كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يا معاذ، من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته » .
ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف.
قال ابن القيم : وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث.
الدليل التاسع : روى الدارقطني من حديث زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: « سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » .
ورد هذا الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني : كوفي ضعيف.
وقال ابن القيم : قلت: وفي إسناده مجاهيل وضعفاء.
وأما الإجماع: فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي : الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم... وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة

واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب .
قال أبو بكر الرازي (1) : فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية.
وقال الباجي : من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق .
والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة؛ لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاووس، قال فيه بعض المحدثين: هو وهم، وقد روى ابن طاووس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل. اهـ (2) .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال : إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن
__________
(1) [أحكام القرآن] (1\ 459).
(2) [المنتقى] (4\ 3) .

أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ (1) .
وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) المشروع قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (3) ، وقال ابن رجب في (بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة): (اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد) اهـ. /30
__________
(1) [الناسخ والمنسوخ].
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) [أحكام القرآن] (1\ 81).

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه :
أحدها : ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة) وهذا الإسناد على شرط البخاري ... وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا

غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاووسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاووسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.
أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاووسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة).
فقوله: (إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا) أي: إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان عن ابن عباس بلا شك.
الوجه الثاني : أن هذا مذهب طاووس، قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها . . وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاووس وعطاء أنهما قالا: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة).
الوجه الثالث : أنه قول عطاء بن أبي رباح . وقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاووس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: (إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة).

الوجه الرابع : أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.
الوجه الخامس : أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس « أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة » (1) قال أبو عبد الله : ( وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة).
الوجه السادس : أنه مذهب إسحاق بن راهويه في البكر. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب [اختلاف العلماء] له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاووس عن ابن عباس « كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يجعل واحدة » (2) على هذا قال: (فإن قال لها -ولم يدخل بها-: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء؛ لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها).
وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى : (إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية). فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم:
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

أحدها : أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثاني : أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
الثالث : أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.
الوجه السابع : أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه [الأوسط]: وكان سعيد بن جبير، وطاووس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: (من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة).
الوجه الثامن : أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير .
الوجه التاسع : أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه. قال ابن المنذر : واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة. وهذا الذي ذكره ابن المنذر، رواه عبد الرزاق في [المصنف]، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (1) : وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع
__________
(1) في المطبوعة (ويحطها مقالة جناية) وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر .

فقال: واحدة تبينها... ويخطبها، فقال به حياته (1) .
الوجه العاشر : أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.
الوجه الحادي عشر : أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه.
الوجه الثاني عشر : أنه مذهب مقاتل الرازي (2) حكاه عنه المازري في كتابه [المعلم بفوائد مسلم ] قال الخطيب : حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في [صحيحه] وكان ثقة.
الوجه الثالث عشر : أنه إحدى الروايتين عن مالك . حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب [شرح الخلاف]، وعزاها إلى ابن أبي زيد : أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا.
الوجه الرابع عشر : أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب [الوثائق] وهو
__________
(1) وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه (6\ 332) .
(2) قوله -مقاتل الرازي- كذا بالأصل المطبوع .

مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا: كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.
الوجه الخامس عشر : أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي صاحب كتاب [الوثائق] الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه، قال (البتة) أو لم يقل... قال: وقال بعض الموثقين -يريد المصنفين في الوثائق-: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه... قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : « أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا في مجلس واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها » ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها.
الوجه السادس عشر : أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه [تهذيب الآثار] فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا- ثم ذكر حديث

أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به...؟ ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.
الوجه السابع عشر : أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات : أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض [مصنفاته]: هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد .
قلت : أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.

الوجه الثامن عشر : قال أبو الحسن النسفي (1) في [وثائقه] وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس : أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه.
الوجه التاسع عشر : أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب [مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام] ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا.
ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما.
__________
(1) في نسخة الواسطي .
(2) سورة البقرة الآية 229

قال ابن هشام : قال ابن مغيث : الطلاق ينقسم على ضربين : طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة نقيضه، وهو: أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟
فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود : يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله: ثلاثا لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في (ثلاث) إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، فالطلاق مثله ومثله.
قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة .
وكان من حجة ابن عباس : أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق،

فقال تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) يريد: أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو: الرجعة في العدة، ومعنى قوله: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا، فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره.
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.
من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه... هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها).
الوجه العشرون : أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود وأصحابه، وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس، وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك،
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الطلاق الآية 1

فأباح جمع الثلاث وأوقعها.
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس . ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس : الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك. فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.
وأما الآثار ففتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي شيبة في [مصنفه]: نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتي برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما.
نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب : أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما.
نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال:

ثلاث تحرمها عليك وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، واقسم سائرها بين نسائك.
نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك واقسم سائرهن بين أهلك.
نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: (فما قالوا لك؟) قال: قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله : ( لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان).
نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان.
نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة فقال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية).
نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: (تكلمت بالطلاق؟) قال: نعم. قال: قال عبد الله : (قد بين

الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون).
نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر : من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته.
نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة قال: (بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة).
نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه فلم يجعل له مخرجا).
نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة ؟ فقال: (بانت بثلاث وعليك وزر سبعة وتسعين).
نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة قال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا.
نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل

طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: (يكفيك من ذلك رأس الجوزاء).
نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: (أثم بربه وحرمت عليه امرأته).
نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: (ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل).
وقال سعيد بن منصور (1) : نا خالد بن عبد الله عن سعيد الجريري، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : (لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزمه نفسه، من قال لامرأته: أنت علي حرام فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث). اهـ.
وقال ابن عبد الهادي (2) : وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق وأنه مقبول قوله فقال: فصل: أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فإنه
__________
(1) [سنن سعيد بن منصور] القسم الأول، (3\ 259) .
(2) [سير الحاث] ص 79، 80 .

عمر » (1) ، وفي رواية ذكرها تعليقا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر » (2) وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب » (3) ، وعنده قال ابن وهب : محدثون (ملهمون) وقال الترمذي عن ابن عيينة : قال: يعني: مفهمين. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: « الملائكة على لسانه » والله أعلم.
فصل : قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:
أحدهما : ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه، فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.
الثاني : ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:
أحدها : ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3486),مسند أحمد بن حنبل (2/339).
(2) صحيح البخاري المناقب (3486),مسند أحمد بن حنبل (2/339).
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398),سنن الترمذي المناقب (3693),مسند أحمد بن حنبل (6/55).

الثاني : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما ما وافق لقضاء عمر، فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر .
الثالث : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح، ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.
الرابع : ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة فزوال الحكم بزوالها ووجد مانع يمنع من ذلك الحكم.
قال: فهذه المسألة؛ إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع.
وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علم ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك؟! هذا لا يحل اعتقاده البتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.
__________
(1) في الهامش: لعل صوابه (إخفاء) .
(2) قوله: (حقا) كذا في المطبوعة .

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك عن فتاوى الصحابة في ذلك: فقال (1) : ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله - ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه؛ رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد. فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.
وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر رضي الله عنه وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\ 29- 31) .

فقال عبد الله بن مسعود : (من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم، هو كما تقولون).
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك « تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (1) ، ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة : أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.
فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.
ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (2)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).
(2) سورة الطلاق الآية 2

وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا)، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: (من يخادع الله يخدعه)، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.
فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم - أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.
وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.
وقال أيضا مبينا عذر عمر رضي الله عنه (1) : الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر رضي الله عنه ومن وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان :
النوع الأول : لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 330) وما بعدها.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وساق رحمه الله طائفة من الأمثلة. ثم قال: ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة - فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم؛ ليكفوا عنها. وذلك:
إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفي عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.
وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث.
ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه.
فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه

عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في [مسند عمر]: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) (1) .
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي، الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } (2)
هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك؛ ولذلك قال: (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم). وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه؛ لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله
__________
(1) في سند هذا الأثر خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك. قال في [التقريب]: خالد بن يزيد هذا ضعيف مع كونه فقيها، وقد اتهمه ابن معين، وأبو يزيد صدوق ربما وهم. اهـ.
(2) سورة البقرة الآية 236

تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة. اهـ.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك من وافقه من الصحابة ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث.
وأما القياس :
فقال ابن قدامة (1) : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. اهـ.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس : فقال (2) :
وقولكم: إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 243) .
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 306) .

يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه؛ ولهذا قال من قال من السلف: ( رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامهم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة) ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه؛ كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.
وقال القرطبي : وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو: أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. نقله عنه ابن حجر العسقلاني (1) .
ويرد عليه بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 365) .

فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا. اهـ.

المذهب الثاني (1) : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا:
1 - قال ابن الهمام (2) : وقال قوم: يقع به واحدة هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاووس وعكرمة أنهم يقولون: خالف السنة فيرد إلى السنة .
2 - قال الباجي : (3) : وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق . انتهى المقصود.
3 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (4) :
الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم
__________
(1) يلاحظ أن المذهب الأول سبق في ص 342 من هذا الكتاب.
(2) [فتح القدير] (3\ 65) .
(3) [المنتقى شرح الموطأ] (4\ 3).
(4) [مجموع الفتاوى] (33\ 8)

مثل: طاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ.
4 - قال ابن القيم (1) : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . اهـ.
5 - قال المرداوي (2) : وحكى -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)- عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة، بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد، وأنه كان يفتي به سرا أحيانا . اهـ.
6 - قال ابن القيم (3) : المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما- كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا .
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد
__________
(1) [ زاد المعاد] (4\ 105) .
(2) [الإنصاف] (8\ 453) .
(3) [إعلام الموقعين] (4\ 24، 28، 29) .

بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا، بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس .
وأما التابعون: فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاووس .
وأما أتباع التابعين: فأفتى به محمد بن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي .
وأما أتباع تابعي التابعين: فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما.
وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل .
وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا.
وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه ترك القول به لمخالفة

راويه له.
وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة راويه، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ.
7 - قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (1) : الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب، حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين]، وذكره في [الفروع]، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه [الهدي]، و[إعلام الموقعين]، و[إغاثة اللهفان] وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحكاه أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره. اهـ.
وقال أيضا: (2) : الفصل الخامس -فيمن قال بهذا القول وأفتى به-
__________
(1) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 81 .
(2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 82، 83 .

وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من [إعلام الموقعين] قال: قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه- بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره .
قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (1) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ.
وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس:
الدليل الأول: قال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) إلى قوله تعالى: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3)
وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (4) : قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه -وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له- صح كلامه.
واعلم أن كتاب الله نص صريح: أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا
__________
(1) قبله (وظاهر إجماع ابن حزم.. إلخ) هكذا بالأصل المطبوع .
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) [سير الحاث] ص 90 وما بعدها، ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في [الإغاثة]: (1\ 301) .

يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. والألف واللام في قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) للعهد، والمعهود هنا هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) وهو الرجعي بقوله: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (3) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (4) ، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا.
ثم قال: فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا.
ثم قال: وذلك أن ضمير الآيات في قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (5) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (6) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي: بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجا غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) قوله: (يعرف) كذا في الأصل المطبوع .
(5) سورة البقرة الآية 230
(6) سورة البقرة الآية 229

تحل له، هذا لا يحتل خلافا.
قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.
ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله؛ لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (1) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي، فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ } (2) إتماما لما قبله، أي: متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإيلاء المذكورة قبل هذه الآيات - كان التحريم مختصا بطلاق المولي، ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 229

عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدهما حتى تنكح زوجا غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره. انتهى.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى، والإجابة عنه في كلام الباجي ص 308، وما ذكر عن شيخ الإسلام في ص 313 وكلام ابن القيم في ص 318- 320.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } (2) إلى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (3)
قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه:
الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي: لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2

الثلاث: أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى، طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبنى على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى؛ لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة.
وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة: الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: (فطلقوهن في قبل عدتهن).
قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.

الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } (1) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله؛ ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.
وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقه وقد أسقطها.
والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (2) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن -وهم: الصحابة- أن الأمر هاهنا هو: الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث.
الوجه الخامس: قوله تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2

فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ) كما تقدم -قصده رحمه الله الأثر الذي أشرنا إليه سابقا- وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.
ومضى رحمه الله إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور -أن جمع الثلاث غير مشروع- هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة. اهـ.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى.
وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: روى مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم » (1) .
وفي [صحيحه] أيضا عن طاووس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس :
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

(هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟)
فقال: (قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) وفي لفظ لأبي داود : « أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما، فقال ابن عباس : بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم » (1) .. هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها.
وفي [مستدرك الحاكم] من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، « أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: (أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة ؟) قال: (نعم) » قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاووس عن أبي الصهباء .
وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة :
الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي.
قال الشافعي (2) : بعد سياقه لحديث أبي الصهباء : وأثر ابن عباس في
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) [الأم] اختلاف الحديث: (7\ 301- 305) .

الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني: أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ.
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟
قيل: لا يشبه أن يكون يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر .
قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟!
فإن قيل: فلم لم يذكره؟
قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا يتقصى فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.
قال: فإن قيل: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ؟
قيل - والله أعلم-: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك ما وصفت.
فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟

قيل: نعم، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله لا آويك.. ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق.
وذكر بعض أهل التفسير هذا فلعل ابن عباس أجاب: أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.
قال الشافعي : وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (2) يعني: والله أعلم الثلاث { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه، مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 230

علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.
فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟
قيل: نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة : أنه سمعها تقول: « جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته قال: وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. » (1)
قال الشافعي : فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك » (2) ولو كانت عائشة حسبت طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.
فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
قيل: نعم، عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.
وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي صلى الله عليه وسلم: أن زوجها بت طلاقها: تعني والله
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5487),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3408),سنن أبو داود الطلاق (2309),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/38),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4960),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).

أعلم: أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس لك عليه نفقة » (1) لأنه -والله أعلم- لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاقها ثلاثا معا، قال الشافعي : فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن وكان ثابتا - كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدا.
قال الشافعي : ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ.
وقال أبو داود في [سننه] (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ): حدثنا أحمد بن سعيد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (2) وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس : نعم » (4) .
وقال الطحاوي (5) في (باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا ): حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3222),سنن أبو داود الطلاق (2284),سنن ابن ماجه النكاح (1869),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).
(2) سورة البقرة الآية 228
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2200).
(5) [شرح معاني الآثار] (2\ 32) .

جريج، قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أن الثلاث، كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس : نعم. » (1)
وقال الطحاوي بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. حدثنا بذلك ابن أبي عمران .
قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق -ح- وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس رضي الله عنهما الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر رضي الله عنه ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر رضي الله عنه بذلك الناس جميعا، وفيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معان فجعلها
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

أصحابه رضي الله عنهم من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر، ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معا: أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك. انتهى المراد من كلام الطحاوي .
وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (1) : ( ثم هذا ابن عباس رضي الله عنهما قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا: أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه.
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب : أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق
__________
(1) [شرح معاني الآثار] (3\ 33) .

رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب : أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد : أن بكير بن الأشج أخبر عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري : أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، فاسألهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة : الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير : أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه، فكلهم قالوا: حرمت عليك.
حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير : أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته، إنه اتخذ آيات الله هزوا.
حدثنا علي بن شيبة، حدثنا أبو نعيم، قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن مرزوق، ثنا ابن وهب، قال: ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس : رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) انتهى المراد من كلام الطحاوي .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1

وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ: الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثه الطويل في هذه المسألة قال
(1) : وفي الجملة: فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر : أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 299) .

ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق . اهـ.
واعترض المازري على ذلك، قال: (زعم بعضهم: أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ وحاشاه لبادر الصحابة إلى إنكاره. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر .
قال: فإن قيل: فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك؛ لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك. قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط؛ لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورده المازري .
وأجاب عليه الحافظ بقوله (1) : ( هو متعقب في مواضع:
أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ) أي: اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه،
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 298) .

وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا؛ لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر، بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر، بل وبعدهما طبقة واحدة ). انتهى كلام الحافظ.
وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال (1) : وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه (أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد) فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من
__________
(1) [زاد المعاد] (4\ 117، 118) .

أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟! ثم كيف يقول عمر : (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة) وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم .
وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (1) : وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلما روى عن جابر رضي الله عنه أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا.. فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعي استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟
فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟
قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.
وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله تعالى، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 186، 187) .

تطليقات وأكثر، قال في [سننه]: (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في [التقريب]: صدوق يهم.
وروى مالك في [الموطأ] عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم.
يؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (4) كما جاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229

مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضا، كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } (1) { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } (2)
ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. والذين قالوا بالنسخ قالوا: معنى قول عمر : إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة: أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم: أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث، وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله: (فلو أمضيناه عليهم) يعني: ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: (فنهانا عنها عمر )، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة.
أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6

الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه. فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع. وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة .
أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: (معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) (1) .
وأما الباجي فقال (2) : ( معنى الحديث: أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث طلقات، قال: ويدل على صحة هذا التأويل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله وما عاب
__________
(1) [السنن الكبرى] (7\ 338) .
(2) [المنتقى] (4\ 4) .

عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاووس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاووس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ... انتهى كلام الباجي .
وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (1) : ( معناه: أن الناس. كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث قال: قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها ). انتهى.
وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي: أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا، أي: ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. انتهى كلام القرطبي .
وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (2) .
وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (3) : قيل: معنى حديث ابن عباس أن
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) .
(2) [الفتح] (9\ 299) .
(3) [المغني ومعه الشرح] (7\ 304) .

الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : وأما قول من قال: إن معناه: كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد، ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث؛ لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث. فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما، فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة (ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم ) ؟ ولفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها
__________
(1) [زاد المعاد] (4\ 119) .

جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ؟ فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر فلما رأى الناس -يعني: عمر - قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم) هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما. ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ.
الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها:
فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه] في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه: « أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم. » (1)
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (2) : وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه لفظ
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 298) .

الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق، فالحديث لا يندفع بمثل هذا البتة. اهـ.
وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (1) : وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية .
ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغى العدد لوقوعه بعد البينونة.
وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟
وقال النووي : أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر .
وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها: فقال (2) : ورواية طاووس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاووس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل
__________
(1) [فتح الباري] (9\ 363) .
(2) [إغاثة اللهفان] (1\ 285، 286) .

الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: (كانوا يجعلونها واحدة)؟ فقال له ابن عباس : (نعم) أي: الأمر ما قلت، وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم، لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسؤول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه) لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : وحجة هذا القول: أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في [مراقي السعود]:
وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب
وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود بأنه لا دليل عليه، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار] من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 196- 198) .

بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا.
نعم، لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا من غير المدخول بها فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني: مفهوم المخالفة كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار إليه في [مراقي السعود] في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
وجهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤال أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال.
وقد قدمنا: أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاووس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته، ولذا قال النووي في [شرح مسلم ] ما نصه: وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة رواها أيوب عن قوم

مجهولين عن طاووس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم انتهى منه بلفظه .
وقال المنذري في [مختصر سنن أبي داود ] بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاووس مجاهيل. انتهى منه بلفظه . وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاووس فيها.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [زاد المعاد] بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد. انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم . انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي .
الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك ولا أنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.
قال ابن القيم (1) : وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك من علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه، أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس .
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 291) .

وقال ابن حزم (1) : وأما حديث طاووس عن ابن عباس الذي فيه: أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى الواحدة وتجعل واحدة فليس شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة أو ردها إلى الواحدة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري « كنا نخرج في زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا، وأما نحن فلا » (2) ). انتهى كلام ابن حزم .
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (3) : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك، فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها، ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من
__________
(1) [المحلى، (10\ 462، 463) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1435),صحيح مسلم الزكاة (985),سنن الترمذي الزكاة (673),سنن النسائي الزكاة (2513),سنن أبو داود الزكاة (1616),سنن ابن ماجه الزكاة (1829),مسند أحمد بن حنبل (3/98),موطأ مالك الزكاة (628),سنن الدارمي الزكاة (1664).
(3) [زاد المعاد] (4\ 120) .

هذا؟ وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.
الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق - فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة). انتهى كلام المجد .
وهذا جواب ابن سريح كما قاله الخطابي (2) والمنذري (3) .
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 196) .
(2) [معالم السنن] (3\ 27) .
(3) [المختصر] للمنذري (3\ 1126) .

وقال ابن حجر (1) : هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي : إنه أصح الأجوبة.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (2) : وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا... آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم مطلقا برا كان أو فاجرا.
وأيضا فإن قوله: (إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم، فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول
__________
(1) [الفتح] (9\ 298) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 118، 119) .

مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث ... هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره؟!
ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (1) : وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:
الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات.
وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة: من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟
فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أسعد بظاهر اللفظ.
__________
(1) [أضواء البيان] (1\180-183).

قيل له، وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.
ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة: أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث- إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظه: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في [سننه] لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله - في [زاد المعاد] في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت الحديث.
فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. ا هـ. بلفظه.
وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث، لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة

كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا . . . وبعد أن نقل كلام ابن سريج وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب.
ثم قال: قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاووس المذكور: أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاووس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده - عفا الله عنه -: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال: بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي .
الجواب السادس: عن حديث طاووس عن ابن عباس : أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: (أنا أقول لكم: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ) قاله في فسخ الحج وغيره؛ ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاووس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور . ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (1)
وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (2) : ( وفيه، أي: معاني الحديث للأثرم أيضا في حديث ابن عباس : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال أبو عبد الله : أدفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا ) ا هـ.
وقال البيهقي في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك ) (3) : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس . . . ومنها: ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\158، 159).
(2) [ المسودة] (242).
(3) [السنن الكبرى] (7\337، 338).

محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد : أن سعيد بن جبير أخبره، أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا: حرمت عليك.
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء : أن رجلا قال لابن عباس : طلقت امرأتي مائة فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2

جرير بن حازم، عن أيوب عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك. قال: فإنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، ورواية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن . . . انتهى كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (1) : لا يترك الحديث الصحيح
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\31) وما بعدها.

المعصوم لمخالفة راويه له فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة : « من استقاء فعليه القضاء » (1) ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه- وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية، إلى أن قال - رحمه الله -: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدر بانتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. ا هـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (2) : قال مقيده- عفا الله عنه-: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (720),سنن أبو داود الصوم (2380),سنن ابن ماجه الصيام (1676),مسند أحمد بن حنبل (2/498),سنن الدارمي الصوم (1729).
(2) [ أضواء البيان] (1\189- 191).

أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، قال للأثرم وابن منصور : أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو- ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
فإن قيل: رواية طاووس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب: أن الصحابي إذا خالف ما روى ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد - رحمه الله -: الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به وهو عدل عارف وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء: أن العبرة بروايته لا بقوله فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا، فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاووس المذكور محتمل احتمالا قويا؛ لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج .
فالحاصل: أن ترك ابن عباس لجعل ثلاث بفم واحد واحدة يدل على

أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد . . . واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة : أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة : أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحافظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة. انتهى.

الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها: لفظ البتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.
وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر، قال الخطابي (1) : ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة ؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن
__________
(1) [معالم السنن] (3\237، 238).

حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين، ثم أن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق (البتة) على شاكلته . انتهى كلام الخطابي.
وقال ابن حجر (1) : هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها (البتة) والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن (البتة) إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل فكأن بعض رواته حمل لفظ (البتة) على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر .
الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم، فقال ابن عبد الهادي : قال ابن رجب في كتاب [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] وساق حديث ابن عباس، ثم قال (2) : هذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاووس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد
__________
(1) [فتح الباري](9\299).
(2) [سير الحاث] ص 74.

الراوي بالحديث، وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاووس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور : كل أصحاب ابن عباس، يعني: رووا عنه خلاف ما روى طاووس .
وقال الجوزجاني : هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب اطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي : لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ.
وقال النخعي : كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب : إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال: (شر العلم الغريب) وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.. قال ابن رجب : وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي، كما ذكره في [المغني]، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟!
وقال القاضي إسماعيل في كتاب [أحكام القرآن]: طاووس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب

من كثرة خطأ طاووس
وقال ابن عبد البر : شذ طاووس في هذا الحديث.
قال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاووس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل. انتهى المقصود.
الثاني: أنه منسوخ، وقد سبق ما يغني عن إعادته.
ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (1) : رواية طاووس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب .. قال: وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس .
ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا فقال (2) : فإن قيل: ففي [صحيح مسلم ]، عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه [منها] (3) :
الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\129).
(2) [ أضواء البيان] (192).
(3) ما بين المعقوفتين زيادة من الناشر. ا. هـ.

تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاووس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاووس ؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي انتهى.
وقال ابن حجر (1) : الجواب الثاني: دعوى شذوذ رواية طاووس وهي طريقة البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. انتهى.
وقال ابن التركماني : وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. انتهى.
وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال بعد عرضه لهذا المسلك (2) وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات
__________
(1) [ الفتح] (9\363).
(2) [ إغاثة اللهفان] (1\295، 296).

بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاووس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء.
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده، هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما- حديث ركانة وهو موافق لحديث طاووس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ : أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذا. وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له.
قال الشافعي : (وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات) قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به.. ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم،

والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.
وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلاما يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (1) : نعم، لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه- أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه: أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول أشار إليها في [مراقي السعود] بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: (وخبر الآحاد في السنى).
حيث دواعي نقله تواترا ... نرى لها لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب [جمع الجوامع] عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة . ا هـ منه بلفظه.
ومراده: أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة . اهـ. محل
__________
(1) [ أضواء البيان] (1\193-195).

الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده- عفا الله عنه-: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاووس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاووس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى » (2) ، فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « وإنما لكل امرئ ما نوى » (3) .
__________
(1) قوله:(لأن) كذا بالأصل المطبوع.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).

والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله. والأول أولى وأخف من الثاني.
وقال القرطبي في [المفهم] في الكلام على حديث طاووس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. ا هـ. بواسطة نقل ابن حجر في [فتح الباري] عنه وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى.
الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (1)
وذكر ابن القيم هذا الجواب وناقشه : فقال (2) : وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر، فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في [صحيحه] على خلافه فقال: (باب في من جوز الطلاق الثلاث في كلمة ) لقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهو لا يقر على باطل).
__________
(1) [فتح الباري](9\364).
(2) [إغاثة اللهفان](1\293- 295)
(3) سورة البقرة الآية 229

قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاووس عن ابن عباس، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: (ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة) وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه.
ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاووس، وحدث به ابن طاووس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاووس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: [الجامع المختصر الصحيح], ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم.

وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة- وهو الظاهر- فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا: ( أبو الصهباء ) وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في [المستدرك]، وأما رواية من رواه مقيدا (قبل الدخول) فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: (قبل الدخول) زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق.
الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به ومناقشة ابن القيم له، فاكتفي بذلك عن الإعادة هنا.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في [ المسند] قال: حدثنا سعد بن

إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت قال: فراجعها » (1) ، فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر.
قال ابن القيم (2) ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد): هذا حديث ضعيف، أو قال: واه لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد، هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي، وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم : قال شيخنا - رضي الله عنه -: وأبو داود لما لم يرو في [سننه] الحديث الذي في [مسند أحمد ] يعني: الذي ذكرناه آنفا فقال: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته،
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).
(2) [إعلام الموقعين] (3\40).

ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث البتة. قال الأثرم : قلت لأحمد : حديث ركانة في البتة فضعفه انتهى.
وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية.
الدليل الثالث: قال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس قال: « طلق عبد يزيد- أبو ركانة وإخوته- أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه من كذا وكذا"؟ قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد :"طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا

» (2) .
وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا.
الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة، وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا.
وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر .
ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت.
وأما القياس فقد قال ابن القيم (3) : وأما القياس فإن الله سبحانه وتعالى قال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (4) ثم قال: { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (5) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) سورة الطلاق الآية 1 (1) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
(3) [إغاثة اللهفان] (1\289)
(4) سورة النور الآية 6
(5) سورة النور الآية 8

أربع شهادات أنه كاذب : كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا, فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟! وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قاله الصحابة لماعز : (إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء.
وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال (1) : وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا، وحصلت بها البيونة بانقضاء العدة إجماعا.
وأما الآثار: فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاووس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك، ورواية طاووس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ, ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء بكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف . وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا
__________
(1) [أضواء البيان](1\195،196).

صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح )، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت.
ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا، وذلك في الكلام على وفي استدلال الجمهور بالإجماع.
وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي:
أما ما روى طاووس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاووس التي خولف فيها طاووس (1) قال: وطاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا: إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما: أنها ثلاث، كما قال الله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } (2) أي: الثالثة.
وأما ما روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة) فقد تعقبه أبو دواد في [سننه]
__________
(1) [الناسخ والمنسوخ] ص71
(2) سورة البقرة الآية 230

بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله, ولم يذكر ابن عباس , وجعله قول عكرمة . وعلى فرض ثبوتها فقد رجع ابن عباس عن ذلك, كما صرح أبو دواد قال (1) : وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس : أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا, فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره, قال أبو دواد : وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش : أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقالا: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة - رضي الله عنها - ثم ساق هذا الخبر. قال أبو دواد : وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينهما من زوجها, مدخولا بها أو غير مدخول بها- لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. هذا مثل خبر الصرف قال فيه: ثم إنه رجع عنه , يعني : ابن عباس . اهـ (2) .
وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاووس وعكرمة , حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة, نا إسماعيل , أنا
__________
(1) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] ( 2\226, 227).
(2) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] (2\226 , 227).

أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) قال أبو داود : روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس، وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس كلهم قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير . اهـ.
وقال الباجي : بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (3) ما نصه: قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع . اهـ.
وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) [المنتقى](4\4).

وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك ولم يثبت.
وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم قال (1) : قال تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة.
ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، وقد أدخل مالك في [موطئه] عن علي : أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها!؟ وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة.
قال ابن العربي : لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث،
__________
(1) [مختصر سنن أبي دواد ومعه التهذيب والمعالم](3\128).
(2) سورة البقرة الآية 229

فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. ا هـ.
ذكر ابن القيم ذلك في [إغاثة اللهفان] (1) بقوله: ( لعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق ) انتهى. كلام ابن القيم .
وقال البيهقي في [السنن الكبرى] في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (2) ، أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن هشام، نا علي بن سلمة اللبقي، نا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال: فأتيته فقرعت عليه الباب، فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة،
__________
(1) [إغاثة اللهفان] ص 179.
(2) [السنن الكبرى] (7\339, 340).

قال. فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال أخرج إليك كتابا، فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك ) ا هـ.
وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق)... إلخ، فلا يصلح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين:
أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، وقد قال الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال]، في يزيد بن أبي مالك : صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك . وذكره الحافظ ابن حجر في [تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس] وقال: وصفه أبو مسهر بالتدليس .
الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد : ليس بشيء، وقال النسائي : غير ثقة، وقال الدارقطني : ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى : سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري : سمعت ابن معين يقول بالعراق : كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب [ الديات]

لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة، قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته العطار فأعطى الناس فيه حوائج. وفي [تهذيب التهذيب] للحافظ ابن حجر : قال ابن حبان : كان صدوقا في الرواية، ولكنه كان يخطئ كثيرا، وفي حديثه مناكير لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد عن أبيه، وقال أبو داود : ضعيف، وقال مرة : متروك الحديث، وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. ا هـ.
وأجيب عما نقل عن أهل البيت النبوي في اعتبار الطلاق الثلاث في كلمة واحدة: بما رواه البيهقي (1) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السمان ببغداد، أنا حنبل بن إسحاق بن حنبل، نا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نا مسلمة بن جعفر الأحمسي، قال: قلت لجعفر بن محمد : إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا: (من طلق ثلاثا فهو كما قال) وأخبرنا أبو عبد الله، نا أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد، نا محمد بن عبد الله الحضرمي، نا إسماعيل بن بهرام، نا الأشجعي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد بانت منه. ا هـ.
ونقل السياغي عن صاحب [الأمالي] أنه قال (2) : حدثنا أبو كريب عن
__________
(1) [السنن الكبرى](7\340).
(2) [الروض النظير](4\387).

حفص بن غياث قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق ثلاثا فهي ثلاث، وهو قولنا: أهل البيت) ثم ذكر رواية البيهقي عن شيخه الحاكم المتقدمة.
وقال السياغي من [ الروض النضير]، في وقوع الطلاق بائنا بإرساله ثلاثا بلفظ واحد قال (1) : وهو مذهب جمهور أهل البيت، كما حكاه محمد بن منصور عنهم في [الأمالي] بأسانيده، وروى في [الجامع الكافي] عن الحسن بن يحيى قال: رويناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي - عليه السلام - وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن علي الباقر، ومحمد بن عمر بن علي، وجعفر بن محمد، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله، وخيار آل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ثم قال الحسن : أجمع آل الرسول على أن الذي يطلق ثلاثا في كلمة واحدة أنها قد حرمت عليه، وسواء كان قد دخل بها الزوج أو لم يدخل، ورواه في [ البحر] عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة وعن علي - عليه السلام - والناصر والمؤيد بالله وتخريجه، والإمام يحيى والفريقين ومالك وبعض الإمامية.
قال ابن القيم : وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.
وذهب إليه ابن حزم في [المحلى] وأطال الاحتجاج عليه. انتهى المراد من [الروض النضير].
__________
(1) [الروض النظير](4\379).

المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة :
وذكر ابن القيم أنه أخذ بالحديث الوارد في التفرقة: إسحاق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها.
وهذا المذهب مبني على ما رواه أبو داود في [سننه]: أن رجلا يقال له: أبو الصهباء وكان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما -؟ فقال ابن عباس : (بلى « كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما - فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم » (1) .
قال ابن القيم : رأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي بالصهباء في غير المدخول بها، قالوا: ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس. انتهى.
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في الجواب الثالث من الأجوبة على حديث ابن عباس، وهو الدليل الأول للمذهب الثاني . . .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا :
لأن إيقاع الطلاق على ذلك الوجه بدعة محرمة فهو مردود لحديث: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) وقد حكي هذا القول للإمام أحمد فأنكره وقال: (هو قول الرافضة )، كما نص عليه ابن القيم في [زاد المعاد] وذكر بأن القول بعدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، قال: وحكوه عن جماعة من أهل البيت، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (الفرق بين الطلاق الحلال والحرام) أن القول بعدم الوقوع محدث مبتدع، قاله بعض المعتزلة والشيعة ولا يعرف عن أحد من السلف. اهـ.
وقال ابن رجب في كتابه [جامع العلوم والحكم] في شرحه لحديث: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (2) : قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: (هذا قول سوء رديء) ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.
وقال أبو عبيد : الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم، ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم . اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).
(2) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).

وفيما يلي كلام مجمل لابن تيمية في المسألتين:
قال (1) : (الأصل الثاني) أن الطلاق المحرم الذي يسمى (طلاق البدعة) إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه، وقال آخرون: لا يقع، مثل طاووس، وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وأهل الظاهر كداود وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر: داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث، ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلاث إذا أوقعها جميعا، بل يقع منها واحدة.
ولم يعرف قوله في طلاق الحائض ولكن وقوع الطلاق جميعا قول طوائف من أهل الكلام والشيعة، ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول: إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلا، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها وأنه لا يقع إلا واحدة.
ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك . وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع، وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت أنه
__________
(1) [مجموع الفتاوى](33\81 - 98).

يقع. وروي ذلك عن زيد .
وأما (جمع الثلاث) فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة، روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين وغيرهم، وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتابه الذي سماه: [المقنع في أصول الوثائق وبيان ما في ذلك من الدقائق]: وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق . ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وذلك لأن قوله: (ثلاثا) لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح، ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا، يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله تعالى فقال: أحلف بالله تعالى ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كله عن ابن وضاح، يعني: الإمام محمد بن وضاح

الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة؛ ويحيى بن معين، وسحنون بن سعيد، وطبقتهم، قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة، وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس .
قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك، وكان يفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في [صحيحه] وأبو داود وغيرهما عن طاووس، عن ابن عباس أنه قال: « كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب : (إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم » (1) .
وفي رواية: « أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه » (2) .
والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك، مثل حديث يروى عن
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه.
وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث، وجواب المستدلين: أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فالمرفوع « أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فردها عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -) » (1) قال الإمام أحمد بن حنبل في [مسنده]: حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف طلقتها؟ "قال: فقال: طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد "؛ قال: نعم، فقال: "فإنها تلك واحدة، فارجعها إن شئت " قال: فراجعها » (2) ، وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر.
قلت: وهذا الحديث قال فيه ابن إسحاق : حدثني داود، وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري، وابن إسحاق إذا قال: حدثني، فهو ثقة عند أهل الحديث، وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).

[السنن]، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد، فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد . وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر.
وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، ونافع بن عجير : أنه طلقها البتة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه، فقال: (ما أردت إلا واحدة)؟ فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم، وقال أحمد بن حنبل : حديث ركانة في البتة ليس بشيء، وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة ؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس (أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) ، وأهل المدينة يسمون (ثلاثا) البتة، فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء.
وبهذا الإسناد روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول) وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء، وابن إسحاق إذا قال:

حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث، إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روى أبو داود في [سننه] هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاووس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاووس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه.
وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي، أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه: أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه: أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في الإلزام بالثلاث، وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر - رضي الله تعالى عنه -، وهو: أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله تعالى عليهم استحقوا العقوبة على ذلك

فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم، وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها، كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما قاتل علي بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق.
وعمر بن الخطاب ومن وافقه- كمالك وأحمد في إحدى الروايتين- حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه: إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، إما أن يكون رآه شرعا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلا.
وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة : هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع، أو

كان قد نهى عن الفسخ، لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة؟ وعلى التقديرين فالصحابة قد نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم: في المتعة وفي الإلزام بالثلاث، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. كما أن عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما: عمار، وأبو موسى، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر (1) , والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به.
والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو: أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمه؛ كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة: فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك ؛ لأنه قول
__________
(1) أي : في [ الفتاوى ] أو غيرها من كتب شيخ الإسلام . اهـ. ( الناشر )

محرم، وأوجب فيه الكفارة.
وأما الطلاق فجنسه مشروع: كالنكاح والبيع، فهو يحل تارة، ويحرم تارة، فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح، والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم: كان مقتضى ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق، إلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد .
ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا: هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك، ومن نازعهم يقول: ما زال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها، فإن الاعتبار بما رووه، لا بما رأوه وفهموه، وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: (فاقدروا له) وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث: « البيعان بالخيار » (1) مع أن قوله هو ظاهر الحديث، وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله تعالى: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (2) وقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس : أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روى حديث بريرة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه، ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (1973),صحيح مسلم البيوع (1532),سنن الترمذي البيوع (1246),سنن النسائي البيوع (4464),سنن أبو داود البيوع (3459),مسند أحمد بن حنبل (3/402),سنن الدارمي البيوع (2547).
(2) سورة البقرة الآية 223

ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع، لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.
قال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة؟ أو يقع ثلاث؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها: من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحري المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه.
وقد ذكرت أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث من عصى الله تعالى بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (2)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3

فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم- فهذا لا يستحق أن يعاقب، وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه، وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله.
و ( نكاح التحليل ) لم يكن ظاهرا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل العن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له ) والعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي ؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل، أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له، والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه، فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح حديث صحيح، هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره.
فلما لم يكن على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - تحليل ظاهر، ورأى في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم- فعل ذلك باحتهاده، أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم- بالنص

وإجماع الصحابة- والاعتقاد، وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن يزال مفسدة حقيقية بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال، كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أولى؛ ولهذا كان طائفة من العلماء- مثل: أبي البركات - يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا؛ إما لكونهم رأوه من (باب التعزير) الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس، وإما لاختلاف اجتهادهم: فرأوه تارة لازما وتارة غير لازم.
وبالجملة: فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته (شرعا لازما) إنما (1) لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال ؛ كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات ، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك : أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة.
وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم: أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما
__________
(1) هكذا في ( فتاوى شيخ الإسلام ) -(33\93) ولعل حذفها أولى . اهـ ( الناشر).

تقول النصارى : من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد.
وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - (شرعا معلقا بسبب) إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ؛ لما روي عن عمر : أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك.
و ( متعة الحج ) قد روي عن عمر أنه نهى عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا (1) : إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من
__________
(1) القول الأول

الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء : كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا (1) : بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا، متبدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة . و (القول الثالث): أن الفسخ جائز، وهو أفضل، ويجوز أن لا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف؛ كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ.
فأما حج المفرد والقارن: ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة.
وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك؛ وأنكر علي على ابن عباس إباحة المتعة، قال: إنك امرؤ تائه، « إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، » (2) فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه علي ذلك. وذكر له: « أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية » (3) :
__________
(1) القول الثاني
(2) صحيح البخاري المغازي (3979),صحيح مسلم النكاح (1407),سنن الترمذي النكاح (1121),سنن ابن ماجه النكاح (1961),مسند أحمد بن حنبل (1/142),سنن الدارمي النكاح (2197).
(3) صحيح البخاري النكاح (4825),صحيح مسلم النكاح (1407),سنن الترمذي النكاح (1121),سنن ابن ماجه النكاح (1961),مسند أحمد بن حنبل (1/142),سنن الدارمي النكاح (2197).

ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية.. وأما تحريم المتعة، فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليمص الأمر كذلك.
فقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة وهو باطل، فإن هذا كان على عهد أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك، وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء، وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا، وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثابتة هي مع من أنكره، وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما قيل له: فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، فإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح.
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من (وجهين): من جهة: أن العقوبة بذلك: هل تشرع؟ أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق علي الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس، ومن جهة: أن العقوبة إنما تكون لمن

يستحقها، فمن كان من (المتقين) استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا فإنه من (المتقين). في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة، وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين (1) ، وإنما نبهنا عليها هنا تنبيها لطيفا.
والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين:
إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة؛ كالزيادة على أربعين في الخمر.
وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم.
وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعا لازما، كسائر الشرائع: فهذا لا يقوم فيه دليل شرعي، وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضا، إذا كان ممن اتقى الله وتاب من البدعة.
__________
(1) أي : من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الناشر).

الخلاصة
اتفق الفقهاء: على أن طلاق السنة بالنسبة لعدد الطلاق : أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة مدخولا بها أم غير مدخول بها، ثم له أن يمسك المدخول بها فيراجعها ما دامت في العدة، وله أن يتركها، فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وهذا هو التسريح لها بإحسان.
واتفقوا أيضا: على أنه إذا عاد إلى مطلقته برجعة أو عقد ثم طلقها طلقة واحدة فطلاقه طلاق سنة، ولو فعل مثل هذا مرة ثالثة كان طلاقه طلاق سنة باتفاق.
واختلفوا فيما لو طلق امرأته ثلاثا: بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا مثلا هل هو طلاق بدعة أو لا؟
واختلفوا أيضا: فيما لو طلق المدخول بها طلقة ثم أتبعها أخرى في نفس الطهر أو الطهر الثاني أو الثالث قبل أن يراجعها، هل هو طلاق بدعة أولا؟
ومحل البحث ما لو قال لها في لفظ واحد: أنت طالق ثلاثا مثلا، هل هو بدعة ممنوعة أو لا؟ وهل يعتد به أو لا؟
فهاتان مسألتان في كل منهما خلاف بين العلماء.
وفيما يلي خلاصة القول فيهما:

المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة
وفيه قولان:
1 - القول الأولى: وهو قول الحنفية، والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول ابن تيمية، وابن القيم .
وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى والقياس:
أما القرآن : فمنه قوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ } (2) قيل: المراد الأمر بتفريق الطلقات الثلاث على أطهار العدة الثلاثة، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع نهي تحريم أو نهي كراهة، فكان جمع الثلاث في طهر واحد بدعة ممنوعة.
وذكر ابن تيمية : أن الله لم يبح في هذه الآية إلا الطلاق الرجعي، لقوله تعالى: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3) والأمر: هو الندم على الطلاق، والرغبة في الرجعة، ولقوله تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
فخير سبحانه بين الرجعة قبل انقضاء العدة دون مضارة للزوجة وبين
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2

تركها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وأنه سبحانه لم يبح فيها إلا الطلاق للعدة، فإرداف الطلاق للطلاق في العدة ولو في طهر آخر ممنوع، لقوله تعالى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إذ المعنى: الأمر بطلاقهن مستقبلات عدتهن، ومن طلق زوجته الطلقة الثانية في طهرها الثاني، والثالثة في طهرها الثالث- بنت مطلقته على ما مضى من عدتها ولم تستأنف العدة للثاني ولا للثالث، فلم يكن طلاقا للعدة، فكان غير مشروع، ومنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2)
ووجه الاستدلال: أن هذه الجملة خبرية لفظا طلبية معنى، لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة ولغة العرب، فالمعنى: إذا عزمتم الطلاق فطلقوا مرة بعد مرة، إذ لا يقال لمن دفع درهمين لإنسان دفعة أنه أعطاه مرتين، إلى غير هذا من النظائر، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع فكان ممنوعا.
فإن قيل: إذا كان كل الطلاق في دفعتين كان الواقع منه في دفعة طلقتين، وفي الأخرى طلقة، فكان الجمع بين طلقتين مشروعا، وإذا يكون الجمع بين الثلاث مشروعا، إذ لا فرق.
فالجواب: أن الآية أمرت بتفريق الطلقتين من الثلاث لا بتفريق الثلاث بدليل ما ذكر بعد من مشروعية الرجعة، وفي معناه ما قيل: من أن المراد: أوقعوا الطلاق الرجعي المذكور في قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (3) الآية, مرة بعد مرة، ومن طلق ثلاثا أو طلقتين
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 228

دفعة لم يفعل ما أمر به فكان مبتدعا في طلاقه، كما أن من قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين عقب المكتوبات مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار كل من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة لم يكن آتيا بما أمر به كما أمر، فكان مبتدعا.
وقيل في وجه الاستدلال بالآية: إن المراد: الإخبار عن صفة الطلاق الشرعي، والألف واللام في الطلاق للحصر فيقتضي ذلك المنع من الطلاق على غير هذه الصفة؛ لكونه بدعة مخالفة للشرع.
فإن قيل: المراد الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وما زاد فليس برجعي، يدل عليه قوله بعد ذلك: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
أجيب: بأنه لو كان المراد ما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، سواء أوقعهما الزوج مجتمعتين أم مفترقتين، فلما قال { مَرَّتَانِ } (2) اقتضى إيقاعه مفترقا، وثبت أن المراد الإخبار عن صيغة إيقاعه.
فإن قيل: لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به تضعيف العدد دفعة دون تكرار الفعل، كما في قوله تعالى: { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) ونحوها، فإن المراد: تضعيف العدد لا تفريق الأجر.
أجيب: بأن المراد نؤتها أجرها مرة بعد مرة، كما روي عن بعض
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الأحزاب الآية 31

السلف، وعلى تقدير: أن المراد في الآية: تضعيف العدد دفعة يقال: إن الأصل فيما ذكر تكرار الفعل، إلا إذا دل دليل على إرادة تضعيف العدد فيعدل إليه استثناء، كما في آية { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (1) وما عداه يبقى على الأصل، على أنه لو أريد بقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) تضعيف العدد دفعة، لمنع الزوج من إيقاع طلقة مفردة، وهذا باطل بإجماع.
وأجيب أيضا : بأن الفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان، فلا يتصور فيه الجمع، كآية الطلاق، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فيتصور فيه الجمع، كما في آية { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) وآية { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } (4) ونحوهما، ومنه قوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (5) الآية.
وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، لوقوعه في حيز الشرط، فعلم أن جمع الثلاث غير مشروع.
ومن السنة: حديث « تزوجوا ولا تطلقوا » إلخ، قيل: نهي عن الطلاق لأمر ملازم له لا لعينه؛ لأنه بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، والمراد والله أعلم: الجمع بين طلقتين أو أكثر في طهر والطلاق في الحيض، ولكن هذا الحديث ضعيف فلا يشتغل بمناقشته (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة التوبة الآية 101
(5) سورة البقرة الآية 232
(6) ذكره السيوطي في [الجامع الصغير] وضعفه

ومنها: ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه: قال: سمعت محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: « فعلته لاعبا ثم قال: تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ » (1) وإسناده على شرط مسلم، ودلالة متنه على المنع ظاهرة.
وأعترض عليه: أولا: بأن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب.
وعورض ذلك: بقول من قال سمع من أبيه، ومعه زيادة علم وإثبات فيقدم، وعلى تقدير أنه لم يسمع من أبيه، وإنما رواه من كتابه وكان كتاب أبيه عنده محفوظا مضبوطا- فقد انعقد الإجماع على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عند راويه أنه من كتابة شيخه، بل الرواية من الكتاب المصون أوثق، فإن الحفظ يخون والنسخة الثابتة المحفوظة لا تخون، وقد أطال ابن القيم الكلام على توثيق مخرمة، واعتبار الرواية من الكتاب وصحة الاحتجاج بها.
واعترض ثانيا: بأن محمود بن لبيد وإن كان صحابيا إلا أنه لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه مرسلة.
وأجيب: بأن مرسل الصحابي مقبول، فصح الاحتجاج بالحديث.
ومنها: حديث عبادة بن الصامت: « أن قوما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أبانا طلق امرأته ألفا، فقال: بانت امرأته بثلاث في معصية لله، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة » .
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).

وأجيب : بأن في سنده رجالا مجهولين وضعفاء، فلا يصلح للاحتجاج به.
ومنها: حديث علي قال: « سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » فدل غضبه على المنع من جمع الثلاث بلفظ صريح أو كناية.
وأجاب الدارقطني : بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، وهو ضعيف.
وقال ابن القيم : في سنده مجاهيل وضعفاء، فلا يصح الاحتجاج به.
ومنها: « أن ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها قال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي؟ قال: لا، بانت منك، وهي معصية » (1) .
وأجيب: بأن في سنده شعيب بن رزيق وقد تكلموا فيه، وتفرد في هذا الحديث عن الثقات بزيادة قوله: أرأيت لو طلقتها ثلاثا. إلخ.. فلم يأت أحد منهم في روايته لهذا الحديث بما أتى به؛ ولذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن.
وأما الإجماع: فقد أنذر عمر من يأتيه وقد طلق امرأته ثلاث تطليقات مجموعة بأن يوجعه ضربا، وحكم كثير من الصحابة بأن من يطلق ثلاثا مجموعة أو أكثر فقد عصى ربه، واستنكروا ذلك من فاعله وجعلوه متعديا
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1471),مسند أحمد بن حنبل (2/124).

لحدود الله، وانتشر ذلك عنهم دون نكير، فكان إجماعا على المنع من جمع ثلاث طلقات فأكثر دفعة.
وأما المعنى: فمن وجهين:
الأول: أن النكاح عقد مصلحة، والطلاق إبطال له، فكان مفسدة، والله لا يحب الفساد.
الثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل واجب، وفي الطلاق قطع للسنة أو تفويت للواجب، فكان الأصل فيه الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص فيه للدواعي الطارئة كتوقع مفسدة من استمرار النكاح أشد من مفسدة الطلاق، فيرتكب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما، لكن يقتصر من ذلك على طلقة واحدة، إذ بها تندفع المفسدة، وما زاد عليها فيبقى على الأصل، وهو المنع، ويشهد لكون الأصل في الطلاق الحظر حديث: « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
وأما القياس : فلأن التطليق ثلاثا دفعة فيه تحريم البضع من غير حاجة فأشبه الظهار، فكان ممنوعا، ولأن فيه ضررا وإضرارا بنفسه وبامرأته، فأشبه الطلاق في الحيض فكان ممنوعا.
2 - القول الثاني: أن جمع الطلاق الثلاث في كلمة ليس بمحرم ولا بدعة:
وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1187),سنن أبو داود الطلاق (2226),سنن ابن ماجه الطلاق (2055),مسند أحمد بن حنبل (5/283),سنن الدارمي الطلاق (2270).

واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والآثار والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (1) وقوله تعالى: { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (2) وقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } (3) فهذه تعم إباحة الثلاث والاثنتين، فإنه تعالى لم يخص مطلقة طلقة واحدة من مطلقة ثلاثا، فليس لأحد أن يخصها إلا بدليل.
ويمكن أن يقال: إن المقصود في الجمل الشرطية الحكم بما تضمنه الجواب على تقدير تحقق فعل الشرط، بقطع النظر عن كون فعل الشرط مطلوب الحصول أو مباحا أو ممنوعا، وعلى هذا يكون القصد من آية { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (4) الحكم بتحريم الزوجة على زوجها الذي طلقها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، وقد يكون طلاقها المرة الثالثة مأذونا فيه كما لو طلقها في طهر لم يمسها فيه طلقة، وقد يكون محرما كما لو طلقها المرة الثالثة في حيض مثلا، ويكون القصد من آية { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (5) عدم وجوب العدة على تقدير حصول الطلاق
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة الأحزاب الآية 49
(3) سورة البقرة الآية 241
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة الأحزاب الآية 49

قبل الدخول، أما كون طلاقها مباحا أو محرما فيفهم من أمر آخر، وأما آية: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } (1) فالقصد منها إثبات المتعة للمطلقة، وجوبا أو ندبا، لا بيان حكم الطلاق، فقد يكون محرما وتثبت لها المتعة وقد يكون مباحا كما تقدم.
وبهذا يتبين: أن الآيات الثلاث ليست أدلة في محل النزاع.
وأما السنة: فمنها « حديث فاطمة بنت قيس، وفيه أن زوجها طلقها ثلاثا أو طلقها البتة وهو غائب وبعث إليها وكيله بشعير نفقة لها، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لك عليه نفقة » (2) . فلم يعب - صلى الله عليه وسلم - الثلاث مع الإجمال فيما بلغه من خبر الطلاق ولم يستفسر عن كيفيته، ولفظ البتة هنا مراد به: الثلاث، وإلا لم تسقط نفقتها ولا سكناها.
وأجيب: برواية الزهري هذا الخبر عن أبي سلمة، وفيه ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، وبرواية الزهري أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود : أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، فذكر الخبر، وفيه: أن مروان أرسل إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته، وذكر باقي الخبر، فكان هذا تفسيرا لما في الثلاث أو البتة من الإجمال، وأن ذلك لم يكن مجموعا، وأعل ابن حزم الرواية الثانية بالانقطاع؛ لعدم التصريح بالتحديث أو السماع.
__________
(1) سورة البقرة الآية 241
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3222),سنن أبو داود الطلاق (2284),سنن ابن ماجه النكاح (1869),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).

ويمكن أن يقال: إن ظاهرها الاتصال؛ لأنها في حكم الرواية بها لمتعته ونحوها، فصلحت تفسيرا للإجمال.
وقال ابن حزم أيضا: إن كلا الخبرين ليس فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك.
ويمكن أن يقال: إن الأصل بيان السائل الثقة الورع لواقع أمره، وخاصة الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لتطمئن النفس إلى موافقة الجواب للواقع، وعلى تقدير الاحتمال في حديث فاطمة فحمله على ما كان شائعا كثيرا- وهو إفراد الطلاق- أولى من حمله على النادر وهو جمع الثلاث في كلمة.
ومنها: حديث تلا عن عويمر وامرأته، وفيه أنه طلقها ثلاثا بعد اللعان قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان جمع الثلاث ممنوعا لبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاص بجمع الثلاث، وعلمه الطلاق المشروع.
وأجيب: بأنه لما لم يصادف طلاقه محلا لم ينكر عليه، فإنها صارت أجنبية منه لا تحل له أبدا بتمام اللعان لا بالطلاق الثلاث وإلا لحلت له بعد أن تنكح زوجا آخر، وقد أيد ذلك فيما سبق في حديث محمود بن لبيد من إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، وبهذا يجمع بين خبري الإنكار والسكوت بحمل أحدهما على طلاق صادف محلا والآخر على ما إذا لم يصادف محلا.
وأما قول سهل : فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله: فمضت السنة بعد في

المتلاعنين أن يفرق بينهما. فسيأتي الكلام عليه في موضعه من المسألة الثانية.
ومنها: حديث المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، والأخرى التي بت زوجها طلاقها. وقد تزوجت كلا منهما بعد ذلك ثم طلقت قبل أن يجامعها، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » (1) فدل عدم نقل الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق الرجل امرأته ثلاثا أو بت طلاقها على جواز الجمع بين الثلاث، إذ لو كان ممنوعا لأنكره، ولو أنكره لنقل.
أجيب: أن اللفظ محتمل أن تكون الثلاث مجتمعة وأن تكون مفرقة، ولفظ البتة يعبر به عن الثلاث، وقد ثبت أن كلا منهما قد طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فليس في ذلك دليل لجواز جمع الثلاث.
وأما الآثار: فمنها: ما روي أن عمر - رضي الله عنه - استفتي فيمن طلق امرأته البتة، فاستحلفه عما أراد، فحلف أنه أراد واحدة فردها إليه، ولم يقل له لو أردت ثلاثا لعصيت ربك.
وأجيب: بأن عمر أنكر عليه بقوله: ما حملك على هذا، وبتلاوة قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } (2) ورد الجواب بأنه أنكر عليه عدوله في الطلاق عن اللفظ الصريح إلى لفظ محتمل وهو البتة.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2496),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) سورة النساء الآية 66

ومنها: أن عثمان لم ينكر على عبد الرحمن بن عوف طلاقه امرأته ثلاثا. ومنها: أن أبا هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة وعبد الله بن الزبير لم ينكروا على من استفتى في طلاق الثلاث ولم يعيبوا عليه ذلك ولم يقل أحد منهم لمن استفتاه في ذلك بئس ما صنعت، وما روي من إنكار ابن عباس وغيره من الصحابة على من طلق امرأته مائة أو ألفا فإنما إنكاره لما زاد عما جعل إليه من الثلاث، وروي ما يوافق ذلك عن شريح والشعبي وغيرهما من التابعين، وقد يقال: يرد هذا ما روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين أنهم أثموا من طلق ثلاثا، وقالوا: إنه عصى ربه، وتوعدوا من يطلق ثلاثا في مجلس واحد بالأذى، كما روي عنهم ذلك فيمن تجاوز الثلاث في طلاقه، وإذا فليس الإنكار خاصا بما زاد على الثلاث.
وأما المعنى: فإن الشرع قد جعل الطلاق إلى الزوج يمضي منه ما شاء ويبقي ما شاء، دون أن يكون عليه في ذلك حرج، كما أنه لا يحرم عليه أن يعتق ما شاء من عبيده ويتصدق بما شاء من ماله ويبقي من ذلك ما شاء، بل له أن يأتي على ذلك كله.
وأجيب: بأن الأصل فيما ذكر أنه من القربات، فله أن يفعل من ذلك ما شاء ويؤجر عليه ما لم يضر بنفسه، بخلاف الطلاق فإن الأصل فيه الحظر لما تقدم؛ ولأنه أبغض الحلال إلى الله وقد شرع على صفة معينة، فينبغي التزامها في إيقاعه.

المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفيه مذاهب:
المذهب الأول : أنه يقع ثلاثا وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والقياس:
أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) فإنه يدل على أنه إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، في طهر لزمه اثنتان، وإذا فيلزمه اثنتان إذا أوقعهما معا في كلمة واحدة (2) ؛لأنه لم يفرق بين ذلك أحد، وأيضا حكم الله بتحريمها عليه بعد الثالثة في قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (3) الآية، ولم يفرق أحد بين إيقاعها في طهر أو أطهار، فوجب الحكم بإلزامه بالجميع على أي وجه أوقعه، مباح أو محظور.
واعترض: بأن المراد بالآية: الطلاق المأذون فيه، وإيقاع الثلاث معا غير مأذون فيه، فكيف يستدل بها في الإلزام بطلاق وقع على غير الوجه المباح وهي لم تتضمنه؟
وأجيب: بأنها دلت على الأمر بتفريق الطلاق، ولا مانع من دلالتها
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) وكذا الثلاث إذا أوقعها معا
(3) سورة البقرة الآية 230

على الإلزام به من جهة أخرى إذا وقع على غير الوجه المأمور به.
واعترض أيضا: بأن قوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) بين المراد من آية الاستدلال، وأن الطلاق إنما يكون للعدة، فمتى خالف ذلك لم يقع طلاقه.
وأجيب: بأنا نثبت حكم كل من الآيتين فنثبت بآية { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) أن الطلاق المسنون ما كان للعدة، ونثبت بآية { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) أن من طلق لغير العدة أو جمع بين الثلاث لزمه ما فعل، وبذلك نكون قد أخذنا بحكم كل من الآيتين، على أن آخر آية الطلاق للعدة وهو قوله تعالى: وتلك حدود الله ... الآية يدل على وقوع الطلاق لغير العدة، فإنه لو لم يلزمه لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه ولا بطلاقه، كما أن قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (4) يدل على ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الدليل الثاني إن شاء الله.
واعترض أيضا: بأن الزوج لو وكل من يطلق طلاقا مفرقا على الأطهار فجمع الثلاث في طهر لم يقع لكونه غير مأمور به فكذا الزوج.
وأجيب: بالفرق بينهما، فإن الزوج يملك الطلاق الثلاث، وإيقاعه على غير الوجه المشروع لا يمنع من إلزامه به كالظهار والردة، أما الوكيل فلا يملك من الطلاق إلا ما ملكه موكله ولا يملك إيقاعه إلا على الوجه
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الطلاق الآية 2

الذي وصفه له موكله ، إذ هو معبر عن موكله وتلزمه حقوق ما يوقعه ، وسيأتي لهذا مزيد بحث .
واستدل أيضا بعموم قوله تعالى في الآية : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) على أنه يتناول إيقاع الثلاث دفعة .
وأجيب عن وجوه الاستدلال بالآية :
أولا : بأن تسريح المطلقة طلاقا رجعيا بإحسان تركها بلا مضارة لها حتى تنقضي عدتها ، لا طلاقها مرة أخرى قبل رجعتها ، وما روي مرفوعا من تفسير التسريح بالإحسان بطلاقها الثالثة فمرسل .
ثانيا : بأن من العلماء من فرق بين إيقاع الطلاق مفرقا في طهر أو مجموعا ، وبين إيقاعه مفرقا في أطهار دون سبق رجعة ، وإيقاعه مفرقا في أطهار مع سبق كل برجعة ، فدعوى عدم الفرق مخالفة للواقع .
ثالثا : بأن الله جعل الطلاق إلى الزوج لكن على أن يوقعه مفرقا مرة بعد مرة على صفة خاصة ، ولم يشرع سبحانه إيقاع الطلاق ثلاثا جملة حكمة في تشريعه ورحمة بعباده ، فإيقاعه ثلاثا مجموعة مخالف لأمر الله وشرعه ، وأما قياس الثلاث مجموعة على الظهار فيبطل قولكم ويثبت قول مخالفيكم ، فإن الله لم يلزم المظاهر بما التزم من تحريم زوجته وجعلها كأمه أو أخته مثلا ، بل لم تزل زوجته ، وعاقبه بشيء آخر على جريمة الظهار هو الكفارة ، فإذا أدى ما شرع من الكفارة حلت له مماستها ، فمقتضى قياسكم أن لا يلزم بشيء من الثلاث ، ويعاقب بأمر آخر على جريمة الجمع
__________
(1) سورة البقرة الآية 229

بين الثلاث ، وكذا القول في قياسكم جمع الثلاث على الردة ، وإذا ليست الآية دليلا على إلزام الثلاث أو الثنتين إذا أوقعها مجموعة ، بل تدل على خلافه .
ومنه قوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1) ومن طلق ثلاثا مجموعة فقد تعدى حدود الله ؛ لإيقاعه الطلاق على غير الوجه المشروع ، وظلم نفسه بتعجله فيما كانت له فيه أناة ، وحرمانه من رجعة زوجته ، إذ لو لم يلزم بالثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لم يكن ظالما لنفسه ولا محروما من زوجته ، لتمكنه من رجعتها .
ويؤيده : أن ابن عباس أفتى بإلزام الثلاث من طلق ثلاثا ، وعاب على من جمع الثلاث ورماه بالحماقة ، واستشهد بالآية ، وأجيب بمنع دلالة الآية على الإلزام بالثلاث ؛ لأن ركانة لما طلق امرأته ثلاثا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، وتلا هذه الآية ، ولو كانت دليلا على إلزام الثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لما استدل بها صلى الله عليه وسلم ، وستأتي مناقشة حديث ركانة .
وكما روي عن ابن عباس الإلزام بالثلاث والاستشهاد بالآية روي عنه اعتبارها واحدة .
ويمكن أن يقال : بحمل تعدي حدود الله في الآية وظلم المطلق لنفسه على الطلاق لغير العدة وإخراج الزوج مطلقته طلاقا رجعيا من بيتها الذي
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1

كانت تسكنه قبل الطلاق وخروجها منه أيام العدة ، دون الطلاق الثلاث ، وقد يساعد على هذا سابق الكلام ولاحقه ، وفي هذا أيضا جمع بين الأدلة ، ومنه قوله تعالى : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (1) ذكر عن الحسن أنها نزلت فيمن كان يطلق ويزوج ابنته ويعتق عبده ، ويدعي أنه كان لاعبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من قالهن لاعبا جائزات : العتاق والطلاق والنكاح » .
وأجيب : بأنه لا دليل في الآية ولا في الحديث على المطلوب ؛ لأنه لم يذكر فيهما طلاق الثلاث أصلا ، وإنما فيهما النهي عن اللعب في الطلاق ونحوه ، على أن ما ذكر من مراسيل الحسن .
وأما السنة فأولا : حديث تلاعن عويمر العجلاني وامرأته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بإنفاذ الطلاق الثلاث لا باللعان ، يؤيد هذا قول سهل : « فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) . . . إلخ . وبهذا يعلم أن طلاق عويمر اعتبر ثلاثا ، وبانت منه امرأته بذلك ، ثم أكد ذلك بتأبيد تحريمها عليه في اللعان خاصة ، وقد يقال : بأن إنفاذ الطلاق الثلاث دفعة على الملاعن خاص باللعان ، لما فيه من تأبيد التحريم بخلاف غيره ، بدليل حديث محمود بن لبيد .
ويجاب : بأن حديث محمود بن لبيد - وإن صح - ليس فيه إنفاذ الثلاث ولا عدم إنفاذها ، وحديث اللعان فيه إنفاذها فيقدم ، بل قيل : إن حديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) صحيح البخاري الأدب (5734),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409).

محمود بن لبيد دليل على اعتبار إيقاع الثلاث دفعة ثلاثا ؛ لأن الزوج طلق ثلاثا يظنها لازمة له ، فلو كانت غير لازمة لبين له صلى الله عليه وسلم لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وقد أجيب عن أصل الاستدلال : بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ تطليقات عويمر على الوجه الذي كان معروفا في عهده من اعتبارها واحدة رجعية ، ثم حرمها عليه تحريما أبديا ، بدليل قوله في الحديث : ( فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ) فإن التفريق يتأتى مع بقاء النكاح ، بخلاف ما إذا اعتبرت تطليقات عويمر ثلاثا ، فإنها تكون أجنبية منه بذلك محرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره .
وكذلك يقال فيما أمضاه على المطلق في حديث محمود بن لبيد ، فإن حمله على ما كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم أقرب من حمله على الثلاث ؛ بل هو المتعين .
ثانيا : حديث من طلقها زوجها ثلاثا وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيحها لزوجها الأول حتى يطأها الثاني ، قالوا : الظاهر أنه طلقها ثلاثا مجموعة فأمضاها عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لحلت للأول دون أن تذوق عسيلة الثاني .
وأجيب : بأنه ورد في بعض الروايات أن الأول طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وعلى تقدير تعدد القصة وأن هذه الرواية كانت في إحداهما فكل منهما ليس فيها ما يدل على أن التطليقات كانت مجموعة ؛ لجواز أن تكون متفرقة ، بل في الحديث ما يدل على تفرقها ، فإنه لا يقال : طلق ثلاثا إلا لمن فعل ذلك مرة بعد مرة ، كما يقال : سلم ثلاثا ، وسبح ثلاثا ، ومع

هذا فقد كان المشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق متفرقا ، أما إيقاعه مجموعا فقد كان قليلا ومنكرا ، وحمل اللفظ على الكثير الحق أقرب من حمله على القليل المنكر .
ثالثا : حديث فاطمة بنت قيس ، فإن زوجها طلقها ثلاثا مجموعة ، وقد تقدم الكلام فيه وفي مثله توجيها وإجابة ، إلا أنه ذكر هنا زيادة في رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي : أن زوجها طلقها ثلاثا جميعا .
وأجيب عنها : بأنها قد تفرد بها مجالد عن الشعبي وهو ضعيف ، وعلى تقدير الصحة فكلمة ( جميعا ) في الغالب لتأكيد العدد ، فالمعنى حصول الطلاق الذي يملكه جميعه لا اجتماعه ، كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (1)
فالمراد : حصول الإيمان من جميعهم لا حصوله منهم في وقت واحد . وذكر بعضهم : أن تعبير فاطمة بنت قيس عن كيفية طلاقها مختلف الصيغة ولم يفرق بينهما الصحابة في الحكم وإلا لاستفسروا عما فيها من إجمال .
وأجيب : بأن الإجمال زال برواية طلقها آخر ثلاث تطليقات ، ورواية أرسل إليها بطلقة كانت بقيت لها .
رابعا : حديث ركانة ، فإنه طلق امرأته سهيمة البتة ، واستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد ، واستحلفه عليه فحلف ما أراد إلا واحدة ، فردها عليه ، فدل على أنه لو أراد أكثر لأمضاه عليه ، إذ لو لم يفترق الحكم لما استفسره ولا
__________
(1) سورة يونس الآية 99

استحلفه ، وهذا الحديث وإن تكلم فيه من أجل الزبير بن سعيد فقد صححه بعض العلماء ، وحسنه بعضهم ، وذكر الحاكم له متابعا من بيت ركانة .
وأجيب : بأن الإمام أحمد ضعف حديث طلاق ركانة زوجته ألبتة من جميع طرقه ، وضعفه البخاري ، وقال : مضطرب فيه ، تارة قيل فيه : ثلاثا ، وتارة قيل فيه : واحدة ، وعلى ذلك تترك الروايتان المتعارضتان ، ويرجع إلى غيرهما .
هذا وقد روي حديث تطليق ركانة امرأته ثلاثا ، وجعلها واحدة من طريقين :
إحداهما : عند الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس مرفوعا .
والثانية : في [ سنن أبي داود ] من طريق ابن صالح بسنده إلى ابن عباس مرفوعا ، فوجب المصير إلى ذلك .
وأجيب عن الأولى : بأنها لا تقوم بها الحجة ؛ لمخالفتها فتيا ابن عباس ، وستأتي مناقشة ذلك .
وأجيب عن الثانية : بأن في سندها مقالا ؛ لأن ابن جريج روى هذا الحديث عن بعض بني أبي رافع ، ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله ، وسائرهم مجهولون ، وقد رجح أبو داود في [ سننه ] رواية نافع بن عجير في طلاق ركانة زوجته ألبتة على رواية بعض بني أبي رافع :

أن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا لذلك ، ولفظ ابن جريج في تسمية المطلق عبد يزيد مع أن عبد يزيد لم يدرك الإسلام ، ولأن أهل بيت ركانة أعلم بحاله .
وقد أجاب ابن القيم بما خلاصته : سقوط رواية كل من نافع بن عجير وبعض بني أبي رافع لجهالة كل منهما ، أما أن يرجح أحد المجهولين أو من هو أشد جهالة على الآخر فكلا ، ويعدل إلى رواية الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس لسلامته ، فإن أحمد وغيره احتجوا به في مسائل النكاح والعرايا وغيرها ، وقد ذكر فيه : أن ركانة طلق امرأته سهيمة ثلاثا ، فجعلها صلى الله عليه وسلم واحدة .
وستأتي لهذه زيادة بحث إن شاء الله .
خامسا : حديث ابن عمر في تطليق زوجته في الحيض ، وفي آخره : « فقلت : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؛ قال : لا ، كانت تبين منك وتكون معصية » فإنه ظاهر في إمضاء الثلاث مجموعة .
وأجيب أولا : بأن في سنده شعيب بن زريق الشامي عن عطاء الخراساني ، وقد وثق الدارقطني شعيبا ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وحكى عنه ابن حجر أنه قال : يعتبر بحديثه من غير روايته عن عطاء الخراساني ، وقال الأزدي : فيه لين ، وقال ابن حزم : ضعيف ، أما عطاء الخراساني فقد ذكره البخاري في الضعفاء ، وقال ابن حبان : كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به ، ووثقه ابن سعد وابن معين وأبو حاتم ، ومع ذلك فقد انفرد شعيب عن الأئمة الأثبات بهذه الزيادة فإنه لم يعرف عن أحد منهم ذكرها .

سادسا : حديث عبادة بن الصامت في تطليق بعض آبائه امرأته ألفا ، فلما سأل بنوه النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه » .
وأجيب : بأن في سنده رواة مجهولين وضعفاء .
سابعا : حديث : « من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته » . وأجيب : بأن في سنده إسماعيل بن أمية الذراع ، وقد قال فيه الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث ، ضعيف متروك الحديث .
ثامنا : حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا طلق امرأته ألبتة ، فأنكر ذلك ، وقال : « من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » (1) .
وأجيب : بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي ، قال فيه الدارقطني : كوفي ضعيف ، وقال ابن القيم : في إسناد هذا الحديث مجاهيل وضعفاء .
وأما الإجماع : فقد نقل كثير من العلماء الإجماع على إمضاء الثلاث في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ، منهم : الشافعي وأبو بكر الرازي وابن العربي والباجي وابن رجب ، وقالوا : إنه مقدم على خبر الواحد ، قال الشافعي : الإجماع أكثر من الخبر المنفرد ، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه ، بخلاف الإجماع فإنه معصوم .
وأجيب : بأنه قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القول برد الثلاث المجموعة إلى الواحدة .
منهم : أبو بكر ، وعمر صدر من خلافته ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2198).

عباس ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطاووس ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومحمد بن إسحاق ، وابن تيمية المجد ، وأصبغ بن الحباب ، ومحمد بن بقي ، ومحمد بن عبد السلام الخشني ، وعطاء بن يسار ، وابن زنباع ، وخلاس بن عمرو ، وأهل الظاهر ، وخالفهم في ذلك ابن حزم .
وغاية الأمر أن يقال : أن بعض من نقل عنهم الإلزام بالثلاث إذا كانت مجموعة نقل عنهم أيضا جعلها واحدة فيكون لهم في المسألة قولان . والقصد أن الخلاف في الإلزام بها مجموعة لم يزل قائما ثابتا .
وممن حكى الخلاف في ذلك عن السلف والخلف : أبو الحسن علي بن عبد الله اللخمي ، وأبو جعفر الطحاوي في [ تهذيب الآثار ] وغيرهم ، وبهذا يتبين أنه ليس في المسألة إجماع .
وأما الآثار المروية عن الصحابة وغيرهم في إمضاء الثلاث على من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فكثيرة :
منها : ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي هريرة وغيرهم ، فإن سلم اعتبارها في الاحتجاج لكونها أقوال صحابة ثبت المطلوب ، وخاصة أن فيهم ثلاثة من الخلفاء : عمر الملهم ، وعثمان ، وعلي ، وحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهم ، وإلا فالحجة في إجماعهم ، فإن فتواهم اشتهرت عنهم ، ولم يعرف عمن لم يفت بذلك إنكار لفتواهم به ، فكان إجماعا وقد تقدم .
وأجيب : بأن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث عقوبة لهم لما رآه

من المصلحة في زمانه ؛ ليكفوا عما تتابعوا فيه من جمع الطلاق الثلاث ، ويرجعوا إلى ما جعل الله لهم من الفسحة والأناة رحمة منه بهم ، ولما علم الصحابة منه حسن سياسته لرعيته وافقوه على ذلك ، وأفتوا به رعاية لما رآه من المصلحة ؛ ولذا صرحوا لمن استفتاهم في هذا الأمر بأنه عصى ربه ولم يتقه ، فلم يجعل له مخرجا ، ولم يجعل ذلك الإمضاء شرعا لازما مستمرا ؛ لأنه مما تتغير الفتوى به بتغير الزمان والأحوال ، بل جعل العقوبة به تقريرا لمن خالف ما أمر به كالنفي ، ومنعه صلى الله عليه وسلم المخلفين الثلاثة من نسائهم مدة من الزمن ، والضرب في الخمر ، ونحو هذا مما يختلف التعزير فيه باختلاف الزمان والأحوال ، وكان هذا من الخليفة اجتهادا .
وأما القياس : فهو أن النكاح ملك للزوج فتصح إزالته مجتمعا كما صحت إزالته متفرقا وأن الله جعله بيده يزيل منه ما شاء ويبقي ما شاء ، كالعتق وعقد النكاح .
وأجيب : بأنه قياس مع الفارق فإن الطلاق جعل إليه ليوقعه متفرقا على كيفية معينة ، ومنعه من جمعه ؛ لما تقدم في المسألة الأولى ، فلا يصح قياس جمعه على تفريقه ، ولا على العتق ، ولا عقد النكاح على أكثر من واحدة وما أشبهها ، مما شرع له إيقاعه مجتمعا ومتفرقا .

المذهب الثاني : أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة ، دخل بها الزوج أم لا :
وهو قول أبي بكر ، وعمر صدر من خلافته ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وكثير من التابعين ومن بعدهم ؛ كطاووس ، وخلاس بن عمرو ، ومحمد بن إسحاق ، وداود الظاهري ، وأكثر أصحابه ، وهو اختيار ابن تيمية ، وابن القيم .
واستدل لهذا المذهب بالكتاب ، والسنة ، والآثار ، والإجماع ، والقياس :
أما الكتاب : فأولا : قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (1) إلى قوله تعالى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2) وبيانه : أن الألف واللام في قوله : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) للعهد ، والمعهود هو : الطلاق المفهوم من قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (4) وهو رجعي ؛ لقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (5)
فالمعنى : الطلاق من الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة مرتان : مرة بعد مرة ، ولا فرق في اعتبار كل مرة منهما واحدة بين أن يقول في كل مرة : طلقتك واحدة أو ثلاثا أو ألفا ، فكل مرة منهما طلقة رجعية ؛ لما سبق ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 228
(5) سورة البقرة الآية 228

ولقوله تعالى بعد : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) وأما قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2) فالضمير المرفوع والمنصوب فيه عائدان إلى المطلق والمطلقة فيما سبق ، لئلا يخلو الكلام عن مرجع لهما ؛ ولأن الطلاق وقع بعد الشرط والحل بعد النفي ، فدل على العموم ، فلو كانت هذه الجملة مستقلة عما قبلها للزم تحريم كل مطلقة ولو طلقة أو طلقتين حتى تنكح زوجا آخر ، وهو باطل بإجماع ، وإذا فمعنى الآية : فإن طلقها مرة ثالثة بلفظ واحد طلقة أو ثلاثا فلا تحل له حتى تتزوج غيره ، وبهذا يدل عموم الآية على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة ، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل .
ثانيا : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (3) وقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (4)
وبيان أن الجمهور استدلوا بها من وجوه على تحريم جمع الثلاث ، وإذا فلا يقع منها مجموعة إلا ما كان مشروعا وهو الواحدة .
وأجيب : بأن التحريم لا يناقض إمضاء الثلاث ، فكم من عبادة أو عقد مشروع ارتكب فيه مخالفة فقيل لصاحبه : عصى ، وصحت عبادته ، ومضى عقده ، وعلى تقرير المناقضة فهو يمنع من إمضاء الواحدة أيضا لوقوع الطلاق على خلاف ما شرع الله ، وذلك ما لا يقول به أحد من
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة الطلاق الآية 2

الجمهور .
وأما السنة : فمنها أولا : ما رواه مسلم في [ صحيحه ] من طريق ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » (1) .
وأجيب عن الاستدلال به بما يأتي :
أولا : أنه حديث منسوخ ؛ لأن ابن عباس أفتى بخلافه ، فدل ذلك على أنه علم ناسخا له فاعتمد عليه في فتواه .
ونوقش : بأنه يمكن أن يكون اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاد عمر رضي الله عنهما في إمضاء الثلاث تعزيرا للمصلحة ، كما تقدم ، وأيضا لو علم ناسخا لذكره مع وجود الدواعي إليه ، ولم يكتف بمثل ما كان يعلل به في فتواه ، وأيضا الصواب : أن العبرة بما رواه الراوي لا بقوله ، قالوا أيضا : يدل على نسخ الحديث ما ذكر في سبب نزول قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) من أن المطلق كان له الحق في الرجعة ولو طلق ألف مرة ، ما دامت مطلقته في العدة ، فأنزل الله الآية منعا لهم من الرجعة بعد المرة الثالثة حتى تنكح زوجا آخر .
ونوقش : أولا : بأنه روي مرسلا من طريق عروة بن الزبير ومتصلا من
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).
(2) سورة البقرة الآية 229

طريق عكرمة عن ابن عباس ، لكن في سنده علي بن حسين بن واقد ، وهو ضعيف .
وثانيا : بأنه استدلال في غير محل النزاع ، فإنه ليس فيه الإلزام بالثلاث في لفظ واحد .
وقالوا أيضا : يدل على نسخه حديث امرأة رفاعة وحديث اللعان وحديث فاطمة بنت قيس .
وقد سبق الاستدلال بها ومناقشتها .
وقالوا أيضا : يدل على نسخه إجماع الصحابة زمن عمر رضي الله عنهم على إمضاء الثلاث ، فإنه لا يكون إلا عن علم بالناسخ .
ونوقش : بأنه لا يتأتى مع قول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فلو كان اعتمادهم على العلم بالناسخ لذكروه ولم يعلل عمر بذلك ، وأيضا كيف يستمر العمل بالمنسوح في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما ؟ ! مع كون الأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ .
ونوقش استمرار العمل بالمنسوخ في العهود الثلاثة : بأنه إنما فعله من لم يبلغه النسخ ، فلما كان زمن عمر انتشر العلم بالناسخ فأجمعوا على إمضاء الثلاث كما حصل في متعه النكاح سواء .
ونوقش : بأن متعة النكاح كان الخلاف فيها مستمرا بين الصحابة ؛ لعدم معرفة بعضهم بالناسخ المنقول نقلا صحيحا إلى أن أعلمهم به عمر في خلافته ونهاهم عنها ، بخلاف جعل الثلاث في لفظ واحد طلقة واحدة فإنه

ثابت في عهده صلى الله عليه وسلم ، ولم يزل العمل عليه عند كل الصحابة في خلافة الصديق إلى سنتين أو ثلاث من خلافة عمر رضي الله عنهما ، إما فتوى أو إقرارا أو سكوتا ؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أنه إجماع قديم ، لم تجمع الأمة على خلافه بعد ، بل لم يزل في الأمة من يفتي بجعل الثلاث واحدة ؛ ولم ينقل حديث صحيح يصلح أن يعتمد عليه في نسخ حديث ابن عباس ويكون مستندا لما ذكر من الإجماع ، بل الذي روي في ذلك إما في غير الموضوع ، وإما في الموضوع لكنه ضعيف أو مكذوب ، ومع هذا فقد ثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا وموقوفا على ابن عباس ، فالمرفوع هو : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ما يخالفه مرفوعا ، وقد سبقت مناقشة حديث ركانة ، وستأتي بقيتها ، ولا نكارة في إمضاء عمر للثلاث باجتهاده ، ولا على غيره من الصحابة ممن وافق اجتهادهم اجتهاده في إمضائها ، وقد بين عمر وابن عباس وغيرهما وجه ذلك بأن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم من تطليقهم ثلاثا مجموعة وكثير منهم ذلك على خلاف ما كانوا عليه قبل الزموا بالثلاث عقوبة لهم ، ونظير هذا كلما تتغير فيه الفتوى بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة كالعقوبة في الخمر ، والتفريق بين الذين خلفوا ونسائهم ، وقتال علي لبعض أهل القبلة متأولا ، ولم يكن الإمضاء شرعا مستمرا إنما كان رهن ظروفه .
وأجيب ثانيا : بتأويل حديث طاووس عن ابن عباس بأن الطلاق الذي كان الناس يوقعونه واحدة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة

عمر اعتادوا إيقاعه بعد ذلك ثلاثا ، ويشهد لهذا قول عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ... إلخ .
ونوقش : بأنه تأويل يخالف الواقع في العهود الثلاثة الأولى ، فإن الطلاق ثلاثا جملة قد وقع فيها من الصحابة ، كما تقدم في حديث محمود بن لبيد ، وحديث اللعان ، وكما يأتي في حديث ركانة ، وأيضا يمنع منه ما ورد في بعض روايات الحديث من أنها جعلت واحدة أو ردت إلى الواحدة .
وأجيب ثالثا : بحمل الحديث على غير المدخول بها بدليل ذكر ذلك في الرواية الأخرى ، فإن الزوج إذا قال لها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق : بانت بالأولى ، فكان الثلاث واحدة .
ونوقش هذا : ولم يزل ماضيا ولم يتقيد بعهد ولا زمان ، وما نحن فيه تغير حكمه في أيام عمر رضي الله عنه عما كان عليه قبل .
وقد وجه بعضهم الجواب بتوجيه آخر ، وهو : أن زوجها إذا قال لها : أنت طالق ثلاثا بانت بقوله أنت طالق ، ولغي قوله : ثلاثا ، ونوقش بأنه كلام متصل ، فكيف يفصل بعضه من بعض ويحكم لكل بحكم ؟
ونوقش أصل الجواب : بأن حديث طاووس نفسه عن ابن عباس مطلق ليس فيه ذكر لغير المدخول بها ، وجواب ابن عباس في الرواية الأخرى ، والرد على سؤال أبي الصهباء عن تطليق غير المدخول بها ثلاثا ، فخص ابن عباس غير المدخول بها ليطابق الجواب السؤال ، ومثل هذا ليس له مفهوم

مخالفة .
وأجيب رابعا : بأن جعل الثلاث واحدة لم يكن عن علم منه صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره ، وإلا ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه .
ونوقش : بأن جماهير المحدثين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهده صلى الله عليه وسلم له حكم ، فإنه على تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بذلك يستبعد أن يفعله الصحابة وهم خير الخلق ، ولا يعلمه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل ، ثم كيف يستمر العمل من الأمة على خطأ في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، والأمة معصومة من إجماعها على الخطأ .
وأجيب خامسا : بحمل الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق فإنه يعتبر واحدة مع قصد التوكيد ، وثلاثا مع قصد الإيقاع ، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا ، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ واحد ، ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار ؛ إذ صار الغالب عليهم قصدها .
ونوقش : بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر ، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد ، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب ، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا ، وأيضا قول عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . إلخ - يرد حمل الحديث على هذه الصورة - ، فإن معناه : أن الناس استعجلوا فيما شرعه

الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منه بهم ، فأوقعوه بلفظ واحد ، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة ، وإن كان في نفسه محتملا .
وأجيب سادسا : بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته ، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه ، ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس ؛ قال : برواية الناس عنه من وجوه خلافه .
ونوقش : بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة راويه ، وهو غير معصوم ، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا ، أو يقوم في علنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه ؛ لثقته به واعتقاد أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه ، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة ، حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه ، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث ، وروي عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة ، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث .
لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين :
الأول : أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو طاهرة في معنى قال بخلافه ، وإلا قدم قوله ؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث ، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون

في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث ، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع .
الثاني : أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة : أن ابن عباس قال : إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة : أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس ، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة .
وقد يقال في الأمر الأول : إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة ، وإلا لم يقل عمر رضي الله عنه إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . . . إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره ، وبه اعتذار ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث .
وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث بالنسخ .
ويقول في الأمر الثاني : أنه لا مانع من ثبوت القول بجعل الثلاث بلفظ واحدة عن كل من ابن عباس وعكرمة ، وعلى تقدير تعارض الروايتين بالنفي والإثبات ، فالمثبت مقدم على النافي ، على أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من كل من روى عن أيوب ، كما قال يحيى بن معين ، فيقدم على إسماعيل بن إبراهيم (1) .
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 3 \ 9 ) .

وأجيب سابعا : بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث بلفظ ألبتة ؛ لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة ، فرواه بعض رواته بالمعنى ، فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة ، وفي هذا جمع بين الروايات ، وكان يراد بها واحدة كما أراد بها ركانة ، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث بها ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه ، ونظيره زيادته الضرب في شرب الخمر حين تتابع الناس فيه .
وقد يقال : إن هذا تأويل على خلاف الظاهر بلا دليل ، وأيضا تقدم في كلام الشافعي أن كلمة ألبتة مستحدثة ، وعلى ذلك لا يجوز حمل لفظ الطلاق الثلاث في الحديث عليها .
وأجيب ثامنا : بأنه حديث شاذ ؛ لانفراد طاووس به عن ابن عباس ، وانفراد الراوي بالحديث - وإن كان ثقة - علة توجب التوقف فيه إذا لم يرو معناه من وجه يصح .
ونوقش : بأن مجرد انفراد الثقة برواية الحديث ليس علة توجب رده أو التوقف ، ولا يسمى هذا شذوذا عند علماء الحديث ، إنما الشذوذ الذي يكون علة في رد الحديث هو : أن يخالف الثقة الثقاة مخالفة لا يمكن معها الجمع ، ولم يخالف طاووس في رواية هذا الحديث أحدا من الرواة الثقاة عن ابن عباس في هذا الموضوع ، وإنما وقعت المخالفة بين ما رواه وما أفتى به ، وقد مضى الكلام في ذلك ، لكن لقائل أن يقول : إن استمرار العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وتغيير عمر لذلك على علم من

الصحابة مما تتوفر الدواعي على نقله ، فنقله آحادا يوجب رده ، اللهم إلا أن يحمل الحديث على ما تقدم من أن الطلاق كان على وجه التكرار مع قصد التأكيد أو قد كان بلفظ ألبتة فاختلف الحكم فيه لاختلاف النية .
وقد يناقش : ألا يراد بالمنع أن يكون ما ذكر مما توفر الدواعي على نقله ، وأنه على تقدير أن يكون من ذلك ، فللمستدل أن يقول : إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله ، كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره ، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين ، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى ، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره ، ويعتذر عن الفتوى بخلافه ، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه ، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين ، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى .
وأجيب تاسعا : بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا :
أما اضطراب سنده : فلروايته تارة عن طاووس عن ابن عباس ، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس .
وأما اضطراب متنه : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ؟ وتارة يقول : ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدر

من خلافة عمر واحدة ؟
ونوقش : بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه ، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل ، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء ، وقد كان سيئ الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقات عن أبي الصهباء ، وأما روايته عن طاووس عن ابن عباس وعن طاووس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس - فكلاهما ممكن ، فلا تعارض ولا اضطراب ، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب .
وأجيب عاشرا : بمعارضته بالإجماع ، والإجماع معصوم فيقدم وقد تقدمت مناقشة ذلك .
ومن السنة أيضا : ما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] عن سعد بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال : فراجعها » (1) ، فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد ، واستدل بما روى به في رد ابنته صلى الله عليه وسلم على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأولى ، وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).

يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه ، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة .
ونوقش : بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث : لفظ ألبتة ، لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة ، فرواه بعض رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة ، وفي هذا جمع بين الروايات ، وكانت يراد بها واحدة أولا ، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه ، ونظيره زيادة الضرب في شرب الخمر ونحوه مما تغير فيه الحكم لتغير أحوال الناس ، وقد تقدم هذا في الجواب السابع عند الاستدلال بحديث طاووس عن ابن عباس في جعل الثلاث المجموعة واحدة مع مناقشته .
ونوقش أيضا : بأن لفظ طلقتها ثلاثا يحتمل أن يكون بلفظ واحد ، وأن يكون مفرقا ، وأجيب بأن احتمال تفريقه خلاف الظاهر ؛ لقوله في الحديث في مجلس واحد ، والغالب فيما كان كذلك أن يكون بلفظ واحد .
ونوقش أيضا : بمعارضته للإجماع ، وقد تقدم مناقشة الإجماع عند الكلام على الاستدلال به على إمضاء الثلاث .
ونوقش أيضا : بمعارضته لحديث نافع بن عجير في إمضائه ثلاثا .
وأجيب : بترجيح هذه الرواية على رواية نافع بن عجير ، لسلامتها ، وضعف نافع ، وقد سبق شرح ذلك .
إلى غير هذا من المناقشات التي سبقت عند الإجابة عن الاستدلال بحديث ابن عباس في اعتبار الثلاث واحدة .

ومن السنة أيضا : حديث بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس : « أن عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - طلق أم ركانة وتزوج امرأة أخري ، فشكت ضعفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره بطلاقها فطلقها ، وقال له : راجع أم ركانة وإخوته ، فقال : إني طلقتها ثلاثا ، فقال : قد علمت ، راجعها » (1) .
وقد سبق نص الحديث مع مناقشته .
ومن السنة أيضا : « حديث ابن عمر ، وفيه : أنه طلق امرأته وهي حائض ، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السنة » (2) .
ورد : أولا : بأن رواة هذا الحديث شيعة .
وثانيا : بأن في سنده ظريف بن ناصح ، وهو شيعي لا يكاد يعرف .
وثالثا : بأنه مع ما ذكر مخالف لما رواه الثقات الأثبات : أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقة واحدة ، فهو حديث منكر .
واستدلوا بالإجماع : قالوا : إن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة ، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر .
ويمكن أن يجاب : بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة من أن الثلاث بلفظ واحد تمضي ثلاثا .
وقد سبق ذكرها في استدلال من يقول بإمضاء الثلاث . لكن للمستدل أن يقول : إن الآثار التي وردت فيها الفتوى بخلاف هذا الدليل بدأت في عهد عمر بضرب من التأويل ، يدل على تأخير بدئها ظاهر حديث طاووس
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4625),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن الترمذي الطلاق (1175),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),سنن ابن ماجه الطلاق (2022),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).

عن ابن عباس .
وقد تقدم مع المناقشة .
واستدلوا : بالقياس ، قالوا : كما لا يعتبر قول الملاعن وقول الملاعنة : أشهد بالله أربع شهادات - بكذا ، أربع شهادات - لا يعتبر قول الزوج لامرأته : أنت طالق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث تطليقات، وكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول أو الفعل من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وإقرار .
ونوقش : بأنه قياس مع الفارق ، للإجماع على اعتبار الطلقة المفردة في الطلاق ، وبينونة المعتدة منها بانتهاء العدة ، وعدم اعتبار الشهادة الواحدة من الأربع في اللعان .
وللمستدل أن يقول : هذا الفارق مسلم ، ومعه فوارق أخرى بينهما ، انفرد كل من الطلاق واللعان بشيء منها ، لكنها ليست في مورد قياس المستدل هنا ، فإنه وارد فيما يعتبر فيه تكرار الفعل أو القول ، ولا يعتد فيه بالاكتفاء بذكر اسم العدد ، وليس من شرط سلامة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع صفاتهما ، بل إن اعتبار هذا لا يتأتى معه قياس ؛ لأن كل شيئين لا بد أن ينفرد كل منهما عن الآخر بخاصة أو خواص ، وإلا كان عينه .
واستدلوا : بما روي من الآثار في الإفتاء بذلك عن ابن عباس وعلي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم .

ونوقش : بأن ما روي من ذلك عن طاووس عن ابن عباس مردود ، فإن لطاوس عن ابن عباس مناكير منها روايته هذه الفتوى عن ابن عباس .
وأجيب : بأن طاووس بن كيسان قد وثقه ابن معين ، وسئل أيهما أحب إليك طاووس أم سعيد بن جبير ؟ فلم يخير بينهما ، وقال قيس بن سعد : كان طاووس فينا مثل ابن سيرين بالبصرة ، وقال الزهري : لو رأيت طاووسا علمت أنه لا يكذب ، وروى له أصحاب [ الكتب الستة ] في أصولهم (1) .
فعلى من ادعى روايته للمناكير عن ابن عباس أن يثبت ذلك بشواهد من رواياته عنه في غير هذه المسألة ، أما فيما رواه في هذه المسألة فهو مجرد دعوى في محل النزاع ، وما ذكر من مخالفة غيره له في هذه المسألة فغايته أن يكون لابن عباس فيها قولان ، روى كل من الفريقين عنه قولا منهما ؛ ولذلك قدرتم رجوعه عنها على تقدير صحة روايتها ، ثم إن عكرمة تابع طاووسا في روايته هذا الأثر عن ابن عباس وهو من رجال السنة .
ونوقش : بأن رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس معارضة برواية إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب : أن هذا الأثر من قول عكرمة .
وأجيب : أولا : بأنه لا معارضة لجواز أن يكون روي عن كل منهما .
وثانيا : أنه على تقدير المعارضة فرواية حماد بن زيد مقدمة على رواية إسماعيل بن إبراهيم ، فإن حمادا أثبت في الرواية عن أيوب من كل من
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 5 \ 8 ، 9 ) .

روى عنه (1) .
المذهب الثالث : أن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها :
واستدلوا لمذهبهم في المدخول بها بما استدل به الجمهور .
وقد تقدم مع مناقشته .
واستدلوا لمذهبهم في غير المدخول بها بحديث أبي الصهباء الذي قال فيه لابن عباس : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر ؟ ! قال : بلى .
وقد تقدم الحديث ، قالوا : إن التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول بها فيه جمع بين الروايات وإثبات حكم كل منها في حال .
وقد سبقت مناقشة هذا الدليل .
المذهب الرابع : أنه لا يعتد به مطلقا :
لأن إيقاعه ثلاثا بلفظ واحد بدعة محرمة ، فكان غير معتبر شرعا ، لحديث : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (2) .
ورد بأنه لا يعرف القول به عن أحد من السلف ، وأن أهل العلم في جميع الأمصار مجمعون على اعتباره والاعتداد به ، وإن اختلفوا فيما
__________
(1) [ تهذيب التهذيب ] ( 1 \ 398 ، 399 ) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).

يمضي منه ، ولم يخالف فيه إلا ناس من أهل البدع ممن لا يعتد بهم في انعقاد الإجماع .
وقد يستدل لهم أيضا : بأنه كالظهار فإنه لما كان محرما لم يعتبر طلاقا مع قصد المظاهر الطلاق فكذا الطلاق ثلاثا مجموعة .
وأجيب : بالفرق ، فإن الظهار محرم في نفسه على كل حال ، فكان باطلا ولزمت فيه العقوبة على كل حال ، بخلاف الطلاق فإن جنسه مشروع كالنكاح والبيع ؛ ولذا امتنع في حال دون حال ، وانقسم إلى صحيح وباطل أو فاسد .
هذا ما تيسر إعداده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم . . .
حرر في 19 \ 9 \ 1393 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 18 ) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة ، المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ بحث مسألة ( الطلاق الثلاث بلفظ واحد ) واستنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء ، والتي تنص على : أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة ، أو من أمينها ، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع .
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع ( الطلاق الثلاث بلفظ واحد ) .
وبعد دراسة المسألة ، وتداول الرأي ، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها ، ومناقشة ما على كل قول من إيراد - توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا ؛ وذلك لأمور أهمها ما

يلي :
أولا : لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (2)
فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة ، وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان . وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة ، فلم يكن طلاقا للعدة ، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة ، إذ لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة ، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس رضي الله عنه حين قال للسائل الذي سأله - وقد طلق ثلاثا - : إن الله تعالى يقول : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (4) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك .
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه ، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة ، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر ، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة ، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 2

المظاهر من امرأته بكفارة الظهار ، فظهر والله أعلم : أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه ، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله .
ثانيا : ما في [ الصحيحين ] عن عائشة رضي الله عنها : « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال : لا ، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) ، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة ( باب من أجاز الطلاق ثلاثا ) ، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات .
ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة ، فلا مانع من التعدد ، فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها ، ثم قال : وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب . اهـ .
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاووس « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة » (2) إلخ . . . ) فإن الحال لا تخلو من أمرين : إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاووس أنها مجتمعة أو متفرقة ، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم ، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج ، وإن كانت متفرقة
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

فلا حجة في حديث طاووس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة ، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاووس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه .
ثالثا : لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة - رحمه الله - حيث يقول : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك . والقرطبي رحمه الله حيث يقول : وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا ، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره ، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير ، فلو قال الولي : أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد ، كما لو قال : أنكحتك هذه وهذه وهذه ، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام . اهـ ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه .
رابعا : لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل ، استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول ، من أن « ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة » (1) ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل ، حيث قال : ومن قال : لا لغو في الطلاق فلا حجة معه ؛ بل عليه ؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا ، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184),سنن أبو داود الطلاق (2194),سنن ابن ماجه الطلاق (2039).

ذ كره . اهـ .
فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحه ، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس ، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله .
خامسا : إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم ، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة : ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وابن مسعود ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله : اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة ، إذا سبق بلفظ واحد . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك : الثاني : أنه طلاق محرم ولازم ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه ، اختارها أكثر أصحابه ، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين . اهـ .
وقال ابن القيم : واختلف الناس فيها - أي : في وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب : أحدها : أنه يقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة . اهـ .

وقال القرطبي : قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف .
وقال ابن العربي في كتابه : [ الناسخ والمنسوخ ] ونقله عنه ابن القيم رحمه الله في [ تهذيب السنن ] : قال تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا : إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم ، وجعلوه واحدة ، ونسبوه إلى السلف الأول ، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس ، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة ، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل . . . إلى أن قال : وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد ، إلى أن قال : وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة . اهـ .
سادسا : لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة » (2) إلى آخر الحديث ، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه ، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي :
( أ ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا :
أما اضطراب سنده : فلروايته تارة عن طاووس عن ابن عباس ، وتارة عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

عباس .
وأما اضطراب متنه : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ، وتارة يقول : « ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة » (1) .
( ب ) قد تفرد به عن ابن عباس طاووس ، وطاووس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس ، قال القاضي إسماعيل في كتابه [ أحكام القرآن ] : طاووس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث ، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاووس ، وقال ابن عبد البر : شذ طاووس في هذا الحديث ، وقال ابن رجب : وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاووس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل ، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال : رواية طاووس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب .
( ج ) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين :
أحدهما : تفرد طاووس بروايته ، وأنه لم يتابع عليه ، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور : كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاووس ، وقال الجوزجاني : هو حديث شاذ ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي : وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا . الثاني : ما ذكره البيهقي ، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

الثلاث ، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه ، وقال ابن التركماني : وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم . اهـ .
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، فقد قال للأثرم وابن منصور : بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا ؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد ، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد ، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك .
( د ) أن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها ، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف ، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط ، ولم يروها عن ابن عباس غير طاووس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير ، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة ، ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته ، فقد قال صاحب [ جمع الجوامع ] عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر : والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة . اهـ .

وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير ، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة . اهـ .
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره ، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس ، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين : إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد ، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد ، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله .
( هـ ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة .
فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف ، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه ، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول :

قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر .
( و ) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر - يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث ، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد ، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه .
( ز ) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس ؛ لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة . وهذا مشكل ، ووجه الإشكال : كيف يقرر عمر رضي الله عنه - وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها - بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها ، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام ، ونعني بالطرف الآخر : الزوجات ، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث ، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج ، وحقوق الرجعة ، مما يدل على أن حديث طاووس عن ابن عباس فيه نظر .
وأما المشايخ : عبد العزيز بن باز ، وعبد الرزاق عفيفي ، وعبد الله خياط ، وراشد بن خنين ، ومحمد بن جبير - فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة ، ولهم وجهة نظر مرفقة ، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف .

وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الرابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط مخالف ... عبد العزيز بن صالح ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن لحيدان ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد المجيد حسن ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
محمد الحركان ... صالح بن غصون ... محمد بن جبير

وجهة نظر المخالفين
نرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة ، وقد سبقنا إلى القول بهذا ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه ، وأفتى به : الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم ، وأفتى به : عكرمة ، وطاووس وغيرهما من التابعين ، وأفتى به ممن بعدهم : محمد بن إسحاق ، وخلاس بن عمرو ، والحارث العكلي ، والمجد بن تيمية ، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم .
وقد استدل على ذلك بما يأتي :
الدليل الأول : قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
وبيانه : أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه مرتان : مرة بعد مرة ، سواء طلق في كل مرة منهما طلقة أو ثلاثا مجموعة ؛ لأن الله تعالى قال : { مَرَّتَانِ } (2) ولم يقل طلقتان ، ثم قال تعالى في الآية التي تليها : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3)
فحكم بأن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230

غيره ، سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة ، فدل على أن الطلاق شرع مفرقا على ثلاث مرات ، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة واعتبر واحدة .
الدليل الثاني : ما رواه مسلم في [ صحيحه ] ، من طريق طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ) فأمضاه عليهم » (1) .
وفي [ صحيح مسلم ] ، أيضا عن طاووس عن ابن عباس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر واحدة ؟ ! قال : ( قد كان ذلك ) ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ) .
فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، طلقة واحدة وعلى أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ؛ ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثا بقوله : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ) ولم يدع النسخ ولم يعلل الإمضاء به ، ولا بظهوره بعد خفائه ؛ ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثا ، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم أو ظهر له أنه منسوخ .
وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو : إما تأويل متكلف ، وحمل للفظه على خلاف ظاهره بلا دليل ، وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199).

وضعف طاووس ، وهذا مردود بأن مسلما رواه في [ صحيحه ] ، وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث ، ثم إن الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) ، فأمضاه عليهم ، فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردودا لاضطرابه وضعف راويه ؟
وأبعد من هذا ما ادعاه بعضهم من أن العمل كان جاريا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الطلاق الثلاث واحدة لكنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك ، إذ كيف تصح هذه الدعوى والقرآن ينزل والوحي مستمر ، وكيف تستمر الأمة على العمل بالخطأ في عهده وعهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر ، وكيف يعتذر عمر في عدوله عن ذلك إلى إمضائه عليهم بما ذكر في الحديث من استعجال الناس في أمر كانت لهم فيه أناة .
ومن الأمور الواهية التي حاولوا بها رد الحديث معارضته بفتوى ابن عباس على خلافه ، ومن المعلوم عند علماء الحديث وجمهور الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي متى صحت الرواية ، لا برأيه وفتواه بخلافه ، لأمور كثيرة استندوا إليها في ذلك ، وجمهور من يقول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر ثلاثا يقولون بهذه القاعدة ، ويبنون عليها الكثير من الفروع الفقهية ، وقد عارضوا الحديث أيضا بما ادعوه من الإجماع على خلافه بعد سنتين من خلافة عمر رضي الله عنه مع العلم بأنه قد ثبت الخلاف في اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا ، واعتباره واحدة بين السلف والخلف ، واستمر إلى يومنا ، ولا يصح الاستدلال على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ

واحد ثلاثا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة رفاعة القرظي عليه حتى تنكح زوجا غيره لتطليقه إياها ثلاثا ؛ لأنه ثبت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، كما رواه مسلم في [ صحيحه ] فكان الطلاق مفرقا ، ولم يثبت أن رفاعة بن وهب النضري جرى له مع زوجته مثل ما جرى لرفاعة القرظي حتى يقال بتعدد القصة ، وأن إحداهما كان الطلاق فيها ثلاثة مجموعة ، ولم يحكم ابن حجر بتعدد القصة بل قال : إن كان محفوظا - يعني حديث رفاعة النضري - فالواضح تعدد القصة ، واستشكل ابن حجر تعدد القصة في كتابه [ الإصابة ] ، قال : لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير .
الدليل الثالث : ما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] ، قال : حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد - أخو بني المطلب - امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها ، قال : طلقتها ثلاثا قال ؟ فقال : في مجلس واحد قال : نعم ، فقال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ، قال : فراجعها » (1) ، قال : فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر .
قال ابن القيم في كتابه [ إعلام الموقعين ] : ( وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه ) ، وضعف أحمد وأبو عبيد والبخاري ما روي من أن ركانة طلق زوجته بلفظ - ألبتة .
الدليل الرابع : بالإجماع ، وبينه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن الأمر
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196),مسند أحمد بن حنبل (1/265).

لم يزل على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة في عهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر ، وأن ما روي عن الصحابة من الفتوى بخلاف ذلك فإنما كان من بعضهم بعدما أمضاه عمر ثلاثا تعزيرا وعقوبة ، لما استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة ، ولم يرد عمر بإمضاء الثلاث أن يجعل ذلك شرعا كليا مستمرا ، وإنما أراد أن يلزم به ما دامت الدواعي التي دعت إليه قائمة ، كما هو الشأن في الفتاوى التي تتغير بتغير الظروف والأحوال .
وللإمام أن يعزر الرعية عند إساءة التصرف في الأمور التي لهم فيها الخيار بين الفعل والترك بقصرهم على بعضها ومنعهم من غيره ، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا من زوجاتهم مدة من الزمن عقوبة لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك مع أن زوجاتهم لم يسئن ، وكالزيادة في عقوبة شرب الخمر ، وتحديد الأسعار عند استغلال التجار مثلا للظروف وتواطئهم على رفع الأسعار دون مسوغ شرعي إقامة للعدل ، وفي معنى هذا تنظيم المرور ، فإنه فيه منع الناس من المرور في طرق قد كان مباحا لهم السير فيها من قبل ؛ محافظة على النفوس والأموال ، وتيسيرا للسير مع أمن وسلام .
الدليل الخامس : قياس الطلاق الثلاث على شهادات اللعان ، قالوا : كما لا يعتبر قول الزوج في اللعان : أشهد بالله أربع شهادات أني رأيتها تزني إلا شهادة واحدة لا أربعا ، فكذا لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا لا يعتبر إلا طلقة واحدة لا ثلاثا ، ولو قال : أقر بالزنا أربعا مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار الإقرار لم يعتبر إلا واحدة عند من اعتبر التكرار في الإقرار ، فكذا لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا مكتفيا باسم العدد عن تكرار الطلاق لم يعتبر

إلا واحدة , وهكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول لا يكفي فيه عن التكرار ذكر اسم العدد كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات المكتوبة .
والله ولي التوفيق , وصلى الله على نبينا محمد , وآله وسلم .
حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ .

مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد
1 - [ تفسير القرطبي ] ، طبع مطبعة دار الكتب المصرية - عام 1354 هـ .
2 - [ أحكام القرآن ] لأحمد بن علي الرازي ( الجصاص ) طبع بمطبعة البهية المصرية ، سنة 1347 هـ .
3 - [ أضواء البيان ] .
4 - [ صحيح البخاري ] ، ومعه [ فتح الباري ] : طبع المطبعة السلفية ، بترقيم عبد الباقي ، وإشراف محيي الدين الخطيب .
5 - [ عمدة القاري ] للعيني ، طبع المطبعة المنيرية .
6 - [ صحيح مسلم وعليه النووي ] الطبعة الأولى ، طبع بالمطبعة الأزهرية - سنة 1347 هـ .
7 - [ مختصر سنن أبي داود ] ومعها [ المعالم ] للخطابي و [ تهذيبها ] ، لابن القيم : طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية - عام 1367 هـ .
8 - [ جامع الترمذي ] .
9 - [عارضة الأحوذي على الترمذي ] لابن العربي .
10 - [ شرح الزرقاني على الموطأ ] طبع بمطبعة الاستقامة بالقاهرة - سنة 1373 هـ .
11 - [ مسند الإمام أحمد ] بتعليق أحمد شاكر ، طبع دار المعارف - سنة 1369 هـ .

12 - [ مستدرك الحاكم وعليه تلخيصه للذهبي ] الطبعة الأولى - سنة 1340 هـ ، طبع بمطبعة حيدر آباد .
13 - [ نيل الأوطار ] طبعة حلبية ، الطبعة الثانية - عام 1371 هـ .
14 - [ جامع العلوم والحكم ] لابن رجب ، طبعة حلبية - عام 1382 هـ الطبعة الثالثة .
15 - [ سنن ابن ماجه ] الطبعة الأولى بالمطبعة النازية .
16 - [ سنن سعيد بن منصور ] .
17 - [ سنن الدارقطني ] طبع دار المحاسن للطباعة - طبع عام 1386 هـ .
18 - [ السنن الكبرى ] للبيهقي - الطبعة الأولى - بمطبعة حيدر آباد .
19 - [ المصنف ] ، لعبد الرزاق : الطبعة الأولى .
20 - [ شرح المواهب اللدنية ] للزرقاني المالكي ، الطبعة الأولى ، بالمطبعة الأزهرية - سنة 1325 هـ .
21 - [ شرح معاني الآثار ] ، طبع مطبعة الأنوار المحمدية .
22 - [ المنتقى ] للباجي ، طبع مطبعة السعادة - الطبعة الأولى ، عام 1332 هـ .
23 - [ الجرح والتعديل ] ، الطبعة الأولى ، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، بحيدر آباد الدكن - عام 1371 هـ .
24 - [ تهذيب التهذيب ] الطبعة الأولى ، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، بحيدر آباد الدكن - عام 1327 هـ .
25 - [ خلاصة تهذيب تهذيب الكمال ] الطبعة الأولى - بالمطبعة الخيرية - عام 1323 هـ .

26 - [ الإصابة ومعها الاستيعاب ] ، طبع بمطبعة مصطفى محمد .
27 - [ المستفاد من مبهمات المتن والإسناد ] - طبع مطابع الرياض .
28 - [ بدائع الصنائع ] للكني - طبع بمطبعة الجمالية بمصر ، الطبعة الأولى عام 1328 هـ .
29 - [ المبسوط ] ، للسرخسي - طبع بمطبعة السعادة ، بجوار محافظة مصر ، الطبعة الأولى .
30 - [ فتح القدير ] لابن الهمام - الطبعة الأولى ، بالمطبعة الكبرى الأميرية - عام 1315 هـ .
31 - [ المدونة ] ، الطبعة الأولى ، بالمطبعة الخيرية سنة 1324 هـ ، ومعها [ المقدمات ] .
32 - [ المقدمات ] لابن رشد ، ومعها [ المدونة ] .
33 - [ مواهب الجليل ] للحطاب : ملتزم الطبع مكتبة النجاح ، ليبيا .
34 - [ الأم ] الطبعة الأولى ، بالمطبعة الخيرية - عام 1331 هـ .
35 - [ المهذب ] الطبعة الحلبية .
36 - [ المغني والشرح الكبير ] ، الطبعة الأولى ، بمطبعة المنار - سنة 1346 هـ .
37 - [ الكافي ] ، الطبعة الأولى - سنة 1382 هـ - طبع المكتب الإسلامي .
38 - [ الإنصاف ] ، طبع بمطبعة السنة المحمدية - عام 1377 هـ .
39 - [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] .
40 - [ زاد المعاد ] طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية .
41 - [ إعلام الموقعين ] الطبعة المنيرية .

42 - [ إغاثة اللهفان ] طبعة حلبية - عام 1357 هـ .
43 - [ مسودة آل تيمية ] .
44 - [ سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ] ليوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي ، طبعه محمد نصيف ضمن مجموعة رأس الحسين .
45 - [ المحلى ] ، لابن حزم ، الطبعة الأولى .
46 - [ التجريد في أسماء الصحابة ] ، للذهبي ، الطبعة الأولى في مطبعة دائرة المعارف النظامية - بحيدر آباد الدكن .
47 - [ الناسخ والمنسوخ ] ، لابن النحاس ، الطبعة الأولى .

( 6 )
حكم النشوز والخلعهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم النشوز والخلع
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ، وآله وصحبه وبعد :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة مسألة النشوز والخلع (1) ، وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس ، وهذا نصه :
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
فبناء على ما تقرر من أن تبحث مسألة النشوز والخلع في الدورة الخامسة ، وأن يدرج موضوعها في جدول أعمال تلك الدورة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي :
1 - معنى النشوز والخلع في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الثالث ، ص 175 -226 ، لعام 1397 هـ .

2 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوج .
3 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوجة .
4 - حكم أخذ العوض على الخلع عند تحقق النشوز أو توقعه .
5 - الحكم فيما إذا كان النشوز منهما جميعا أو ادعاه كل واحد منهما على الآخر .
وختمت ذلك بخلاصة لما تضمنه البحث .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

حكم النشوز والخلع
النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاءقال ابن منظور : نشز : النشز والنشز : المتن المرتفع من الأرض ، وهو أيضا ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض ، وليس بالغليظ ، والجمع أنشاز ونشوز ، وقال بعضهم : جمع النشز : نشوز ، وجمع النشز : أنشاز ونشاز ، مثل جبل وأجبال وجبال . والنشاز بالفتح كالنشز .
ونشز ينشز نشوزا : أشرف على نشز من الأرض وهو ما ارتفع وظهر ، يقال : أقعد على ذلك النشاز ، وفي الحديث : « إنه كان إذا أوفى على نشز كبر » (1) أي : ارتفع على رابية في سفر ، قال : وقد تسكن الشين ، ومنه الحديث في خاتم النبوة : « بضعة ناشزة » أي : قطعة لحم مرتفعة على الجسم ، ومنه الحديث : « أتاه رجل ناشز الجبهة » (2) أي : مرتفعها ، ونشز الشيء ينشز نشوزا : ارتفع ، وتل ناشز : مرتفع ، وجمعه نواشز ، وقلب ناشز : إذا ارتفع عن مكانه من الرعب ، وأنشزت الشيء : إذا رفعته عن مكانه ، ونشز في مجلسه ينشز وينشز بالكسر والضم : ارتفع قليلا ، وفي التنزيل العزيز : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (3) قال الفراء : قرأها الناس بكسر الشين ، وأهل الحجاز يرفعونها ، قال :
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2833),صحيح مسلم الحج (1344),سنن الترمذي الحج (950),سنن أبو داود الجهاد (2770),مسند أحمد بن حنبل (2/21).
(2) صحيح البخاري المغازي (4094).
(3) سورة المجادلة الآية 11

وهما لغتان .
قال أبو إسحاق : معناه : إذا قيل : انهضوا فانهضوا وقوموا ، كما قال تعالى : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } (1) وقيل في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } (2) أي : قوموا إلى الصلاة أو قضاء حق أو شهادة فانشزوا ، ونشز الرجل ينشز إذا كان قاعدا فقام ، وركب ناشز : ناتئ مرتفع ، وعرق ناشز منتبر ناشز ، لا يزال يضرب من داء أو غيره ، وقوله : أنشده ابن الأعرابي :
فما ليلى بناشزة القصيرى ... ولا وقصاء لبستها اعتجار
فسره فقال : ناشزة القصيرى ، أي : ليست بضخمة الجنبين مشرفة القصيرى بما عليها من اللحم . وأنشز الشيء : رفعه عن مكانه . وإنشاز عظام الميت : رفعها إلى مواضعها ، وتركيب بعضها على بعض ، وفي التنزيل العزيز : { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } (3) أي : نرفع بعضها على بعض .
قال الفراء : قرأ زيد بن ثابت { نُنْشِزُهَا } (4) بالزاي ، قال : والإنشاز نقلها إلى مواضعها ، قال : وبالراء قرأها الكوفيون .
قال ثعلب : والمختار الزاي ؛ لأن الإنشاز تركيب العظام بعضها على بعض . . وفي الحديث : « لا رضاع إلا ما أنشز العظم » (5) أي : رفعه وأعلاه وأكبر حجمه ، وهو من النشز المرتفع من الأرض .
قال أبو إسحاق : النشوز يكون بين الزوجين ، وهو كراهة كل واحد
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة البقرة الآية 259
(4) سورة البقرة الآية 259
(5) سنن أبو داود النكاح (2059),مسند أحمد بن حنبل (1/432).

منهما صاحبه ، واشتقاقه من النشز ، وهو : ما ارتفع من الأرض ، ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز ، وتنشز نشوزا وهي ناشز : ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته . قال :
سرت تحت إقطاع من الليل حتى ... لخمان بيت فهي لا شك ناشز
قال الله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) نشوز المرأة : استعصاؤها على زوجها ، ونشز هو عليها نشوزا كذلك ، وضربها وجفاها وأضر بها ، وفي التنزيل العزيز : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (2) وقد تكرر ذكر النشوز بين الزوجين في الحديث ، والنشوز : كراهية كل واحد منهما صاحبه وسوء عشرته له ، ورجل نشز : غليظ عيل ، قال الأعشى :
وتركب مني إن بلوت نكيثتي ... على نشز قد شاب ليس بتوئم
أي : غلظ ذهب إلى تكبيره وتعظيمه فلذلك جعله أشيب ، ونشز بالقوم في الخصومة نشوزا : نهض بهم للخصومة . ونشز بقرنه ينشز به نشوزا : احتمله فصرعه .
قال شمر : وهذا كأنه مقلوب (3) ، مثل : جذب وجبذ ، ويقال للرجل إذا أسن ولم ينقص : إنه لنشز من الرجال ، وصتم إذا انتهى سنه وقوته وشبابه . قال أبو عبيد : النشز والنشز : الغليظ الشديد ، ودابة نشيزة إذا لم يكد
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 128
(3) قوله : ( وهذا كأنه مقلوب إلخ ) أي : من شزن - كفرح : نشط ، وتشزن : اشتد ، وله انتصب له في الخصومة وغيرها ، وصاحبه - تشزنا وتشزينا - : صرعه كما في [ القاموس ] .

يستقر الراكب عليها والسرج على ظهرها ، ويقال للدابة إذا لم يكد يستقر السرج والراكب على ظهرها : إنها لنشزة . اهـ (1) .
وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في تعريف النشوز :
وأصل النشوز : الترفع على الزوج بمخالفته ، مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها . اهـ (2) .
وقال القرطبي : والنشوز : العصيان ، مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز ، وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ، ومنه قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (3) أي : ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى ، فالمعنى : أي : تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج .
وقال أبو منصور اللغوي : النشوز : كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ، يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء ، ونشصت تنشص ، وهي السيئة للعشرة .
وقال ابن فارس : ونشزت المرأة : استصعبت على بعلها ، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها ، قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد . اهـ (4) .
__________
(1) [ لسان العرب] ، ( 5 \ 417 ، 418 ) .
(2) [ أحكام القرآن ] ، للجصاص ( 2 \ 230 ) المطبعة البهية المصرية سنة 1347 هـ .
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) [ الجامع لأحكام القرآن ] ، للقرطبي ( 5 \ 170 - 171 ) الطبعة الثانية ، مطبعة دار الكتب المصرية سنة ( 1356 هـ \ 1937 م ) .

وقال منصور البهوتي : ( فصل في النشوز ) : وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه وسوء عشرته ، يقال : نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز ، ونشز عليها زوجها جفاها وأضر بها ، قاله في [ المبدع ] ، وغيره ، وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها ، مأخوذ من النشز وهو : ما ارتفع من الأرض ، فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف ، ويقال : نشصت بالشين المعجمة والصاد المهملة . اهـ المقصود (1) .
__________
(1) [ كشاف القناع ] ، ( 5 \ 164 ، 165 ) .

النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة
وقد يدعيه كل منهما على صاحبه :
أما نشوز الزوج على امرأته : فقد قال الله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن خافت امرأة من بعلها يقول : علمت من زوجها { نُشُوزًا } (2) يعني : استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها ، أثرة عليها وارتفاعا بها عنها ، إما لبغضة ، وإما لكراهة منه بعض أسبابها : إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها ، { أَوْ إِعْرَاضًا } (3) يعني : انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (4) يقول : فلا حرج عليهما
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128

يعني : على المرأة الخائفة - نشوز بعلها أو إعراضه عنها { أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1) وهو : أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه ، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح ، يقول : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (2) يعني : والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والطلاق . . .
ثم قال : وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ثم ذكر رحمه الله مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعائشة ، وابن عباس ، ورافع بن خديج ، وعبيدة ، وإبراهيم ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) انظر : [ جامع البيان ] ( 9 \ 267 ، 278 ) ( تحقيق \ محمود وأحمد شاكر ) .

باب مصالحة المرأة زوجها
قال الجصاص : قال الله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1)
قيل في معنى النشوز : إنه الترفع عليها لبغضه إياها ، مأخوذ من نشز الأرض ، وهي : المرتفعة ، وقوله { أَوْ إِعْرَاضًا } (2) يعني : لموجدة أو أثرة ، فأباح الله لهما الصلح .
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128

مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها . وقال عمر : ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : « خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، فنزلت هذه الآية : الآية ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز » (2) .
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها ، فتقول : أمسكني ولا تطلقني ، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي ، فذلك قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } (3) إلى قوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (4)
وعن عائشة من طرق كثيرة : « أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها » (5) ، قال أبو بكر : فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة ، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة .
وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة ، وأباح الله أن تترك حقها من القسم ، وأن تجعله لغيرها من نسائه ، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية ، إلا أنه إنما يجوز لها
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(2) سورة النساء الآية 128 (1) { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا }
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2454),صحيح مسلم التوبة (2770),سنن أبو داود النكاح (2138),سنن ابن ماجه النكاح (1970),مسند أحمد بن حنبل (6/198),سنن الدارمي الجهاد (2423).

إسقاط ما وجب من النفقة للماضي ، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه ، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه ، وإنما يجوز بطيب نفسها شرك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها .
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ، ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء ؟ لأن ذلك أكل مال بالباطل ، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه ؛ لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح ، وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر ، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد .
فإن قيل : فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها ، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة ، قيل له : لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة ، والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها .
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه ، أو بعضه أو على الزيادة عليه ؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه ، وقوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال بعض أهل العلم : يعني : خير من الإعراض والنشوز ، وقال آخرون : من الفرقة ، وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر
__________
(1) سورة النساء الآية 128

الأشياء إلا ما خصه الدليل . اهـ (1) .
وقال القرطبي : قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (2) فيه مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } (3) رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده ، و { خَافَتْ } (4) بمعنى : توقعت ، وقول من قال : { خَافَتْ } (5) تيقنت خطأ . قال الزجاج : المعنى : وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز ، قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز : التباعد ، والإعراض : أن لا يكلمها ولا يأنس بها .
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة ، روى الترمذي عن ابن عباس قال : « خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة ، ففعل فنزلت : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز » (7) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة ، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره ،
__________
(1) [ أحكام القرآن ] ، ( 2 \ 345 ، 346 ) المطبعة البهية بمصر .
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) سورة النساء الآية 128
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
(7) سورة النساء الآية 128 (6) { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }

فأراد أن يطلقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (1)
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } (2) قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل ، فنزلت هذه الآية ، وقراءة العامة أن يصالحا .
وقرأ أكثر الكوفيين { أَنْ يُصْلِحَا } (3)
وقرأ الجحدري وعثمان البتي { أَنْ يُصْلِحَا } (4) والمعنى : يصطلحا ثم أدغم .
الثانية : في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ سباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها .
قال ابن أبي مليكة : « إن سودة بنت زمعة لما أسنت ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها ، فآثرت الكون معه ، فقالت له : أمسكني واجعل يومي لعائشة ، ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه » (5) .
قلت : وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة : روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية ، فكانت عنده حتى كبرت ، فتزوج عليها فتاة شابة ، فآثر الشابة عليها ، فناشدته الطلاق ، فطلقها واحدة ، ثم أهملها ، حتى إذا كانت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة ، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال : ما شئت : إنما بقيت
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 128
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).

واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، قالت : بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة . رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه ، وزاد : فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (1)
قال أبو عمر بن عبد البر : قوله والله أعلم : ( فآثر الشابة عليها ) : يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها ، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت ؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع . والله أعلم . .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .
وقال الضحاك : لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه .
وقال مقاتل بن حيان : هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة ، فيقول لهذه الكبيرة : أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه ،
__________
(1) سورة النساء الآية 128

وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم .
الثالثة : قال علماؤنا : وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء - فهذا كله مباح ، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها ، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية ، فقالت لعائشة : أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهبت يومي لك » (1) ، ذكره ابن خويز منداد عن عائشة اهـ (2)
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين ، فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فلا جناح عليهما فيما افتدت به ، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ ، عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها ، قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (3)
قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بقوله : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } (4)
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4602),مسند أحمد بن حنبل (6/338).
(2) [ تفسير القرطبي ] ( 5 \ 403 وما بعده ) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229

ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن -لطلاقكم وفراقكم إياهن- شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان ، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة ، وغير ذلك مما يجب لهن عليكم { إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (1)
إلى أن قال : فإن قال قائل : وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل يأخذ حينئذ منها ما آتاها ؟
قيل : حال نشوزها وإظهارها له بغضته حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ، ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه ، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه ، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له . . .
ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها ، ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها .
ومن ذلك قوله : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : « نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة ، قال : وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم . فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : ويطيب
__________
(1) سورة البقرة الآية 229

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21