين أم الثلث والثلثين ؟ قال : ما سمعت من مالك فيه شيئا إلا ما أخبرتك أن الدية على عواقلهما ، فلو كانت الدية عند مالك الثلث والثلثين لقال لنا ذلك ولكنا لا نشك أن الدية عليهما نصفان . اهـ . قلت : أرأيت العينين أو الأذنين كيف يعرف ذهاب السمع والبصر منهما في قول مالك ؟ قال : قال لي مالك : في العين إذا أصيبت فنقص بصرها أن تغلق الصحيحة وتقاس له التي أصيبت بأمكنة يختبر بها ، فإذا اتفق قوله في تلك الأمكنة قيست الصحيحة ثم نظر كم نقصت هذه المصابة من الصحيحة فيعقل له قدر ذلك ، قال : قال مالك : والسمع كذلك . قلت : فكيف يقيسون بصره ؟ قال : سمعت أنه توضع له البيضة أو الشيء في مكان فإن أبصرها حولت إلى موضع آخر ثم إلى موضع آخر ، فإن كان قياس ذلك سواء أو يشبه بعضه بعضا صدق ، وكذلك قال لي مالك : قلت : فالسمع كيف يقاس ؟ قال : يختبر بالأمكنة أيضا حتى يعرف صدقه من كذبه . اهـ .
وقال الشيرازي في [المهذب] (2) :
__________
(1) ج 4 ط الخشاب .
(2) ( 2\201 ) .

( فصل ) وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت ، فإن كان قبل الالتحام لم يلزمه أرش ؛ لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة ، وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة ؛ لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط لا أجرة الخياطة ؛ لأنها دخلت في أرش الجائفة ، وإن كان بعد التحام بعضها لزمه حكومة ، لجنايته على ما التحم ، ولزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة ؛ لأنها دخلت في الحكومة . ثم قال : ( فصل ) فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منها فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها ؛ لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه ، وإن لم يعرف مقدار النقصان بأن ساء إدراكه وجبت من الحكومة ؛ لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة ، وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت القليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موقف يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول : لا أراه ويمسح قدر المسافة ، ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص حتى يراه ، ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها . . إلخ . ثم قال مثل ذلك في نقصان السمع والشم والذوق والكلام والعقل غير أن المقياس لمعرفة مقدار النقص فيها يكون في كل منها بحسبه . اهـ .
وقال الشربيني في [مغني المحتاج ] (1) :
لو وضع رجل حجرا في طريق عدوانا وآخران حجرا كذلك فعثر بهما
__________
(1) ( 4 \88 ) .

آخر فمات فالضمان عليهم للعاثر أثلاثا وإن تفاوت فعلهم نظرا لعدد رءوس الجناة ، كما لو مات بجراحة ثلاثة واختلفت الجراحات ، وقيل : الضمان نصفان على الأول نصف وعلى الآخرين نصف نظرا إلى عدد الموضوع ، ورجحه البلقيني إذ ليس هذا كالجراحات التي لها نكاية في الباطن ، بل هو إلى صورة الضربات أقرب ، بل أولى في الحكم . اهـ .
وقال الشيرازي في [المهذب ] (1) :
وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم ؛ لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال ، فإن اشترك في القتل اثنان ، وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية ، وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية .
وفي [المغني] لابن قدامة (2) :
( مسألة ) قال : ( وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت ) يقال : أمسك ومسك ومسك ، وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال : إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا ، ولا خلاف في أن القاتل يقتل ؛ لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق ، وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه ؛ لأنه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب به ، وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى
__________
(1) ( 2\192 ) .
(2) [المغني ] ( 8\348، 349 ) ط الإمام .

ذبحه له ، فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت . وهذا قول عطاء وربيعة ، وروي ذلك عن علي ، وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا . وهو قول مالك . قال سليمان بن أبي موسى : الاجتماع فينا أن يقتل ؛ لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله ، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر : يعاقب ويأثم ولا يقتل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله » (1) ، والممسك غير قاتل ، ولأن الإمساك سبب غير ملجئ ، فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله .
ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك » ، ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت .
( فصل ) وإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت ، فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك ؛ لأنه حبسه على القتل ، وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم ، ومنه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال ، والأول أصح ؛ لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه ، فإن قيل : لم اعتبرتم قصد الإمساك هاهنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج ؟
قلنا : إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/187).

الذي هو السبب دون قصد الأثر ، وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه .
وفي [المغني] أيضا لابن قدامة (1) :
( فصل ) ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه ، فلو جرحه رجل جرحا والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمة ، أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة ، فمات كانا سواء في القصاص والدية ؛ لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين ، إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه .
ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم ؛ لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفي باحتمال الوجود ، بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة ، كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الأمة ومن غير الجائفة دودن الجائفة ، ولأن الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد ، ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت فيه دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات .
( فصل ) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات ، فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها ، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين ، وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث . اهـ .
__________
(1) [ المغني] ( 8\269 ) ط الإمام .

وفي [المقنع] مع حاشيته ( 3\ 338- 339 ) :
( وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية ) قال في الحاشية : هذا بلا نزاع بشرطه المتقدم ( يعني : إذا كان فعل كل منهما صالحا للقتل ) أي : لو انفرد لقتل . في الحاشية : إذا اشترك ثلاثة فقطع أحدهم يده والآخر رجله والثالث أوضحه فمات ، فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية ، فيأخذ من كل واحد ثلثها ، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين ، وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث . ( وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى معه الحياة كقطع حشوشه أو مريئه أو ودجيه ثم قطع عنقه آخر فالقاتل هو الأول وعزر الثاني ) .
وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني هو القاتل ، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية .
( وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل الثاني ) قال في الحاشية : لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حالة ييأس فيها من حياته ، وبه قال الشافعي : إن كان مما يجوز أن يسلم منه ، وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان : أحدهما : كقولنا . والثاني : الضمان عليهما بالقصاص ؛ لأن كل واحد منهما سبب الإتلاف .
( وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين والأخرى يقتل أيضا ) .
وفي الحاشية : وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب

ويأثم ولا يقتل ، وفيها أيضا فائدة مثل هذه المسألة في الحكم لو أمسكه ليقطع طرفه ، ذكره في [ الانتصار] ، وكذا إن فتح فمه وسقاه آخر سما وكذا لو اتبع رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله ، فإن كان الأول حبسه بالقطع فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك على الصحيح من المذهب ، وفيه وجه ليس عليه إلا القطع .
وفي [المغني] لابن قدامة (1) :
( فصل ) وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب ، يعتبر ذلك بحروف المعجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا ، فإن مخرجها مخرج اللام والألف فمهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره ؛ لأن الكلام يتم بجميعها ، فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ، ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها ، وفي الأربعة سبعها ، ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل ؛ لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ، ويحتمل أن قسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة ، وهي أربعة : الباء والميم والفاء والواو ودون حروف الحلق الستة : الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين ، فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا ، للسان تنقسم ديته عليها ؛ لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه ، فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها
__________
(1) [ المغني] ( 8\439 ) ط الإمام .

بقسطه منها ، ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها في الثلاثة سدسها ، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي .
وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره ، وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا ، وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف ؛ لأن الضمان إنما يجب لما تلف ، وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأن يقول : درهم فصار يقول : دلهم أودغهم أوديهم ، فعليه ضمان الحرف الذاهب ؛ لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها ، فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا ؛ لأنه أصل إن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة ، لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية ، لأن المنفعة باقية .
وإن جنى عليه جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة ، كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب بصرها ، وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى ، وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله . فإن كان ميئوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف ، وإن كان غير ميئوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة ؛ لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم .
( فصل ) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه : فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما

لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها .
وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين ؛ لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا ، فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ، ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية ، وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ؛ لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام .
والثاني : عليه نصف الدية وحكومة للربع الأكمل ؛ لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية ، فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا .
الثالث : عليه ثلاثة أرباع الدية ، وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي ؛ لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ، ولا يصح القول بأن بعضه أشل ؛ لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا ، وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه ديته ، فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية ، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي

والآخر عليه نصف الدية ؛ لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه .
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته ، كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول ، ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته ؛ لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية ، كما لو جنى على صحيح فذهب بثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه .
( فصل ) وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جني عليه به ، فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ، ولا شيء في الزائد ؛ لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل ، فللمقتص دية ما بقي ؛ لأنه لم يستوف بدله .
بناء على ما تقدم من أقوال الفقهاء في مسائل الموضوع الرابع من الإعداد ، وما بنيت عليه من العلل أو اندرجت تحته من القواعد الشرعية يمكن أن يخرج توزيع المسئولية في حوادث السيارات على الطريقة الآتية :
أولا : إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا أو خطأ فرمته إلى جانب وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت فمات :
أ- فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت وجب القصاص منهما له ، أو الدية عليهما مناصفة على ما تقدم من الخلاف والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان سواء تساوت الإصابتان أو كانت إحداهما

أبلغ من أخرى ما دامت الدنيا منهما لو انفرد قتلت (1) .
ب- وان تتابعت الإصابتان وكانت الأولى منهما تقتل وجب القصاص أو الدية على سائق الأولى ، ويعزر سائق الثانية ، وإن كانت الأولى لا تقتل ومات بإصابة الثانية فالقصاص أو الدية على سائق الثانية ، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص أو دية أو حكومة (2) .
ثانيا : إذا أصابت سيارة إنسانا بجروح أو كسور وأصابته أخرى بجروح أو كسور أقل أو أكثر من الأولى وكل من الإصابتين لا تقتل إذا انفردت فمات المصاب من مجموع الإصابتين وجب القصاص أو الدية على السائقين مناصفة (3) .
ثالثا : إذا دفع إنسان آخر فسقط أو أوثقه في طريق فأدركته سيارة ووطئته فقتلته أو كسرته مثلا فقد يقال : على السائق ضمن ما أصاب من نفس أو كسر ، ويعزر الدافع أو الموثق بعقوبة دون الموت أو يحبس حتى يموت ؛ لأن السائق مباشر والموثق أو الدافع متسبب ، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما قصاصا أو دية أو حكومة ؛ لأن كليهما مشترك مع السائق في ذلك (4) .
__________
(1) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن الشيرازي ص ( 516 ) ، [والمغني] و[المقنع] ص ( 520 ، 521 ) من الإعداد .
(2) يرجع إلى آخر ص ( 521 ) وأول ص ( 522 ) من الإعداد .
(3) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن [المدونة] في ص ( 516 ) ، وعن [ المغني] و[ المقنع] وحاشيته ص ( 521 ) من الإعداد .
(4) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن [المغني] ، في ( 520 ) ، وعن [ المغني] و[المقنع وحاشيته] في ص ( 521 ) من الإعداد .

رابعا : إذا أصابت سيارة إنسانا أو مالا وأصابته أخرى في نفس الوقت أو بعده ولم يمت وتمايزت الكسور أو الجروح أو التلف فعلى كل من السائقين ضمان ما تلف أو أصيب بسيارته قل أو كثر (1) .
خامسا : إذا أصابت سيارتان إنسانا بجروح أو كسور ولم تتمايز ولم يمت أو أصابتا شيئا أو أتلفته فعليهما القصاص في العمد وضمان الدية والمال بينهما مناصفة (2) .
سادسا : إن استعمل السائق المنبه ( البوري ) من أجل إنسان أمام سيارته أو يريد العبور فسقط من قوة الصوت أمام سيارته ووطئته سيارته فمات أو كسر مثلا ضمنه السائق وإن سقط تحت سيارة أخرى ضمنه سائقها ؛ لأنه مباشر ومستعمل المنبه متسبب ، ويحتمل أن يكون بينهما لاشتراكهما كالممسك مع القاتل ، وإن سقط فمات أو كسر مثلا بمجرد سماعه الصوت ضمنه مستعمل المنبه .
سابعا : إذا خالف سائق نظام السير المقرر من جهة السرعة أو عكس خط السير وأصاب إنسانا أو سيارة أو أتلف شيئا عمدا أو خطأ ضمنه .
وإن خرج إليه إنسان أو سيارة من منفذ فحصل الحادث ففي من يكون عليه الضمان احتمالات : الأول : أن يكون على السائق المخالف للنظام لاعتدائه ومباشرته ، ويحتمل أن يكون على من خرج من المنفذ فجأة ؛ لأنه لم يثبت ولم يحتط لنفسه ولغيره ، وعلى من خالف نظام المرور التعزير بما
__________
(1) يرجع إلى ما نقل عن [المغني] ، ص ( 494 ) ، وعن الشيرازي ص ( 494 ، 495 ) من الإعداد .
(2) ص ( 497 ) من الإعداد .

يراه الحاكم أو نائبه ، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما للاشتراك في الحادث ، وإن اعترضته سيارة تسير في خطها النظامي أو زحمته فإن كان ذلك عمدا منه فالضمان عليه وإن كان خطأ فالضمان عليهما وعلى المخالف للنظام الحق العام وهو التعزير بما يراه الإمام .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بسم الله الرحمن الرحيم

( 1 )
التجانية
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
التجانية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد .
فبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من كتابة بحث مختصر عن الطريقة التجانية وإدراجه في أعمال الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي :
1 - كلمة عن أحمد بن محمد التجاني منشئ هذه الطريقة وعن مصدرها .
2 - نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه .
3 - حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة .
الموضوع الأول : كلمة عن أحمد بن محمد التجاني وعن مصدر الطريقة التجانية :
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد التجاني ،

ولد عام 1150 من الهجرة بقرية عين ماضي التي وفد إليها جده محمد ، فاستوطن بها وتزوج من قبيلة فيها تدعى تجاني أو تجانا ، فكانت أخوالا لأولاده ، وإليها نسبوا.
نشأ أبو العباس بهذه القرية وحفظ بها القرآن ورحل في طلب العلم إلى بلاد عدة ، وتأثر في أسفاره بمن التقى به من مشايخ الطرق الصوفية ، وأخذ الطريق عن عدة منهم ، ثم انتهت به رحلاته إلى أبي صيفون .
وهناك زعم أنه قد جاءه الفتح ، وأنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، وأنه أذن له في تربية الخلق على العموم والإطلاق ، وأخذ عنه الطريقة الصوفية مشافهة ، وأمره أن يترك كل طريق أخذه عن مشايخ الصوفية اكتفاء بما أخذ عنه صلى الله عليه وسلم مشافهة ، وعين له النبي صلى الله عليه وسلم الورد الذي يلقنه مريديه وهو : الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك سنة 1196 من الهجرة ، وكمل له الورد بسورة الإخلاص على رأس المائة ؛ ولذا سميت الطريقة الأحمدية والمحمدية كما سميت التجانية نسبة إلى القبيلة التي صاهرها جده محمد فنسبوا إليها .
وزعم أحمد التجاني بعد شهرته أنه شريف ، ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ، ولم يشأ أن يعول في إثبات ذلك على وثائق مكتوبة ولا على أخبار الأعيان والآحاد ، بل زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وسأله عن نسبه ، فأجابه بقوله : أنت ولدي حقا ، وكررها ( ثلاث مرات ) ، ثم قال له : نسبك إلى الحسن صحيح . ا هـ ملخصا من الباب الأول من [ جواهر المعاني ] لعلي حرازم (1) ومن الفصل الثامن
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 25 - 57 ) .

والعشرين (1) من كتاب [ الرماح ] لعمر بن سعيد الفوتي .
* هذا وإنه لم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم أن أحدا منهم - وهم خير الخلق بعد الأنبياء - ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، ومن المعلوم من الدين بالضرورة : أن التشريع قد أكمل في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأن الله قد أكمل للأمة دينها ، وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله صلى الله عليه وسلم إليه ، قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) فلا شك أن ما زعمه أحمد التجاني لنفسه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، وأنه أخذ عنه الطريقة التجانية يقظة مشافهة .
وأنه عين له الأوراد التي يذكر بها ويصلى على رسوله بها - لا شك أن هذا من البهتان والضلال المبين .
__________
(1) [ الرماح ] ( 1 \ 178 - 181 ) .
(2) سورة المائدة الآية 3

الموضوع الثاني :

نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه
نظرا إلى أن الدواعي التي دعت إلى إعداد بحث عن الطريقة التجانية ليعرض على هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة لا تعني مناقشة رؤساء هذه الطريقة ولا الرد عليهم وبيان الصواب لهم ، إنما تعني ذكر نقول من كتبهم تتجلى فيها عقائدهم ، ويمكن بعد الاطلاع عليها الحكم من خلالها عليهم بما تقضيه هذه النقول .
لهذا اقتصرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مجموعة من النقول من بعض كتبهم استقصاء تتبين منها عقائدهم ويسهل

الحكم بمقتضاها عليهم ، ولم تضف إليها من عندها إلا إشارات خفيفة ، وفيما يلي ذكر نقول من كتاب [ جواهر المعاني وبلوغ الأماني ] لعلي حرازم ، وكتاب [ رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم ] لعمر بن سعيد الفوتي :
قال علي حرازم (1) : ( اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل وما هو ؟ فأجاب : أما ما هو حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر في الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا ، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف ، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق ، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية ، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عينا وأثرا ، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء ، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق :
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فما ثم موصول وما ثم واصل
ثم حياة وهي تمييز المراتب بمعرفة جميع خصوصياتها ومقتضياتها ولوازمها ، وما تستحقه من كل شيء ، ومن أي حضرة كل مرتبة منها ، ولماذا وجدت ، وماذا يراد منها وما يئول إليه أمرها ، وهو مقام إحاطة العبد بعينه ومعرفته بجميع خصوصياته وأسراره ومعرفة ما هي الحضرة الإلهية وما هي عليه من العظمة والجلال والنعوت العلية ، والكمال
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 160 ) .

معرفة ذوقية ومعاينة يقينية ، وصاحب هذه المرتبة هو الذي تشق إليه المهامة في طلبه ، لكن مع هذه الصفة فيه كمال أذن الحق إذنا خاصا في هداية عبيده وتوليته عليهم بإرشادهم إلى الحضرة الإلهية ، فهذا هو الذي يستحق أن يطلب وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة : « سل العلماء وخالط الحكماء واصحب الكبراء » . وصاحب هذه المرتبة هو المعبر عنه بالكبير ، ومتى عثر المريد على من هذا صفته فلازم في حقه أن يلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة ولا عطاء له ولا إفادة ، وليجعل همته منه تخليصه من البلية التي أغرق فيه إلى كمال الصفاء بمطالعة الحضرة الإلهية بالإعراض عن كل ما سواها ، ولينزه نفسه عن جميع الاختيارات والمرادات مما سوى هذا ، ومتى أشار عليه بفعل أو أمر فليحذر من سؤاله بلم وكيف وعلام ولأي شيء ؟ فإنه باب المقت والطرد ، وليعتقد أن الشيخ أعرف بمصالحه منه ، وأي مدرجة أدرجه فيها فإنه يجري به في ذلك على ما هو لله بالله بما فيها إخراجه عن ظلمة نفسه وهواها . . . ) إلخ .
ومن أمثلة غلو أتباع أحمد بن محمد التجاني فيه ما قاله علي حرازم ونصه (1) : ( واعلم رحمك الله أني لا أستوفي ما لسيدنا وشيخنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنه من المآثر والآيات والمناقب والكرامات أبد الآبدين ودهر الداهرين ؛ لأني كلما تذكرت فضيلة وجدت فضيلة أخرى ، وكلما تذكرت آية رأيت أكبر من أختها إلى هلم جرا . . . ) إلى أن
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 7 - 9 ) .

قال : ( لأن مآثر هذا الشيخ لا تحصى ، ومناقبه لا تستقصى ، فقد شاعت بها الأخبار حيث سار الليل والنهار ، وليس يوجد لها حد ولا مقدار ، وإنما نورد صبابة منها وشظية من عدها فقد يكل عنها القرطاس والقلم ، ويعيا في طلبها اليد والقدم . . . ) إلخ .
وبعد أن أثنى على من نقل عنهم في كتابه [ جواهر المعاني ] قال : ( جعلنا الله وإياكم من المنخرطين في سلكه ومن المحسوبين في حزبه ، وممن عرف قدره وقدر محبه بجاه محمد وآله وصحبه ، فإن من تشبث بأذيالهم بلغ المأمول ، وكان فيما يرومه قريب الوصول ، فابسط أيها المحب يد الضراعة عند ذكرهم ، وقف متذللا عند بابهم ، وقل بلسان الافتقار إليهم : ارحم عبيدك الضعيف ، وإن كان بها على الجور والتطفيف ، فقد قال تعالى على لسان رسوله : ( « أنا عند المنكسرة قلوبهم » ) . . إلى أن قال : ( وحاشا لمن تعلق بأذيالهم أن يهملوه أو تحيز لجنابهم أن يتركوه فإن طفيلي ساحتهم لا يرد ، وعن بابهم لا يصد ، ولله در قائلهم :
هم سادتي هم راحتي هم منيتي ... أهل الصفا حازوا المعالي الفاخرة
حاشا لمن قد حبهم أو زارهم ... أن يهملوه سادتي في الآخرة
)
وقال أيضا : ( والفرق بين من يغلبه الحال لضعفه ، ومن يغلبه لقوة الوارد عليه : أن الذي يغلبه الحال لضعفه علامته : ألا يمد غيره ، وقصاراه على نفسه ، والذي يغلبه الحال لقوته علامته : أن يمد غيره ، وأقوى من ذلك أن يسلبه ما أعطاه ، وقد شاهدناه غير ما فعل ذلك مع بعض الإخوان لسوء

أدبهم ولموجب آخر . . . ) إلخ .
هذا وإن ما اشتملت عليه هذه الكلمات من الغلو الفاحش والشرك الفاضح لغني عن البيان ، وقد تجاوز به قائله حدا لا يقبل معه تأويل ، ولا ينفع معه اعتذار ، اللهم إلا إذا قيل : إنه صدر من قائله في حال سلب فيها عقله ، وصار إلى حال لا يحمد عليها ، ولكن معظموه لا يرون ذلك ولا يقبلونه ، بل يرونه محمدة له وكرامة .
ثم ذكر عن أحمد التجاني أن كلامه يحوم حول الفناء ووحدة الوجود ، وأن شعور الولي بوجود نفسه يعتبر شركا .
وقال في وصفه أحمد التجاني (1) وحديثه عنه - : ( وكثيرا ما يقرر هذا المعنى ويدل وعليه ، ويرشد بحاله ومقاله إليه ، وينشد بحاله على سبيل التمثيل - : أنا معي بدر الكمال ، حيث يميل قلبي يميل ، وذلك بأنه قد محا السوى فلا يشاهد مع الله غيرا ، ولا يرى نفعا ولا ضرا ، بل يشاهد الفعل من الله ، وأنه هو المتصرف ، والدال بفعله عليه والمتعرف ، وأن أفعاله كلها مصحوبة بالحكمة ، محفوفة بالرحمة ، ويرى الخلق كالأواني المسخرة في يد غيره ، ويعد شهود الإنسان نفسه اثنينية ، ويتمثل بلسان حاله ويقول : إذا قلت : ما أذنبت . قالت مجيبة : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب .
وعلى هذا المعنى صارت حالته فلا ترى أفعاله وأقواله وتصريحاته وتلويحاته تحوم إلا على الفناء في الله والغيبة فيه عما سواه . . . ) إلى أن
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 61 ، 62 ) .

قال في وصفه ص : 63 : ( يحيي القلوب ويبرئ من العيوب ، يغني بنظرة ويوصل إلى الحضرة ، إذا توجه أغنى وأقنى ، وبلغ المنى ، يتصرف في أطوار القلوب بإذن علام الغيوب . . . ) إلخ . ا هـ .
وهذا لون آخر من شدة غلو الشيخ في نفسه وغلو أصحابه فيه انتهى به وبهم إلى دعوى الفناء الممقوت ، والقول بوحدة الوجود ، إن ذلك لإلحاد في الدين ، وبهتان وكفر مبين .
ثم زعم أن شيخه يعلم الغيب فقال (1) : ( ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب ، وفي غيرها من إظهار مضمرات ، وإخبار بمغيبات ، وعلم بعواقب الحاجات ، وما يترتب عليها من المصالح والآفات ، وغير ذلك من الأمور الواقعات ، فيعرف أحوال قلوب الأصحاب وتحول حالهم وإبدال أعراضهم ، وانتقال أغراضهم ، وحالة إقبالهم وإعراضهم وسائر عللهم وأمراضهم ، ويعرف ما هو عليه ظاهرا وباطنا ، وما زاد وما نقص ، وبين ذلك في بعض الأحيان ، وتارة يستره رفقا بهم من الاختبار والامتحان ، واتفقت لغير واحد معهم في ذلك قضايا غير ما مرة ) .
وقال في حصول شيخه على اسم الله الأعظم في تقدير ثوابه (2) : ( وأما ثواب الاسم الأعظم . فقد قال سيدنا رضي الله عنه : أعطيت من اسم الله العظيم الأعظم صيغا عديدة ، وعلمني كيفية أستخرج بها ما
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 63 ، 64 ) .
(2) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 68 ) .

أصيبت تراكيبه ، وأخبره صلى الله عليه وسلم بما فيه من الفضل العظيم الذي لا حد له ولا حصر ، وأخبره صلى الله عليه وسلم بخواصه العظام وكيفية الدعاء به وكيفية سلوكه ، وهذا الأمر لم يبلغ لنا أحد أن بلغه غير سيدنا رضي الله عنه ؛ لأنه قال رضي الله عنه : أعطاني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم الاسم الأعظم الخاص بسيدنا علي كرم الله وجهه ، بعد أن أعطاني الاسم الأعظم الخاص بمقامه هو صلى الله عليه وسلم . وقال الشيخ رضي الله عنه : قال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم : هذا الاسم الخاص بسيدنا علي لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطبا . ثم قال رضي الله عنه : ثم قلت لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم : ائذن لي في جمع أسراره ومع ما احتوى عليه . ففعل صلى الله عليه وسلم ، وأما ما أخبره به صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم الكبير الذي هو مقام قطب الأقطاب ، فقال الشيخ رضي الله عنه حاكيا ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة ، في كل مقام سبعون ألفا من كل شيء في الجنة ، كائن من الحور والقصور والأنهار إلى غاية ما هو مخلوق في الجنة ما عدا الحور وأنهار العسل فله في كل مقام سبعون حوراء ، وسبعون نهرا من العسل ، وكل ما خرج من فيه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين فكتبوه من فيه وصعدوا به إلى الله تعالى وأروه له ، فيقول الجليل جل جلاله : اكتبوه من أهل السعادة واكتبوا مقامه في عليين في جوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا في كل لفظة من ذكره ، وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر الله به على ألسنة جميع خلقه في سائر عوالمه ، وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق من أول خلق آدم إلى آخره . . . ) إلى كثير من ذا الخرص والتخمين والرجم بالغيب في

تقدير الثواب بالآلاف المؤلفة . . . إلى أن قال علي حرازم : ( ومما أملاه علينا رضي الله عنه قال : لو اجتمع ما تلته الأمة من القرآن من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى النفخ في الصور لفظا فردا فردا في القرآن ما بلغ لفظة واحدة من الاسم الأعظم ، وهذا كله بالنسبة للاسم كنقطة في البحر المحيط ، وهذا مما لا علم لأحد به ، واستأثر الله به عن خلقه ، وكشفه لمن شاء من عباده .
وقال رضي الله عنه : إن الاسم الأعظم هو الخاص بالذات لا غيره ، وهو اسم الإحاطة ، ولا يتحقق بجميع ما فيه إلى واحد في الدهر وهو الفرد الجامع هذا هو الاسم الباطن ، أما الاسم الأعظم الظاهر فهو اسم الرتبة الجامع لمرتبة الألوهية من أوصاف الإله ومألوهيته ، وتحته مرتبة أسماء التشتيت ، ومن هذه الأسماء فيوض الأولياء ، فمن تحقق بوصف كان فيضه بحسب ذلك الاسم ، ومن هذا كانت مقاماتهم مختلفة وأحوالهم كذلك وجميع فيوض المرتبة بعض من فيوض اسم الذات الأكبر ، وقال رضي الله عنه : إذا ذكر الذاكر الاسم الكبير يخلق الله من ذكره ملائكة كثيرة ، لا يحصي عددهم إلا الله ، ولكل واحد من الألسنة بعدد جميع الملائكة المخلوقين من ذكر الاسم ، ويستغفرون في كل طرفة عين للذاكر ، أي : كل واحد يستغفر في كل طرفة عين بعدد جميع ألسنته ، وهكذا إلى يوم القيامة ، ثم قال رضي الله عنه : سألت سيد الوجود صلى الله عليه وسلم عن فضل المسبعات العشر ، وأن من ذكرها مرة لم تكتب عليه ذنوب سنة ، فقال لي صلى الله عليه وسلم : فضل جمع الأذكار وسر جميع الأذكار في الاسم الكبير .

فقال الشيخ رضي الله عنه : علمت أنه أراد صلى الله عليه وسلم جميع خواص الأذكار وفضائلها منطوية في الاسم الكبير ، ثم قال رضي الله عنه : يكتب الذكر الاسم بكل ملك خلقه الله في العالم فضل عشرين من ليلة القدر ، ويكتب له بكل دعاء كبير وصغير ستة وثلاثون ألف ألف مرة ، بكل مرة من ذكر هذا الاسم الشريف ، وقال رضي الله عنه : فمن قدر أن ذاكر بكل مرة من ذكر هذا الاسم الشريف ، وقال رضي الله عنه : فمن قدر أن ذاكر ذكر جميع أسماء الله في جميع اللغات تساوي نصف مرة من ذكر الاسم من ذكر كل عارف ) (1) . ا هـ .
وذكر عمر بن سعيد الفوتي في كتاب [ الرماح ] : (2) ( إن الأولياء يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ، وإنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ، وإنه يتصرف ويسير في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل عنه شيء ، وإنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم ، فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها ) ، ثم ذكر في هذا الفصل كثيرا من النقول عن جماعة من الصوفية فيها حكايات عن رؤية الأولياء للرسول صلى الله عليه وسلم يقظة ، وذكر في هذا الفصل كثيرا من الغرائب والمنكرات حول مجالس الأنبياء والأقطاب في المسجد الحرام عند الكعبة بأجسادهم وتصرفهم بنفسهم ووكلائهم في الخلق .
وذكر فيه أيضا أن الأنبياء لا يبقون في قبورهم بعد الوفاة إلا
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 71 ، 72 )
(2) [ الرماح ] الفصل الحادي والثلاثين ( 1 \ 198 ، 199 ) .

زمانا محدودا يتفاوت حسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم ، ثم ختم الفصل بقوله : ( إذا نظرت وتحققت بجميع ما تقدم من أول الفصل إلى هنا ظهر لك ظهورا لا غبار عليه أن اجتماع القطب المكتوم والبرزخ المختوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني سقانا الله تعالى من بحره بأعظم الأواني ، ورزقنا جواره في دار التهاني ، رضي الله عنه وأرضاه ، وعنا به بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، وأخذه رضي لله تعالى عنه وأرضاه ، وعنا به وأعاد علينا من بركاته دنيا وبرزخا وأخرى وحضور النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم بأجسادهم وأرواحهم قراءة جوهرة الكمال وعند أي مجلس خير أو أي مكان شاءوا ولا ينكره إلا الطلبة الجهلة الأغبياء والحسدة المردة الأشقياء ، لا مهدي إلا من هداه الله تعالى ) .
وقد غلا عمر بن سعيد الفوتي في تعظيم شيخه أحمد بن محمد التجاني فزعم أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين ، وأنه لا يتلقن واحد من الأولياء فيضا من نبي الله إلا عن طرقه من حيث لا يشعر به ذلك الولي قال :
( الفصل السادس والثلاثون في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به ، وبيان أنه هو خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث ، أنه قطب المكتوم والبرزخ المختوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقن واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه من

حيث لا يشعر به ذلك الولي . . . ) (1) .
إن هذه الكلمات ناطقة بالشرك الصريح ، والكذب المكشوف ، والغلو الممقوت ، فقد جعل شيخه أعلى مرتبة من الصحابة وسائر القرون الثلاثة ، من شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون بله من سواهم من الصالحين ، ثم ذكر ما نصه : (2) : ( أن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل الله من خلاق قد يورد علينا إيرادين :
أولهما : أنه يقول : إن الشيخ رضي الله عنه وأرضاه مدح نفسه وزكاها وذلك مذموم .
ثانيهما : أنه يقول : إن قول الشيخ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، وعنا به : وإن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود تتلقاها ذوات الأنبياء وكل من فاض ، وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ، ويدخل فيه جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، فيكون أفضل من جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وذلك باطل ، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : ولا يشرب ولي ولا يسقى إلى من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ، وكذلك قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من بالموقف : يا أهل المحشر ، هذا إمامكم الذي كان ممدكم منه ، وكذا
__________
(1) [ الرماح ] ( 2 \ 4 ) .
(2) [ الرماح ] ( 2 \ 5 ) .

قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا ، مشيرا بإصبعه السبابة والوسطى روحه صلى الله عليه وسلم تمد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد ، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور ، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به : إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ، ولا يقاربه من كبر شأنه ، ولا من صغر ، وإن جميع الأولياء من الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا ، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : أعمار الناس كلها ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق ، فقد فازوا بالربح دنيا وأخرى ولا يشغل بها عمره إلا السعيد ) .
وذكر علي حرازم عن أحمد بن محمد التجاني في سياق الكلام على المفاضلة بين تلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن تلاوة القرآن أفضل من حيث إنه كلام الله ومن حيث ما دل عليه من العلوم والمعارف والآداب . . . ) ثم قال ما نصه (1) : ( إن هاتين الحيثيتين لا يبلغ فضل القرآن فيهما إلا عارف بالله قد انكشفت له بحار الحقائق ، فهو أبدا يسبح في لججها ، فصاحب هذه المرتبة هو الذي يكون القرآن في حقه أفضل من جميع الأذكار والكلام لحوز الفضيلتين ؛ لكونه يسمعه من الذات
__________
(1) [ من جواهر المعاني ] ( 1 \ 176 - 179 ) .

المقدسة سماعا صريحا لا في كل وقت ، وإنما ذلك في استغراقه وفنائه في الله تعالى .
والمرتبة الثانية في القرآن دون هذه : وهي من عرف معاني القرآن ظاهرا وألقى سمعه عند تلاوته كأنه يسمعه من الله يقصه عليه ، ويتلوه عليه مع وفائه بالحدود ، فهذا أيضا لاحق بالمرتبة الأولى إلا أنه دونها .
والمرتبة الثالثة : رجل لا يعلم شيئا من معانيه ليس إلا سرد حروفه ولا يعلم ما تدل عليه من العلوم والمعارف - فهذا إن كان مهتديا كسائر الأعاجم الذين لا يعلمون معاني العربية إلا أنه يعتقد أنه كلام الله ويلقي سمعه عند تلاوته معتقدا أن الله يتلو عليه تلاوة لا يعلم معناها ، فهذا لاحق في الفضل بالمرتبتين إلا أنه منحط عنهما بكثير كثير .
والمرتبة الرابعة : رجل يتلو القرآن ، وسواء علم معانيه أو لم يعلم ، إلا أنه متجرئ على معصية الله غير متوقف عن شيء منها ، فهذا لا يكون القرآن في حقه أفضل ، بل كلما ازداد تلاوة ازداد ذنبا وتعاظم عليه الهلاك ، يشهد له قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } (1) إلى قوله : { فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } (2) وقوله : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } (3) إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (4) . . . ثم قال ما نصه : ( فمثل
__________
(1) سورة الكهف الآية 57
(2) سورة الكهف الآية 57
(3) سورة الجاثية الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 7

هذا لا يكون القرآن في حقه أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحب المرتبة الرابعة : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في حقه أفضل من القرآن ) وبعد أن بين ذلك قال ما نصه : ( فإذا عرف ذلك بان للعارف به أن ما في طريق العامة غطاء غطى الله به أسرار القرآن وتركت أسرار القرآن ومذاقات أهل الخصوص من وراء أطوار الحس والعقل المدركان في أمر العامة ، فيجب كتمه على كل من علمه إذ لم يرد سبحانه وتعالى إظهاره إلا للخاصة العليا من خلقه . قيل : إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له : يا عبد السوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة . فقال له : وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد . فقال له : لا تفعل . فسكن . انتهى ما أملاه علينا شيخنا أبو العباس التجاني ) . ثم ذكر علي حرازم ما زعمه أحمد التجاني من مباسطة الرب لأبي يزيد مرة أخرى في [ الجواهر ] ص : 183 .
وقال علي حرازم (1) . وسألته رضي الله عنه عن قوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } (2) { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } (3) الآية ، فأجاب رضي الله عنه بقوله : معنى البحرين : بحر الألوهية ، وبحر الوجود المطلق ، وبحر الخليقة ، وهو الذي وقع عليه كن ، وهو البرزخ بينهما صلى الله عليه وسلم لولا برزخيته صلى الله عليه وسلم لاحترق بحر الخليقة كله من هيبة جلال الذات . قال سيدنا رضي الله عنه : بحر
__________
(1) [ جواهر المعاني ] ( 1 \ 204 ، 205 )
(2) سورة الرحمن الآية 19
(3) سورة الرحمن الآية 20

الخليقة بحر الأسماء والصفات فما ترى ذرة في الكون إلا وعليها اسم أو صفة من صفات الله ، وبحر الألوهية هو بحر الذات المطلقة التي لا تكيف ولا تقع العبارة عنها . يلتقيان لشدة القرب الواقع بينهما . قال سبحانه وتعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } (1) ولا يختلطان : لا تختلط الألوهية بالخليقة ولا الخليقة بالألوهية ، فكل منهما لا يبغي على الآخر للحاجز الذي بينهما ، وهي البرزخية العظمى ، التي هي مقامه صلى الله عليه وسلم ، فالوجود كله عائش بدوام بقائه تحت حجابيته صلى الله عليه وسلم استتارا به عن سبحات الجلال التي لو تبدت بلا حجاب لاحترق الوجود كله وصار محض العدم في أسرع من طرفة عين ، فالألوهية قائمة في حدودها ، والخليقة قائمة في حدودها ، كل منهما يلتقيان ولا يختلطان للبرزخية التي بينهما ، لا يبغيان : أعني : لا يختلط أحدهما على الآخر ، انتهى ما أملاه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه .
وسألته رضي الله عنه : عن دائرته صلى الله عليه وسلم ، فأجاب رضي الله عنه بقوله : هي دائرة السعادة التي وقع عليها قوله تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (2) قال البوصيري رضي الله عنه :
ولن ترى من ولي غير منتصر
. . . البيت .
كل من لم ينتصر بالنبي صلى الله عليه وسلم لا حظ له في ولاية الله ، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه : لن ترى من ولي . . . ) إلخ . ا هـ .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 85
(2) سورة يونس الآية 62

هذه طامة أخرى ، طامة التلاعب بآيات القرآن ، وتحريفها عن مواضعها ، وتأويل لها بما لا تدل عليه في لغة العرب ، بل بما تمجه العقول السليمة ويسخر منه أولو الألباب .
ذكر عمر بن سعيد الفوتي : أن الشيخ أحمد التجاني قال ذات ليلة في مجلسه (1) : ( أين السيد محمد الغالي ؟ فجعل أصحابه ينادون أين السيد محمد الغالي ؟ على عادة الناس مع الكبير إذا نادى أحدا ، فلما حضر بين يدي الشيخ قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى . وقال سيدي محمد الغالي - وكان لا يخافه ؛ لأنه من أكابر أحبابه وأمرائهم - : يا سيدي ، أنت في الصحو والبقاء أو في السكر والفناء ؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد . وقال : قلت : ما تقول بقول سيدي عبد القادر رضي الله عنه : قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى ؟ فقال : صدق رضي الله عنه ، يعني : أهل عصره ، وأما أنا فأقول : قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور . قال : فقلت له : يا سيدي ، فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت ؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : لا يقول أحد بعدي ، قال : فقلت : يا سيدي ، قد حجرت على الله تعالى واسعا ألم يكن الله تعالى قادرا على أن يفتح على ولي فيعطيه من الفيوضات والتجليات والمنح والمقامات والمعارف والعلوم والأسرار والترقيات والأحوال أكثر مما أعطاك ؟ فقال رضي الله
__________
(1) كتاب [ الرماح ] ( 2 \ 15 - 17 ) .

عنه وأرضاه وعنا به : بلى ، قادر على ذلك وأكثر منه لكن لا يفعله ؛ لأنه لم يرده ألم يكن قادرا على أن ينبئ أحدا ويرسله إلى الخلق ويعطيه أكثر مما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلت : بلى ، لكنه تعالى لا يفعله ؛ لأنه ما أراده في الأزل ، فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : هذا مثل ذلك ما أراده في الأزل لم يسبق به علمه تعالى ، فإن قلت : ما صورة برزخية القطب المكتوم المعبر عنه عند العارفين والصديقين وأفراد الأحباب وجواهر الأقطاب ، بجواهر الجواهر ، وبرزخ البرازخ والأكابر .
فالجواب والله تعالى الموفق للصواب : اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه : أن الحضرات المستفيضة سبع :
الأولى : حضرة الحقيقة الأحمدية ، وهي في [ جواهر المعاني ] غيب من غيوب الله تعالى ، فلم يطلع أحد على ما فيها من المعارف والعلوم والأسرار والفيوضات والتجليات والأحوال العلية والأخلاق الزكية ، فما ذاق منها أحد شيئا ولا جميع الرسل والنبيين اختص صلى الله عليه وسلم وحده بمقامه . . . ) إلى أن قال : ( فما نال أحد منها شيئا اختص بها صلى الله عليه وسلم لكمال عزها وغاية علوها .
والثانية : حضرة الحقيقة المحمدية ، فمنها كما في [ جواهر المعاني ] كل مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين . . . ) إلى أن قال : ( وكل ما أدركه جميع الموجودات من العلوم والمعارف والفيوضات والتجليات والترقيات والأحوال والمقامات والأخلاق إنما هو كله من فيض حقيقته المحمدية .

والثالثة : الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأنبياء على اختلاف أذواقهم ومراتبهم وأهل هذه الحضرة هم الذين يتلقون كل ما فاض وبرز من حضرة الحقيقة المحمدية ، كما قال شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى أهل الحضرة بقوله : إن الفيوض التي تفيض من ذات الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء إلا أن لخاتم الأولياء مشربا من النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا اطلاع له عليه ، كما سيأتي الآن قريبا إن شاء الله تعالى .
والرابعة : حضرة خاتم الأولياء الذي يتلقى جميع ما فاض به من ذوات الأنبياء ؛ لأنه رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو برزخ البرازخ ، كما قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى هذه الحضرة بقوله : إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا لله عز وجل بلا وساطة ، وبقوله : أنا سيد الأولياء كما كان صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : لا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمع كل من في الموقف : يا أهل المحشر ، هذا إمامكم الذي كان مددكم منه ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى : روحي وروحه صلى الله عليه وسلم

هكذا ، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : إن القطب المكتوم هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء ، فكل ولي لله تعالى من كبر شأنه ومن صغر لا يتلقى فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به من حيث لا يشعر به . ومدده الخاص به إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به ؛ لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم .
الخامسة : حضرة أهل طريقته الخاصة بهم ، وإلى هذه الحضرة أشار الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به بقوله : ولو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا : يا ربنا ، ما أعطيتنا شيئا ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : كل الطرائق تدخل عليها طريقتنا فتبطلها ، وطابعنا يركب على كل طابع لا يحمل طابعنا غيره ، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : من ترك وردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق آمنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو الأموات ، وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ، ولا يفلح أبدا ، قلت : وهذه لأنه قد ثبت أول هذا الفصل أن صاحبها رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو الختم الممد الذي يستمد منه من سواه من الأولياء

والعارفين . . . . والصديقين والأغواث ومن ترك المستمد ورجع إلى الممد فلا لوم عليه ولا خوف ، بخلاف من ترك الممد ورجع إلى المستمد بقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به : وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا ، وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه صلى الله عليه وسلم أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة .
قلت : ووجه تقديم حضرة أهل طريقته على الحضرة التي فيها حضرات الشيوخ الذين هم أهل الطرق من سادتنا الأولياء رضي الله عنهم ظاهر ؛ لأن أهل طريقته هم أول من يفيض عليهم ما يستمده من الحضرة المحمدية ومن حضرات سادتنا الأنبياء عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم السلام ، ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين .
السادسة : الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأولياء رضي الله عن جميعهم ، وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا ، وإليها يشير قول شيخنا أحمد رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كما في [ جواهر المعاني ] لقوله : فلكل شيخ من أهل الله تعالى حضرة لا يشاركه فيها أحد .
السابعة : الحضرة التي فيها حضرات تلاميذهم ) ا هـ .

الموضوع الثالث :

حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة
إن ما تقدم في الإعداد من بدع التجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه [ جواهر المعاني وغاية الأماني ] وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه [ رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم ] وهما من أوسع كتب التجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة .
إن ما ذكر في الإعداد إنما هو نموذج لأنواع من بدع التجانية تتجلى فيها عقائدهم وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة .
ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم التي تضمنها البحث :
1 - غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلوا جاوز الحد ، حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة ، بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه .
2 - إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه ، بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه .
3 - زعمه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، وتلقين النبي صلى الله عليه وسلم إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها يقظة والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك .
4 - تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي صلى الله عليه وسلم أولا ، ثم يفيض منه على الأنبياء ، ثم يفيض من الأنبياء عليه ، ثم منه يتفرق على

جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور ، ويزعم أنه يفيض أحيانا من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، ثم يفيض على سائر الخليقة ، ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه .
5 - تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم ، إذ يقول : قدماي على رقبة كل ولي : فلما قيل له : إن عبد القادر الجيلاني قال : فيما زعموا : قدمي على رقبة كل ولي ، قال : صدق ولكن في عصره ، أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور . فلما قيل له : أليس الله قادرا على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك ؟ قال : بلى ، ولكن لا يفعل ، كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لا يفعل ، ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه .
6 - دعواه كذبا أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور ، وأنه يصرف القلوب ، وتصديق مريديه ذلك وعده من محامده وكراماته .
7 - إلحاده في آيات الله ، وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيرا إشاريا كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } (1) { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ } (2) ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي .
8 - تفضيله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 19
(2) سورة الرحمن الآية 20

9 - زعمه هو وأتباع أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف ، بأعلى صوته : يا أهل الموقف ، هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا . . إلخ .
10 - زعمه أن كل من كان تجانيا يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب ، مهما فعل من الذنوب .
11 - زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ، ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر .
12 - زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له ، بل يستسلم لشيخه فلا يقول : لم ، ولا كيف ، ولا علام ، ولا لأي شيء . . . إلخ .
13 - زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم ، علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ثم هول أمره ، وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات ، خرصا وتخمينا ورجما بالغيب واقتحاما لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف .
14 - زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدودا يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء .
15 - زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم ،

وكذا الخلفاء الراشدون . . . إلخ .
إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركا وإلحادا في الدين ، وتطاولا على الله ورسوله وتشريعه ، وتضليلا للناس ، وتبجحا منهم بعلمه الغيب . . . إلخ .
هذا ما تيسر والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

حكم ورد التجانية
فتوى برقم 7 117 7 وتاريخ 3 \ 5 \ 1392 هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله ، وبعد :
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم من أحد السائلين وهو :
هل الورد الذي يقوم به التجانيون والتجانية صحيح في الإسلام ؟ فقد سمع كثيرا من المدارس الإسلامية تعارضه والتجانيون يستعملونه بعد صلاة المغرب ، فهم ينشرون قطعة قماش بيضاء في المسجد ويجلسون حولها ويتلون لا إله إلا الله وكلمتين أخريين مائة مرة ، ويرجو مساعدته في إيضاح الحق ؟
الجواب : حثت الشريعة الإسلامية على ذكر الله تعالى ، ورغبت في ذلك كثيرا ، وبينت أنه يحيي النفوس ، وتطمئن به القلوب ، وتنشرح به الصدور ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } (1) { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (2) وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (3)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت » (4) رواه البخاري ، وكما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 41
(2) سورة الأحزاب الآية 42
(3) سورة الرعد الآية 28
(4) صحيح البخاري الدعوات (6044),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (779).

بالذكر والترغيب فيه مجملا فيهما مفصلا ، فبين القرآن : أن ذكر الله يكون بالقلب ؛ إجلالا لله ، وهيبة ووقارا وخوفا منه ، ورغبة إليه خفية وخيفة ، دون الجهر من القول بالغدو والآصال ، وبين أن الصلاة أعظم ذكر الله ، قال تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } (1) { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } (2) وقال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3) وفي الصلاة : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } (4)
وبينت السنة قولية وعملية أنواع الأذكار وأوقاتها وكيفيتها ، فبينت أذكارا للصباح والمساء والشدة والبلاء ، وعند النوم واليقظة ، وعند الأسفار والعودة . . إلخ ، وعينت كلماتها وكيفياتها . ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : « رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه » (5) فمن ذكر الله تعالى كما جاء في بيان الكتاب والسنة من أنواع الذكر ، وأوقاتها وكيفياتها فقد اتبع هدي الله تعالى ، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام وكسب الأجر والمثوبة ، ومن غير صيغ الأذكار وحرفها ، أو بدل في كيفياتها والتزم فيها كيفيات لم يلتزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلق
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة البقرة الآية 239
(3) سورة النساء الآية 103
(4) سورة الأعراف الآية 205
(5) صحيح البخاري الأذان (629),صحيح مسلم الزكاة (1031),سنن الترمذي الزهد (2391),سنن النسائي آداب القضاة (5380),مسند أحمد بن حنبل (2/439).

ما قيده ، أو قيد ما أطلقه والتزم طريقة في أداء الأذكار لم تعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا في زمن أصحابه ، ولا القرون الثلاثة المشهود لها بالخير ؛ فقد أساء وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله وحرم الأجر والثواب ، ومن ذلك ما التزمه بعض أصحاب الطرق كالتجانية من نشر قطعة قماش بيضاء يلتف حولها الذاكرون بلا إله إلا الله ونحوها من الأذكار بعد الغروب ، فالذكر مشروع وكلمة ( لا إله إلا الله ) أفضل ما قاله النبيون ، والذكر بها من أفضل الأذكار ، ولكن التزام نشر الرقعة البيضاء ، والاجتماع حولها ، وتخصيص ما بعد المغرب لذلك الذكر وإيقاعه جماعيا بدعة ابتدعوها لم يأذن بها الله ولا رسوله ، وخير العمل ما كان اتباعا ، وشره ما كان ابتداعا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة » (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (2) ، ومن ذلك الاجتماع قبل الفجر أو بعده أو بعد العشاء للتعبد بأوراد وضعوها من عند أنفسهم ، أو لأذكار بهيئات مزرية وترنحات ، هي إلى الألعاب والتمثيل أقرب وبه أشبه ، ومن ذلك ذكرهم بكلمة " هو " وكلمة " آه " وليستا من أسماء الله ، بل الأولى : ضمير غائب ، والثانية : كلمة توجع ، فالذكر بهما من البدع المنكرة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95).
(2) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/270).

حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين - كالتجانية
فتوى برقم 7 2089 7 وتاريخ 21 \ 9 \ 1398 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد :
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ، والذي جاء فيه : لقد تضاربت أقوال الفقهاء في الصلاة خلف الأئمة المبتدعين ، وأصحاب الطرق خصوصا التابعين للطريقة التجانية ، وقد اطلعت على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي رحمه الله مدير دار الحديث بالمدينة المنورة سابقا [ الأنوار الرحمانية في هداية الفرقة التجانية ] حيث اتضح أن عقائد أصحاب هذه الطريقة هداهم الله إلى سواء الصراط غير صحيحة ، وهم أقرب إلى الشرك والضلالة - والعياذ بالله - منهم إلى الإيمان والتصديق بكتاب الله ، واتباع سنة رسوله المصطفى المختار عليه صلاة الله وسلامه . فهل تصح الصلاة خلف إمام مبتدع تابع للطريقة التجانية ؟
وإذا كان الجواب لا ، فهل للمسلم إقامة الصلاة في أهله وفي بيته إذا لم يجد في أي مسجد في المدينة التي يسكنها إماما غير مبتدع ؟ وهل تجوز إقامة الصلاة في جماعة خاصة في المسجد بعد انتهاء المبتدع صاحب الطريقة التجانية من صلاته ؟ وهذا سيؤدي إلى بلبلة في الأفكار وتفرقة

بين صفوف المسلمين ؟
وأجابت اللجنة بما يلي :
الفرقة التجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين لما لم يأذن به الله ، فلا تصح الصلاة خلف من هو على طريقتهم وبإمكان المسلم أن يلتمس له إماما غير متبع لطريقة التجانية وغيرها من طرق المبتدعة ممن لا تتسم عباداتهم وأعمالهم بالمتابعة لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه .
وإذا لم يجد إماما غير مبتدع فيقيم له جماعة في أي مسجد من مساجد المسلمين إذا أمن الفتنة والإضرار به من المبتدع ، فإن كان في بلد يتسلط فيها مبتدع فيقيم الجماعة في أهله أو بأي مكان يأمن على نفسه ، ومتى أمكنته الهجرة إلى بلد تقام فيها السنة وتحارب البدع وجب عليه ذلك .
وبالله التوفيق . وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

( 2 )
من أحكام القرآن الكريمهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
من أحكام القرآن الكريم
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
1 - حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو .
2 - ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا ( الطهارة من الحدث ومن الكفر ) .
3 - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن .
4 - حكم تعليم الكافر القرآن .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما ورد إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من مدير عام التعليم بمنطقة الرياض برقم 35 \ 3 \ 2 \ 6231 \ 4 وتاريخ 1 \ 7 \ 1398 هـ . من السؤال : عما يجب أن يعامل به الطالب المسيحي الملتحق بالمدرسة بالنسبة لمادة القرآن الكريم ومواد التربية الإسلامية ، باعتبار أنه لا يجوز مس المصحف لغير المسلمين . . انتهى .

وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الثالثة عشرة ، وجمع ما تيسر من النقول عن أهل العلم في الأمور الآتية :
أولا - ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو .
ثانيا - ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا ( الطهارة من الحدث ومن الكفر ) .
ثالثا - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن .
رابعا - حكم تعليم الكافر القرآن .

أولا : ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو .
بناء على ذلك جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن أهل العلم فيما ذكر . . وبالله التوفيق .
أولا : اختلف أهل العلم في حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو ، وفيما يلي ذكر أقوالهم وأدلتهم والمناقشة :
قال البخاري : ( باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ) .
وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن ، حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .
وقال ابن حجر : ( قوله : باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ) سقط لفظ كراهية إلا للمستملي فأثبتها وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي :
( قوله : وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله ) هو ابن عمر ( عن

نافع عن ابن عمر ) وتابعه ابن إسحاق عن نافع أما رواية محمد بن بشر فوصلها إسحاق بن راهويه في [ مسنده ] عنه ، ولفظه : كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو .
قال الدارقطني والبرقاني : لم يروه بلفظ الكراهة إلا محمد بن بشر ، وأما متابعة ابن إسحاق فهي بالمعنى ؛ لأن أحمد أخرجه من طريقه بلفظ : ( نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو ) والنهي يقتضي الكراهة ؛ لأنه لا ينفك عن كراهة التنزيه أو التحريم ، ( قوله : وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن ) أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف ؛ خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه ، وقد تعقبه الإسماعيلي : بأنه لم يقل أحد : إن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم ، وهو اعتراض من لم يفهم مراد البخاري ، وادعى المهلب : أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة ، فيجوز في تلك دون هذه ، والله أعلم ، ثم ذكر المصنف حديث مالك في ذلك ، وهو بلفظ : ( نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ) وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ، وزاد ( مخافة أن يناله العدو ) ورواه ابن وهب عن مالك : فقال : قال مالك : أراه مخافة فذكره ، قال أبو عمر : كذا قال يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ، ولم يرفعوه وأشار إلى ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما قدمته من رواية ابن ماجه ، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق

أيضا كما تقدم ، وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع ومسلم من طريق أيوب بلفظ : « فإني لا آمن أن يناله العدو » (1) . فصح أنه مرفوع وليس بمدرج ، ولعل مالكا كان يجزم به ثم صار يشك في رفعه فجعله من تفسير نفسه .
قال ابن عبد البر : أجمع الفقهاء : أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه ، واختلفوا في الكبير المأمون عليه : فمنع مالك أيضا مطلقا ، وفصل أبو حنيفة ، وأدار الشافعية الكراهية مع الخوف وجودا وعدما ، وقال بعضهم كالمالكية ، واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه ، وهو التمكن من الاستهانة به ، ولا خلاف في تحريم ذلك ، وإنما وقع الاختلاف : هل يصح لو وقع الاختلاف (2) ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا (3) ؟
وقال مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (4) .
وحدثنا قتيبة ، حدثنا ليث ح ، وحدثنا ابن رمح أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » (5) وحدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا : حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7).
(2) هكذا في الأصل ، والصواب : لو وقع العقد .
(3) [ فتح الباري ] ( 5 \ 133 ) رقم الحديث ( 2990 ) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسافروا بالقرآن ، فإني لا آمن أن يناله العدو » (1) قال أيوب : فقد ناله العدو وخاصموكم به . حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل - يعني : ابن علية - ح ، وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان والثقفي كلهم عن أيوب ح ، وحدثنا ابن رافع حدثنا ابن أبي فديك ، أخبرنا الضحاك - يعني : ابن عثمان - جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن علية والثقفي « فإني أخاف » وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان « مخافة أن يناله العدو » (2) .
وقال النووي قوله : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (3) ، وفي الرواية الأخرى « مخافة أن يناله العدو » (4) ، وفي الرواية الأخرى : « فإني لا آمن أن يناله العدو » (5) فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث ، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته ، فإن أمنت هذه العلة ، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ، ولا منع منه حينئذ ؛ لعدم العلة ، هذا هو الصحيح ، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون ، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا ، والصحيح عنه ما سبق ، وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك .
واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات ، والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، قال القاضي : وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره سبحانه
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(5) صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7).

وتعالى .
وقال الأبي : قوله نهى : قلت : لا يدخل الخلاف المذكور في قول الراوي : نهى ، لتصريحه بالنهي في الطريق الثاني .
قوله : أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ( ع ) المراد بالقرآن هنا المصحف ، وكذا جاء مفسرا في بعض الأحاديث . قلت : لم يكن المصحف مكتوبا حينئذ فلعله من الإخبار عن مغيب أو لعله كان مكتوبا في رقاع فيصح ويتقرر النهي بالقليل ؛ والكثير منه ، لا سيما على القول أن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير منه ، وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل ؛ لمشاركته الكل في القلة ، فإن حرمة القليل منه كالكثير .
( ع ) واختلف في السفر به : فمنعه مالك وقدماء أصحابه وإن كان الجيش كبيرا ؛ لأنه قد ينسى أن يسقط ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة جوازه مطلقا ، والصحيح عنه جوازه في الجيش الكبير دون السرايا ؛ لأن نيل العدو إياه مع الجيش الكبير نادر لا يلتفت إليه . وأجاز الفقهاء الكتب إليهم بالآية ونحوها للدعاء إلى الإسلام والوعظ . انتهى (1) .
قال الأبي : قوله : « مخافة أن يناله العدو » (2) ( ع ) ظن بعض الناس وصحح أن هذا التعليل من قول مالك أو ما بعده من قوله : « فإني لا آمن أن يناله العدو » (3) . وفي الآخر : « إني أخاف أن يناله العدو فلن يرده » (4) ، فإنه
__________
(1) [ الأبي على مسلم ] ( 5 \ 216 ) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(3) صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

ظاهر أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ومتصل به ، واختلف في ذلك رواة الموطأ فرواه ابن مهدي وابن وهب والأكثر متصلا بكلامه صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي ، ويحيى بن بكير أنه من كلام مالك وهذه الرواية تحمل على أن مالكا شك في رفع هذه الزيادة فجعلها لتحريه من كلامه وإلا فهي رواية الثقات . انتهى . (1)
وجاء في [ موطأ مالك ] : حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (2) فقال مالك : وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو . انتهى .
وقال الباجي : قوله : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (3) يريد والله أعلم الصحف : لما كان القرآن مكتوبا فيها سماها قرآنا ، ولم يرد ما كان منه محفوظا في الصدر ؛ لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو ؛ وإنما ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي ، وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به ، وقد روي مفسرا « نهى أن يسافر بالمصحف » (4) رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » (5) .
فصل : والسفر واقع على الغزو وغيره ، قال ابن سحنون : قلت لسحنون : أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصحف إلى أرض العدو في الجيش الكبير كالطائفة ونحوها وأما السرية ونحوها فلا . قال
__________
(1) [ الأبي على مسلم ] ( 5 \ 217 ) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2879),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2879),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

سحنون : لا يجوز ذلك ؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك عاما ولم يفصل ، وقد يناله العدو من ناحية الغفلة .
والدليل على صحة ما ذهب إليه سحنون أنه لا قوة فيه على العدو ، وليس مما يستعان به على حربه ، وقد يناله لشغل عنه كما قال سحنون ، وقد يناله بالغلبة أيضا .
مسألة : ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف ؛ ليتدبره لم يرسل إليه به ؛ لأنه نجس جنب ، ولا يجوز له مس المصحف ، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه ، ذكره ابن الماجشون .
فصل : وقوله : « مخافة أن يناله العدو » (1) يريد أهل الشرك ؛ لأنهم ربما تمكنوا من نيله ، والاستخفاف به ؛ فلأجل ذلك منع السفر به إلى بلادهم . انتهى (2) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسافر بالقرآن ، فإني أخاف أن يناله العدو » (3) (4) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، يعني : ابن مهدي ، حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمشتري أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » (5) (6) .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(2) [ الموطأ على المنتقى ] ( 3 \ 165 ، 166 ) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/6).
(4) [ المسند ] ( 2 \ 6 ) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1415),صحيح مسلم البيوع (1534),سنن أبو داود البيوع (3367),سنن ابن ماجه التجارات (2214),مسند أحمد بن حنبل (2/123),موطأ مالك البيوع (1303),سنن الدارمي البيوع (2555).
(6) [ المسند ] ( 2 \ 7 ، 62 ، 63 ، 75 )

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تسافروا بالقرآن, فإني أخاف أن يناله العدو » (1) (2) .
وجاء في [مختصر المنذري لسنن أبي داود ] : عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (3) .
قال مالك : أراد مخافة أن يناله العدو .
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه , هكذا ذكره هاهنا أن قوله : مخافة أن يناله العدو, من قول مالك .
وأخرجه من رواية القعنبي عنه ووافق القعنبي على ذلك كأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير , ورواه بعضهم من حديث عبد الرحمن بن مهدي والقعنبي عن مالك فأدرج هذه الزيادة في الحديث .
فقد اختلف على القعنبي في هذه الزيادة : فمرة يبين أنها قول مالك ومرة يدرجها في الحديث . ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك فلم يذكر الزيادة البتة, وقد رفع هذه الكلمات أيوب السختياني والليث بن سعد والضحاك بن عثمان الحزامي عن نافع عن ابن عمر .
وقال بعضهم : يحتمل أن مالكا شك هل هي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل [التحرية] هذه الزيادة من كلامه على التفسير وإلا فهي صحيحة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية الثقات .
والمراد بالقرآن هاهنا : المصحف, وكذا جاء مفسرا في بعض
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/6).
(2) [المسند] ( 2\ 10 ) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

الحديث, ونيل العدو له استخفافه به وامتهانه إياه ، فإذا أمنت العلة في الجيوش الكثيرة (1) .
وقد قيل : ارتفع النهي وهو مذهب أبي حنيفة وغيره من العلماء, وأشار إليه البخاري وحملوا النهي على الخصوص . ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير في النهي عن ذلك, وحكي عن بعضهم جواز السفر به مطلقا .
وقيل : إن نهيه - صلى الله عليه وسلم - فيه ليس على وجه التحريم والفرض, وإنما هو على معنى الندب والإكرام للقرآن, انتهى (2) .
وجاء في [طرح التثريب] : وعن نافع عن ابن عمر قال : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (3) فيه فوائد :
1 - أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك , وزاد في رواية ابن ماجه : « مخافة أن يناله العدو » (4) , وفي رواية أبي داود : قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو , وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بزيادة « مخافة أن يناله العدو » (5) , وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ « لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو » (6) , ومن طريق الضحاك بن عثمان بلفظ : « مخافة أن يناله العدو » (7) , وعلقه البخاري من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر , ومن طريق ابن إسحاق ستتهم عن نافع عمر , وقال أبو بكر البرقاني : لم يقل
__________
(1) بياض في الأصل، والمراد ظاهر أنه جائز ونحو ذلك، وقيل : الخبر محذوف عن عمد للعلم به مثل هذا كثير في العربية . انتهى . محمد حامد الفقي .
(2) [مختصر المنذري] ( 3\ 414, 415 ) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

كره إلا محمد بن بشر , ورواه أبو همام عن محمد بن بشر كذلك, ورواه عن عبيد الله بن عمر جماعة فاتفقوا على لفظة النهي, وقال ابن عبد البر : هكذا قال يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير وأكثر الرواة يعني : بلفظ قال مالك : « أراه مخافة أن يناله العدو » (1) , ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره : « خشية أن يناله العدو » (2) , وفي سياقه الحديث لم يجعله من قول مالك [قلت] : وتقدم أنه في [ سنن ابن ماجه ] من رواية مالك في نفس الحديث ، وهو عنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قال : وكذلك قال عبيد الله بن عمر وأيوب والليث وإسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم وإن اختلفت ألفاظهم, قال : وهو صحيح مرفوع, وقال القاضي عياض في الرواية المشهورة عن مالك : يحتمل أنه شك هل هي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وقد روي عن مالك متصلا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب , وقال النووي : هذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك .
2 - فيه النهي عن السفر بالقرآن والمراد به المصحف إلى أرض العدو, وهذا محتمل للتحريم والكراهة, وفي لفظ مسلم : « لا تسافروا بالقرآن » (3) , وظاهر هذا اللفظ التحريم, ولفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله « كره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (4) وظاهره التنزيه فقط, وقد بوب عليه البخاري ( باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ) , وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سافر
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن . انتهى ، وفي بعض نسخه باب السفر بدون ذكر الكراهة ، وقد اعتمد في الكراهة على لفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر ، وقد عرفت من كلام البرقاني أن المشهور لفظ النهي على أن لفظ الكراهة يحتمل التحريم أيضا ، وقال ابن عبد البر : أجمع الفقهاء : أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا ، والعسكر الصغير المخوف عليه .
واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه ، فلم يفرق مالك بين الصغير والكبير ، وقال أبو حنيفة : لا بأس في السفر بالعسكر العظيم .
وقال النووي في [شرح مسلم ] ، : إن أمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع حينئذ ؛ لعدم العلة هذا هو الصحيح ، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون ، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا ، والصحيح عنه ما سبق . انتهى .
وقول البخاري رحمه الله : ( قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن ) إن قصد به معارضة النهي عن ذلك فلا تعارض بينهما ؛ لأن النهي عن ذلك في المصحف ؛ لئلا يتمكنوا منه فينتهكوا حرمته ، وليس آدميا يمكنه الدفع عن نفسه بخلاف ما في صدور المؤمنين من القرآن ، فإنهم عند العجز عن المدافعة عن أنفسهم لا يعد المهين لهم مهينا للمصحف ؛ لأن الذي في صدورهم أمر معنوي والذي في المصحف مشاهد محسوس -والله أعلم .

3 - يستنبط منه منع بيع المصحف إلى الكافر ؛ لوجود المعنى فيه ، وهو تمكنه من الاستهانة به ، ولا خلاف في تحريم ذلك ، ولكن هل يصح لو وقع ، اختلف أصحابنا فيه على طريقين : ( أصحهما ) : القطع ببطلانه ( والثاني ) : إجراء الخلاف الذي في بيع العبد المسلم للكافر فيه ، والفرق بينهما على عظم حرمة المصحف وأنه لا يمكنه دفع الذل عن نفسه بالاستعانة بخلاف العبد (1) .
وقال النووي : اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم ؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في [ الصحيحين ] : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » (2) .
واتفقوا : أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب ؛ لحديث أبي سفيان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا فيه: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (3) الآية (4) .
__________
(1) [طرح التثريب] ( 7\ 216, 217 ) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).
(3) سورة آل عمران الآية 64
(4) [المجموع شرح المهذب] : ( 2\78 ) .

ثانيا :

ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا
( الطهارة من الحدث ومن الكفر ).
اختلف أهل العلم في ذلك :
وفيما يلي نقول عن أهل العلم من المفسرين ، والمحدثين والفقهاء وتشتمل على أقوالهم ، وأدلتهم ومناقشتها :

1 - النقول من المفسرين :
1 - قال الجصاص : قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } (1) { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } (2) { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (3) روي عن سلمان أنه قال : لا يمس القرآن إلا المطهرون ، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء ، وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال : فقال لأخته : أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرءون ، فقالت : إنك رجس وأنه لا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل أو توضأ ، فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه ، وذكر الحديث ، وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف ، وعن ابن عمر مثله ، وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء ، وروي عن حماد : أن المراد الذي في اللوح المحفوظ { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (4) يعني : الملائكة ، وقال أبو العالية في قوله : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (5) قال : هو في كتاب مكنون ليس أنتم (6) من أصحاب الذنوب . وقال سعيد بن جبير وابن عباس : { الْمُطَهَّرُونَ } (7) الملائكة . وقال قتادة : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق . قال أبو بكر : إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر ، فالأولى : أن يكون المراد القرآن الذي عند الله ، والمطهرون الملائكة ، وإن حمل على النهي ، وإن كان في صورة الخبر ، كان عموما فينا ، وهذا أولى ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) كذا في الأصل ، ولعله ( أنتم أنتم ) .
(7) سورة الواقعة الآية 79

أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم ( ولا يمس القرآن إلا طاهر ) ، فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية إذ فيها احتمال له (1) .
2 - وقال القرطبي : الخامسة : قوله تعالى : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (2) اختلف في معنى { لَا يَمَسُّهُ } (3) هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف في { الْمُطَهَّرُونَ } (4) من هم ؟ فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . وكذا قال أبو العالية وابن زيد : إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم : فجبريل النازل به مطهر ، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون . الكلبي : هم السفرة الكرام البررة . وهذا كله قول واحد ، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال : أحسن ما سمعت في قوله : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (5) أنها بمنزلة الآية التي في { عَبَسَ وَتَوَلَّى } (6) { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } (7) { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } (8) { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } (9) { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } (10) { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (11) يريد : أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس : وقال معنى: { لَا يَمَسُّهُ } (12) لا ينزل به إلا المطهرون أي : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء . وقيل : لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون . وقيل : إن إسرافيل هو الموكل بذلك ، حكاه القشيري . ابن
__________
(1) [أحكام القرآن] ، للجصاص : ( 3\ 511 ) .
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) سورة عبس الآية 1
(7) سورة عبس الآية 12
(8) سورة عبس الآية 13
(9) سورة عبس الآية 14
(10) سورة عبس الآية 15
(11) سورة عبس الآية 16
(12) سورة الواقعة الآية 79

العربي : وهذا باطل ؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال ، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال .
وأما من قال : إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل ؛ وهو اختيار مالك . وقيل : المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا : وهو الأظهر .
وقد روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : « من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد » (1) وكان في كتابه : « ألا يمس القرآن إلا طاهر » (2) . وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر » ، وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (3) فقام واغتسل وأسلم . وقد مضى في أول سورة ( طه ) وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (4) من الأحداث والأنجاس . الكلبي : من الشرك . الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا . وقيل معنى: { لَا يَمَسُّهُ } (5) لا يقرؤه { إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (6) إلا الموحدون ، قال محمد بن فضيل وعبدة .
قال عكرمة : كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن .
وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون ؛ أي : المؤمنون بالقرآن .
ابن العربي : وهو اختيار البخاري ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ذاق طعم الإيمان
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4853),سنن الدارمي الديات (2365).
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) سورة الواقعة الآية 79

من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا » (1) .
وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق .
وقال أبو بكر الوراق : لا يوفق للعمل به إلا السعداء . وقيل : المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون . ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قيل : ظاهر الآية خبر عن الشرع ، أي : لا يمسه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع ؛ وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي .
وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) ، المهدوي : يجوز أن يكون أمرا تكون ضمة السين ضمة إعراب . ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء والفعل مجزوم .
السادسة : واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء :
فالجمهور : على المنع من مسه ؛ لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي .
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة :
فروي عنه أنه يمسه المحدث ، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما . وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه ، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (34),سنن الترمذي الإيمان (2623),مسند أحمد بن حنبل (1/208).

ابن العربي : وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه ؛ لأن تحريم الممنوع ممنوع . وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه .
وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة .
وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل .
وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله . واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه .
وفي مس الصبيان إياه على وجهين :
أحدهما : المنع اعتبارا بالبالغ .
والثاني : الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ؛ لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا (1) .
3 - وقال ابن كثير : وقال ابن جرير : حدثني موسى بن إسماعيل أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (2) قال : الكتاب الذي في السماء ، وقال
__________
(1) [تفسير القرطبي] ( 17\ 225-227 ) .
(2) سورة الواقعة الآية 79

العوفي عن ابن عباس : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (1) يعني : الملائكة ، وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر عن قتادة { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (2) قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس ، قال : وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون ، وقال أبو العالية : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (3) ليس أنتم ، أنتم أصحاب الذنوب ، وقال ابن زيد زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون ، كما قال تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } (4) { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } (5) { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } (6) وهذا القول قول جيد وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله .
وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به . وقال آخرون : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (7) أي : من الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها : الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم عن ابن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » (8) .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الشعراء الآية 210
(5) سورة الشعراء الآية 211
(6) سورة الشعراء الآية 212
(7) سورة الواقعة الآية 79
(8) صحيح البخاري الجهاد والسير (2828),صحيح مسلم الإمارة (1869),سنن أبو داود الجهاد (2610),سنن ابن ماجه الجهاد (2880),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك الجهاد (979).

واحتجوا في ذلك : بما رواه الإمام مالك في [موطئه] عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (1) .
وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ولا يمس القرآن إلا طاهر » (2) ، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي الأخذ به ، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منهما (3) نظر (4) .
4 - وقال القرطبي : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (5) ابتداء وخبر ، واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس ، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما : لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل .
وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي نجسه . قال الحسن البصري : من صافح مشركا فليتوضأ .
والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم ، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال : ليس بواجب ؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله . وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد ، وأسقطه الشافعي .
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) كذا ولعل منهم .
(4) [تفسير ابن كثير] ( 4\298 ) .
(5) سورة التوبة الآية 28

وقال : أحب إلي أن يغتسل . ونحوه لابن القاسم . ولمالك قول : إنه لا يعرف الغسل ، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس . وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال ، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده . « وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حسن إسلام صاحبكم » (1) ، وأخرجه مسلم بمعناه .
وفيه أن ثمامة لما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل . وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر . فإن كان إسلامه قبل احتلامه فغسله مستحب . ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة . هذا قول علمائنا ، وهو تحصيل المذهب (2) .
5 - وقال ابن كثير على قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (3) أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية ، وكان نزولها في سنة تسع ، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر - رضي الله عنهما - عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/483).
(2) [تفسير القرطبي] ( 8\103 ، 104 ) .
(3) سورة التوبة الآية 28

جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (1) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة . وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا شريك عن الأشعث يعني : ابن سوار عن الحسن ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم » (2) تفرد به الإمام أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا . وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (3) وقال عطاء : الحرم كله مسجد ؛ لقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (4) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك ، كما ورد في الصحيح « المؤمن لا ينجس » (5) (6) ، وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير (7) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/392).
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).
(6) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
(7) [تفسير ابن كثير] ( 2\346 ) .

2 -

النقول من المحدثين
أ- قال الزيلعي : الحديث الخامس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (1) قلت : روي من حديث عمرو بن حزم ومن حديث ابن عمر ،
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ومن حديث حكيم بن حزام ، ومن حديث عثمان بن أبي العاص ، ومن حديث ثوبان .
أما حديث عمرو بن حزم فرواه النسائي في [سننه] ، (1) في كتاب الديات ، وأبو داود في [المراسيل] من حديث محمد بن بكار بن بلال عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه عن جده : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) انتهى .
وروياه أيضا من حديث الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة ، ثنا سليمان بن داود الخولاني ، حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده بنحوه ، قال أبو داود : وهم فيه الحكم بن موسى ( يعني قوله : سليمان بن داود ) وإنما هو سليمان بن أرقم ، قال النسائي : الأول أشبه بالصواب وسليمان بن أرقم متروك . انتهى .
وبالسند الثاني رواه ابن حبان في [صحيحه] في النوع السابع والثلاثين ، من القسم الخامس ، قال : سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون ، انتهى ، وكذلك الحاكم في [المستدرك] (3) وقال : هو من قواعد الإسلام وإسناده من شرط هذا الكتاب . انتهى . أخرجه
__________
(1) قلت : الحديث أخرجه النسائي في [الديات] في ذكر حديث عمرو بن حزم في [العقول] ( 2\ 257 ) من حديث حكم بن موسى . ومحمد بن بكار عن يحيى بن حمزة ولم أجد فيه : ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ) والله أعلم .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) في باب زكاة الذهب ( 1\ 397 ) في حديث طويل .

بطوله ، ورواه الطبراني في [معجمه] والدارقطني (1) ثم البيهقي في [سننهما] ، وأحمد في [مسنده] ، وابن راهويه .
طريق آخر : رواه الدارقطني في [غرائب مالك ] من حديث أبي ثور هاشم بن ناجية عن مبشر بن إسماعيل ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده ، قال : كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمس القرآن إلا طاهر ، قال الدارقطني : تفرد به أبو ثور عن مبشر عن مالك ، فأسنده عن جده ، ثم رواه من حديث إسحاق الطباع ، أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ، قال : كان في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) ، قال : وهذا الصواب عن مالك ، ليس فيه عن جده . انتهى .
قال الشيخ تقي الدين في [الإمام] : وقوله فيه : عن جده أن يراد به جده الأدنى ، وهو محمد بن عمرو بن حزم ، ويحتمل أن يراد به جده الأعلى ، وهو عمرو بن حزم ، وإنما يكون متصلا إذا أريد الأعلى ، لكن قوله : كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي أنه عمرو بن حزم ؛ لأنه الذي كتب له الكتاب .
طريق آخر أخرجه البيهقي في [الخلافيات] من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب في عهده ، « ولا يمس القرآن إلا طاهر » (3) ، انتهى .
__________
(1) ص : ( 45, 283 ) ، والبيهقي في [سننه] ص : 88 ، والدارمي في باب : لا طلاق قبل النكاح ص : ( 293 ) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

قلت : لم أجده عند عبد الرزاق في [مصنفه] وفي تفسيره إلا مرسلا فرواه في [مصنفه] في ( باب الحيض ) أخبرنا معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال : كان في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، ورواه في [تفسيره] في سورة الواقعة : أخبرنا معمر عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهم كتابا فيه : « ولا يمس القرآن إلا طاهر » (1) ، انتهى . ومن طريق عبد الرزاق ، رواه الدارقطني (2) ثم البيهقي في [سننهما] هكذا مرسلا . قال الدارقطني : هذا مرسل ورواته ثقات . انتهى .
طريق آخر ، رواه البيهقي في [الخلافيات] أيضا من حديث إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر يخبرانه عن أبيهما عن جدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن . وأبو أويس صدوق ، أخرج له مسلم في [المتابعات] ، وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى مرسلة ، وسيأتي في الزكاة وفي الديات بعض ذلك إن شاء الله تعالى ، قال السهيلي في [الروض الأنف] (3) حديث : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (4) مرسل لا يقوم به الحجة ، وقد أسنده الدارقطني من طرق (5) أقواها رواية أبي داود الطيالسي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(2) ص : ( 45 ) من طريق الحسن بن أبي الربيع ، كما في المصنف ، ومن طريق ابن زنجويه ، كما في [التفسير] ، وأخرجه البيهقي في ص : 87 من طريق الحسن ، كما في [المصنف] .
(3) في ( فصل تطهير عمر ليمس القرآن ) .
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(5) في ( السهيلي ) ( 1\ 217 ) من طرق حسان أقواها ، إلخ ، قلت : طريق الطيالسي لم أجده في [سنن الدارقطني] ولا [مسند الطيالسي] ، والله أعلم .

عن جده . انتهى .
وأما حديث ابن عمر ، فرواه الطبراني في [معجمه] والدارقطني (1) ثم البيهقي من جهته في [سننهما] من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري ، قال : سمعت سالما يحدث عن أبيه ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) انتهى .
وسليمان بن موسى الأشدق مختلف فيه ، فوثقه بعضهم ، وقال البخاري : عنده مناكير ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وأما حديث حكيم بن حزام ، فرواه الحاكم في [المستدرك] ، في كتاب الفضائل (3) من حديث سويد بن أبي حاتم ، ثنا مطر الوراق عن حسان بن بلال ، عن حكيم بن حزام قال : لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، قال : « لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر » انتهى .
قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، رواه الطبراني . والدارقطني ، ثم البيهقي في [سننهما] .
وأما حديث عثمان بن أبي العاص ، فرواه الطبراني في [معجمه] حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي ، ثنا يعقوب بن حميد ، ثنا هشام بن سليمان عن إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن سعيد ، عن عبد الملك ، عن المغيرة بن شعبة ، عن عثمان بن أبي العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (4) انتهى .
__________
(1) ص : ( 45 ) ، والبيهقي : ص : ( 88 ) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) في معرفة الصحابة ص : ( 3\ 485 ) ، والدارقطني ، ص : ( 45 ) ، ولم أجده في [البيهقي] فيما عندي من أجزائه الستة ولم يعز الحافظ إليه أيضا .
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

وأما حديث ثوبان فلم أجده موصولا ، ولكن قال ابن القطان في كتابه [الوهم والإيهام] : وروى علي بن عبد العزيز في [منتخبه] حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، ثنا مسعدة البصري عن خصيب بن جحدر ، عن النضر بن شفي عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لا يمس القرآن إلا طاهر ، والعمرة هي الحج الأصغر » (1) انتهى .
قال ابن القطان : وإسناده في غاية الضعف ، أما النضر بن شفي ، فلم أجد له ذكرا في شيء من مظانه ، فهو مجهول جدا ، وأما الخصيب بن جحدر ، فقد رماه ابن معين بالكذب ، وأما مسعدة البصري ، فهو ابن اليسع تركه أحمد بن حنبل ، وخرق حديثه ، ووصفه أبو حاتم بالكذب ، وأما إسحاق بن إسماعيل فهو ابن عبد الأعلى يروي عن ابن عيينة وجرير وغيرهما ، وهو شيخ لأبي داود ، وأبو داود إنما يروي عن ثقة عنده ، انتهى كلامه .
وفي الباب أثران جيدان :
أحدهما : أخرجه الدارقطني (2) عن إسحاق الأزرق ، ثنا القاسم بن عثمان البصري ، عن أنس بن مالك ، قال : خرج عمر متقلدا بالسيف ، فقيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا ، فأتاهما عمر ، وعندهما رجل من المهاجرين ، يقال له : خباب وكانوا يقرءون ( طه ) فقال : أعطوني الذي عندكم فأقرأه - وكان عمر يقرأ الكتب- فقالت له أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل ، أو توضأ ، فقام عمر فتوضأ ، ثم أخذ
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(2) في [سننه] ص : ( 45 ، 46 ) ، والبيهقي كلاهما في ص : ( 88 ) ، والثاني من طريق الدارقطني أيضا .

الكتاب فقرأ ( طه ) انتهى .
ورواه أبو يعلى الموصلي في [مسنده] مطولا ، قال الدارقطني : تفرد به القاسم بن عثمان ، وليس بالقوي ، وقال البخاري : له أحاديث لا يتابع عليها . الثاني : أخرجه الدارقطني أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كنا مع سلمان ، فخرج فقضى حاجته ، ثم جاء فقلت : يا أبا عبد الله ، لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات ، قال : إني لست أمسه ، إنه لا يمسه إلا المطهرون ، فقرأ علينا ما شئنا ، انتهى . وصححه الدارقطني (1) .
ب- وقال ابن حجر : حديث : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) أبو داود في المراسيل والنسائي من حديث عمرو (3) بن حزم ، في أثناء حديثه الطويل .
__________
(1) [نصب الراية] ( 1\ 196- 199 ) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) رواه أبو داود في [المراسيل] . والنسائي ، بإسنادين . الأول : من حديث محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، والثاني : من حديث الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة . ثنا سليمان بن داود الخولاني عن الزهري . . إلخ ، ففي الإسناد الأول : سليمان بن أرقم ، قال النسائي : متروك ، وقال أبو داود : وهم الحكم بن موسى -يعني في قوله : سليمان بن داود- وإنما هو سليمان بن أرقم ، وبالسند الثاني : رواه ابن حبان في صحيحه . وقال : سليمان بن داود من أهل دمشق ثقة مأمون ، ورواه الحاكم ، وقال : هو من قواعد الإسلام ، وإسناده من شرط الكتاب . ورواه الطبراني ، والدارقطني ، والبيهقي ، وأحمد وابن راهويه ، والدارمي ، والأثرم ، ورواه مالك في [الموطأ] مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، قال ابن عبد البر : إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب ، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم ، وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة .

وأخرجه الدارقطني (1) من طريق أبي ثور عن مبشر بن إسماعيل ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه عن جده ، قال : كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) ، تفرد به أبو ثور ، وقال : الصواب ليس فيه عن جده ، ثم أخرجه من طريق إسحاق بن الصباغ عن مالك كذلك .
وأخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي من طريقه ، عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، ليس فيه عن جده . وقد أخرجه الطيالسي من طريق أبي بكر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه .
وفي الباب : عن ابن عمر (3) ، أخرجه الطبراني والبيهقي . وعن حكيم (4) بن حزام أخرجه الحاكم والطبراني والدارقطني . وعن عثمان (5) بن أبي العاص ، أخرجه الطبراني .
وعن ثوبان (6) رفعه : « لا يمس القرآن إلا طاهر ، والعمرة هي الحج الأصغر » (7) أخرجه علي بن عبد العزيز في [منتخب المسند] ، وإسناده
__________
(1) رواه الدارقطني في ( غرائب مالك ) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) رواه أيضا الدارقطني . قال ابن حجر : وإسناده لا بأس به ، لكن فيه سليمان الأشدق ، وهو مختلف فيه ، وذكر الأثرم أن أحمد احتج به .
(4) وفيه سويد بن أبي حاتم قال ابن معين : أرجو أنه لا بأس به ، وقال أبو زرعة : ليس بالقوي حديثه حديث أهل الصدق وضعفه النسائي ، اهـ ، وحسن الحازمي إسناده ، وقد ضعف النووي حديث حكيم هذا ، وحديث عمرو بن حزم معا .
(5) وفيه إسماعيل بن رافع ، ضعفه النسائي وابن معين ، وقال البخاري : ثقة مقارب الحديث .
(6) وفيه : النضر بن شفي . مجهول جدا ، والخصيب بن جحدر . رماه ابن معين بالكذب ، ومسعدة البصري تركه ابن حنبل ، وخرق حديثه ، ووصفه أبو حاتم بالكذب .
(7) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ضعيف . وعن أخت (1) عمر أنها قالت له عند إسلامه : إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون ، أخرجه أبو يعلى والطبراني . وعن عبد الرحمن بن يزيد ، عن سلمان : أنه قضى حاجته فخرج ثم جاء ، فقلت : لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات ؟ قال : إني لست أمسه ، لا يمسه إلا المطهرون ، فقرأ علينا ما شئنا ، أخرجه الدارقطني وصححه (2) .
وقال ابن حجر أيضا : حديث : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام : « لا يمس المصحف إلا طاهر » (3) ، الدارقطني والحاكم في المعرفة من [مستدركه] . والبيهقي في [الخلافيات] والطبراني من حديث حكيم ، قال : لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن : قال : « لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر » ، وفي إسناده سويد أبو حاتم ، وهو ضعيف ، وذكر الطبراني في [الأوسط] : أنه تفرد به ، وحسن الحازمي إسناده .
واعترض النووي على صاحب [المهذب] في إيراده له عن حكيم بن حزام ، بما حاصله أنه تبع في ذلك الشيخ أبا حامد ، يعني : في قوله عن حكيم بن حزام ، قال : والمعروف في كتب الحديث أنه عن عمرو بن حزم قلت : حديث عمرو بن حزم أشهر ، وهو في الكتاب الطويل ، كما سيأتي الكلام عليه في الديات إن شاء الله تعالى ، ثم إن الشيخ محيي الدين في الخلاصة ، ضعف حديث حكيم (4) بن حزام وحديث عمرو بن
__________
(1) وفيه : القاسم بن عثمان ، قال الدارقطني : تفرد به القاسم ، وليس بالقوي ، وقال البخاري : له أحاديث لا يتابع عليها .
(2) [الدراية ، ( 1\ 86 ) .
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(4) رواه الحاكم وقال : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وكذا رواه الدارقطني . والطبراني في الكبير ، و[الأوسط] . وفيه : سويد أبو حاتم . ضعفه النسائي . وابن معين في رواية ووثقه في رواية ، وقال أبو زرعة : ليس بالقوي ، حديثه حديث أهل الصدق .

حزم جميعا ، فهذا يدل على أنه وقف على حديث حكيم بعد ذلك . والله أعلم ، وفي الباب عن ابن عمر (1) رواه الدارقطني وإسناده لا بأس به ، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به ، وعن عثمان بن أبي العاص ، رواه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف ، وفي إسناده انقطاع ، وفي رواية الطبراني من لا يعرف (2) وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في [منتخب مسنده] ، وفي إسناده خصيب بن جحدر ، وهو متروك ، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، وفي إسناده مقال ، وفيه عن سلمان موقوفا ، أخرجه الدارقطني والحاكم .
قوله : ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر » ، هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث ، ولا يوجد ذكر حمل المصحف في شيء من الروايات ، وأما المس ففيه الأحاديث الماضية .
حديث : « أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابا إلى هرقل ، وكان فيه: » (4) الآية متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبي
__________
(1) رواه أيضا البيهقي . وفيه : سليمان بن موسى الأشدق . مختلف فيه ، فوثقه بعضهم ، وقال البخاري : عنده مناكير ، وقال النسائي : ليس بالقوي .
(2) رجال الطبراني معروفون وفيه عنده : إسماعيل بن رافع . ضعفه يحيى بن معين . والنسائي وقال البخاري: ثقة مقارب الحديث .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (7),صحيح مسلم الجهاد والسير (1773),مسند أحمد بن حنبل (1/263).
(4) سورة آل عمران الآية 64 (3) { تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }

سفيان صخر بن حرب في حديث طويل (1) .
ج- وجاء في [بلوغ المرام] : وعن عبد الله بن أبي بكر : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم : « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) . رواه مالك مرسلا . ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول .
د- وقال الصنعاني : وإنما قال في [المصنف] : إن هذا الحديث معلول ؛ لأنه من رواية سليمان بن داود ، وهو متفق على تركه ، كما قال ابن حزم ووهم في ذلك ، فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني وليس كذلك ، بل هو سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة ، أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ ، واليماني هو المتفق على ضعفه ، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول .
قال ابن عبد البر : إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب ، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم .
وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب .
وفي الباب من حديث حكيم بن حزام « لا يمس القرآن إلا طاهر » (3) وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكره الهيثمي في [مجمع الزوائد] من حديث عبد الله بن عمر أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (4) قال الهيثمي : رجاله موثقون ، وذكر له شاهدين ولكنه يبقى النظر في
__________
(1) [التلخيص الحبير] ( 1\ 131, 132 ).
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

المراد من الطاهر فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر ، ويطلق على المؤمن وعلى من ليس على بدنه نجاسة ، ولا بد لحمله على معين من قرينة ، وأما قوله تعالى : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (1) فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية ، وأن المطهرون هم الملائكة (2) .
هـ- وجاء في [المنتقى] للمجد : وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (3) - رواه الأثرم والدارقطني . وهو لمالك في [الموطأ] مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم : « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (4) ، وقال الأثرم : واحتج أبو عبد الله -يعني : أحمد - بحديث ابن عمر : « ولا يمس المصحف إلا على طهارة » .
و- وقال الشوكاني : الحديث أخرجه الحاكم في [المستدرك] ، والبيهقي في [الخلافيات] والطبراني ، وفي إسناده سويد بن أبي حاتم ، وهو ضعيف .
وذكر الطبراني في [الأوسط] : أنه تفرد به وحسن الحازمي إسناده ، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام ، وحديث عمرو بن حزم جميعا . وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني قال الحافظ : وإسناده لا بأس به ، لكن فيه سليمان
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) [سبل السلام] ( 1\70 ).
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

الأشدق وهو مختلف فيه ، رواه عن سالم عن أبيه ابن عمر قال الحافظ : ذكر الأثرم أن أحمد احتج به .
وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع ، وفي رواية الطبراني من لا يعرف ، وعن ثوبان أورد علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده ، وفي إسناده خصيب بن جحدر وهو متروك ، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون ، قال الحافظ : وفي إسناده مقال ، وفيه عن سلمان موقوفا أخرجه الدارقطني والحاكم ، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول .
قال ابن عبد البر : إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب ، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم .
وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة . والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا ، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن ، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة : ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة : « المؤمن لا ينجس » (2) (3) ، وعلى الثاني : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } (4) وعلى الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين : دعهما « فإني أدخلتهما
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).
(3) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
(4) سورة المائدة الآية 6

طاهرتين » (1) (2) ، وعلى الرابع : الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا ، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا . والمسألة مدونة في الأصول وفيها مذاهب : والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين ، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف ، وخالف في ذلك داود .
( استدل المانعون للجنب ) بقوله تعالى : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (3) وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن ، والظاهر رجوعه إلى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ؛ لأنه الأقرب ، والمطهرون : الملائكة ، ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال فيمتنع العمل بأحد الأمرين ، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية ، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب -وهو منع الجنب من مسه- غير مسلمة ؛ لأن المطهر من ليس بنجس والمؤمن ليس بنجس دائما ؛ لحديث « المؤمن لا ينجس » (4) وهو متفق عليه ، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية ، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك ، كما هو في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (5) لهذا الحديث ، وحديث النهي عن السفر
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (203),صحيح مسلم الطهارة (274).
(2) رواه البخاري في باب إذا أدخل رجليه ، وهما طاهرتان في المسح على الخفين ، ورواه مسلم في المسح على الرأس والخفين ، ورواه غيرهما .
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).
(5) سورة التوبة الآية 28

بالقرآن إلى أرض العدو ، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر ، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه فلا يعين حتى يبين : وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره ؛ لحديث « المؤمن لا ينجس » (1) ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف ، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح ؛ لوجود المانع وهو حديث « المؤمن لا ينجس » (2) .
واستدلوا أيضا بحديث الباب .
وأجيب : بأنه غير صالح للاحتجاج ؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة وفي رجال إسناده خلاف شديد ، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر وقد عرفته .
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير : إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة ، صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه ، فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة- ( فإن قلت ) : إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل عظيم الروم : « أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).
(2) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).

و إلى قوله : » (3) مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم .
( قلت ) : أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار كدعائه إلى الإسلام . ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير فلا تخصص به الآية والحديث : إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك ، وقد عرفت الخلاف في الجنب .
وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية ، وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف .
وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز ، واستدلوا بما سلف وقد سلف ما فيه . (4) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4278),صحيح مسلم الجهاد والسير (1773),سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717),سنن أبو داود الأدب (5136),مسند أحمد بن حنبل (1/263).
(2) سورة آل عمران الآية 64 (1) { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ }
(3) سورة آل عمران الآية 64 (2) { مُسْلِمُونَ }
(4) [نيل الأوطار] ( 1\ 259-261 )

3 -

النقول من الفقهاء
أ- قال النووي : يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء إن حمله بعلاقته أو في كمه أو على رأسه . وحكى القاضي حسين والمتولي وجها أنه يجوز حمله بعلاقته ، وهو شاذ في المذهب وضعيف .
قال أصحابنا : وسواء من نفس الأسطر ، أو ما بينهما أو الحواشي أو

الجلد فكل ذلك حرام . وفي مس الجلد وجه ضعيف أنه يجوز . وحكى الدارمي وجها شاذا بعيدا أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ولا ما بين الأسطر ، ولا يحرم إلا نفس المكتوب . والصحيح الذي قطع به الجمهور : تحريم الجميع .
وفي مس العلاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران :
أصحهما : يحرم ، وبه قطع المتولي والبغوي ؛ لأنه متخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد .
والثاني : يجوز واختاره الروياني في مس الصندوق . وأما حمل الصندوق وفيه المصحف فاتفقوا على تحريمه .
قال أبو محمد الجويني في [الفروق] : وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان ، وأما إذا تصفح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين :
أصحهما : - وبه قطع المصنف وسائر العراقيين- يجوز ؛ لأنه غير مباشر له ولا حامل .
والثاني : لا يجوز ، ورجحه الخراسانيون ؛ لأنه حمل الورقة ، وهي بعض المصحف ولو لف كمه على يده وقلب الأوراق بها فهو حرام . هكذا صرح به الجمهور منهم الماوردي المحاملي في [المجموع] وإمام الحرمين والغزالي والروياني وغيرهم ، وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به ، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه وغيره بخلاف العود .
قال إمام الحرمين : ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم ، قال : ومن ذكر

فيه خلافا فهو غالط ، وشذ الدارمي عن الأصحاب فقال : إن مسه بخرقة أو بكمه فوجهان ، وإن مسه بعود جاز .
وأما إذا حمل المصحف في متاع فوجهان ، حكاهما الماوردي والخراسانيون : أصحهما : - وبه قطع المصنف والجمهور ، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي - يجوز ؛ لأنه غير مقصود .
والثاني : يحرم ؛ لأنه حامله حقيقة ولا أثر لكون غيره معه ، كما لو حمل المصلي متاعا فيه نجاسة فإن صلاته تبطل . قال الماوردي : وصورة المسألة أن يكون المتاع مقصودا بالحمل ، فإن كان بخلافه لم يجز ، وإنما قاس المصنف على ما إذا كتب كتابا إلى دار الشرك فيه آيات ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى دار الشرك كتابا فيه شيء من القرآن مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر ، فدل على أن الآيات في ضمن كتاب لا يكون لها حكم المصحف ، والله سبحانه أعلم (1) .
وقال النووي أيضا : الثانية : كتاب تفسير القرآن إن كان القرآن فيها أكثر ، كبعض كتب غريب القرآن حرم مسه وحمله وجها واحدا ، كذا ذكره الماوردي وغيره ، ونقله الروياني عن الأصحاب ، وإن كان التفسير أكثر كما هو الغالب ففيه أوجه :
أصحها : لا يحرم ؛ لأنه ليس بمصحف ، وبهذا قطع الدارمي وغيره .
والثاني : يحرم ؛ لتضمينه قرآنا كثيرا .
والثالث : إن كان القرآن متميزا عن التفسير بخط غليظ حمرة أو
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] ( 2\ 73 ) .

صفرة ونحو ذلك حرم وإلا فلا . وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وضعفه غيرهم ، قال المتولي : وإذا لم يحرم كره ، وأما كتب القراءات فجعلها الشيخ نصر المقدسي ككتب الفقه ، وقطع هو بجوازها .
وأما كتب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلق الماوردي والقاضى حسين والبغوي وغيرهم جواز مسها وحملها مع الحديث ، وقال المتولي والروياني : يكره .
والمختار : ما قاله آخرون : إنه إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز ، والأولى أن لا يفعل إلا بطهارة ، وإن كان فيها قرآن فعلى وجهين في كتب الفقه (1) .
وقال أيضا : الخامسة : إذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه . وحمله على البالغ المحدث هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الأكثرون ، وفيه وجه مشهور أنه لا يحرم ؛ لأنه لا يراد الدوام بخلاف المصحف ، فعلى هذا يكره ، قاله في التتمة ، ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلا أو كثيرا فيحرم على الصحيح .
قال إمام الحرمين : لو كان على اللوح آية أو بعض آية كتب للدراسة حرم مسه وحمله (2) .
وقال أيضا : الثامنة : لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] ( 2\ 76 ) .
(2) [المجموع شرح المهذب] ( 2\ 77 ) .

أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث . صرح به الدارمي وغيره ، بل يجب ذلك ؛ صيانة للمصحف ، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث .
قال القاضي أبو الطيب : ولا يلزمه التيمم له ؛ لأنه لا يرفع الحدث وفيما قاله نظر . وينبغي أن يجب التيمم ؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فيبيح الصلاة ومس المصحف وحمله (1) .
وقال أيضا : ( فرع ) في مذاهب العلماء في مس المصحف وحمله ، ومذهبنا تحريمهما ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء . وعن الحكم وحماد وداود : يجوز مسه وحمله ، وروي عن الحكم وحماد جواز مسه بظهر الكف دون بطنه .
واحتجوا : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن ، وهرقل محدث ، يمسه وأصحابه ، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار ، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى ، وقاسوا حمله على حمله في متاع .
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } (2) { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } (3) { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (4) { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (5) فوصفه بالتنزيل ، وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا ، فإن قالوا : المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون ، ولهذا قال : يمسه
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] ( 2\ 77 ) .
(2) سورة الواقعة الآية 77
(3) سورة الواقعة الآية 78
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) سورة الواقعة الآية 80

بضم السين على الخبر ، ولو كان المصحف لقال : يمسه بفتح السين على النهي .
فالجواب : أن قوله تعالى : { تَنْزِيلٌ } (1) ظاهر في إرادة المصحف فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح ، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر ، كقوله : { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } (2) على قراءة من رفع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يبيع بعضكم على بيع أخيه » (3) (4) بإثبات الياء ، ونظائره كثيرة مشهورة وهو معروف في العربية ، فإن قالوا : لو أريد ما قلتم لقال : لا يمسه إلا المتطهرون ، فالجواب : أنه يقال في المتوضئ : مطهر ومتطهر ، واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر - رضي الله عنهم - ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة .
والجواب عن قصة هرقل : أن ذلك الكتاب فيه آية ولا يسمى مصحفا ، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وحمله في المتاع ؛ لأنه غير مقصود ، وبالله التوفيق (5) .
ب- وجاء في [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] : وسئل عن رجل يقرأ القرآن وليس له على الوضوء قدرة في كل وقت : فهل له أن يكتب في اللوح ويقرأه إن كان على وضوء وغير وضوء . أم لا ؟ وقد ذكر
__________
(1) سورة الواقعة الآية 80
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) صحيح البخاري البيوع (2032),صحيح مسلم النكاح (1412),سنن الترمذي البيوع (1292),سنن النسائي النكاح (3243),سنن أبو داود البيوع (3436),سنن ابن ماجه التجارات (2171),مسند أحمد بن حنبل (2/21),موطأ مالك النكاح (1112),سنن الدارمي البيوع (2567).
(4) رواه البخاري في ( كتاب البيوع ) باب ( لا يبيع على بيع أخيه ) رقم الحديث في [فتح الباري] ، ( 2139 ) .
(5) [المجموع شرح الهذب] ( 2\ 79 ) .

بعض المالكية أن معنى قوله : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } (1) تطهير القلب ، وأن المسلم لا ينجس ، وقال بعض الشافعية : لا يجوز له أن يمس اللوح ، أو المصحف على غير وضوء أبدا ، فهل بين الأئمة خلاف في هذا أم لا ؟
فأجاب : الحمد لله ، إذا قرأ في المصحف ، أو اللوح ، ولم يمسه جاز ذلك ، وإن كان على غير طهور ، ويجوز له أن يكتب في اللوح وهو على غير وضوء والله أعلم .
وسئل : هل يجوز مس المصحف بغير وضوء ، أم لا ؟
فأجاب : مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر . كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم : « أن لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) .
قال الإمام أحمد : لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له ، وهو أيضا قول سلمان الفارسي ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهما . ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف .
وسئل : عن الإنسان إذا كان على غير طهر ، وحمل المصحف بأكمامه ، ليقرأ به ، ويرفعه من مكان إلى مكان ، هل يكره ذلك ؟
فأجاب : وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس ، ولكن لا يمسه بيديه .
وسئل : عمن معه مصحف ، وهو على غير طهارة ، كيف يحمله ؟
فأجاب : ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه ، وفي خرجه وحمله ، سواء كان ذلك القماش لرجل ، أو امرأة ، أو صبي ، وإن
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

كان القماش فوقه أو تحته (1) .
وقال أيضا : وأما مس المصحف : فالصحيح أنه يجب له الوضوء ، كقول الجمهور ، وهذا هو المعروف عن الصحابة : سعد ، وسلمان ، وابن عمر . وفي كتاب عمرو بن حزم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمس القرآن إلا طاهر » (2) .
وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ، وقد أقر المشركين على السجود لله ، ولم ينكره عليهم ، فإن السجود لله خضوع : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } (3)
وأما كلامه فله حرمة عظيمة ؛ ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حالة الركوع والسجود ، فإذا نهى أن يقرأ في السجود ، لم يجز أن يجعل المصحف مثل السجود ، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد ، والمسجد يجوز أن يدخله المحدث ، ويدخله الكافر للحاجة ، وقد كان الكفار يدخلونه ، واختلف في نسخ ذلك ، بخلاف المصحف فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث ، أن يجوز للمحدث مس المصحف ؛ لأن حرمة المصحف أعظم .
وعلى هذا فما روي عن عثمان وسعيد من أن الحائض تومئ بالسجود ، هو لأن حدث الحائض أغلظ ، والركوع هو سجود خفيف . كما قال تعالى : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } (4) قالوا : ركعا ، فرخص لها في
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ( 21\ 265- 267 ) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468).
(3) سورة الرعد الآية 15
(4) سورة النساء الآية 154

دون كمال السجود (1) .
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ( 21\ 288 ) .

ثالثا :

ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن
اختلف أهل العلم في ذلك :
وفيما يلي نقول توضح أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها :
1 -
النقول عن المحدثين
أ- قال البخاري : باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت . وقال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الآية . ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقالت أم عطية : كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون . وقال ابن عباس : أخبرني أبو سفيان : أن هرقل دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } (1) الآية . وقال عطاء : عن جابر حاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير الطواف بالبيت ولا تصلي . وقال الحكم : إني لأذبح وأنا جنب ، وقال الله عز وجل : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } (2) حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : « خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقال : " ما يبكيك ؟ " قلت : لوددت -والله- أني لم أحج العام . قال : " لعلك نفست ؟ " قلت : نعم . قال :
__________
(1) سورة آل عمران الآية 64
(2) سورة الأنعام الآية 121

" فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم ، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري . » (1)
ب- وقال ابن حجر : ( قوله : باب تقضي الحائض ) أي : تؤدي ( المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ) ، قيل : مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار ؛ أن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات ، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها ، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها ، إلا الطواف فقط .
وفي كون هذا مراده نظر ؛ لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال وغيره أن مراده : الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة - رضي الله عنها - ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من جيمع مناسك الحج إلا الطواف ، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك ، فكذلك الجنب ؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه ومنع القراءة إن كان لكونه ذكر الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص ، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك ، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل ، كما سنشير إليه ، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري ، وابن المنذر وداود ؛ بعموم حديث : كان يذكر الله على كل أحيانه ؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره ، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف ، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (299),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).

عائشة ، وأورد المصنف أثر إبراهيم -وهو النخعي - إشعارا بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعا عليه ، وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ أربعة لا يقرءون القرآن : الجنب ، والحائض ، وعند الخلاء ، وفي الحمام ، إلا الآية ونحوها للجنب والحائض ، وروي عن مالك نحو قول إبراهيم ، وروي عنه الجواز مطلقا ، وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب ، وقد قيل : إنه قول الشافعي في القديم ثم أورد أثر ابن عباس ، وقد وصله ابن المنذر بلفظ : ( أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب ) ، وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين ، وقوله فيه : ( ويدعون ) كذا لأكثر الرواة ، وللكشميهني : ( يدعين ) بياء تحتانية بدل الواو ، ووجه الدلالة منه : ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها .
ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره ، ووجه الدلالة منه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى الروم وهم كفار ، والكافر جنب كأنه يقول : إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملا على آيتين فكذلك يجوز له قراءته ، كذا قاله ابن رشيد وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط ، وقد أجيب عمن منع ذلك ، وهم : الجمهور : بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين ، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير ، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور ؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة .
ونص أحمد : أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ ، وقال به كثير من الشافعية ، ومنهم من خص الجواز بالقليل ؛ كالآية والآيتين .

قال الثوري : لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه ، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب ، وعن أحمد : أكره أن يضع القرآن في غير موضعه ، وعنه : إن رجي منه الهداية جاز وإلا فلا ، وقال بعض من منع : لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن ؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أن الذي يقرأه قرآن ، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أن من القرآن فإنه لا يمنع ، وكذلك الكافر ، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى .
تنبيه : ذكر صاحب [المشارق] أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا ( ويا أهل الكتاب ) بزيادة واو ، قال : وسقطت لأبي ذر والأصيلي ، وهو الصواب ( قلت ) : فافهم أن الأولى خطأ ، لكونها مخالفة للتلاوة وليست خطأ وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي ، ( قوله : وقال عطاء : عن جابر ) هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب [الأحكام] وفي آخره : غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي ، وأما أثر الحكم وهو الفقيه الكوفي فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه .
ووجه الدلالة منه : أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها ، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره ، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه ، واستدل الجمهور على المنع بحديث علي : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة رواه أصحاب السنن ، وصححه الترمذي وابن حبان ، وضعف بعضهم بعض رواته ، والحق : أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة ، لكن قيل في الاستدلال به نظر ؛ لأنه فعل مجرد

فلا يدل على تحريم ما عداه ، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة .
وأما حديث ابن عمر مرفوعا : « لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن » (1) فضعيف من جميع طرقه (2) .
ج- قال الزيلعي : الحديث الرابع : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن » (3) قلت : روي من حديث ابن عمر ، ومن حديث جابر .
أما حديث ابن عمر ، فأخرجه الترمذي (4) وابن ماجه عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن » (5) انتهى . قال الترمذي : لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه ، انتهى ، ورواه البيهقي في [سننه] (6) ، وقال : قال البخاري فيما بلغني عنه : إنما روى هذا إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة ، ولا أعرفه من حديث غيره ، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق ، ثم قال : وقد روي عن غيره عن موسى بن عقبة ، وليس بصحيح ، انتهى .
وقال في [المعرفة] : هذا حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش ، وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها ، قاله أحمد بن حنبل ،
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596).
(2) [فتح الباري] ( 1\ 323 ، 324 ) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (131),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596).
(4) في الطهارة في باب الجنب والحائض أنهما لا يقرءان القرآن ( 1\ 236 ) ، وابن ماجه في الطهارة ، في باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة ( 1\ 195 ) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (131),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596).
(6) [السنن الكبرى] ( 1\ 461 ) .

ويحيى بن معين ، وغيرهما من الحفاظ . وقد روي هذا من غيره ، وهو ضعيف ، انتهى .
وقال ابن أبي حاتم في [علله] (1) : سمعت أبي ، وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال : خطأ ، إنما هو قول ابن عمر ، انتهى .
وقال ابن عدي في [الكامل] : هذا الحديث بهذا السند لا يرويه غير إسماعيل بن عياش ، وضعفه أحمد والبخاري وغيرهما ، وصوب أبو حاتم وقفه على ابن عمر ، انتهى . وله طريقان آخران عند الدارقطني : (2) .
أحدهما : عن المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة به .
والثاني : عن محمد بن إسماعيل الحساني عن رجل عن أبي معشر عن موسى بن عقبة به . وهذا مع أن فيه رجلا مجهولا ، فأبو معشر رجل مستضعف إلا أنه يتابع عليه .
وأما حديث جابر : فرواه الدارقطني في [سننه] في ( آخر الصلاة ) من حديث محمد بن الفضل عن أبيه عن طاوس عن جابر مرفوعا نحوه ، ورواه ابن عدي في [الكامل] ، وأعله بمحمد بن الفضل ، وأغلظ في تضعيفه عن البخاري ، والنسائي ، وأحمد ، وابن معين ، ووافقهم حديث يمكن أن يستدل به الطحاوي في إباحة ما دون الآية للجنب ، ورواه أحمد في [مسنده] (3) : حدثنا عائذ بن حبيب ، حدثني عامر بن
__________
(1) [العلل] ( 1\49 )
(2) [سنن الدارقطني] ( 1\ 43 ) .
(3) [المسند] ( 1\ 110 ) .

السمط عن أبي العزيف الهمداني قال : أتي علي بوضوء فمضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، وغسل يديه (1) ثلاثا ، وذراعيه ثلاثا ، ثم مسج برأسه ، ثم غسل رجليه ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ، ثم قرأ شيئا من القرآن ، ثم قال : هذا لمن ليس بجنب ، فأما الجنب فلا ، ولا آية انتهى .
ولكن الدارقطني رواه في [سننه] (2) موقوفا بغير هذا اللفظ ، فأخرجه عن عامر بن السمط ثنا أبو العزيف الهمداني ، قال : كنا مع علي - رضي الله عنه - في الرحبة ، فخرج إلى أقصى الرحبة ، فوالله ما أدري أبولا أحدث أم غائطا ، ثم جاء فدعا بكوز من ماء فغسل كفيه ، ثم قبضهما إليه ، ثم قرأ صدرا من القرآن ، ثم قال : اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة ، فإن أصابه فلا ، ولا حرفا واحدا . انتهى .
قال الدارقطني : هو صحيح عن علي . انتهى .
حديث آخر . في منع القراءة للجنب ، رواه أصحاب السنن الأربعة (3) من حديث عمر بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه -أو لا يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة ، انتهى .
__________
(1) في [المسند] غسل يديه وذراعيه ثلاثا ثلاثا .
(2) [سنن الدارقطني] : ( 1\ 118 ) ، والبيهقي ( 1\ 146 ) .
(3) أبو داود في باب الجنب يقرأ القرآن ( 1\155 ) ، والترمذي في باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا ( 1\ 273 ، 274 ) قال : حسن صحيح . وابن ماجه في باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة ( 1\ 195 ) ، والنسائي في باب حجب الجنب من قراءة القرآن ( 1\ 144 ) ، والحاكم في الأطعمة ، في باب الوضوء قبل الطعام وبعده بركة ( 4\ 107 ) ، وقال : صحيح الإسناد ، والطحاوي : ( 1\ 87 ) ، والطيالسي برقم ( 101 ) ، وأحمد ( 1\ 83 ، 84 ، 117 ) .

قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، ورواه ابن حبان في [صحيحه] ، والحاكم في [المستدرك] ، وصححه ، قال : ولم يحتجا بعبد الله بن سلمة ، ومدار الحديث عليه ، انتهى . قال النووي في [الخلاصة] : قال الشافعي : أهل الحديث لا يثبتونه ، قال البيهقي : لأن مداره على عبد الله بن سلمة ( بكسر اللام ) وكان قد كبر ، وأنكر حديثه وعقله ، وإنما روى هذا بعد كبره ، قاله شعبة . انتهى كلامه (1) .
د- وقال ابن حجر : حديث : روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يقرأ الجنب ، ولا الحائض ، شيئا من القرآن » (2) ، الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ، وفي إسناده إسماعيل بن عياش وروايته عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها ، وذكر البزار : أنه تفرد به عن موسى بن عقبة ، وسبقه إلى نحو ذلك البخاري ، وتبعهما البيهقي ، لكن رواه الدارقطني ، من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى ، ومن وجه آخر ، فيه مبهم ، عن أبي معشر ، وهو ضعيف ، عن موسى ، وصحح ابن سيد الناس ، طريق المغيرة وأخطأ في ذلك ، فإن فيها عبد الملك بن مسلمة ، وهو ضعيف ، فلو سلم منه لصح إسناده ، وإن كان ابن الجوزي ضعفه بمغيرة بن عبد الرحمن ، فلم يصب في ذلك ، فإن مغيرة ثقة ، وأن ابن سيد الناس تبع ابن عساكر في قوله في الأطراف : أن عبد الملك بن مسلمة هذا هو القعنبي ، وليس كذلك ، بل هو آخر .
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ ،
__________
(1) [نصب الراية] ( 1\ 256- 258 ) .
(2) سنن الدارمي الطهارة (998).

وإنما هو ابن عمر ، قوله : وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : هذا باطل ، أنكر على إسماعيل ، وله شاهد من حديث جابر ، رواه الدارقطني مرفوعا . وفيه محمد بن الفضل ، وهو متروك ، وموقوفا ، وفيه يحيى بن أبي أنيسة ، وهو كذاب ، وقال البيهقي : هذا الأثر ليس بالقوي ، وصح عن عمر ، أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب ، وساقه عنه في الخلافيات : بإسناد صحيح (1) .
وقال أيضا : حديث علي بن أبي طالب : لم يكن يحجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن شيء سوى الجنابة . وفي رواية : يحجزه ، أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي ، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي .
وفي رواية للنسائي ، عن الأعمش عن عمرو بن مرة نحوه ، وألفاظهم مختلفة ، وصححه الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي في [شرح السنة], وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قال : هذا الحديث ثلث رأس مالي ، وقال الدارقطني : قال شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه ، وقال البزار : لا يروى من حديث علي إلا عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عنه ، وحكى الدارقطني في [العلل] أن بعضهم رواه عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ، وخطأ هذه الرواية ، وقال الشافعي في سنن حرملة : إن كان هذا الحديث ثابتا ، ففيه دلالة على تحريم القرآن على الجنب ، وقال في جماع كتاب الطهور : أهل الحديث لا يثبتونه ،
__________
(1) [التلخيص الحبير] ( 1\ 138 ) .

قال البيهقي : إنما قال ذلك ؛ لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير ، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر ، قاله شعبة .
وقال الخطابي : كان أحمد يوهن هذا الحديث .
وقال النووي في [الخلاصة] : خالف الترمذي الأكثرون ، فضعفوا هذا الحديث ، وتخصيصه الترمذي بذلك دليل على أنه لم ير تصحيحه لغيره ، وقد قدمنا ذكر من صححه غير الترمذي ، وروى الدارقطني عن علي موقوفا (1) : « اقرءوا القرآن ما لم تصب أحدكم جنابة ، فإن أصابته فلا ولا حرفا » ، وهذا يعضد حديث عبد الله بن سلمة لكن قال ابن خزيمة : لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة ؛ لأنه ليس فيه نهي ، وإنما هي حكاية فعل ، ولا يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما امتنع من ذلك لأجل الجنابة ، وذكر البخاري عن ابن عباس ، أنه لم ير بالقرآن للجنب بأسا ، وذكر في الترجمة قالت عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (2) .
__________
(1) لقد ورد النهي عن قراءة الجنب للقرآن في حديث مرفوع . أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال : ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ . ثم قرأ شيئا من القرآن . ثم قال : '' هكذا لمن ليس بجنب ، فأما الجنب فلا ولا آية '' قال الهيثمي : رجاله موثوقون .
(2) [التلخيص الحبير] ( 1\ 139 ) .

2 -

النقول عن الفقهاء
أ- قال النووي : ( فرع ) في مذاهب العلماء في قراءة الجنب والحائض ، مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن قليلها وكثيرها حتى بعض آية ، وبهذا قال أكثر العلماء ، كذا حكاه الخطابي وغيره عن

الأكثرين ، وحكاه أصحابنا عن عمر بن الخطاب وعلي وجابر - رضي الله عنهم - والحسن والزهري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق .
وقال داود : يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن ، وروى هذا عن ابن عباس وابن المسيب ، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما : واختاره ابن المنذر ، وقال مالك : يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ ، وفي الحائض روايتان عنه :
إحداهما : تقرأ . والثانية : لا تقرأ . وقال أبو حنيفة : يقرأ الجنب بعض آية ولا يقرأ آية ، وله رواية كمذهبنا .
واحتج من جوزه مطلقا بحديث عائشة - رضي الله عنها - : « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه » (1) رواه مسلم ، قالوا : والقرآن ذكر ولأن الأصل عدم التحريم .
واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب ، لكنه ضعيف كما سبق ، وعن عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- عن علي - رضي الله عنه - قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن ولم يكن يحجبه ، وربما قال : يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة » (2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال غيره من الحفاظ المحققين : هو حديث ضعيف ، ورواه الشافعي في ( سنن حرملة ) ثم قال : إن كان ثابتا ففيه دلالة على تحريم القراءة على الجنب .
قال البيهقي : ورواه الشافعي في كتاب جماع الطهور ، وقال : وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه ، قال البيهقي : وإنما توقف الشافعي في ثبوته ؛
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (373),سنن الترمذي الدعوات (3384),سنن أبو داود الطهارة (18),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302),مسند أحمد بن حنبل (6/70).
(2) سنن الترمذي الطهارة (146),سنن النسائي الطهارة (265),سنن أبو داود الطهارة (229),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594),مسند أحمد بن حنبل (1/107).

لأن مداره على عبد الله بن سلمة ، وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة ، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر قاله شعبة ، ثم روى البيهقي عن الأئمة تحقيق ما قال ، ثم قال البيهقي : وصح عن عمر - رضي الله عنه - أنه كره القراءة للجنب ، ثم رواه بإسناده عنه .
وروي عن علي : لا يقرأ الجنب القرآن ولا حرفا واحدا ، وروى البيهقي عن عبد الله بن مالك الغافقي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت ، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل » وإسناده أيضا ضعيف .
واحتج أصحابنا أيضا بقصة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - المشهورة : أن امرأته رأته يواقع جارية له ، فذهبت فأخذت سكينا وجاءت تريد قتله ، فأنكر أنه واقع الجارية ، وقال : أليس قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجنب أن يقرأ القرآن ؟ قالت : بلى ، فأنشدها الأبيات المشهورة فتوهمتها قرآنا فكفت عنه ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فضحك ولم ينكر عليه . والدلالة فيه من وجهين : أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه قوله : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن . والثاني : أن هذا كان مشهورا عندهم يعرفه رجالهم ونساؤهم ، ولكن إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع . وأجاب أصحابنا عن احتجاج داود بحديث عائشة : بأن المراد بالذكر غير القرآن ، فإنه المفهوم عند الإطلاق .
وأما المذاهب الباقية فقد سلموا تحريم القراءة في الجملة ، ثم ادعوا تخصيصا لا مستند له .
فإن قالوا : جوزنا للحائض خوف النسيان ، قلنا : يحصل المقصود

بتفكرها بقلبها (1) .
ب- وقال الشيرازي : ويحرم قراءة القرآن ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن .
ج- وقال النووي : ( الشرح ) : هذا الحديث رواه الترمذي ، والبيهقي من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - وضعفه الترمذي والبيهقي ، وروي لا يقرأ بكسر الهمزة على النهي وبضمها على الخبر الذي يراد به النهي ، وقد سبق بيانه في آخر باب ما يوجب الغسل ، وهذا الذي ذكره من تحريم قراءة القرآن على الحائض هو الصحيح المشهور ، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين ، وحكى الخراسانيون قولا قديما للشافعي : أنه يجوز لها قراءة القرآن .
وأصل هذا القول أن أبا ثور رحمه الله قال : قال أبو عبد الله : يجوز للحائض قراءة القرآن . فاختلفوا في أبي عبد الله فقال بعض الأصحاب : أراد به مالكا وليس للشافعي قول بالجواز ، واختاره إمام الحرمين والغزالي في [البسيط] ، وقال جمهور الخراسانيين : أراد به الشافعي وجعلوه قولا قديما .
قال الشيخ أبو محمد : وجدت أبا ثور جمعهما في موضع ، فقال : قال أبو عبد الله ومالك . واحتج من أثبت قولا بالجواز اختلفوا في علته على وجهين :
أحدهما : أنها تخاف النسيان ؛ لطول الزمان بخلاف الجنب .
__________
(1) [ المجموع] ( 2\182- 183 ) .

والثاني : أنها قد تكون معلمة فيؤدي إلى انقطاع حرفتها ، فإن قلنا بالأول جاز لها قراءة ما شاءت إذ ليس لما يخاف نسيانه ضابط ، فعلى هذا هي كالطاهر في القراءة ، وإن قلنا بالثاني لم يحل إلا ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض ، هكذا ذكر الوجهين وتفريعهما إمام الحرمين وآخرون . هذا حكم قراءتها باللسان ؛ فأما إجراء القراءة على القلب من غير تحريك اللسان والنظر في المصحف وإمرار ما فيه في القلب فجائز بلا خلاف ، وأجمع العلماء على جواز التسبيح والتهليل وسائر الأذكار غير القرآن للحائض والنفساء ، وقد تقدم إيضاح هذا مع جمل من الفروع المتعلقة به في باب ما يوجب الغسل والله أعلم .
( فرع ) : في مذاهب العلماء في قراءة الحائض القرآن . قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور تحريمها ، وهو مروي عن عمر وعلي وجابر - رضي الله عنهم - ، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء وأبو العالية والنخعي وسعيد بن جبير والزهري وإسحاق وأبو ثور . وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد روايتان : إحداهما : التحريم ، والثانية : الجواز ، وبه قال داود .
واحتج لمن جوز بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض ، ولأن زمنه يطول فيخاف نسيانها ، واحتج أصحابنا والجمهور بحديث ابن عمر المذكور ، ولكنه ضعيف وبالقياس على الجنب ، فإن من خالف فيها وافق على الجنب إلا داود . والمختار عند الأصوليين : أن داود لا يعتد به في الإجماع والخلاف ، وفعل عائشة - رضي الله عنها - لا حجة فيه على تقدير صحته ؛ لأن غيرها من الصحابة خالفها ، وإذا اختلفت الصحابة - رضي الله عنهم - رجعنا إلى القياس ، وأما

خوف النسيان فنادر ، فإن مدة الحيض غالبا ستة أيام أو سبعة ، ولا ينسى غالبا في هذا القدر ؛ ولأن خوف النسيان ينتفي بإمرار القرآن على القلب والله أعلم (1) .
د- وقال الخرقي : ( ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء ) .
هـ- وقال ابن قدامة : رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي ، وقال الأوزاعي : لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } (2) { وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا } (3) وقال ابن عباس : يقرأ ورده . وقال سعيد بن المسيب : يقرأ القرآن أليس هو في جوفه ؟ ! وحكي عن مالك : للحائض القراءة دون الجنب ؛ لأن أيامها تطول ، فإن منعناها من القراءة نسيت .
ولنا ما روي عن علي - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجبه أو قال : يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة ، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن » (4) رواه أبو داود والترمذي ، وقال : يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع ، وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز ، وقال : إنما روايته عن أهل الشام ، وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى ؛ لأن حدثها آكد ؛ ولذلك حرم الوطء ومنع
__________
(1) [ المجموع شرح المهذب] ( 2\387, 388 ) .
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 29
(4) سنن الترمذي الطهارة (131),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596).

الصيام وأسقط الصلاة وساواها في سائر أحكامها .
( فصل ) : ويحرم عليهم قراءة آية ، فأما إن كان بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر ، فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس به ، فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى ، ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم ولا يمكنهم التحرر من هذا . وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرأوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان :
( إحداهما ) : لا يجوز ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن ، فقال : لا ، ولا حرفا ، وهذا مذهب الشافعي ؛ لعموم الخبر في النهي ، ولأنه قرآن فمنع من قراءته كالآية .
( والثانية ) : لا يمنع منه وهو قول أبي حنيفة ؛ لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد (1) .
و- وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن ، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال :
قيل : يجوز لهذا ولهذا . وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد .
وقيل : لا يجوز للجنب ، ويجوز للحائض . إما مطلقا ، أو إذا خافت النسيان . وهو مذهب مالك . وقول في مذهب أحمد وغيره ، فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء غير الحديث المروي عن
__________
(1) [ مختصر الخرقي] ومعه [ المغني] ( 1\135- 136 ) .

إسماعيل بن عياش ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر : « لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا » (1) رواه أبو داود وغيره ، وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث .
وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة ، بخلاف روايته عن الشاميين ، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات ، ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن . كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء ، بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد ، فيكبرن بتكبير المسلمين . وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت : تلبي وهي حائض ، وكذلك بمزدلفة ومنى ، وغير ذلك من المشاعر .
وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ، ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك ؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة ، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر . ولهذا ذكر العلماء : ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر ، وان كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك . لكن المقصود : أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب .
فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه ، لأجل العذر . وإن كانت عدتها أغلظ ، فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك .
وإن قيل : إنه نهى الجنب ؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ، ويقرأ
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596).

بخلاف الحائض ، تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن ، تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة ، وليست القراءة كالصلاة ، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر ، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص ، واتفاق الأئمة .
والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة ، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك ، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع رأسه في حجر عائشة - رضي الله عنها - وهي حائض ، وهو حديث صحيح ، وفي [صحيح مسلم] ، أيضا : يقول الله عز وجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : « إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرأه نائما ، ويقظانا فتجوز القراءة قائما ، وقاعدا وماشيا ومضطجعا وراكبا » (1) (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/162).
(2) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ( 21\459- 462 ) .

رابعا :

حكم تعليم الكافر القرآن
اختلف أهل العلم في ذلك : وفيما يلي نقول عنهم يتبين منها أقوالهم وأدلتهم ومنا قشتها .
1 -
النقول من المفسرين
أ- قال الجصاص : قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (1) وقد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام ؛ لأن قوله تعالى : { اسْتَجَارَكَ } (2) معناه : استأمنك ، وقوله تعالى : { فَأَجِرْهُ } (3) معناه : فأمنه
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 6

حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة ؛ لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله ، وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين ؛ لأن الكافر الذي استجارنا ، ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين (1) .
ب- قال القرطبي : قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (2) أي : من الذين أمرتك بقتالهم { اسْتَجَارَكَ } (3) أي : سأل جوارك ، أي : أمانك وذمامك ، فأعطه إياه ليسمع القرآن ، أي : يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه . فإن قبل أمرا فحسن ، وإن أبى فرده إلى مأمنه . وهذا ما لا خلاف فيه ، والله أعلم .
قال مالك : إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال : جئت أطلب الأمان ، قال مالك : هذه أمور مشتبهة ، وأرى أن يرد إلى مأمنه ، وقال ابن القاسم : وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول : ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع . وظاهر الآية : إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام ، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته (4) .
__________
(1) [ أحكام القرآن ] ( 3\103 ) .
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 6
(4) [ تفسير القرطبي ] ( 8\75, 76 ) .

ج- قال ابن كثير : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (1) يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (2) الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم { اسْتَجَارَكَ } (3) أي : استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن تقرؤه عليه ، وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } (4) أي : وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وفى وداره ومأمنه { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } (5) أي : إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ، ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إنسان يأتيك ، ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء ، ومن هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود ، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 6
(4) سورة التوبة الآية 6
(5) سورة التوبة الآية 6

من أكبر أسباب هداية أكثرهم ، ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ " قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك » (1) ، وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له : ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الآن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه ، لا رحمه الله ولعنه . والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه ، لكن قال العلم : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله (2) .
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2761),مسند أحمد بن حنبل (3/488).
(2) [ تفسير ابن كثير ] ( 2\338 ) .

2 -

النقل من البخاري وابن حجر
أ- قال البخاري : ( باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب ؟ أو يعلمهم الكتاب ) حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أخبره : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر وقال :

« فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين » (1) .
ب- قال ابن حجر : ( قوله : باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب ) .
المراد بالكتاب الأول : التوراة والإنجيل ، وبالكتاب الثاني : ما هو أعم منهما ومن القرآن وغير ذلك . وأورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في شأن هرقل ، وقد ذكره بعد بابين من وجه آخر عن ابن شهاب بطوله ، وإسحاق شيخه فيه هو ابن منصور ، وهذه الطريق أهملها المزي في الأطراف وإرشادهم منه ظاهر ، وأما تعليمهم الكتاب فكأنه استنبطه من كونه كتب إليهم بعض القرآن بالعربية وكأنه سلطهم على تعليمه إذ لا يقرءونه حتى يترجم لهم ولا يترجم لهم حتى يعرف المترجم كيفية استخراجه ، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف ، فمنع مالك من تعليم الكافر القرآن ، ورخص أبو حنيفة ، واختلف قول الشافعي .
والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه ، وبين من يتحقق أن ذلك لا ينجع فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين والله أعلم . ويفرق أيضا بين القليل منه والكثير كما تقدم في أوائل كتاب الحيض (2) .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (7),صحيح مسلم الجهاد والسير (1773),مسند أحمد بن حنبل (1/263).
(2) [ فتح الباري ] ومعه [ الصحيح ] ( 6 \81 ) .

3-

النقول من الفقهاء
1 - قال العيني : قال أبو حنيفة : لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن

والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام ، واحتج الطحاوي لأبي حنيفة بكتاب هرقل وبقوله عز وجل : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (1)
وروى أسامة بن زيد : « مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي قبل أن يسلم ، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود فقرأ عليهم القرآن » (2) (3) .
2 - وقال الأبي نقلا عن القاضي عياض : ومنع مالك تعليمهم شيئا من القرآن (4) .
3 - وقال الباجي : ولا يجوز أن يعلم أحد من ذراريهم القرآن ؛ لأن ذلك سبب لتمكنهم منه ، ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجا عليهم ، ولا بأس أن يكتب لهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ ، كما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (5) انتهى . (6) .
واستدل به -أي : بحديث النهي عن السفر بالقرآن- على منع تعليم الكافر القرآن ، وبه قال مالك مطلقا (7) 4 - وفصل بعض المالكية بين القليل ؛ لأجل مصلحة قيام الحجة :
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) صحيح البخاري المرضى (5339),صحيح مسلم الجهاد والسير (1798),سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2702),مسند أحمد بن حنبل (5/203).
(3) [ العيني على البخاري ] ( 4\207 ) , و[ الأبي على مسلم ] ( 5\216 ) .
(4) [ الأبي على مسلم ] ( 5\216 ) .
(5) سورة آل عمران الآية 64
(6) [ المنتقى للباجي على الموطأ ] ( 3\165 )
(7) [الزرقاني على الموطأ ] ( 1\10 ) .

فأجازه ، وبين الكثير فمنعه ، ويؤيده كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل بعض آيات (1) .
5 - وقال الأبي : وحجة المانع : أنه نجس في الحال وعدو لله وكتابه فقد يعرضه للمهانة ، انتهى (2) .
6 - قال النووي : الثانية عشرة : قال أصحابنا : لا يمنع سماع القرآن ويمنع مس المصحف ، وهل يجوز تعليمه القرآن ؟
ينظر إن لم يرج إسلامه لم يجز وان رجي جاز في أصح الوجهين ، وبه قطع القاضي حسين ، ورجحه البغوي وغيره .
والثاني : لا يجوز ، كما لا يجوز بيعه المصحف ، وإن رجي إسلامه . قال البغوي : وحيث رآه معاندا لا يجوز تعليمه بحال ، وهل يمنع التعليم ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني . هما أصحهما : يمنع (3) .
7 - ومحل منع قراءة الجنب إذا كان مسلما ، أما الكافر فلا يمنع منها ؛ لعدم اعتقاده حرمتها ، ولا يجوز تعليمه للكافر المعاند ، ويمنع تعلمه في الأصح ، وغير المعاند إن لم يرج إسلامه لم يجز تعليمه وإلا جاز ، وإنما منع من مس المصحف ؛ لأن حرمته آكد بدليل حرمة حمله مع الحدث ، وحرمة مسه بنجس بخلافها ، إذ تجوز مع الحدث وبفم نجس ، وبذلك علم اندفاع ما في الإسعاد هنا أخذا من كلام المهمات من
__________
(1) [ الفتح ] ( 6\134 ) , [ العيني] ( 14\207 ) ، [ والزرقاني ] : ( 10\10 ) .
(2) [ الأبي على مسلم ] ( 5\216 ) .
(3) [ المجموع ] ( 2\78 ) .

قياسها عليها كما رد ذلك العلامة الجوجري . انتهى (1) .
8 - قوله : ( أما الكافر فلا يمنع منها ) أي : القراءة ، بل يمكن منها ، أما قراءته مع الجنابة فتحرم عليه ؛ لأنه مخاطب بفروع الشريعة خطاب عقاب . انتهى زيادي .
وظاهر كلام الشارح أنه لا يمنع ولو كان معاندا ، وعبارته على [البهجة] : نعم شرط تمكين الكافر من القراءة : أن لا يكون معاندا ، أو رجي إسلامه كما في [المجموع] ، والقياس أيضا منعه من كتابة القرآن حيث منع من قراءته . قوله : ( يمنع تعليمه ) والقياس منعه من التلاوة حيث كان معاندا ولم يرج إسلامه . ولا يشترط في المنع كونه من الإمام ، بل يجوز من الآحاد ؛ لأنه نهي عن منكر وهو لا يختص بالإمام . قوله : ( بخلافها ) أي : القراءة .
قوله : ( من قياسها ) انظر مرجع الضمير فيه وفيما بعده ، ولعله تثنية الضمير في عليهما وعليه فضمير قياسها للقراءة ، وضمير عليهما لمس المصحف وحمله . انتهى (2) .
9 - وقال القليوبي : ويجوز تعليمه لكافر غير معاند ورجي إسلامه ، سواء الذكر أو الأنثى ، وهذا مراد من عبر بقراءته ؛ لأنها بمعنى إقرائه ؛ إذ قراءته لا يمنع منها مطلقا وعبروا في الكافر بعدم المنع من المكث والقراءة ، ولم يعبروا بالجواز لبقاء الحرمة عليه ؛ لأنه مكلف بفروع
__________
(1) [نهاية المحتاج] ( 1\221 ) .
(2) [ حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج ] ( 1\221 ) .

الشريعة ، ويمنع من مس المصحف وحمله ؛ لأن حرمته أبلغ ؛ بدليل جواز قراءة المحدث دون نحو مسه (1) .
10 - وقال ابن قدامة : ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فقه ، فإن فعل فالشراء باطل ؛ لأن ذلك يتضمن ابتذاله ، وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى ، قال مهنا : سألت أحمد أبا عبد الله هل تكره للرجل المسلم أن يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن ؟ قال : إن أسلم فنعم ، وإلا فأكره أن يضع القرآن في غير موضعه ، قلت : فيعلمه أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم . وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة ؛ قال : لا ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ، اهـ (2) .
11 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى : أن من الشروط العمرية : ( ولا نعلم أولادنا القرآن ) .
12 - وقال ابن القيم : صيانة للقرآن أن يحفظه من ليس من أهله ولا يؤمن به ، بل هو كافر به ، فهذا ليس أهلا أن يحفظه ولا يمكن منه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ؛ فلهذا ينبغي أن يصان عن تلقينهم إياه ، فإن طلب أحد منهم أن يسمعه منهم ، فإن له أن يسمعه إياه إقامة للحجة عليهم ، ولعله أن يسلم . انتهى (3) .
__________
(1) [حاشيتا قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين] ( 1\ 95 ) .
(2) [المغني ومعه الشرح الكبير] ( 10\ 624 ، 625 ) .
(3) [أحكام أهل الذمة] ( 2\ 775 ) .

13 - ويمنع كافر من قراءته ولو رجي إسلامه ( قياسا على الجنب وأولى ) . انتهى (1) .
14 - ويمنع في المنصوص كافر القراءة ( هـ ) ولو رجي إسلامه ( ش ) ونقل مهنا أكره أن يضعه في غير موضعه ، قال القاضي : جعله في حكم الجنب . انتهى (2) .
15 - الكافر كالجنب يمنع من قراءته ولو رجي إسلامه ، نقل مهنا أكره أن يضعه في غير موضعه . انتهى (3) هذا ما تيسر ذكره من النقول .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) [ مطالب أولي النهى ] ومعه [الغاية ] ( 1\172 ) .
(2) [ الفروع ] ( 1\203 ) .
(3) [ المبدع على المقنع ] ( 1\188 ) .

( 3 )
حكم الأسورة المغناطيسيةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الأسورة المغناطيسية
إعداد
اللجنة الدائمة للبعوث العلمية الإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسوله محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما رأى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من إدراج موضوع ما يسمى بـ( الأسورة المغناطيسية ) لعلاج الروماتزم ضمن جدول هيئة كبار العلماء في الدورة الثالثة عشرة وإعداد بحث في ذلك - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على ما يلي :
1 - ذكر قاعدة سد الذرائع .
2 - ذكر الأسباب المادية والأسباب الروحية .
3 - ذكر نصوص وآثار جزئية ونقول عن العلماء في ذلك .
وبالله التوفيق .
وفيما يلي ذكر ذلك .

1 -

قاعدة سد الذرائع
الأصل الكلي في تحريم لبس الحلقة وتعليق التمائم والودع والخرز وربط الخيط وما في معنى ذلك من الحروز التي يستشفي بها الجهلة والمبتدعة سد الذرائع .
وقاعدة سد الذراع كلية يقينية ثبتت باستقراء أدلة الكتاب والسنة في جميع أبواب الشريعة عقائد وعبادات ومعاملات وغير ذلك .
وقد أطال ابن تيمية الكلام على الاستدلال عليها بأدلة من جميع أبواب الشريعة ، فاستدل عليها بقوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) وبنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد ، وبالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله ، وبالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها ، وبالنهي عن بيع وسلف وعن اشتراء الإنسان السلعة ممن باعه إياها لأجل بأقل من ثمنها ، وكفه عن قتل المنافقين خشية أن يقال : إن محمدا يقتل أصحابه ، وبتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية ، وبتحريم خطبة المعتدة أو العقد عليها في العدة ، وبحرمان القاتل من ميراث قتيله ، وكقتل الجماعة بالواحد ، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما قد اعتاده فليصمه ، وبإقامة الحدود والتعزيرات سدا للتذرع إلى المعاصي . . . إلى غير ذلك من الأدلة المتنوعة .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21