كتاب : أصول البزدوي
المؤلف : علي بن محمد البزدوي الحنفيى
أصول البزدوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق النسم ورازق القسم مبدع البدايع وشارع الشرايع دينا رضيا ونورا مضيا وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان ونيل أسباب الغفران وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأصلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى الأنبياء والمرسلين وأصحابهم أجمعين
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو الحسن على بن محمد البزدوي رحمه الله العلم نوعان علم التوحيد والصفات وعلم الشرايع والأحكام والأصل في النوع الأول هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه الصالحون وهو الذي كان عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد أو عامة أصحابهم رحمهم الله وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله وأن ذلك كله بمشيئته وأثبت الاستطاعة مع الفعل وأن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله تعالى إياها كلها ورد القول بالأصلح وصنف كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرسالة وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم له وكان في علم الأصول إماما صادقا وقد صح عن أبي يوسف أنه قال ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن
ستة أشهر فاتفق رأي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا في المبسوط وغير المبسوط على أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب الاعتزال وإلى سائر الأهواء وأنهم قالوا بحقية رؤية الله تعالى بالأبصار في دار الآخرة وبحقية عذاب القبر لمن شاء وحقية خلق الجنة والنار اليوم حتى قال أبو حنيفة لجهم اخرج عني يا كافر وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة على ما نطق به الكتاب والسنة وهذا فصل يطول تعداده والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه وهو ثلاثة أقسام علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصودا فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة أي بالفقه والشريعة والحكمة في اللغة هو العلم والعمل فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم وهو الفقه دليل عليه وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به قال الشاعر ... أرسلت فيها قرماذا اقحام ... طبا فقيها بذوات الابلام ...
سماه فقيها لعلمه بما يصلح وبما لا يصلح والعمل به فمن حوى هذه الجملة
كان فقيها مطلقا وإلا فهو فقيه من وجه دون وجه وقد ندب الله تعالى إليه بقوله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وصفهم بالإنذار وهو الدعوة إلى العلم والعمل به وقال النبي صلى الله عليه و سلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا وقال إذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه في الدين وأصحابنا هم السابقون في هذا الباب ولهم الرتبة العلياوالدرجة القصوى في علم الشريعة وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة وملازمة القدوة وهما أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي والرأي اسم للفقه الذي ذكرنا وهم أولى بالحديث أيضا ألا ترى أنهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي ومن رد المراسيل فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل وقدموا رواية المجهول على القياس وقدموا قول الصحابي على القياس وقال محمد رحمه الله تعالى في كتاب أدب القاضي لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث حتى أن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي فلا يصلح للقضاء والفتوى وقد ملأ كتبه من الحديث ومن استراح بظاهر الحديث عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع على الأصول انتسب إلى ظاهر الحديث وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبنا الله ونعم الوكيل أعلم أن أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف المنقول عن النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة وهو النظم والمعنى جميعا في قول عامة العلماء وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة على ما يعرف في موضعه وجعل المعنى ركنا لازما والنظم ركنا يحتمل السقوط رخصة بمنزلة التصديق في الإيمان أنه ركن أصلي والإقرار ركن زائد على ما يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع
إلى معرفة أحكام القسم الأول في وجوه النظم صيغة ولغة والثاني في وجوه البيان بذلك النظم والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والإمكان وإصابة التوفيق أما القسم الأول فأربعة أوجه الخاص والعام والمشترك والمأول والقسم الثاني أربعة أوجه أيضا الظاهر والنص والمفسر والمحكم وإنما يتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه والقسم الثالث أربعة أوجه أيضا الحقيقة والمجاز والصريح والكناية والقسم الرابع أربعة أوجه أيضا الاستدلال بعبارته وبإشارته وبدلالته وباقتضائه وبعد معرفة هذه الأقسام قسم خامس وهو وجوه أربعة أيضا معرفة مواضعها وأصل الشرع الكتاب والسنة فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل بل يلزمه محافظة النظم ومعرفة أقسامه ومعانيه مفتقرا إلى الله تعالى مستعينا به راجيا أن يوفقه بفضله أما الخاص فكل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة وكل اسم وضع لمسمى معلوم على الانفراد وهو مأخوذ من قولهم اختص فلان بكذا أي انفرد به وفلان خاص فلان أي منفرد به والخاصة اسم للحالة الموجبة للانفراد عن المال وعن أسباب نيل المال فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويقطع الشركة فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان لأنه خاص من بين سائر الأجناس وإذا أريد خصوص النوع قيل رجل وإذا أريد خصوص العين قيل زيد وعمرو فهذا بيان اللغة والمعنى ثم العام بعده وهو كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى ومعنى قولنا من الأسماء المسميات هنا ومعنى قولنا لفظا أو معنى هو تفسير للانتظام يعني أن ذلك اللفظ إنما ينتظم الأسماء مرة لفظا مثل قولنا زيدون ونحوه أو معنى مثل قولنا من وما ونحوهما والعموم
في اللغة هو الشمول يقال مطر عام أي شمل الأمكنة كلها وخصب عام أي عم الأعيان ووسع البلاد ونخلة عميمة أي طويلة والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومة وهو كالشيء اسم عام يتناول كل موجود عندنا ولا يتناول المعدوم خلافا للمعتزلة وإن كان كل موجود ينفرد باسمه الخاص وذكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الأسماء أو المعاني وقوله أو المعاني سهو منه أو مأول لأن المعاني لا يتعدد إلا عند اختلافها وتغايرها وعند اختلافها وتغايرها لا ينتظمها لفظ واحد بل يحتمل كل واحد منها على الانفراد وهذا يسمى مشتركا وقد ذكر بعد هذا أن المشترك لا عموم له فثبت أنه سهوا ومأول وتأويله أن المعنى الواحد لما تعدد محله يسمى معاني مجاز الاجتماع محاله لكن كان ينبغي أن يقول والمعاني والصحيح أنه سهو وأما المشترك فكل لفظ احتمل معنى من المعاني المختلفة أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني على وجه لا يثبت إلا واحد من الجملة مراد به مثل العين اسم لعين الناظر وعين الشمس وعين الميزان وعين الركبة وعين الماء وغير ذلك ومثل المولى والقرء من الأسماء وهو مأخوذ من الاشتراك ولا عموم لهذا اللفظ وهو مثل الصريم اسم لليل والصبح جميعا على الاحتمال لا على العموم وهذا يفارق المجمل لأن المشترك يحتمل الإدراك بالتأمل في معنى الكلام لغة برجحان بعض الوجوه على البعض فقبل ظهور الرجحان سمي مشتركا فأما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعا أو لانسداد باب الترجيح لغة فوجب الرجوع فيه إلى بيان المجمل على ما نبين إن شاء الله تعالى وأما المأول فما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي وهو مأخوذ من آل يؤل إذا رجع وأولته إذا رجعته وصرفته لأنك لما تأملت في موضوع اللفظ فصرفت اللفظ إلى بعض المعاني خاصة فقد أولته إليه وصار ذلك عاقبة الاحتمال
بواسطة الرأي قال الله تعالى هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبته وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل فإن يسمى مفسرا لأنه عرف بدليل قاطع فسمي مفسرا أي مكشوفا كشفا بلا شبهة مأخوذ من قولهم أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب فيكون هذا اللفظ مقلوبا من التفسير وهذا معنى قول النبي عليه السلام من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أي قضى تأويله واجتهاد على أنه مراد الله تعالى لأنه نصب نفسه صاحب وحي وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب لأنه يصير الثابت بالاجتهاد تفسيرا وقطعا على حقيته مرادا وهذا باطل وأما القسم الثاني فإن الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته مثل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فإنه ظاهر في الإطلاق وقوله تعالى وأحل الله البيع هذا ظاهر في الاحلال وأما النص فما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة مأخوذ من قولهم نصصت الدابة إذا استخرجت بتكلفك منها سيرا فوق سيرها المعتاد وسمى مجلس العروس منصة لأنه ازداد ظهورا على ساير المجالس بفضل تكلف اتصل به من جهة الواضع ومثاله قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن هذا ظاهر في الإطلاق نص في بيان العدد لأنه سيق الكلام للعدد وقصد به فازداد ظهورا على الأول بأن قصد به وسيق له ومثله قوله تعالى وأحل البيع وحرم الربا فانه ظاهر للتحليل والتحريم نص للفصل بين البيع والربا لانه سيق الكلام لاجله فازداد وضوحا بمعنى من المتكلم لا بمعنى في صيغته واما المفسر فما ازداد وضوحا على النص سواء كان بمعنى في النص أو بغيره بأن كان مجملا نلحقه بيان قاطع فأسند به التأويل أو كان عاما نلحقه ما انسد به باب التخصيص مأخوذا مما ذكرنا وذلك مثل قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم اجمعون فان الملائكة جمع عام محتمل للتخصيص
فانسد باب التخصيص بذكر الكل وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله اجمعون فصار مفسرا وحكمه الإيجاب قطعا بلا احتمال تخصيص ولا تأويل إلا أن يحتمل النسخ والتبديل فإذا ازداد قوة واحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل سمى محكما من احكام البناء قال الله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وذلك مثل قوله تعالى أن الله بكل شيء عليم واما الأربعة التي تقابل هذه الوجوه فالخفي اسم لكل ما اشتبه معناه وخفي مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب وذلك مأخوذ من قولهم اختفى فلان أي استتر في مصره بحيلة عارضة من غير تبديل في نفسه فصار لا يدرك إلا بالطلب وذلك مثل النباش والطراد وهذه في مقابلة الظاهر ثم المشكل وهو الداخل في أشكاله وامثاله مثل قولهم احرم أي دخل في الحرم واشتى أي دخل في الشتاء وهذا فوق الأول لا ينال بالطلب بل بالتامل بعد الطلب ليتميز عن اشكاله وهذا لغموض في المعنى أو لاستعارة بديعة وذلك يسمى غريبا مثل رجل اغترب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس فصار خفيا بمعنى زائد على الأول ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل و ذلك مثل قوله تعالى وحرم الربا فإنه لا يدرك بمعاني اللغة بحال وكذلك الصلوة والزكوة وهو مأخوذ من الجملة وهو كرجل اغترب عن وطنه بوجه انقطع به اثره والمشكل يقابل النص والمجمل يقابل المفسر فإذا صار المراد مشتبها على وجه لا طريق لدركه حتى سقط طلبه ووجب اعتقاد الحقيه فيه سمى متشابها بخلاف المجمل فان طريق دركه متوهم وطريق درك المشكل قائم فأما المتشابه فلا طريق لدركه إلا التسليم فيقتضي اعتقاد الحقية قبل الاصابة وهذا معنى قوله وأخر متشابهات وعندنا أن لا حظ للراسخين
في العلم من المتشابه لا التسليم على اعتقاد حقية المراد عند الله تعالى وان الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله واجب واهل الإيمان على طبقتين في العلم منهم من يطالب بالامعان في السير لكونه مبتلى بضرب من الجهل ومنهم من يطالب بالوقف لكونه مكرما بضرب من العلم فانزل المتشابه تحقيقا للابتداء وهذا اعظم الوجهين بلوى واعمهما نفعا وجدوى وهذا يقابل المحكم ومثاله المقطعات في اوائل السور ومثاله إثبات رؤية الله تعالى بالابصار حقا في الاخرة بنص القرآن بقوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة لانه موجود بصفة الكمال وان يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات الكمال والمؤمن لاكرامه بذلك اهل لكن إثبات الجهة ممتنع فصار بوصفه متشابها فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقية فيه وكذلك إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله متشابه بوصفه وان يجوز ابطال الأصل بالعجز عن درك الوصف و إنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه فانهم ردوا الاصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة وتفسير القسم الثالث أن الحقيقة اسم لكل لفظ أريد به ما وضع له مأخوذ من حق الشيء يحق حقا فهو حق وحاق وحقيق والمجاز اسم لما أريد به غير ما وضع له مفعل من جاز يجوز بمعنى فاعل أي متعد عن اصله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع ولا تسقط عن المسمى ابدا والمجاز ينال بالتأمل في طريق ليعتبر به ويحتذى بمثاله ومثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص واما الصريح فما ظهر المراد به ظهورا بينا زائدا أو منه سمى القصر صرحا لارتفاعه عن سائر الأبنية والصريح الخالص من كل شيء وذلك مثل قوله انت طالق والكناية خلاف الصريح وهو ما استتر المراد به مثل هاء المغايبة وسائر الفاظ الضمير اخذت من قولهم كنيت وكنوت ومنه قول الشاعر ... وانى لاكنو عن قذور بغيرها ... واعرب احيانا بها فاصارح ...
وهذه جملة يأتي تفسيرها في باب بيان الحكم وتفسير القسم الرابع
أن الاستدلال بعبارة النص هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له والاستدلال باشارته هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه فسميناه إشارة كرجل ينظر ببصره إلى شيء ويدرك مع ذلك غيره بإشارة لحظاته ونظيره قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إنما سيق النص لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق واسم الفقراء إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب وقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن سيق لإثبات النفقة وأشار بقوله تعالى وعلى المولود له إلى أن النسب إلى الآباء وإلى قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك وقوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا سيق لإثبات منة الوالدة على الولد وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع وهذا القسم هو الثابت بعينه وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا ولا استنباطا مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف هذا قول معلوم بظاهره معلوم بمعناه وهو الأذى وهذا معنى يفهم منه لغة حتى شارك فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد كمعنى الإيلام من الضرب ثم يتعدى حكمه إلى الضرب والشتم بذلك المعنى فمن حيث أنه كان معنى لا عبارة لم نسمعه نصا ومن حيث أنه ثبت به لغة لا إستنباطا يسمى دلالة وأنه يعمل عمل النص وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه فإن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناوله فصار هذا مضافا إلى النص بواسطة المقتضى وكان كالثابت بالنص وعلامته أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره ويصلح لما أريد به فأما قوله تعالى وسأل القرية فإن الأهل غير مقتضى لأنه إذا ثبت لم يتحقق في القرية ما أضيف إليه بل هذا من باب الإضمار لأن صحة المقتضى إنما يكون لصحة المقتضى ومثاله الأمر بالتحرير
للتكفير مقتض للملك ولم يذكر هذا البيان معرفة تفسير هذه الأصول لغة وتفسير معانيها وبيان ترتيبها والفصل الرابع في بيان أحكامها والله أعلم بالصواب
باب معرفة أحكام الخصوص
اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعا ويقينا بلا شبهة لما أريد به الحكم ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع وإن احتمل التغير عن أصل وضعه لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكونه بينا لما وضع له من ذلك أن الله تعالى قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قلنا المراد به الحيض لأنا إذا حملنا على الإطهار انتقص العدد عن الثلاثة فصارت العدة قرئين وبعض الثالث وإذا حملنا على الحيض كانت ثلاثة كاملة والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا يحتمل غيره كالفرد لا يحتمل العدد والواحد لا يحتمل الاثنين فكان هذا بمعنى الرد والإبطال ومن ذلك قوله تعالى واركعوا مع الراكعين والركوع اسم لفعل معلوم وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء فلا يكون إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بيانا صحيحا لأنه بين بنفسه بل يكون رفعا لحكم الكتاب بخبر الواحد لكنه ملحق به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ومن ذلك قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق وهذا فعل خاص وضع لمعنى خاص وهو الدوران حول البيت فلا يكون وقفه على الطهارة عن الحدث حتى لا ينعقد إلا بها عملا بالكتاب ولا بيانا بل نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد لكنه يزاد عليه واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ليثبت الحكم بقدر دليله ومن ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فإنما الوضوءغسل ومسح وهما لفظان خاصان لمعنى معلوم في أصل الوضع فلا يكون شرط النية في ذلك عملا به ولا بيانا له وهو بين لما وضع له بل يجب أن يلحق به على الوصف الذي ذكرنا وبطل شرط الولاء والترتيب والتسمية كما ذكرنا وصار مذهب المخالف في هذا الأصل غلطا من وجهين أحدهما أنه حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته والثاني أنه رفع حكم الخبر الواحد فوق منزلته ومن ذلك قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره قال محمد والشافعي رحمهما الله قوله حتى تنكح كلمة وضعت لمعنى خاص وهو الغاية والنهاية فمن جعله محدثا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بهذه الكلمة ولا بيانا لأنها ظاهرة فيما وضعت له بل كان إبطالا ولكنها تكون غاية ونهاية والغاية والنهاية بمنزلة البعض لما وصف بها وبعض الشيء لا ينفصل عن كله فيلغوا قبل وجود الأصل والجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطوء وهو أصله ويحتمل العقد على ما يأتي في موضعه وقد أريد أن العقد هنا بدلالة إضافته إلى المرأة لأنها في فعل مباشرة العقد مثل الرجل فصحت الإضافة إليها وأما فعل الوطوء فلا يضاف إليها مباشرته أبدا لأنها لا يحتمل ذلك وإنما ثبت الدخول بالسنة على ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لامرأة رفاعة وقد طلقها ثلثا ثم نكحت بعبد الرحمن بن الزبير ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تتهمه بالعنة وقالت ما وجدته إلا كهدبة ثوبي هذا فقال صلى الله عليه و سلم أتريدين أن تعودي إلى رفاعة فقالت نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك وفي ذكر العود دون الانتهاء إشارة إلى التحليل وفي حديث آخر لعن الله المحلل والمحلل له فثبت الدخول زيادة بخبر مشهور يحتمل الزيادة بمثله وما ثبت الدخول بدليله إلا بصفة التحليل وثبت شرط الدخول بالإجماع ومن صفته التحليل وأنتم أبطلتم هذا الوصف عن دليله عملا بما هو ساكت
وهو نص الكتاب عن هذا الحكم أعني الدخول بأصله ووصفه جميعا ومن ذلك قوله تعالى الطلاق مرتان الآية فالله تعالى ذكر الطلاق مرة ومرتين وأعقبهما بذكر الرجعة ثم أعقب ذلك الخلع بالمال بقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فإنما بدأ بفعل الزوج وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة وهو الافتداء وتحت الأفراد تخصيص المرأة به وتقرير فعل الزوج على ما سبق فإثبات فعل الفسخ من الزوج بطريق الخلع لا يكون عملا به بل يكون رفعا ومن ذلك قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا وقال الشافعي رحمه الله القطع لفظ خاص لمعنى مخصوص فأنى يكون إبطال عصمة المال عملا به فقد وقعتم في الذي أبيتم ومن ذلك قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين فإنما أحل الابتغاء بالمال والابتغاء لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو الطلب والطلب بالعقد يقع فمن جوز تراخي البدل عن الطلب الصحيح إلى المطلوب وهو فعل الوطىء كان ذلك منه إبطالا فبطل به مذهب الخصم في مسألة المفوضة ومثله قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم والفرض لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو التقدير فمن لم يجعل المهر مقدارا شرعا كان مبطلا وكذلك الكناية في قوله تعالى ما فرضنا لفظ خاص يراد به نفس المتكلم فدل ذلك على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب والتقدير وأن تقدير العبد امتثال به فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب والترك في المهر والتقدير فيه كان إبطالا لموجب هذا اللفظ الخاص لا عملا به ولا بيانا لأنه بين ومن ذلك قوله تعالى بعد هذا فإن طلقها فلا تحل له من بعد والفاء حرف خاص لمعنى مخصوص وهو الوصل والتعقيب وإنما وصل الطلاق بالافتداء بالمال فأوجب صحته بعد الخلع فمن وصله بالرجعى وأبطل وقوعه بعد الخلع لم يكن عملا به
ولا بيانا والجواب أن ذلك ثبت بنص مقرون به عندنا وهو قوله تعالى جزاء بما كسبا لأن الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة فعل العبد وأن يجب لله تعالى يدل على خلوص الجناية الداعية إلى الجزاء واقعة على حقه ومن ضرورته تحول العصمة إليه ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له مأخوذ من جزى أي قضى وجزاء بالهمزة أي كفى وكماله يستدعي كمال الجناية ولا كمال مع قيام حق العبد في العصمة لأنه يكون حراما لمعنى يكون في غيره ولا يلزم أن الملك لا يبطل لأن محل الجناية العصمة وهي الحفظ ولا عصمة إلا بكونه مملوكا فأما تعين المالك فشرط ليصير خصمه متعينا لا لعينه حتى إذا وجد الخصم بلا ملك كان كافيا كالمكاتب والمتولي الوقف ونحوهما فلذلك تحولت العصمة دون الملك ألا ترى أن الجناية يقع على المال والعصمة صفة للمال مثل كونه مملوكا فأما الملك الذي هو صفة للمالك كيف يكون محلا للجناية لينتقل وكيف ينتقل الملك وهو غير مشروع فأما نقل العصمة فمشروع كما في الخمر والله أعلم ومن هذا الأصل
باب الأمر
فإن المراد بالأمر يختص بصيغة لازمة عندنا ومن الناس من قال ليس للمراد بالأمر صيغة لازمة وحاصل ذلك أن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم عندهم موجبة كالأمر وهو قول بعض أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله واحتجوا بقوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي فعله ولو لم يكن الأمر مستفادا بالفعل لما سمي به وقال عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي فجعلوا المتابعة لازمة واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة ولا يجوز قصور العبارات عن المقاصد والمعانيوقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها فالمقصود بالأمر كذلك يجب أن يكون مختصا بالعبارة وهذا المقصود أعظم المقاصد فهو بذلك أولى وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة فيكون لازمة إلا بدليل ألا ترى أن أسماء الحقايق لا يسقط عن مسمياتها أبدا وأما المجاز فيصح نفيه يقال للأب الأقرب أب لا ينفى عنه بحال ويسمى الجد أبا ويصح نفيه ثم ههنا صح أن يقال أن فلانا لم يأمر اليوم بشيء مع كثرة أفعاله وإذا تكلم بعبارة الأمر لم يستقم نفيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم حين خلع نعليه فخلع الناس نعالهم منكرا عليهم ما لكم خلعتم نعالكم وأنكر عليهم الموافقة في وصال الصوم فقال إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فثبت أن صيغة الأمر لازمة ولا ننكر تسميته مجازا لأن الفعل يجب به فسمي به مجازا والنبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فدل أن الصيغة لازمة ومن ذلك
باب موجب الأمر
وإذا ثبت خصوص الصيغة ثبت خصوص المراد في أصل الوضع وهو قول عامة الفقهاء ومن الناس من قال أنه مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم إلا بدليل زائد واحتجوا بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة للإيجاب مثل قوله تعالى أقيموا الصلاة وللندب مثل قوله وابتغوا من فضل الله وللإباحة مثل قوله وإذا حللتم فاصطادوا وللتقريع مثل قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم وللتوبيخ مثل قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل ولعامة العلماء أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريفالفعل وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني فكذلك العبارات في أصل الوضع مختصة بالمراد ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض فكذلك صيغة الأمر لمعنى خاص ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص ثم الفقهاء سوى الواقفية اختلفوا في حكم الأمر قال بعضهم حكمه الإباحة وقال بعضهم الندب وقال عامة العلماء حكمه الوجوب أما الذين قالوا بالإباحة قالوا إن ما ثبت أمرا كان مقتضيا لموجبه فيثبت أدناه وهو الإباحة والذين قالوا بالندب قالوا لا بد مما يوجب ترجيح جانب الوجود وأدنى ذلك معنى الندب إلا أن هذا فاسد لأنه إذا ثبت أنه موضوع لمعناه المخصوص به كان الكمال أصلا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم والحجة لعامة العلماء الكتاب والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وهذا عندنا على أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة والتكلم بها على الحقيقة لا مجازا عن الإيجاد بل كلام بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصود بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر وقال ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل على حقية الوجود مقصودا بالأمر وقال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره وكذلك دلالة الإجماع حجة لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه أن يطلبه إلا بلفظ الأمر والدليل المعقول أن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على المخصوص كساير العبارات فصار معنى المضي للماضي حقا لازما إلا بدليل وكذلك الحال واحتمال أن يكون من الاستقبال لا يخرجه عن موضوعه فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون حقا لازما به على أصل الوضع ألا ترى أن
الأمر فعل متعد لازمه ايتمر ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار فقضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار وإن كان ضروريا فنقل حكم الوجود إلى الوجوب حقا لازما بالأمر لا يتوقف على اختيار المأمور وتوقف الوجود على اختيار المأمور صيانة واحترازا عن الجبر فلذلك صار الأمر للإيجاب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي فيصير حكمهما واحدا وهو باطل وما اعتبره الواقفية من الاحتمال تبطل الحقايق كلها وذلك محال ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم وإذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة وقال الكرخي والجصاص بل هو مجاز لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات فلما جاز أن يقال إني غير مأمور بالنقل دل أنه مجاز لأنه جاز أصله وتعداه ووجه القول الآخر أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير لأن الوجوب ينتظمه وهذا صح ويتصل بهذا الأصل أن الأمر بعد الخطر لا يتعلق بالندب والاباحة لا محالة بل هو للايجاب عندنا إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته ومنهم من قال بالندب والاباحة لقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا ولكن ذلك عندنا بقوله تعالى أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين لا بصيغته ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب باب موجب الأمر
في معنى العموم والتكرار قال بعضهم صيغة الأمر يوجب العموم والتكرار وقال بعضهم لا بل يحتمله وهو قول الشافعي وقال بعض مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف وقال عامة مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله بكل حال غير أن الأمر بالفعل يقع على اقل
جنسه ويحتمل كله بدليله مثال هذا الأصل رجل قال لامرأته طلقي نفسك أو قال ذلك لاجنبي فإن ذلك واقع على الثلاث عند بعضهم وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثنى وعندنا يقع على الواحدة إلا أن ينوي الكل وجه القول الأول أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الذي هو إسم لجنس الفعل والمختصر من الكلام والمطول سواء واسم الفعل اسم عام لجنسه فوجب العمل بعمومه كسائر الفاظ العموم ووجه قول الشافعي هو ما ذكرنا غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الاثبات فأوجب الخصوص على احتمال العموم إلا ترى أن نية الثلاث صحيحة وهو عدد لا محالة فكذلك المثنى إلا ترى إلى قول اقرع بن حابس في السؤال عن الحج العامنا هذا ام للأبد ووجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى اقم الصلاة لدلوك الشمس وإن كنتم جنبا فاطهروا واحتج من ادعى التكرار بحديث الاقرع بن حابس حين قال في الحج العامنا هذا يا رسول الله ام للابد فقال عليه السلام بل للابد فلو لم يحتمل اللفظ لما اشكل عليه ولنا أن لفظ الأمر صيغة اختصرت لمعناها من طلب الفعل لكن لفظ الفعل فرد وكذلك ساير الاسماء المفردة والمصادر مثل قول الرجل طلقي أي أوقعي طلاقا أو افعلي تطليقا أو التطليق وهما اسمان فردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد وبين الفرد والعدد تناف وكما لا يحتمل العدد معنى الفرد لم يحتمل الفرد معنى العدد ايضا وكذلك الامر بسائر الافعال كقولك اضرب اى اكتسب ضربا او الضرب وهو فرد بمنزلة زيد وعمر وبكر فلا يحتمل العدد الا انه اسم جنس له كل وبعض فالبعض منه الذى هو اقله فرد حقيقة وحكما واما الطلقات الثلث فليست بفرد حقيقه بل هى اجزآء متعددة ولكنها فرد حكما لانها جنس واحد فصارت من طريق الجنس واحدا الا ترى انك اذا عددت الاجناس كان هذا باجزائه واحدا فصار واحدا من حيث هو جنس وله ابعاض كالانسان فرد من حيث هو آدمى ولكنه ذو أجزاء
متعددة فصار هذا الاسم الفرد واقعا على الكل بصفة أنه واحد لكن الاقل فرد حقيقة وحكما من كل وجه وكان اولى بالاسم الفرد عند اطلاقه والآخر محتملا فأما ما بين الاقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا صورة ولا معنى فلم يحتمله الفرد وكذلك سائر أسماء الاجناس إذا كانت فردا صيغة أو دلالة اما الفرد صيغة فمثل قول الرجل والله لا اشرب ماء أو الماء أنه يقع على الاقل ويحتمل الكل فأما قدرا من الاقدار المتخللة بين الحدين فلا فكذلك لا آكل طعاما أو ما يشبهه واما الفرد دلالة فمثل قول الرجل والله لا اتزوج النساء ولا اشتري العبيد ولا اكلم بني آدم ولا اشتري الثياب أن ذلك يقع على الاقل ويحتمل الكل لان هذا جمع صار مجازا عن اسم الجنس لانا إذا بقينا جمعا لغا حرف العهد اصلا وإذا جعلناه جنسا بقى اللام لتعريف الجنس وبقى معنى الجمع من وجه في الجنس و كان الجنس اولى قال الله تعالى لا يحل لك النساء وذلك لا يختص بالجمع فصار هذا وساير اسماء الجنس سواء وانما اشكل على الاقرع لانه اعتبر ذلك بسائر العبادات وعلى هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل على المصدر لغة مثل قوله تعالى والسارق والسارقة لم يحتمل العدد حتى قلنا لا يجوز أن اراد بالاية إلا الإيمان لان كل السرقات غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادا وبالفعل الواحد لا يقطع إلا واحد وموجب الأمر مر على ما فسرنا يتنوع نوعين وهذا تنويع في صفة الحكم
باب
يلقب بيان صفة حكم الأمر وذلك نوعان اداء وقضاء والاداء ثلثه انواع اداء كامل محض واداء قاصر محض وما هو شبيه بالقضاء والقضاء انواع ثلثة نوع بمثل معقول ونوع بمثل غير معقول ونوع بمعنى الاداء وهذهالأقسام تدخل في حقوق الله تعالى وتدخل في حقوق العباد ايضا و الاداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به كمن غصب شيئا لزمه تسليم عينه ورده فيصير به مؤديا وإذا هلك لزمه ضمانه فيصير به قاضيا وقد يدخل في الاداء قسم اخر وهو النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الاباحة والندب فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى اهلها وقد يدخل احدى العبارتين في قسم العبارة الأخرى فسمى الاداء قضاء لان القضاء لفظ متسع وقد يستعمل الاداء في القضاء مقيدا لان الاداء خصوصا بتسليم نفس الواجب وعينه لان مرجع العبارة إلى الاستقصاء وشدة الرعاية كما قيل في الثلاثي منه الذئب يأدو للغزال يأكله أي يحتال ويتكلف فيختله واما القضاء فاحكام الشيء نفسه لا ينبىء عن شدة لرعاية واختلف المشايخ في القضاء ايجب بنص مقصود ام بالسبب الذي يوجب الاداء فقال بعضهم بنص مقصود لان القربة عرفت قربة بوقتها وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف يكون لها مثل بالقياس وقد ذهب وصف فضل الوقت وقال عامتهم يجب بذلك السبب وبيان ذلك أن الله تعالى اوجب القضاء في الصوم بالنص فقال فعدة من ايام اخر وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة قال النبي عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها فقلنا نحن وجب القضاء في هذا بالنص وهو معقول فإن الاداء كان فرضا فإذا فات فات مضمونا وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون النفل مشروعا له من جنسه أمر بصرف ما له إلى ما عليه وسقط فضل الوقت إلى غير مثل والى غير ضمان إلا بالاثم إن كان عامدا للعجز فإذا عقل هذا اوجب القياس به
في قضاء المنذورات المتعينة من الصلوة والصيام والاعتكاف وهذا اقيس واشبه بمسائل اصحابنا ولهذا قلنا في صلوة فاتت عن ايام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير لانه لا تكبير عنده في ساير الايام ثم لم يسقط ما قدر عليه بهذا العذر ويتفرع من هذا الأصل مسألة النذر بالاعتكاف في شهر رمضان إذا صامه ولم يعتكف أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في رمضان اخر قالوا أن القضاء إنما وجب بالتفويت ابتداء لا بالنذر والتفويت سبب مطلق عن الوقت فصار كالنذر المطلق لكنا نقول إنما وجب القضاء في هذا بالقياس على ما قلنا لا بنص مقصود في هذا الباب وإذا ثبت هذا لم يكن بد من اضافته إلى السبب الأول لا ترى أنه يجب بالفوات مرة وبالتفويت أخرى إلا أن الاعتكاف الواجب مطلقا يقتضي صوما للاعتكاف اثر في ايجابه وانما جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت وما ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بالحيوة إلى رمضان آخر وهو وقت مديد يستوي فيه الحيوة والموت فلم يثبت القدرة فسقط فبقى مضمونا باطلاقه وكان هذا احوط الوجهين لان ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة احتمل السقوط فالنقصان والرخصة الواقعة بالشرف لان يحتلم السقوط والعود إلى الكمال اولى وإذا عاد لم يتاد في الرمضان الثاني والاداء في العبادات يكون في الموقتة في الوقت وفي غير الموقتة أبدا على ما نبين انشاء الله تعالى والمحض ما يوديه الانسان بوصفه على ما شرع مثل الصلوة بالجماعة فأما فعل الفرد فأداء فيه قصور الا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط والشارع مع الإمام في الجماعة مؤد اداء محضا والمسبوق بعض الصلوة مؤد ايضا لكنه منفرد فكان قاصرا ومن نام خلف الإمام او احدث فذهب يتوضأ ثم عاد بعد فراغ الإمام فهذا مؤد اداء يشبه القضاء ألا ترى انهم قالوا في مسافر اقتدى بمسافر في الوقت ثم سبقه الحدث أو نام حتى فرغ
الإمام ثم سبقه الحدث فدخل مصره للوضوء أو نوى الإقامة وهو في غير مصره والوقت باق أن يصلي ركعتين ولو تكلم صلى اربعا ولو كان الإمام لم يفرغ أو كان هذا الرجل مسبوقا صلى اربعا كما في المسألة الأولى واصل هذا أن هذا مؤد باعتبار الوقت لكنه قاض باعتبار فراغ الإمام لانه كأنه خلف الأمام لا انه في الحقيقة خلفه فصار قاضيا لما انعقد له احرام الإمام بمثله والمثل بطريق القضاء إنما يجب بالسبب الذي اوجب الأصل فما لم يتغير الأصل لم يتغير المثل فإذا لم يفرغ الإمام حتى وجد من المقتدي ما يوجب اكمال صلوته تمت صلوته بنية اقامته أو بدخول مصره لانه مؤد في الوقت فأما إذا فرغ الإمام ثم وجد ما ذكرنا فإنما اعترض هذا على القضاء دون الاداء فإذا لم يتغير الاداء لم يتغير القضاء كما إذا صار قضاء محضا بالفوات عن الوقت ثم وجد المغير وإذا تكلم فقد بطل معنى القضاء وعاد الأمر إلى الاداء فتغير بالمغير لقيام الوقت بخلاف المسبوق ايضا لأنه مؤد ولهذا قلنا في اللاحق لا يقرأ ولا يسجد للسهو بخلاف المسبوق لما بينا أنه قاض لما انعقد له احرام الجماعة واما القضاء فنوعان إما بمثل معقول كما ذكرنا واما بمثل غير معقول فمثل الفدية في الصوم وثواب النفقة في الحج باحجاج النائب لانا لا نعقل المماثلة بين الصوم والفدية لا صورة ولا معنى فلم يكن مثلا قياسا واما الصوم فمثل صورة ومعنى وكذلك ليس بين افعال الحج ونفقة الاحجاج مماثلة بوجه لكنا جوزناه بالنص قال الله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين أي لا يطيقونه وهذا مختصر بالإجماع وثبت في الحج بحديث الخثعمية انها قالت يا رسول الله أن أبي ادركه الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن احج عنه فقال عليه السلام ارايت لو كان على ابيك دين فقضيته اكان يقبل منك فقالت نعم قال فدين الله احق ولهذا قلنا أن ما لا يعقل مثله
يسقط كمن نقص صلوته في اركانها بتغيير ولهذا قال أبو حنيفة وابو يوسف رضي الله عنهما فيمن أدى في الزكاة خمسة دراهم زيوفا عن خمسة جياد انه يجوز ولا يضمن شيئا لان الجودة لا يستقيم اداؤها بمثلها صورة ولا بمثلها قيمة لانها غير متقومة فسقط اصلا واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب فأوجب قيمة الجودة من الدراهم والدنانير ولهذا قلنا أن رمى الجمار لا يقضى والوقوف بعرفات والاضحية كذلك فإن قيل فإذا ثبت هذا بنص غير معقول فلم اوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص قياسا على الصوم من غير تعليل قلنا لأن ما ثبت من حكم الفدية عن الصوم يحتمل أن يكون معلولا والصلاة نظير الصوم بل أهم منه لكنا لم نعقل واحتمل أن لا يكون معلولا وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به لكنه لما احتمل الوجهين أمرناه بالفدية احتياطا فلئن كان مشروعا فقد تأدى وإلا فليس به بأس ثم لم نحكم بجوازه مثل حكمنا به في الصوم قطعا ورجونا القبول من الله تعالى في الصلاة فضلا وقال محمد رحمه الله في الزيادات في هذا يجزيه إنشاء الله كما إذا تطوع به الوارث في الصوم فإن قيل فالأضحية لا مثل لها وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين أو القيمة قلنا لأن التضحية ثبتت قربة بالنص واحتمل أن يكون التصدق بعين الشاة أو قيمتها أصلا لأنه هو المشروع في باب المال كما في سائر الصدقات إلا أن الشرع نقل من الأصل إلى التضحية وهو نقصان في المالية بإراقة الدم عند محمد وبإراقة الدم وإزالة التمول عن الباقي عند أبي يوسف على ما نبين في مسألة التضحية أيمنع الرجوع في الهبة أم لا فنقل إلى هذا تطييبا للطعام وتحقيقا لمعنى العيد بالضيافة إلا أنه يحتمل أن يكون التضحية أصلا فلم نعتبر هذا الموهوم في معارضة المنصوص المتيقن فإذا فات هذا المتيقن بفوت وقته وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال
احتياطا أيضا والدليل على أنه كان بهذا الطريق لا أنه مثل الأضحية أنه إذا جاء العام القابل لم ينتقل الحكم إلى الأضحية وهذا وقت يقدر فيه على أداء مثل الأصل فيجب الخلف كما في الفدية إلا أنه لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا ووقع الحكم به لم ينقض بالشك أيضا أما القضاء الذي بمعنى الأداء فمثل رجل أدرك الإمام في العيد راكعا كبر في ركوعه وهذا قد فات موضعه فكان قضاء وهو غير قادر على مثل من عنده قربة فكان ينبغي أن لا يقضي إلا أنه قضاء يشبه الأداء لأن الركوع يشبه القيام وهذا الحكم قد ثبت بالشبهة ألا ترى أن تكبير الركوع يحتسب منها وليس في حال محض القيام فاحتمل أن يلحق به نظائره فوجب عليه التكبير اعتبارا بشبهة الأداء احتياطا وكذلك السورة إذا فاتت عن الأوليين وجب في الآخريين لأن موضع القراءة جملة الصلوة إلا أن الشفع الأول يعين بخبر الواحد الذي يوجب العمل وقد بقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا وهو من هذا الوجه ليس بفائت فوجب أداؤها اعتبارا لهذه الشبهة وإن كان قضاء في الحقيقة ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت لأن المشروع من الفاتحة في الآخريين إنما شرع احتياطا فلم يستقم صرفها إلى ما عليه ولم يستقم اعتبار معنى الأداء لأنه مشروع أداء فيتكرر فلذلك قيل يسقط والسورة لم يجب قضاء لأنه ليس عنده في الآخريين قراءة سورة يصرفها إلى ما عليه وإنما وجب لاعتبار الأداء وأما حقوق العباد فهي تنقسم على هذا الوجه أما الأداء الكامل فهو رد العين في الغصب والبيع وأداء الدين والقاصر مثل أن يغصب عبدا فارغا ثم يرده مشغولا بالجناية أو يسلم المبيع مشغولا بالجناية أو الدين أو ما أشبه ذلك حتى إذا هلك في ذلك الوجه انتقض التسليم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما هذا تسليم كامل لأن العيب لا يمنع تمام التسليم وهو عيب عندهما
وأداء الزيوف في الدين إذا لم يعلم به صاحب الحق أداء بأصله لأنه جنس حقه وليس بأداء بوصفه لعدمه فصار قاصرا ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أنها إذا هلكت عند القابض بطل حقه أصلا لأنه لما كان أداء بأصله صار مستوفيا وبطل الوصف لأنه لا مثل له صورة ولا معنى ولم يجز أبطال الأصل للوصف إذ الإنسان لا يضمن لنفسه واستحسن أبو يوسف وأوجب مثل المقبوض إحياء لحقه في الوصف والأداء الذي هو في معنى القضاء مثل أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد فاستحق وجبت قيمته فإن لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج الأب بوجه من الوجوه لزمه تسليمه إلى المرأة لأنه عين حقها في المسمى إلا أنه في معنى القضاء لأن تبدل الملك أوجب تبدلا في العين حكما فكان هذا عين حقها في المسمى لكن بمعنى المثل ولهذا قلنا أن الزوج إذا ملكه لا يملك أن يمنعها إياه لأنه عين حقها ولهذا قلنا أنه لا يعتق حتى يسلمه إليها أو يقضي به لها لأنه مثل من وجه وعليه قيمته فلا تملك إلا بالتسليم ولهذا قلنا إذا أعتقه الزوج أو كاتبه أو باعه قبل التسليم صح لأنه مثل من وجه وعليه قيمته ولهذا قلنا إذا قضى بقيمته على الزوج ثم ملكه الزوج أن حقها لا يعود إليه وهذه الجملة في نكاح كتاب الجامع مذكور ويتصل بهذا الأصل أن من غصب طعاما فأطعمه المالك من غير أن يعلمه لم يبرأ عند الشافعي لأنه ليس بأداء مأمور به لأنه غرور إذ المرء لا يتحامى في العادات عن مال غيره في موضع الإباحة والشرع لم يأمر بالغرور فبطل الأداء نفيا للغرور فصار معنى الأداء لغوا ردا للغرور قلنا نحن هذا أداء حقيقة لأنه عين ماله وصل إلى يده ولو كان قاصرا لتم بالهلاك فكيف لا يتم وهو في الأصل كامل فأما الخلل الذي ادعاه فإنما وقع لجهله والجهل لا يبطله وكفى بالجهل عارا فكيف يكون عذرا في تبديل إقامة الفرض اللازم والعادة المخالفة للديانة الصحيحة على ما زعم لغو لأن عين ماله وصل
إلى يده أما القضاء بمثل معقول فنوعان كامل وقاصر أما الكامل فالمثل صورة ومعنى وهو الأصل في ضمان العدوان وفي باب القروض تحقيقا للجبر حتى كان بمنزلة الأصل من كل وجه وكان سابقا أما المثل القاصر فالقيمة فيما له مثل إذا انقطع مثله وفيما لا مثل له لأن حق المستحق في الصورة والمعنى إلا أن الحق في الصورة وقد فات للعجز عن القضاء به فبقي المعنى ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه فيمن قطع يد رجل ثم قتله عمدا أنه يقطع ثم يقتل إن شاء الولي لأنه مثل كامل وأما القتل المنفرد فمثل قاصر وقالا بل يقتله ولا يقطعه لأن القتل بعد القطع تحقيق لموجب القطع فصار أمر الجناية يؤل إلى القتل وقلنا هذا هكذا من طريق المعنى فأما من طريق الصورة في باب جزاء الفعل فلا ألا ترى أن القتل قد يصلح ما حيا أثر القطع كما يصلح محققا لأنه علة مبتدأة صالحة للحكم فوق الأول فخيرناه بين الوجهين ولهذا لا يضمن المثلى بالقيمة إذا انقطع المثل إلا يوم الخصومة عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن المثل القاصر لا يصير مشروعا مع احتمال الأصل ولا ينقطع الاحتمال إلا بالقضاء ولهذا لا يضمن منافع الأعيان بالإتلاف بطريق التعدي لأن العين ليس بمثل لها صورة ولا معنى أما الصورة فلا شك فيها وأما المعنى فلأن المنافع إذا وجدت كانت أعراضا لا تبقى زمانين وليس لما تبقى زمانين صفة التقوم لأن التقوم لا يسبق الوجود وبعد الوجود التقوم لا يسبق الاحراز والاقتناء والأعراض لا يقبل هذه الأوصاف إلا أن يثبت احرازها بولاية العقد حكما شرعيا بناء على جواز العقد فلا يثبت فى غير موضع العقد بل يثبت التقوم فى حكم العقد خاصة ولأن التقوم في حكم العقد ثبت لقيام العين مقامها وهذا أصح ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جايزا يجب بالتراضي فوجب بناء التقوم على التراضي وضمان العدوان يعتمد أوصاف العين والرجوع
إليها يمنع التقوم على ما عرف ولأن التفاوت بين ما يبقى وتقوم العرض به وبين العرض القائم به تفاوت فاحش فلم يصلح مثلا له معنى بحكم الشرع في العدوان بخلاف ضمان العقود لأن العقود مشروعة فبنيت على الوسع والتراضي باعتبار الحاجة إليها وسقط اعتبار هذا التفاوت ألا ترى أن اعتبار هذا التفاوت في ضمان العقود يبطلها أصلا واعتباره في ضمان العدوان لا يبطله أصلا بل يؤخره إلى دار الجزاء لأنه بطل حكما لعجزنا به لا لعدمه في نفسه وإهدار التفاوت بوجب ضرر لازما للغاصب في الدنيا والآخرة ولم يحصل التمييز بين الجايز والفاسد لأن ذلك يؤدي إلى الحرج فلم يعتبر فيما شرع ضرورة وأما القضاء بمثل غير معقول فهو كغير المال المتقوم إذا ضمن بالمال المتقوم كان مثلا غير معقول مثل النفس تضمن بالمال لأن المال ليس بمثل للنفس لا صورة ولا معنى لأن الآدمي مالك والمال مملوك فلا يتشابهان بوجه ولهذا قلنا أن المال غير مشروع مثلا عند احتمال القصاص لأن القصاص مثل الأول صورة ومعنى وهو إلى الأحياء الذي هو المقصود أقرب فلم يجز أن يزاحمه ما ليس بمثل صورة ولا معنى وإنما شرع عند عدم المثل صيانة للدم عن الهدر ومنة على القاتل بأن سلمت له نفسه وللقتيل بأن لم يهدر حقه ولهذا قلنا نحن خلافا للشافعي أن القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو أو بقتل القاتل لأن القصاص ليس بمتقوم فلم يكن له مثل صورة ومعنى وإنما شرعت الدية صيانة للدم عن الهدر والعفو عن القصاص مندوب إليه فكان جائزا أن يهدر بل حسنا ولهذا قلنا أن ملك النكاح لا يضمن بالشهادة بالطلاق بعد الدخول وبقتل المنكوحة وبردتها لأنه ليس بمال متقوم وإنما يقوم بالمال بضع المرأة تعظيما لخطره وإنما الخطر للمملوك فأما الملك الوارد عليه فلا حتى صح إبطاله بغير شهود ولا ولى ولهذا
لم يجعل له حكم التقوم عند الزوال لا أنه ليس بتعرض له بالاستيلاء بل إطلاق له ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول فإنها عند الرجوع يوجب ضمان نصف المهر لأن ذلك لم يجب قيمة للبضع ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تاما كما قال الشافعي لكن المسمى الواجب بالعقد لا يستحق تسليمه عند سقوط تسليم البضع فلما أوجبوا عليه تسليم النصف مع فوات تسليم البضع كان قصرا ليده عن ذلك المال فاشبه الغصب فأما القضاء الذي في حكم الأداء فمثل رجل تزوج امرأة على عبد بغير عينه أنه إذا أدى القيمة أجبرت على القبول وقيمة الشيء قضاء له لا محالة إنما يصار إليها عند العجز عن تسليم الأصل وهذا الأصل لما كان مجهولا من وجه ومعلوما من وجه صح تسليمه من وجه واحتمل العجز فإن أدى صح وإن اختار جانب العجز وجبت قيمته ولما كان الأصل لا يتحقق أداؤه إلا بتعيينه و لا تعيين إلا بالتقوم صار التقويم أصلا من هذا الوجه فصارت القيمة مزاحمة للمسمى بخلاف العبد المعين لأنه معلوم بدون التقويم فصارت قيمته قضاء محضا فلم يعتبر عند القدرة والله أعلم ومن قضية الشرع في هذا الباب أن حكم الأمر موصوف بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورا به لا بالعقل نفسه إذ العقل غير موجب بحال وهذا الباب لتقسيمه والله الموفق
باب بيان صفة الحسن للمأمور به
المأمور به نوعان في هذا الباب حسن لمعنى في نفسه وحسن لمعنى في غيره فالحسن لمعنى في نفسه ثلاثة أضرب ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف بحال وضرب يقبله وضرب منه ملحق بهذا القسم لكنه مشابه لما حسن لمعنى في غيره والذي حسن لمعنى في غيره ثلاثة أضرب أيضافضرب منه ما حسن لغيره وذلك الغير قايم بنفسه مقصودا لا يتأدي بالذي قبله بحال وضرب منه ما حسن لمعنى في غيره لكنه يتأدي بنفس المأمور به فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد ما كان حسنا لمعنى في نفسه أو ملحقا به وهذا القسم سمى جامعا أما الضرب الأول من القسم الأول فنحو الإيمان بالله تعالى و صفاته حسن لعينه غير أنه نوعان تصديق هو ركن لا يحتمل السقوط بحال حتى انه متى تبدل بضده كان كفرا واقرار هو ركن ملحق به لكنه يحتمل السقوط بحال حتى انه متى تبدل بضده بعذر الاكراه لم يعد كفرا لان اللسان ليس معدن التصديق لكن ترك البيان من غير عذر يدل على فوات التصديق فكان ركنا دون الأول فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنا ومن لم يصادف وقتا يتمكن فيه من البيان وكان مختارا في التصديق كان مؤمنا إن تحقق ذلك وكالصلوة حسنت لمعنى في نفسها من التعظيم لله تعالى إلا إنها دون التصديق وهى نظير الإقرار حتى سقطت بأعذار كثيرة إلا أنها ليست بركن في الإيمان بخلاف الإقرار لان في الإقرار وجودا وعدما دلالة على التصديق والقسم الثالث الزكوة والصوم والحج فان الصوم صار حسنا لمعنى قهر النفس والزكوة لمعنى حاجة الفقير والحج لمعنى شرف المكان إلا أن هذه الوسايط غير مستحق لانفسها لان النفس ليست بجانية في صفتها والفقير ليس بمستحق لنفسه فصار هذا كالقسم الثاني عبادة خالصة لله حتى شرطنا لها اهلية كاملة أما الضرب الأول من القسم الثانى فمثل السعى الى الجمعة ليس بفرض مقصود انما حسن لاقامة الجمعة لان العبد يتمكن به من اقامة الجمعة وقد لا يتأدى به الجمعة وكذلك الوضوء عندنا من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعادة مقصودة لانه في نفسه تبرد وتطهر لكن إنما حسن لانه يراد به اقامة الصلوة
ولا تتأدي به الصلوة بحال ويسقط بسقوطها وتستغني عن صفة القربة في الوضوء حتى يصبح بغير نية عندنا ومن حيث جعل الوضوء في الشرع قربة يراد بها ثواب الاخرة كساير القرب لا يتأدي بغير نية إلا أن الصلوة تستغني عن هذا الوصف في الوضوء والضرب الثاني الجهاد وصلوة الجنازة إنما صارا حسنين لمعنى كفر الكافر واسلام الميت وذلك معنى منفصل عن الجهاد والصلوة حتى أن الكفار ان اسلموا لم يبق الجهاد مشروعا أن تصور لكنه خلاف الخبر وإذا سار حق المسلم مقضيا بصلوة البعض سقط عن الباقين ولما كان المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول وإما الضرب الثالث فنختص بالأداء دون القضاء وذلك عبارة عن القدرة التي يتمكن بها العبد من اداء ما لزمه وذلك شرط الأداء دون الوجوب واصل ذلك قول الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو نوعان مطلق وكامل فأما المطلق منه فأدنى ما يتمكن به المأمور من اداء ما لزمه بدنيا كان أو ماليا وهذا فضل ومنة من الله تعالى عندنا وهذا شرط في اداء حكم كل أمر حتى اجمعوا أن الطهارة بالماء لا يجب على العاجز عنها ببدنه وعلى من عجز عن استعماله بنقصان يحل به أو بماء له في الزيادة على ثمن مثله وفي مرض يزداد به وكذلك الصلوة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة والحج لا يجب اداؤه إلا بالزاد والراحلة لان تمكن السفر المخصوص به لا يحصل بدونهما في الغالب ولا يجب الزكوة إلا بقدرة مالية حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط الواجب بالإجماع ولهذا قال زفر في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها أو الكافر يسلم أو الصبي يبلغ في اخر الوقت أن لا صلوة عليهم إلا أن يدركوا وقتا صالحا للأداء لما قلنا لكن اصحابنا استحسنوا بعد تمام الحيض أو دلالة انقطاعه قبل تمامة بادراك وقت الغسل إنها تجب بادراك جزء يسير من الوقت يصلح للاحرام بها
وكذلك في سائر الفصول لانا نحتاج إلى سبب الوجوب وذلك جزء من الوقت و نحتاج لوجوب الاداء إلى احتمال وجود القدرة لا إلى تحقق القدرة وجودا لان ذلك شرط حقيقة الاداء فأما سابقا عليه فلا لأنها لا تسبق الفعل إلا في الأسباب والآلات لكن توهم القدرة يكفى لوجوب الأصل مشروعا ثم العجز الحال دليل النقل إلى البدل المشروع عند فوات الأصل وقد وجد احتمال القدرة باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير بوقف الشمس كما كان لسليمان صلوات الله عليه وذلك نظير مس السماء فصار مشروعا ثم وبه النقل للعجز الحالي كمن هجم عليه وقت الصلوات وهو في السفر إن خطاب الأصل عليه يتوجب لاحتمال وجود الماء ثم بالعجز الحالي وينتقل إلى التراب والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى ويحتمل الضرب الثاني بدليل وعلى هذا قال الشافعي رحمه الله وهو قول زفر لما تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة بالجمعة دل ذلك على صفة حسنة وعلى أنه هو المشروع دون غيره حتى قالا لا يصح اداء الظهر من المقيم ما لم تفت الجمعة وقالا لما لم يخاطب المريض والعبد و المسافر بالجمعة بل بالظهر صار الظهر حسنا مشروعا في حقهم فإذا أدوها لم تنتقض بالجمعة من بعد وقلنا نحن لا خلاف في هذا الأصل لكن الشان في معرفته كيفية الأمر بالجمعة وليس ذلك على نسخ الظهر كما قلتم إلا ترى ان بعد فوات الجمعة يقضي الظهر ولا يصلح قضاء للجمعة ولا تفضي الجمعة بالإجماع فثبت انه عود إلى الأصل وثبت أن قضية الأمر اداء الظهر بالجمعة فصار ذلك مقرر إلا ناسخا فصح الأداء وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر باسقاطه بالجمعة وانما وضع عن المعذور اداء الظهر بالجمعة رخصة فلم يبطل به العزيمة وانما قلنا أن الضرب الثالث من هذا القسم يختص
بالأداء دون القضاء أما إذا فات الاداء بحال القدرة بتقصير المخاطب فقد بقى تحت عهدته وجعل الشرط بمنزلة القائم حكما لتقصيره واما إذا فات لا بتقصيره فكذلك لأن هذه القدرة كانت شرطا لوجوب الأداء فضلا من الله تعالى فلم يشترط لبقاء الواجب ولهذا قلنا لا يسقط بالموت في أحكام الآخرة ولهذا قلنا إذا ملك الزاد والراحلة فلم يحج حتى هلك المال لم يبطل عنه الحج وكذلك صدقة الفطر لا يسقط بهلاك المال لما ذكرنا وأما الكامل من هذا القسم فالقدرة الميسرة وهذه زايدة على الأولى بدرجة كرامة من الله تعالى وفرق ما بين الأمرين أن القدرة الأولى للتمكن من الفعل فلم يتغير بها الواجب فبقي شرطا محضا فلم يشترط دوامها البقاء الواجب وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة الواجب فجعلته سمحا سهلا لينا فيشترط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب لا لمعنى أنها شرط لكن لمعنى تبدل صفة الواجب بها فإذا انقطعت هذه القدرة بطل ذلك الوصف فيبطل الحق لأنه غير مشروع بدون ذلك الوصف ولهذا قلنا الزكاة تسقط بهلاك النصاب لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة ألا ترى أن القدرة على الأداء تحصل بمال مطلق ثم شرط النماء في المال ليكون المؤدي جزأ منه فيكون في غاية التيسير فلو قلنا ببقاء الواجب بدون النصاب لا نقلب غرامة محضة فيتبدل الواجب فلذلك سقط بهلاك المال ولا يلزم أن النصاب شرط الابتداء الوجوب ولا يشترط لبقائه فإن كل جزء من الباقي يبقى بقسطه لأن شرط النصاب لا يغير صفة الواجب ألا ترى أن تيسير أداء الخمسة من المأتين وتيسير أداء الدرهم من الأربعين سواء لا يختلف لأنه ربع عشر بكل حال لكن الغنى وصف لا بد منه ليصير الموصوف به أهلا للإغناء إذ الإغناء من غير الغنى لا يتحقق كالتمليك من غير المالك والغنى بكثرة المال وليس للكثرة حد تعرف به وأحوال
الناس فيه شتى فقدر الشرع بحد واحد فصار ذلك شرطا للوجوب لما كان أمرا زائدا على الأهلية بالعقل والبلوغ الأصلية وشرط الوجوب لا يشترط دوامه إذ الوجوب في واجب واحد لا يتكرر فأما قيام المال بصفة النماء فميسر للأداء فتغير به صفة الواجب فشرطنا دوامه وهذا بخلاف استهلاك النصاب فإنه لا يسقط الحق وقد صار غرما لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق فيصير المستهلك متعديا على صاحب الحق فعد قائما في حق صاحب الحق فصار الواجب على هذا التقدير غير متبدل ولهذا قلنا أن الموسر إذا حنث في اليمين ثم إذا عسر وذهب ماله انه يكفر بالصوم لأن الوجوب متعلق بالقدرة الميسرة الدليل عليه أن الشرع خيره عند قيام القدرة بالمال والتخير تيسير ولأنه نقل إلى الصوم لقيام العجز عند أداء الصوم مع توهم القدرة فيما يستقبل ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم في العمر كله لكنه اعتبر العدم الحالي ألا ترى انه قال فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وتقدير العجز بالعمر يبطل أداء الصوم فعلم انه أراد به العجز الحالي وكذلك في طعام الظهار وسائر الكفارات فثبت أن القدرة ميسرة فكانت من قبيل الزكاة إلا أن المال ههنا غير عين فأي مال أصابه من بعد دامت به القدرة ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك ههنا لأن الحق لما كان مطلقا عن الوقت ولم يكن متعينا لم يكن الاستهلاك تعديا وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة الفعل التي لا تسبق الفعل ولهذا قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين لأنه ينافي الغناء واليسر ولا يلزم أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة وهو ينافي اليسر لأنه قال في كتاب الأيمان رجل له ألف درهم وعليه دين أكثر من ألف فكفر بالصوم بعد ما يقضي دينه بماله قال يجزئه ولم يذكر أنه إذا لم يصرف إلى دينه ما جوابه فقال بعض مشايخنا يجزيه التكفير
بالصوم لما قلنا من فوات صفة اليسر به فيجعل المال كالمعدوم وقال بعضهم بل يجب بالمال ولا يجزئه الصوم بخلاف الزكاة والفرق أن الزكاة وجبت بصفة اليسر وبشرط القدرة وبغنى الإغناء يقول النبي صلى الله عليه و سلم أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم وبقوله لا صدقة إلا عن ظهر غنى فهذا الإغناء وجب عبادة شكر النعمة الغنى فشرط الكمال في سببه ليستحق شكره فيكون الواجب شطرا من الكامل والدين يسقط الكمال ولا يعدم أصله ولهذا أحلت له الصدقة فلم يجب عليه الاغناء ولهذا لا يتأدى الزكاة إلا بعين متقومة واما الكفارة فلا تستغني عن شرط القدرة وعن قيام صفة اليسر في تلك القدرة إلا إنها لم تشرع للاغناء ألا ترى انها شرعت ساترة أو زاجرة لا امرا أصليا للفقير إغناء له ألا ترى انه يتأدى بالتحرير وبالصوم ولا اغناء فيهما لكن المقصود به نيل الثواب ليقابل بموجب الجناية وما يقع به كفاية الفقير في باب الكفارة يصلح سببا للثواب ولذلك يتأدى بالإباحة ولا اغناء يحصل بها فإذا لم يكن الاغناء مقصودا لم يشترط صفة الغنى في المخاطب بها بل القدرة واليسر بها شرط وذلك لا ينعدم بالدين ويتبين أنها لم يجب شكرا للغنى بل جزاء للفعل فلم يشترط كمال صفة الغنى إنما شرط أدنى ما يصلح لطلب الثواب واصل المال كاف لذلك وعلى هذا الأصل يخرج سقوط العشر بهلاك الخارج لأنه وجب بشرط القدرة الميسرة لأن القدرة على أداء العشر تستغني عن قيام تسعة الأعشار لكنه شرط ذلك لليسر ولم يجب إلا بأرض نامية بالخارج فشرط قيامه لبقاء صفة اليسر وكذلك الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع آفة لأنه إنما وجب بصفة اليسر ألا ترى انه لا يجب إلا بسلامة الخارج إلا انه بطريق التقدير بالتمكن لكون الواجب من غير جنس الخارج وبدليل أن الخارج إذا قل حط الخراج إلى نصف الخارج ولما كان كذلك سقط بهلاك الخارج حتى لا ينقلب غرما محضا وهذا مخالف
للحج فانه إذا وجب بملك الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما لأنه وجب بشرط القدرة دون اليسر ألا ترى أن الزاد والراحلة أدنى ما يقطع به السفر ولا يقع اليسر إلا بخدم ومراكب وأعوان وليس بشرط بالإجماع فلذلك لم يكن شرطا لدوام الواجب وكذلك لا يسقط صدقة الفطر بهلاك الرأس وذهاب الغنى لانها لم تجب بصفة اليسر بل بشرط القدرة وقيام صفة الأهلية بالغنى ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس الحر ولا يقع به الغنى ووجبت الغنى بثياب البذلة ولا يقع بها اليسر لأنها ليست بنامية فلم يكن البقاء مفتقر إلى دوام شرط الوجوب ولا يلزم أنها لا يجب عند قيام الدين وقت الوجوب لأن الدين يعدم الغنا الذي هو شرط الوجوب وبه يقع أهلية الاغناء بخلاف الدين على العبد فإنه لا يمنع لأنه لا يمنع قيام الغنى بمال آخر يفضل عن حاجته بالغناء مائتي درهم وبخلاف زكوة التجارة فإنها تسقط بدين العبد الذي هو للتجارة لأن الزكوة يقتضي صفة الغنى الكامل تعين النصاب لا بغيره والله أعلم هذا الذي ذكرنا هو في تقسيم صفة الأمر وصفة المأمور به في نفسه فأما ما يكون صفة قائمة بغيره وهو الوقت فلا بد من ترتيبه على الدرجة الأولى وهذا
باب
تقسيم المأمور به في حكم الوقت العبادات نوعان مطلقة ومؤقتة أما المطلقة فنوع واحد وأما المؤقتة فأنواع نوع جعل الوقت ظرفا للمؤدي شرط للأداء وسببا للوجوب وهو وقت الصلوات إلا ترى أنه يفضل عن الأداء فكان ظرفا لا معيارا والأداء يفوت بفواته فكان شرطا والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت ويفسد التعجيل قبله فكان سببا وهذا القسم أربعة أنواع نوع منها ما يضاف إلى الجزء الأول والثاني ما يضافإلى ما يلي ابتداء الشروع من سائر أجزاء الوقت ونوع آخر ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده والنوع الرابع ما يضاف إلى جملة الوقت ودلالة كون الوقت سببا نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والقسم الثاني من المؤقتة ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وذلك مثل شهر رمضان والقسم الثالث ما جعل الوقت معيارا له ولم يجعل سببا مثل أوقات صيام الكفارة والنذور والأصل في أنواع القسم الأول من المؤقتة أن الوقت لما جعل سببا لوجوبها وظرفا لأدائها لم يستقم أن يكون كل الوقت سببا لان ذلك يوجب تأخير الاداء عن وقته أو تقديمه على سببه فوجب أن يجعل بعضه سببا وهو ما يسبق الاداء حتى يقع الاداء بعد سببه وليس بعد الكل جزء مقدر فوجب الاقتصار على الادنى ولهذا قالوا في الكافر إذا ادرك الجزء الاخير بعد ما اسلم لزمه فرض الوقت وقد قال محمد رحمه الله في نوادر الصلاة في مسألة الحائض إذا طهرت وايامها عشرة أن الصلاة تلزمها إذا ادرك شيئا من الوقت قليلا كان ذلك أو كثيرا وإذا ثبت هذا كان الجزء السابق اولى أن يجعل سببا لعدم ما يزاحمه وبدليل أن الاداء بعد الجزء الأول صحيح ولولا أنه سبب لما صح ولما صار الجزء الأول سببا افاد الوجوب بنفسه وافاد صحة الاداء لكنه لم يوجب الاداء للحال لان الوجوب جبر من الله تعالى بلا اختيار من العبد ثم ليس من ضرورة الوجوب تعجيل الاداء بل الاداء متراخي إلى الطلب كثمن المبيع ومهر النكاح يجبان بالعقد ووجوب الاداء يتأخر إلى المطالبة وهو الخطاب فأما الوجوب فبالايجاب لصحة سببه لا بالخطاب ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل وهو كثوب هبت به الريح في دار انسان لا يجب عليه تسليمه إلا بالطلب وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة بدلالة أن الشرع خيره في وقت الاداء فلا يلزمه الاداء إلا أن يسقط خياره بضيق الوقت ولهذا قلنا
إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه وهو كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت الصلاة وجب الأصل وتراخي وجوب الاداء والخطاب فكذلك عن الجزء الأول وتبين أن الوجوب يحصل بأول الجزء خلافا لبعض مشايخنا وان الخطاب بالأداء لا يتعجل خلافا للشافعي رحمه الله ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم كذلك ينتقل لما قلنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الاداء وكان ما يلي الاداء به اولى لان ما وجب نقل السببية عن الجملة إلى الاقل لم يجز تقريره على ما سبق قبيل الاداء لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل بلا دليل وإذا انتهى إلى اخر الوقت حتى تعين الاداء لازما ما استقرت السببية لما يلي الشروع في الاداء فإن كان ذلك الجزء صحيحا كما في الفجر وجب كاملا فإذا اعترض الفساد بطلوع الشمس بطل الفرض وان كان ذلك الجزء فاسد انتقص الواجب كالعصر يستأنف في وقت الاحمرار فإذا غربت الشمس وهو فيها لم يتغير لم يفسد ولا يلزم إذا ابتداء العصر في أول الوقت ثم مده إلى أن غربت الشمس قبل فراغه منها فإنه نص محمد أنه لا يفسد وقد كان الوجوب مضافا إلى سبب صحيح ووجهه أن الشرع جعل الوقت متسعا ولكن جعل له حق شغل كل الوقت بالأداء فإذا شغله بالأداء جاز إن اتصل به الفساد لأن ما يتصل من الفساد بالبناء جعل عفو لأن الاحتراز عنه مع الاقبال على الصلاة متعذر وقد روى هشام عن محمد رحمه الله فيمن قام إلى الخامسة في العصر أه يستحب له الاتمام لأنه من غير قصده ثبت فإذا اتصل به الفساد صار في الحكم عفوا فصار بمنزلة المؤدي في وقت الصحة بخلاف حالة الابتداء لأنه بقصده ثبت الفساد إذ الاحتراز عنه ممكن بأن يختار وقتا لا فساد فيه واما إذا خلا الوقت عن الاداء اصلا فقد ذهب الضرورة الداعية عن الكل إلى الجزء وهو ما ذكرنا من شغل الاداء فانتقل الحكم إلى ما هو الأصل وهو
أن يجعل كل الوقت سببا فإذا فاتت العصر اصلا أضيف وجوبها إلى جملة الوقت دون الجزء الفاسد فوجبت بصفة الكمال فلم يجز داؤها بصفة النقصان ولا يلزم إذا اسلم الكافر في اخر وقت العصر ثم لم يؤد حتى احمرت الشمس في اليوم الثاني وقد نسى ثم تذكر فأراد أن يؤديها عند احمرار الشمس لأن هذا لا يروى ومن حكم هذا القسم أن وقت الاداء لما لم يكن متعينا شرعا والاختيار فيه للعبد لم يقبل التعين بتعيينه قصدا ونصا وانما يتعين ضرورة تعين الاداء وهذا لأن تعين الشرط أو السبب ضرب تصرف فيه وليس إلى العبد ولاية وضع الاسباب والشروط فصار إثبات ولاية التعيين قصدا ينزع إلى الشركة في وضع المشروعات وانما إلى العبد أن يرتفق بما هو حقه ثم يتعين به المشروع حكما ونظير هذا الكفارة الواجبة في الأيمان أن الحانث فيها بالخيار إن شاء اطعم عشرة مساكين وان شاء كساهم وان شاء حرر رقبة ولو عين شيئا من ذلك قصدا لم يصح وانما يصح ضرورة فعله لما قلنا ومن حكمه أن التأخير عن الوقت يوجب الفوات لذهاب شرط الاداء ومن حكم كونه ظرفا للواجب أنه لا ينفي غيره لأنه مشروع افعالا معلومة في ذمة من عليه فبقى الوقت خاليا وبقيت منافعه على حقه فلم ينتف غيرها من الصلوات ومن حكمه أن النية شرط ليصير ماله مصروفا إلى ما عليه ومن حكمه أن تعيين النية شرط لان المشروع لما تعدد لم يصر مذكورا بالاسم المطلق إلا عند تعيين الوصف ومن حكمة أه لما لزمه التعيين لما قلنا لم يسقط بضيق وقت الاداء لان التوسعة افادت شرطا زايدا وهو التعيين فلا يسقط هذا الشرط بالعوارض ولا بتقصير العباد واما النوع الثاني من الموقتة فما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه مثل شهر رمضان وانما قلنا أنه معيار له لأنه قدر وعرف به وسبب له وذلك شهود جزء من الشهر لما نذكر في باب السبب
إن شاء الله ومن حكمه أن غيره صار منفيا لان الشرع لما اوجب شغل المعيار به وهو واحد فإذا ثبت له وصف انتفى غيره كالمكيل والموزون في معياره فانتفى غيره لكون غير مشروع قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ولما لم ينو غيره مشروعا لم يجز اداء الواجب فيه من المسافر لان شرع الصوم فيه عام الا ترى أن صوم المسافر عن الفرض يجزيه فيثبت أن مشروع في حقه إلا أن رخص له أن يدعه بالفطرو هذا لا يجعل غير الفرض مشروعا فانعدم فعله لعدم ما نواه وكذلك على قولهما إذا نوى النفل أو اطلق النية وكذلك المريض في هذا كله وقال أبو حنيفة رحمه الله الوجوب واقع على المسافر ولهذا اصح اداؤه بلا توقف إلا انه رخص له الترك قضاء لحقه و تخفيفا عليه فلما ساغ له الترخص بما يرجع إلى مصالح بدنه ففيما يرجع إلى مصالح دينه وهو قضاء ما عليه من الدين اولى وصار كونه ناسخا لغيره معلقا باعراضه عن جهة الرخصة وتمسكه بالعزيمة وإذا لم يفعل بقي مشروعا فصح اداؤه ولان الاداء غير مطلوب منه في سفره فصار هذا الوقت في حق تسليم ما عليه بمنزلة شعبان فقبل سائر الصيامات والطريق الأول يوجب أن لا يصح النفل بل يقع عن الفرض والثاني يوجب أن يصح وفيه روايتان عنه و أما إذا اطلق النية فالصحيح أن يقع عن رمضان لان الترخص والترك لا يتحقق بهذه العزيمة واما المريض فإن الصحيح عندنا فيه أن يقع صومه بكل حال عن الفرض لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز فيظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فيلحق بالصحيح فأما المسافر فيستوجب الرخصة بعجز مقدر بقيام سببه وهو السفر فلا يظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فلا يبطل الترخص فيتعدى حينئذ بطريق التنبيه إلى حاجته الدينية قال زفر رحمه الله ولما صار الوقت متعينا لهذا المشروع صار ما يتصور من الامساك في هذا الوقت مستحقا على الفاعل فيقع للمستحق
بكل حال كصاحب النصاب إذا وهبه من الفقير بعد الحول وكأجير الواحد يستحق منافعه قلنا ليس التعيين باستحقاق لمنافع العبد لان ذلك لا يصلح قربة وانما القربة فعل يفعله العبد عن اختيار بلا جبر بل الشرع لم يشرع في هذا الوقت مما يتصور فيه الامساك قربة إلا واحدا فانعدم غير الفرض الوقتي لعدم كونه مشروعا لا باستحقاق منافعه كما ينعدم في الليل اصلا ولا استحقاق ثمة فإذا بقيت المنافع له لم يكن بد من التعيين لو يوجد لان عدم العزيمة ليس بشيء بخلاف هبة النصاب لانه عبادة تصلح مجازا عن الصدقة استحسانا وقال الشافعي رحمه الله لما كانت منافعه بقيت على ملكه وجب التعيين حتى يصير مختارا لا مجبورا ولو وضعنا عنه تعيين الجهة لصار مجبورا في صفة العبادة ولخلا معنى العبادة عن الاقبال والعزيمة وقلنا الأمر على ما قلت إلا أنه لما اتحد المشروع في هذا الوقت تعين في زمانه فأصيب بمطلق الاسم ولم يفقد بالخطأ في الوصف كالمتعين في مكانه فصار جوازه بهذه النية على أنه تعيين لا على أن التعيين عنه موضوع فكان هذا منا قولا بموجب العلة وقال الشافعي رحمه الله لما وجب التعيين شرطا بالإجماع وجب من اوله لاه أول اجزائه فعل مفتقر إلى العزيمة فإذا تراخى بطل فإذا اعترضت العزيمة من بعد لم يؤثر في الماضي بوجه لان اخلاص العبد فيما قد عمله لا يتحقق وانما هو لما لم يعمل بعد فإذا فسد ذلك الجزء فسد الباقي لأنه لا يتجزى ووجب ترجيح جانب الفساد احتياطا وهذا بخلاف التقديم لان التقديم واقع على جملة الامساك ولم يعترض عليه ما يبطله فبقى فأما المعترض فلا يحتمل التقدم الا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل بين هذين الوجهين وقلنا نحن أن الحاجة إلى النية لان يصير الامساك قربة وهذا الامساك واحد
غير متجزي صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال الاداء ساقط بالإجماع للعجز وحال الابتداء ساقط ايضا للعجز وصار حال الابتداء هنا نظير حال البقاء في الصلوة وحال البقاء نظير حال الابتداء في صلاة ثم العجز اطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة وجعل موجود تقدير فصار له فضل الاستيعاب ونقصان حقيقة الوجود عند الاداء على حد الاخلاص والعجز الداعي إلى التأخير مومجود في جملة في جنس من يقيم بعد الصبح أو يفيق عن اغمائه وفي يوم الشك ضرورة لازمة لأن تقديم النية من الليل عن صوم الفرض حرام ونية النفل عندك لغو فقد جاءت الضرورة فلأن ثبت بها التأخير مع الوصل بالركن اولى ولهذا رجحان في الوجود عند الفعل وهو حد حقيقة الأصل ونقصان القصور عن الجملة بقليل يحتمل العفو فاستويا في طريق الرخصة بل هو ارجح وهذا الوجه يوجب الكفارة بالفطر فيه وروى ذلك عنهما ولما صح الاقتصار على البعض للضرورة وجب المصير إلى ما له حكم الكل من وجه خلفا عن الكل من وجه وهو أن يشترط الوجود في الاكثر لأن الاقل في مقابلته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل تقديرا فلم نجوزه بعد الزوال ورجحنا الكثير على القليل لانه في الوجود راجح وبطل الترجيح على ما قلنا بصفة العبادة لانه حال بعد الوجود والكثرة والقلة من باب الوجود والوجود قبل الحال فوجب الترجيح به على ما يأتي بيانه في باب الترجيح ان شاء الله ولان صيانة الوقت الذي لا درك له اصلا على العباد واجب وهو معنى قول مشايخنا أن اداء العبادة في وقتها مع النقصان اولى فصار هذا الترجيح متعارضا وهذا الوجه يوجب أن لا كفارة فيه ويروي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله ولم نقل بالاسناد ولا بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق الصحة والامساك في أول النهار قربة مع قصور معنى الطاعة فيه
لانه لا مشقة في الامساك في أول النهار فصار إثبات العزيمة فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوقيرا لحظة وعلى هذا الأصل قلنا أن صوم النفل مقدر بكل اليوم حتى فسد بوجود المنافي في اوله ولم يتأد إلا من اوله ولم يتأد بالنية في الآخر لان الصوم عرف قربة بمعيار ولم يعرف معياره إلا بيوم كامل فلم يجز شرع العبادة واما الامساك في أول يوم النحر فلم يشرع صوما ولكن ليكون ابتداء التناول من القرابين كراهية للاضياف أن يتناولوا من غير طعام الضيافة قبل طعامها ومن هذا الجنس الصوم لا المنذور في وقت بعينه لما انقلب بالنذر صوم الوقت واجبا لم يبق نفلا لانه واحد يقبل وصفين متضادين فصار واحدا من هذا الوجه فأصيب بمطلق الاسم ومع الخطأ في الوصف وتوقف مطلق الامساك فيه على صوم الوقت وهو المنذور لكنه إذا صامه عن كفارة أو قضاء ما عليه صح عما نوى لأن التعيين حصل بولاية الناذر وولايته لا تعدوه فصح التعيين فيما يرجع إلى حقه وهو أن لا يبقى النفل شرعا فأما في ما يرجع إلى حق صاحب الشرع وهو أن لا يبقى الوقت محتملا لحقه فلا فاعتبر في احتمال ذلك العارض بما لو لم ينذروا ما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا فمثل الكفارات الموقتة باوقات غير متعينة كقضاء رمضان والنذر المطلق والوقت فيها معيار لا سبب ومن حكمها انها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية وذلك في اكثر الامساك ومن حيث إنها غير متعينة لا يتوقف الامساك فيها إلا لصوم الوقت وهو النفل فأما على الواجب فلا لأنه محتمل الوقت وانما التوقف على الموضوعات الاصلية فأما على المحتمل فلا فلهذا كانت النية من اوله شرطا ليقع الامساك من اوله من العارض الذي يحتمله الوقت فأما إذا توقف على وجه فلا يحتمل إلى غيره ومن حكمه أنه لا فوات له لما لم يكن
لانتقال الوقت متعينا وأما النوع الرابع من المؤقتة فهو المشكل منه وهو حج الإسلام ومعنى قولنا أنه مشكل أن وقته العمر وأشهر الحج في كل عام صالح لأدائه أم أشهر الحج من العام الأول وقت متعين لأدائه ولا خلاف في الوصف الأول حتى إذا أخر عن العام الأول كان مؤديا فأما الوصف الثاني فهو صحيح عند أبي يوسف في الحال واشهر الحج في هذا العام الذي لحقه الخطاب به بمنزلة وقت الصلاة فإذا أدرك العام الثاني صار ذلك بمنزلة العام الأول لا يصير كذلك إلا بشرط الإدراك وقال محمد رحمه الله موسعا يسع تأخيره عن العام الأول وقال الكرخي وجماعة من مشايخنا أن هذا يرجع إلى أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور أم لا مثل وجوب الزكوة وصدقة الفطر والعشر والنذر بالصدقة المطلقة فقال أبو يوسف على الفور وقال محمد رحمه الله على التراخي فكذلك الحج فأما تعين الوقت فلا والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف فأما مسئلة الحج مسئلة مبتداءة فذهب محمد رحمه الله في ذلك أن الحج فرض العمر بلا خلاف إلا أنه لا يتدي في كل عام إلا في وقت خاص فيكون وقته نوعا من أنواع اشهر الحج في عمره وإليه تعيينه كصوم القضاء القضاء وقته النهر دون الليالي والى العبد تعيينه فلا يتعين الذي يليه إلا بتعيينه بطريق الأداء ألا ترى انه متى اداه كان مؤديا ولو كان الأول متعينا لصار بالتأخير مفوتا والدليل عليه أنه بقي وقتا للنفل مع انه لم يشرع في مدة واحدة إلا حج واحد ولو تعين للفرض لما بقي النفل مشروعا كما في شهر رمضان فثبت انه غير متعين إلا بالأداء ومتى تعين بالأداء لم يبق النفل فيه مشروعا ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من العام الأول متعينة للأداء فلا يحل له التأخير عنها كوقت الظهر للظهر وإنما قلنا هذا لأن الخطاب للأداء لحقه في هذا
الوقت وهذا واحد لا مزاحم له لأن المزاحمة لا يثبت إلا بإدراك وقت آخر وهو مشكوك لأنه لا يدركه إلا بالحياة إليه والحياة والممات في هذه المدة سواء في الاحتمال فلا يثبت الادراك بالشك فيبقى هذا الوقت متعينا بلا معارضة ويسير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة فيصير كوقت الظهر في التقدير بخلاف الصوم لأن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته والتعارض للحال غير قائم لأن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة والموت في ليلة واحدة بالفجاءة نادر فلا يترك الظاهر بالنادر وإذا كان كذلك استوت الأيام كلها كأنه أدركها جملة فخير بينها ولا يتعين أولها ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا لأنا إنما اعتبرنا التعيين احتياطا واحترازا عن الفوت فظهر ذلك حق المأثم لا غير فأما أن يبطل اختيار جهة التقصير والمأثم فلا ولا يلزم إذا أدرك العام الثاني لأنا إنما عينا الأول لوقوع الشك فإذا أدركه وذهب الشك صار الثاني هو المتعين وسقط الماضي لأن الماضي لا يحتمل الأداء بعد مضيه وفي إدراك الثالث شك فقام الثاني مقام الأول ومن حكم هذا الأصل أن وقت الحج ظرف له لا معيار ألا ترى أنه يفضل عن أدائه وان الحج افعال عرفت بأسمائها وصفاتها لا بمعيارها فأشبه وقت الظهر فلا يدفع غيره من جنسه ولهذا قلنا أن التطوع بالحج يصح ممن عليه حجة الإسلام كالنفل ممن عليه الظهر وقال الشافعي رحمه الله لما عظم أمر الحج استحسنا في الحجر عن التطوع صيانة له وإشفاقا عليه وهو نظير حجر السفيه فإن هذا من السفه ومثل هذا مشروع فإنه صح بإطلاق النية وصح أصله بلا نية ممن أحرم عنه أصحابه عند الإغماء وبإحرام الرجل عن أبويه لكنا نقول الحجر عن هذا يفوت الاختيار وهذا ينافي العبادة وقط لا يصح العبادة بلا اختيار لكن الاختيار في كل باب بما يليق به والإحرام
عندنا شرط بمنزلة الوضوء فصح بفعل غيره بدلالة الأمر فأما الأفعال فلا بد من أن يتجرى على بدنه وجوازه عند الإطلاق بدلالة التعيين من المؤدي إذ الظاهر انه لا يقصد النفل وعليه حجة الإسلام فصار التعيين لمعنى في المؤدى لا في المؤدى فإذا نوى النفل فقد جاء صريح بخلافه فيبطل به بخلاف شهر رمضان لأنه متعين لا مزاحم له في وقته لا لمعنى في المؤدى وهذا كنقد البلد لما تعين لمعنى في المؤدى وهو تيسير إصابته دلالة بطل عند التصريح بغيره واما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي خلافا للكرخي على ما أشرنا إليه والله أعلم ومن هذا الأصل
باب النهي
قال النهي المطلق نوعان نهي عن الأفعال الحسية مثل الزنا والقتل وشرب الخمر ونهي عن التصرفات الشرعية مثل الصوم والصلاة والبيع والاجارة وما أشبه ذلك فالنهي عن الأفعال الحسية دلالة على كونها قبيحة في أنفسها لمعنى في أعيانها بلا خلاف إلا إذا قام الدليل على خلافه وأما النهي المطلق عن التصرفات الشرعية فيقتضي قبحا لمعنى في غير المنهي عنه لكن متصلا به حتى يبقى المنهي مشروعا مع إطلاقا النهي وحقيقته وقال الشافعي رحمه الله بل يقتضي هذا القسم قبحا في عينه حتى لا يبقى مشروعا أصلابمنزلة القسم الأول إلا أن يقوم الدليل فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول وبيان هذا الأصل في صوم يوم العيد وأيام التشريق والربا والبيع الفاسد أنها مشروعة عندنا لأحكامها وعنده باطلة منسوخة لا حكم لها احتج الشافعي رحمه الله بان العمل بحقيقة كل قسم واجب لا محالة إذ الحقيقة أصل في كل باب والنهي في اقتضاء القبح حقيقة كالأمر في اقتضاء الحسن حقيقة ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى
كان حسنا لمعنى في عينه إلا بدليل فكذلك النهي في صفة القبح وهذا لأن المطلق من كل شيء يتناول الكامل منه ويحتمل القاصر والكمال في صفة القبح فيما قلنا فمن قال بأنه يكون مشروعا في الأصل قبيحا في الوصف يجعله مجازا في الأصل حقيقة في الوصف وهذا عكس الحقيقة وقلب الأصل وإذا ثبت هذا الأصل كان لتخريج الفروع وطريقان أحدهما أن ينعدم المشروع باقتضاء النهي والثاني أن ينعدم بحكمه وبيان ذلك أن من ضرورات كون التصرف مشروعا أن يكون مرضيا قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وللمشروعات درجات وأدناها أن يكون مرضية وكون الفعل قبيحا منهيا ينافي هذا الوصف وإن كان داخلا في المشيئة والقضاء والحكم كالكفر وسائر المعاصي فإنها بمشيئة الله وقضاء الله وحكمه توجد لا يرضاه فصار النهي عن هذه التصرفات نسخا بمقتضاه وهو التحريم السابق والثاني أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وان يصير الفعل على خلاف موجبه معصية هذا موجب حقيقته وبين كونه معصية وبين كونه مشروعا وطاعة تضاد وتناف ولهذا لم يثبت حرمة المصاهرة بالزنا لأنها شرعت نعمة تلحق بها الأجنبية بالأمهات والزنا حرام محض فلم يصلح سببا لحكم شرعي هو نعمة وكذلك الغصب لا يفيد الملك لما قلنا ولا يلزم إذا جامع المحرم أو أحرم مجامعا أنه يبقى مشروعا مع كونه فاسدا لأن الاحرام منهي لمعنى الجماع وهو غيره لا محالة لكنه محظورة فصار مفسدا والاحرام لازم شرعا لا يحتمل الخروج باختيار العباد ففسد ولم ينقطع بجناية الجاني وكلامنا فيما ينعدم شرعا لا فيما لا ينقطع بجناية الجاني ولا يلزم الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها لأنه منهي عنه لمعنى في غيره وهو الضرر بالمرأة بتطويل العدة أو بتلبيس أمر العدة عليها ولهذا لم يكن سفر المعصية سببا للرخصة للنهي ولا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء للنهي أيضا فلم يصلح سببا مشروعا
ولا يلزم الظهار لأن كلامنا في حكم مطلوب تعلق بسبب مشروع له ليبقى سببا والحكم به مشروعا مع وقوع النهي عليه فأما ما هو حرام غير مشروع تعلق به جزاء زاجر عنه فيعتمد حرمة سببه كالقصاص ليس بحكم مطلوب بسبب مشروع بل جزاء شرع زاجر فاعتمد حرمة سببه ولنا ما احتج به محمد رحمه الله في كتاب الطلاق أن صيام العيد وأيام التشريق منهي والنهي لا يقع على ما يتكون وبيانه أن النهي يراد به عدم الفعل مضافا إلى اختيار العباد وكسبهم فيعتمد تصوره ليكون العبد مبتلي بين أن يكف عنه باختياره فيثاب عليه وبين أن يفعله باختياره فيلزمه جزاؤه والنسخ لإعدام الشيء شرعا لينعدم فعل العبد لعدم المشروع بنفسه ليصير امتناعه بناء على عدمه وفي النهي يكون عدمه بناء على امتناعه وهما في طرفي نقيض فلا يصح الجمع بحال والحكم الأصلي في النهي ما ذكرنا فأما القبح فوصف قائم بالنهي مقتضا به تحقيقا لحكمه فكان تابعا فلا يجوز تحقيقه على وجه يبطل به ما أوجبه واقتضاه فيصير المقتضى دليلا على الفساد بعد أن كان دليلا على الصحة بل يجب العمل بالأصل في موضعه والعمل بالمقتضى بقدر الإمكان وهو أن يجعل القبح وصفا للمشروع فيصير مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه فيصير فاسدا هذا غاية تحقيق هذا الأصل فأما الشافعي رحمه الله فقد حقق المقتضى وأبطل المقتضى وهذا في غاية المناقضة والفساد فإن قيل هذا صحيح في الأفعال الحسية لأنها لا تنعدم بصفة القبح فأما الشرعية فتنعدم لما قلنا فلا بد من إقامة الدلالة على أن المشروعات يحتمل هذا الوصف قيل له قد وجدنا المشروع يحتمل الفساد بالنهي كالاحرام الفاسد والطلاق الحرام والصلاة الحرام والصوم المحظور يوم الشك وما أشبه ذلك فوجب إثباته على هذا الوجه رعاية لمنازل المشروعات ومحافظة لحدودها وعلى هذا الأصول يخرج الفروع كلها منها أن البيع بالخمر منهي بوصفه وهو الثمن
لأن الخمر مال غير متقوم فصلح ثمنا من وجه دون وجه فصار فاسدا لا باطلا ولا خلل في ركن العقد ولا في محله فصار قبيحا بوصفه مشروعا بأصله وكذلك إذا اشترى خمرا بعبد لأن كل واحد منهما ثمن لصاحبه فلم ينعقد في الخمر لعدم محله وانعقد في العبد لوجود محله وفسد بفساد ثمنه بخلاف الميتة لأنها ليست بمال ولا بمتقومة فوقع البيع بلا ثمن وهو غير مشروع وكذلك جلد الميتة لأنه ليس بمال ولا متقوم وكذلك بيع الربا مشروع بأصله وهو وجود ركنه في محله غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العوض فصار فاسدا لا باطلا وكذلك الشرط الفاسد في البيع مثل الربا ولهذا قلنا في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أن النهي يعدم الوصف من شهادته وهو الأداء ويبقى الأصل فيصير فاسدا ومنها صوم يوم العيد وأيام التشريق حسن مشروع بأصله وهو الإمساك لله تعالى في وقته طاعة وقربة قبيح بوصفه وهو الإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم فلم ينقلب الطاعة معصية بل هو طاعة انضم إليها وصف هو معصية ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت ولا فساد فيه والنهي يتعلق بوصفه وهو أنه يوم عيد فصار فاسدا ومعنى الفاسد ما هو غير مشروع بوصفه مثل الفاسد من الجواهر وبيانه على وجه يعقل أن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد والمتناول من جنس الشهوات بأصله طيب بوصفه فصار تركه طاعة بأصله معصية بوصفه على مثال البيع الفاسد ولهذا صح النذر به لأنه نذر بالطاعة وإنما وصف المعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا ولهذا قلنا في ظاهر الرواية لا يلزم بالشروع لأن الشروع فيه متصل بالمعصية فأمر بالقطع حقا لصاحب الشرع فصار مضافا إلى صاحب الشرع فبرئ العبد عن عهدته ومنها الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها مشروعة بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشروطها والوقت صحيح بأصله
فاسد بوصفه وهو أنه منسوب إلى الشيطان كما جاءت به السنة إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنه ظرفها لا معيارها وهو سببها فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة فقيل لا يتأدى به الكامل ويضمن بالشروع والصوم يقوم بالوقت ويعرف به فازداد الأثر فصار فاسدا فلم يضمن بالشروع والنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة متعلق بما ليس بوصف فلم تفسد فكذلك البيع وقت النداء وهو بخلاف بيع الحر والمضامين والملاقيح لأنه أضيف إلى غير محله فلم ينعقد فصار النهي مجازا عن النفي وهذه الاستعارة صحيحة لما بينهما من المشابهة ولا خلاف فيه إنما الكلام في حكم حقيقته وكذلك صوم الليالي لأن الوصال غير مشروع ولا ممكن والنهار هو المتعين لشهوة البطن غالبا فتعين للصوم تحقيقا للابتلاء فصار النهي مستعارا عن النفي ولا يلزم النكاح بغير شهود لأنه منفي بقوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود وكان نسخا وإبطالا وإنما يسقط الحد ويثبت النسب والعدة لشبهة العقد ولأن النكاح شرع لملك ضروري لا ينفصل عن الحل حتى لم يشرع مع الحرمة ومن قضية النهي التحريم فبطل العقد لمضادة ثبتت بمقتضى النهي بخلاف البيع لأنه وضع لملك العين والتحريم لا يضاده لأن الحل فيه تابع ألا ترى أنه شرع في موضع الحرمة وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالأمة المجوسية والعبيد والبهائم وكملك الخمر وكذلك نكاح المحارم منفي لعدم محله فلفظ النهي في قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء مستعار عن النفي وأما استيلاء أهل الحرب فإنما صار منهيا بواسطة العصمة وهي ثابلاتة في حقنا دون اهل الحرب لانقطاع ولايتنا عنهم ولأن العصمة متناهية بتناهي سببهما وهو الاحراز فسقط النهي في حكم الدنيا وأما الملك بالغصب فلا يثبت مقصودا به بل شرطا لحكم شرعي وهو الضمان لأنه شرع جبرا ولا جبر مع بقاء الأصل على ملكه إذ الجبر يعتمد الفوات
وشرط الحكم تابع له فصار حسنا لحسنه وإنما قبح لو كان مقصودا به وفي ضمان المدبر قلنا بزوال المدبر عن ملك المولى لكونه مالا مملوكا تحقيقا لشرط المشروع وهو وجوب الضمان ولا يدخل في ملك المشتري صيانة لحقه ولأن ضمان المدبر جعل مقابلا بالفايت وهو اليد دون الرقبة وهذا طريق جائز لكن لا يصار إليه عن المقابلة بالرقبة إلا عند العجز والضرورة فالطريق الأول واجب وهذا جائز وأما الزنا فلا يوجب حرمة المصاهرة أصلا بنفسه إنما هو سبب للماء والماء سبب للولد وجودا والولد هو الأصل في استحقاق الحرمات ولا عصيان ولا عدوان فيه ثم يتعدى منه إلى أطرافه ويتعدى إلى أسبابه وما يعمل بقيام مقامه غيره فإنما يعمل بعلة الأصل ألا ترى أن التراب لما قام مقام الماء نظر إلى كون الماء مطهرا وسقط وصف التراب فكذلك يهدر وصف الزنا بالحرمة لقيامه مقام ما لا يوصف بذلك في إيجاب حرمة المصاهرة وأما سفر المعصية فغير منهي لمعنى فيه لأنه من حيث أنه خروج مديد مباح وإنما العصيان في فعل قطع الطريق أو التمرد على المولى وهو مجاور له فكان كالبيع وقت النداء ولا يلزم على هذا النهي عن الأفعال الحسية لأن القول بكمال القبح فيها وهو مقتضى مع كمال المقصود ممكن على ما قلنا والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر ما قبح لعينه وضعا مثل الكفر والكذب والعبث وما قبح ملحقا بالقسم الأول وهو بيع الحر والمضامين والملاقيح لأن البيع لما وضع لتمليك المال كان باطلا في غير محله وما قبح لمعنى في غيره وهو البيع وقت النداء الصلوة في أرض مغصوبة وما قبح لمعنى في غيره وهو ملحق به وصفا وذلك مثل البيع الفاسد وصيام يوم النحر والنهي عن الأفعال الحسية يقع على القسم الأول وعن الأمور المشروعة يقع على هذا القسم الذي قلنا أنه ملحق به وصفا
باب معرفة أحكام العموم
العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله قطعا ويقينا بمنزلة الخاص فيما يتناوله والدليل على أن المذهب هو الذي حكينا أن ابا حنيفة رحمه الله قال أن الخاص لا يقضي عن العام بل يجوز أن ينسخ الخاص به مثل حديث العرنيين في بول ما يؤكل لحمه نسخ وهو خاص بقول النبي عليه السلام استنزهوا من البول ومثل قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة نسخ بقوله ما سقته السماء ففيه العشر ولما ذكر محمد رحمه الله فيمن اوصى بخاتمه لانسان ثم بالفص منه الآخر بكلام مفصول أن الحلقة للأول والفص بينهما وانما استحقه الأول بالعموم والثاني بالخصوص وهذا قولهم جميعا وقالوا في رب المال والمضارب إذا اختلفا في العموم والخصوص أن القول قول من يدعي العموم ولولا استوائهما وقيام المعارضة بينهما لما وجب الترجيح بدلالة العقد وقد قال عامه مشائحنا أن العام الذي لم يثبت خصوصه لا يحتمل الخصوص بخبر الواحد والقياس هذا هو المشهور واختاره القاضي الشهيد في كتاب الغرر فثبت بهذه الجملة أن المذهب عندنا ما قلنا ولهذا قلنا أن قول الله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه عام لم يلحقه خصوص لان الناسى في معنى الذاكر لقيام الملة مقام الذكر فلا يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد وكذلك قوله ومن دخله كان امنا لم يلحقه الخصوص فلا يصح تخصيصه بالآحاد والقياس وقال الشافعي العام يوجب الحكم لا على اليقين وعلى هذا مسائله وقال بعض الفقهاء الوقف واجب في كل عام حتى يقوم الدليل وقال بعضهم بل يثبت به اخص الخصوص اما من قال بالوقف فقد احتج بأن اللفظ العام مجمل فيما أريدبه لاختلاف اعداد الجمع ألا ترى انه يؤكد بما يفسره فيقال جاءني القوم اجمعون وكلهم فلما استقام تفسيره بما يوجب الاحاطة علم انه كان محتملا ألا ترى أن الخاص لا يؤكد بمثله يقال جاءني زيد نفسه لا جمعية لانه يحتمل المجاز دون البيان فلا يؤكد بالجميع وقد ذكر الجميع واريد به البعض مثل قوله تعالى الذين قال لهم الناس ان الناس قد اجمعوا لكم وانما هو واحد فلذلك وجب الوقف وجه القول الآخر ان الاخص وهو الثلاثة من الجماعة والواحد من الجنس متيقن فوجب القول ووجه قولنا والشافعي انه موجب لان العموم معنى مقصود بين الناس شرعا وعرفا فلم يكن له لفظ وضع له لان الالفاظ لا يقصر عن المعاني ابدا الا ترى أن من اراد أن يعتق عبيده كان السبيل فيه أن يعمهم فيقول عبيدي احرار والاحتجاج بالعموم من السلف متوارث وقد احتج ابن مسعود رضي الله عنه في الحمل أنه ينسخ ساير وجوه العدد بقوله واولات الاحمال اجلهن أن يضعن حملهن وقال انه اخرهما نزولا وصار ناسخا للخاص للخاص الذي في سورة البقرة فدل على ما قلنا انه موجب مثل الخاص واحتج على رضي الله عنه في تحريم الجمع بين الاختين وطئا بملك اليمين فقال احلتهما آية وهو قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم وحرمتهما آية وهو قوله تعالى وان تجمعوا بين الأختين فصار التحريم اولى وذلك عام كله ثم قال الشافعي كل عام يحتمل إرادة الخصوص من المتكلم فتمكنت فيه الشبهة فذهب اليقين ولنا أن الصيغة متى وضعت لمعنى كان ذلك المعنى واجبا به حتى تقوم الدليل على خلافه وارادة الباطن لا تصلح دليل لانا نكلف دليلا درك الغيب فلا يبقى له عبرة أصلا والجواب عما احتج به طائفة أهل المقالة الأولى انا ندعى انه موجب لما وضع له لا انه محكم
لما وضع له فكان محتملا أن يراد به بعضه فيصلح توكيده بما يحسم باب الاحتمال ليصير محكما كالخاص يحتمل المجاز فتوكيده بما يقطعه لا بما يفسره فيقال جاءني زيد نفسه لانه قد يحتمل غير المجيء مجازا
باب العام إذا لحقه الخصوص
فان لحق هذا العام خصوص فقد اختلف فيه فقال أبو الحسن الكرخي لا يبقى حجة أصلا سواء كان المخصوص معلوما أو مجهولا وقال غيره إن كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص على ما كان وان كان مجهولا يسقط حكم العموم وقال بعضهم ان كان المخصوص معلوما بقي العام فيما ورائه على ما كان فأما إذا كان مجهولا فان دليل الخصوص يسقط فعلى قول الكرخي يبطل الاستدلال بعامة العمومات لما دخلها من الخصوص وعلى القول الثاني لا يصح الاستدلال بآية السرقة وآية البيع لان ما دون ثمن المجن خص من آية السرقة وهو مجهول وخص الربوا من قوله وحل الله البيع وحرم الربوا وهو مجهول وكذلك نصوص الحدود لان مواضع الشبهة منها مخصوصة وفيها ضرب جهالة واختلاف والصحيح من مذهبه أن العام يبقى حجة بعد الخصوص معلوما كان المخصوص أو مجهولا إلا أن فيه ضرب شبهة وذلك مثل قول الشافعي في العموم قبل الخصوص ودلالة صحة هذا المذهب اجماع السلف على الاحتجاج بالعموم ودلالة أن في ذلك شبهة إجماعهم على جواز التخصيص بالقياس والاحاد وذلك دون خبر الواحد حتى صحت معارضته بالقياس إما الكرخي فقد احتجبان ذلك الخصوص إذا كان مجهولا واجب جهالة في الباقي لان الخصوص بمزلة الاستثناء لانه يبين انه لم يدخل تحت الجملة كالاستثناء وإذا كان معلوما احتمل أن يكونمعلولا وهو الظاهر لان دليل الخصوص نص قائم بنفسه فصلح تعليله ولا يدري أي القدر من الباقي صار مستثنيا فيصير بمنزلة جهالة المخصوص ووجه القول الثاني أن دليل الخصوص إذا كان مجهولا فعلى ما قلنا وان كان معلوما بقي العام موجبا في الباقي لان دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء على ما قلنا فلا يؤثر في الباقي لان الاستثناء لا يحمل التعليل فكذلك هذا ووجه القول الآخر ان دليل الخصوص لما كان مستقلا بنفسه حتى لو تراخى كان ناسخا سقط بنفسه إذا كان مجهولا لان المجهول لا يصلح دليلا بخلاف الاستثناء لانه وصف قائم بالأول فأوجب جهالة فيه وهذا قائم بنفسه معارض للأول ودليل ما قلنا أن دليل الخصوص يشبه الاستثناء يحكمه لما قلنا انه يبين انه لم يدخل في الجملة ألا ترى انه لا يكون إلا مقارنا ويشبه الناسخ بصيغته لانه نص قائم بنفسه فلم يجز الحاقه بأحدهما بعينه بل وجب اعتباره في كل باب بنظيره فقلنا إذا كان دليل الخصوص مجهولا اوجب جهالة في الأول بحكمه إذا اعتبر بالاستثناء وسقط في نفسه بصيغته إذا اعتبر بالناسخ وحكمه قائم بصيغته فصار الدليل مشتبها فلم يبطله بالشك وكذلك إذا كان المخصوص معلوما لانه يحتمل أن يكون معلولا وعلى احتمال التعليل يصير مخصوصا من الجملة كأنه لم يدخل لا على سبيل المعارضة للنص فوجب العمل به فيصير قدر ما تناوله النص مجهولا هذا على اعتبار صيغة النص وعلى اعتبار حكمه لا يصح التعليل لانه شبيه بالاستثناء وهو عدم و العدم لا يعلل فدخلت الشبهة أيضا وقد عرف موجبا فلا يبطل بالاحتمال وهذا بخلاف الناسخ إذا ورد في بعض ما تناوله النص معلوما فان الحكم فيما بقي لا يتغير لاحتمال التعليل لان الناسخ إنما يعمل على طريق المعارضة لا على تبين انه لم يدخل
تحت الصيغة فيصير العلة معارضة للنص واما ههنا فان التعلل يقع على ما وضع له دليل الخصوص وهو أن لا يدخل تحت الجملة فلا يصير معارضا للنص فإذا ثبت الاحتمال فلم يخرج عن الدلالة بالشك صار الدليل مشكوكا بأصله فأشبه دليل القياس فاستقام أن يعارضه القياس بخلاف ما ثبت بخبر الواحد لانه يقين بأصله فلم يصلح أن يعارضه القياس ونظير هذه الجملة من الفروع أن البيع إذا اضيف إلى حر وعبد بثمن واحد والى حي وميت وخمر وخل فهو باطل لان أحدهما لم يدخل تحت العقد فبقى الآخر وحده ابتداء بحصته و كذلك إذا قال بعت منك هذين العبدين بألف درهم إلا هذا بحصته من الألف فصارت هذه الجملة نظير الاسثناء وإذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم أو استحق أو وجد مدبرا ومكاتبا صح البيع في الباقي لان الآخر دخل في البيع وكذلك المدربر والمكاتب يدخلان في البيع وانما امتنع الحكم صيانة لحقهما فصار الآخر باقيا في العقد بحصته فصار هذا من قسم دليل النسخ ونظير دليل الخصوص مسئلة خيار الشرط قال في الزيادات في رجل باع عبدين بألف درهم على انه بالخيار في واحدهما أن البيع لا يصح حتى يعين الذي فيه الخيار ويسمي ثمنه فأما إذا اجمل الثمن ولم يعين الذي فيه الخيار أو عين أحدهما ولم يعين الآخر لم يجر البيع لان الخيار لا يمنع الدخول في الايجاب ويمنع الدخول في الحكم فصار في السبب نظير دليل النسخ وفي الحكم نظير الاستثناء فقيل لا بد من اعلام الثمن والمبيع لجواز البيع بمنزلة الحر والعبد وإذا وجد التعيين واعلام الحصة صح البيع ولم يعتبر الذي شرط فيه الخيار شرطا فاسدا في الآخر بخلاف الحر والعبد وما شاكل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله أن يعتبر شرطا فاسدا في الآخر لا محالة فيفسد به البيع والله اعلم
باب ألفاظ العموم
ألفاظ العموم قسمان عام بصيغته ومعناه وعام بمعناه دون صيغته أما العام بصيغته ومعناه فهو صيغة كل جمع مثل الرجال والنساء والمسلمين والمسلمات والمشركين والمشركات وما أشبه ذلك أما صيغته فموضوعه للجمع وأما معناه فكذلك وذلك شامل لكل ما ينطلق عليه وأدنى الجمع ثلثة ذكر ذلك محمد صريحا في كتاب السير في الأنفال وفي غيرها فصار هذا الإسم عاما متنا ولا جميع ما ينطلق عليه غيران الثلاثة أقل ما يتناوله فصار أولى ولهذا قلنا في رجل قال إن اشتريت عبيد فهو كذا أو أن تزوجت نساء إن ذلك يقع على الثلاثة فصاعد الما قلنا والكلمة عامة لكل قسم يتناوله وقد يصير هذا النوع مجاز عن الجنس إذا دخله لام المعرفة لأن لام المعرفة للعهد ولا عهد في أقسام المجموع فجعل للجنس ليستقيم فكان فيه عمل بالوصفين ولو عمل على حقيقتة بطل حكم اللام أصلا فصار الجنس اولى قال الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد وقال اصحابنا فيمن قال إن تزوجت النساء اولى اشتريت العبيد فامرأته طالق أن ذلك يقع على الواحد فصاعدا لما قلنا انه صار عبارة عن الجنس فسقطت حقيقة الجمع واسم الجنس يقع على الواحد على انه كل الجنس إلا ترى انه لولا غيره لكان كلا فان آدم صلوة الله عليه كان كل الجنس للرجال وحواء رضي الله عنها وحدها كانت كل الجنس للنساء فلا يسقط هذه الحقيقة بالمزاحمة فصار الواحد للجنس مثل الثلاثة للجمع فكما كان اسم الجمع واقعا على الثلاثة فصاعدا كان اسم الجنس واقعا على الواحد فصاعدا وكان كمن حلف لا يشرب الماء انه يقع على القليل على احتمال الكل واما العام بمعناه دون صيغتهفأنواع منهما ما هو فرد وضع للجمع مثل الرهط والقوم ونحو ذلك مثل الطائفة والجماعة فصيغة رهط وقوم مثل زيد وعمرو ومعناهما الجمع ولما كان فرد بصيغته جمعا بمعناه كان اسما للثلاثة فصاعدا إلا الطائفة فانهما اسم للواحد فصاعدا كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أن يقع على الواحد فصاعدا لانه نعت فرد صار جنسا بعلامة الجماعة ومن ذلك كلمة من وهي يحتمل الخصوص والعموم قال الله تعالى ومنهم من يستمعون إليك ومنهم من ينظر إليك واصلها العموم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من دخل دار ابي سفيان فهو آمن وقال اصحابنا رحمهم الله فيمن قال لعبده من شاء من عبيدي العتق فهو حر فشاؤا جميعا عتقوا فأما إذا قال من شئت من عبيدي عتقه فاعتقه فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله للمأمور ان يعتقهم جميعا لان كلمة من عامة وكلمة من لتمييز عبيده من غيرهم مثل قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتقهم إلا واحدا منهم لأن المولى جمع بين كلمة العموم والتبعيض فصار الأمر متناولا بعضا عاما وإذا قصر عن الكل بواحد كان عملا بهما وهذا حقيقة التبعيض وكذلك قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر يتناول البعض إلا انه موصوف بصفة عامة فسقط بها الخصوص وهذه الكلمة يحتمل الخصوص لأنها وضعت مبهمة في ذوات من يعقل مثاله ما قال في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل واحد فله النفل وإن دخل اثنان معا فصاعدا بطل النفل لأن الأول اسم للفرد السابق فلما قرنه بهذه الكلمة دل ذلك على الخصوص فتعين به احتمال الخصوص وسقط العموم فلم يجب النفل إلا لواحد متقدم ولم يوجد وقسم آخر وهي كلمة كل وهي للإحاطة على سبيل الإفراد قال الله تعالى كل نفس ذائقة الموت ومعنى الإفراد أن يعتبر كل مسمى منفردا ليس معه
غيره وهذا معنى ثبت بهذه الكلمة لغة فيما أضيفت إليه كأنها صلة حتى لم تستعمل مفردة وهي تحتمل الخصوص أيضا وهي مثل كلمة من إلا أنها أنها عند العموم تخالفها في إيجاب الإفراد فإذا دخلت على النكرة أوجبت العموم مثل قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق ولا تصحب الأفعال إلا بصلة فإذا وصلت أوجبت عموم الأفعال مثل قول الله سبحانه وتعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وعلى هذا مسائل أصحابنا وبيان ما قلنا من الفرق بين كلمة كل ومن فيما قاله محمد في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل جماعة بطل النفل ولو قال كل من دخل منكم هذا الحصن أو لا فله كذا فدخل عشرة معا وجب لكل رجل منهم النفل كاملا على حياله لما قلنا انه يوجب الإحاطة على سبيل الإفراد فاعتبر كل واحد منهم على حياله وهو أول في حق من تخلف من الناس وفي كلمة من وجب اعتبار جماعتهم وذلك ينافي الأولية ولو دخل العشرة فرادى في مسألة كل كان النفل للأول لأنه هو الأول من كل وجه وهي تحتمل الخصوص فسقط عنها الإحاطة وصارت للخصوص وقسم آخر كلمة الجميع وهي عامة مثل كل إلا إنها يوجب الاجتماع دون الانفراد فصارت بهذا المعنى مخالفة للقسمين الأولين ولذلك صارت مؤكدة لكلمة كل وبيان ذلك في قول محمد في السير الكبير جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة منهم أن لهم نفلا واحدا بينهم جميعا بالشركة ويصير النفل واجبا لأول جماعة يدخل فان دخلوا فرادى كان للأول لأن الجميع يحتمل أن يستعار بمعنى الكل وقسم آخر كلمة ما وهي عامة في ذوات ما لا يعقل وصفات من يعقل تقول ما في الدار جوابه شاة أو فرس وتقول ما زيد و جوابه عاقل أو عالم وقال أصحابنا فيمن قال لأمته إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية لم تعتق لأن الشرط أن يكون جميع
ما في البطن غلاما قال الله تعالى لله ما في السموات وما في الأرض وكذلك كلمة الذي في مسائل اصحابنا وهذه في احتمال الخصوص مثل من كلمة وعلى هذا يخرج قول الرجل لأمرأته طلقي نفسك من الثلاث ما شئت أن على قولهما تطلق نفسها ثلاثا وعند أبي حنيفة رحمه الله واحدة أو اثنتين لما قلنا في الفصل الأول ويجوز ان يستعار كلمة ما بمعنى من وهذه كلمات موضوعة غير معلولة وقسم أخر النكرة إذا اتصل بها دليل العموم لأن النكرة تحتمل ذلك إذ اتصل بها دليله مثل ما قلنا في كلمة كل ودلائل عمومها ضروب وبيان ذلك أن النكرة في النفي تعم وفي الاثبات تخص لأن النفي دليل العموم وذلك ضروري لا لمعنى في صيغة الاسم وذلك انك إذا قلت ما جاءني رجل فقد نفيت مجيء رجل واحد نكرة ومن ضرورة نفيه نفي الجملة ليصح عدمه بخلاف الاثبات لان مجيء رجل واحد لا يوجب مجيء غيره ضرورة فهذا ضرب من دلائل العموم وضرب آخر إذا دخل لام التعريف فيما لا يحتمل التعريف بعينه لمعنى العهد وذلك مثل قول الله تعالى والعصر أن الانسان لفي خسر أي هذ الجنس وكذلك قول الله والسارق والسارقة والزانية والزاني ومثاله قول علمائنا رحمهم الله المرأة التي أتزوج طالق واصل ذلك أن لام المعرفة للعهد وهو أن تذكر شيئا ثم تعاوده فيكون ذلك معهودا قال الله كما ارسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول أي هذا الذي ذكرنا فيكون الثاني هو الأول ومثاله قول علمائنا فيمن اقر بألف مقيدا بصك ثم اقر به كذلك أن الثاني هو الأول وإذا كان كل واحد منهما نكرة كان الثاني غير الأول عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يتحد المجلس فيصير دلالة على معنى العهد عند أبي يوسف ومحمد يحمل الثاني على الأول وان اختلف المجلس لدلالة العادة على معنى العهد وذلك معنى قول ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى فإن مع العسر يسرا لن يغلب عسر واحد يسرين لأن العسر اعيد من معرفة واليسر اعيد نكرة
إن صحت هذه الحكاية عنه وفيه نظر عندنا بل هذا تكرير مثل قوله تعالى اولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى وإذا تعذر معنى العهد حمل على الجنس ليكون تعريفا له مثل قولك فلان يحب الدينار أي هذا الجنس إذ ليس فيه عين معهودة وذلك مثل قوله انت طالق الطلاق وضرب آخر من دلائل العموم إذا اتصل بها وصف عام مثل قول الرجل والله لا أكلم احدا إلا رجلا كوفيا ولا اتزوج امرأة إلا امرأة كوفية والله لا اقربكما إلا يوما اقربكما فيه أن المستثنى في هذا كله يكون عاما لعموم وصفه والنكرة تحتمل ذلك ومن هذا الضرب كلمة أي وهي نكرة يراد بها جزء مما تضاف اليه على هذا إجماع أهل اللغة قال الله تعالى ايكم يأتيني بعرشها ولم يقل يأتونني ويقال أي الرجل اتاك وقال محمد رحمه الله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه فإنهم يعتقون ولم يقل ضربوك فتثبت إنها كلمة فرد لكنها متى وصفت بصفة عامة عمت بعمومها كساير النكرات في موضع الاثبات وإذا قال أي عبيدي ضربك فقد وصفها بالضرب وصارت عامة وإذا قال أي عبيدي ضربته فقد انقطع الوصف عنها فلم يعتق إلا واحد وعلى ذلك مسائل اصحابنا وكذلك إذا قال ايكم حمل هذه الخشبة فهو حر وهي لا يحملها واحد فحملوا عتقوا وان كان يحملها واحد فحملوا كلهم فرادى عتقوا وإذا اجتمعوا على ذلك لم يعتقوا لأن المراد به فيما يخف حمله انفراد كل واحد منهم في العادة لإظهار الجلادة واما النكرة المفردة في موضع الاثبات فإنها تخص عندنا ولا تعم إلا إنها مطلقة وقال الشافعي رحمه الله هي توجب العموم ايضا حتى قال في قول الله تعالى فتحرير رقبة إنها عامة تتناول الصغيرة والكبيرة والبيضاء والسوداء والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وقد خص منها الزمنة بالإجماع فصح تخصيص الكافرة منها بالقياس بكفارة القتل قلنا نحن هذه مطلقة
لا عامة لانها فرد فيتناول واحدا على احتمال وصف دون وصف والمطلق يحتمل التقييد وذلك مانع من العمل بالمطلق فصار نسخا وقد جعل وجوب التحرير جزاء الأمر فصار ذلك سببا له فيتكرر مطلقا بتكرره وصار مقيدا بالملك لاقتضاء التحرير الملك لا على جهة الخصوص ولم يتناول الزمنة لان الرقبة اسم للبنية مطلقا فوقعت على الكامل من الذي هو موجود مطلق فلم يتناول ما هو هالك من وجه وكذلك التحرير المطلق لا يخلص فيما هو هالك من وجه فلم يدخل الزمن فأما أن يكون مخصوصا فلا وصار ما ينتهي اليه الخصوص نوعان الواحد فيما هو فرد بصيغته أو ملحق بالفرد واما الفرد فمثل الرجل والمرأة والانسان والطعام والشراب وما اشبه ذلك أن الخصوص يصح إلى أن يبقى الواحد واما الفرد بمعناه فمثل قوله لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد أنه يصح الخصوص حتى يبقى الواحد واما ما كان جمعا صيغة ومعنى مثل قوله ان اشتريت عبيد أو ان تزوجت نساء أو ان اشتريت ثيابا فان ذلك يحتمل الخصوص إلى الثلاثة والطائفة يحتمل الخصوص إلى الواحد بخلاف الرهط والقوم وهذا لان ادنى الجمع ثلاثة نص محمد رحمه الله في السير الكبير وعلى هذا عمت مسائل اصحابنا رحمهم الله وقال بعض أصحاب الشافعي أن ادنى الجمع اثنان لما روي عن النبي عليه السلام انه قال الاثنان فما فوقهما جماعة ولان اسم الاخوة ينطلق على الاثنين في قوله تعالى فإن كان له اخوة فلأمه السدس وفي المواريث والوصايا يصرف الجمع إلى المثنى بالإجماع ويستعمل المثنى استعمال الجمع في اللغة يقال نحن فعلنا في الاثنين وقال الله تعالى فقد صغت قلوبكما ولا خلاف أن الإمام يتقدم إذا كان خلفه اثنان وفي المثنى اجتماع كما في الثلاثة ولنا قول النبي عليه السلام الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب ولنا ايضا دليل من قبل الإجماع ودليل من قبل المعقول إما من قبل الإجماع فإن أهل
اللغة مجمعون على أن الكلام ثلاثة اقسام احاد ومثنى وجمع وعلى ذلك بنيت احكام اللغة فللمثنى صيغة خاصة لا يختلف وللواحد ان بنية مختلفة وكذلك الجمع ايضا يختلف ابنيته وليس للمثنى إلا مثال واحد وله علامات على الخصوص واجمع الفقهاء أن الإمام لا يتقدم على الواحد فثبت أنه قسم منفرد واما المعقول فإن الواحد إذا اضيف اليه الواحد تعارض الفردان فلم يثبت الاتحاد ولا الجمع واما الثلاثة فإنما يعارض كل فرد اثنان فسقط معنى الاتحاد اصلا وقد جعل الثلاثة في الشرع حدا في ابلاء الاعذار فأما الحديث فمحمول على المواريث والوصايا أو على سنة تقدم الإمام في الجماعة أن يتقدم على المثنى كما يتقدم على الثلاث وفي المواريث ثبت الاختصاص بقوله تعالى فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك والحجب يبتني على الارث ايضا والوصية يبتني عليه ايضا والثاني قلنا أن الخبر محمول على ابتداء الإسلام حيث نهى الواحد عن المسافرة واطلق الجماعة على ما روينا فإذا ظهر قوة المسلمين قال الاثنان فما فوقهما جماعة واما الجماعة فإنها تكمل بالإمام حتى شرطنا في الجمعة ثلاثة سوى الإمام واما قوله فقد صغت قلوبكما فلان عمة اعضاء الانسان زوج فالحق الفرد بالزوج لعظم منفعته كأنه زوج وقد جاء في اللغة خلاف ذلك وقوله نحن فعلنا لا يصلح إلا من واحد يحكي عن نفسه وعن غيره كأنه تابع فلم يستقم أن يفرد الصيغة فاختير لهما الجمع مجازا كما جاز للواحد أن يقول فعلنا كذا والله اعلم واما المشترك فحكمه الوقف بشرط التأمل ليترجح بعض وجوهه للعمل به واما المأول فحكمه العمل به على احتمال السهو والغلط والله اعلم بالصواب
باب معرفة احكام القسم الذي يليه
وهو الظاهر والنصر والمفسر والمحكم وحكم الظاهر وجوب العملبالذي ظهر منه وكذلك حكم النص وجوب العمل بما وضح واستبان به على احتمال تأويل هو في حيز المجاز وحكم المفسر وجوب العمل على احتمال النسخ وحكم المحكم وجوب العمل به من غير احتمال لما ذكرنا من تفاوت معاني هذه الالقاب لغة وانما يظهر تفاوت هذه المعاني عند التعارض ليصير الادنى متروكا بالاعلى وهذا يكثر امثلته في تعارض السنن والاحاديث ومثاله من مسائل اصحابنا باب ذكره في -
كتاب الإقرار في الجامع رجل قال لاخر لي عليك ألف درهم فقال الآخر الحق
اليقين الصدق كان كل ذلك تصديقا ولو قال البر الصلاح لم يكن تصديقا ولو جمع بين البر والحق أو البر واليقين أو البر والصدق حمل البر على الصدق والحق واليقين فجعل تصديقا ولو جمع بين الحق أو اليقين أو الصدق والصلاح جعل ردا ولم يكن تصديقا وحاصل ذلك أن الصدق والحق واليقين من اوصاف الخبر وهي نصوص ظاهرة لما وضعت له من دلالة الوجود للمخبر عنه فيكون جوابا على التصديق وقد يحتمل الابتداء مجازا أي الصدق اولى بك مما تقول واما البر فاسم موضوع لكل نوع من الاحسان لا اختصاص له بالجواب فصار بمعنى المجمل فلم يصلح جوابا بنفسه وإذا قارنه نص أو ظاهر وهو ما ذكرنا حمل عليه واما الصلاح فلفظ لا يصلح صفة للخبر مجال وهو محكم في هذا المعنى فإذا ضم اليه ما هو ظاهر أو نص وجب حمل النص الذي هو محتمل على الحكم الذي لا يحتمل فلم يكن تصديقا وصار مبتدئا فتر حج البعض على البعض عند التعارض ومثاله ايضا قولنا فيمن يزوج امرأة إلى شهر انه متعة لان التزوج نص لما وضع له فكان محتملا أن يراد به المتعة مجازا فأما قوله إلى شهر فمحكم في المتعة لا يحتمل النكاح مجازا فحمل المحتمل على المحكم وضد الظاهر الخفي وحكمه النظر فيه ليعلم أن اختفاءه لمزية أو نقصان فيظهر المراد ومثاله أن النص اوجب القطع علىالسارق ثم احتيج إلى معرفة حكم النباش والطرار وقد اختصا باسم خفي به المراد وطريق النظر فيه أن النباش اختص به لقصور في فعله من حيث هو سرقة لان السرقة اخذ المال على وجه المسارقة عن عين الحافظ الذي قصد حفظه لكنه انقطع حفظه بعارض والنباش هو الاخذ الذي يعارض عين من لعله يهجم عليه وهو لذلك غير حافظ ولا قاصد وهذا من الأول بمنزلة التبع من المتبوع وكذلك معنى هذا الاسم دليل على خطر المأخوذ وهذا الذي دل عليه اسم النباش في غاية القصور والهوان والتعدية بمثله في الحدود خاصة باطل واما الطرار فقد اختص به لفضل في جنايته و حذق في فعله لان الطر اسم لقطع الشيء عن اليقظان بضرب فترة وغفلة يعتريه وهذه المسارقة في غاية الكمال وتعدية الحدود في مثله في نهاية الصحة والاستقامة وقد سبق بيان احكام سائر الأقسام في هذا الفصل
باب احكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية
قال حكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا أو عاما وحكم المجاز وجود ما استعير له خاصا كان أو عاما وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع بمنزلة النصوص وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقايق واما في الحكم فهما سواء إلا عند التعارض فإن الحقيقة اولى منه ومن أصحاب الشافعي من قال لا عموم للمجاز وبيان ذلك أن النبي عليه السلام قال لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء فاحتج الشافعي رحمه الله بعمومه وابى أن يعارضه حديث ابن عمر في النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين والصاع بالصاعين لان الصاع مجاز عما يحويه ولا عمولة فإذا ثبت المطعوم به مراد سقط غيره قال لان الحقيقة اصل الكلام والمجاز ضروري يصار اليه توسعة ولا عموم لما ثبت ضرورة تكلم البشر والصحيح ما قلنا لان المجاز أحد نوعي الكلامفكان مثل صاحبه لان عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة بل لدلالة زائدة على ذلك إلا ترى أن رجلا اسم خاص فإذا زدت عليه لام التعريف من غير معهود ذكرته انصرف إلى تعريف الجنس فصار عاما بهذه الدلالة فالصاع نكرة زيد عليه لام التعريف وليس في ذلك معهود ينصرف اليه فانصرف إلى جنس ما أريد به ولو أريد به عينه لصار عاما فإذا أريد به ما يحله ويجاوره مجازا كان كذلك لوجود دلالته إلا ترى أنه استعير له ذلك بعينه ليعمل في ذلك عمله في موضعه كالثوب يلبسه المستعير كان اثره في دفع الحر والبرد مثل عمله إذا لبس بحق الملك إلا انهما تتفاوتان لزوما وبقاء والمجاز طريق مطلق لا ضروري حتى كثر في كتاب الله تعالى وهو افصح اللغات والله سبحانه وتعالى على عن العجز والضرورات ومن حكم الحقيقة انه لا تسقط عن المسمى بحال وإذا استعير لغيره احتمل السقوط يقال للوالد اب ولا ينفي عنه بحال ويقال للجد اب مجازا ويصح أن ينفي عنده لما بينا أن الحقيقة وضع وهذا مستعار فكانا كالملك والعارية إلا أن يكون مهجورا فيصير ذلك دلالة لاستثناء كما قلنا فيمن حلف لا يسكن الدار فانتقل من ساعته وكمن حلف لا يقتل وقد كان جرح ولا يطلق وقد كان حلف وكمن حلف لا يأكل من الدقيق لا يحنث بالاكل من عينه وعند بعض مشائخنا وإذا خلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل عين الشجر لم يحنث ايضا ومن احكام الحقيقة والمجاز استحالة اجتماعهما مرادين بلفظ واحد لما قلنا أن أحدهما موضوع والآخر مستعار منه فاستحال اجتماعهما كما استحال أن يكون الثوب على رجل لبسه ملكا وعارية معا ولهذا قلنا فيمن اوصى لمواليه وله موال اعتقهم ولمواليه موال اعتقوهم أن الثلث للذين اعتقهم وليس لموالي معتقية شيء لان معتقيه مواليه حقيقة بأن انعم عليهم وصار ذلك كاولاده لاحيائهم بالاعتاق فأما موالي الموالي فمواليه مجازا لانه لما اعتق الأولين فقد اثبت لهم مالكية
الاعتاق فصار ذلك مسببا لاعتقاهم فنسبوا اليه بحكم السببية مجازا والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز إلا ترى أن الاسم المشترك لا عموم له مثل الموالي لا يعم الاعلين والاسفلين حتى أن الوصية للموالي وللموصي موال اعتقهم وموال اعتقوه باطلة وهذه معان يحتملها الاسم احتمالا على السواء إلا إنها لما اختلف سقط العموم فالحقيقة والمجاز وهما مختلفان ودلالة الاسم عليها متفاوتة اولى أن لا يجتمعا ولهذا قلنا في غير الخمر انه لا يلحق بالخمر في الحد لان الحقيقة اريدت بذلك النص فبطل المجاز ولهذا قلنا في قوله تعالى أو لامستم النساء أن المس باليد غير مراد لان المجاز مراد بالإجماع وهو الوطئ حتى حل للجنب التيمم فبطل الحقيقة ولهذا قيل فيمن اوصى لاولاد فلان أو لابنائه وله بنون وبنو بنين جميعا أن الوصية لابنائه دون بني بنيه لما قلنا فإن قيل قد قالوا فيمن حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان أن يحنث إذا دخلها حافيا أو منتعلا وفيمن قال عبدي حر يوم يقدم فلان أنه أن قدم ليلا أو نهارا عتق عبده وفي السير الكبير قال في حربي استأمن على نفسه وابنائه انه يدخل فيه البنون وبنو البنين وفيمن حلف لا يكن دار فلان أن يقع على الملك والاجارة والعارية جميعا قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول لانه موجبه والدخول مطلق فوجب العمل باطلاق المجاز وعمومه وكذلك اليوم اسم للوقت ولبياض النهار ودلالة تعين أحد الوجهين أن ينظر إلى ما دخل عليه فان كان فعلا يمتد كان النهار اولى به لانه يصلح معيارا له وإذا كان لا يمتد كان الظرف اولى وهو الوقت ثم العمل بعموم الوقت واجب فلذلك دخل الليل والنهار بخلاف قوله ليلة يقدم فلان فأنه لا يتناول النهار لانه اسم للسواد الخالص لا يحتمل غيره مثل النهار اسم للبياض الخالص لا يحتمل غيره واما اضافة الدار فإنما يراد به نسبة السكنى اليه فيستعار الدار للسكنى
فوجب العمل بعموم نسبة السكنى وفي نسبة الملك نسبة السكنى موجودة لا محالة فيتناوله عموم المجاز واما مسألة السير ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب أنه لا يتناولهم ووجه الرواية الأولى أن الامان لحقن الدم فبنى على الشبهات وهذا الاسم بظاهره يتناولهم لكن بطل العمل به لتقدم الحقيقة عليه فبقى ظاهر الاسم شبهة فان قيل قد قال أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يأكل من هذه الحنطة أن يحنث أن آكل من عينها أو ما يتخذ منها وفيه جمع بينهما وكذلك قالا فيمن حلف لا يشرب من الفرات أن يحنث أن كرع أو اغترف وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن قال لله على أن اصوم رجب أنه إن نوى اليمين كان نذرا ويمينا وهو جمع بينهما قيل له إما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فقد عملا باطلاق المجاز وعمومه لان الحنطة في العادة اسم لما في باطنها ومن اكلها أو ما يتخذ منها فقد أكل ما فيها والشرب من الفرات مجاز للشرب من الماء الذي يجاور الفرات وينسب اليه وهذه النسبة لا ينقطع بالاواني لما ذكرنا في الجامع فصار ذلك عملا بعمومه لا جمعا بين الحقيقة والمجاز واما مسألة النذر فليس بجمع بل هو نذر بصيغته ويمين بموجبه وهو الايجاب لان ايجاب المباح يصلح يمينا بمنزلة تحريم المباح وصار ذلك كشرى القريب تملك بصيغته وتحرير بموجبه فهذه مثله وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين وذلك بطريقين لا ثالث لهما الاتصال بينهما صورة أو معنى لان كل موجود من الصور له صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث إما المعنى فمثل قولهم للبليد حمار وللشجاع أسد لاتصال ومشابهة في المعنى بينهما واما الصور فمثل تسمية المطر سماء قالوا ما زلنا نطاء السماء حتى اتيناكم أي المطر لاتصال بينهما صورة لان كل عال عند العرب سماء والمطر من السحاب ينزل وهو سماء عندهم فسمى باسمه وقول الله عز و جل أو جاء
أحد منكم من الغائط وهو لمطمئن من الأرض يسمى الحدث بالغائظ لمجاورته صورة في العادة وقال تعالى إني أراني أعصر خمرا أي عنبا لأتصال بينهما ذاتا لأن العنب مركب بثفله ومائه وقشره فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة وهو الاستعارة بالاتصال في الصورة وهو السببية والتعليل لأن المشروع ليس بصورة تحس فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما تحس والاتصال في معنى المشروع كيف شرع اتصال هو نظير القسم الآخر من المحسوس ولا خلاف بين الفقهاء إن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع يصلح طريقا للاستعارة فإن ليس بحكم يختص باللغة لان طريق الاستعارة القرب والاتصال وذلك ثابت بين كل موجودين من حيث وجدا والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وسببه الذي تعلق به فصحت به الاستعارة ولان حكم الشرع متعلقا بلفظ شرع سببا أو علة يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة والكلام فيما يعقل ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع لتمليك العين شرعا ولذلك وضع لغة فكذلك ما شاكله وهذا في مسائل اصحابنا لا يحصى وقال الشافعي رحمه الله أن الطلاق يقع بلفظ التحرير مجازا والعتاق يقع بلفظ الطلاق مجازا ولم يمتنع أحد من ائمة السلف عن استعمال المجاز فقد انعقد نكاح النبي عليه السلام بلفظ الهبة مجازا مستعارا لا انه العقد هبة لان تمليك المال في غير المال لا يتصور وقد كان في نكاحه وجوب العدل في القسم والطلاق والعدة ولم يتوقف الملك على القبض فثبت أنه كان مستعارا ولا اختصاص للرسالة بالاستعارة ووجوه الكلام بل الناس في وجوه التكلم سواء فثبت أن هذا فصل لا خلاف فيه غير أن الشافعي رحمه الله أبي أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج لأنه عقد شرع لامور لا يحصى من مصالح الدين والدنيا ولهذا شرع بهذين اللفظين وليس فيهما
معنى التمليك بل فيهما إشارة إلى ما قلنا فلم يصح الانتقال عنه لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له في الباب وهذا معنى قولهم عقد خاص شرع بلفظ خاص وهذا كلفظ الشهادة لما كان موجبا بنفسه بقوله اشهد لم يقم اليمين مقامه وهو أن يقول احلف بالله لانه موجب لغيره فلم يصلح الاستعارة وكذلك عقد المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم كذلك حكى عن الكرخي لان غيره لا يؤدي معناه ولهذا لم يجوزوا رواية الاحاديث بالمعاني والجواب أن لفظ البيع والهبة وضع لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المتعة لان ملك المتعة يثبت به تبعا فإذا كان كذلك قام هذا الاتصال مقام ما ذكرنا من المجاورة التي هي طريق الاستعارة فصحت الاستعارة بهذا الاتصال بين السببين والحكمين والجواب عما قال أن هذه الأحكام من حيث هي غير محصورة جعلت فروعا وثمرات للنكاح وبنى النكاح على حكم الملك له عليها لانه أمر معقول معلوم ألا ترى أن المهر يلزم بالعقد لها ولو كان ما ذكرت اصلا وهو مشترك لما صح ايجاب العوض على أحدهما و لهذا كان الطلاق بيد الزوج لهذا كان الطلاق بيد الزوج لأنه هو المالك وإذا كان كذلك قلنا لما شرع هذا الحكم بلفظ النكاح والتزويج ولا يختصان بالملك وضعا ولغة فلان يثبت بلفظ التمليك والبيع والهبة وهي للتمليك وضعا اولى وانما صلح الايجاب بلفظ النكاح والتزويج وان لم يوضعا للملك لانهما اسمان جعلا علما لهذا الحكم والعلم يعمل وضعا لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع وانما يعتبر المعاني لصحة الاستعارة على نحو ما يستعمل للقياس فلما ثبت الملك بهما وضعا صحت التعدية إلى ما هو صريح في التمليك فان قيل فهلا صحت استعارة النكاح للبيع والمناسبة التي ذكرتم قائمة لانها تقوم بالطرفين جميعا لا محالة لا يناسب الشيء غيره إلا وذلك يناسبه كالاخوين قيل له الاتصال من هذا الوجه على نوعين أحدهما اتصال الحكم بالعلة
والثاني اتصال الفرع بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له فالأول يوجب الاستعارة من الطرفين لان العلة لم يشرع إلا لحكمها والحكم لا يثبت إلا بعلته فاستوى الاتصال فعمت الاستعارة ولهذا قلنا فيمن قال أن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد ثم باعه ثم ملك النصف الباقي لم يعتق حتى يجتمع الكل في ملكه ولو قال ان اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وان لم يجتمع وفي العبد المعين يستويان وان قال عنيت بالملك الشراء كان مصدقا في الحكم والديانة وان قال عنيت بالشراء الملك كان مصدقا في الديانة لانه استعار الحكم لسببه في الفصل الأول واستعار السبب لحكمه في الثاني واما الاتصال الثاني فيصلح طريقا للاستعارة من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم لان هذا الاتصال ثابت في حق الفرع لافتقاره ولا يصح أن يستعار الفرع للاصل لان هذا الاتصال في حق الأصل معدوم لاستغنائه وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة توقف أول الكلام على اخره لصحة آخره وافتقاره فأما الأول فتام في نفسه لاستغنائه وعلى هذا الأصل قلنا أن ألفاظ العتق تصلح أن يسعار للطلاق لانها وضعت لازالة ملك الرقبة وذلك يوجب زوال ملك المتعة تبعا لا قصدا على نحو ما قلنا فصحت الاستعارة وقال الشافعي رحمه الله يصح أن يستعار الطلاق للعتق لانهما في المعاني يتشابهان لان كل واحد منهما اسقاط بني على السراية واللزوم والمناسبة في المعاني من اسباب الاستعارة مثل المناسبة في الاسباب وقلنا لا يصح هذه الاستعارة لما قلنا في المسألة الأولى أن اتصال الفرع بالاصل في حق الأصل في حكم العدم ولا تصح الاستعارة للمناسبة في المعاني من الوجه الذي قلنا لان طريق الاستعارة من قبل المعاني المشاكلة في المعاني التي هي من قبيل الاختصاص الذي به يقوم الموجود فأما بكل معنى فلا وهذا الطريق من الخصم نظير طريقه في اوصاف النص أن
التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص وقلنا نحن هو باطل لأن الابتلاء يسقط فكذلك الاستعارة يقع بمعنى له أثر الاختصاص ألا ترى أن العرب تسمي الشجاع أسد للاشتراك في المعنى الخاص وهو الشجاعة فأما بكل وصف فلا لأن ذلك يبطل الامتحان ويصير الموجودات في الأحكام كلها متناسبة ولا مناسبة بينهما من هذا الوجه لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه وما احتمله محله وهو رفع القيد لأن الاطلاق عبارة عنه والنكاح لا يوجب حقيقة الرق ولا يسلب المالكية وإنما يوجب قيدا فلا يحتمل إلا إطلاق القيد وأما الاعتاق فإثبات القوة الشرعية لأن ذلك معناه لغة يقال عتق الطير إذا قوى وطار عن وكره ومنه عتاق الطير ويقال عتقت البكر إذا أدركت وهذا شائع في كلام العرب وكذلك الرق ثابت على الكمال وسلطان المالكية ساقط فصبح الاعتاق إثباتا وليس بين إزالة القيد لتعمل القوة الشرعية عملها وبين إثباتها بعد العدم مشابهة كما ليس بين احياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان فإن قيل اليس لا يصح أن يستعار البيع للإجازة كما لا يستعار الإجارة للبيع وملك المنفعة تابع لملك الرقبة قيل له قد قال بعض مشايخنا أن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة والإجارة ينعقد به وذلك يتصور في الحر تقول بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا وهذا جائز فأما إذا قال بعت منك منافع هذه الدار شهرا بكذا لم يجز كذا ذكره في أول كتاب الصلح وهذا ليس لفساد الاستعارة لكن لفساد في المحل لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة لأن ذلك معدوم ليس في مقدور البشر حتى لو أضاف إليها الإجارة لم يجز فكذلك ما يستعار لها ولكن العين يقام مقامها في حق الإضافة في الأصل فكذلك فيما يستعار لها وصار هذا كالبيع يستعار للنكاح في غير محله وهي المحرم من النساء فيثبت أن فساده الإضافة إلى غير محله ومن أحكام هذا القسم أيضا المجاز حلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة
رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو خلف عن الحكم بيانه فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما لأن هذا الكلام لم ينعقد لما وضع له أصلا فصار لغوا لا حكم له فلا يجب العمل بمجازه لأنه خلف عنه في إثبات الحكم ومن شرط الخلف أن ينعقد السبب للأصل على الاحتمال وامتنع وجوده بعارض كمن حلف ليمسن السماء أن اليمين انعقدت للبر لاحتمال وجوده فانعقدت للكفارة خلفا عنه فأما الغموس فلم ينعقد للحكم الأصلي فلا ينعقد لخلفه وهذا نظير مسألة الغموس وقال أبو حنيفة رحمه الله أن المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم بل هو في الحكم أصل ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم فكان تصرفا في التكلم فتشترط صحة الأصل من حيث انه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين صار مستعار الحكمة بغير نية كالنكاح بلفظ الهبة وقالا لفظ الهبة ينعقد لحكمه الأصلي في الحرة لأن احتمال بيع الحرة وهبتها مثل احتمال مس السماء وأما هذا فمستحيل بمرة وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا تصرف في التكلم فلا يتوقف على احتمال الحكم كالاستثناء فإن من قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه تقع واحدة ذكره في المنتقى وإيجاب ما زاد على الثلث من طريق الحكم باطل لكن من طريق التكلم صحيح والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع فصح فكذلك هذا لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به لحكم حقيقته وان لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة ومن حكم الحقيقة عتقه من حين ملكه فجعل إقرارا به فعتق في القضاء بخلاف النداء لأنه لاستخصار المنادى بصورة الاسم لا بمعناه فإذا لم يكن المعنى مطلوبا لم يجب الاستعارة لتصحيح معناه بخلاف قوله يا حر فإنه يستوي نداؤه وخبره لأنه موضوع للتحرير فصار عينه قائما مقام معناه فصار المعنى مطلوبا بكل حال ومن حكم هذا الباب أن العمل بالحقيقة
متى أمكن سقط المجاز لأن المستعار لا يزاحم الأصل وذلك مثل قولنا في الإقراء أنها الحيض لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز من قبل أنه مأخوذ من الجمع وهو معنى حقيقة هذه العبارة لغة وذلك صفة الدم المجتمع فأما الطهر فإنما وصف به بالمجاورة مجازا ولأن معنى القرء الانتقال يقال قراء النجم إذا انتقل والانتقال بالحيض لا بالطهر فصارت الحقيقة أولى وكذلك العقد لما ينعقد حقيقته وللعزم مجاز وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب على ما عرف الاجتماع في الوطئ ويسمى العقد به مجازا لأنه سببه حتى يسمى الوطؤ جماعا فكانت الحقيقة أولى وأمثلة هذا أكثر من أن يحصى ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الدعوى في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال المولى أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان أنه يعتق من كل واحد ثلثة ولا يعتبر ما يصيب كل واحد من قبل أمه حتى يعتق الثالث كله ونصف الثاني كما قال أبو يوسف رحمه الله لأن إصابته من قبل أمه في مقابلة إصابته من قبل نفسه بمنزلة المجاز من الحقيقة وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى وإذا كانت الحقيقة متعذرة أو مهجورة صير إلى المجاز بالإجماع لعدم المزاحمة أما المتعذر فمثل الرجل حلف لا يأكل من هذه النخلة أو الكرمة انه يقع على ما يتخذ منه مجازا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة أو من هذا اللبن أو من هذا الرطب فإنه يقع على عينه لأن الحقيقة قائمة وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق وقع على ما يتخذ منه لأن الحقيقة متعذرة وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر لم يقع على الكرع وهو حقيقة لما قلنا واختلفوا فيما إذا أكل عين الدقيق أو تكلف فكرع من البئر فقيل لما كان متعذرا لم يكن مرادا فلا يحنث وقيل بل الحقيقة لا تسقط بحال فيحنث والأول أشبه لأن أصحابنا قالوا فيمن حلف لا ينكح فلانة وهي أجنبية أنه يقع على العقد فإن زنى بها لم يحنث فاسقطوا حقيقته واما المهجورة فمثل من حلف لا يضع قدمه في دار فلان أن الحقيقة مهجورة
والمجاز هو المتعارف وهو الدخول فحنث كيف دخل ومثاله أن التوكيل بالخصومة صرف إلى جواب الخصم مجازا فيتناول الانكار والإقرار بإطلاقه لأن الحقيقة مهجورة شرعا والمهجور شرعا مثل المهجور عادة ألا ترى أن من حلف لا يتكلم هذا الصبي لم يتقيد بصباه لأن هجران الصبي مهجور شرعا وعلى هذه الجملة يخرج قولهم في رجل قال لعبده ومثله يولد لمثله وهو معروف النسب من غيره هذا ابني انه يعتق عملا بحقيقته دون مجازه لأن ذلك ممكن فالنسب قد يثبت من زيد ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقا في حق نفسه وإليه اشار محمد رحمه الله في الدعوى والعتاق أن الأم تصير أم ولد له وقال في الجامع في عبد له ابن ولابنه ابنان فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي ثم مات وكلهم يصلح ابنا له انه يعتق من الأول ربعه ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه وعلى قياس ذلك الجواب لو كان لابن العبد ابن واحد وكلهم يولد لمثله انه يعتق من الأول ثلثه ومن الثاني نصفه ومن الثالث كله لاحتمال النسب ولو كان تحرير العتق من كل واحد ثلثه وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه إقرار بالحرية فيجب أن يصير مقرا بحق الأم أيضا لأنه يحتمل الإقرار والثاني أنه تحرير مبتداء من قبل أن الإقرار بالنسب لو ثبت ثبت تحريرا مبتدأ حتى قلنا في كتاب الدعوى في رجلين ورثا عبدا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه كأنه أعتقه لأن ثبوت النسب مضاف إلى خبره لأن المخبر به قائم بخبره فإذا كان كذلك جعل مجازا عن التحرير وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى لأنه ليس في وسع البشر إثبات أمومية الولد قولا لأنها من حكم الفعل فلم يثبت بدونه وقد يتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا لأن الكلام وضع لمعناه فيبطل إذا
استحال حكمه ومعناه وذلك أن يقول الرجل لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب وتولد لمثله أو أكبر سنا منه فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لأن الحقيقة في الأكبر سنا منه متعذر وفي الأصغر سنا تعذر إثبات الحقيقة مطلقا لأنه مستحق ممن اشتهر منه نسبها وفي حق المقر متعذر أيضا في حكم التحريم لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصلح حقا من حقوق الملك وكذلك العمل بالمجاز وهو التحريم في الفصلين متعذر لهذا العذر الذي أبليناه فلا يمكن أن يجعل النسب ثابتا في حق المقر بناء على إقراره لأن الرجوع عنه صحيح والقاضي كذبه ههنا فقام ذلك مقام رجوعه بخلاف العتاق لأن الرجوع عنه لا يصح ومن حكم هذا الباب أن الكلام إذا كانت له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالحقيقة أولى عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله العمل بعموم المجاز أولى وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من الأصل أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في الحكم وفي الحكم للمجاز رجحان لأنه ينطلق على الحقيقة والمجاز معا فصار مشتملا على حكم الحقيقة فصار أولى ومن أصل أبي حنيفة انه خلف في التكلم دون الحكم فاعتبر الرجحان في التكلم دون الحكم فصارت الحقيقة أولى مثاله من حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على عينها دون ما يتخذ منها عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وعندهما يقع على مضمونها على العموم مجازا وكذلك إذا حلف لا يشرب من الفرات يقع على الكرع خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقع على شرب ماء مجاور الفرات وذلك لا ينقطع بالأواني لأنها دون النهر في الإمساك
باب جملة ما يترك به الحقيقة
وهو خمسة أنواع قد تترك بدلالة الاستعمال والعادة وقد تترك بدلالةاللفظ في نفسه وقد تترك بدلالة سياق النظم وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم وقد تترك بدلالة في محل الكلام أما الأول فمثل الصلاة فإنها اسم للدعاء قال الله تعالى وصل عليهم أي ادع ثم سمى بها عبادة معلومة مجازا لما إنها شرعت للذكر قال الله تعالى وأقم الصلاة لذكري وكل ذكر دعاء وكالحج فإنه قصد في اللغة فصار اسما لعبادة معلومة مجازا لما فيه من قوة العزيمة والقصد بقطع المسافة وكذلك نظائرها من العمرة والزكاة حتى صارت الحقيقة مهجورة وإنما صار هذا دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن نذر صلاة أو حجا أو المشي إلى بيت الله أو أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة أن ذلك ينصرف إلى المجاز المتعارف ومثاله كثير وقالوا فيمن حلف لا يأكل رأسا أنه يقع على المتعارف استحسانا على حسب ما اختلفوا ويسقط غيره وهو حقيقة وكذلك لو حلف لا يأكل بيضا أنه يختص ببيض الأوز والدجاجة استحسانا ولو حلف لا يأكل طبيخا أو شواء انه يقع على اللحم خاصة استحسانا وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز على ما سبق وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير وأما الثابت بدلالة اللفظ في نفسه فمثل قوله حلف لا يأكل لحما أنه لا يقع على السمك وهو لحم في الحقيقة لكنه ناقص لأن اللحم يتكامل بالدم فما لا دم له قاصر من وجه فخرج عن مطلقه بدلالة اللفظ وكذلك قول الرجل كل مملوك لي حر له يتناول المكاتب وكل امرأة لي طالق لا يتناول المبتوتة المعتدة لما قلنا فصار مخصوصا وللمخصوص شبه بالمجاز ومن هذا القسم ما ينعكس وذلك مثل رجل حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله بأكل الرطب والرمان والعنب وقالا يحنث لأن الاسم مطلق فيتناول الكامل منه وقال أبو حنيفة الفاكهة اسم للتوابع لأنه من التفكه مأخوذ وهو التنعم
قال الله تعالى انقلبوا فكهين أي ناعمين وذلك أمر زائد على ما يقع به القوام وهو الغذاء فصار تابعا والرطب والعنب قد يصلحان للغذاء وقد يقع بهما القوام والرمان قد يقع به القوام لما فيه من معنى الأدوية وإذا كان كذلك كان فيها وصف زائد والاسم ناقص مقيد في المعنى فلم يتناول الكامل وكذلك طريقه فيمن حلف لا يأكل إداما انه يقع على ما يتبع الخبز لأن الإدام اسم للتابع فلم يجز أن يتناول ما هو أصل من وجه وهو اللحم والجبن والبيض وعند محمد يحنث في ذلك كما في المسألة الأولى وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة واما الثابت بسياق النظم فمثل قول الله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا تركت حقيقة الأمر والتخيير بقوله عز و جل إنا أعتدنا للظالمين نارا وحمل على الإنكار والتوبيخ مجازا ومثاله ما قال محمد رحمه الله في السير الكبير في الحربى إذا استأمن مسلما فقال له أنت آمن كان أمانا فإن قال أنت آمن ستعلم ما تلقى لم يكن أمانا ولو قال انزل إن كنت رجلا لم يكن أمانا ولو قال لرجل طلق امرأتي إن كنت رجلا أو إن قدرت أو اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا لم يكن توكيلا ولو قال رجل لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل لك علي ألف درهم ما أبعدك لم يكن إقرارا وصار الكلام للتوبيخ بدلالة سياق نظمه وأما الثابت بدلالة من قبل المتكلم فمثل قول الله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك انه لما استحال منه الأمر بالمعصية والكفر حمل على إمكان الفعل وإقداره عليه مجازا لأن الأمر للإيجاب فكان من المعنيين اتصال ومثاله من دعى إلى غذاء فحلف لا يتغذى انه يتعلق به لما في غرض المتكلم من بناء الجواب عليه وكذلك امراة قامت لتخرج فقال لها زوجها أن خرجت فأنت طالق انه يقع على الفور لما قلنا ومثاله كثير واما الثابت بدلالة محل الكلام فمثل قوله تعالى وما يستوي الأعمى والبصير
سقط عمومه وذلك حقيقة لان محل الكلام وهو المخبر عنه لا يحتمله لان وجوه الاستواء قائمة فوجب الاقتصار على ما دلت عليه صيغة الكلام وهو التغاير في البصر وكذلك كاف التشبيه لا يوجب العموم لما قلنا من قيام المغايرة من وجوه كثيرة حتى إذا قيل زيد مثلك لم يثبت عمومه إلا أن يقبل المحل العموم مثل قول علي رضي الله عنه في أهل الذمة إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا واموالهم كأموالهم فان هذا عام عندنا لان المحل يحتمله ومن هذا الباب قول النبي عليه السلام انما الاعمال بالنيات ورفع عن امتي الخطأ والنسيان سقطت حقيقته لان المحل لا يحتمله من قبل أن غير الخطأ غير مرفوع بل هو متصور فسقط حقيقة وصار ذكر الخطأ والعمل مجازا عن حكمه وموجبه وموجبه نوعان مختلفان أحدهما الثواب في الاعمال التي تفتقر إلى النية والمأثم في الحرمات والثاني الحكم المشروع فيه من الجواز والفساد وغير ذلك وهذا أن معنيان مختلفان ألا ترى أن الجواز والصحة يتعلق بركنه و شرطه والثواب أو المأثم يتعلق بصحة عزيمته فان من توضاء بما نجس ولم يعلم حتى صلى ومعنى على ذلك ولم يكن مقصرا لم يجز في الحكم لفقد شرطه واستحق الثواب لصحة عزيمته وإذا صارا مختلفين صار الاسم بعد صيرورته مجازا مشتركا فسقط العمل به حتى يقوم الدليل على أحد الوجهين فيصير مأولا وكذلك حكم المأثم على هذا فصار هذا كاسم المولى والقرء وساير الاسماء المشتركة ومن الناس من ظن أن التحريم المضاف إلى الاعيان مثل المحارم والخمر مجاز لما هو من صفات الفعل فيصير وصف العين به مجازا وهذا غلط عظيم لأنه التحريم إذا أضيف إلى العين كان ذلك إمارة لزومه وتحققه فكيف يكون مجازا لكن التحريم نوعان تحريم يلاقي نفس الفعل مع كون المحل قابلا كأكل مال الغير والنوع الثاني أن يخرج المحل في الشرع من أن يكون قابلا لذلك الفعل فينعدم الفعل
من قبل عدم محله فيكون نسخا ويصير الفعل تابعا من هذا الوجه فيقام المحل مقام الفعل فينسب التحريم اليه ليعلم أن المحل لم يجعل صالحا له وهذا في غاية التحقيق من الوجه الذي يتصور في جانب المحل لتوكيد النفي فأما أن يجعل مجازا ليصير مشروعا بأصله فغلط فاحش ومما يتصل بهذا القسم حروف المعاني فإنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز وشطر من مسائل الفقه مبنى على هذه الجملة وهذا الباب لبيان ما يتصل بها من الفروع والله اعلم
باب حروف المعاني
ومن هذه الجملة حروف العطف وهي اكثرها وقوعا واصل هذا القسم الواو وهي عندنا لمطلق العطف من غير تعرض لمقارنة ولا ترتيب وعلى هذا عامة أهل اللغة وأئمة الفتوى وقال بعض أصحاب الشافعي أن الواو يوجب الترتيب حتى قالوا في قول الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق يوجب الترتيب واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم بدا بالصفاء في السعي وقال تبدأ يما بدأ الله عز و جل يريد به قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله ففهم وجوب الترتيب ووجوب الترتيب بقوله تعالى اركعوا واسجدوا هذا حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب وبالتأمل في موضوع كلامهم كالحكم الشرعي إنما يعرف من قبل اتباع الكتاب والسنة والتأمل في أصول الشرع وكلاهما حجة عليه ودليل لما قلنا أما الأول فإن العرب تقول جاءني زيد وعمرو وفيفهم منه اجتماعهما في المجيء من غير تعرض للقرآن أو الترتيب في المجيء ولان الفاء يختص بالأجزئة ولا يصلح فيها الواو حتى أن من قال لامراته أن دخلت الدار وانت طالق طلقت في الحال ولو احتمل الواو الترتيب لصلح للجزاء كالفاء وقد صارت الواو للجمع في قول الناس جاءني الزيد وان اصله جاءني زيدوزيد وزيد وقالوا لا تآكل السمك وتشرب البن معناه لا تجمع بينهما من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب في الوجود ولو استعمل الفاء مكانة لبطل المراد ومثله قول الشاعر ... لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ...
أي لا تجمع بينهما فهذه البيان الوضع وأما الثاني فلان كلام العرب أسماء
وأفعال وحروف والأصل في كل قسم منها أن يكون موضوعا لمعنى خاص كذلك التكرار وقد وجدنا حروف العطف وغيرها موضوعة لمعان يتفرد كل قسم بمعناه فالفاء للترتيب ومع للقرآن وثم للتعقيب والتراخي فلو كان الواو للترتيب لتكررت الدلالة وليس ذلك بأصل لكن الواو لما كانت أصلا في الباب كان ذلك دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف على احتمال كل قسم من اقسامه من غير تعرض لشيء منها ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني وهذا كما وضع لكل جنس اسم مطلق مثل الانسان والتمر ثم وضعت لانواعها أسماء على الخصوص وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل ولهذا قلنا أن حكم النص في آية الوضوء التحصيل من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب وقد ظن بعض اصحابنا أن الواو للمقارنة وليس كذلك وزعم بعضهم أنها عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمقارنة لانهما قالا فيمن قال لامرآته قبل الدخول بها أن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق إنها إذا دخلت طلقت ثلثا وانها عند أبي حنيفة رحمه الله تطلق واحدة فدل انه جعلها للترتيب وليس كذلك بل اختلافهم راجع إلى ذكر الطلقات متعاقبة يتصل الأول بالشرط على التمام والصحة ثم الثاني والثالث ما موجبة فقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه الافتراق لان الثاني اتصل بالشرط بواسطة والثالث بواسطتين والاول بلا واسطة فلا يتغير هذا الأصل بالواو لانه لا يتعرضللقران وقالا موجبه الاجتماع والاتحاد لان الثاني جملة ناقصة فشاركت الأول وهو في الحال تكلم بالطلاق وليس بطلاق فصح التحصيل والترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها ازمنة كثيرة فان الترتيب لا يجب به وإذا كان موجب الكلام ما قلنا لم يتغير بالواو لانها لا تتعرض للترتيب لا محالة ولا توجبة فلا يترك المقيد بالمطلق وإذا تقدمت الاجزية فقد اتحد حال التعليق فصار موجب الكلام الاجتماع والاتحاد فلم يترك بالواو ولما قلنا فان قيل فقد قال اصحابنا فيمن قال لامرته انت طالق وطالق وطالق قبل الدخول إنها تبين بواحدة وهذا من باب الترتيب وقال في النكاح من الجامع فيمن زوج امتين من رجل بغير اذن مولاهما وبغير اذن الزوج ثم اعتقهما المولى معا انه لا يبطل نكاح واحدة منهما ولو اعتقهما في كلمتين منفصلتين بطل نكاح الثانية فان قال هذه حرة وهذه حرة متصلا بواو العطف بطل نكاح الثانية وهذا أيضا من باب الترتيب وقال في هذا الباب فيمن زوج رجلا اختين في عقدتين بغير اذن الزوج فبلغه فأجازهما معا بطلا وان جازه متفرقا بطل الثاني وان قال اجزت نكاح هذه وهذه بطلا كأنه قال اجزتهما وهذا من باب المقارنة وقال في كتاب الإقرار من الجامع فيمن هلك عن ثلاثة اعبد قيمتهم سواء وعن ابن لا وارث له غيره فقال الابن اعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا فان اقر به في كلام متصل عتق من كل واحد ثلثه وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث هذا من باب القران قيل له أما في المسئلة الأولى فقد قال مالك بن انس انه تقع الثلث وجعلها للقران لكنه غلط لما قدمنا والواو للعطف المطلق ولذلك لم يقع الثاني لان الأول وقع قبل التكلم بالثاني لما لم يكن الكلام نصا على المقارنة ولم يقف على التكلم بالباقي فسقطت ولايته لفوات محل
التصرف لا لخلل في العبارة وكذلك في مسئلة انكاح الامتين لان عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية لانه لا حل للامة في مقابلة الحرة حال التوقف فبطل الثاني قبل التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك لفوات المحل في حكم التوقف ولان الواو لا تتعرض للمقارنة فأما في نكاح الأختين فان صدر الكلام توقف على اخره لا لاقتضاء واو العطف لكن لان صدر الكلام وضع لجواز النكاح وإذا اتصل به آخره سلب عنه الجواز فصار آخره في حق اوله بمنزلة الشرط والاستثناء في قول الرجل انت طالق ان شاء الله وصدر الكلام يتوقف عليه بشرط الوصل لما نبين في باب البيان أن شاء الله فكذلك هذا وهذا لا يوجد في قول الرجل انت طالق وطالق وطالق قبل الدخول لان صدر الكلام لا يتغير بآخره فلم يتوقف وكذا في مسئلة انكاح الامتين لا يتغير صدور الكلام بآخره لان عتق الثانية ان ضم إلى الأول لم يتغير نكاح الأولى عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم وكذلك في مسئلة الإقرار صدر الكلام يتغير بآخره الا ترى أن موجب صدره عتقه بلا سعاية وإذا انضم الآخر الى الأول تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لان المستسعى مكاتب عند أبي حنيفة وعندهما يتغير عن براءة إلى شغل بدين السعاية فلذلك وقف صدره على اخره ولهذا قلنا أن قول محمد في الكتاب وينوي من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة انه لا يوجب ترتيبا وكذلك قوله أن الصفا والمروة لا يوجب ترتيبا أيضا ألا ترى أن المراد بالآية إثبات انهما من الشعائر ولا يتصور فيه الترتيب وإنما ثبت السعي بقوله تعالى أن يطوف بهما غير ان السعي لا ينفك عن ترتيب والتقديم في الذكر يدل على قوة المقدم ظاهرا وهذا يصلح للترجيح فرجح به فصار الترتيب واجبا بفعله لا نبض الآية وهذا كما قال اصحابنا رحمهما الله في الوصايا بالقرب النوافل انه يبدا بما بدا
به الميت لان ذلك دلالة على قوة الاهتمام وصلح للترجيح فأما قول الرجل لفلان على مائة ودرهم ومائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد فليس ينثني على حكم العطف بل على اصل اخر يذكر في باب البيان أن شاء الله وقد تدخل الواو على جملة كاملة بخبرها فلا تجب به المشاركة في الخبر مثل قول الرجل هذه طالق ثلاثا وهذه طالق أن الثانية تطلق واحدة فسمى بعضهم هذه واو الابتداء أو واو النظم وهذا افضل من الكلام وانما هي للعطف على ما هو اصلها لكن الشركة في الخبر كانت واجبة لافتقار الكلام الثاني إذا كان ناقصا فأما إذا كان تاما فقد ذهب دليل الشركة ولهذا قلنا أن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه حتى قلنا في قول إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق أن الثاني يتعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي الاستبداد به كأنه إعادة وانما يصار إلى هذه الضرورة استحالة الاشتراك فأما عند عدم استحالة الاشتراك في الخبر الأول هو الأصل مثل قولك جاءني زيد وعمرو ان الثاني يختص بمجيء على حدة لأن الاشتراك في مجيء واحد لا يتصور فصار الثاني ضروريا والأول أصليا ومن عطف الجملة قول الله تعالى وأولئك هم الفاسقون في قصة القذف ومثل قوله تعالى يختم على قلبك ويمح الله الباطل ومثل قوله تعالى والراسخون في العلم وقد يستعار الواو للحال وهذا معنى يناسب معنى الواو لأن الإطلاق يحتمله قال الله عز و جل حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي إذا جاؤها وأبوابها مفتوحة واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل فقالوا في رجل قال لعبده أد الي ألفا وأنت حر أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء وكذلك من قال لحربى انزل وانت آمن لم يأمن حتى ينزل فيكون الواو للحال وقالوا فيمن قال لامرأته أنت طالق وأنت مريضة أو وأنت تصلين أو مصلية انه لعطف الجملة حتى تقع الطلاق في الحال على
احتمال الحال حتى إذا نوى بها واو الحال تعلق الطلاق بالمرض والصلاة وقالوا في المضاربة إذا قال رجل لرجل خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البز ان هذا الواو لعطف الجملة للحال حتى لا تصير شرطا بل تصير مشهورة ويبقى المضاربة عامة واختلفوا في قول المرأة لزوجها طلقني ولك ألف درهم فحمله أبو يوسف ومحمد على المعاوضة حتى إذا طلقها وجب له الألف وحمله أبو حنيفة رحمه الله على واو عطف الجملة حتى إذا طلقها لم يجب له شيء ولأبي يوسف ومحمد طريقان أحدهما أن الواو قد يستعار للباء كما استعير له في باب القسم على ما نبين إن شاء الله عز و جل فحمل على هذا المجاز بدلالة حال المعاوضة لأن حال الخلع حال المعاوضة كما قيل في قول الرجل لآخر احمل هذا الطعام إلى منزلي ولك درهم انه يحمل على الباء أي بدرهم والثاني أن الواو للحال بدلالة حال المعاوضة أيضا ليصير شرطا وبدلا ونظيره قوله أد إلي الفا وانت حر وانزل وأنت آمن بخلاف خذ هذا المال واعمل به فإنه لا معنى للباء هنا وإنما حمل في مسألة الخلاف على الحال لدلالة المعاوضة ولم يوجد وكذلك في قوله أنت طالق وأنت مريضة وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو في الحقيقة للعطف فلا تترك إلا بدليل ولا تصلح المعاوضة دلالة لأن ذلك في الطلاق أمر زائد ألا ترى أن الطلاق إذا دخله العوض كان يمينا من جانب الزوج فلم يستقم ترك الأصل بدلالة هي من باب الزوائد بخلاف الإجارة لأنها شرعت معاوضة أصلية كسائر البيوع وقولها ولك ألف ليست بصيغة الحال أيضا لأن الحال فعل أو اسم فاعل واما قوله أد ألفا وأنت حر فصيغته للحال وصدر الكلام غير مفيد إلا شرطا للتحرير فحمل عليه قوله أنت طالق مفيد بنفسه وقوله انت مريضة جملة تامة لا دلالة فيها على الحال لكنه يحتمل ذلك فصحت نيته واما قوله أد ألفا لا يصلح ضريبة فصلح
دلالة على الحال وقوله واعمل به في باب المضاربة لا يصلح حالا للأخذ فبقى قوله خذ هذا المال مضاربة مطلقا وقوله انزل وأنت آمن فيه دلالة الحال لأن الأمان إنما يراد إعلاء الدين وليعاين الحربى معالم الدين ومحاسنه فكان الظاهر فيه الحال ليصير معلقا بالنزول إلينا والكلام يحتمل الحال واما الفاء فإنه للوصل والتعقيب حتى أن المعطوف بالفاء يتراخى عن المعطوف عليه بزمان وأن لطف هذا موجبه الذي وضع له ألا ترى أن العرب تستعمل الفاء في الجزاء لأنه مرتب لا محالة وتستعمل في أحكام العلل كما يقال جاء الشتاء فتأهب لأن الحكم مرتب على العلة ويقال أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا أي كان كذلك فازداد الثمن صاعدا مرتفعا ولما قلنا أن وجوه العطف منقسمة على صلاته فلا بد من أن يكون الفاء مختصا بمعنى هو موضوع له حقيقة وذلك هو التعقيب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لآخر بعت منك هذا العبد بكذا فقال الآخر فهو حرانه قبول للبيع ولو قال هو حرا ووهو حر لم يجز البيع قال مشايخنا فيمن قال لخياط انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصا فنظر فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن كما لو قال فإن كفاني قميصا فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن ولذلك قالوا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فدخلت الدار وهي غير مدخول بها أنه يقع على الترتيب فتبين بالأولى ولذلك اختص الفاء بعطف الحكم على العلل كما يقال أطعمته فأشبعته أي بهذا الإطعام وقال النبي عليه السلام لن يجزى ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فدل ذلك على أن كونه معتقا حكم للشرى بواسطة الملك ولهذا قلنا فيمن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فعبدي حر أن الشرط أن يدخل
الأخيرة بعد الأولى من غير تراخي وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم فتصير بمعنى التراخي كما يقال أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت ونظيره ما قال علماؤنا في المأذون فيمن قال لعبده أد إلى ألفا فأنت حر انه يعتق للحال وتقديره أد إلى ألفا فإنك قد عتقت لأن العتق دائم فأشبه المتراخي وقالوا في السير الكبير انزل فأنت آمن أنه آمن نزل أو لم ينزل لما قلنا فلم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط لأن الكلام صح بدون الإضمار وإنما الإضمار ضروري في الأصل ولهذا قلنا فيمن قال لفلان على درهم فدرهم أنه يلزمه درهمان لأن المعطوف غير الأول ويصرف الترتيب إلى الوجوب دون الواجب أو يجعل مستعارا بمعنى الواو وقال الشافعي لزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الأول فهو درهم كما قال الشاعر
... والشعر لا يسطعيه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه ...
وقوله ليبين لهم فيضل الله من يشاء إلا أن هذا لا يصلح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة والحقيقة أحق ما أمكن وأما ثم فللعطف على سبيل التراخي وهو موضوعه لختص بمعنى ينفرد به واختلف أصحابنا في أثر التراخي فقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو بمعنى الانقطاع كأنه مستأنف حكما قولا بكمال التراخي وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما التراخي راجع إلى الوجود فأما في حكم التكلم فمتصل بيانه فيمن قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار قال أبو حنيفة رحمه الله الأول يقع ويلغو ما بعده كأنه سكت على الأول ولو قدم الشرط تعلق الأول ووقع الثاني ولغا الثالث كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق وقال أبو يوسف ومحمد يتعلقن جميعا وينزلن على الترتيب سواء قدم الشرط أو أخر ولو كانت مدخولا
بها نزل الأول والثاني وتعلق الثالث إذا أخر الشرط وإذا قدمه تعلق الأول ونزل الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يتعلق الكل ذكره في النوادر وقد يستعار ثم بمعنى واو العطف مجازا للمجاورة التي بينهما قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا ثم الله شهيد على ما يفعلون ولهذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر يمينه أنه يحمل على حقيقة لأن العمل به ممكن لأنا نعمل بحقيقة موجب الأمر فيجعل الكفارة واجبة بعد الحنث وروى فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير فحملنا هذا على واو العطف لأن العمل بحقيقته غير ممكن وهو موجب الأمر لأن التكفير قبل الحنث غير واجب فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود وإذا صح بأن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى لأن جوازه بالفاء أقرب ولهذا قال مشايخنا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق ولم يدخل بها أن هذا على الاختلاف مثل ما اختلفوا في الواو إلا أن الحقيقة أولى فلذلك اخترنا الاتفاق في هذا وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا وأما بل فموضوع لاثبات ما بعده والإعراض عما قبله على سبيل التدارك يقال جاءني زيد بل عمرو ولهذا قال زفر رحمه الله فيمن قال لفلان على ألف درهم بل ألفان أنه يلزمه ثلاثة آلاف لأنه أثبت الثاني وأبطل الأول لكنه غير مالك إبطال الأول فلزماه كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين إنها تطلق ثلاثا وقلنا نحن إنما وضعت هذه الكلمة للتدارك وذلك في العادات بأن ينفى انفراده ويراد بالجملة الثانية كما لها بالأولى وهذا في الإخبار ممكن كرجل يقول سنى ستون بل سبعون زيادة عشر على الأول فأما الإنشاء فلا يحتمل تدارك الغلط وقع ثلاث تطليقات حتى إذا قال كنت طلقت أمس امرأتي واحدة بل
ثنتين أو لا بل ثنتين وقعت ثنتان لما قلنا ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين ولم يدخل بها أنها تطلق واحدة لأنه قصد إثبات الثاني مقام الأول ولم يملك لأنها بانت ولهذا قالوا جميعا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين إنها إذا دخلت طلقت ثلاثا لان هذا لما كان لابطال الأول واقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط ابطال الأول ليس في وسعه ابطال الأول ولكن في وسعه افراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال لا بل انت طالق ثنتين أن دخلت الدار فيصير كالحلف باليمينيين وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة رحمه الله لو قال أن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها إنها تبين بالواحدة لان الواو للعطف على تقدير الأول فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير متصلا بذلك الشرط بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لان حقيقة الشركة في اتحاد الشراط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب و يتصل بهذا أن العطف متى تعارض له شبهان اعتبر اقواهما لغة فإن استويا اعتبر اقربهما مثاله ما قال في الجامع أنت طالق أن دخلت الدار لا بل هذه لامرأة أخرى أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط لأن لو عطفناه على الشرط كان قبيحا لأنه ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل وهو التاء في قوله دخلت وذلك قبيح قال الله تعالى اسكن أنت وزوجك الجنة فأكده وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد وإذا كان ضميره لا يقوم بنفسه تأكد الشبه بالعدم فقبح العطف بخلاف ضمير المفعول لانه منفصل في الأصل لانه يتم الكلام بدونه على ما ذكرنا نظيره انت طالق أن ضربتك لا بل هذه ينصرف
إلى الثانية فإذا عطفناه على الجزاء كان معطوفا على ضمير مرفوع منفصل وذلك احسن فلذلك قدمناه وأما إذا استويا فمثاله ما ذكرنا في الاقرار ان لفلان على ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينار أن الدينار صار داخلا في الاستثناء وصار مشروطا مع العشرة لا مع الألف لما ذكرنا أن عطفه على كل واحدة منهما صحيح فصار ما جاوره اولى وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي تقول ما جاءني زيد لكن عمرو فصار الثابت به إثبات ما بعده فأما نفي الأول فيثبت بدليله بخلاف كلمة بل غير أن العطف إنما يستقيم عند اتساق الكلام فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالاثبات الذي وصل به وإلا فهو مستأنف مثاله ما قال علماؤنا في الجامع في رجل في يده عبد فأقر انه لفلان فقال فلان ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وان فصل يرد على المقر لأنه نفي عن نفسه فاحتمل أن يكون نفيا عن نفسه اصلا فيرجع إلى الأول ويحتمل أن يكون نفيا إلى غير الأول فإذا وصل كان بيانا أنه نفاه إلى الثاني وإذا فصل كان مطلقا فصار تكذيبا للمقر وقالوا في المقضى له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لفلان وقال فلان أنه باعني بعد القضاء أو وهبني أن الدار للمقر له وعلى المقضى له القيمة للمقضى عليه لانه نفاها عن نفسه إلى الثاني ايضا حيث وصل به البيان إلا انه بالاسناد صار شاهدا على المقر له فلم تصح شهادته على ما بينا في شرح الجامع وقال في نكاح الجامع في امة تزوجت بغير اذن موليها بمائة درهم فقال المولى لا اجيز النكاح ولكن اجيزه بمائة وخمسين أو أن زدتني خمسين أن هذا فسخ للنكاح وجعل لكن مبتدأ لأن الكلام غير متسق لانه نفي فعل واثباته بعينه فلم يصلح للتدارك وفي قول الرجل لك على ألف درهم قرض فقال المقر له لا ولكنه غصب الكلام متسق فيصح الوصل لبيان انه نفي السبب لا لواجب واما أو فإنها تدخل
بين اسمين أو فعلين فيتناول أحد المذكورين هذا موضوعها الذي وضعت له يقال جاءني زيدا أو عمرو أي أحدهما ولم يوضع للشك وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا لكنها وضعت لما قلنا فان استعملت في الخبر تناولت أحدهما غير معين فافضى الى الشك وإذا أستعملت في الأبتداء والأنشاء تناولت أحدهما للتخير لان الابتداء لا يحتمل الشك فعلمت أن الشك إنما جاء من قبل محل الكلام وعلى هذا قلنا في قول الرجل هذا حرا وهذا وهذه طالق أو هذه انه بمنزلة قوله احدكما وهذا الكلام أن شاء يحتمل الخبر فاوجب التخيير على احتمال أنه بيان حتى جعل البيان أن شاء من وجه واظهار من وجه على ما ذكرنا في مسائل العتاق في الجامع والزيادات ولهذا قلنا فيمن قال وكلت فلانا أو فلانا ببيع هذا العبد أنه صحيح ويبيع ايهما شاء لأن اوفى موضع الابتداء تخيير والتوكيل صحيح استحسانا وايهما باعه صح وكذلك إذا قال وكلت به أحد هذين وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا انه صحيح ويبيع ايهما شاء لأن اوفى موضع الابتداء للتخيير والتوكيل أن شاء والتخيير لا يمنع الامتثال وقلنا في البيع والاجارة إذا دخلت اوفى المبيع اوفى الثمن فسد العقد إلا أن يكون من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا لانه إذا لم يكن معلوما اوجب جهالة ومنازعة وإذا كان من له الخيار معلوما لم يوجب منازعة لكنه يوجب خطر فاحتمل في الثلث استحسانا وقال أبو يوسف ومحمد في المهر إذا دخله أو أن التخيير إذا كان مفيدا اوجب التخيير مثل قوله في الجامع تزوجتك على ألف حالة أو الفين إلى سنة أو ألف درهم أو مائة دينار أن للزوج أن يعطي أي المهرين شاء وإذا لم يفد التخيير مثل ألف أو الفين لزمه الاقل إلا أن يعطي الزيادة لان النكاح لما
لم يفتقر إلى التسمية اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا وبالوصايا وببدل الخلع والعتق والصلح عن القود وصار من يستفاد من جهته اولى بالبيان والتخيير لانه هو الموجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يصار إلى مهر المثل لان الثابت بطريق التخيير وغير معلوم إلا بشرط الاختيار فلا ينقطع الموجب المتعين بخلاف العتق والخلع والصلح عن القود لانه لا يعارضه موجب متعين لانه جائز بغير عوض فأما النكاح فلا ينعقد إلا بمهر المثل وعلى هذا قلنا في قول الله تعالى فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة أن الواجب واحد من هذه الجملة يتعين باختيار من طريق الفعل لما ذكرنا إنها ذكرت في موضع الانشاء فأوجب التخيير على احتمال الاباحة حتى إذا فعل الكل جاز فأما أن يكون الكل واجبا فلا على ما زعم بعض الفقهاء وكذلك قولنا في كفارة الحلق وجزاء الصيد فأما قوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير فأوجبوا التخيير في كل نوع من انواع قطع الطريق وقلنا نحن هذه ذكرت على سبيل المقابلة بالمحاربة والمحاربة معلومة بأنواعها عادة بتخويف أو اخذ مال أو قتل أو قتل واخذ مال فاستغنى عن بيانها واكتفى باطلاقها بدلالة تنويع الجزاء فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة فأوجب التفصيل والتقسيم على حسب احوال الجناية وتفاوت الاجزية وقد ورد بيان على هذا المثال بالسنة في حديث جبريل عليه السلام حين نزل بالحد على أصحاب أبي بردة على التفصيل فأما فيما سبق فلا أنواع للجناية على حسب اختلاف الاجزية فأوجب التخيير وهذا الان مقابلة الجملة بالجملة يوجب التقسيم لا محالة والجناية بأنواعها لا تقع إلا معلومة فكذلك الجزاء حتى قال أبو حنيفة
رحمه الله فيمن اخذ المال وقتل أن الإمام بالخيار أن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه لان الجناية يحتمل الاتحاد والتعدد فكذلك الجزاء ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيمن قال لعبده ودابته هذا حرا وهذا انه باطل لانه اسم لاحدهما غير عين وذلك غير محل للعتق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو كذلك لكن على احتمال التعيين حتى لزمه التعيين في مسئلة العبدين والعمل بالمحتمل اولى من الاهدار فجعل ما وضع لحقيقته مجازا عما يحتمله وان استحالت حقيقته كما ذكرنا من اصله فيما مضى وهما ينكران الاستعارة عند استحالة الحكم لان الكلام للحكم وضع على ما سبق ولهذا قلنا فمن قال هذا حرا وهذا وهذا أن الثالث يعتق ويخير بين الاوليين لان صدر الكلام تناول أحدهما عملا بكلمة التخيير والواو وتوجب الشركة فيما سيق له الكلام فصير عطفا على المعتق من الأولين كقوله أحدكما حر وهذا ثم قد يستعار هذه الكلمة للعموم بدلا له تقترن فيصير شبيها بواو العطف لا عينه فمن ذلك إذا استعملت في النفي صارت بمعنى العموم قال الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا إي لا هذا ولا هذا أو قال أصحابنا في الجامع في رجل قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا أن معناه فلانا ولا فلانا حتى إذا كلم أحدهما يحنث ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك حتى أنه لو استعمل هذا في الإيلاء بانتا جميعا ووجه ذلك إن كلمة أو لما تناولت احد المذكورين كان ذلك نكرة وقد قامت فيها دلالة العموم وهو النفي على ما سبق فلذلك صار عاما ما إلا إنها اوجبت العموم على الأفراد لما أن الأفراد اصلها حتى إن من قال لا تطع فلانا أو فلانا فأطاع أحدهما كان عاصيا ولو قال وفلانا لم يكن عاصيا حتى يطيعهما وإذا حلف رجل لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث حتى يكلمهما ولو قال أو فلانا حنث إذا كلم
أحدهما لان الواو للعطف على سبيل الشركة والجمع دون الأفراد ومن ذلك إذا استعملت في موضع الاباحة تصير عامة لان الاباحة دليل العموم فعمت بها النكرة كما يقال جالس الفقهاء والمحدثين أي أحدهما أو كليهما أن شئت وفرق ما بين التخيير والاباحة أن الجمع بين الامرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الاباحة موافقا وانما يعرف الاباحة من التخيير بحال تدل عليه وعلى هذا قال اصحابنا في الجامع فيمن حلف لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا أن له أن يكلمهما جميعا وكذلك قال لا اقر بكن إلا فلانة أو فلانة فليس بمولى منهما وقالوا فيمن قال قد برىء فلان من كل حق لي قبله الا دراهم أو دنانير ان له أن يدعى المالين جميعا لان هذا موضع الاباحة فصار عاما ألا ترى انه استثنى من الخطر فكان إباحة وقال محمد رحمه الله بكل قليل او كثر على معنى الاباحة أي بكل شيء منه قليلا كان أو كثيرا وكذلك داخل فيها أو خارج أي داخلا أو خارجا ويجوز الواو فيهما وكذلك احكام هذه الكلمة في الأفعال ان دخلت في الخبر افضت إلى الشك وان دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مثل قول الرجل والله لادخلن هذه الدار أو لادخلن هذه الدار أو لا ادخل هذه الدار أو لا ادخل هذه الدار أن له الخيار ولها وجه اخر هنا وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن وموضع ذلك أن يفسد العطف لاختلاف الكلام ويحتمل ضرب الغاية وذلك مثل قول الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أي حتى يتوب عليهم أو إلا أن في بعض الاقاويل لان العطف لم يحسن الفعل على اسم وللمستقبل على الماضي فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لان كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان احتمال كل واحد منهما متناهيا بوجود صاحبه فشابه الغاية من هذا الوجه فاستعير للغاية والكلام يحتمله لانه للتحريم وهو يحتمل الامتداد وكذلك يقال
والله افارقك أو تقتضينى حقى معناه حتى تقتضيني حقى أو لا أن تقتضيني حقى وهذا كثير في كلام العرب لا يحصى وعلى هذا قال اصحابنا فيمن قال والله لا ادخل هذه الدار وادخل هذه الدار الأخرى أن معناه حتى ادخل هذه فان دخل الأولى اولا حنث وان دخل الاخيرة أولا انتهت اليمين وتم البر لما قلنا أن العطف متعذر لاختلاف الفعلين من نفي واثبات والغاية صالحة لان أول الكلام حظر وتحريم فلذلك وجب العمل بمجازه والله اعلم
باب حتى
هذه كلمة اصلها للغاية في كلام العرب هو حقيقة هذا الحرف لا يسقط ذلك عنه الا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه وقد وجدناها تستعمل للغاية لا يسقط عنها ذلك فعلمنا إنها وضعت له فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى كقول الله عز و جل حتى مطلع الفجر وتقول اكلت السمك حتى رأسها أي إلى رأسها فانه بقي أي بقي الرأس وهذا على مثال ساير الحقايق ثم قد يستعمل للعطف لما بين العطف و الغاية من المناسبة مع قيام معنى الغاية تقول جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى زيد فزيد إما افضلهم واما ارذلهم ليصلح غاية إلا ترى إلى قولهم استنت الفصال حتى القرعى فجعل عطفا هو غاية فكانت حقيقة قاصرة وعلى هذا اكلت السمكة حتى رأسها بالنصب أي اكلته ايضا وقد تدخل على جملة مبتدأة على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل وهي غاية مع ذلك فان كان خبر المبتدأ مذكورا فهو خبره وإلا فيجب إثباته من جنس ما قبله تقول ضربت القوم حتى زيد غضبان فهذه جملة مبتدأة هي غاية معنى ومن ذلك اكلت السمكة حتى رأسها إلا أن الخبر غير مذكورهنا فيجب اثباته من جنس ما سبق على احتمال أن ينسب اليه أو إلى غير اعني حتى رأسها مأكول أو مأكول غيري ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى أو غاية هي جملة مبتدأة وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد وان يصلح الآخر دلالة على الانتهاء فإن لم يستقم فللمجازاة بمعنى لام كي وهذا إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية وصلح جزاء وهذا نظير قسم العطف من الاسماء فان تعذر هذا جعل مستعارا للعطف المحض وبطل معنى الغاية وعلى هذا مسائل اصحابنا في الزيادات ولهذه الجملة ما خلا المستعار المحض ذكر في كتاب الله تعالى قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقال حتى تغتسلوا هي بمعنى إلى وكذلك حتى تستأنسوا ومثله كثير وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال وزلزلوا حتى يقول الرسول بالنصب على وجهين أحدهما إلى أن يقول الرسول فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول وينتهي فعلهم عند مقالته على ما هو موضوع الغايات إنها اعلام الانتهاء من غير اثر والثاني وزلزلوا لكي يقول الرسول فيكون فعلهم سببا لمقالته وهذا لا يوجب الانتهاء وقرىء حتى يقول بالرفع على معنى جملة مبتدأة أي حتى الرسول يقول ذلك فلا يكون فعلهم سببا ويكون متناهيا به وقال محمد في الزيادات في رجل قال لرجل عبدي حر ان لم اضربك حتى تصيح أو حتى تشتكي يدي أو حتى يشفع فلان أو حتى تدخل الليل أن هذه غايات حتى إذا قلع قبل الغايات حنث لان الفعل بطريق التكرار يحتمل الامتداد في حكم البر والكف عنه محتمله في حكم الحنث لا محالة وهذه الأمور دلالات الاقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقتها فصار شرط الحنث الكف عنه قبل الغاية ولو قال عبدي حر ان لم آتك حتى تغذيني فأتاه فلم يغذه لم يحنث لان قوله حتى تغذيني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى
زيادة الاتيان والاتيان يصلح سببا والغذاء يصلح جزاء فحمل عليه لان جزاء السبب غايته فاستقام العمل به فصار شرط بره فعل الاتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغذاء وقد وجد ولو قال عبدي حران لم آتك حتى اتغذ عندك كان هذا للعطف المحض لان هذا الفعل احسان فلا يصلح غاية للاتيان ولا يصلح اتيان سببا لفعله ولا فعله جزاء لاتيان نفسه فإذا كان كذلك حمل على العطف المحض وكذلك أن لم آتك حتى اغذيك فصار كأنه قال أن لم آتك فاتغذ عندك حتى إذا أتاه فلم يتغذ ثم تغذى من بعد غير متراخ فقد بر وان لم يتغذ اصلا حنث وهذه استعارة لا يوجد لها ذكر في كلام العرب ولا ذكرها أحد من ائمة النحو واللغة فيما اعلم لكنها استعارة بديعة اقترحها اصحابنا على قياس استعارات العرب لان بين العطف والغاية مناسبة من حيث يوصل الغاية بالجملة كالمعطوف وقد استعملت بمعنى العطف مع قيام الغاية بلا خلاف فاستقام أن يستعار للعطف المحض إذا تعذرت حقيقته وهذا على مثال استعارات اصحابنا في غير هذا الباب وينبغي أن يجوز على هذا جاءني زيد حتى عمرو وهذا غير مسموع من العرب وإذا استعير للعطف استعير لمعنى الفاء دون الواو لأن الغاية تجانس التعقيب
باب حروف الجر
إما الباء فلإلصاق هو معناه بدلالة استعمال العرب وليكون معنى تخصه هو له حقيقة ولهذا اصحبت الباء الاثمان فيمن قال اشتريت منك هذا العبد بكر من حنطة ووصفها أن الكر ثمن يصح الاستبدال به بخلاف ما إذا اضاف العقد إلى الكر فقال اشتريت منك كر حنطة ووصفها بهذا العبد أنه يصير سلما لا يصح إلا مؤجلا ولا يصح الاستبدال به لأنه إذا أضاف البيع إلى العبد فقد جعله أصلا والصقه بالكر فصار الكر شرطا يلصق به الأصل وهذا أحد الأثمان التي هي شروط واتباع ولذلك قلنا في قول الرجل إن أخبرتني بقدوم فلان فعبدي حر انه يقع على الحق لان ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر
ولكن مفعول الخبر محذوف بدلالة حرف الإلصاق كما يقول بسم الله أي بدأت به فيكون معناه إن أخبرتني أن فلانا قدم فإنه يتناول الكذب أيضا لأنه غير مشغول بالباء فصلح مفعولا وإن ما بعدها مصدر ومعناه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه والقدوم اسم لفعل موجود بخلاف قوله إن أخبرتني قدومه ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار المفعول الثاني التكلم بقدومه وذلك دليل الوجود لا موجب له لا محالة ولهذا قالوا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته انه بمعنى الشرط لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط ويفضي إليه وكذلك أخواتها على ما قال في الزيادات وقال الشافعي بالباء للتبعيض في قول الله تعالى وامسحوا برؤسكم حتى أوج بمسح بعض الرأس وقال مالك رحمه الله الباء صلة لأن المسح فعل متعد فيؤكد بالباء كقوله تعالى تثبت بالدهن فيصير تقديره وامسحوا رؤسكم وقلنا أما القول بالتبعيض فلا أصل له في اللغة والموضوع للتبعيض كلمة من وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في الكلام أصلا وإنما هو من العوارض فلا يصار إلى الغاء الحقيقية والاقتصاد على التوكيد إلا بضرورة بل هذه الباء للإلصاق وبيان هذا أن الباء إذا دخلت في آلة المسح كان الفعل متعديا إلى محله كما تقول مسحت الحائط بيدي فيتناول كله لأنه أضيف إلى جملته ومسحت رأس اليتيم بيدي وإذا دخل حرف الإلصاق في محل المسح بقي الفعل متعديا إلى الآلة وتقديره وامسحوا أيديكم برؤوسكم أي الصقوها برؤوسكم فلا تقتضي
استيعاب الرأس وهو غير مضاف إليه لكنه يقتضي وضع آلة المسح وذلك لا يستوعبه في العادات فيصير المراد به أكثر اليد فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط فأما الاستيعاب في التيمم مع قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم فثابت بالسنة المشهورة أن النبي عليه السلام قال فيها ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين فجعلت الباء صلة وبدلالة الكتاب لأنه شرع خلفا عن الأصل وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان وعلى هذا قول الرجل إن خرجت من الدار إلا بإذني أنه يشترط تكرار الإذن لأن الباء للإلصاق فاقتضى ملصقا به لغة وهو الخروج فصار الخروج الملصق بالإذن الموصوف به مستثنى فصار عاما فأما قوله إلا أن آذن لك فإنه جعل مستثنى بنفسه وذلك غير مستقيم لأنه خلاف جنسه فجعل مجازا عن الغاية لأن الاستثناء يناسب الغاية وأما على فإنها وضعت لوقوع الشيء على غيره وارتفاعه وعلوه فوقه فصار هو موضوعا للإيجاب والإلزام في قول الرجل لفلان علي ألف درهم أنه دين إلا أن يصل به الوديعة فإن دخلت في المعاوضات المحضة كانت بمعنى الباء إذا استعملت في البيع والإجارة والنكاح لأن اللزوم يناسب الإلصاق فاستعير له وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن من قالت له امرأته طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لم يجب شيء وعندهما يجب ثلث الألف كما في قولها بألف درهم وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة على للزوم على ما قلنا وليس بين الواقع وبين ما لزمها مقابلة بل بينهما معاقبة وذلك معنى الشرط والجزاء فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة وقد أمكن العمل به لأن الطلاق وإن دخله المال فيصلح تعليقه بالشروط حتى أن جانب الزوج يمين فيصير هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلث فإذا خالف لم يجب وفي
المعاوضات المحضة يستحيل معنى الشرط فوجب العمل بمجازه قال الله تعالى حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق وقال يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا واما من فللتبعيض هو اصلها ومعناها الذي وضعت له لما قلنا وقد ذكرنا مسائلها في قوله اعتق من عبيدي من شئت وما يجري مجراه ومسائل كثيرة واما إلى فلانتهاء الغاية لذلك وضعت ولذلك استعملت في الآجال وإذا دخلت في الطلاق في قول الرجل انت طالق إلى شهر فإن نوى التنجيز وقع وإن نوى الإضافة تأخر وإن لم يكن له نية وقع للحال عند زفر رحمه الله لأن إلى للتأجيل والتأجيل لا يمنع الوقوع وقلنا أن التأجيل لتأخير ما يدخله وهنا دخل على أصل الطلاق فأوجب تأخيره والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم مثل قول الرجل من هذا البستان إلى هذا البستان وقول الله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة فيكون الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم مثل ما قلنا في المرافق ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الغاية في الخيار انه يدخل وكذلك في الآجال في الإيمان في رواية حسن ابن زياد عنه وقال في قوله لفلان على من درهم إلى عشرة لم يدخل العاشر لأن مطلق الاسم لا يتناوله وقالا يدخل لأنه ليس بقائم بنفسه وكذلك هذا في الطلاق وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة وأما في فللظرف وعلى ذلك مسائل أصحابنا رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في حذفه وإثباته في ظروف الزمان وهو أن تقول أنت طالق غدا أو في غد وقالا هما سواء وفرق أبو حنيفة بينهما فيما إذا نوى آخر النهار على ما ذكرنا في موضعه أن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة فيقع في كله فيتعين أوله فلا يصدق في التأخير وإذا لم يسقط حرف الظرف صار مضافا إلى جزء منه مبهم فيكون نيته بيانا لما أبهمه فيصدقه القاضي وذلك مثل قول الرجل
إن صمت الدهر فعلى كذا أنه يقع على الأبد وإن صمت في الدهر يقع على ساعة وإذا أضيف إلى المكان فقيل أنت طالق في مكان كذا وقع للحال إلا أن يراد به إضمار الفعل فيصير بمعنى الشرط وقد يستعار هذا الحرف للمقارنة إذا نسب إلى الفعل فقيل أنت طالق في دخول الدار لأنه لا يصلح ظرفا وفي الظرف معنى المقارنة فجعل مستعارا بمعناه فصار بمعنى الشرط وعلى هذا مسائل الزيادات أنت طالق في مشيئة الله وإرادته وأخواتهما فإن الطلاق لا يقع كأنه قال إن شاء الله إلا في علم الله لأنه يستعمل في المعلوم ولا يصلح شرطا بل يستحيل وإذا قال أنت طالق في الدار وأضمر الدخول صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير بمعنى ما قلنا وعلى هذا قال لفلان علي عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم لأنه لا يصلح للظرف فيلغوا إلا أن ينوى به معنى مع أو واو العطف فيصدق لما قلنا أن في الظرف معنى المقارنة فيصير من ذلك الوجه مناسبا لمع وللعطف فيلزمه عشرون وكذلك قوله أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة وإن نوى معنى مع وقعا قبل الدخول وإن نوى الواو وقعت واحدة ومن ذلك حروف القسم وهي الباء والواو والتاء وما وضع لذلك وهو ايم الله تعالى وما يؤدي معناه وهو لعمر الله فأما الباء فهي للإلصاق وهي دلالة على فعل محذوف معناه اقسم أو احلف بالله وكذلك في سائر الأسماء والصفات وكذلك في الكنايات تقول بك لافعلن كذا وبه لافعلن كذا فلم يكن لها اختصاص القسم واما الواو فإنها استعيرت بمعنى الباء لأنها تناسب صورة ومعنى أما الصورة فإن صورتها وجودها من مخرجها بضم الشفتين مثل الباء واما المعنى فإن عطف الشيء على غيره نظير إلصاقه به فاستعير له إلا انه لا يحسن إظهار الفعل ههنا تقول والله ولا تقول احلف والله لأنه استعير للباء توسعة لصلات القسم فلو صح
الإظهار لصار مستعارا بمعنى الإلصاق فيصير الاستعارة عامة في بابها وإنما الغرض بها الخصوص لباب القسم الذي يدعو إلى التوسعة ويشبه قسمين ولا يدخل في الكناية أعني الكاف ثم استعير التاء بمعنى الواو توسعة لشدة الحاجة إلى القسم لما بين الواو والتاء من المناسبة فإنهما من حروف الزوائد في كلام العرب مثل التراث لغة في الوارث والتورية وما أشبه ذلك ولما صار ذلك دخيلا على ما ليس بأصل انحطت رتبته عن رتبة الأول والثاني فقيل لا تدخل إلا في اسم الله لأنه هو المقسم به غالبا فجاز تالله ولم يجز تالرحمن وتالرحيم وقد يحذف حرف القسم تخفيفا فيقال الله لأفعلن كذا لكنه بالنصب عند أهل البصرة وهو مذهبنا وبالخفض عند أهل الكوفة وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل مثل قول الرجل والله الله والله الرحمن والرحيم على ما ذكرنا في الجامع وأما أيم الله فاصله أيمن الله وهو جمع يمين وهذا مذهب أهل الكوفة وأما مذهب أهل البصرة وهو قولنا أن ذلك صلة وضعت للقسم لا اشتقاق لها مثل صه ومه وبخ والهمزة للوصل ألا ترى أنها توصل إذا تقدمه حرف مثل سائر حروف الوصل ولو كان لبناء الجمع وصيغة لما ذهب عند الوصل والكلام فيه يطول وأما لعمر الله فإن اللام فيه للابتداء والعمر البقاء ومعناه لبقاء الله هو الذي اقسم به فيصير تصريحا لمعنى القسم بمنزلة قول الرجل جعلت هذا العبد ملكا لك بألف درهم أنه تصريح لمعنى البيع فيجري مجراه فكذلك هذا ومن هذا الجنس أسماء الظروف وهي مع وبعد وقبل وعند أما مع فللمقارنة في قول الرجل أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة انه يقع ثنتان معا قبل الدخول وقيل للتقديم حتى أن من قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار طلقت للحال ولو قال لامرأته قبل الدخول أنت
طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ولو قال قبل واحدة تقع واحدة وبعد للتأخير وحكمها في الطلاق ضد حكم قبل لما ذكرنا أن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله هذا الحرف أصل هذه الجملة وعند للحضرة حتى إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان وديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم والوقوع عليه وعلى هذا قلنا إذا قال أنت طالق كل يوم طلقت واحدة ولو قال عند كل يوم أو مع كل يوم طلقت ثلاثا وكذلك إذا قال أنت طالق في كل يوم ولو قال أنت علي كظهر أمي كل يوم فهو ظهار واحد ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم يتجدد عند كل يوم ظهار وهذا لما قلنا أنه إذا حذف اسم الظرف كان الكل ظرفا واحدا فإذا أثبته صار كل فرد بانفراده ظرفا على نحو ما قلنا في مسألة الغد ومن هذا الباب حروف الاستثناء واصل ذلك إلا ومسائل الاستثناء من جنس البيان فنذكر في بابه ان شاء الله تعالى ومن ذلك غير وهو من الاسماء يستعمل صفة للنكرة ويستعمل استثناء تقول لفلان علي درهم غير دانق بالرفع صفة للدرهم فيلزمه درهم تام ولو قال غير دانق بالنصب كان استثناء يلزمه درهم إلا دانقا وكذلك قال لفلان على دينار غير عشرة بالرفع لزمه دينار ولو نصبه فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يلزمه دينار إلا قدر قيمة عشرة دراهم منه وما يقع من الفصل بين البيان والمعارضة نذكره في باب البيان ان شاء الله وسوى مثل غير وذلك في الجامع أن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة على ما ذكرنا ومن ذلك حروف الشرط وهي أن وإذا وإذا ما ومتى ومتى ما وكل وكلما ومن وما وانما نذكر في هذا الكتاب من هذا الجمل ما يبتنى عليه مسائل اصحابنا على الاشارة واما حرف ان فهو الأصل في هذا الباب وضع للشرط وانما يدخل على كل أمر معدوم على
خطر ليس بكائن لا محالة تقول ان زرتني اكرمتك ولا يجوز ان جاء غد اكرمتك واثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلا حتى يبطل التعليق وهذا يكثر امثلته وعلى هذا قلنا إذا قال الرجل لامرأته ان لم اطلقك فأنت طالق ثلاثا إنها لا تطلق حتى يموت الزوج فيطلق في أخر حياته لان العدم لا يثبت إلا بقرب موته كذلك إذا ماتت المرأة طلقت ثلاثا قبل موتها في اصح الروايتين واما إذا فإن مذهب أهل اللغة والنحو من الكوفيين فيها إنها تصلح للوقت و للشرط على السواء فيجازي بها مرة ولا يجازي بها اخرة فإذا جوزي بها فإنما يجازي بها على سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واما البصريون من أهل اللغة والنحو فقد قالوا إنها للوقت وقد تستعمل للشرط من غير سقوط الوقت عنها مثل متى فإنها للوقت لا يسقط عنها ذلك بحال والمجازاة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا غير لازمة بل هي في حيز الجواز والى هذا الطريق ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بيانه فيمن قال لامرأته إذا لم اطلقك فأنت طالق في قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما مثل قوله ان لم اطلقك وقال أبو يوسف يقع كما فرغ من اليمين مثل متى لم اطلقك لان إذا اسم للوقت بمنزلة سائر الظروف وهو للوقت المستقبل وقد استعملت للوقت خالصا فقيل كيف الرطب إذا اشتد الحر أي حينئذ ولا يصلح ان هنا ويقال اتيك إذا اشتد الحر ولا يجوز أن اشتد الحر لان الشرط يقتضي خطر أو ترددا هو اصله وإذا تدخل للوقت على أمر كائن أو منتظر لا محالة كقوله إذا الشمس كورت وتستعمل للمفاجأة قال الله تعالى إذا هم يقنطون وإذا كان كذلك كان مفسر من وجه ولم يكن مبهما فلم يكن شرطا إلا انه قد يستعمل فيه مستعارا مع قيام معنى الوقت مثل متى مع أن المجازاة في متى الزم ومع هذا لم يسقط عنه حقيقته وهو الوقت فهذا اولى فصار الطلاق مضافا إلى زمان خال
عن ايقاع الطلاق الا ترى أن من قال لامرأته انت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس مثل متى بخلاف أن ولا يصح طريق أبي حنيفة رحمه الله عليه إلا أن يثبت ان إذا قد يكون حرفا بمعنى الشرط مثل أن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة واحتج الفراء لذلك بقول الشاعر ... استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل ...
وانما معناه وان تصبك خصاصة بلا شبهة وإذا ثبت هذان الوجهان في إذا على التعارض اعني معنى الشرط الخالص ومعنى الوقت وقع الشك في وقوع الطلاق فلم يقع بالشك ووقع الشك في انقطاع المشية بعد الثبوت فيما استشهدا به فلا تبطل بالشك وكذلك إذا فاما متى فأسم للوقت المبهم بلا اختصاص فكان مشاركا لان في الابهام فلزم في باب المجازاة وجزم بها مثل أن لكن مع قيام الوقت لان ذلك حقيقتها فوقع الطلاق بقوله انت طالق متى لم اطلقك عقيب اليمين وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس وكذلك متى ما وقد سبق تفسير كلما وكذلك من وما يدخلان في هذا الباب لا بها مهما والمسائل فيهما كثيرة خصوصا في من وقد روي عن أبي يوسف ومحمد فيمن قال انت طالق لو دخلت الدار أن بمنلزة قوله أن دخلت الدار لان فيها معنى الترقب فعمل عمل الشرط وكذلك قول الرجل انت طالق لولا صحبتك وما اشبه ذلك غير واقع لما فيه من معنى الشرط وذكر في السير الكبير بابا بناه على معرفة الحروف التي ذكرنا آمنوني على عشرة من أهل الحصن قال ذلك رأس الحصن ففعلنا وقع عليه وعلى عشرة غيره والخيار اليه ولو قال آمنوني وعشرة فكذلك إلا أن الخيار إلى امام المسلمين ولو قال بعشرة فمثل قوله وعشرة ولو قال في عشرة وقع على تسعة سواه والخيار إلى الإمام ولو قال آمنوا لي عشرة على عشرة لا غير ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم والخيار فيهم اليه وذلك يخرج على هذه الاصول ومن ذلك كيف وهو سؤال
عن المحال وهو اسم للحال فإن استقام وإلا بطل ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله الرجل أنت حر كيف شئت أنه ايقاع وفي الطلاق أنه يقع الواحدة ويبقى الفضل في الوصف والقدر وهو الحال مفوضا بشرط نية الزوج وقال ما لا يقبل الإشارة فحاله ووصفه بمنزلة أصله فتعلق الأصل بتعلقه وأما لم فاسم للعدد الذي هو الوقع وحيث اسم لمكان مبهم دخل على المشية والله أعلم باب الصريح والكناية مثل قوله الرجل بعث واشتريت ووهبت لأنه ظاهر المراد وحكم تعلق الحكم بعين الكلام وقيامه مقام معناه حتى استغنى عن العزيمة وكذلك الطلاق والعتاق وحكم الكناية أن لا يجب العمل به إلا بالنية لانه مستتر المراد وذلك مثل المجاز قبل أن يصير متعارفا ولذلك سمى أسماء الضمير كناية مثل انا وانت ونحن وسمى الفقهاء ألفاظ الطلاق التي لم يتعارف كنايات مثل الباين والحرام مجازا لا حقيقة لان هذه كلمات معلومة المعاني غير مستترة لكن الابهام فيما يتصل به ويعمل فيه فلذلك شابهت الكنايات فسميت بذلك مجازا ولهذا الابهام احتيج إلى النية فإذا وجدت النية وجب العمل بموجباتها من غير أن يجعل عبارة عن الصريح ولذلك جعلناها بواين وانقطعت بها الرجعة إلا في قول الرجل اعتدى لان حقيقتها الحساب ولا اثر لذلك في النكاح والاعتداد يحتمل أن يراد به ما يعد من غير الاقراء فإذا نوى الاقراء فزال الابهام وجب بها الطلاق بعد الدخول اقتضاء وقبل الدخول جعل مستعارا محضا عن الطلاق لانه سببه فاستعير الحكم لسببه فلذلك كان رجعيا وكذلك قوله استبرىء رحمك وقد جاءت السنة أن النبي عليه السلام قال لسودة بنت زمعة اعتدى ثم راجعها وكذلك انت واحدة يحتمل نعتا للطلقة
ويحتمل صفة للمرأة فإذا زال الابهام بالنية كان دلالة على الصريح لا عاملا بموجبه والاصل في الكلام هو الصريح واما الكناية ففيها قصور من حيث يقصر عن البيان إلا بالنية والبيان بالكلام هو المراد فظهر هذا التفاوت فيما يدرا بالشبهات وصار جنس الكنايات بمنزلة الضرورات ولهذا قلنا أن حد القذف لا يجب إلا بتصريح الزنا حتى أن من قذف رجلا بالزنا فقال له آخر صدقت لم يحد المصدق وكذا إذا قال لست بزان يريد التعريض بالمخاطب لم يحد وكذلك في كل تعريض لما قلنا بخلاف من قذف رجلا بالزنا فقال آخر هو كما قلت حد هذا الرجل وكان بمنزلة الصريح لما عرف في كتاب الحدود والله اعلم
باب وجوه الوقوف على احكام النظم
وهو القسم الرابع وذلك اربعة وجه الوقوف بعبارته واشارته ودلالته و اقتضائه أما الأول فما سيق الكلام له واريد به قصدا والاشارة ما ثبت بنظمه مثل الأول إلا أن غير مقصود ولا سيق الكلام له وهما سواء في ايجاب الحكم إلا أن الأول احق عند التعارض من ذلك قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن سيق الكلام لايجاب النفقة على الوالد وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الاباء لانه نسب اليه بلام الملك وفيه إشارة إلى أن للاب ولاية التمليك في مال ولده وانه لا يعاقب بسببه كالمالك بمملوكه لانه نسب اليه بلام الملك وعليه تبنى مسائل كثيرة وفيه إشارة إلى انفراد الاب بتحمل نفقة الولد لانه اوجبها عليه بهذه النسبة ولا يشاركه أحد فيها فكذلك في حكمها وفيه إشارة إلى أن الولد إذا كان غنيا والوالد محتاجا لم يشارك الولد أحد في تحمل نفقة الوالد لما قلنا من النسبة بلام التمليك وفيه إشارة إلى أن النفقة تستحق بغير الولاد وهي نفقة ذوي الأرحامخلافا للشافعي رحمه الله لقوله عز و جل وعلى الوارث مثل ذلك وذلك بعمومه يتناول الأخ والعم وغيرهما ويتناولهم بمعناه لانه اسم مشتق من الارث مثل الزاني والسارق وفيه إشارة إلى أن من عدا الوالد يتحملون النفقة على قدر المواريث حتى أن النفقة يجب على الام والجد ثلاثا لقوله عز و جل وعلى الوارث مثل ذلك وهو اسم مشتق من معنى فيجب بناء الحكم على معناه وفي قوله رزقهن وكسوتهن إشارة إلى أن اجر الرضاع يستغنى عن التقدير بالكيل والوزن كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومن ذلك قوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر سياق الكلام لاباحة هذه الأمور في الليل ونسخ ما كان قبله من التحريم و فيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر لانه قال ثم أتموا الصيام أي الكف عن هذه الجملة فكان بطريق واحد فلم يكن للجماع اختصاص ولا مزية وفيه إشارة إلى أن النية في النهار منصوص عليه لقوله تعالى ثم أتموا الصيام بعد اباحة الجملة إلى طلوع الفجر وحرف ثم للتراخي فتصير العزيمة بعد الفجر لا محالة لان الليل لا ينقضي إلا بجزء من النهار إلا انا جوزنا تقديم النية على الفجر بالسنة فأما أن يكون الليل اصلا فلا وفي اباحة اسباب الجنابة إلى اخر الليل إشارة إلى أن الجنابة لا تنافى الصوم فيمن اصبح جنبا ومن ذلك قوله تعالى فإطعام عشرة مساكين الآية سياقها لايجاب نوع من هذه الجملة على سبيل التخيير وفيه إشارة إلى أن الأصل في جهة لإطعام الاباحة والتمليك ملحق به لان الاطعام فعل متعد مطاوعه طعم يطعم وهو الاكل فالاطعام جعله اكلا كسائر الأفعال إذا تعدت بزيادة الهمزة لم تبطل وضعها وحقيقتها فإذا لم يكن مطاوعه ملكا لم يكن متعديه تمليكا هذا واضح جدا فمن جعل التمليك اصلا كان تاركا حقيقة الكلام ومعنى الحاق التمليك به خلافا لبعض الناس أن الاباحة جزء من
التمليك في التقدير والتمليك كله لان حوايج المساكين كثيرة يصلح الطعام لقضاء كل نوع منها إلا أن الملك سبب لقضائها فأقيم الملك مقامها فصار التمليك بمنزلة قضائها كلها باعتبار الخلافة عنها ومن هذه الحوايج الاكل فصار النص واقعا على الذي هو جزء من هذه الجملة فاستقام تعديته إلى الكل الذي هو مشتمل على هذا المنصوص عليه وعلى غيره فيكون عملا بعينه في المعنى وهذا بخلاف الكسوة لان النص هناك تناول التمليك لانه جعل الفعل في الأول كفارة وهو الطعام وجعل العين في الثاني كفارة وهو الثوب لان الكسوة بكسر الكاف اسم للثوب وبفتح الكاف اسم للفعل فوجب أن يصير العين كفارة المنفعة وانما يصير كذلك بالتمليك دون الاعارة فصار النص هنا واقعا على التمليك الذي هو قضاء لكل الحوائج في المعنى فلم يستقم التعدية إلى ما هو جزء منها وهو مع ذلك قاصر لأن الإعارة في الثياب منقضية قبل الكمال والاباحة في الطعام لازمة لامر دل فعل الاكل فيها فهما في طرفي نقيض مع التفاوت الذي بينا وكان قول الشافعي رحمه الله في قياس الطعام بالكسوة في الفرع والاصل معا غلطا وفيه إشارة إلى أن المساكين صاروا مصارف بحوائجهم فكان الواجب قضاء الحوائج لا اعيان المساكين ثبتت هذه الاشارة بالفعل وهو الاطعام لان اطعام الطاعم الغني لا يتحقق كتمليك المالك لا يتحقق ومن قضية الاطعام الحاجة إلى الطعم وثبتت ايضا بالنسبة إلى المساكين لان اسمهم ينبىء عن الحاجة فدل ذلك على أن اطعام مسكين واحد في عشرة ايام مثل اطعام عشرة مساكين في ساعة لوجود عدد الحوائج كاملة فان قيل هذا لا يوجد في كسوة مسكين عشرة اثواب في عشرة ايام وقد جوزتم ذلك ولا حاجة إلا بعد ستة اشهر أو نحو ذلك قيل له هذا الذي تقول حاجة اللبوس وهو غلط لان النص تناول التمليك على ما قلنا وقد اقمنا التمليك مقام قضاء الحوايج كلها والثوب
قائم إذا اعتبرت اللبوس وإذا اعتبرت جملة الحوايج صارها لكافي التقدير فكان يجب أن يصح الاداء على هذا متواترا غير أن الحاجات إذا قضيت لم تكن بد من تجددها ولا تجدد إلا بالزمان وادنى ذلك يوم لجملة الحوائج حتى قال بعض مشايخنا يجوز الاداء في يوم واحد إلى مسكين واحد العشرة كلها في عشر ساعات لما قلنا إلا انه غير معلوم فكان اليوم اولى و كذلك الطعام في حكم التمليك مثل الثوب والاباحة لا يصح إلا في عشرة ايام ولا يلزم إذا قبض المسكين كسوتين من رجلين فصاعدا جملة انه يجوز لان اداء كل واحد في غيره في حكم العدم فلم يوخذ بالتفريق واما دلالة النص فما ثبت بمعنى النظم لغة وانما نعني بهذا ما ظهر من معنى الكلام لغة وهو المقصود بظاهر اللغة مثل الضرب اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الايلام والتأفيف اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الاذى والثابت بهذا القسم مثل الثابت بالاشارة والعبارة إلا أنه عند التعارض دون الاشارة حتى صح إثبات الحدود والكفارات بدلالات النصوص ولم يجز بالقياس لانه ثابت بمعنى مستنبط بالرأي نظرا لا لغة حتى اختص بالقياس الفقهاء واستوى أهل اللغة كلهم في دلالات الكلام مثاله انا اوجبنا الكفارة على من افطر بالاكل والشرب دلالة النص دون القياس وبيانه أن سؤال السائل وهو قوله واقعت امرأتي في شهر رمضان وقع عن الجناية والمواقعة عينها ليست بجناية بل هو اسم لفعل واقع على محل مملوك إلا أن معنى هذا الاسم لغة من هذا السائل هو الفطر الذي هو جناية وانما اجاب رسول الله عليه السلام عن حكم الجناية فكان بناء على معنى الجناية من ذلك الاسم والمواقعة آلة الجناية فأثبتنا الحكم بذلك المعنى بعينه في الاكل لانه فوقه في الجناية لان الصبر عنه اشد والدعوة اليه اكثر فكان اقوى في الجناية على نحو ما قلنا في الشتم مع التأفيف فمن حيث أنه ثابت
بمعنى النص لا بظاهره لم نسمه عبارة ولا إشارة ومن حيث انه ثابت بمعنى النص لغة لا رأيا سميناه دلالة لا قياسا ومن ذلك أن النص في عذر الناسي ورد في الاكل والشرب وثبت حكمه في الوطئ دلالة لان النسيان فعل معلوم بصورته ومعناه أما صورته فظاهره وأما معناه انه مدفوع اليه خلقة وطبيعة وكان ذلك سماويا محضا فأضيف إلى صاحب الحق فصار عفوا هذا معنى النسيان وهو كونه مطبوعا عليه فعلمنا بهذا المعنى في نظيره فان قيل هما متفاوتان لان النسيان يغلب في الاكل والشرب لان الصوم يحوجه إلى ذلك ولا يحوجه إلى الواقعة بل يضعفه عنها فصار كالنسيان في الصلوة لم يجعل عذرا لانه نادر قلنا للأكل والشرب مزية في اسباب الدعوة وفيه قصور في حاله لانه يغلب البشر واما المواقعة فقاصرة في اسباب الدعوة ولكنها كاملة في حالها الان هذه الشهوة تغلب البشر فصار سواء فصح الاستدلال و من ذلك قال النبي عليه السلام لا قودا إلا بالسيف وأراد به الضرب بالسيف ولهذا الفعل معنى مقصور وهو الجناية بالجرح وما يشبهه والحكم جزاء يبتنى على المماثلة في الجناية وكان ثابتا بذلك المعنى واختلف فيه قال أبو حنيفة رحمه الله وذلك المعنى هو الجرح الذي ينقص البينة ظاهرا وباطنا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله معناه ما لا تطيق البنية احتماله فتهلك جرحا كان او لم يكن حتى قالا يجب القود بالقتل بالحجر العظيم لانا نعلم أن القصاص وجب عقوبة وزجرا عن انتهاك حرمة النفس وصيانة حياتها وانتهاك حرمتها بما لا تطيق حمله ولا تبقى معه فأما الجرح على البدن فلا عبرة به إنما البدن وسيلة فما يقوم بغير الوسيلة كان اكمل والجواب لابي حنيفة عن هذا أن معنى الجناية هو ما لا تطيق النفس احتماله لكن الأصل في كل فعل الكمال والنقصان بالعوارض فلا يجب
الناقص أصلا بل الكامل يجعل أصلا ثم تعدى حكمه إلى الناقص أن كان من جنس ما يثبت بالشبهات فأما أن يجعل الناقص أصلا خصوصا فيما يدرأ بالشبهات فلا وههنا الكامل فيما قلنا ما ينقص البنية ظاهرا وباطنا هو الكامل في النقض على مقابلة كمال الوجود وقولهما أن البدن وسيلة وهم وغلط لانا نعني بهذا الجناية على الجسم لكنا نعني به الجناية على النفس التي هي معنى الانسان خلقه فالقصاص مقابل بذلك إما الجسم ففروع واما الروح فلا يقبل الجناية ومعنى الانسان خلقه بدمه وطبايعه فلا يتكامل الجناية عليه إلا بجرح يريق دما ويقع على معناه قصدا هذا اولى خصوصا في العقوبات ومن ذلك أن ابا يوسف ومحمد اوجبا حد الزنا باللواطة بدلالة النص لان الزنا اسم لفعل معلوم ومعناه قضاء الشهوة بفسح الماء في محل محرم مشتهى مشتهى وهذا المعنى بعينه موجود في اللواطة وزيادة لانه في الحرمة فوقه وفي سفح الماء فوقه وفي الشهوة مثله وهذا معنى الزنا لغة والجواب عن هذا أن الكامل اصل في كل باب خصوصا في الحدود والكامل في سفح الماء ما يهلك البشر حكما وهو الزنا لان ولد الزنا هالك حكما لعدم من يقوم بمصالحه فأما تضييع الماء فقاصر لانه قد يحصل بالعزل ولا تفسد الفراش وكذلك الزنا كامل بحاله لانه غالب الوجود بالشهوة الداعية من الطرفين واما هذا الفعل فقاصر بحاله لان الداعى اليه شهوة الفاعل فأما صاحبه فليس في طبعه داع اليه بل الطبع مانع ففسد الاستدلال بالكامل على القاصر في حكم يدرأ بالشبهات والترجيح بالحرمة باطل لان الحرمة المجردة بدون هذه المعاني غير معتبرة لايجاب الحد إلا ترى أن شرب البول لا يوجب الحد مع كمال الحرمة ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله قال وجبت الكفارة بالنص في الخطأ من القتل مع قيام العذر وهو الخطأ
لان الخطاء عذر مسقط حقوق الله تعالى وكذلك وجبت الكفارة في اليمين المعقودة إذا صارت كاذبة فلأن يجب في الغموس وهي كاذبة من الأصل اولى فصارت دلالة عليه لقيام معنى النص لكن قلنا هذا الاستدلال غلط لان الكفارة عبادة فيها شبه بالعقوبات لا تخلو الكفارة عن معنى العبادة و العقوبة فلا يجب إلا بسبب دائر بين الحظر والاباحة والقتل العمد كبيرة بمنزلة الزنا والسرقة فلم يصلح سببا كالمباح المحض لا يصلح سببا مع رجحان معنى العبادة في الكفارة وكذلك الكذب حرام محض واما الخطاء فدائر بين الوصفين واليمين عقد مشروع والكذب غير مشروع ولا يلزم إذا قتل بالحجر العظيم فانه يوجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله ذكره الطحاوي لانه فيه شبه الخطاء وهي مما يحتاط فيها فثبت بشبهة السبب كما تثبت بحقيقته وذكره الجصاص في احكام القران وقد جعله في الكتاب شبه العمد في ايجاب الدية على العاقلة فكان نصا على الكفارة وإذا قتل مسلم حربيا مستأمنا عمدا الم تلزمه الكفارة مع قيام الشبهة لان الشبهة في محل الفعل فاتبرت في القود لأنه يقبل بالمحل من وجه حتى نافى الدية فأما الفعل فعمد محض خالص لا تردده فيه والعقوبة جزاء للفعل المحض وفي مسئلة الحجر الشبهة في نفس الفعل فعم القود و الكفارة ولهذا قلنا أن سجود السهو لا يجب بالعمد ولا يصلح أن يكون السهو دليلا على العمد لما قلنا خلافا فالشافعي أيضا وقلنا نحن أن كفارة الفطر وجبت على الرجل بالموافقة نصا ومعنى الفطر فيه معقول لغة فوجبت الكفارة على المرأة أيضا استلال به واما المقتضي فزيادة على النص ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه لما لم يستغن عنه وجب تقدميه لتصحيح المنصوص عليه فقد اقتضاه النص فصار المقتضي بحكمه حكما للنص بمنزلة الشراء اوجب الملك والملك اوجب العتق في القريب فصار الملك بحكمه حكما للشراء
فصار الثابت به بمنزلة الثابت بنفس النظم دون القياس حتى أن القياس لا يعارض شيئا من هذه الأقسام والثابت بهذا يعدل الثابت بالنص إلا عند المعارضة به واختلفوا في هذا القسم قال اصحابنا رحمهم الله لا عموم له وقال الشافعي رحمه الله فيه بالعموم لانه ثابت بالنص فكان مثله وقلنا أن العموم من صفات النظم والصيغة وهذا أمر لا نظم له لكنا انزلناه منظوما شرطا لغيره فيبقى على اصله فيما وراء صحة المذكور ومثال هذا الأصل اعتق عبدك عني بألف درهم انه يتضمن البيع مقتضى العتق وشرطا له حتى يثبت بشروط العتق لما كان تابعا له ولو جعل بمنزلة المذكور كما قال الخصم لتثبت بشروط نفسه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله انه لو قال اعتق عبدك عني بغير شيء انه يصح عن الأمر ويثبت الملك بالهبة من غير قبض لانه ثابت مقتضى بالعتق فيثبت بشروطه فيستغنى عن التسليم كما استغنى البيع عن القبول وهو الركن فيه فالاستغناء عن القبض وهو شرط اولى وهذا كما قال اعتق عبدك هذا عني بألف درهم ورطل من خمر انه يصح ويعتق عنه و أن لم يوجد التسليم والبيع الفاسد مثل الهبة لما قلنا وقال أبو حنيفة ومحد رحمهما الله يقع العتق عن المأمور لأن القبض والتسليم بحكم الهبة لم يوجد العتق يتلف على ملك المولى في يد نفسه وذلك غير مقبوض للطالب ولا للعبد ولا هو محتمل له وقوله أن القبض يسقط باطل لان ثبوت المقتضى بهذا الطريق مشروع وانما يسقط به ما يحتمل السقوط والقبض والتسليم في الهبة شرط لا يحتمل السقوط بحال ودليل السقوط يعمل في محله واما القبول في البيع فيحتمل السقوط إلا ترى أن الكل يحتمل السقوط فينعقد بالتعاطي فالشطر اولى ومن قال لاخر بعتك هذا الثوب بكذا فاقطعه فقطعه ولم يتكلم صح وكذلك البيع الفاسد مشروع مثل الصحيح فاحتمل سقوط القبض عنه فصح اسقاطه
بطريق الاقتضاء ومثاله ما قلنا إذا قال الرجل لامرأته بعد الدخول اعتدى ونوى الطلاق وقع مقتضى الأمر بالاعتداد ولهذا لم يصح نية الثلاث ولهذا كان رجعيا ومثال خلاف الشافعي إن أكلت فعبدي حر وان شربت ونوى خصوص الطعام أو الشراب لم يصدق عندنا ومن قال إن خرجت فعبدي حر ونوى مكانا دون مكان لم يصدق عندنا ومن قال إن اغتسلت فعبدي حر ونوى تخصيص الأسباب لم يصدق عندنا لما قلنا ولو قال إن اغتسل الليلة في هذه الدار فعبدي حر فلم يسم الفاعل ونوى تخصيص الفاعل لم يصدق عندنا بخلاف قوله إن اغتسل أحد أو إن اغتسلت غسلا وقد يشكل على السامع الفصل بين المقتضى وبين المحذوف على وجه الاختصار وهو ثابت لغة وآية ذلك أن ما اقتضى غيره ثبت عند صحة الاقتضاء وإذا كان محذوفا فقدر مذكورا انقطع عن المذكور مثل قوله تعالى واسأل القرية أن الأهل محذوف على سبيل الاختصار لغة لعدم الشبهة إلا ترى انه متى ذكر الأهل انتقلت الإضافة عن القرية إلى الأهل والمقتضى لتحقيق المقتضى لا لنقله ومثله قوله عليه السلام رفع الخطاء والنسيان لما استحال ظاهره كان الحكم مضمرا محذوفا حتى إذا ظهر المضمر انتقل الفعل عن الظاهر وكذلك قوله عليه السلام الأعمال بالنيات فلم يسقط عموم الحديث من قبل الاقتضاء لكن لأن المحذوف من الأسماء المشتركة على ما مر وما حذف اختصارا وهو ثابت لغة كان عاما بلا خلاف لأن الاختصار أحد طريقي اللغة فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري مثل تحليل الميتة بالضرورة فلا يزيد عليها ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق ونوى به الثلاث أن نيته باطلة لأن المذكور نعت المرأة والطلاق الواقع مقدم عليه اقتضاء لكنه ضروري لا عموم له لأن المذكور وهي المرأة بأوصافها وقد نوى عموم ما لم يتكلم به والعلم من أوصاف النظم ولم يكن المصدر ههنا ثابتا لغة لأن النعت
يدل على المصدر الثابت بالموصوف لغة ليصير الوصف من المتكلم بناء عليه فأما أن يصير الوصف ثابتا بالواصف بحقيقته تصحيحا لوصفه فأمر شرعي ليس بلغوي وكذلك ضربت بناء على مصدر ماض وطلقتك يوجب مصدرا من قبل التكلم فكان شرعيا واما البائن وما يشبه ذلك فمثل طالق من حيث أنه نعت مقتض للواقع غير أن البينونة يتصل بالمرأة للحال ولاتصالها وجهان انقطاع يرجع إلى الملك وانقطاع يرجع إلى الحل فتعدد المقتضى بتعدد المقتضى على الاحتمال فصح تعيينه واما طالق لا يتصل بالمرأة للحال لأن حكمه في الملك معلق بالشرط وحكمه في الحل معلق بكمال العدد وإنما حكمه للحال انعقاد العلة وذلك غير متبوع فلم يتنوع المقتضى إلا بواسطة العدد فيصير العدد أصلا وإذا قال لامرأته طلقي نفسك صحت نية الثلاث لأن المصدر ههنا ثابت لغة لأن الأمر فعل مستقبل وضع لطلب الفعل فكان مختصرا من الكلام على سائر الأفعال فصار مذكورا لغة فاحتمل الكل والأقل كسائر أسماء الأجناس وأما طلقت فنفس الفعل ونفس الفعل في حال وجوده لا يتعدد بالعزيمة وذلك مثل قول الرجل إن خرجت فعبدي حر أنه تصح نية السفر لأن ذكر الفعل لغة ذكر المصدر فأما المكان فثابت اقتضاء ففسدت نية مكان دون مكان ولا يلزم إذا حلف لا يساكن فلانا ونوى السكنى في بيت واحد أنه يصح والمكان ثابت اقتضاء لأن تعيين المكان لغو حتى لا تصح نيته لو نوى بيتا بعينه لكن نية جمل البيوت تصح لأنه راجع إلى تكميل فعل المساكنة لأنها مفاعلة وإنما يتحقق بين اثنين على الكمال إذا جمعهما بيت واحد لكن اليمين وقعت على الدار وهذا قاصر عادة فصح نية الكامل والمساكنة ثابتة لغة فصح تكميلها ولا يلزم عليه رجل قال لصغير هذا ولدي فجاءت أم الصغير بعد موت المقر وصدقته وهي أم معروفة أنها تأخذ الميراث وما ثبت الفراش إلا قتضى لأن النكاح
ثبت بينهما مقتضى النسب فكان مثل ثبوت البيع في قوله اعتق عبدك عنى بألف درهم ولكن المقتضى غير متنوع فيصير في حال بقائه مثل النكاح المعقود قصدا أو الثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص ايضا لان معنى النص إذا ثبت كونه علة لا يحتمل أن يكون غير علة واما الثابت باشارة النص فيصلح أن يكون عاما يخص ومن الناس من عمل بالنصوص بوجوه اخر هي فاسدة عندنا من ذلك انهم قالوا أن النص على الشيء باسمه العلم يدل على المخصوص قالوا وذلك مثل قوله عليه السلام الماء من الماء فهم الأنصار رضي الله عنهم من ذلك ان الغسل لا يجب بالاكسال لعدم الماء وقلنا نحن هذا باطل وذلك كثير في الكتاب والسنة قال الله تعالى ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم والظلم حرام في كل وقت ولأنه يقال له أن أردت أن هذا الحكم غير ثابت في غير المسمى بالنص فكذلك عندنا لأن حكم النص في غيره لا يثبت به بل بعلة النص وإن عني أنه لا يثبت فيه يكون النص مانعا فهذا أغلط ظاهر لأن النص لم يتناوله فكيف يمنع ولأنه لا يجاب الحكم في المسى فكيف يجول النفي وهو ضده وقد 2اجمع الفقهاء على جواز التعليل ولو كان لخصوص الاسم اثر بالمنع في غيره لصار التعليل على مضادة النص وهو باطل واما الماء من الماء فان الاستدلال منهم كان بلام المعرفة وهي لاستغراق الجنس وتعريفه و عندنا هو كذلك فيما يتعلق بعين الماء غير أن الماء يثبت عيانا مرة وتارة دلالة ومن ذلك ما حكى عن الشافعي أن الحكم إذا اضيف إلى مسمى بوصف خاص كان دليلا على نفيه عند عدم ذلك الوصف وعندنا هذا باطل ايضا وذلك مثل قول الله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن أن وصف كون المرأة من نسائنا يوجب أن لا يثبت عند عدمه وذلك في الزنا وذلك مثل قوله عليه السلام في خمس من الابل السائمة
شاة وهذه المسألة بناء على مسألة التعليق بالشرط على مذهبه لان التعليق عنده يوجب الوجود عند وجوده والعدم عند عدمة والوصف بمعنى الشرط بيانه أن الشرط لما دخل على ما هو موجب لولا هو صار الشرط مؤخرا ونافيا حكم الايجاب والوصف لولا هو لكان الحكم ثابتا بمطلق الاسم ايضا فصار اللوصف اثر الاعتراض بمنزلة الشرط فالحق به بخلاف العلة لانها لابتداء الايجاب لا للاعتراض على ما يوجب فصار بمنزلة الاسم العلم فيتعلق بها الوجود ولم يوجب العدم عند عدمها ولنا أن اقصى درجات الوصف إذا كان مؤثرا أن يكون علة الحكم مثل السارق والزاني ولا اثر للعلة في النفي ومثال هذا ايضا قوله تعالى من فتياتكم المؤمنات فهذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا لما قلنا ولا يلزم على هذا الأصل ما قال اصحابنا في كتاب الدعوى في امة ولدت ثلاثة اولاد في بطون مختلفة فادعى المولى نسب الاكبر أن نسب من بعده لا يثبت فجعل تخصيصه نفيا لولا ذلك لثبت لانهما ولدا ام ولده وقال في الشهادات والدعوى إذا قال شهود الميراث لا نعلم له وارثا في ارض كذا أن هذه الشهادة لا تقبل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجعل النفي في مكان كذا اثباتا في غيره إما في المسألة الأولى فلم يثبت النفي بالخصوص لكن لان التزام النسب عند ظهور دليله واجب شرعا والتبري عند ظهور دليله واجب ايضا والالتزام بالبيان فرض صيانة عن النفي فصار السكوت عند لزوم البيان لو كان ثابتا نفيا حملا لامره على الصلاح حتى لا يصير تاركا للفرض وفي مسألة الشهادات زاد الشهود مالا حاجة اليه وفيه شبهة وبالشبهة ترد الشهادات وبمثلها لا يصح إثبات الأحكام وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا سكوت في غير موضع الحاجة لان ذكر المكان غير واجب وذكر المكان يحتمل الاحتراز عن المجازفة ومن ذلك أن القرآن في النظم يوجب القرآن في الحكم عند بعضهم مثل قول بعضهم في قوله تعالى واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أن القرآن يوجب أن لا يجب
على الصبي الزكاة وقالوا لان العطف يوجب الشركة واعتبروا بالجملة الناقصة وقلنا نحن أن عطف الجملة على الجملة في اللغة لا يوجب الشركة لان الشركة إنما وجبت بينهما لافتقار الجملة الناقصة إلى ما تتم به فإذا تم بنفسه لم تجب الشركة إلا فيما يفتقر اليه وهذا أكثر في كتاب الله تعالى من أن يحصى ولهذا قلنا في قول الرجل أن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي هذا حر ان العتق يتعلق بالشرط وان كان تاما لان في حكم التعليق قاصر وعلى هذا قلنا في قول الله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أن قوله فاجلدوهم جزاء وقوله ولا تقبلوا وان كان تاما ولكنه من حيث أنه يصلح جزاء واحدا مفتقرا إلى الشرط فجعل ملحقا بالأول إلا ترى أن جرح الشهادة ايلام كالضرب وألا ترى أنه فوض إلى الأئمة فأما قوله وأولئك هم الفاسقون فلا يصلح جزاء لان الجزاء ما يقام ابتداء بولاية الأمام فأما الحكاية عن حال قايمة فلا فاعتبر تمامها بصيغتها فكان في حق الجزاء في حكم الجملة المبتدأة مثل قوله تعالى ويمح الله الباطل ومثل قوله ونقر في الأرحام ما نشاء ويتوب الله على من يشاء والشافعي رحمه الله قطع قوله ولا تقبلوا لهم مع قيام دليل الاتصال وكل ذلك غلط وقلنا نحن بصيغة الكلام أن القذف سبب والعجز عن البينة شرط بصفة التراخي والرد حد مشارك للجلد لانه عطف بالواو والعجز عطف بثم ومن ذلك قول بعضهم أن العام يختص بسببه وهذا عندنا باطل لان النص ساكت عن سببه والسكوت لا يكون حجة إلا ترى أن عامة الحوادث مثل الظهار واللعان وغير ذلك وردت مقيدة بأسباب ولم تختص بها وهذه الجملة عندنا على اربعة اوجه الوجه الأول ما خرج مخرج الجزاء فيختص بسببه والثاني مما لا يستقل بنفسه والثالث ما خرج مخرج الجواب واحتمل الابتداء والرابع ما زيد على قدر الجواب فكان ابتاء يحتمل البناء إما الأول فمثل ما روى عن النبي عليه السلام أنه سها
فسجد وروى أن ماعزا زنى فرجم والفاء للجزاء فتعلق الأول على ما مر بيانه وان الثاني فمثل الرجل يقول لآخر اليس لي عليك كذا فيقول بلى أو يقول كان كذا فيقول نعم يجعل اقرارا وكذلك إذا قال اجل هذا اصل بلى ونعم أن يكون بلى بناء على النفي في الابتداء مع الاستفهام ونعم لمحض الاستفهام واجل يجمعهما وقد يستعملان في غير الاستفهام على ادراج الاستفهام أو مستعارا لذلك وقد ذكر ذلك محمد في كتاب الإقرار في نعم من غير الاستفهام ايضا واما الثالث فمثل قول الرجل لرجل تغد معي فيقول الآخر ان تغديت فعبدي حر انه يتعلق به وكذلك إذا قيل انك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال أن اغتسلت فعبدي حر هذا خرج جوابا فتضمن اعادة السؤال الذي سبق وقد يحتمل الابتداء ولو قال أن اغتسلت الليلة أو في هذه الدار فعبدي حر صار مبتدئا احتراز عن الغاء الزيادة فان عنى به الجواب صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير الزيادة توكيدا وامثلته كثيرة ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله جعل التعليق بالشرط موجب العدم وعندنا العدم لم يثبت به بل بقي المعلق على اصل العدم وحاصله أن المعلق بالشرط عندنا لم ينعقد سببا وانما الشرط يمنع الانعقاد وقال الشافعي رحمه الله هو مؤخر ولذلك ابطل تعليق الطلاق والعتاق بالملك وجوز تعجيل النذر المعلق وجوز تعجيل كفارة اليمين وقال في قول الله فمن لم يستطع منكم طولا أن تعليق الجواز بعدم طول الحرة يوجب الفساد عند وجوده وقال لان الوجوب يثبت بالإيجاب لولا الشرط فيصير الشرط معدما ما وجب وجوده لولا هو فيكون الشرط مؤخرا لا مانعا ولا يلزم أن تعجيل البدن في الكفارات لا يجوز على قوله لان الوجوب بالسبب حاصل ووجوب الاداء متراخي بالشرط والمال يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه واما البدني فلا يحتمل الفصل فلما تأخر الاداء لم يبق الوجوب ولنا أن الايجاب لا يوجد
إلا بركنه ولا يثبت إلا في محله كشرط البيع لا يوجب شيئا وبيع الحر باطل ايضا وههنا الشرط حال بينه وبين المحل فبقى غير مضاف اليه وبدون الاتصال بالمحل لا ينعقد سببا إلا ترى أن السبب ما يكون طريقا والسبب المعلق يمين عقدت على البر والعقد على البر ليس بطريق إلى الكفارة لانه لا يجب إلا بالحنث وهو نقص العقد فكان بينهما تناف فلا يصلح سببا وتبين أن الشرط ليس بمعنى الاجل لان هذا داخل على السبب الموجب فمنعه عن اتصاله بمحله فصار كقوله انت مني لم يتصل بقوله حر لم يعمل فصار الحكم معدوما بعد الشرط بالعدم الاصلي كما كان قبل اليمين وهذا بخلاف البيع بخيار الشرط لان الخيار ثمة داخل على الحكم دون السبب حقيقة وحكما إما الحقيقة فلان البيع لا يحتمل الخطر وانما يثبت الخيار بخلاف القياس نظرا فلو دخل على السبب لتعلق حكمه لا محالة ولو دخل على الحكم لنزل سببه وهو مما يحتمل الفسخ فيصلح التدارك به بان يصير غير لازم بادنى المخطرين فكان اولى واما هذا فيحتمل الخطر فوجب القول بكمال التعليق في هذا الباب واما الحكم فان من حلف لا يبيع فباع بشرط الخيار حنث ولو حلف لا يطلق فحلف بالطلاق لم يحنث وإذا بطلت العلقة صار ذلك الايجاب علة كأنه ابتداء ولهذا صح تعليق الطلاق قبل الملك به ولهذا لم يجز تعجيل النذر المعلق وتعجيل الكفارة وهو كالكفارة بالصوم وفرق باطل لانا قد بينا أن حق الله في المالي فعل الاداء لا عين المال إنما يقصد عين المال في حقوق العباد واما في حقوق الله تعالى فلا لان العبادة فعل لا مال وانما المال آلته قال زفر ولما بطل الايجاب لم يشترط قيام المحل لبقائه فإذا حلف بالطلاق الثلاث ثم طلقها ثلاثا لم يبطل اليمين وكذلك العتق وانما شرط قيام الملك لان حال وجود الشرط متردد فوجب الترجيح بالحال فإذا وقع الترجيح بالملك في الحال صار زوال الحل في المستقبل من حيث أنه لا ينافي وجوده عند وجود الشرط لا محالة وزوال
الملك في المستقبل سواء إلا ترى أن التعليق بالنكاح يجوز وان كان الحل للحال معدوما فلو كان التعليق يتصل بالمحل لما صح تعليق الطلاق في حق المطلقة ثلاثا بنكاحها وطريق اصحابنا لا يصح إلا أن يثبت للمعلق ضرب اتصال بمحله ليشترط قيام محله واما قيام هذا الملك فلم يتعين لما بينا أنه ليس بتصرف في الطلاق ليصح باعتبار الملك والطريق في ذلك أن تعليق الطلاق له شبه بالإيجاب وبيانه أن اليمين تعقد للبر ولا بد من كون البر مضمونا ليصير واجب الرعاية فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل وهو مضمون بالطلاق كالمغصوب يلزمه رده ويكون مضمونا بالقيمة فيثبت شبهة وجوب القيمة فكذلك ههنا تثبت شبهة وجوب الطلاق وقدر ما يجب لا يستغني عن محله فأما تعليق الطلاق بالنكاح فتعليق بما هو علة ملك الطلاق فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا به فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة ومسألة تعليق الطلاق بالنكاح بعد الثلاث منصوصة في كتاب الطلاق وفي الجامع ايضا نص في نظيره وهو العتاق وابعد من هذه الجملة ما قال الشافعي رحمه الله من حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة بطريق الدلالة لان الشيء الواحد لا يكون مطلقا ومقيد مع ذلك والمطلق ساكت والمقيد ناطق فكان اولى كما قيل في قوله عليه السلام في خمس من الابل شاة وكما قيل في نصوص العدالة وإذا كانا في حادثتين مثل كفارة القتل وساير الكفارات فكذلك ايضا لان قيد الإيمان زيادة وصف يجري مجرى التعليق بالشرط فيوجب النفي عند عدمه في المنصوص وفي نظيره من الكفارات لانها جنس واحد بخلاف زيادة الصوم في القتل فإنه لم يلحق به كفارة اليمين والطعام في اليمين لم يثبت في القتل وكذلك اعداد الركعات ووظائف الطهارات وأركانها ونحو ذلك لان التفاوت ثابت باسم العلم وهو لا يوجب إلا الوجود وعندنا لا يحمل مطلق على
مقيدا أبدا لقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم فنبه أن العمل بالإطلاق واجب وقال ابن عباس رضي الله عنهما ابهموا ما ابهم الله و اتبعوا ما بين الله وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم في امهات النساء ولان المقيد اوجب الحكم ابتداء فلم يجز المطلق لان غير مشروع لا لان النص نفاه لما قلنا أن الاثبات لا يوجب نفيا صيغة ولا دلالة ولا اقتضاء فيصير الاحتجاج به احتجاجا بلا دليل وما قلنا عمل بمقتضى كل نص على ما وضع له الاطلاق من المطلق معنى متعين معلوم يمكن العمل به مثل التقييد فترك الدليل إلى غير الدليل باطل مستحيل ولا نسلم له أن القيد بمعنى الشرط إلا ترى أن قوله من نسائكم معرف بالاضافة فلا يكون القيد معرفا ليجعل شرطا ولانا قلنا أن الشرط لا يوجب نفيا بل الحكم الشرعي إنما يثبت بالشرع ابتداء فأما العدم فليس بشرع ولانا أن سلمنا له النفي ثابتا بهذا القيد لم يستقم الاستدلال به على غيره إلا إذا صحت المماثلة وقد جاءت المفارقة في السبب وهو القتل فان اعظم الكبائر وفي الحكم صورة ومعنى حتى وجب في اليمين التخيير ودخل الطعام في الظهار دون القتل فبطل الاستدلال فان قال انا اعدي القيد الزائد ثم النفي يثبت به قيل له أن التقييد بوصف الإيمان لا يمنع صحة التحريم بالكافرة لما قلنا لكن لانه لم يشرع وقد شرع في الملطق لما اطلق فصارت التعدية لمعدوم لا يصلح حكما شرعيا فكان هذا ابعد مما سبق وهذا أمر ظاهر التناقض فأما قيد الاسامة فلم يوجب نفيا عندنا لكن السنة المعروفة في ابطال الزكوة عن العوامل اوجبت نسخ الاطلاق وكذلك قيد العدالة لم يوجب النفي لكن نص الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق اوجب نسخ الاطلاق وكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفيا في كفارة اليمين بل ثبت زيادة على المطلق بحديث مشهور وهو قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
ولا يلزم عليه ما قلنا في صدقة الفطر أن النبي عليه السلام قال ادوا عن كل حر وعبد مطلقا وقال في حديث اخر عن كل حر وعبد من المسلمين وعملنا نحن بهما بخلاف كفارة اليمين فإنا لم نجمع بين قراءة عبد الله بن مسعود وبين المعروفة ليجوز الأمر أن والفرق بينهما أن النصين في كفارة اليمين وردا في الحكم والحكم هو الصوم في وجوده لا يقبل وصفين متضادين فإذا ثبت تقييده بطل اطلاقه وفي صدقة الفطر دخلن النصان على السبب ولا مزاحمة في الاسباب فوجب الجمع وهذا نظير ما سبق انا قلنا أن التعليق بالشرط لا يوجب النفي فصار الحكم الواحد معلقا ومرسلا مثل نكاح الأمة تعلق بعدم طول الحرة بالنص وبقي مرسلا مع ذلك لان الارسال والتعليق يتنافيان وجودا فأما قبل ابتداء وجوده فهو معلق أي معدوم يتعلق بالشرط وجوده ومرسل عن الشرط أي محتمل للوجود قبله والعدم الاصلي كان محتملا للوجود ولم يتبدل العدم فصار محتملا للوجود بطريقين وذلك جائز في كل حكم قبل وجوده بطريقين وطرق كثيرة وقد قال الشافعي رحمه الله أن صوم كفارة اليمين غير متتابع ولم يحمله على الظهار والقتل وهذا متناقض فان قال أن الأصل متعارض لاني وجدت صوم المتعة لا يصح إلا متفرقة قيل له ليس كذلك فان صوم السبعة قبل ايام النحر لا يجوز لانه لم يشرع لا لان التفريق واجب إلا ترى انه اضيف إلى وقت بكلمة إذا فكان كالظهر لما اضيف إلى وقت لم يكن مشروعا قبله وذلك معنى ما ذكرناه في موضعه واحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين إلى العزيمة والرخصة وهذا
باب العزيمة والرخصة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه العزيمة في الأحكام الشرعية اسم لما هو اصل منها غير متعلق بالعوارض سميت عزيمة لانها من حيث كانت اصولا كانت في نهاية التوكيد حقا لصاحب الشرع وهو نافذ الأمر واجب الطاعة والرخصة اسم لما بنى على اعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم والاسمان معا دليلان على المراد إما العزم فهو القصد المتناهي في التوكيد حتى صار العزم يمينا وقال الله تعالى ولم نجد له عزما أي لم يكن له قصد مؤكد في العصيان وقال جل ذكره كما صبر اولو العزم من الرسل واما الرخصة فتنبئ عن اليسر والسهولة يقال رخص السعر إذا تيسرت الاصابة لكثرة الاشكال و قلة الرغائب والعزيمة اربعة اقسام فريضة وواجب وسنة ونفل
فهذه اصول الشرع وان كانت متفاوتة في انفسها اما الفرض فمعناه التقدير والقطع في اللغة قال الله تعالى سورة انزلناها وفرضناها أي قدرناها وقطعنا الأحكام فيها قطعا والفرائض في الشرع مقدرة لا تحتمل زيادة ولا نقصان أي مقطوعة ثبتت بدليل لا شبهة فيه مثل الإيمان والصلاة والزكاة والحج وسميت مكتوبة وهذا الاسم يشير إلى ضرب من التخفيف ففي التقدير والتناهي يسر ويشير إلى شدة المحافظة و الرعاية واما الواجب فإنما اخذ من الوجوب وهو السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها ومعنى السقوط أن ساقط علما هو الوصف الخاص فسمى به أول لما لم يفد العلم صار كالساقط عليه لا كما يحمل ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة وهو الاضطراب سمي به لإضطرابه وهو في الشرع اسم لما لزمنا بدليل فيه شبه مثل تعيين الفاتحة وتعديل الاركان والطهارة في الطواف وصدقة الفطر والاضحية والوتر والسنة معناها الطريق والسنن الطرق ويقال سن الماء إذا صبه وهو معروف الاشتقاق وهو في الشرع اسم للطريق المسلوك في الدين والنفل اسم للزيادة في اللغة حتى سميت الغنيمة نفلا لانها غير مقصودة بل زيادة على ما شرع له الجهاد وسمي ولد الولد نافلة لذلك واما الفرض فحكمه اللزوم علما
وتصديقا بالقلب وهو الإسلام وعملا بالبدن وهو من اركان الشرايع ويكفر جاحده ويفسق تاركه بلا عذر واما حكم الوجوب فلزومه عملا بمنزلة الفرض لا علما على اليقين لما في دليله من الشبهة حتى لا يكفر جاحده ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد فأما متأولا فلا وانكر الشافعي رحمه الله هذا القسم والحقه بالفرائض فقلنا انكر الاسم فلا معنى له بعد اقامة الدليل على أنه يخالف اسم الفريضة وانكر الحكم بطل انكاره ايضا لان الدلائل نوعان ما لا شبهة فيه من الكتاب والسنة وما فيه شبهة وهذا أمر لا ينكر وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم وبيان ذلك أن النص الذي لا شبهة فيه اوجب قراءة القرآن في الصلاة وهو قوله تعالى فاقروا ما تيسر من القران وخبر الواحد وفيه شبهة تعين الفاتحة فلم يجز تغير الأول بالثاني بل يجب العمل بالثاني على أنه تكميل لحكم الأول مع قرارا الأول وذلك فيما قلنا وكذلك الكتاب اوجب الركوع وخبر الواحد اوجب التعديل وكذلك الطواف مع الطهارة فمن رد خبر الواحد فقد ضل عن سواء السبيل ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة فقد اخطأ في رفعه عن منزلته ووضع الاعلى عن منزلته وانما الطريق المستقيم ما قلنا وكذلك السعي في الحج والعمرة وما أشبه ذلك وكذلك تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة واجب ثبت بخبر الواحد وإذا صلى في الطريق أمر بالاعادة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله عملا بخبر الواحد فان لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الاعادة لان تأخير المغرب إنما وجب إلى وقت العشاء وقد انتهى وقت العشاء فانتهى العمل فلا يبقى الفساد من بعد إلا بالعلم وخبر الواحد لا يوجبه ولا يعارض حكم الكتاب فلا يفسد العشاء وكذلك الترتيب في الصلوات واجب بخبر الواحد فإذا ضاق الوقت أو كثرت الفوائت فصار معارضا بحكم الكتاب بتغيير الوقتية سقط العمل به وثبت الحطيم من البيت بخبر الواحد
فجعلنا الطواف واجبا لا يعارض الأصل وحكم السنة أن يطالب المرء بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب لأنها طريقة أمرنا بإحيائها فيستحق اللائمة بتركها إلا أن السنة عندنا قد تقع على سنة النبي عليه السلام وغيره وقال الشافعي رحمه الله مطلقها طريقة النبي صلى الله عليه و سلم وقال ذلك في ارش ما دون النفس في النساء انه لا يتنصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه السنة وقال ذلك في قتل الحر بالعبد وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها فلا يقيد بلا دليل وكان السلف يقولون سنة العمرين والسنن نوعان سنة الهدى وتاركها يستوجب إساءة وكراهية والزوائد وتاركها لا يستوجب إساءة كسير النبي عليه السلام في لباسه وقيامه وقعوده وعلى هذا مسائل باب الأذان من كتاب الصلاة اختلفت فقيل مرة يكره ومرة أساء ومرة لا بأس به لما قلنا وإذا قيل تعبد فذلك من حكم الوجوب واما النفل فما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه ولذلك قلنا أن ما زاد على القصر من صلاة السفر نفل والنفل شرع دائما فلذلك جعلناه من العزايم ولذلك صح قاعدا وراكبا لأنه ما شرع بلازم العجز لا محالة فلازم اليسر وهذا القدر من جنس الرخص وقال الشافعي رحمه الله لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى كذلك غير لازم وقد غيرتم أنتم وقلت إنما لم يفعل بعد فهو مخير فيه فبطل المؤدى حكما له كالمظنون وقلنا نحن أن ما أداه فقد صار لغيره مسلما إليه وحق غيره محترم مضمون عليه إتلافه ولا سبيل إليه إلا بإلزام الباقي وهما أمران متعارضان أعني المؤدى وغير المؤدى فوجب الترجيح لما قلنا بالاحتياط في العبادة وهو كالنذر صار لله تعالى تسمية لا فعلا ثم وجب لصيانته ابتداء الفعل فلان يجب لصيانة ابتداء الفعل بقاؤه أولى والسنن كثيرة في الصلاة والحج وغير ذلك واما الرخص فأربعة نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر
أما أحق نوعى الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه جميعا فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر أنه يرخص له إجراءها والعزيمة في الصبر حتى يقتل لأن حرمة الكفر قائمة لوجوب حق الله تعالى في الإيمان لكنه رخص لعذر وهو أن حق العبد في نفسه يفوت بالقتل صورة ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى لأن التصديق باق ولا يفوت صورة من كل وجه لأن الأداء قد صح وليس التكرار ركن لكن في إجراء كلمة الكفر هتك لحقه ظاهرا فكان له تقديم حق نفسه كرامة من الله وإن شاء بذل نفسه حسبة في دينه لإقامة حقه فهذا مشروع قربة فبقى عزيمة وصار بها مجاهدا وكذلك الذي يأمر بالمعروف إذا خاف القتل رخص له في الترك لما قلنا من مراعاة حقه وإن شاء صبر حتى يقتل وهو العزيمة لأن حق الله تعالى في حرمة المنكر باق وفي بذل نفسه إقامة المعروف لأن الظاهر أنه إذا قتل تفرق جمع الفسقة وما كان غرضه إلا تفريق جمعهم فبذل نفسه لذلك فصار مجاهدا بخلاف الغازى إذا بارز وهو يعلم أنه يقتل من غير أن ينكى فيهم لأن جمعهم لا يتفرق بسببه فيصير مضيعا لدمه لا محتسبا مجاهدا وكذلك فيمن أكره على إتلاف مال غيره رخص له لرجحان حقه في النفس فإذا صبر حتى قتل كان شهيدا لقيام الحرمة وهو حق العبد وكذلك إذا أصابته مخمصة فصبر عن مال غيره حتى مات وكذلك صائم أكره على الفطر ومحرم أكره على جناية وما أشبه ذلك من العبادات والحقوق المحترمة وأمثلته كثيرة وأما القسم الثاني فما يستباح بعذر مع قيام السبب موجبا لحكمه غير أن الحكم متراخ مثل المسافر رخص له أن يفطر بناء على سبب تراخي حكمه فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه وإنما يكمل الرخصة بكمال العزيمة لكن السبب لما تراخى حكمه من غير تعليق كان القول بالتراخي بعد تمام السبب رخصة فأبيح له الفطر وكانت العزيمة أولى عندنا لكمال
سببه ولتردد في الرخصة حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه فلذلك تمت العزيمة على ما نبين في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى وقد أعرض الشافعي عن ذلك فجعل الرخصة أولى اعتبارا لظاهر تراخى العزيمة إلا أن يضعفه الصوم فليس له أن يبذل نفسه لإقامة الصوم لأنه يصير قتيلا بالصوم فيصير قاتلا نفسه بما صار به مجاهدا وفي ذلك تغيير المشروع فلم يكن نظير من بذل نفسه لقتل الظالم حتى أقام الصوم حقا لله تعالى لأن القتل مضاف إلى الظالم فلم يصر الصابر مغيرا للمشروع فصار مجاهد أو إما أتم نوعي المجاز فيما وضع عنا من الإصر والأغلال فإن ذلك يسمى رخصة مجازا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفا وأما القسم الرابع فما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة فمن حيث سقط الاصل كان مجازا ومن حيث بقي مشروعا في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة فكان دون القسم الثالث مثاله ما روى أن النبي عليه السلام رخص في السلم وذلك أن أصل البيع أن يلاقى عينا وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعا ولا عزيمة وهذا لأن دليل اليسر متعين لوقوع العجز عن التعيين فوضع عنه أصلا وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازا لأن الحرمة ساقطة حتى إذا صبر صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته فإذا صبر لم يصر مؤديا حق الله تعالى فكان مضيعا دمه إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة ومن ذلك ما قلنا في قصر الصلاة بالسفر أنه رخصة إسقاطا حتى لا يصح أداؤه من المسافر وإنما جعلناها إسقاطا استدلالا بدليل الرخصة ومعناها أما الدليل فما روى
أن عمر رضي الله عنه قال انقصر ونحن آمنون فقال النبي عليه السلام أن هذه صدقه تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته سماه صدقة والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق من لا يلزم طاعته كولىالقصاص إذا عفا فممن تلزم طاعته أولى واما المعنى فوجهان أحدهما أن الرخصة لليسر وقد تعين اليسر في القصر بيقين فلا يبقى الاكمال إلا مؤنة محضة ليس فيها فضل ثواب لان الثواب في اداء ما عليه فالقصر مع مؤنة السفر مثل الاكمال كقصر الجمعة مع إكمال الظهر فوجب القول بالسقوط أصلا والثاني أن التخيير إذا لم يتضمن رفقا كان ربويته وانما للعباد اختيار الارفق فإذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية ولا شركة له فيها ألا ترى أن الشرع تولى وضع الشرائع جبرا بخلاف التخيير في أنواع الكفارة ونحوها لانه يختار الارفق عنده ولهذا لم نجعل رخصة الصوم اسقاطا لان النص جاء بالتأخير بقوله تعالى فعدة من ايام اخرل بالصدقة بالصوم وانما اسقاط البعض من هذا نظير التاخير والحكم هو التاخير واليسر فيه متعارض لان الصوم في السفر لشق عليه من وجه لسبب السفر ويخف عليه من وجه بشركة المسلمين وهي من اسباب اليسر والتأخير إلى ايام الاقامة يتعذر من وجه وهو الانفراد ويخف من وجه وهو الوفق بمرافق الاقامة والناس في الاختيار متفاوتون فصار التخيير لطلب الرفق فصار الاختيار ضروريا وللعبد اختيار ضروري فأما مطلق الاختيار فلا لانه الهى وصار الصوم اولى لانه أصل وقد يشتمل على معنى الرخصة لما قلنا وهو الذي وعدناه في أول هذا الفصل وانما تمسك وكذلك من قال أن دخلت الدار فعلى صيام سنة ففعل وهو الشافعي في هذا الباب بظاهر العزيمة كما هو دابه في درك حدود الفقه والله اعلم ولا يلزم رجل اذن لعبده في الجمعة انه أن شاء صلى اربعا وهو الظهر وان شاء صلى ركعتين لان الجمعة هي الأصل عند الآذن ولانهما
مختلفان فاستقام طلب الرفق كمعسر كان له أن يصوم سنة أو يكفر بصيام ثلثة أيام عند محمد رحمه الله وهو مروى في النوادر عن أبي حنيفة رضي الله عنه فأما في ظاهر الرواية فيجب الوفاء لا محالة لان ذلك مختلف في المعنى أحدهما قربة مقصودة والثاني كفارة وفي مسئلتنا هما سواء فصار كالمدبر إذا جنى لزم مولاه الاقل من الارش ومن القيمة من غير خبار بخلاف العبد لما قلنا ولا يلزم أن موسى عليه السلام كان مخيرا بين أن يرعى ثماني حجج أو عشر فيما ضمن من المهر لان الثمانية كانت مهرا لازما والفضل كان برا منة ويتصل بهذه الجملة معرفة حكم الأمر والنهي في ضد ما نسبا اليه وهذا تابع غير مقصود في جنس الأحكام فاخرناه
باب حكم الأمر والنهي في اضدادهما
اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل حكم في ضده إذا لم يقصد ضده بنهي فقال بعضهم لا حكم له فيه أصلا وقال الجصاص رحمه الله يوجب النهي عن ضده أن كان له ضد واحد أو اضداد كثيرة وقال بعضهم يوجب كراهة ضده وقال بعضهم يقتضي كراهة وهذا اصح عندنا واما النهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فعلى هذا أيضا قال الفريق الأول لا حكم له فيه وقال الجصاص رحمه الله أن كان له ضد واحد كان أمرا به وان كان له اضداد لم يكن أمرا بشيء منها و قال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى سنة واجبة وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك احتج الفريق الأول بان كل واحد من القسمين ساكت عن غيره وقد بينا أن السكوت لا يصلح دليلا إلا ترى انه لا يصلح دليلا لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له اولى واحتج الجصاص رحمه الله بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده ولا وجوده له مع الاشتغال بشيء من اضداده فصار ذلك من ضرورات حكمه واما النهي فانه للتحريم ومنضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد كالحركة والسكون فأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه اتيان كل اضداده إلا ترى أن المأمور بالقيام إذا قعد أو نام أو اضطجع فقد فوت المأمور به والمنهى عن القيام لا يفوت حكم النهي بأن يقعد أو ينام أو يضطجع قال واجمع الفقهاء رحمهم الله أن المرأة منهية عن كتمان الحيض بقوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في ارحامهن ثم كان ذلك امرا بالاظهار لان الكتمان ضده واحد وهو الاظهار واتفقوا أن المحرم منهى عن لبس المخيط ولم يكن مأمورا بلبس شيء متعين من غير المخيط واحتج الفريق الثالث بأن الأمر على ما قال الجصاص رحمه الله إلا انا اثبتنا بكل واحد من القسمين ادنى ما يثبت به لان الثابت لغيره ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه واما الذي اخترناه فبناء على هذا وهو أن هذا لما كان أمرا ضروريا سميناه اقتضاء ومعنى الاقتضاء ههنا انه ضروري غير مقصود فصار شبيها بما ذكرنا من مقتضيات احكام الشرع واما قوله تعالى ولا يحل لهن أن يتمكن فليس بنهي بل نسخ له أصلا مثل قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد فلا يصير الأمر ثابتا بالنهي بل لان الكتمان لم يبق مشورعا لما تعلق باظهاه من احكام الشرع فصار بهذه الواسطة أمر أو هذا مثل قوله الانكاح إلا بشهور وفائدة هذا أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد ثم قام لم تفسد صلوته بنفس القعود ولكنه يكره ولهذا قلنا أن المحرم لما نهى عن لبس المخيط كان من السنة لبس الإزار والرداء ولهذا قلنا أن العدة لما كان معناها النهي عن التزوج لم يكن الأمر بالكف مقصودا حتى انقضت الاعداد منها بزمان واحد بخلاف الصوم لان الكف وجب بالأمر مقصودا به ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله أن من سجد على مكان نجس لم تفسد صلاته لانه غير مقصود بالنهي
وانما المقصود بالأمر فعل السجود على مكان طاهر وهذا لا يوجب فواته حتى إذا اعادها على مكان طاهر جاز عنده ولهذا قال أبو يوسف أن احرام الصلاة لا ينقطع بترك القرائة في مسائل النفل لانه أمر بالقرائة ولم ينه عن تركها قصدا فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض وذلك لهذا الشفع فأما احتمال شفع اخر فلا ينقطع به ولا يلزم أن الصوم يبطل بالاكل لان ذلك الفرض ممتد فكان ضده مفوتا أبدا ولهذا قلنا أن السجود على مكان نجس يقطع الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ظاهر الجواب لان السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس بمنزلة الحامل مستعملا له بحكم الفرضية والتطهير عن حمل النجاسة فرض دائم في اركان الصلاة في المكان ايضا فيصير ضده مفوتا للفرض ولهذا قال محمد رحمه الله أن احرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في النفل لان القراءة فرض دائم في التقدير حكما على ما عرف فينقطع الاحرام بانقطاعه بمنزلة اداء الركن مع النجاسة وقال أبو حنيفة رحمه الله الفساد بترك القراءة في ركعة ثابت بدليل محتمل فلم يتعد إلى الاحرام وإذا ترك في الشفع كله فقد صار الفساد مقطوعا به بدليل موجب للعلم فتعدى إلى الاحرام ولهذا قال في مسافر ترك القراءة أن احرام الصلاة لا ينقطع وهو قول أبي يوسف رحمه الله لان الترك متردد محتمل للوجود لاحتمال نية الاقامة فلم يصلح مفسدا فصار هذا الباب اصلا يجب ضبطه يبتنى عليه فروع يطول تعدادها والله اعلم بالحقائق
باب بيان اسباب الشرائع
اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد بها طلب الأحكام المشروعة واداؤها وانما الخطاب للأداء ولهذه الأحكام اسباب تضاف اليها شرعية وضعت تيسيرا على العباد وانما الوجوب بإيجاب الله تعالىلا اثر للاسباب في ذلك وانما وضعت تيسيرا على العباد لما كان الايجاب غيبا فنسب الوجوب إلى الاسباب الموضوعة وثبت الوجوب جبرا لا اختيار للعبد فيه ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء بمنزلة البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء ودلالة صحة هذا الأصل إجماعهم على وجوب الصلاة على النايم في وقت الصلاة والخطاب عنه موضوع ووجوب الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون يوم وليلة وعلى المغمى عليه كذلك والخطاب عنهما موضوع وكذلك الجنون إذا لم يستغرق شهر رمضان كله والاغماء والنوم وان استغرقه لا يمتنع بهما الوجوب ولا خطاب عليهما بالإجماع وقد قال الشافعي رحمه الله بوجوب الزكاة على الصبي وهو غير مخاطب وقالوا جميعا بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه فعلم بهذه الجملة أن الوجوب في حقنا مضاف إلى اسباب شرعية غير الخطاب وانما يعرف السبب بنسبة الحكم اليه وتعلقه به لان الأصل في اضافة الشيء إلى الشيء أن يكون سببا له حادثا به وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره دل أنه مضاف اليه فإذا ثبت هذه الجملة قلنا وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو باسمائه وصفاته مضاف إلى ايجابه في الحقيقة لكنه منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد وقطعا بحجج المعاندين و هذا سبب يلازم الوجوب لانا لا نعني بهذا أن يكون سببا لوحدانية الله وانما نعني به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العباد ولا وجوب إلا على من هو أهل له ولا وجود لمن هو اهله على ما اجري سنته إلا والسبب يلازمه لأن الانسان المقصود به وغيره ممن يلزمه الإيمان به عالم بنفسه سمى عالما لانه جعل علما على وجوده ووحدانيته ولهذا قلنا أن ايمان الصبي صحيح و أن لم يكن مخاطبا ولا مأمورا لأنه مشروع بنفسه وسببه قائم في حقه دائم لقيام دوام من هو مقصود به وصحة الاداء تبتني على كون المؤدي مشروعا بعد قيام سببه ممن هو اهله لا على لزوم ادائه كتعجيل الدين المؤجل واما الصلاة
فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة وسبب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت الذي تنسب وجوبها اليه و ما بين هذا وبين قول من قال أن الزكاة تجب بإيجاب وملك المال سببه والقصاص يجب بإيجابه والقتل العمد سببه فرق وليس السبب بعلة و الدليل عليه إنها اضيفت إلى الوقت قال الله تعالى اقم الصلاة لدلوك الشمس فالنسبة باللام اقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت وكذلك يقال صلاة الظهر والفجر وعلى ذلك اجماع الأمة ويتكرر بتكرر الوقت ويبطل قبل الوقت اداؤه ويصح بعد هجوم الوقت وان تأخر لزومها فقد تقدم ذكر احكام هذا القسم فيما يرجع إلى الوقت وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه لانه في الشرع مضاف إلى المال والغنا وتنسب اليه بالإجماع ويجوز تعجيلها بعد وجد ما يقع به الغنى غير أن الغنى لا يقع على الكمال واليسر الا بمال وهو نام ولا نماء إلا بالزمان فاقيم الحول وهو المدة الكاملة لاستنماء المال مقام النماء وصار المال الواحد بتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه فيتكرر الوجوب بتكرر الحول على انه متكرر بتكرر المال في التقدير وسبب وجوب الصوم ايام شهر رمضان قال الله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي فليصم في ايامه والوقت متى جعل سببا كان ظرفا صالحا للأداء و الليل لا يصلح له فعلم أن اليوم سببه بدلالة نسبته اليه وتعلقه به وتعليق الحكم بالشيء شرعا دليل على انه سببه هذا هو الأصل في الباب وقد تكرر بتكرره ونسب اليه فقيل صوم شهر رمضان وصح الاداء بعده من المسافر وقد تأخر الخطاب به ولهذا وجب على صبي يبلغ في بعض شهر رمضان وكافر يسلم بقدر ما ادركه لأن كل يوم سبب لصومه بمنزلة كل وقت من اوقات الصلاة وقد مرت احكام هذا القسم وسبب وجوب صدقة الفطر على كل مسلم غنى رأس يمونه بولايته عليه ثبت ذلك بقول النبي عليه السلام أدوا عن كل حر و
عبد وبقوله عليه السلام ادوا عمن تمونون وبيانه أن كلمة عن لانتزاع الشيء فتدل على أحد وجهين إما أن يكون سببا ينتزع الحكم عنه أو محلا يجب الحق عليه فيؤدي عنه وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير فعلم به أنه سبب ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس واما وقت الفطر فشرطه حتى لا يعمل السبب إلا لهذا الشرط وانما نسبت إلى الفطر مجازا والنسبة تحتمل الاستعارة فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة و بيان قولنا أن الاضافة تحتمل الاستعارة ظاهر لان الشيء يضاف إلى الشرط مجازا فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة لان الوجوب إنما يكون بسبب أو علة لا يكون بغير ذلك وهذا لا يتصور فيه الاستعارة وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا وقد بينا معنى المؤنة فيه في موضعه وسبب وجوب لحج البيت لانه ينسب اليه ولم يتكرر قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت واما الوقت فهو شرط الاداء بدلالة انه لا يتكرر وبتكرره غير أن الاداء شرع متفرقا منقسما على امكنة وازمنة يشتمل عليها جملة وقت الحج فلم يصلح تغيير الترتيب كما لا يصلح السجود قبل الركوع فلذلك لم يجز طواف الزيارة قبل يوم النحر والوقوف قبل يوم عرفة واما الاستطاعة بالمال فشرط لا سبب لما ذكرنا انه لا ينسب اليه ولا يتكرر بتكرره ويصح الاداء دونه من الفقراء ألا ترى إنها عبادة بدنية فلا يصلح المال سببا لها ولكنها عبادة هجرة وزيارة فكان البيت سببا لها وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج لان العشر ينسب إلى الأرض وفي العشر معنى مؤنة الأرض لانها اصل وفيه معنى العبادة لان الخارج للسبب وصف وصار السبب بتجدد وصفة متجددا في التقدير فلم يجز التعجيل قبل الخارج لان الخارج بمعنى السبب لوصف العبادة فلو صح التعجيل لخلص معنى المؤنة فلما صارت الأرض نامية اشبه تعجيل زكاة السائمة والابل العلوفة ثم اسامها وكذلك سبب الخراج إلا أن النماء معتبر
في الخراج تقديرا لا تحقيقا بالتمكن به من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل وعقوبة باعتبار الوصف لان الزراعة عمارة الدنيا واعراض عن الجهاد فكان سببا لضرب من المذلة ولذلك لم يجتمعا عندنا وسبب وجوب الطهارة الصلاة لانها تنسب اليها وتقوم بها وهو شرطها فتعلق بها حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلوة والحدث شرطه بمنزلة سائر شروط الصلاة ومن المحال أن يجعل الحدث سببا إلا يرى أن ازالة له وتبديل فلا يصلح سببا له واما اسباب الحدود والعقوبات فما نسب اليه من قتل وزنا وسرقة وسبب الكفارات ما نسب اليه من أمر دائر بين حظر واباحة مثل الفطر وقتل الخاطئ وقتل الصيد واليمين ونحوها وقتل العمد واليمين الغموس واشباه ذلك لا يصلح سببا للكفارة ويفسر ذلك في موضعه أن شاء الله عز و جل وسبب المعاملات تعلق البقاء المقدور بتعاطيها والبقاء معلق بالنسل والكفاية وطريقها اسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص
باب بيان اقسام السنة
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه اعلم أن سنة النبي عليه السلام جامعة للامر و النهي والخاص والعام وسائر الأقسام التي سبق ذكرها وكانت السنة فرعا للكتاب في بيان تلك الأقسام باحكامها فلا نعيدها وانما هذا الباب لبيان وجوه الاتصال وما يتصل بها فيهما يفارق الكتاب وتختص السنن به وذلك اربعة اقسام قسم في كيفية الاتصال بنا من رسول الله عليه السلام وقسم في الانقطاع وقسم في بيان محل الخبر الذي جعل حجة فيه وقسم في بيان نفس الخبر فأما الاتصال برسول الله عليه السلام فعلى مراتب اتصال كامل بلا شبهة واتصال فيه ضرب شبهة صورة واتصال فيه شبهة صورة ومعنى واما المرتبة الأولى فهو المتواتر وهذا
باب المتواتر
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه الخبر المتواتر الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه و سلم اتصالا بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه وذلك أن يرويه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين اماكنهم ويدوم هذا الحد فيكون اخره وأوسطه كطرفيه وذلك مثل نقل القرآن والصلوات الخمس واعداد الركعات ومقادير الزكوات وما اشبه ذلك وهذا القسم يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علما ضروريا ومن الناس من انكر العلم بطريق الخبر اصلا وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ولا دينه ولا دنياه ولا امه ولا اباه مثل من انكر العيان وقال قوم أن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا يقين ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم قالوا أن المتواتر صار جمعا بالآحاد وخبر كل واحد منهم محتمل والاجتماع يحتمل التواطؤ وذلك كاخبار الموجوس قصة زرادشت اللعين واخبار اليهود صلب عيسى عليه السلام وهذا قول باطل نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى بل المتواتر يوجب علم اليقين ضرورة بمنزلة العيان بالبصر والسمع بالاذن وصنعا وتحقيقا إما الوضع فأنا نجد المعرفة بابائنا بالخبر مثل المعرفة باولادنا عيانا ونجد المعرفة بانا مولودون نشأنا عن صغر مثل معرفتنا به في اولادنا ونجد المعرفة بجهة الكعبة خبرا مثل معرفتنا بجهة منازلنا سواء واما التحقيق فلان الخلق خلقوا على همم متفاوتة وطبايع متباينة لا تكاد تقع امورهم إلا مختلفة فلما وقع الاتفاق كان ذلك لداع اليه وهو سماع أو اختراع وبطل الاختراع لان تباين الاماكن وخروجهم عن الاحصاء مع العدالة يقطع الاختراع فتعين الوجه الآخر والطمأنينة على ما فسره المخالف إنما يقع بغفلة من المتأمل لو تأملحتى تأمله لوضح له فساد باطنه فلما اطمأن بظاهره كان أمرا محتملا فأما أمر يوكد باطنه ظاهره ولا يزيد التأمل إلا تحقيقا فلا كالداخل على قوم جلسوا للمأتم يقع له العلم به عن غفلة عن التأمل ولو تأمل حق تأمله لوضح له الحق من الباطل فأما العلم بالمتواتر فلما يجب عن دليل اوجب علما بصدق المخبر به لمعنى في الدليل لا لغفلة من المتأمل وصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وBهم كانوا قوما عدولا ائمة لا يحصى عددهم ولا يتفق اماكنهم طالت صحبتهم واتفقت كلمتهم بعد ما تفرقوا شرقا وغربا وهذا يقطع الاختراع ولما تصور الخفاء مع بعد الزمان ولهذا صار القرآن معجزة لانهم عجزوا عن ذلك واشتغلوا ببذل الارواح فكان خبرهم في نهاية البيان قاطعا احتمال الوضع يقينا بلا شبهة إذ لو كان شبهة وضع لما خفي مع كثرة الاعداء واختلاط أهل النفاق قال الله تعالى وفيكم سماعون لهم وذلك مثل سلامة كتاب الله تعالى عن المعارضة وعجز البشر عن ذلك إذ لو كان ذلك لما خفي مع كثرة المتعنتين وهذا مثله فأما إخبار زرادشت فتخييل كله فأما ما روى أنه ادخل قوائم الفرس في بطن الفرس فإنما رووا انه فعل ذلك في خاصة الملك و حاشيته وذلك آية الوضع والاختراع إلا أن ذلك الملك لما رأى شهامته تابعه على التزوير والاختراع فكان العلم به لغفلة المتأمل دون صحة الدليل وكذلك أخبار اليهود مرجعها إلى الآحاد فانهم كانوا سبعة نفر دخلوا عليه واما المصلوب فلا يتأمل عادة مع تغير هيأته وعلى انه القى على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه كما قص الله تعالى ولكن شبه لهم وذلك جائز استدراجا ومكرا على قوم متعنتين حكم الله تعالى عليهم بانهم لا يؤمنون فكان محتملا مع أن الرواة أهل تعنت وعداوة فبطلت هذه الوجوه بالمتواتر والله اعلم فصار منكر المتواتر ومخالفه كافرا
باب المشهور من الأخبار
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المشهور ما كان من الآحاد في الأصل ثم انتشر فصار ينقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب وهم القرن الثاني بعد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم وأولئك قوم ثقات ائمة لا يتهمون فصار بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر حجة من حجج الله تعالى حتى قال الجصاص أن أحد قسمي المتواتر وقال عيسى بن ابان أن المشهور من الأخبار يضلل جاحده ولا يكفر مثل حديث المسح على الخفين وحديث الرجم وهو الصحيح عندنا لان المشهور بشهادة السلف صار حجة للعمل به كالمتواتر فصحت الزايادة به على كتاب الله تعالى وهو نسخ عندنا وذلك مثل زيادة الرجم والمسح على الخفين والتتابع في صيام كفارة اليمين لكنه لما كان في الأصل من الآحاد ثبت به شبهة فسقط به علم اليقين ولم يستقم اعتباره في العمل فاعتبرناه في العلم لانا لا نجد وسعا في رد المتواتر وانما يشك فيه صاحب الوسواس و نحرج في رد المشهور لانه لا يمتاز عن المتواتر إلا بما يشق دركه لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه فصار يقينا والعلم بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله فسمى علم طمأنينة والاول علم اليقينباب خبر الواحد
وهو الفصل الثالث من القسم الأول وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدا لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا عندنا وقال بعض الناس لا يوجب العمل لانه لا يوجب العلم ولا عمل إلا عن علم قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وهذا لان صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة فلا ضرورة له في التجاوزعن دليل يوجب علم اليقين بخلاف المعاملات لانها من ضروراتنا وكذلك الرأي من ضروراتنا فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين وقال بعض أهل الحديث يوجب علم اليقين لما ذكرنا أنه اوجب العمل ولا عمل من غير علم وقد ورد الآحاد في احكام الآخرة مثل عذاب القبر ورؤية الله تعالى بالابصار ولا حظ لذلك إلا العلم قالوا وهذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فثبت على الخصوص للبعض دون البعض كالوطئ تعلق من بعض دون بعض ودليلنا في أن خبر الواحد يوجب العمل واضح من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول إما الكتاب قال الله تعالى وإذ اخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبينه للناس وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه ولو لم يكن خبرة حجة لما أمر ببيان العلم وقال جل ذكره فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا في كتاب الله اكثر من أن يحصى واما السنة فقد صح عن النبي عليه السلام قبوله خبر الواحد مثل خبر بريرة في الهدية وخبر سلمان في الهدية والصدقة وذلك لا تحصى عدده ومشهور عنه أنه بعث الأفراد إلى الآفاق مثل علي ومعاذ وعتاب بن اسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم وهكذا أكثر من أي يحصى وأشهر من ان يخفى وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجوا بها قد ذكر محمد رحمه الله في هذا غير حديث في كتاب استحسان واختصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمتضاربين وغيرهم وأما المعقول فلان الخبر يصير حجة بصفة الصدق والخبر يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجح الصدق وبالفسق الكذب فوجب العمل برجحان الصدق ليصير حجة للعمل ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين وهذا لان العمل صحيح من غير علم اليقين الا ترى أن العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي وعمل الحكام بالبينات
صحيح بلا يقين فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي وذلك كاف للعمل وهذا اضرب علم فيه اضطراب وكان دون علم الطمأنينة واما دعوى علم اليقين به فباطل بلا شبهة لان العيان يرده من قبل انا قد بينا أن المشهور لا يوجب علم اليقين فهذا اولى وهذا الان خبر الواحد محتمل لا محالة ولا يقين مع الاحتمال ومن انكر هذا فقد سفه نفسه واضل عقله وإذا اجتمع الآحاد حتى تواترت حدث حقيقة الخبر ولزوم الصدق باجتماعهم وذلك وصف حادث مثل إجماع الأمة إذا ازدحمت الاراء سقطت الشبهة فأما الآحاد في احكام الاخرة فمن ذلك ما هو مشهور ومن ذلك ما هو دونه لكنه يوجب ضربا من العلم على ما قلنا وفيه ضرب من العمل أيضا وهو عقد القلب عليه إذ العقد فضل على العلم والمعرفة وليس من ضروراته قال الله تعالى وجحدوا بهما واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال تعالى يعرفونه كما يعرفون ابنائهم فصح الابتلاء بالعقد كما صح بالعمل بالبدن ولهذا جوزنا القول بالنسخ قبل العمل وقبل التمكن من العمل والله اعلم وإذا ثبت أن خبر الواحد حجة قلنا انه منقسم وهذا
باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وهو ضربان معروف ومجهول والمعروف نوعان من عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد ومن عرف بالرواية دون الفقه والفتيا وأما المجهول فعلى وجوه إما أن يروي عنه الثقات ويعملوا بحديثه ويشهدوا له بصحه حديثه أو يسكتوا عن الطعن فيه أو يعارضوه بالطعن والرد أو اختلف فيه او لم يظهر حديثه بين السلف فصار قسم المجهول على خمسة اوجه إما المعروفون فالخلفاء الراشدون وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابو موسى ألاشعري وعايشةرضي الله عنهم وغيرهم ممن اشتهر بالفقه والنظر وحديثهم حجة أن وافق القياس أو خالفه فان وافقه تأيد به وان خالفه ترك القياس به وقال مالك رحمه الله فيما يحكى عنه بل القياس مقدم عليه لان القياس حجة باجماع السلف وفي اتصال هذا الحديث شبهة والجواب أن الخبر يقين بأصله وانما دخلت الشبهة في نقله والرأي محتمل بأصله في كل وصف على الخصوص فكان الاحتمال في الرأي أصلا وفي الحديث عارضا لان الوصف في النص كالخبر والرأي والنظر فيه كالسماع والقياس عمل به والوصف ساكت عن البيان والخبر بيان بنفسه فكان الخبر فوق الوصف في الابانة والسماع فوق الرأي في الاصابة ولهذا قدمنا خبر الواحد على التحري في القبلة فلا يجوز التحري معه واما رواية من لم يعرف بالفقه ولكنه معروف بالعدالة والضبط مثل أبي هريرة وانس بن مالك رضي الله عنهما فان وافق القياس عمل به وان خالفه لم يترك إلا بالضرورة وانسداد باب الرأي ووجه ذلك أن ضبط حديث النبي عليه السلام عظيم الخطر وقد كان النقل بالمعنى مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي عن درك معاني حديث النبي عليه السلام واحاطتها لم يؤمن من ان يذهب عليه شيء من معانية بنقله فيدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس فيحتاط في مثله وانما نعني بما قلنا قصورا عند المقابلة بفقه الحديث فأما الازدراء بهم فمعاذ الله من ذلك فان محمدا رحمه الله يحكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في غير موضع انه احتج بمذهب انس بن مالك رضي الله عنه وقلده فماظنك في أبي هريرة رضي الله عنه حتى أن المذهب عند اصحابنا رحمهم الله في ذلك انه لا يرد حديث امثالهم إلا إذا انسد باب الرأي والقياس لانه إذا انسد صار الحديث ناسخا للكتاب والحديث المشهور ومعارضا للاجماع وذلك مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المصراة أن انسد فيه باب الرأي فصار ناسخا الكتاب والسنة المعروفة معارضا
للاجماع في ضمان العدوان بالمثل والقيمة دون التمر وفي وجوه اخر ذكرناها في موضعها واما المجهول فإنما نعني به المجهول في رواية الحديث بان لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين مثل وابصة بن معبد وسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان فان روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل المعرفة وان سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذلك لان السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان ولا يتهم السلف بالتقصير وان اختلف فيه مع نقل الثقات عنه فكذلك عندنا مثل حديث معقل بن سنان أبي محمد الأشجعى في حديث يروع بنت واشق الاشجعية انه مات عنها هلال بن أبي مرة ولم يكن فرض لها ولا دخل بها فقضى لها رسول الله صلى الله عليه و سلم بمهر مثل نسائها فعمل بحديثه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورده على رضي الله عنه لما خالف رأيه وقال ما نصنع بقول اعرابي بوال على عقبيه ولم يعمل الشافعي رحمه الله بهذا القسم لانه خالف القياس عنده وعندنا هو حجة لأنه وافقةالقياس عندنا وإنما يترك إذا خالف القياس وقد روى عنه الثقات مثل عبد الله بن مسعود وعلقمة ومسروق ونافع بن جبير والحسن فثبت بروايتهم عدالته مع انه من قرن العدول فلذلك صار حجة وساعده عليه أناس من اشجع منهم أبو الجراح وغيره فأما إذا كان ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد لم يقبل حديثه وصار مستنكرا لا يعمل به على خلاف القياس وصار هذا غير حجة يحتمل أن يكون حجة على العكس من المشهور انه حجة يحتمل شبهة عند التأمل واما إذا لم يظهر حديثه في السلف فلم يقابل برد ولا قبول لم يترك به القياس ولم يجب العمل به لكن العمل به جائز لان العدالة اصل في ذلك الزمان ولذلك جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل حتى أن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا تحل العمل به لظهور الفسق
فصار المتواتر يوجب علم اليقين والمشهور علم طمأنينة وخبر الواحد علم غالب الرأي والمستنكر منه يفيد الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا والمستتر منه في حيز الجواز للعمل به دون الوجوب والله اعلم ومثال المستنكر مثل حديث فاطمة بنت قيس أن النبي عليه السلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى فقد رده عمر رضي الله عنه فقال لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم بقول امراة لا ندري اصدقت ام كذبت احفظت ام نسيت قال عيسى بن ابان فيه انه اراد بالكتاب والسنة القياس وقد رده غيره من الصحابة أيضا وكذلك حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر هذا القسم وانما جعل خبر العدل حجة بشرائط في الراوي وهذا
باب بيان شرائط الراوي
التي هي من صفات الراوي وهي اربعة العقل والضبط والاسلام والعدالة إما العقل فهو شرط لان المراد بالكلام ما يسمى كلاما صورة ومعنى ومعنى الكلام لا يوجد إلا بالتمييز والعقل لانه وضع للبيان ولا يقع البيان بمجرد الصوت والحروف بلا معنى ولا يوجد معناه إلا بالعقل وكل موجود من الحوادث فبصورته ومعناه يكون فلذلك كان العقل شرطا ليصير الكلام موجودا واما الضبط فإنما يشترط لان الكلام إذا صح خبرا فانه يحتمل الصدق والكذب والحجة هو الصدق فأما الكذب فباطل والكلام في خبر هو حجة فصار الصدق والاستقامة شرطا للخبر ليثبت حجة بمنزلة المعرفة والتمييز لاصل الكلام والصدق بالضبط يحصل فأما العدالة فإنما شرطت لان كلامنا في خبر مخبر غير معصوم عن الكذب فلا يثبت صدقه ضرورة بل الاستدلال والاحتمال وذلك بالعدالة وهو الانزجار عن محظورات دينه ليثبت به رجمان الصدق في خبره واما الإسلام فليس بشرطلثبوت الصدق لان الكفر لا ينافي الصدق ولكن في هذا الباب يوجب شبهة يجب بها رد الخبر لان الباب باب الدين والكافر ساع لما يهدم الدين الحق فيصير منهما في باب الدين فثبت بالكفر تهمة زائدة لا نقصان حال بمنزلة الاب فيما يشهد لولده ولهذا لم يقبل شهادة الكافر على المسلم لما قلنا من العداوة ولانقطاع الولاية
باب تفسير هذه الشروط وتقسيمها
قال الشيخ رضي الله عنه إما العقل فنور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي اليه درك الحواس فيبتدئ المطلوب للقلب فيدركه القلب يتأمله بتوفيق الله تعالى وانه لا يعرف في البشر إلا بدلالة اختياره فيما يأتيه ويذره ما يصلح له في عاقبته وهو نوعان قاصر لما يقارنه ما يدل على نقصانه في ابتداء وجوده وهو عقل الصبي لان العقل يوجد زائدا ثم هو بحكم الله تعالى وقسمته متفاوت لا يدرك تفاوته فعلقت احكام الشرع بادني درجات كماله واعتداله واقيم البلوغ الذي هو دليل عليه مقامة تيسيرا والمطلق من كل شيء يقع على كماله فشرطنا لوجوب الحكم وقيام الحجة كمال العقل فقلنا أن خبر الصبي ليس بحجة لان الشرع لما لم يجعله وليا في أمر دنياه ففي أمر الدين اولى وكذلك المعتوه واما الضبط فان تفسيره سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهمه بمعناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل المجهود له ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده ومراقبته بمذكراته على اساءة الظن بنفسه إلى حين ادائه وهو نوعان ضبط المتن بصيغته ومعناه لغة والثاني أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقها وشريعة وهذا اكملها و المطلق من الضبط يتناول الكامل ولهذا لم يكن خبر من اشتدت غفلته خلقة أو مسامحة و مجازفة حجة لعدم القسم الأول من الضبط ولهذا قصرت رواية من لم يعرفبالفقه عند معارضة من عرف بالفقه في باب الترجيح وهو مذهبنا في الرجيح ولا يلزم عليه أن نقل القرآ ن ممن لا ضبط له جعل حجة لأن نقله في الأصل إنما ثبت بقوم هم أئمة الهدى وخير الورى ولأن نظم القرآن معجز يتعلق به أحكام على المخمصوص مثل جواز الصلوة وحرمة التلاوة على الحائض والجنب فاتبره في نقله نظمه وبنى عليه معناه فأما السنة فإن المعنى أصلها والنظلم غير لازم فيها ولأن نقل القرآن ممن لا يضبط الصيغة بمعناها إنما يصح إذا بذلك مجودة واستفرغ وسعه ولو فعل ذلك في السنة لصار ذلك حجة إلا أنه لما عدم ذلك عادة شرطنا كمال الضبط ليصير حجة ومعنى قولها أن يسمعه حق سماعه أن الرجل قد ينتهي إلى المجلس وقد مضى صدر من الكلام فربما يخفي على المتكلم هجومه ليعيد عليه ما سبق من كلامه فعلى السامع الاحتياط في مثله ثم قد يزدرى السامع بنفسه فلا يراها ألا لتبليغ الشريعة فيقصر في بعض ما ألقى إليه ثم يفضي به فضل الله تعالى إلى ان يتصد لإقامة الشريعة وقد قضر في بعض ما لزمه فلذلك شرطنا مراقبته وأما العدالة فإن تفسيرها الاستقامة يقال طريق عدل للجادة وجائر للبينات وهي نوعان أيضا قاصر وكامل أما لقاصر فما ثبت منه بظاهر الإسلام واستدال العقل لأن الأصل حالة الإستقامة لكن هذا الأصل لا يفارقه هوى يضله ويصده عن الاستقامة وليس لكما الاستقامة حديد رك مداه لأنها بتقديره الله تعالى ومشيئته يتفاوت فاعتبر في ذلك ما لا يؤدي إلى إلى الحرج والمشقة وتضييع حدود الشريعة وهو وجهان جهة الدين والعقل على طريق الهدى والشهوة فقيل من ارتكب كبيرة سقطت عدالته وصار متهما بالكذب وإذا أصر على ما دون الكبيرة كان مثلها في وقع التهمة وجرح العدالة فأما من ابتلى بشيء من غير الكبائر من غير اسرار فدل كامل العدالة وخيره حجة في إقامة الشريعة والمطلق من العدالة ينصرف إلى أكمل الوجهين فلهذا لم يجعل
خبر الفاسق والمستور حجة وقال الشافعي رحنه الله لما لم يكن خير المستور حجة فخبر المجهول أولى والجواب أن خبر المجهول من الصدر الأول مقبول عندنا على الشرط الذي قلنا بشهادة النبي عليه السلام على ذلك القرن بالعدالة وأما الإيمان والإسلام فإن تفسيره التصديق والإقرار بالله سبحانه وتعالى كما ه بصفاته وقبول شرايعه وأحكامه وهو نوعان ظاهر بنشوه بين المسلمين وثبوت حكم الإسلام بغيره من الوالدين وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن هذا كمال يتغذر شرطه لأن معرفة الخلق بأوصافه على التفسير متفاوتة وإنما شرط الكمال بما لا حرج فيه وهو أن يثبت التصديق والإقرار بما قلنا اجمالا وإن عجز عن بيانه وتفسيره ولهذا قلنا أن الواجب أن يستوصف المؤمن فيقال أو كذا فإذا قال نعم فقد طهر كمال اسلامه ألا ترى أن النبي عليه السلام استوصف فيما يروى عنه عن ذكر الجمل دون التفسير نوعان بذلك أمرنا بالكتاب والسنة قال الله تعالى يا ايها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهادرات فامتحنوهن الله اعلم بأيمانهن وكان النبي عليه السلام يمتحن الأعراب بعد دعوى الإيمان إلا أن تظهر امارته فيجب التسليم له كما قال النبي عليه السلام إذا رأيتم الرجل يعتاد الجماعة فشاهدوا له بالإيمان وقال النبي عليه السلام من صلى صلواتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان فأما من استوصف فجهل فليس مؤمن كذلك قال محمد في الجامع الكبير في الصغيرة بين أبوين مسلمين إذا لم تصف الإيمان حتى أدركت فلم تصفه أنها تبين من زوجها وإذا ثبت هذه الجملة كان الأعمى والمحدود في القذف والمرأة والعبد من أهل الرواية وكان خبرهم حجة بخلاف الشهادات في حقوق الناس لأنها تفتقر إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى وإلى ولاية كاملة متعدية ينعدم بالرق وتقصر بالأنوثة وبحد القذف
على ما عرف فأما هذا فليس من باب الولاية لوجهين أحدهما أن ما يلزم السامع من خبر المخبر بأمور الدين فإنما يلزمه بالتزامه طاعة الله ورسوله كما يلزم القاضي الفصل والقضاء والسماع بالتزامه لا بالزام الخصم والثاني أن خبر المخبر في الدين يلزمه أولا ثم يتعدى إلى غيره ولا يشترط بمثله قيام الولاية بخلاف الشهادة في مجلس الحكم وقد ثبت عن أصحاب رسول الله رواية الحديث ممن ابتلى بذهاب البصر وقبول رواية النساء والعبيد ورجوعهم إلى قول عايشة رضي الله عنها وقبول النبي عليه الصلوة والسلام خبر بريرة وسلمان وغيرهما والله اعلم إما المرتبة الثانية
باب بيان قسم الانقطاع
وهو نوعان ظاهر وباطن إما الظاهر فالمرسل من الأخبار وذلك اربعة أنواع ما ارسله الصحابي والثاني ما ارسله القرن الثاني والثالث ما ارسله العدل في كل عصر والرابع ما ارسل من وجه واتصل من وجه اخر أما القسم الأول فمقبول بالإجماع وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته فكان يروي عن غيره من الصحابة فإذا اطلق الرواية فقال قال رسول الله عليه السلام كان ذلك منه مقبولا وان احتمل الارسال لان من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه الا على على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره واما ارسال القرن الثاني والثالث 2فحجة عندنا وهو فوق المسند كذلك ذكره عيسى ابن ابان وقال الشافعي رحمه الله لا يقبل المرسل إلا أن يثبت اتصاله من وجه اخر ولهذا قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لاني وجدتها مسانيد وحكى أصحاب مالك بن انس عنه انه كان يقبل المراسيل ويعمل بها مثل قولنا احتج المخالف بان الجهل بالراوي جهل بصفاته التي بها يصح روايته لكنا نقول لا باس بالارسال استدلالا بعمل الصحابة والمعنى المعقول إما عمل الصحابة فان أبي هريرة لما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من اصبح جنبا فلا صوم له فردت عائشة رضي الله عنها قال سمعته من الفضل بن عباس فدل ذلك على انه كان معروفا عندهم ولما روى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال لا ربا إلا في النسيئة فعوض في ذلك بربا النقد قال سمعته من اسامة بن زيد وقال البراء بن عازب رضي الله عنه ما كل ما نحدث سمعنا من رسول الله عليه السلام وانما حدثنا عنه لكنا لا نكذب واما المعنى فهو أن كلامنا في ارسالمن لو اسند عن غيره قبل اسناده ولا يظن به الكذب عليه فلان لا يظن به الكذب على رسول الله عليه السلام اولى والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الاسناد طوى الأمر وعزم عليه فقال قال رسول الله عليه السلام وإذا لم يتضح له الأمر نسبه إلى من سمعه لتحمله ما تحمل عنه فعمد أصحاب ظاهر الحديث فردوا اقوى الامرين وفيه تعطيل كثير من السنن إلا انا اخرناه مع هذا عن المشهور لان هذا ضرب مزية للمراسيل بالاجتهاد فلم يجز النسخ بمثله بخلاف المتواتر والمشهور فأما قوله أن الجهالة تنافي شروط الحجة فغلط لان الذي ارسل إذا كان ثقة تقبل اسناده لم يتهم بالغفلة عن حال من سكت عن ذكره وانما علينا تقليد من عرفنا عدالته لا معرفة ما ابهمه إلا ترى انه إذا اثنى على من اسند اليه خيرا ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته فكذلك هذا واما ارسال من دون هؤلاء فقط اختلف فيه فقال بعض مشايخنا يقبل ارسال كل عدل وقال بعضهم لا يقبل إما وجه القول الأول فما ذكرنا واما الثاني فلان الزمان زمان فسق فلا بد من البيان إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل ارسال محمد بن الحسن وامثاله واما الفصل الاخير فقد رد بعض أهل الحديث الاتصال بالانقطاع وعامتهم على أن الانقطاع يجعل عفوا بالاتصال من وجه اخر واما الانقطاع الباطن فنوعان انقطاع بالمعارضة وانقطاع لنقصان وقصور في الناقل إما الأول فإنما يظهر بالعرض على الاصول فإذا خالف شيئا من ذلك كان مردودا منقطعا وذلك اربعة اوجه ايضا ما خالف كتاب الله والثاني ما خالف السنة المعروفة والثالث ما شذ من الحديث فيما اشتهر من الحوادث وعم به البلوى فورد مخالفا للجماعة والرابع أن يعرض عنه الأئمة من أصحاب النبي عليه السلام إما الأول فلان الكتاب ثابت بيقين فلا يترك بما فيه شبهة ويستوي في ذلك الخاص والعام والنص والظاهر حتى أن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله و لا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا ولا يترك الظاهر من الكتاب ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصا لان المتن أصل والمعنى فرع له والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة لثبوته ثبوتا بلا شبهة فيه فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى وقد قال النبي عليه السلام تكثر لكم
الأحاديث من بعدي فإذا روى لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالفوه فردوه فلذلك نقول أنه لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب ويقبل فيما ليس من كتاب الله على وجه لا ينسخه ومن رد أخبار الآحاد فقد أبطل الحجة فوقع في العمل بالشبهة وهو القياس أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ومن عمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فقد أبطل اليقين والأول فتح باب الجهل والإلحاد والثاني فتح باب البدعة وإنما سواء السبيل فيما قاله أصحابنا في تنزيل كل منزلته ومثال هذا مس الذكر أنه يخالف الكتاب لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بقوله تعالى فيه رجال رجال يحبون أن يتطهروا والمستنجي يمس ذكره وهو بمنزلة البول عند من جعله حدثا ومثل حديث فاطمة بنت قيس الذي روينا في النفقة أنه يخالف الكتاب وهو قوله تعالى اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم الآية ومعناه وأنفقوا عليهن من وجدكم وقد قلنا أن الظاهر من الكتاب أحق من نص الآحاد وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضا حديث القضاء بالشاهد واليمين لأن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم فسر ذلك بنوعين برجلين بقوله من رجالكم وبقوله فرجل وامرأتان ومثل هذا إنما يذكر لقصر الحكم عليه ولأنه قال ذلك أدنى أن لا ترتابوا ولا مزيد على الأدنى ولأنه انتقل إلى غير المعهود وهو شهادة النساء ولو كان الشاهد واليمين حجة لكان مقدما على غير المعهود وصار ذلك بيانا على الاستقصاء وقال في آية أخرى أو آخران من غيركم فنقل إلى شهادة الكافر حين كانت حجة على المسلمين وذلك غير معهود في موت المسلمين ووصاياهم فيبعد أن يترك المعهود ويأمر بغيره ولأنه ذكر في ذلك يمين الشاهد بقوله فيقسمان بالله ويمين الخصم في الجملة مشروع فأما يمين الشاهد فلا صار النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان بأن يمين المدعى ليست بحجة وأمثال هذا كثير ومثله خبر المصراة وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا لما قلنا انه فوقه فلا ينسخ به وذلك مثل حديث الشاهد واليمين لأنه خالف المشهور وهو قوله البينة على المدعى واليمين على من أنكر يعنى المدعى عليه ومثل حديث سعد بن وقاص رضي الله عنه في بيع التمر بالرطب مخالف لقوله عليه السلام التمر بالتمر بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور باعتبار جودة ليست من المقدار
إلا أن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله عملا به على أن اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة كما في اليمين واما القسم الثالث فلان الحادثة إذا اشتهرت وخفي الحديث كان ذلك دلالة على السهو لان الحادثة إذا اشتهرت استحال أن يخفي عليهم ما يثبت به حكم الحادثة إلا ترى انه كيف اشتهر في الخلف فإذا شذ الحديث مع اشتهار الحادثة كان ذلك زيافة وانقطاعا وذلك مثل حديث الجهر بالتسمية ومثل حديث مس الذكر وما اشبه ذلك واما القسم الاخير فلان الصحابة رضي الله عنهم هم الاصول في نقل الشريعة فاعراضهم يدل على انقطاعه وانتساخه وذلك أن يختلفوا في حادثة بارائهم ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة لان استعمال الرأي والأعراض عن النص غير سايغ وذلك مثل حديث الطلاق بالرجال والعدة بالنساء لان الصحابة اختلفوا ولم يرجعوا اليه وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي ولم يرجعوا إلى قوله ابتغوا في اموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الزكاة فهذا انقطاع باطن معنوي اعرض عنه الخصم وتمسك بظاهر الانقطاع كما هو دأبه واما القسم الآخر فأنواع اربعة خبر المستور وخبر الفاسق وخبر الصبي العاقل والمعتوه والمغفل والمساهل وخبر صاحب الهوى إما خبر المستور فقد قال في كتاب الاستحسان انه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء وفي رواية الحسن هو مثل العدل وهذه الرواية بناء على القضاء بظاهر العدالة والصحيح ما حكاه محمد أن المستور كالفاسق لا يكون خبره حجة جتى يظهر عدالته وهذا بلا خلاف في باب الحديث احتياطا إلا في الصدر الأول على ما قلنا في المجهول واما خبر الفاسق فليس بحجة في الدين اصلا لرجحان كذبة على صدقه وقد قال محمد رحمه الله في الفاسق إذا اخبر بحل أو حرمة أن السامع يحكم رأيه فيه لان ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول فوجب التحري في خبرة فأما هنا فلا ضرورة في المصير إلى روايته وفي العدول كثرة وبهم غنية إلا أن الضرورة في حل الطعام والشراب غير لازمة لان العمل بالاصل ممكن وهو أن الماء طاهر في الأصل فلم يجعل الفسق هدرا بخلاف خبر الفاسق في الهدايا وجه والوكالات ونحوها لان الضرورة ثمه لازمة وفيه اخر نذكره في باب محل الخبر أن شاء الله تعالى واما الصبي والمعتوه فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان بعد ذكر العدل والفاسق والكافر وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان فقال بعضهم هما مثل العدل المسلم البالغ و الصحيح
انهما مثل الكافر لا يقوم حجة بخبرهما ولا يفوض أمر الدين اليهما لما قلنا أن خبرهما لا يصلح ملزما بحال لان الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة وليس لهما ولاية ملزمة في حق انفسهما وانما هي مجوزة فكيف يثبت متعدية ملزمة وانما قلنا إنها متعدية ملزمة لان ما يخبر عنه الصبي من امور الدين لا يلزمه لانه غير مخاطب فيصير غيره مقصودا بخبره فيصير من باب الالزام بمنزلة خبر الكافر بخلاف العبد لما قلنا والمعتوه مثل الصبي نص على ذلك محمد في غير موضع من المبسوط إلا ترى أن الصحابة تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم وقد قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء انه لا يعمل بخبره ويتوضأ به فان تيمم واراق الماء فهو احب الي وفي الفاسق جعل الاحتياط اصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن يكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم إلا ترى أن الفاسق شاهد عندنا بخلاف الصبي والكافر غير شاهد على المسلم اصلا فصار الصبي المسلم والكافر البالغ في امور الدين سواء والفاسق فوقهما حتى انا نقول في خبره بنجاسة الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم من غير اراقة الماء فان اراق الماء فهو احوط للتيمم واما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدق بنجاسة الماء توضأ به ولم يتيمم فان اراق ثم تيمم فهو افضل وكذلك الصبي والمعتوه لان الذي يلي هذا العطف في كتاب الاستحسان الكافر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة واما المغفل الشديد الغفلة وهو مثل الصبي و المعتوه فأما تهمة الغفلة فليس بشيء ولا يخلو عامة البشر عن ضرب غفلة إذا كان عامة حاله التيقظ واما المساهل فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وهذا مثل المغفل إذا اعتاد ذلك فقد يكون العادة الزم من الخلقة واما صاحب الهوى فان اصحابنا رحمهم الله عملوا بشهادتهم إلا الخطابية لان صاحب الهوى وقع فيه لتعمقه وذلك يصده عن الكذب فلم يصلح شبهة وتهمة إلا من يتدين بتصديق المدعي إذا كان ينتحل بنحلته فيتهم بالباطل والزور مثل الخطابية وكذلك من قال بالإلهام انه حجة يجب أن لا تجوز شهادته ايضا واما في باب السنن فان المذهب المختار عندنا أن لا يقبل رواية من انتحل الهوى والبدعة ودعا الناس اليه على هذا ائمة الفقه والحديث كلهم لان الحاجة والدعوة إلى
الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث رسول الله عليه السلام وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس لان ذلك لا يدعو إلى التزوير في ذلك فلم ترد شهادته فإذا صح هذا كان صاحب الهوى بمنزلة الفاسق في باب السنن والاحاديث واما المرتبة الثالثة