كتاب : التبصرة في أصول الفقه
المؤلف : إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي

قلنا إذا أسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم فالظاهر أن الجميع من قوله صلى الله عليه و سلم
على أنه لو كان هذا دليلا في إبطال الزيادة لوجب أن يجعل ذلك طريقا في رد الأخبار أصلا فيقال إن الرواة يغلطون فيروون عن النبي صلى الله عليه و سلم ما ليس عنه فلا يؤمن أن تكون هذه الأخبار من ذلك الجنس فلما بطل هذا في رد الخبر أصلا بطل في رد الزيادة

مسألة 13
إذا روى الثقة حديثا مسندا وأرسله غيره لم يقدح ذلك في الرواية وكذلك إذا رفعه أحدهما ووقه الآخر على الصحابي
وقال بعض أصحاب الحديث إن ذلك يقدح في رواية من وصله وأسنده
لنا هو أنه من أرسل ذلك منهما يجوز أن يكون قد أغفل من سمع منه واختار إرساله لغرض
والذي وقفه يجوز أن يكون قد سمع فتوى الصحابي عن نفسه فإن من عنده حديث يجوز أن يرويه مرة ويفتي به أخرى فلا يجوز رد ما أسنده الثقة
واحتجوا بأنه لو كان أحدهما مسندا أو مرفوعا لشاركه الآخر في إسناده ورفعه كما شاركه في سماعه
والجواب هو أنه يجوز أن يكون قد أرسله ووقفه لما بيناه فلا يجوز أن يجعل ذلك قدحا في روايته
مسألة 14
مراسيل غير الصحابة ليست بحجة
وقال مالك وأبو حنيفة هو حجة وهو قول المعتزلة
وقال عيسى بن أبان تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابع التابعين ولا تقبل مراسيل من بعدهم إلا أن يكون إماما
لنا ما استدل به الشافعي رضي الله عنه وهو أن الخبر كالشهادة والدليل عليه أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما ثم ثبت أن الإرسال في الشهادة يمنع صحتها فكذلك هاهنا في الخبر

فإن قيل الشهادة آكد من الخبر ألا ترى أن الشهادة لا تقبل من العبد ولا من شهود الفرع مع حضور شهود الأصل والأخبار تقبل من العبد وتقبل من الراوي مع حضور المروي عنه فدل على الفرق بينهما
قيل هما وإن افترقا فيما ذكرتم إلا أنهما يتساويان في اعتبار العدالة والإرسال يمنع ثبوت العدالة فيهما فيجب أن يمنع صحتهما
وأيضا هو أن من شرط الخبر عدالة الراوي فإذا روى مرسلا جهلت عدالة الراوي فيجب أن لا يقبل
فإن قيل الظاهر أنه لم يرو إلا عن عدل
قيل ليس الظاهر ما ذكرتم بل يجوز أن يروى عن عدل وغير عدل وقد جرت عادة أصحاب الحديث بالرواية عن كل أحد ولهذا قال ابن سيرين لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان ممن أخذا وعلى أن عندهم لو أرسل عمن لا يعرفه ولا يعرف عدالته لجاز العمل به فسقط ما قالوه
واحتجوا بأن الراوي لا يرسل الحديث إلا ممن يقطع بصحته وثبوت طريقه ولهذا روي عن إبراهيم أنه قال إذا رويت عن عبد الله وأسندت فقد حدثني واحد وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة

وقال الحسن وقد أرسل حديثا فسئل عنه فقال حدثني به سبعون بدريا فدل على أن المرسل كالمسند وأقوى منه
قلنا يجوز أن يكون قد أرسل لما ذكرتم ويجوز أن يكون قد أرسل لأنه نسي المروي عنه وهذا هو الأكثر لأنه جرت العادة أنهم يقولون عند النسيان قال النبي عليه السلام وعند الذكر والحفظ يذكرون الإسناد ويجوز أن يكون قد أرسل لأنه لم يرض الرواية عنه أو يستنكف عن الرواية عنه وإذا احتمل هذا سقط ما ذكروه
وعلى أن أكثر ما في هذا أن يكون المروي عنه عنده ثقة فأرسل عنه وبهذا القدر لا يلزمنا العمل به حتى يبينه لنا فننظر في عدالته
قالوا ولأن الظاهر أنه لا يرسل إلا عند صحة الحديث لأنه متى شك بين إسناده حتى تلزمه عهدته فلما رأيناه أرسل دل على صحة الحديث
والجواب أنا قد بينا أنه يحتمل إرساله لما ذكروه ويحتمل ما بيناه والجميع معتاد متعارف فلا يصح حمل الأمر على أحد الوجهين دون الآخر
وعلى أن هذا كله يبطل بالشهادة على الشهادة فإنه إذا لم يسم شاهد الفرع شاهد الأصل لم يصح وإن كان الظاهر أنه ما ترك تسميته إلا لصحة الأمر عنده
قالوا ولأن المروي عنه لا يخلو إما أن يكون على صفة يقبل خبره أو لا يقبل خبره ولا يجوز أن يكون على صفة لا يقبل خبره لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الإرسال عنه يقدح في دين الراوي عنه حتى لا يقبل مسنده ولما ثبت أن مسنده يقبل دل على أن المروي عنه على صفة يقبل خبره فوجب قبول المرسل عنه
قلنا يجوز أن يكون على صفة لا يقبل خبره ولكن لا يقدح ذلك في سند الراوي عنه لأنه يجوز أن لا يعرفه وهو ممن يعتقد جواز الرواية عن المجاهيل ويجوز أن يكون قد نسي اسمه فلا يجب أن القدح في عدالته

وعلى أن أكثر ما فيه أن يكون المروي عنه عدلا عنده فأرسله لذلك وعدالته عنده لا تكفي في وجوب العمل حتى ينظر في حاله
وعلى أنه لو كان هذا دليلا في إرسال الخبر لوجب أن يجعل دليلا في إرسال الشهادة فيقال المشهود على شهادته لا يخلو من أن يكون مردود الشهادة فيجب أن يوجب ذلك قدحا في عدالة هذا الشاهد فلا تقبل شهادته في شيء أو مقبول الشهادة فيجب قبول الشهادة عليه مع الإرسال ولما بطل هذا في الشهادة بطل في الأخبار
قالوا من قبل مسنده قبل مرسله كالصحابة
والجواب أن أبا إسحق الإسفراييني لم يسلم هذا لا تقبل مراسيل الصحابة كما لا تقبل مراسيل التابعين والمذهب أنه تقبل مراسيلهم لأنهم لا يرسلون إلا عن الصحابة وقد ثبتت عدالتهم فلا يحتاج إلى النظر في أحوالهم والتابعون يروي بعضهم عن بعض وعدالتهم غير ثابتة فوجب الكشف عن حالهم
قالوا ولأنه إرسال فأشبه إرسال ابن المسيب
قلنا من أصحابنا من قال مراسيله ومراسيل غيره سواء والشافعي رضي الله عنه استحسن مراسيله في الترجيح بها ومنهم من سلم لأنها تتبعت فوجدت مسانيدا عن الصحابة وهذا المعنى لم يثبت في مراسيل غيره فافترقا
قالوا لو لم يكن المرسل حجة لما اشتغل الناس بروايته وكتبه

قلنا يجوز أن يكون قد اشتغلوا بروايته وكتبه للترجيح به أو ليعرف كما كتب أخبار الفساق ومن لا يثبت بروايته حديث ولهذا قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان والله كذابا
ولأنا نشتغل برواية النسوخ من الأحكام وإن لم يتعلق بها حكم

مسألة 15
إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا فهو كالمسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال أبو بكر الصيرفي لا حجة في ذلك وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن إطلاق الأمر والنهي والسنة يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
والدليل عليه أن أنس بن مالك كان يقول أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يقل له أحد من الآمر بذلك فدل على أن إطلاق الأمر يقتضي ما ذكرناه
ولأنه لا خلاف أنه لو قال أرخص لنا في كذا لرجع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكذلك إذا قال أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا ولا فرق بينهما
واحتجوا بأن السنة قد تطلق والمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتطلق والمراد بها سنة غيره والدليل عليه قول علي عليه السلام في الخمر جلد النبي صلى الله عليه و سلم في الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر

ثمانين وكل سنة فأطلق السنة على ما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى ما فعله أبو بكر وعلى ما فعله عمر رضي الله عنهما
وقال عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدين أبي بكر وعمر
والجواب أن عليا عليه السلام أراد بالسنة سنة النبي صلى الله عليه و سلم لأن الزيادة على الأربعين كانت تعزيرا والضرب بالتعزير ثبت بالسنة
وأما قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فهي سنة مقيدة منسوبة إلى أبي بكر وعمر وكلامنا في السنة المطلقة وحكم المطلق مخالف لحكم المقيد
قالوا ولأن الصحابي قد يجتهد في الحادثة فيؤديه اجتهاده إلى حكم ويضيف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه يقيس على ما سمع منه ويستنبط مما أخذ عنه وإذا احتمل هذا لم يجز أن يجعل ذلك سنة مسندة كما لو قال هذا حكم الله تعالى لم يجز أن يصير ذلك كآية من القرآن
والجواب هو أنه وإن جاز أن يسمى ما عرف بالقياس سنة إلا أن الظاهر من السنة ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم واللفظ يجب أن يحمل على الظاهر فبطل ما قالوه والله أعلم

مسألة 16
إذا قال الصحابي كنا نفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وكذا فهو كالمسند إلى رسول الله
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة ليس كالمسند
لنا أن الظاهر من حال الصحابة أن لا يقدموا على أمر من أمور الدين والنبي صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم إلا عن أمره فصار ذلك كالمسند إليه
ولأنه إنما يضاف ذلك إلى عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لفائدة وهو أن يبين أن النبي صلى الله عليه و سلم علم بذلك ولم ينكره فوجب أن يصير كالمسند
واحتجوا بأنهم كانوا يفعلون في عهد النبي عليه السلام مالا يكون مسندا ألا ترى أنهم لما اختلفوا في التقاء الختانين قال بعضهم كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ونكسل فلا نغتسل فقال له عمر أو علم النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فأقركم عليه فقال لا فقال فمه
وقال جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم

قلنا أما التقاء الختانين فما كان يجب به الغسل في ابتداء الإسلام وكانوا يجامعون ولا يغتسلون ثم نسخ ذلك فكان ذلك مفعولا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم فلما نسخ لم يعلم بعضهم بالنسخ واستمر على ذلك وحال الاستدامة والاستمرار يجوز أن يخفى أمره
فأما الإقدام على ابتداء الشيء فلا يفعل إلا عن إذن النبي عليه السلام
وأما حديث جابر فالمراد به أمهات الأولاد في غير ملك اليمين وهو أن يتزوج جارية لهم وذلك جائز

مسألة 17
إذا قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كالمسند إليه سماعا منه
وذهب بعض الناس إلى أنه ليس كالمسند إليه سماعا وهو قول الأشعرية
لنا هو أن الظاهر أنه ما قطع بأنه قال النبي عليه السلام إلا وقد سمع منه فوجب أن يحمل الأمر على السماع
واحتجوا بأنه يجوز أن تكون بينهما واسطة فيضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من جهتهم ولهذا قال أنس ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقيل إنه ليس مما يرويه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا أربعة أحاديث
والجواب أنه يحتمل ما ذكرتم ولكن الظاهر ما ذكرناه
والدليل عليه أن أنسا قال ليس كل ما نحدثكم به سمعناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا يدل على أن ظاهر الرواية يقتضي السماع ولولا ذلك ما احتاج إلى هذا البيان فإذا كان هذا هو الظاهر وجب أن يحمل الخبر عليه
مسألة 18
إذا قال حدثني فلان عن فلان فالظاهر أنه متصل
ومن الناس من قال حكمه حكم المرسل
لنا هو أن الظاهر أنه سمع كل واحد منهم ممن يروى عنه لأنه لو كان بينهما واسطة لبين ذلك
واحتجوا أن الرواية عنه لا تقتضي السماع منه ألا ترى أنه يقال روى فلان عن فلان وإن كان بينهما واسطة كما يقال روى عنه وإن لم يكن بينهما واسطة وإذا كان اللفظ يطلق على الأمرين لم يكن حمله على الاتصال بأولى من حمله على الإرسال
قلنا اللفظ وإن كان يستعمل في في الأمرين جميعا إلا أن الظاهر منه السماع والاتصال لأن الأصل عدم الوسائط فوجب أن يحمل الأمر عليه
مسألة 19
لا يقبل الخبر إلا ممن تعرف عدالته
وقال أبو حنيفة إذا عرف إسلامه جاز قبول روايته
لنا هو أن كل خبر لا يقبل من الفاسق لم يقبل من مجهول الحال كالشهادة
ولأنا لو جوزنا قبول الأخبار ممن جهلت عدالته لم يبق أحد من أهل البدع إلا روى ما يوافق بدعته فتتسع البدع ويكثر الفساد وهذا لا يجوز
واحتجوا بأن النبي عليه السلام قال للأعرابي الذي شهد عنده بالهلال أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال نعم وأمر بالصوم ولم يسأل عن العدالة
والجواب هو أنه يحتمل أن يكون قد عرف عدالته فلم يسأل عنها
قالوا ولأن الأصل في المسلم العدالة فوجب أن يحمل الأمر عليه

قلنا لا نسلم بل الأصل في الصبيان عدم العدالة لعله التحصيل والعقل وبعد البلوغ يحتمل أن يكون عدلا ويحتمل أن يكون فاسقا فوجب التوقف فيه حتى نعلم باطن الحال
ولأن هذا يبطل بالشهادة فإنها لا تقبل من المجهول وإن كان الأصل في الناس العدالة فسقط ما قالوه

مسألة 20
إذا روى الثقة عن المجهول لم يدل ذلك على عدالته
ومن أصحابنا من قال يدل على عدالته
لنا هو أن شهادة الفرع لا تدل على شهادة الأصل فكذلك رواية العدل لا تدل على عدالة المروي عنه
ولأن العدل قد يروي عن الثقة وعن غير الثقة ولهذا قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان والله كذابا فلم يجز أن يستدل بالرواية على العدالة
واحتجوا لو كان هذا المجهول غير ثقة لبين العدل ذلك في روايته حتى لا يغتر بروايته كما بين الشعبي ولما لم يبين ذلك دل على عدالته
والجواب هو أنه يجوز أن يترك البيان ثقة بعدالته ويحتمل أنه تركه لأنه لا يعرفه وهو ممن يرى الناس أنه على العدالة ويحتمل أن يترك البيان ليجتهد الفقيه الذي يعمل بحديثه في حاله فإذا احتمل أنه ترك البيان من هذه الوجوه لم يدل ذلك على العدالة
وجواب آخر وهو أن أكثر ما في ذلك أن يدل على عدالته عنده وهذا لا يكفي في ثبوت العدالة حتى ننظر في حاله كما نظر ونعرفه كما عرف
ولأن هذا يبطل بشاهد الفرع إذا شهد على شهادة مجهول فإنه لا يدل على عدالته ولا يقال أنه لو كان غير ثقة لبين ذلك حتى لا تعتبر شهادته فسقط ما قالوه
مسألة 21
إذا روى الصحابي لغيره شيئا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رأى المروي له رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يلزمه أن يسأله عما حدث عنه
وقال بعض الناس يلزمه أن يسأل عن ذلك
لنا هو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السعاة والقضاة إلى أهل البلاد لتبليغ الشرع وبيان الأحكام ثم يقدمون أولئك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يسألونه عما حدثوا عنه فدل على أنه لا يجب
واحتجوا بأنه إذا لقى النبي عليه السلام أمكنه معرفة الحكم من جهة القطع فلا يجوز أن يعول على الظن كما أن المكي إذا أمكنه التوجه إلى القبلة لم يجز أن يجتهد
قلنا فيجب على هذا إذا كان على بحر أن لا يجوز له الوضوء بما معه من الماء لأنه يقدر على ما يقطع بطهارته وهو ماء البحر ولما أجمعوا على جواز ذلك دل على بطلان ما قالوه
وأما القبلة فهو حجة لنا عليهم لأن الغائب عنها إذا علم الجهة بدليل فصلى إليها لم يلزمه إذا قدم مكة اعتبار الجهات المتيقنة وكذلك هاهنا إذا علم بقول العدل ثم لقي النبي عليه السلام يجب أن لا يلزمه سؤاله
مسألة 22
إذا نسي المروي عنه الحديث والراوي عنه ثقة لم يسقط الحديث
وقال أصحاب أبي حنيفة يسقط الحديث
لنا أن سهيل بن أبي صالح روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حديث الشاهد واليمين ثم نسيه فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة ولم ينكر عليه أحد من التابعين
وصنف أبو الحسن الدارقطني جزءا فيمن نسي ثم روى عمن روى عنه وهذا يدل على أنه إجماع على جواز ذلك

ولأن المروي عنه لا يعلم بطلان الحديث والراوي عنه ثقة فوجب العمل به كما لو لم ينس
ولأنه موته أعظم من نسيانه فإذا كان موته لا يبطل رواية الثقة عنه فنسيانه أولى
واحتجوا بأن الخبر كالشهادة ثم إنكار شهود الأصل الشهادة يبطل الشهادة فكذلك إنكار المروي عنه الخبر يجب أن يبطل الخبر
والجواب هو أن باب الشهادة آكد من باب الخبر ألا ترى أن شهادة العبيد لا تقبل وأخبارهم تقبل فدل على الفرق بينهما

مسألة 23
إذا ترك الراوي العمل بالحديث وأفتى بغيره لم يسقط الحديث
وقال أصحاب أبي حنيفة يسقط الحديث
لنا هو أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة وقول الراوي ليس بحجة فلا تعارض الحجة بما ليس بحجة
واحتجوا بأن الصحابي مع فضله ودينه لا يجوز أن يترك الحديث ويعمل بخلافه إلا وقد علم نسخ الخبر فوجب أن يسقط الاحتجاج به
والجواب أنه يحتمل أن يكون علم نسخه ويحتمل أنه نسيه أو تأوله فلا تترك سنة ثابتة بتجويز النسخ
ولأن الظاهر أنه ليس معه ما ينسخه لأنه لو كان معه ناسخ لرواه في وقت من الأوقات ولما لم يظهر ذلك دل على أنه نسيه
مسألة 24
إذا وجد سماعه على كتاب ولم يذكر أنه سمعه جاز له أن يرويه
وقال بعض أصحابنا لا يجوز حتى يذكره وهو قول أبي حنيفة
لنا هو أن الأخبار تحمل على الظاهر وحسن الظن ولهذا قبلناها من العبيد والنساء ومن لا نعرف عدالته في الباطن فالظاهر من هذا السماع الصحة فوجب أن تجوز له الرواية
واحتجوا بأنه لا يجوز الرجوع إلى الخط في الشهادة فكذلك في الخبر
والجواب أن باب الشهادة آكد من باب الأخبار وقد بينا هذا بما يغني عن الإعادة
مسألة 25
إذا كتب إليه رجل بحديث جاز أن يرويه عنه فيقول أخبرني فلان بهذا مكاتبة
ومن الناس من قال لا تجوز له الرواية عنه
لنا هو أن أمر الأخبار مبني على الظاهر وحسن الظن والظاهر صحة ما كتب إليه فجاز أن يعول عليه في الرواية
فإن احتجوا بأنه لو كتب إليه بشهادة لم يجز أن يشهد عليه فكذلك إذا كتب إليه بخبر
والجواب أن باب الشهادة آكد من باب الأخبار وقد بينا ذلك في غير موضع فأغنى عن الإعادة
مسألة 26
تجوز رواية الحديث على المعنى إذا كان عالما بمعنى الحديث
وقال بعض أصحابنا لا يجوز ذلك
لنا أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال إذا أصيب المعنى
ولأن القصد هو المعنى دون اللفظ وقد أتى بالمقصود فوجب أن يجوز كما نقول في نقل الشهادة والأقارير

واحتجوا بقوله عليه السلام رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وأدى كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وهذا يقتضي حفظ الألفاظ
والجواب هو أن هذا يدل على الفضيلة والاستحباب ألا ترى أنه رغب فيه بالدعاء ولم يتواعد على تركه
قالوا ولأنا لا نأمن أن يكون قد قصد النبي عليه السلام معنى فاستعمل فيه لفظا على سبيل المجاز فينقل الراوي ذلك إلى لفظ لا يؤدي معنى الأول فيغير المقصود
والجواب هو أنا إنما نجيز ذلك لمن علم معنى الحديث وأحاط به علمه فلا يغير المقصود
قالوا ولأن القرآن لا يجوز أن يقرأ على المعنى فكذلك السنة
قلنا لأن اللفظ مقصود في القرآن ألا ترى أنه يثاب على تلاوته وليس كذلك هاهنا فإن القصد هو المعنى دون اللفظ فشابه ما ذكرنا من الشهادة والإقرار

مسألة 27
يرجح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة في أحد المذهبين ولا يرجح في المذهب الآخر وهو مذهب بعض الناس
لنا هو أن رواية الاثنين أقرب إلى الصحة وأبعد من السهو والغلط فإن الشيء عند الجماعة أحفظ منه عند الواحد ولهذا قال الله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وقال عليه السلام الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد فوجب أن يرجح ما كثر رواته
وأيضا فإن ما كثر رواته أقرب إلى التواتر فوجب أن يكون أولى من غيره
واحتجوا بأن في الشهادات لا يرجح بكثرة العدد فكذلك في الأخبار
والجواب هو أن الشهادات مقدرة في الشرع فلم يرجح بكثرة العدد والأخبار غير مقدرة فرجع فيها إلى الأقوى في الظن يدلك عليه أن الشهادات لا ترجح بالسن ولا بالقرب ولا بالعلم والأخبار ترجح بذلك كله فدل على الفرق بينهما
مسائل الإجماع
مسألة 1
إجماع العلماء على حكم الحادثة حجة مقطوع بها
وقال النظام والإمامية ليس بحجة غير أن الإمامية قالت إن المسلمين إذا أجمعوا على حكم وجب المصير إليه لأن فيهم من قوله حجة وهو الإمام والإجماع عندهم ليس بحجة ولكن فيه حجة
لنا ما احتج به الشافعي رحمه الله وهو قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فتواعد على مخالفة سبيل المؤمنين فدل على أن اتباعهم واجب ومخالفتهم حرام وأن ما عداه باطل

فإن قيل إنما علق الوعيد على مخالفة النبي عليه السلام وترك سبيل المؤمنين ونحن نقول إن الوعيد يتعلق بذلك
قيل لو لم يحرم كل واحد منهما على الانفراد لما علق الوعيد عليهما على الاجتماع فلما علق الوعيد عليهما دل على تحريم كل واحد منهما على الانفراد
ألا ترى أنه لما قال ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما رجع هذا الوعيد إلى الأمرين جميعا القتل والزنا وكل واحد منهما منفرد عن الآخر فكذلك هاهنا
ولأنه لا خلاف أن الوعيد يتعلق بمشاقة الرسول على الانفراد وإن لم يكن هناك مؤمن فدل على أن الوعيد معلق بترك سبيل المؤمنين على الانفراد
فإن قيل المراد به ترك اتباع المؤمنين في مشاقة الرسول فيكون الوعيد على مشاقة الرسول عليه السلام فقط
قيل هذا تخصيص من غير دليل فإنه لم يقل ويتبع غير سبيل المؤمنين في أمر دون أمر فوجب أن يحمل على العموم
ولأن هذا يؤدي إلى حمل اللفظ على التكرار وذلك أن استحقاق الوعيد بمشاقة الرسول قد عرف من قوله ومن يشاقق الرسول فيجب أن يكون الوعيد في ترك اتباع المؤمنين يتعلق بمعنى آخر
فإن قيل الوعيد إنما لحقه بترك سبيل المؤمنين بعدما علموا الدليل
ألا ترى أنه قال من بعد ما تبين له الهدى وبعد قيام الدليل وبيان الهدى يستحق الوعيد على ترك سبيلهم
والجواب أنه لا يجوز أن يكون المراد ترك سبيلهم فيما أقاموا عليه الدليل لأنه إذا قام الدليل على الحكم ثبت الوعيد بمخالفته وإن لم يكن ترك سبيل المؤمنين

وقولهم إنه شرط فيه تبين الهدى غلط لأن ذلك إنما شرط في مشاقة النبي عليه السلام واستحقاق الوعيد بمشاقته موقوف على تبين الهدى وقيام الدليل على ثبوته وأما في ترك سبيل المؤمنين فقد أطلق الوعيد فوجب أن يتعلق ذلك بمخالفتهم بكل حال
قالوا ولأن هذا استدلال بدليل الخطاب وذلك أنه لما علق الوعيد على اتباع غير سبيلهم وحرمه استدللتم من ذلك على أن اتباعهم واجب ومثل هذه المسألة لا يجوز إثباتها بدليل الخطاب وهي من مسائل الاجتهاد
والجواب هو أنا نتعلق من الآية بالنطق لا بالدليل وذلك أنه ألحق الوعيد بمن يتبع غير سبيلهم وعند المخالف أنه لا يلحق الوعيد باتباع غير سبيلهم فكان مذهبهم مخالفا لنطق الآية
وجواب آخر وهو أنا استدللنا من الآية بتقسيم عقلي لا محيد عنه ولا محيص منه وذلك أنه ليس هاهنا أكثر من سبيل المؤمنين وغير سبيلهم فلما تواعد على اتباع غير سبيلهم تعين وجوب اتباع سبيلهم
والذي يدل عليه هو أنه لو نص على حكم واحد في القسمين لم يجز فإنه لا يجوز أن يقال ومن ترك سبيل المؤمنين وغير سبيلهم فهو في النار إذ ليس ها هنا إلا سبيلهم وغير سبيلهم ولو نص على دليل الخطاب في الشيء وضده على حكم واحد بأن قال في سائمة الغنم ومعلوفتها الزكاة جاز فدل على ما قلناه
فإن قيل المراد بالآية ترك سبيل المؤمنين في ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان يدل عليه أنه لو قال للقائل اتبع سبيل أهل الخير والدين كان معناه اتباعهم فيما صاروا به من أهل الخير والدين فصار تقدير الآية ويتبع سبيل الكفار وهذا مستحق الوعيد عليه
قيل هذا لا يصح بل هي عامة في كل ما هو سبيل لهم
ألا ترى أنه لو قال افعل أفعال العلماء اقتضى ذلك اتباعهم في جميع أفعالهم مما صاروا به علماء ومما لم يصيروا به من أفعالهم وعاداتهم

ولأن تحريم الكفر وترك اتباع المؤمنين فيه قد علم من مشاقة الرسول فإن من شاقه كان كافرا مستحقا للعقوبة فيجب أن يكون محمولا على ترك اتباعهم في غير الإيمان
فإن قيل الآية تقتضي سبيلا واحدا وفي سبيل المؤمنين ما يحرم تركه
قلنا هذا جهل من قائله فإن السبيل معرف بالإضافة فاقتضى جميع سبيلهم وإنما الذي يقتضي واحدا هو السبيل المنكر فأما إذا عرفه بالإضافة كان بمنزلة المعرف بالألف واللام
فإن قيل السبيل حقيقة في الطريق فأما في الأقوال فمجاز فلا يصح الاحتجاج به في أحكام الحوادث
قيل السبيل حقيقة فيهما
ألا ترى أن الله تعالى قال قل هذه سبيلي والمراد به القرآن وقال ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والمراد به الدين
ولأنه لو كان مجازا لكان في معنى الحقيقة لكثرة الاستعمال فيه وكثرة الاستعمال تجعل اللفظ كالحقيقة في الاستعمال وربما صار المجاز أحق به كالغائط اسم للمكان المنخفض ثم لكثرة الاستعمال في النجو صار كالحقيقة حتى إذا ورد اللفظ به حمل على النجو دون المكان
قالوا إنما علق الوعيد على ترك سبيل المؤمنين ونحن لا نعلم أن أهل الإجماع مؤمنون فلا يلزمنا حكم الوعيد على مخالفتهم
قلنا المؤمن في حكم الشرع هو الذي التزم أحكام الشرع وآمن بها وهذا معروف معلوم فوجب أن يلحق الوعيد بترك اتباعه

وجواب آخر وهو أنه إذا اجتمع أهل القبلة من أهل العصر على حكم قطعنا بأن فيهم مؤمن فيجب أن يلحق الوعيد بمخالفتهم لأنه ترك سبيل المؤمنين قطعا ويقينا
فإن قيل عندنا إذا ترك سبيل المؤمنين قطعا ألحقنا به الوعيد فإن في جملتهم الإمام المعصوم فيلحق الوعيد بمخالفته
قلنا الظاهر يقتضي استحقاق الوعيد بمخالفة المؤمنين وذلك يقتضي الجماعة وعندهم إذا خالف أهل القبلة كلهم استحق الوعيد على ترك سبيل مؤمن واحد دون الباقين
قالوا هذا يقتضي أن يترك سبيل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة فيستحق الوعيد وهذا لا يعتبر في الإجماع
والجواب أن المراد بالآية بعض المؤمنين يدل عليه هو أنه يقتضي تابعا ومتبوعا ولو كان المراد به جميع المؤمنين لم يكن في المؤمنين تابع
ولأنه لو كان المراد به جميع المؤمنين لتأخر التكليف إلى يوم القيامة فيجب أن يكون المراد به بعض المؤمنين
ولأن الآية تقتضي ترك اتباع من هو مؤمن في الحقيقة والذي هو مؤمن في الحقيقة هم أهل العصر فأما من مات منهم أو لم يخلق منهم فلا يطلق عليه اسم المؤمنين فدل على أن المراد به البعض
فإن قيل لو كان المراد به من هو مؤمن في الحقيقة وجب أن يعتبر اتفاق العلماء والعامة
قلنا قد بينا أنه جعل البعض تابعا والبعض متبوعا فيجب أن يكون المراد به علماء العصر
ومما يدل على أن الإجماع حجة قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فيجب أن يكون ما يأمرون به معروفا

وما ينهون عنه منكرا وعند المخالفين أنهم يأمرون بما ليس بمعروف وينهون عما ليس بمنكر
وأيضا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط العدل قال الشاعر ... هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ...

فعدلهم وجعلهم شهداء فدل على أن قبول قولهم واجب إذ لا يجوز أن يعدلهم
ويجعلهم شهداء على الناس ثم لا يكون قولهم حجة عليهم
فإن قيل إثبات العدالة لهم لا يدل على أنه لا يجوز عليهم الخطأ كما لا يدل على انه لا يجوز عليهم الصغائر
قلنا لم عد لهم وجعلهم شهداء دل على انى قولهم مقبول عليهم كما أنه لما عدل الشاهد في الحقوق وجعله شاهدا على المدعى عليه كان قوله حجة عليهم وإن لم يقتض تعديله رفع الصغائر عنه
فإن قيل المراد بها شهادة هذه الأمة على سائر الأمم يوم القيامة
قيل هذه عامة في الجميع فنحملها عليه
ويدل عليه من السنة ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تجتمع أمتي على ضلالة
وروى لا تجتمع أمتي على الخطأ
وقال لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ

وقال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح
وقال من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية
وقال من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
وروى أنه عليه السلام نهى عن الشذوذ وقال من شذ شذ في النار
وقال عليكم بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية من الغنم
وقال عليكم بالسواد الأعظم
وقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
وهذا كله يدل على صحة الإجماع ونفي الخطأ عنه
فإن قيل هذه أحاديث آحاد فلا يصح إثبات الإجماع بها وهو من مسائل الأصول
قيل هذا تواتر من طريق المعنى فإن ألفاظها وإن اختلفت فقد

اتفق الجميع على إيجاب المصير إلى الإجماع وعصمة الأمة من الخطأ وصار ذلك موجبا للعلم وبهذا الطريق علمنا شجاعة علي عليه السلام وسخاء حاتم وفصاحة الجاحظ فإن الأخبار قد كثرت عنهم في الدلالة على هذه المعاني فأوجب لنا العلم بتلك كذلك هاهنا
ولأنه لا يجوز أن تكون هذه الأخبار على كثرتها كلها كذبا كما أن الخلق العظيم إذا أخبروا عن اعتقاد الإسلام لم يجز أن يكونوا كلهم كفارا قد أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام بل يجب أن يكون فيهم من يصدق في خبره وكذلك هاهنا يجب أن يكون في جماعة هذه الأخبار الكثيرة خبر واحد صحيح وإذا ثبت صحة خبر منها وجب المصير إليه والعمل به
واحتجوا بقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ولم يأمر بالرد إلى الإجماع وعندكم يرد إلى إجماع من تقدم
قلنا الآية دلالة لنا لأنه شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود الشارع فدل على أن دليل الحكم عند عدم الشارع هو الإجماع إذ لا بد للحكم من دلالة
ولأن الرجوع إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة وقد بيناه
واحتجوا بما روي أن النبي عليه السلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولم يذكر الإجماع
والجواب هو أن هذا كان في زمان النبي عليه السلام ولا إجماع في زمانه فلهذا لم يذكره

واحتجوا بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وهذا يدل على جواز الضلال عليهم
والجواب أنا لا نعرف هذا الخبر فيجب أن يثبتوه ليعمل به
ولأنه يحتمل أن يكون خطابا لقوم بأعيانهم ويجوز الخطأ والضلالة عليهم
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه و سلم لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة
والجواب أنا نحمله على ما ذكرناه
واحتجوا بأنه اتفاق أمة فلم يكن حجة دليله اتفاق الأمم السابقة
والجواب أن من أصحابنا من لم يسلم هذا الأصل وقال إجماع الأمة وسائر الأمم السالفة سواء وهو اختيار أبي إسحق الإسفراييني رحمه الله
وإن سلمنا على قول غيره فالفرق بينهما هو أن عصمة الأمم طريقها الشرع والشرع لم يرد بعصمة سائر الأمم وورد الشرع بعصمة هذه الأمة ونفي الخطأ عنها على ما بيناه
ولأن النسخ في سائر الأديان يجوز فلم يحتج فيها إلى عصمة ولا يجوز ذلك في شريعتنا فإنها مؤبدة فعصمت أمتها ليرجع إليها عند الخطأ والنسيان وليحفظ به الشرع
قالوا ولأن الإجماع لا يتصور انعقاده لأنه لا يمكن ضبط أقاويل العلماء على تباعد البلاد وكثرة العلماء فإذا لم يتصور لم يجز الرجوع إليه

قلنا يمكن تصور ذلك بسماع أقاويل الحاضرين والنقل عن الغائبين كما يعرف اتفاق المسلمين على الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك في سائر البلاد على كثرة المسلمين وتباعد البلاد
ولأن الاعتبار في الإجماع بعلماء العصر وأهل الاجتهاد وهم كالأعلام في الاشتهار فيمكن معرفة أقاويلهم
ولأن عندهم إجماع الصحابة ليس بحجة وقد كان عددهم محصورا ومواضعهم معروفة وضبط أقاويلهم ممكن فدل على بطلان ما قالوه
قالوا ولأن ما وجب الحكم فيه بالدليل لم يجز الرجوع فيه إلى مجرد قول أهل العصر كالتوحيد
قلنا التوحيد لم يثبت عن أصل قبله والإجماع عرف ثبوته بأصل قبله فشابه النبي عليه السلام

مسألة 2
إجماع أهل كل عصر حجة
وقال داود إجماع غير الصحابة ليس بحجة
لنا قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ولم يفصل
وأيضا قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة ولم يفصل
ولأنه اتفاق علماء العصر على حكم النازلة فكان حجة قياسا على اتفاق الصحابة
ولأنه لما كان العصر الأول والثاني فيما ينقل من الأخبار سواء وجب أن يكونوا فيما يتفقون عليه من الأحكام سواء

واحتج المخالف بقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فخص الصحابة بذلك
والجواب أنا لا نسلم أن ذلك خطاب لهم خاصة بل هو خطاب لسائر المؤمنين كما كان قوله عز و جل وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وسائر ما ورد به الشرع من هذا الجنس خطابا لجميع المؤمنين
ويدل عليه هو أنه لا خلاف أن من لم يكن بلغ من الصحابة عند هذا الخطاب إذا بلغ تناوله الخطاب وإن لم يكن موجودا عند وروده
واحتج أيضا بأن عصمة الأمة طريقها الشرع لأن العقل يجوز الخطأ عليهم وقد ورد الشرع بعصمة الصحابة فبقى من عداها على الأصل
والجواب هو أن الدليل الذي اقتضى عصمة الصحابة اقتضى عصمة علماء سائر الأعصار وقد بيناه
واحتج أيضا بأن إجماع غير الصحابة لا يتصور لكثرة العلماء وتباعد هم وتعذر ضبط أقاويل الجميع فيجب أن لا يكون ذلك حجة
والجواب ما بيناه في المسألة قبلها

مسألة 3
إذا قالت الصحابة قولا وخالفهم واحد أو اثنان لم يكن ذلك إجماعا
وقال محمد بن جرير هو إجماع

لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وقد تنازعوا هاهنا فيجب الرد إلى الكتاب والسنة
ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خالف سائر الصحابة في قتال المرتدين فأقروه على ذلك ولم يقولوا أن قولنا حجة عليك بل ناظروه واستدلوا عليه بالسنة
وعبد الله بن العباس خالف الصحابة في خمس مسائل من الفرائض تفرد بها
وكذلك عبد الله بن مسعود ولم ينكر عليه بقية الصحابة فدل على ما قلناه
ولأنه لم يحصل اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة فلم يكن إجماعا دليله إذا خالف جماعة كبيرة
ولأن الإجماع طريقه الشرع والشرع ورد بعصمة جميع الأمة دون معظمها فوجب أن يجوز الخطأ عليهم
ولأن من قال إن خلاف الواحد والاثنين لا يعتد به لا ينفصل عمن قال خلاف الخمسة والعشرة لا يعتد به حتى يبلغ حد المساواة وإذا لم ينفصل بعضها عن بعض بطل الجميع
فإن قيل فيجب على مقتضى هذا الدليل أن لا يقدم الخبر المتواتر على خبر الواحد ويقال إن خبر الواحد والاثنين وما زاد إلى أن يبلغ حد التواتر كلها واحد لا ينفصل بعضها عن بعض ولما أجمعنا على فساد هذا دل على بطلان ما ذكروه
قيل فيما ألزمتم معنى يوجب الفصل بين العددين وهو أن ما بلغ حد التواتر يقع العلم عند سماعه ضرورة وأما دونه لا يقع العلم عند سماعه ضرورة وليس كذلك فيما اختلفنا فيه لأن جواز الخطأ على كل واحد من هذه الأعداد سواء فكان حكم الجميع واحدا

واحتجوا بقوله عليه السلام الاثنان فما فوقهما جماعة وبقوله عليه السلام الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
والجواب أن الخبر الأول إنما ورد في جماعة الصلاة ويدل عليه أن أحدا لا يقول إن إجماع الاثنين حجة
والخبر الثاني ورد في الأسفار بدليل أن أحدا كان لا يقول إن إجماع الاثنين حجة فدل على أن المراد به ما قلناه
واحتج أيضا بقوله عليه السلام عليكم بالجماعة وعليكم بالسواد الأعظم
والجواب هو أن المراد بذلك الأمة كلها فنحمله عليه بدليل ما ذكرناه
واحتجوا أيضا بأن الناس عولوا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الإجماع وقد خالفوه في ذلك علي وسعد ولم يلتفت إلى خلافهما
والجواب أنا لا نسلم أن عليا خالف في ذلك وأنكر ما قيل عنه إنه لم يحضر في الابتداء وليس من شرط الإجماع الحضور بل يكفي أن يسكت فيدل على الرضا
وأما سعد فإنه ما خالف ولكنه كان ظن أنه يعقد له الأمر فلما روى أبو

بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الأئمة من قريش سكت فأما أن يكون قد خالف في ذلك فلا
واحتج بأن خبر الجماعة مقدم على خبر الواحد فكذلك قول الجماعة مقدم على قول الواحد
والجواب أنه إن أردتم في ذلك الخبر المتواتر فذلك يوجب العلم ضرورة فكان مقدما على خبر الواحد وهاهنا الخطأ يجوز على كلا الفرقين على وجه واحد فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر
وإن أرادوا به أنه تعارض خبران من أخبار الآحاد فمن أصحابنا من لم يرجح لكثرة العدد وإن سلمنا لم يمنع أن يرجح الخبر بما لا ترجح به أقاويل المجتهدين
ألا ترى أن رواية الاثنين والأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقدم وقول الاثنين والأقرب لا يقدم في الاجتهاد
ولأن الأخبار طريقها الظن فما كان أقوى في الظن كان أولى وليس كذلك هاهنا فإن طريق الإجماع عصمة الأمة عن الخطأ والخطأ يجوز على الفريقين فاستويا يدلك عليه إن رواية الخمسة ورواية العشرة إذا تعارضتا قدمت رواية العشرة على الخمسة وفي الإجماع لا يقدم قول العشرة على الخمسة فافترقا

مسألة 4
إجماع أهل المدينة ليس بحجة
وروى عن مالك رحمه الله أنه قال إجماعهم حجة
لنا جميع ما ذكرناه في المسألة قبلها
ولأن الاعتبار بالعلم ومعرفة الأصول وقد استوى فيه أهل المدينة وغيرهم
ولأنه أحد الحرمين فلم يقدم إجماع أهله كإجماع أهل مكة

وأيضا هو أن هذا يؤدي إلى أمر محال وهو أن يكون قولهم حجة ما داموا بالمدينة فإذا خرجوا منها لم يكن حجة وهذا محال لأن من كان قوله حجة في مكان كان في سائر الأمكنة حجة كالنبي صلى الله عليه و سلم
واحتجوا بقوله عليه السلام المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ من الخبث فكان منفيا عن أهل المدينة
وقوله عليه السلام إن الإسلام يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها
وقوله عليه السلام لا يكايد أحد أهل المدينة إلا أنماع كما ينماع الملح في الماء
والجواب أن هذه الأخبار آحاد فلا يثبت بها أصل من أصول الدين
على أن قوله المدينة تنفي خبثها عام في الخطأ وغيره ونحمله على غير الخطأ
على أن قوله عليه السلام إن الإسلام يأرز إلى المدينة يقتضي جميع الإسلام وإذا حصل فيها جميع الإسلام صار إجماع أهلها حجة
وقوله عليه السلام لا يكايد أحد أهل المدينة الخبر فلا حجة فيه لأن المكايدة والمغايرة لا تستعمل في الإجماع والاختلاف فلا يدخل في الخبر ما نحن فيه
واحتجوا بأن المدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وموضع القبر والوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها

والجواب هو أن هذه دعوى لأنه يجوز مع وجود هذه المعاني أن يخرج الحق من أهلها
وعلى أن هذا يبطل بمكة فإنها موضع المناسك ومولد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومبعثه ومولد إسماعيل ومنزل إبراهيم عليه السلام ولا يدل ذلك على أن قول أهلها حجة
واحتجوا بأن رواية أهل المدينة تقدم على رواية غيرهم فكذلك قولهم يقدم على قول غيرهم
قلنا هذا أيضا دعوى لا دليل عليها ولا علة تجمع بينهما
ثم الترجيح في الأخبار لا يوجب الترجيح في أقوال المجتهدين
ألا ترى أن رواية الجماعة تقدم على رواية الواحد والجميع في الاجتهاد سواء
ولأن الأخبار تدرك بحاسة السمع فمن قرب منهم وشاهده كان أضبط وأهل المدينة أقرب منهم لما سمعوه وشاهدوه وأضبط والاجتهاد نظر القلب فلا يقدم فيه الأقرب ولهذا قال عليه السلام فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه فلا يقدم فيه قول الأقرب

مسألة 5
اتفاق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس بحجة
وقالت الرافضة هو حجة
لنا قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين فعلق الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فدل على أنه لا يتعلق ذلك بترك سبيل بعضهم
وأيضا قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وهذا يدل على أنه إذا ترك عليا عليه السلام وقلد غيره يكون مهتديا
فإن قيل هذا خبر واحد ونحن لا نقول به
قلنا نحن نبني على أصلنا فإن خبر الواحد حجة وإذا ثبت ذلك صح استدلالنا به
ويدل عليه هو أن عليا خالفته الصحابة في مسائل مشهورة لا تحصى كثيرة ولم يقل لأحد منهم إن قولي عليكم حجة فدل على ما ذكرناه

واحتجوا بقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ من الرجس فيجب أن يكونوا مطهرين منه
والجواب وهو أن أهل البيت يتناولون كل من في البيت من الأزواج ولا يقول أحد أن اتفاق الأزواج حجة فثبت أنه أراد نفي العار والقباحة عنهم دون الخطأ في الاجتهاد
فإن قيل المراد بأهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين
والدليل عليه ما روى أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي صلى الله عليه و سلم كساء على هؤلاء وقال هؤلاء أهل بيتي
والجواب هو أن هذا من أخبار الآحاد وعندهم لا يقبل كيف وهو مخالف لظاهر القرآن وذلك أن الله تعالى قال في أول الآية يا نساء النبي ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والظاهر أن المراد به من تقدم ذكره من الأزواج
ولأنه لو صح ما ذكروه لكان تأويل الآية ما قدمناه من نفي القبح عنهم
واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لم تضلوا كتاب الله وعترتي

والجواب ما بيناه أن هذا من أخبار الآحاد فلا يحتج به في مسائل الأصول
واحتجوا أيضا بأن أهل البيت اختصهم بأنهم من أهل بيت الرسالة ومعدن النبوة فاختصوا بالعصمة
قلنا ليس فيما ذكرتم ما يوجب لهم العصمة فبكم حاجة إلى إقامة الدليل على ذلك
ثم يبطل هذا بأزواج النبي صلى الله عليه و سلم فإنهن اختصصن بما ذكروه واختصصن بتضعيف الثواب على الطاعة وتضعيف العقوبة على المعاصي وسمعن من العلم ما لم يسمع غيرهن ولا يوجب ذلك عصمتهن في الأحكام فبطل ما قالوه

مسألة 6
لا يعتبر في صحة الإجماع اتفاق العامة
وقال بعض المتكلمين اتفاق العامة مع العلماء شرط في صحة الإجماع وهو قول أبي بكر الأشعري
وقال بعضهم يعتبر اتفاق الأصوليين
لنا هو أنه ليس من أهل الاجتهاد فلا يعتبر رضاه في صحة الإجماع كالصبي والمجنون
ولأنه لا يجوز تقليده في الحوادث فلا يعتد بخلافه دليله الصبي والمجنون
ومن قال إنه يعتبر اتفاق الأصوليين فالدليل عليه هو أن الأصوليين ليس هم من أهل الاجتهاد لأنهم لا يعرفون أحكام الفقه ومعانيها فهم كالعامة
واحتجوا بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على خطأ عن جميع الأمة والعامة من الأئمة
والجواب هو أنه عام فنخصه بما خصصنا به الصبي والمجنون
مسألة 7
يصح انعقاد الإجماع عن القياس
وقال ابن جرير وداود لا يجوز
فأما داود فقد بنى ذلك على أصله وأن القياس ليس بدليل والكلام معه يجيء إن شاء الله تعالى
وأما ابن جرير فالدليل على فساد قوله هو أن القياس علم على الأحكام فجاز أن ينعقد الإجماع من جهته كالكتاب والسنة
فإن قيل الكتاب والسنة طريقهما السمع فجاز اتفاق الجميع عليه والقياس طريقه الرأي ورأي الجماعة لا يتفق على معنى واحد فلم ينعقد الإجماع من جهته
قيل القياس وإن كان طريقه الرأي إلا أن على معانيه أمارات تدل عليه وما كان عليه أمارات يجوز اتفاق الكل عليه وإن كان طريقه الرأي
ألا ترى أن طلب القبلة طريقه الرأي والاجتهاد ثم يجوز اتفاق الجميع عليها لما كانت عليها أمارات تدل عليها كذلك هاهنا

ويدل عليه أن الناس اجمعوا على مسائل من جهة القياس فيمن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتال مانعي الزكاة قياسا على الصلاة ومثلا أن أبا بكر رضي الله عنه قال والله لا فرقت بين ما جمع الله قال تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأجمعوا على إمامة أبي بكر قياسا على تقديم النبي عليه السلام إياه في الصلاة ألا ترى أن عمر قال إن النبي صلى الله عليه و سلم قدمه في الصلاة التي هي عماد الدين فارضوه لدنياكم ما رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لدينكم
وأجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه
وأجمعوا على تقويم الأمة في العتق قياسا على العبد
وأجمعوا أيضا على إراقة الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة وكان مائعا وإلقائها وما حولها إذا كان جامدا قياسا على السمن وغير ذلك مما لا تحصى كثرته
فإن قيل يجوز أن يكونوا وجدوا فيه نصا
قلنا فيما رويناه عن الصحابة لم يحيلوا بالحكم إلا على القياس وقد بيناه ولو كان فيه نص لظهر وعرف ولما لم يظهر دل على أنه لا نص فيه
واحتجوا بأنه ما من عصر إلا وفيه قوم من نفاة القياس فلا يتصور إجماعهم من جهة القياس
قلنا نحن لا نسلم ذلك فإنه لم يكن في عصر الصحابة من ينفي القياس وإنما حدث هذا الخلاف بعد ذلك
ولأن هذا يبطل بأخبار الآحاد فإن الخلاف في ردها ظاهر والمخالف فيها يرجع إلى شبهة يرويها عن السلف ثم ينعقد الإجماع من جهتها
واحتجوا بأن ما طريقه الظن لا يجوز أن تتفق الخواطر المختلفة والآراء المشتبهة عليه كما لا يجوز أن يتفق الجميع على شهوة واحدة وغرض واحد

والجواب هو أن هذا يبطل بخبر الواحد فإن تعديل الراوي وتزكيته طريقه الظن ثم يجوز اتفاق الجميع عليه
ولأنه إذا جاز اتفاق الجم الغفير والعدد الكثير من جهة شبهة وهم اليهود والنصارى على كثرتهم على دين استحسنوه فلأن يجوز اتفاق الجماعة من جهة الأمارة أولى
ويفارق هذا ما قالوه من الأغراض والشهوة لأنه ليس هناك ما يجمعهم على واحد لأن طباع الناس مختلفة وليس كذلك هاهنا فإن على الحكم أمارة تجمعهم عليه ودلالة تدلهم إليه فهو بمنزلة جواز اتفاقهم على حضور الأعياد والجمع وتجهيز الجيوش في وقت بعينه إلى جهة بعينها
قالوا القياس تغمض طريقه وتدق فلا يجوز أن يتفق الكل على إدراكه
قيل إدراك الحكم من جهة القياس أسهل من إدراكه من جهة النص لأن المعول فيه على ما يقتضيه الفهم أقرب إلى الإدراك مما يقتضيه النص
ثم هذا يبطل بالأخبار واستعمالها وترتيب بعضها على بعض فإنها تغمض وتدق ثم يجوز اتفاق الإجماع من جهتها والله الموفق للصواب

مسألة 8
انقراض العصر ليس بشرط في صحة الإجماع في أصح الوجوه
ومن اصحابنا من قال هو شرط
ومن أصحابنا من قال إن كان قولا من الجميع لم يشترط فيه انقراض العصر وإن كان قولا من بعضهم وسكوتا من الباقين اشترط فيه انقراض العصر
فوجه الأول قوله تعالى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم ولم يفرق بين أن ينقرض العصر عليه وبين أن لا ينقرض

وأيضا قوله عليه السلام أمتي لا تجتمع على الخطأ ولم يفصل
ولأنه حصل اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة وكان ذلك جهة دليله إذا انقرض العصر عليه
ويدل عليه هو أن اعتبار انقراض العصر عليه يؤدي إلى إبطال الإجماع لأن العصر الأول لا ينقرض حتى يلحق به قوم من أهل العصر الثاني وهم من أهل الاجتهاد فيعتبر رضاهم فيما أجمعوا عليه ثم لا ينقرض هؤلاء حتى يلحق بهم آخرون من العصر الثالث وعلى هذا أبدا يتسلسل ولا يستقر الإجماع في مسألتنا
ولأن كل من جعل قوله حجة لم يشترط موته في كونه حجة دليله النبي عليه السلام
واحتج من قال بالوجه الثاني بقوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس فلو لم يشترط فيه انقراض العصر لكانوا شهداء على أنفسهم وهذا خلاف الظاهر
والجواب أن هذا يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم وعلى غيرهم لأنهم من الناس كما أن غيرهم من الناس
ولأنه قد قيل إن المراد بهذه الآية شهادة هذه الأمة على سائر الأمم يوم القيامة فلا تكون فيها حجة
واحتج أيضا بما روي عن النبي عليه السلام قال لا يخلو عصر من قائم لله بحجة فدل على أن بعض العصر يخلو عن ذلك
والجواب هو أن لا نعرف هذا الحديث فيجب أن يثبتوه ليعمل به
وجواب آخر وهو أنا نقول بنطقه وأن العصر لا يخلو من قائم لله تعالى بحجة ويترك دليله ببعض ما ذكرناه فإنه أقوى منه

واحتج أيضا بأن الصحابة رضي الله عنهم رجعت عن أقاويلها بعد اتفاقهم
ألا ترى أن عليا عليه السلام قال اجتمع رأبي ورأيي الجماعة أن أمهات الأولاد لا يبعن ثم إني رأيت أن يبعن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
والجواب أن الصحيح من هذا الخبر أنه قال كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما أن لا يبعن أمهات الأولاد وهذا ليس بإجماع
قالوا ولأن من جعل في قوله حجة لم يستقر إلا بموته كالنبي عليه السلام
قلنا جعلنا قول النبي عليه السلام حجة لنا على ما بيناه وإنما لم يستقر إلا بموته لأنه إذا نسخ ما قاله لم يؤد إلى الخطأ فيما قاله وليس كذلك هاهنا فإن رجوع المجمعين عما قالوه يؤدي إلى الخطأ فيما أجمعوا عليه وذلك لا يجوز
ومن قال بالوجه الثالث احتج بأن المجتهد قد سكت لأنه في رواية النظر والفكر وإذا أظهر الخلاف علمنا أنه لم يكن إجماعا وإذا مات قبل إظهار الخلاف علمنا أنه راض بقولهم فانعقد الإجماع
قلنا فيجب على هذا إذا مات في الحال أن يجوز لغيره الرجوع عما أفتى به مع الجهالة لأنا لا نعلم حصول الإجماع ولما ثبت أنه لا يجوز لأحد الرجوع عما أفتى به مع الجماعة دل على أن الإجماع قد حصل بسكوته فصار بمنزلة ما لو أفتى معه

مسألة 9
إذا اختلفت الصحابة في الحادثة على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لم تصر المسألة إجماعا في قول عامة أصحابنا
وقال أبو علي بن خيران وأبو بكر القفال يصير إجماعا ويسقط القول الآخر وهو قول المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة
لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ولم يفرق بين أن يجمع التابعون بعد ذلك أو لم يجمعوا
وقوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولم يفرق

ولأن اختلاف الصحابة في المسألة على قولين إجماع منهم على تسويغ الاجتهاد وجواز تقليد كل واحد من الفريقين وإقراره عليه فلم يجز للتابعين إبطال هذا الإجماع كما لو أجمعوا في الحادثة على قول واحد ولا يلزم على هذا إذا اختلف الصحابة في الحادثة على قولين ثم أجمعوا على أحد القولين
فأما إذا قلنا إن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع لم نسلم أن هناك إجماعا
وإن قلنا انقراض العصر ليس بشرط لم نسلم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد الاختلاف
فإن قيل لا يمتنع أن يتفقوا على تسويغ الاجتهاد بشرط أن لا يظهر إجماع فإذا ظهر إجماع سقط ذلك الاتفاق كما أنهم اتفقوا على أن فرض العادم للماء التيمم ما لم يجد الماء فإذا وجد الماء زال ذلك الاتفاق
قلنا هذا لا يشبه ما ذكرناه وذلك أن إجماعهم فيما ذكروه مشروط بعدم الماء فلهذا زال بوجوده وليس كذلك هاهنا فإنهم أجمعوا على تسويغ النظر على الإطلاق من غير شرط فهو بمنزلة إجماعهم على قول واحد فلا يجوز أن يزول ذلك بإجماعهم بعده ولا بخلاف بعده
ولأن زوال الإجماع برؤية الماء لا يوجب بطلان ما أجمعوا عليه والخطأ فيما اتفقوا عليه وفي مسألتنا إجماعهم على أحد القولين يوجب بطلان ما أجمعوا عليه والخطأ على أهل الإجماع لا يجوز فافترقا
وأيضا هو أنه لا خلاف أن الإجماع إذا حصل واستقر لم يتغير باختلاف كذلك إذا حصل الخلاف واستقر وجب أن لا يتغير بالإجماع
فإن قيل إنما لم يجز أن يتغير الإجماع باختلاف لأنه يؤدي إلى إبطال الإجماع

قلنا وفي مسألتنا متى جوزنا أن يتغير ما اختلفوا فيه بالإجماع أدى إلى إبطال الإجماع فإنهم أجمعوا على تسويغ الاجتهاد وجواز تقليد الفريقين وهذا الإجماع يبطل ما أجمعوا عليه وذلك لا يجوز
ولأن كل واحد من الفريقين كالأحياء الباقين في كل عصر ولهذا تحفظ أقوالهم وتنقل ويحتج لهم وعليهم فإذا كانوا بمنزلة الأحياء وجب أن لا ينعقد الإجماع مع اختلافهم
فإن قيل لو كانوا كالأحياء لوجب أن لا ينعقد الإجماع بعد موتهم في شيء من الحوادث لأنه لا تعرف فيه أقوالهم ولوجب أن يجوز تقليدهم كما يجوز تقليد الأحياء
قيل هم كالأحياء فيما أفتوا به فأما فيما لم يفتوا به وحدث بعدهم فلا وهذا كما نقول أنهم أجمعوا على قول واحد ثم ماتوا عمل بأقوالهم بعد الموت ووجب المصير إليه كما لو كانوا أحياء فأفتوا بذلك لم يجعلوا كالأحياء فيما يحدث بعدهم من الحوادث فكذلك فيما اختلفوا فيه مثله
ولأن هذا الحكم كان يسوغ فيه الاجتهاد ولا يجوز نقض الحكم على من حكم به من العصر الأول فإذا صح الإجماع بعد ذلك صار مما لا يسوغ فيه الاجتهاد ووجب نقض الحكم على من حكم به بخلاف الإجماع وهذا نقض بعد انقطاع الوحي فذلك لا يجوز
ولأنه اختلاف حصل من الصحابة رضي الله عنهم فلا يزول ذلك بإجماع التابعين كما لو اختلفت الصحابة على قولين وأجمع التابعون على قول ثالث
ولأنه لو كان إجماع التابعين على أحد القولين يسقط ما تقدم من الخلاف

لوجب أن ينتقض كل حكم حكم به في عهد الصحابة رضي الله عنهم بخلافه لأنهم مقطوع ببطلانه فإن ارتكبوا هذا وقالوا إنه ينتقض فقد أبطلوا وذلك أن الصحابة أجمعت على صحة ذلك ونفوذه وكل حكم أجمعت الصحابة عليه لم يجز للتابعين الإجماع على خلافه كسائر الأحكام التي أجمعوا عليها
وأيضا فإن هذا يؤدي إلى أن يكون قد ذهب أهل العصر الأول إلى ما نوجب في هذا الحكم من القطع وهذا لا يجوز
واحتجوا بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ولم يفصل بين أن يتقدم إجماعهم خلاف أو لا يتقدم
والجواب هو أن هذا مشترك الدلالة وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز الاجتهاد في الحادثة وجواز تقليد كل واحد من الفريقين فمن قطع الاجتهاد فيه فقد ترك سبيل المؤمنين وكان الوعيد لاحقا به
ثم هي عامة فنخصها بما ذكرناه
واحتجوا بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة
والجواب عنه ما مضى على الآية
قالوا ولأنه اتفاق من علماء العصر على حكم الحادثة فوجب أن يكون حجة مقطوعا بها
دليله إذا لم يتقدم خلاف
قلنا لا نجوز اعتبار ما يتقدمه الخلاف بما لا يتقدمه الخلاف
ألا ترى أن الاختلاف فيما لم يتقدمه إجماع جائز ولا يجوز ذلك فيما يتقدمه

إجماع فكذلك لا يمتنع أن يجوز الإجماع فيما لم يتقدمه خلاف ولا يجوز ذلك فيما تقدمه خلاف
ولأن المعنى في الإجماع الذي لم يتقدمه خلاف أنه اتفاق لا يؤدي إلى إبطال إجماع قبله وفي مسألتنا اتفاق العصر الثاني يؤدي إلى إبطال الإجماع قبله فصار كما لو أجمع الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على غيره
قالوا ولأنه إجماع تعقب خلافا فأسقط حكم الخلاف كما لو اختلفت الصحابة ثم أجمعوا وذلك مثل اختلافهم في قتال مانعي الزكاة ثم إجماعهم عليه
والجواب أن على قول من لم يعتبر انقراض العصر في صحة الإجماع لا نسلم الأصل فإنهم إذا اختلفوا لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين
وأما قصة مانعي الزكاة فلم يحصل فيه اختلاف في الحقيقة وإنما كانوا في طلب الدليل ومهلة النظر ولم ينقل بينهم فيه خلاف
ومن قال إن انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع أسقط الاختلاف بالإجماع وفرق بين الموضعين فإنهم إذا أجمعوا بعد الخلاف صارت المسألة على قول واحد فيسقط القول الآخر لأن القائل به قد رجع عنه وأقر ببطلانه وليس كذلك هاهنا لأنهم إذا ماتوا على اختلاف كان قول المخالف منهم باقيا وهو كالحي القائم فلم يجز إسقاطه بالإجماع بعده
ولأن الصحابة لو أجمعت على أمر جاز أن يختلفوا فيه كما قال علي عليه السلام كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر ورأي الجماعة أن لا تباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن ولو أجمعت الصحابة على قول ثم أراد التابعون الاتفاق على خلافه لم يجز فافترقا
قالوا ولأن الإجماع حجة والاختلاف ليس بحجة فلم يترك ماهو حجة بما ليس بحجة كالكتاب والسنة

قلنا لا نسلم أن الإجماع بعد الخلاف حجة وإنما يكون حجة إذا لم يتقدم خلاف وهذا كما نقول في القياس أنه حجة إذا لم يعارضه نص فأما إذا عارضه نص لم يكن حجة كذلك هاهنا
على أنه إن كان ما حصل من الإجماع حجة فما تقدم من الاختلاف حجة في جواز الاجتهاد والأخذ بكل واحد من القولين وليس لهم مراعاة أحد الإجماعين إلا ولنا مراعاة الآخر وما قلنا أولى لأن إجماع العصر الأول حجة على العصر الثاني والثاني لا يكون حجة على العصر الأول
قالوا ولأن كل حكم لا يجوز لعامة عصر التابعين العمل به لم يجز لمن بعدهم العمل به كالمنسوخ من أحكام الشرع
قلنا لا نسلم الوصف فإن من استفتى منهم الصحابة يجوز له العمل به في عصر التابعين ثم نعارضهم بمثله فنقول كل حكم جاز لعامة عصر الصحابة العمل به جاز لعامة عصر التابعين العمل به دليله إذا لم يجمع التابعون على أحد القولين
قالوا ولأنه إذا تعارض خبران ثم اتفق أهل عصر على ترك أحدهما والقول بالآخر سقط المتروك منهما وكذلك هاهنا إذا اتفق أهل العصر الثاني على ترك أحد القولين والعمل بالآخر وجب أن يسقط المتروك منهما
قلنا إنما يسقط المتروك من الخبرين لأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العصر قبله وليس كذلك المتروك من القولين فإنه قد صار إليه أحد فريقي الصحابة فجاز الأخذ به فوزانه من الخبر أن يذهب إلى كل واحد منهما فريق من الناس فلا يجوز إسقاطه بالإجماع بعده
ولأن الخبرين وردا ممن يصح منه نسخ أحدهما بالآخر فإذا اجتمع الناس على ترك أحدهما علمنا بأنهم علموا نسخه من جهته وليس كذلك القولان لأنهما وردا من طائفتين لا يصح نسخ قول أحدهما بالآخر فلا يصح إسقاط أحدهما بالآخر وبالله التوفيق

مسألة 10
إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد اعتبر رضاه في صحة الإجماع
ومن أصحابنا من قال لا اعتبار به ولا يعتد بخلافه معهم
لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ولم يأمرنا بالرجوع إلى أقاويل الصحابة
ولأنه من أهل الاجتهاد وقت الحادثة فاعتبر رضاه في صحة الإجماع كأصاغر الصحابة رضي الله عنهم
ولأن الاعتبار بالعلم لا بالصحبة بدليل أن من ليس من أهل العلم لم يعتبر قوله في صحة الإجماع ولهذا قال عليه السلام نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه

منه وإن كان الاعتبار بالعلم وجب أن يعتد بخلاف التابعي ووفاته لأنه عالم
واحتجوا بأن عليا عليه السلام نقض الحكم على شريح حين قضى بين ابني عم أحدهما أخ لأم وجعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم
ولأن عائشة رضي الله عنها أنكرت على أبي سلمة حين خالف ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وقالت مثلك مثل الفروج يسمع الديكة تصيح فصاح لصياحها
والجواب أن حديث علي عليه السلام حجة عليهم فإنه ولاه القضاء ورضي به في الاجتهاد فدل على أنه من أهله
وأما نقض الحكم عليه فيجوز أن يكون لأنه انعقد عليه إجماع قبل أن يصير شريح من أهل الاجتهاد فلا يعتد بقوله فيه ولهذا لا يخرج عن كونه مساويا لهم في الاجتهاد فيما يحدث من الحوادث

وأما عائشة فقد خالفها أبو هريرة فإنه روي أنه قال في هذه القضية قولي فيها مثل قول ابن أخي ابي سلمة فأقره على الخلاف
وعلى أنه ليس في قولها ما يدل على أنه لا يعتد بخلافه ويجوز أن يكون قد رفع صوته على ابن عباس وادعى منزلته وطلب مساواته فأنكرت عائشة عليه ذلك
واحتجوا أيضا بأن الصحابة أعلم بالأحكام من التابعين فإنهم شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا المقاصد والأغراض فكانوا مع التابعين بمنزلة العلماء مع العامة
والجواب هو أنا لا نسلم أنهم أعلم بالأحكام والدليل عليه أن أنسا كان يحيل بالمسائل على الحسن البصري
وابن عمر كان يحيل بالمسائل على ابن المسيب
وروي عن ابن عمر أنه قال في سعيد هو والله أحد المفتين
ولهذا قال النبي عليه السلام رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه الخبر
وما ذكروه من الترجيح لا يمنع من مساواة التابعين لهم في الاجتهاد
ألا ترى أن من طالت صحبته من أكابر الصحابة وعلمائها لهم من المزية بطول الصحبة وقوة الآنسة بكرم النبي عليه السلام ما ليس لصغارها ومتأخريها ثم الجميع في الاجتهاد واحد فبطل ما قالوه
ولأن هذا الترجيح إنما كان يصح أن لو كانت الأحكام كلها مأخوذة من المسموع من رسول الله عليه السلام فأما إذا كان فيها ما يؤخذ من الكتاب وما يؤخذ من الأصول وما يؤخذ من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن لمن شهد النبي صلى الله عليه و سلم مزية على غيره

مسألة 11
إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز للتابعين إحداث قول ثالث
وقال بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة يجوز ذلك
لنا هو أن اختلافهم على قولين إجماع على أن كل قول سواهما باطل لأنه لا يجوز أن يفوتهم الحق فلو جوزنا إحداث قول ثالث لجوزنا الخطأ عليهم في القولين وهذا لا يجوز

وأيضا فإن التابعين أجمعوا على حصر الأقاويل وضبط المذاهب ولو جاز إحداث مذهب آخر لم يكن لضبط الأقاويل ولا حصر المذاهب معنى
واحتجوا بأن اختلافهم فيها على قولين يوجب جواز الاجتهاد فجاز إحداث قول ثالث كما لو لم يستقر الخلاف
والجواب هو أن اختلافهم في ذلك يوجب جواز الاجتهاد في طلب الحق من القولين فأما إحداث قول ثالث فلا وهذا كما لو أجمعوا في حادثة على إبطال حكم فيها فينقطع الاجتهاد في ذلك الحكم ثم لا يمنع ذلك من الاجتهاد فيها على غير ما أجمعوا على بطلانه كذلك هاهنا
ويخالف هذا إذا لم يستقر الخلاف لأن الإجماع قبل الاستقرار لا يمنع من الخلاف وبعد الاستقرار يمنع فكذلك الاختلاف مثله
واحتجوا أيضا بأنه يجوز إحداث دليل آخر لم يذكره الصحابة فكذلك يجوز إحداث قول آخر لم يقله الصحابة
قلنا ليس إذا جاز إحداث دليل آخر جاز إحداث قول آخر
ألا ترى أنهم لو أجمعوا على دليل واحد جاز إحداث دليل ثان ولا يجوز إحداث قول ثان
ولأن إحداث دليل ثالث يؤيد ما استدل به الصحابة وإحداث قول ثالث يخالف ما أجمعوا عليه فافترقا
واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين على قولين فجاء ابن سيرين فأحدث قولا ثالثا فقال في امرأة وأبوين يقول ابن عباس وفي زوج وأبوين بقول سائر الصحابة وأقره الناس على هذا الخلاف

والجواب هو أنا لا نقره على ذلك بل نجعله محجوجا بإجماع الصحابة فلا يقبل منه هذا القول
وجواب آخر وهو أن ابن سيرين عاصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد وخلاف التابعين في قول بعض أصحابنا يعتد به مع الصحابة إذا عاصرهم وهو من أهل الاجتهاد وعلى الوجه الذي يعتبر انقراض العصر في صحة الإجماع

مسألة 12
إذا اختلفت الصحابة في مسألتين على قولين فذهبت طائفة منهما إلى حكم واحد وصرحت بالتسوية بينهما وذهبت الطائفة الأخرى إلى حكم آخر وصرحت بالتسوية بينهما فهل يجوز لمن بعدهما أن يأخذ بقول أحدهما في مسألة وبقول الآخر في المسألة الأخرى فيه وجهان
أحدهما لا يجوز
والثاني يجوز
ووجه الأول هو أن هذا إحداث قول ثالث لأن الجميع أجمعوا على التسوية بينهما وهذا التفصيل يمنع من التسوية فكان ذلك بمنزلة ما لو أجمعوا على قول واحد فلا يجوز إحداث قول ثان
ووجه الآخر أنهم لم يجمعوا على التسوية بين المسألتين في حكم واحد وإنما سووا بينهما في حكمين مختلفين فجاز لمن بعدهما الأخذ بالتفصيل
والجواب هو أنه وإن كان ذلك في حكمين إلا أن الإجماع قد حصل على التسوية بينهما فكان التفريق بينهما مخالفا للإجماع
مسألة 13
إذا قال الصحابي قولا وظهر ذلك في علماء الصحابة وانتشر ولم يعرف له مخالف كان ذلك إجماعا مقطوعا به

ومن أصحابنا من قال هو حجة وليس بإجماع
وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان ذلك حكما من حاكم منهم ولم يكن ذلك إجماعا
وقال القاضي أبو بكر الأشعري ليس بحجة أصلا وهو مذهب داود
لنا هو أن سكوتهم دليل على الرضا بما قاله والدليل عليه هو أن العادة أن النازلة إذا نزلت فزع أهل العلم إلى الاجتهاد وطلب الحكم وإظهار ما عندهم فيها فلما لم يظهر خلاف ذلك مع طول الزمان وارتفاع الموانع دل على أنهم راضون بذلك فصار بمنزلة ما لو أظهروا الرضا بالقول والفعل

وأما الدليل على بطلان قول من قال إنه حجة وليس بإجماع فهو أن سكوتهم لا يخلو إما أن يكون دليلا على الرضا فيجب أن يصير إجماعا أو لا يكون ذلك دليلا على الرضا فيجب أن لا يكون حجة وإما أن يكون حجة ولا يكون إجماعا فلا معنى له
واحتجوا بأن سكوتهم لا يدل على الرضا لأنه يجوز أن يكونوا لم يجتهدوا أو اجتهدوا ولم ينته نظرهم أو لم يظهر الخلاف لهيبة القائل كما قال ابن عباس في خلاف عمر في العول هبته وكان أمرا مهيبا أو لاعتقادهم بأن كل مجتهد مصيب وإذا احتمل هذه الوجوه لم يجز أن يحمل سكوتهم على الرضا والموافقة
والجواب هو أنه لا يجوز ترك الاجتهاد لأن العادة نظر الناس في الحادثة عند حدوثها إذ لا مانع لهم من ذلك فلا يجوز دعوى خلاف العادة ولا ترك الاجتهاد لأنه يؤدي إلى محال وذلك أنه إذا أخطأ المجتهد منهم وترك الباقون الاجتهاد فقد أخطأ الجميع وخلا العصر عن الحق وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله تعالى بحق
ولا يجوز أن لا يظهروا الخلاف لأن ذلك أيضا خلاف العادة
ولا يجوز أن يكونوا في مهلة النظر لأن ذلك لا يمتد إلى أن ينقرض العصر
ولا يجوز أن لا يظهروا الخلاف للهيبة لأن الهيبة لا تمنع إظهار الخلاف في الأحكام ولهذا ردت امرأة على عمر رضي الله عنه في المغالاة في الصداق فقالت أيعطينا الله وتمنعنا يا ابن الخطاب وروي انها قالت يا عمر قال الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر رضي الله عنه امرأة خاصمت عمر فخصمته

وقال عبيدة السلماني لعلي عليه السلام رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك وغير ذلك من المواضع التي أظهروا فيها الخلاف ولم يحتشموا القائل
وأما ابن عباس فقد أغلظ في الإنكار وشدد في القول فروي أنه قال أول من أعال الفرائص عمر رضي الله عنه وأيم الله لو قدم من قدمه الله وأخر من أخره الله لما عالت فريضة قط قال له زفر بن قيس ما منعك أن تشير بهذا على عمر فقال هبته وكان أمرا مهيبا ومثل هذا الإنكار إنما هابه أن يواجهه به لا سيما وابن عباس كان صغير السن وهو أيضا من أصحابه
ولأنه لو كان لا يظهره للهيبة لأظهره بعد ذلك كما أظهر ابن عباس رضي الله عنه
ولا يجوز أن يكون لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب لأنه لم يكن في الصحابة من يذهب إلى هذا بل كان مذهبهم أن الحق في واحد ولهذا خطأ بعضهم بعضا
ولأن العادة مع هذا الاعتقاد إظهار الخلاف فدل على بطلان ما قالوه
واحتج أبو علي بن أبي هريرة بأنه إذا كان ذلك قضاء من حاكم لم يدل السكوت على الرضا لأن في الإنكار افتياتا عليه
ولأنا نحضر مجالس الحكام فنراهم يقضون بخلاف مذاهبنا فلا ننكره ولا يدل ذلك على الرضا
والجواب هو أن العادة قد جرت عند الحكام إظهار الخلاف والذي يدل عليه أن الصحابة قد كان يحضر بعضهم بعضا عند الحكم فينكر ما يحكم إذا كان مخالفا لما يعتقده
وأما سكوتنا عن إظهار الخلاف عند الحاكم فلأن الخلاف قد ظهر وعرف فلا يعاد اكتفاء بما تقدم ولهذا نحضر مجالس الفقهاء أيضا فنراهم يفتون بمذاهبهم فلا ننكر ولا يدل ذلك على أن السكوت عند الفتيا يدل على الرضا ولكنا نسكت عن الخلاف اكتفاء بما عرف من الخلاف المتقدم وأما عند نزول النوازل فلا بد من إظهار الخلاف من طريق العادة فبطل ما قالوه

مسألة 14
إذا قال الصحابي قولا ولم ينتشر لم يكن ذلك حجة ويقدم القياس عليه في قوله الجديد
وقال في القديم هو حجة يقدم على القياس ويخص العموم به وهو قول مالك وأحمد وإسحق وهو مذهب أبي علي الجبائي
لنا أنه قول ممن يقر على الخطأ فلا يجوز ترك القياس له
دليله قوله التابعي
ولأن التابعي والصحابي متساويان في آلة الاجتهاد وجواز الخطأ على كل واحد منهما فلا يجوز لأحدهما ترك اجتهاده لقول الآخر كالصحابيين والتابعيين

ولأن القياس دليل على الحكم من جهة الشرع فكان مقدما على قول الصحابي دليله الكتاب والسنة
ولأن ما قضى به على عموم القرآن كان مقدما على قول الصحابي
دليله خبر الواحد
ولأنه قياس فقدم على قول الصحابي كالقياس الجلي
ولأنه لو كان قوله يقدم على القياس لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا أو ينسخ أحدهما بالآخر كما يفعل في نصين متعارضين
واحتجوا بقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإذا كان ما يأمرون به معروفا وجب المصير إليه
قلنا هذا أخبار عن جماعتهم وما تأمر به الجماعة عندنا يجب قبوله وإنما الخلاف فيما انفرد به الواحد منهم
واحتجوا بقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
والجواب أنا نشاركهم في الاستدلال بهذا لأن الاقتداء بهم أن نعمل بمقتضى الاجتهاد ونفزع في الحوادث إلى القياس كما فعلوا وهذا يمنع من التقليد
ولأن هذا خطاب للعامة لأن العلماء في زمن النبي عليه السلام أصحابه ولا يجوز أن يأمر أصحابه بتقليد غيرهم فيجب أن يكون ذلك أمرا للعامة بتقليدهم
واحتجوا أيضا بأن الصحابي إن كان قد أفتى عن توقيف كان حجة

وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى لأنه شاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع كلامه فكان أعرف بمعانيه وما قصده فكان بمنزلة العالم مع العامي
قلنا أما دعوى التوقيف فلا تجوز من غير دليل بل الظاهر أنه أفتى من غير توقيف لأنه لو كان عن توقيف لرواه في هذه الحالة أو في غيرها من الأحوال
وأما دعوى قوة الاجتهاد فلا تصح لأنه يجوز أن يسمع من النبي عليه السلام ويكون غيره أعلم بمعانيه وقصده ولهذا قال عليه السلام نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمع فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
ولأنه يحتمل أن يكون أخذ حكم الحادثة من القرآن أو سمعه من غير رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون هو والتابعي فيه واحد فلا يكون من هو أقوى فيه من غيره
ولأنه لو كان صحيحا لوجب أن يجب على من لم تطل صحبته أن يقلد من طالت صحبته لقوة الأنس بكلام النبي عليه السلام ومعرفة قصده ولما لم يجب ذلك دل على بطلان ما اعتمدوه
واحتجوا بأنه صحابي فجاز تقليده دليله إذا كان مع قوله قياس ضعيف
والجواب هو أنا لا نسلم هذا الأصل فإن القياس مقدم عليه وإن عاضد قوله قياس ضعيف
قالوا ولأن قوله لو انتشر لوجب العمل به فقدم على القياس كخبر الواحد
قلنا هذا يبطل بقول التابعي فإنه لو انتشر لوجب العمل به ثم لا يقدم من غير انتشار على القياس
وعلى أنه لو كان هذا بمنزلة الخبر لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا أو ينسخ أحدهما بالآخر كالخبر إذا عارضه خبر

ولأن الخبر إذا قابله القياس الجلي قدم الخبر عليه ولو قابل قول الصحابي قياس جلي قدم القياس عليه فدل على الفرق بينهما
قالوا ولأن قول الصحابي والقياس جنسان يترك أقواهما لأقوى الآخر فيترك أضعفهما لأضعف الآخر كالسنة والقياس
قلنا يبطل هذا بقول التابعي مع القياس فإن أقواهما يترك لأقوى الآخر وأضعفهما لا يترك لأضعف الآخر
ثم الخبر لو عارضه أقوى القياسين لأسقطه ولو عارض قول الصحابي أقوى القياسين قدم القياس عليه فإذا عارضه أضعفهما قدم عليه

مسألة 15
إذا قال واحد من الصحابة قولا يخالف القياس لم يجعل ذلك توقيفا ويقدم القياس عليه
وقال أصحاب أبي حنيفة هو حجة يصير كالسنة المستندة إلى النبي عليه السلام ويقدم على القياس
لنا هو أن الصحابي غير معصوم فيجوز أن يكون قد قاله عن توقيف ويجوز أن يكون قد ذهب فيه إلى اجتهاد بعيد فلا يجوز إثبات السنة بالشك
ولأنه لو ثبت بقوله سنة لثبت ذلك بقول التابعي ولما لم يثبت بقول التابعي لم يثبت أيضا بقول الصحابي
ولأن الظاهر أنه لم يقل ذلك عن سنة لأنه لو كان قد قاله عن سنة لأظهر ذلك عند الفتيا أو في وقت من الأوقات ولو فعل ذلك لعرف ولما لم يعرف ذلك بحال دل على أنه ليس عنده فيه سنة
ولأنه لو كان عن سنة لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا ويصير كالخبرين المتعارضين ولما قدم الخبر عليه دل على بطلان ما ذكروه
واحتجوا بأن الظاهر أنه لم يعدل عن القياس مع الثقة به في معرفة القياس وطرقه إلا إلى سنة فوجب أن يجعل ذلك توقيفا عن النبي عليه السلام

قلنا إنما يصح هذا لو كان لا يجوز عليه الخطأ فأما إذا جاز عليه الخطأ احتمل أن يكون قد ذهب إلى سنة لا تدل على الحكم أو أخطأ فيه فلا يجوز أن يجعل قوله حجة
ولأنه لو جاز هذا في حق الصحابي لجاز في حق التابعين وسائر الفقهاء إذا رأينا الواحد منهم قد ذهب إلى خلاف القياس لجاز أن يحمل أمره في ذلك على أنه ذهب إلى سنة عن النبي عليه السلام صحت عنده
ولأنه يبطل به إذا عارضه نص فإن قوله يسقط وإن كان الظاهر ما ذكروه والله أعلم

مسائل التقليد
مسألة 1
التقليد في أصول الديانات لا يجوز
وقال بعض الناس يجوز ذلك وحكي ذلك عن عبد الله بن الحسن العنبري
لنا قوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فذم قوما قلدوا آباءهم في أديانهم فدل على أن ذلك لا يجوز
ولأن طريق معرفة الأصول العقل والعقلاء كلهم يشتركون في العقل فلا يجوز لبعضهم تقليد البعض
ولأنه فرض على كل أحد أن يعلم هذه الأصول ويقطع بها والعلم والقطع لا يحصل بقول المقلد فوجب أن لا يجوز فيه التقليد

واحتجوا بأنه إذا جاز التقليد في الفروع جاز في الأصول
وربما قالوا إن التقليد إنما جاز في الفروع لأن في معرفة أدلتها وطرقها مشقة وهذا المعنى موجود في معرفة أدلة الأصول ولعل في أدلة الأصول ما هو أغمض وأخفى من أدلة الفروع فيجب أن يجوز فيها التقليد
والجواب هو أن ما يتوصل به إلى معرفة الفروع هو العلم بطرق المسائل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس فلو ألزمنا الناس معرفة ذلك لأدى إلى الانقطاع عن المعاش وإلى أن ينقطع الحرث والنسل فجوز فيها التقليد وما يتوصل به إلى معرفة الأصول هو العقل والناس كلهم يشتركون في ذلك فلم يجز لهم التقليد فيه
ولأن الفروع طريقها الظن والظن يحصل بقول من يقلده والأصول طريقها العلم والقطع وذلك لا يحصل له بقول من يقلده فافترقا

مسألة 2
لا يجوز للعالم تقليد العالم
ومن الناس من قال يجوز ذلك وهو قول أحمد وإسحق
وقال محمد بن الحسن يجوز له تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله

لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول والرد إليهما لا يمكن فثبت أنه أراد به حكم الله ورسوله
فإن قيل تقليد العالم حكم الله لأنه أعلم بطريق الظن
قلنا إذا ترك ما يقتضيه ظاهر الكتاب وظاهر السنة وقلد غيره فقد ترك حكم الله تعالى ولم يعمل به فيجب أن لا يجوز
وأيضا قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولا علم للمقلد بما أفتى به العالم فيجب أن لا يقفه
وأيضا قوله عليه السلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له ولم يفصل
ولأن معه آلة يتوصل بها إلى حكم الحادثة فلا يجوز له التقليد فيه
دليله العقليات
ولا يلزم قبول قول النبي عليه السلام لأن ذلك ليس بتقليد لأن التقليد

قبول قول الغير حجة وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة
ولا يلزم عليه إذا حكم عليه الحاكم بشيء فإن ذلك أيضا ليس بتقليد لأنه لا يلزم أن يقبله ويعتقده وإنما يلزمه طاعته فيما لزمه وليس ذلك بتقليد
فإن قيل لا يمتنع أن يكون معه ما يتوصل به إلى المطلوب ثم يجوز له تركه إلى غيره
ألا ترى أن من قدر على سماع الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم يجوز له تركه والسماع ممن يخبره عنه
قلنا ليس هذا تركا لقول رسول صلى الله عليه و سلم وإنما ترك طريقا إلى غيره فهو بمنزلة المجتهد يلوح له دليل في المسألة يقتضي حكما شرعيا فيتركه إلى دليل آخر يقتضي ذلك الحكم فيجوز وفي مسألتنا يترك اجتهاده المقتضي لحكم إلى اجتهاد يقتضي حكما غيره فوزانه مما ذكروه أن يقدر على نص عن النبي عليه السلام فيتركه إلى حكم يخالفه فلا يجوز ذلك
ولأن الحكم بالتقليد يؤدي إلى إبطاله لأنه ينبغي أن يقلد من يمنع من ذلك ويحكم بإبطاله وما أدى إثباته إلى نفيه كان باطلا
وأما الدليل على أصحاب أبي حنيفة خاصة وأن ما لا يجوز له أن يقلد فيه مثله لم يجز له أن يقلد فيه من هو أعلم منه كالعقليات
ولا يلزم عليه العامي حيث لم يقلد مثله وقلد من هو أعلم منه لأن قولنا

من هو أعلم منه يقتضي أن يكون هو عالما وهذا لا يوجد في حق العامي
فإن قيل لو كان هذا كالعقليات لما جاز تقليد العامي فيها كما لا يجوز في العقليات
قلنا إنما استوى العامي والعالم في العقليات لأنهما متساويان في آلة الاجتهاد فيها وطلب الدليل عليها وفي الشرعيات العالم معه آلة الاجتهاد والعامي ليس معه ذلك فافترقا
فإن قيل طريق العقليات القطع واليقين فلا يجوز الرجوع فيها إلى اجتهاد الغير وليس كذلك هاهنا فإن الشرعيات طريقها الظن وظن الأعلم أقوى فجاز الرجوع إليه يدلك عليه أنه يجوز أن يقلد في الشرعيات ما يقتضي الظن من خبر الواحد والقياس ولا يجوز مثل ذلك في العقليات
قلنا لا نسلم أن ظن الأعلم أقوى بل ظن نفسه أقوى لأنه على علم وإحاطة من ظنه وليس على إحاطة من ظن الأعلم فلا يجوز أن يكون ما لم يحط به علمه أقوى مما أحاط به علمه ووقف عليه
ولأنه لا خلاف أنه يجوز له ترك قول الأعلم باجتهاده ومن جاز له ترك قوله باجتهاده لم يجز له ترك اجتهاده لقوله كالمجتهد في القبلة وعكسه قول الله تعالى وقول الرسول
واحتجوا بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا قبل أن يجتهد لا يعلم حكم الحادثة فجاز له أن يسأل
قلنا المراد بالآية العامة يدل عليه أنه أوجب السؤال والذي يجب عليه السؤال هو العامي وأما العالم فلا يجب عليه بالإجماع أن يسأل لأن له أن يجتهد لنفسه فيعمل باجتهاده ولا يسأل أهل الذكر
ولأنه أمر بسؤال أهل الذكر وهذا يقتضي أن يكون المخاطب بالسؤال غير أهل الذكر فيجب أن تكون الآية خاصة في العامة فلم يكن فيها حجة

ولأنا نشاركهم في الاستدلال بها لأنها تقتضي أنه إذا أفتاه العالم وهو لا يعلم ما اقتضى ذلك الحكم أن يسأله عن دليله في الخطاب وفي إيجاب ذلك إبطال التقليد
فإن قيل لا خلاف أن العامة داخلة في هذا الخطاب ولا يجب عليهم السؤال عن الدليل
قيل الظاهر يقتضي وجوب السؤال في حق الجميع لكنا تركنا وجوب السؤال في حق العامة للإجماع وبقي العالم على ظاهرها
واحتجوا بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولم يفصل
قلنا المراد بالآية الطاعة في أمور الدنيا والتجهيز والغزوات والسرايات وغير ذلك والدليل أنه خص به أولي الأمر والذي يختص به أولو الأمر ما ذكرناه من تجهيز الجيوش وتدبير الأمور
واحتجوا بقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ولم يفصل
الجواب أن المراد بذلك قبول الأخبار وما سمعوه من النبي صلى الله عليه و سلم فنحملها عليه أو نحملها على العامة بدليل ما ذكرناه
واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إلى التقليد ألا ترى أن عبد الرحمن لما بايع عثمان قال له عثمان أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله عليه السلام وسيرة الشيخين فقال له نعم فبايعه فدل على جوازه
وروي عن عثمان عليه السلام أنه قال رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فدل على جواز التقليد

قلنا المراد به سيرة الشيخين من حراسة الإسلام والذب عنه والاجتهاد فيه والذي يدل عليه هو أن سيرة الشيخين في أحكام الحوادث مختلفة فلا يمكن اتباعها فيه فدل على أن المراد به ما ذكرناه
ولأنه يحتمل أن يكون أن المراد به العمل بسيرتهما في الاجتهاد والبحث عن الدليل والحكم بما يقتضيه الاجتهاد على حسب ما فعلاه لا أنه يقلدهما في أعيان المسائل وتفاصيل الحوادث وحمله على هذا الاحتمال يبطل التقليد ويمنع منه فليس لهم أن يحملوا على أتباعهما في أعيان المسائل فيدل على جواز التقليد إلا ولنا أن نحمله على أتباعهما في البحث والاجتهاد فيدل على إبطال التقليد
وأما قول عمر رضي الله عنه في الجد اتبعوني فإنما أراد به اتباعه في الدليل كما يدعو بعضنا بعضا إلى ما يعتقده من المذاهب بالدليل دون التقليد
ولأن عليا عليه السلام خالفهم في ذلك لأنه قال لعبد الرحمن لما دعا إلى اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا إلا على جهدي وطاقتي
قالوا ولأنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد في الجملة فجاز فيه التقليد كما نقول في العامي
قلنا العامي لا طريق له إلى إدراك حكم الحادثة لأنه ليس معه آلة يتوصل بها إليه فلو ألزمناه معرفة ذلك لانقطع عن المعاش فكان فرضه التقليد وليس كذلك العالم لأن له طريقا يتوصل به إلى حكم الحادثة من جهة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كالعامي في العقليات

ولأن العامي لما جاز له التقليد وجب ذلك عليه ولو كان هذا العالم مثله للزمه التقليد
قالوا ولأن النبي عليه السلام يفتي بما أنزل عليه من القرآن وبما يدل عليه الاجتهاد وللعالم طريق إلى معرفة ذلك من طريق الاجتهاد ثم يجوز له ترك الاجتهاد والعمل بما سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم كذلك هاهنا مثله
قلنا لو كان بمنزلة ما سمعه من النبي عليه السلام لوجب أن لا يجوز له تركه بالاجتهاد كما لا يجوز له ترك قول النبي عليه السلام
ولأن قول النبي عليه السلام حجة مقطوع بصحتها لأنه إن كان عن وحي فهو مقطوع بصحته وإن كان عن اجتهاد فهو مقطوع بصحته أيضا لأنه لا يخطىء في قول بعض أصحابنا وفي قول البعض يجوز أن يخطىء ولكن لا يقر عليه فإذا أقر على قضية علمنا أنه حق وصواب فوجب المصيرإليها والعمل بها وليس كذلك ما يقضي به العالم لأنه لا يقطع بصحته فلم يجز للعالم ترك الاجتهاد له
قالوا إذا جاز تقليد الأمة فيما أفتوا به وإن لم يعلموا الطريق الذي أفتوا به فكذلك تقليد آحادها
قلنا إذا أجمعوا على شيء كان قولهم حجة لأن الدليل قد دل على نفي الخطأ عنهم فصار قولهم في ذلك كالكتاب والسنة وليس كذلك آحادهم لأن الخطأ عليهم جائز فلم يجز للعالم قبوله
قالوا ولأنه لو كان التقليد لا يجوز لجواز الخطأ على من يقلده لوجب أن لا يقبل خبر الواحد لجواز الخطأ على ناقله
قلنا خبر الواحد ظهر من غير نكير فهو بمنزلة قول واحد من الصحابة إذا انتشر من غير خلاف وفي مسألتنا اختلف الناس في المسألة وتعارضت فيها الأقوال

فوزانه مما ذكروه أن يروى خبران متعارضان فلا جرم أنه لا يجوز المصير إلى واحد منهما قبل النظر والاجتهاد
ولأنا لو أوجبنا عليه البحث عن الرواية وجهة سماعه حتى يساوي الراوي في طريقه لأدى إلى المشقة العظيمة وربما تعذر ذلك عليه بتعذر الطريق بينه وبين المروي عنه أو موته فسقط عنه ذلك كما سقط عن العامي الاجتهاد وليس كذلك هاهنا فإن العالم لا مشقة عليه في إدراك الحادثة باجتهاده والنظر فيها كما نظر المقلد فلزمه الاجتهاد والنظر
قالوا ولأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات كالجهاد ثم يجوز في الجهاد أن يتكل البعض على البعض إذا حصلت الكفاية فكذلك في الاجتهاد
قلنا لا نسلم أن مع الاختلاف كفاية وإنما الكفاية عند الاتفاق فيجوز فيه الاتكال وأما حال الاختلاف فلا كفاية فوزانه من الجهاد أن يضعف القيم منهم بأمر الحرب فلا يجوز للباقين الاتكال عليه بل يلزمهم قصد الجهاد
واحتج أصحاب أبي حنيفة بقصة أهل الشورى وأن عبد الرحمن دعا عليا عليهما السلام إلى تقليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب لأنه اعتقد أنه لا ينقص عنهما في العلم ودعا عثمان رضي الله عنه إلى ذلك فأجاب لأنه اعتقد أنه دونهما في العلم
والجواب عندنا ما مضى
قالوا اجتهاد الأعلم له مزية لكثرة علمه وحسن معرفته بطريق الاجتهاد واجتهاد من دونه له مرتبة من وجه آخر وهو أنه على ثقة وإحاطة من جهل الدليل وما يقتضي الحكم وليس على ثقة من اجتهاد الأعلم فإذا اجتمعا تساويا فيخير بينهما
قلنا هذا يبطل باجتهاد من طالت صحبته للنبي عليه السلام مع اجتهاد من لم تطل صحبته فإن من طالت صحبته له مزية بطول الصحبة وكثرة السماع

وطول الأنس بكلام النبي عليه السلام ثم لا يجوز لمن لم تطل صحبته أن يقلده إذا تساويا في العلم
ويبطل أيضا باجتهاد الصحابي والتابعي فإن للصحابي مزية بالصحبة ومشاهدة التنزيل ولا يجوز للتابعي تقليده إذا تساويا في الاجتهاد وكان أعلم منه
ولأنه إذا نظر في الدليل فأداه إلى حكم كان عالما بما يعمل به فإذا قلده كان جاهلا بما يعمل به فلا يجوز التسوية بينهما

مسألة 3
إذا نزلت بالعالم نازلة وخاف فوت وقتها لم يجز له تقليد غيره
وقال أبو العباس بن سريج يجوز
لنا هو أنه معه آلة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كما لو لم يخف الفوت
ولأن من لا يجوز له التقليد إذا لم يخف الفوت لم يجز له وإن خاف الفوت
دليله العقليات فإنه لو خشي أن أشتغل بالنظر أن يموت لم يجز له التقليد
ولأن اجتهاده شرط في صحة العبادة فلا يسقط بخوف فواتها كالطهارة للصلاة
واحتج المخالف بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا غير عالم فجاز له أن يقلد العالم
قلنا هذا خطاب للعامة ألا ترى أنه قال إن كنتم لا تعلمون والمراد به لا تعلمون طرق الاجتهاد لأنه ذكر البينات والزبر التي هي طرق الأحكام وهذا العالم يعلم البينات والزبر فلا يجوز له التقليد

واحتجوا بأنه لا يتوصل إلى معرفة النازلة من طريق الاجتهاد فهو كالعامي
قلنا لا نسلم أنه لا يتوصل لأنه إذا نظر وتأمل توصل إلى معرفة الحكم ويفارق العامي فإن العامي لا طريق له إلى ذلك
ألا ترى أنه لو كرر النظر ألف مرة لم يعرف الحكم من طريقه ولهذا نجوز له التقليد مع اتساع الوقت بخلاف العالم
واحتج بأنه مضطر إلى التقليد فإذا اجتهد فاتته العبادة وتأخرت وذلك لا يجوز
والجواب هو أنه إن كان ذلك مما يجوز تأخيره لعذر صار إشكال الحادثة عليه عذرا له في التأخير
وإن كان مما لا يجوز تأخيره كالصلاة أداها على حسب حاله ثم يعيد فلا ضرورة إلى التقليد

مسألة 4
يجوز للعامي تقليد العالم
وقال أبو علي الجبائي إن كان ذلك في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد جاز له وإن كان مما لا يسوغ فيها الاجتهاد لم يجز
وقال بعض المتكلمين لا يجوز حتى يعرف علة الحكم
لنا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
ولأنه ليس معه آلة الاجتهاد فجاز له التقليد قياسا على ما يسوغ فيه الاجتهاد
ولأنا لو ألزمناه معرفة الدليل لشق ذلك على الناس وانقطعوا عن المعاش وانقطع الحرث والنسل فوجب أن لا يلزمهم ذلك
واحتجوا بأن أكثر ما في هذا أن الأدلة تغمض عليه وتدق وهذا لا يبيح التقليد كما نقول في العقليات
والجواب أن في العقليات معه الآلة التي يتوصل بها إلى الأحكام وهي العقل وفي الشرعيات ليس معه آلة يتوصل بها إلى الأحكام فلو ألزمناه تعرف ذلك لأدى إلى المشقة فافترقا
واحتج أبو علي بأن ما كان فيه طريق مقطوع به لم يجز للعامي التقليد فيه كالعقليات
والجواب عنه ما قلناه
مسألة 5
يجوز للعامي تقليد من شاء من العلماء
وقال أبو العباس والقفال يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ولا يقلد إلا الأعلم الأدين
لنا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ولم يفصل
ولأن من جاز تقليده إذا كان منفردا جاز تقليده وإن اجتمع مع غيره كما لو كانا متساويين
ولأنا إنما جوزنا للعامي أن يقلد لأن في إيجاب معرفة العلم مشقة وإضرار وهذا المعنى موجود في إيجاب معرفة الأعلم
ولأن الناس يتفاوتون في الاجتهاد مع التساوي في الحفظ وقد يكون أحدهما أحفظ والآخر أعلم بالاجتهاد وفي معرفة ذلك مشقة فيجب أن لا يلزمهم
واحتجوا بأن هذا طريقه الظن والظن في تقليد الأعلم أقوى فوجب المصير إليه
والجواب أن هذا يوجب أن يتعلم الفقه ويعلم به لأن رجوعه إلى الاجتهاد أقوى ولما أجمعنا على أنه لا يجب ذلك دل على بطلان ما ذكروه
مسائل القياس
مسألة 1
القياس والاستدلال طريق لإثبات الأحكام في العقليات
وذهب بعض الناس إلى إبطال ذلك
لنا أنا نرى في مسائل الأصول مذاهب مختلفة وأقاويل متكافئة لا طريق إلى معرفة الصحيح منها من الفاسد إلا بالنظر والاستدلال فدل على أن ذلك واجب

فإن قيل يقلد فيها ولا يحتاج إلى النظر
قيل ليس تقليد أحد الخصمين بأولى من الآخر فوجب الرجوع فيه إلى النظر لأن المقلد فيه يجوز أن يكون صادقا ويجوز أن يكون كاذبا فلا يمكن إدراك الحق من جهته ويدل عليه هو أنه لو لم يصح النظر والاستدلال لما علم النبوات لأن من جاء يدعي النبوة يحتمل أن يكون صادقا ويحتمل أن يكون كاذبا وليس لأحد الاحتمالين على الآخر مزية فلا بد من الرجوع إلى ما يدل على صدقه ولا يعلم ما يدل على صدقه إلا بالنظر فدل على صحته
ولأن من ينفي ذلك لا يخلو إما أن ينفيه بالنظر فقد اعترف بصحة ما أبطله أو بالتقليد فيجب أن يقلدنا في جواز النظر
ولأن نفيه للنظر لا يخلو إما أن يكون بالضرورة أو بالنظر والاستدلال ولا يجوز أن يكون نفيه بالضرورة لأنه لو كان قد علم ذلك ضرورة لعلمناه كما علم وإن كان ينفيه بالنظر والاستدلال فقد اعترف بصحة ما أنكره
واحتجوا بأنه لو كان النظر طريقا لمعرفة الأحكام لوجب أن يتقدم عند النظر والاستدلال قول نعمل عليه ومذهب نرجع إليه
ألا ترى أن المقابلة في الأوزان والأعداد لما كان طريقا لمعرفة المقادير تقدر به عند الاعتبار أمر يزول معه الخطأ
قلنا لا نسلم فإن بالنظر يتقرر الحق ويبطل الباطل ولهذا نرى كثيرا ممن ينظر ويستدل يرجع عند النظر والاستدلال عما كان عليه من قبل وأما من لا يرجع فلأنه لم يستوف النظر ولو استوفى ذلك لبان له ورجع
واحتجوا بأنه لو كان النظر طريقا للمعرفة لوجب إذا وقع له شيء من ذلك عن دليل أن لا ينتقل عنه إلى غيره وقد رأينا من يكون على مذهب يعتقد صحته ثم ينتقل إلى غيره ويعتقد بطلان ما كان عليه وهذا يدل على أن النظر ليس بطريق للإدراك
قلنا الانتقال عن الشيء إلى غيره لا يدل على أن النظر ليس بطريق لتميز

الحق عن الباطل كما أن الإنسان يتخايل له السراب فيظن أنه ماء ثم يتبين أنه ليس بماء ولا يدل ذلك على أن نظر العين ليس بطريق لإدراك المرئيات كذلك هاهنا
قالوا ولأن النظر هو رد الفرع إلى الأصل والاستدلال بالشاهد على الغائب وجعل الضروري أصلا للعقلي وذلك لا يجوز
قلنا ولم لا يجوز أن يجعل الشاهد أصلا للغائب والضروري أصلا للعقلي وهل هذا إلا دعوى مجردة
وعلى أنه يلزمه أن لا تصح المقابلة في الحساب فإنه حمل خفي على جلي ورد غامض إلى ظاهر ولما صح ذلك بطل ما قالوه
وعلى أن جميع ما ذكروه نظر واستدلال على إبطال النظر والاستدلال وهذا متناقض

مسألة 2
يجوز ورود التعبد بالقياس في الشرعيات
وقال النظام لا يجوز ورود التعبد به وهو مذهب قوم من المعتزلة البغداديين وهو قول الإمامية والمغربي والقاساني
لنا هو أنه إذا جاز في العقليات أن يثبت الحكم في الشيء لعلة ويعرف ذلك العلة بالدليل وهو التقسيم والمقابلة ثم يقاس عليه غيره جاز أن يثبت الحكم في الشرعيات في عين من الأعيان لعلة وينصب على تلك العلة دليل يدل عليها ثم يقاس غيره عليه

وأيضا هو أنه لا خلاف أنه يجوز أن يقول صاحب الشرع حرمت عليكم الخمر لأنه شراب فيه شدة مطربة فقيسوا عليه كل ما كان فيه هذا المعنى فكذلك يجوز أن يحرم الخمر لهذه العلة وينصب عليها دلالة ويأمرنا بالقياس عليها
يدل عليه أنه لما جاز أن يأمرنا بالتوجه إلى الجهة التي فيها الكعبة لمن عاينها لأن فيها الكعبة جاز أن ينصب عليها دلالة لمن غاب عنها ويتعبد بالتوجه إليها بالاستدلال عليها
واحتجوا بأنه لو جاز التعبد بالقياس في الفروع لجاز التعبد به في الأصول حتى يعرف جميع الأحكام بالقياس
قلنا يجوز التعبد بالقياس في الأصول إذا كان هناك أصل يستدل به عليه فأما إذا لم يكن هناك أصل آخر فلا يجوز لأنه تعبد بما لم يجعل إلى معرفته طريقا ولم ينصب عليه دليلا وهذا كما تقول في البصير أنه يجوز أن يتعبد بالاجتهاد في طلب القبلة حيث جعل له إلى معرفتها طريق ولا يجوز أن يتعبد به الأعمى حيث لم يجعل له ذلك طريق كذلك هاهنا
قالوا ولأن التكليف إنما جعل لمصلحة المكلف والمصالح لا تعلم إلا بالنص فأما القياس فلا تعلم لأن القياس ربما أخطأ المصلحة
قلنا المصالح لا تعرف بالقياس ولكن ما عرف بالقياس فهو معلوم بالنص لأن النص هو الذي دل على القياس فما أدى إليه مأخوذ من النص وإن كان قد يتوصل إلى ذلك بضرب من الاستدلال
على أنه لو كان هذا دليلا على منع التعبد بالقياس لوجب أن يجعل ذلك دليلا على إبطال التعبد بالاجتهاد في الظواهر وترتيب الأدلة بعضها على بعض ولوجب أن يبطل أيضا الاجتهاد في القبلة فيقال إن طريق التكليف المصلحة وربما أخطأ المصلحة في هذا كله فيجب أن لا يجوز الاجتهاد ولما جاز ذلك بالإجماع دل على بطلان ما قالوه
قالوا لو كان في الشرع علة تقتضي الحكم لتعلق الحكم بما قبل الشرع

وبعده كما نقول في العقليات ولما وجدنا هذه المعاني موجودة قبل الشرع ولا توجب الحكم دل على أنه لا توجب بعده
قلنا هذا يبطل به إذا نص عليها وأمرنا بالقياس فإنها لا تقتضي الحكم قبل الشرع وتقتضيه بعد الشرع
قالوا ولأنه لو كان في الشرع علل توجب الحكم لوجب أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها كما نقول في العلل العقلية ولما ثبت أنه يجوز أن ترتفع العلة ويبقى الحكم دل على أنها لا توجب
قلنا علل العقل موجبة للأحكام لأنفسها فلا يجوز أن ترتفع وحكمها باق وعلل الشرع إنما صارت عللا بالوضع فوزانها من العقليات ما كانت عللا بالوضع مثل أن تقول اضرب من كان خارج الدار فيجوز أن ترتفع هذه العلة ويبقى حكمها
ولأن علل العقل موجبة للأحكام بالكون فلا يجوز أن تفارق معلولاتها كالحياة في إيجاب كون الشخص حيا وعلل الشرع أمارات على الأحكام فجاز أن تفارق أحكامها كالنطق في الدلالة على كون الشخص حيا فإنه لو كان أمارة جاز أن يزول ذلك وتبقى الحياة
قالوا لو جاز أن تعلم الأحكام بالقياس لجاز أن يعلم ما يكون بالقياس فلما لم يجز هذا لم يجز ذلك
قلنا لو نصب على ذلك دليل لجاز أن يعلم ولهذا جوزنا العلم باقتراب الساعة بما نصب عليها من الأمارات والدلائل وإن كان ذلك على ما يكون في المستقبل فسقط ما قالوه
قالوا القياس فعل القائس ومصالح العباد لا يجوز أن تتعلق بفعل القائس
قلنا لو كان هذا دليلا في إبطال القياس في الشرع لوجب أن يجعل دليلا في إبطال القياس في العقل فيقال إن القياس فعل الإنسان وحقائق الأمور لا يجوز أن تتعلق بفعل الإنسان فيجب أن يبطل ذلك ولما صح ذلك بطل ما قالوه

ولأنه لو كان هذا صحيحا لوجب أن لا يجوز الاجتهاد في الظواهر ولا في طلب القبلة لأن ذلك فعل المجتهد فلا يجوز أن تتعلق به مصالح المكلفين
قالوا ولأن أحكام الشرع وأدلتها تتعلق بقصد المتعبد ويجوز أن يخالف المتعبد بين الأحكام مع الاتفاق في المعاني ويوافق بينها مع الاختلاف في المعاني فإذا جاز هذا لم يجز أن يوافق بين الأحكام لاتفاق المعاني إلا بأن ينص له على ذلك ومتى ورد النص استغنى عن القياس
قلنا الأحكام تتعلق بقصد المتعبد كما قلتم ولكن قصده يعلم مرة بالأسامي ومرة بالمعاني والظاهر أنه إذا اتفقت المعاني أن تتفق الأحكام كما إذا اتفقت الأسامي اتفقت الأحكام فلو كان جواز اختلافها مانعا من الجمع لمنع ذلك من التسوية بين الأسماء المتفقة بجواز اختلافها في الحكم ولما بطل أن يقال هذا في الأسماء بطل ذلك فى المعاني
قالوا ولأن العلم بالقياس يؤدي إلى مناقضة الأحكام فإن الفرع إذا تجاذبه أصلان وأخذ شبها من كل واحد منهما وجب إلحاقه بكل واحد منهما بحق الشبه وذلك متناقض
قلنا فيجب أن لا يجوز القياس في العقليات لأن في أحكام العقل ما يتجاذبه أصلان فيؤدي القياس إلى التناقض لأنه إذا تجاذبه أصلان ألحقناه بأشبههما وأقربهما إليه فلا يؤدي إلى التناقض
قالوا القياس أدنى البيانين فلا يجوز مع إمكان أظهرهما أن يقتصر على الأدنى
قلنا يجوز أن يفعل ذلك ليتوفر الأجر في الاجتهاد ويكثر الثواب في الطلب
ثم هذا يقتضي أن لا يكون في الشرع مجمل ولا متشابه فإن المفصل المحكم أظهر في البيان وفي علمنا بجواز ذلك دليل على بطلان ما ذكروه

واحتج النظام بأن الشرع ورد على وجوه لا يجوز القياس معها وذلك أنه ورد بالتفرقة بين المتساويين والتسوية بين المتفرقين
ألا ترى أنه أباح النظر إلى وجه المرأة وحرم النظر إلى صدرها مع تساويهما
وأسقط الصلاة عن الحائض وأوجب عليها قضاء الصوم مع اتقاقهما
وأجب الغسل من المني وهو طاهر وأسقطه في البول وهو نجس
وهذا كله مخالف لموجب القياس
فالجواب هو أن هذا لو كان يوجب إبطال القياس في الشرعيات لوجب أن يوجب بطلان القياس في العقليات فيقال إن ذلك يؤدي إلى الجمع بين المتفرقين والتفرقة بين المتساويين ثم لم يمنع ذلك صحة القياس فيها
على أنا لا نسلم ما ذكروه فإنه ما افترق حكم متشابهين إلا لافتراقهما في معنى يوجب الفرق بينهما ولا استوى حكم مفترقين إلا لتساويهما في معنى يوجب التسوية بينهما
فأما إباحة النظر إلى وجه المرأة فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك في المعاملات والشهادات وغير ذلك وهذه الحاجة لا توجد في الصدر وغيره
وأما إسقاط الصلاة عن الحائض فإنما تسقط لأن الصلوات تكثر فلو أوجبنا عليها القضاء إذا طهرت أدى إلى المشقة والصوم في السنة مرة فلا يشق إيجاب قضائه
وأما إيجاب الغسل من المني فلأنه يلتذ به جميع البدن وهذا المعنى لا يوجد في البول وغيره
وعلى هذا المثال يجري حال كل متشابهين فرق بينهما الشرع وكل متفرقين سوى بينهما فسقط ما قالوه

مسألة 3
القياس طريق الأحكام الشرعية
وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن القياس لا يجوز في الشرع وهو قول النظام والإمامية

لنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فقال صلى الله عليه و سلم الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فدل على جواز الاجتهاد وصحة الرأي
فإن قيل هذا من أخبار الآحاد فلا يجوز أن يثبت به أصل من الأصول
قيل هو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول فبعضهم يعمل به وبعضهم يتأوله فهو كالخبر المتواتر
ولأنه إذا جاز إثبات أحكام الشرع كلها من تحليل وتحريم وإيجاب وإسقاط وتصحيح وإبطال وإقامة الحدود وضرب الرقاب بخبر الواحد فلأن يثبت به القياس والمقصود به إثبات هذه الأحكام أولى
وأيضا إجماع الصحابة رضي الله عنهم
فروي عن ميمون بن مهران أنه قال كان أبو بكر الصديق رضي الله

عنه إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى فيه بقضاء وربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة من النبي عليه السلام جمع رؤساء الناس وعلماءهم واستشارهم فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به قال وكان عمر يفعل ذلك
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه ثم اعمد فيها إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق وهذا الكتاب تلقته الأمة بالقبول
وروي أنه قال لعثمان رضي الله عنه إني رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال له عثمان أن نتبعك فرأيك سديد وإن نتبع رأي من كان قبلك فنعم ذو الرأي الذي كان
وروى زاذان عن عليه عليه السلام أنه قال سألني أمير المؤمنين عمر عن المخيرة فقلت إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال ليس كذلك ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها فبايعته على ذلك فلما خلص الأمر إلي وعرفت أني

أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقلت والله لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحب إلينا من رأي انفردت به فضحك وقال أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت وخالفني وإياه وقال إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث
وقد روي عنه أنه قال كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر أن لا يباع أمهات الأولاد ثم رأيت بعد بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع أمير المؤمنين أحب إلينا من رأيك وحدك
وروي عن ابن مسعود أنه قال في قصة بروع بنت وأشق الأشجعية أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان
وروي عن ابن عباس أنه قال في ديات الأسنان لما قسمها عمر رضي الله عنه على المنافع فقال هلا اعتبرتها بالأصابع عقلها سواء وإن اختلفت منافعها
وروي عنه أنه قال ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا
وهذا كله يدل على صحة القياس
فإن قيل يحتمل أن يكونوا أرادوا بالرأي الاجتهاد والنظر في موجب الكتاب والسنة

قيل هذا لا يصح لأنا قد روينا أنهم كانوا يجتهدون إذا لم يجدوا ذلك في الكتاب والسنة
ولأن عمر رضي الله عنه صرح بالقياس في كتاب أبي موسى الأشعري
وابن عباس وابن مسعود صرحا بما لا يحتمل غير القياس والاستدلال
وطريقة أخرى جهة الإجماع وهو أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة كالجد والأخوة والخرقاء والمشتركة والحرام والخيار وكثرت أقاويلهم فيها وسلكوا كلهم فيها طريق القياس والاجتهاد حتى إن بعضهم في مسألة الجد شبه بغصن شجرة وبعضهم شبه بالساقية وهذا يدل على ما ذكرناه من صحة القياس
فإن قيل يجوز أن يكونوا قد حكموا فيها بنصوص وقعت إليهم واستصحبوا فيها موجب العقل قبل ورود الشرع
قيل لا يجوز أن يكون معهم نصوص لأنه لو كان معهم في ذلك نص لأظهروه عند الخلاف
وأيضا فإنا روينا أنهم سلكوا فيها طرق الاجتهاد والقياس ولا يجوز أن يكونوا قضوا فيها بموجب العقل لأن ما قضوا فيه ليس بموجب العقل قبل ورود الشرع

ولأنا بينا أنهم تعلقوا فيه بالقياس والرجوع إلى النظائر
فإن قيل إن كان قد نقل عنهم العمل بالقياس فقد نقل عنهم رد القياس والرأي
روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وقال عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وقال علي عليه السلام لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره
وقال ابن سيرين أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
وقال مسروق إني لا أقيس شيئا بشيء إني أخاف أن نزل قدمي
وقال أبو وائل لا تجالسوا أهل الرأي فليس لكم أن تتعلقوا بما رويتم إلا ولنا أن نتعلق بما روينا
قلنا إنما ذموا الرأي المخالف للسنة ويجب عندنا أن ذلك مذموم يدل

عليه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال إذا قلت في كتاب الله وهذا يدل على أن في كتاب الله تعالى حكم المسألة
وقال عمر رضي الله عنه أعيتهم الأحاديث أن يعوها فدل على أنهم عملوا بالقياس مع وجود الأحاديث
وقال علي عليه السلام لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح ظاهره
وابن سيرين ذم قياس إبليس وكان قياسه مع وجود النص فسقط ما قالوه
واحتجوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
والجواب أن العمل بالقياس عمل بما علمناه لأن الدليل قد دل على صحته وصار كالعمل بشهادة الشاهدين وخبر الواحد وتقويم المقوم فإن ذلك كله لما دل الدليل عليه كان حكما لما علم فكذلك هاهنا
وعلى أن هذا نجعله حجة عليهم في رد القياس فإنهم ردوا ذلك فأبطلوه من غير علم فوجب أن لا يجوز
واحتجوا بقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا والقياس ظن

والجواب أن المراد بذلك الظن الذي لا يستند إلى أمارة وهو الحدس والتخمين والذي يدل عليه أنا حكمنا بالظن في الشهادة والتقويم وغير ذلك فدل على أن المراد ما قلناه
واحتجوا بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وبقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وهذا يدل على أن الأحكام كلها مبينة في الكتاب وليس فيها ما يحتاج فيه إلى القياس
والجواب هو أنا نقول بموجب الآية وأنه أكمل الدين ولم يفرط في الكتاب من شيء ولكن القياس دل عليه الكتاب وأكمل به الدين كما أن ما بين بالأخبار والإجماع مما دل عليه الكتاب وأكمل به الدين
واحتجوا بقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وبقوله لا تقدموا بين يدي الله ورسوله
والجواب أن الرجوع إلى القياس رد إلى الله وإلى الرسول فإن الكتاب والسنة دلا على وجوب العمل به
واستدلوا بما روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وهذا نص في إبطال الرأي
والجواب أن المراد به الرأي المخالف للنص وذلك عندنا ضلالة

واحتجوا أيضا بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال ستفترق أمتي فرقا أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور بالرأي
والجواب عنه ما بيناه من الرأي المخالف لنص الكتاب والسنة
قالوا ولأن إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل ولا يجوز أن يكون بالعقل لأنه لا مجال له فيه ولا يجوز أن يكون بالنقل لأن النقل لا يخلو من أن يكون تواترا أو آحادا ولا يجوز أن يكون تواترا لأنه لو كان فيه تواتر لعلمناه كما علمتم ولا يجوز أن يكون آحادا لأنه من مسائل الأصول ولا يجوز إثباته بخبر الواحد كإثبات الصفات وغيرها
قلنا نقلب عليهم هذا في إبطال القياس فنقول لا يخلو إبطاله إما أن يكون بالعقل أو بالنقل وكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما ألزمونا
ولأنا لا نسلم أن ذلك لا يثبت بخبر الواحد بل يجوز إثبات جميع الأحكام المقصودة بالقياس بخبر الواحد وخالف ما ذكروه من الصفات لأن هناك أدلة تقطعه فلم نعمل فيها بخبر الواحد وليس في هذه المسألة إلا مثل ما في سائر المسائل من الطرق فافترقا
وعلى أنا روينا في ذلك أخبارا متلقاة بالقبول والأخبار المتلقاة بالقبول بمنزلة التواتر
قالوا ولأن القياس إنما يصح إذا ثبتت علة الأصل وأنتم تقيسون الفرع على الأصل من غير أن تثبت لكم علة الأصل وهذا لا يجوز
قلنا نحن لا نقيس حتى تثبت علة الأصل ويقوم الدليل على صحتها
قالوا القياس عندكم حمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه وما من شيئين يتفقان في وجه من الشبه إلا ويفترقان في غيره فإن وجب إلحاق أحدهما بالآخر لما بينهما من الشبه وجب الفرق بينهما لما بينهما من الفرق وليس أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التوقف عن القياس

والجواب أنا نحمل الفرع على الأصل إذا اتفقا على علة الحكم ومتى حصل الاتفاق في العلة لم يؤثر افتراقهما في غيرها كما إذا اتفق شيئان في العقليات في علة الحكم وجب الجمع بينهما وإن افترقا في كثير من الأشياء
قالوا ولأن أكثر ما تدعون أن تثبت لكم العلة التي تعلق بها الحكم في المنصوص وثبوت ذلك لا يوجب قياس غيره عليه حتى يرد الدليل بالقياس
ألا ترى أن رجلا لو قال أعتقت فلانا لأنه أسود لم يجب عتق كل عبد له أسود
قلنا إذا ثبت وجوب القياس في الجملة وعرف علة الحكم لم يفتقر في كل مسألة إلى دليل يدل على القياس كما إذا ثبت وجود العمل بخبر الواحد لم يفتقر في كل مسألة إلى دليل يدل على وجوب العمل به
ويخالف هذا ما ذكروه من قول الرجل أعتقت فلانا لأنه أسود لأنه تجوز عليه المناقضة فجاز أن يناقض في علته وصاحب الشرع لا تجوز عليه المناقضة فإذا وجدت علته وجب أن تطرد
قالوا ولأن الأحكام مأخوذة من صاحب الشرع وهو إنما خاطبنا بلغة العرب والعرب لا تعقل من الخطاب إلا ما دل عليه اللفظ فأما المعاني والعلل فلا تعقلها فيجب أن يكون الحكم مقصورا على ما يقتضيه الخطاب
قلنا لعمري إن الأحكام مأخوذة من صاحب الشرع وأنه خاطبنا بلغة العرب غير أنا لا نسلم أن العرب لا تعرف من اللفظ إلا ما دل عليه صريحه بل تعرف ما يدل عليه اللفظ مرة بالصريح ومرة بالتنبيه وكل ذلك تعرفه ولهذا إذا قال لغيره إياك أن تكلم فلانا عقل منه المنع من ضربه
قالوا القياس إنما يراد عندكم ليعلم به حكم ما لا يعلم بغيره وليس عندنا مسألة إلا وحكمها معلوم من جهة النص فلا يحتاج إلى القياس

قلنا هذا غلط فإن هاهنا مسائل لا نص فيها ولا نعرف حكمها إلا من جهة القياس من ذلك
أن قتل الزنبور يجوز في الحل والحرم وليس فيه نص وإنما عرف بالقياس على العقرب
ومن ترك الصلاة عامدا وجب عليه القضاء وليس فيها نص وإنما عرف ذلك بالقياس على الناسي والنائم
وإذا ماتت الفأرة في غير السمن أو مات السنور ألقي وما حولها إن كان جامدا وأريق إن كان مائعا وليس في ذلك نص وإنما قيس على الفأرة تقع في السمن
وأمثال ذلك لا يحصى كثرة
فإن قيل إنما حرمنا ذلك بالإجماع
قيل الإجماع لا يجوز أن ينعقد من غير دليل وليس في هذه المسائل دليل غير القياس فدل على أن الإجماع انعقد فيها على القياس
قالوا لو كان القياس دليلا لوجب أن لا يترك لخبر الواحد لأنهما في إيجاب الظن واحتمال الشبه سواء
قلنا هما وإن استويا فيما ذكرتم إلا أن القياس أدنى رتبة منه من وجهين
أحدهما أنه مأخوذ من وجه فيه من الشبه مثل ما في الذي عارضه
والثاني أن القياس فرع للمنصوص في الجملة ولإثبات الفروع مع وجود الأصول كما لإثبات النظر العقلي مع الضروري
قالوا ولأن القول بالقياس يؤدي إلى نفيه وذلك أنه إذا قال لم يثبت

الحكم في الأصل وجب أن يكون الفرع مثله اعتبارا بالأصل لم ينفصل عمن قال له لما لم يثبت الحكم في الأصل إلا من جهة النص وجب أن يكون في الفرع مثله اعتبارا بالأصل فتكافأ القولان في ذلك فوجب أن يبطل الجميع
والجواب هو أنه لو كان هذا طريقا في إبطال إثبات القياس في الشرعيات لوجب أن يكون طريقا في إبطال القياس في العقليات فيقال لمن استدل به إذا كان العقلي كالضروري ثم كان الحكم في الضروري مستفادا بالحس وجب أن يكون في موضع الخلاف مستفادا بالحس وذلك يوجب بطلان القياس ولما بطل هذا في القياس في العقليات بطل ذلك في القياس في الشرعيات

مسألة 4
إذا حكم صاحب الشرع بحكم في عين ونص على علته وجب إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة وهو قول النظام والقاشاني والنهرواني وغيره من نفاة القياس وهو مذهب الكرخي

ومن أصحابنا من قال لا يجوز إجراء العلة في كل موضع وجدت حتى يدل الدليل على ذلك وهو قول البصري من أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أنه إذا قال لا تأكل السكر لأنه حلو عقل منه تحريم كل ما هو حلو وإذا قال لا تأكل العسل لأنه حار عقل منه تحريم كل ما كان حارا ولهذا إذا سمع الناس ذلك من رجل ثم لم يطردوه أسرعوا إلى مناقضته فدل على أن مقتضاه الطرد والجريان
ولأنه لو لم يقصد إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة لم يفد ذكر التعديل شيئا وصار لغوا
واحتجوا بأن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين فيجوز أن تكون حلاوة السكر تدعو الإنسان إلى تناوله وحلاوة غيره لا تدعو إلى تناوله لأن الداعي إذا دعا إلى شيء لا يجب أن يدعو إلى كل ما شاركه في ذلك المعنى ولهذا يجوز أن تدعوه الشهوة إلى أكل السكر ولا تدعوه إلى أكل العسل وإن اشتركا في الحلاوة فإذا كان ذلك كذلك جاز أن يعلل تحريم السكر في الحلاوة لما في تحريمه من

المصلحة إلا أنه جعله أمارة على التحريم حيث وجدت فلا يجوز قياس غيره عليه إلا بدليل
قلنا لو كان القصد به ما ذكرتم لاقتصر على بيان الحكم ولما ذكر الحكم وعلته دل على أنه قصد إجراءها حيث وجدت
قالوا لو كان ذكر التعليل في شيء يقتضي الطرد والجريان لوجب إذا قال الرجل أعتقت عبدي فلانا لأنه أسود أن يعتق عليه كل عبد أسود ولما بطل أن يقال هذا دل على أن ذكر العلة لا يقتضي الطرد والجريان
ولأنه لو لم يقصد إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة لم يفد ذكر التعديل شيئا وصار لغوا
قلنا إنما لم يلزم من ذلك في حق الواحد منا لأنه تجوز عليه المناقضة في أقواله وأفعاله فأما صاحب الشرع فلأنه لا تجوز عليه المناقضة في أقواله وأفعاله فإذا علل بعلة وجب طردها
قالوا ولكن ما جعل علة في الحكم غير موجب للحكم بنفسه لأنه قد كان موجودا قبل ذلك ولم يوجد الحكم
وأيضا صار موجبا بجعل جاعل فيجب أن لا يكون علة إلا حيث جعلها علة
قلنا لو كان هذا صحيحا لوجب أن لا يكون علة إلا في الزمان الذي جعله فيه علة لأنه صار علة بجعله فيجب أن يكون مقصورا على الزمان الذي جعله فيه علة ولما لم يصح أن يقال هذا في الزمان لم يصح أن يقال ذلك في الأعيان
قالوا لو كان ذكر العلة في عين يوجب ثبوت الحكم في كل عين لوجب إذا قال حرمت السكر لحلاوته وأحللت العسل أن يكون ذلك مناقضة فلما جاز أن يقول ذلك ولم يقبح دل على أن العلة لا تقتضي الطرد

قلنا إذا قال حرمت السكر لأنه حلو فالظاهر أن ذلك جميع العلة فإذا قال بعد ذلك وأحللت العسل علمنا أنه ذكر بعض العلة وأنه أراد الحلاوة مع الجنس وليس إذا حمل اللفظ على غير الظاهر بدلالة اقترنت به دل على بطلان ظاهره إذا تجرد

مسألة 5
يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات بالقياس
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز
لنا ما روي عن معاذ أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم حين بعثه إلى اليمن أجتهد رأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها

ولأنه حكم ليس فيه دليل قاطع فجاز إثباته بالقياس أصله سائر الأحكام
ولأن كل دليل ثبت فيه غير هذه الأحكام ثبت فيه هذه الأحكام كخبر الواحد
ويدل عليه هو أن القياس في معنى خبر الواحد ألا ترى أن كل واحد منهما يقتضي الحكم من طريق الظن ويجوز السهو والخطأ في كل واحد منهما وإذا جاز إثبات هذه الأحكام بخبر الواحد جاز إثباتها بالقياس
ولأنهم أوجبوا الكفارة على الأكل في رمضان قياسا على المجامع
وأوجبوا الحد في المحاربة قياسا على الردء في استحقاق الغنيمة فدل على جواز ذلك
فإن قيل الكفارة في رمضان واجبة بالإجماع وكذلك الحد في المحاربة وإنما أثبتنا موضعها بالقياس وذلك جائز وإنما الذي لا يجوز إيجاب ذلك في غير الباب الذي ثبت فيه كإيجاب القطع على المختلس والحد على اللائط
قيل هو وإن كان إيجابا في الباب الذي وجب فيه إلا أن المانع عندهم من إيجاب ذلك بالقياس هو أن مقدار المأثم وما يفتقر إلى الحد في الردع لا يدرك بالقياس ولا يعلمه إلا الله تعالى وهذا موجود فيما ألزمناهم فيجب أن لا يقاس فيه
فإن قيل نحن لم نوجب ذلك بالقياس وإنما أوجبناه بالتنبيه والاستدلال بالأولى فإن مأثم الأكل أكثر من مأثم الجماع فإذا وجبت الكفارة في الجماع ففي الأكل أولى

قيل الاستدلال بالأولى لا يوجد في إيجاب الحد على الردء لأن الردء ليس بأكثر إثما من المباشرة وقد أوجبتموه
وعلى أن مثل هذا موجود في اللواط فإن إثمه أعظم من مأثم الزنا لأنه لا يستباح بحال وقد منعتم من إيجاب الحد فيه بالقياس على الزنا
واحتجوا بأن الحد شرع للزجر والردع عن المعاصي والكفارة وضعت لتكفير المأثم وما يقع به الردع والزجر من المعاصي ويتعلق به التكفير عن المأثم لا يعلمه إلا الله تعالى فكذلك اختصاص الحكم بقدر دون قدر لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يجوز إثبات شيء من ذلك بالقياس
الجواب هو أن هذا لو كان طريقا في نفي القياس في هذه الأحكام لوجب أن يجعل مثل ذلك طريقا في نفي القياس في سائر الأحكام كما فعله نفاة القياس فقالوا إن الأحكام شرعت لمصلحة المكلفين والمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى فيجب أن لا يعمل فيها بالقياس ولما بطل هذا في نفي القياس في سائر الأحكام بطل في نفي القياس في هذه الأحكام
على أنا إنما نقيس إذا علمنا معنى الأصل بدليل وإذا ثبت ذلك بالدليل صار بمنزلة التوقيف
واحتجوا بأن القياس موضع شبهة لأنه إلحاق فرع بأشبه الأصلين فيكون الأصل الآخر شبهة فلا يجوز إيجاب الحد مع الشبهات
والجواب هو أن هذا يبطل بخبر الواحد وشهادة الشهود فإنها لموضع شبهة لأنه يجوز الخطأ والسهو فيها ثم يجوز إثبات الحدود بهما
وعلى أنا إنما نوجب إذا ترجح أحد الأصلين فيبطل الأصل الآخر ويصير وجوده كعدمه
ثم هذا يبطل بإيجاب ذلك في الباب الذي وضع فيه فإنهم جوزوه بالقياس وإن كان موضع شبهة

مسألة 6
يجوز ابتداء الأحكام بالقياس وإن لم يكن عليها نقل في الجملة
وقال أبو هاشم لا يجوز أن يثبت بالقياس إلا ما نص عليه بالجملة ثم يثبت تفصيله بالقياس
لنا قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه و سلم أجتهد رأيي ولم يفصل بين إثبات الجملة وبين إثبات التفصيل
ولأن الصحابة رضي الله عنهم ابتدؤوا الحكم في قولهم أنت حرام بالقياس وإن لم يكن منصوصا عليه في الجملة ولأن كل حكم جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس كالحكم في التفصيل
واحتجوا بأنه لو كان إثبات الجمل بالقياس لجاز إثبات صلاة سادسة بالقياس فلما لم يجز ذلك بالإجماع دل على أنه لا يجوز إثبات الجمل بالقياس
والجواب أن القياس فيما ذكروه إنما لم يصح لأنه يخالف النص والإجماع وليس إذا لم يصح القياس عند مخالفة النص والإجماع لم يصح مع عدم مخالفتهما
ألا ترى أن القياس في أحكام التفصيل إذا خالف النص والإجماع لم يصح ثم لا يدل على أنه لا يصح مع عدم المخالفة فكذلك هاهنا
مسألة 7
يجوز إثبات الأسامي بالقياس في قول كثير من أصحابنا
ومنهم من قال لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وكثير من المتكلمين
لنا أنا رأينا العرب قد سموا أعيانا بأسامي كالإنسان والفرس والحمار وغير ذلك ثم انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان واتفقت الناس على تسمية أمثالها بتلك الأسماء فدل على أنهم قاسوا على المسموع

فإن قيل ليس هذا من جهة القياس وإنما هو من جهة الوضع فإنهم وضعوا هذه الأسماء لهذه الأجناس
قلنا لم يحفظ عنهم أنهم قالوا إن هذه الأسماء لهذه الأجناس ولا سبيل لأحد إلى نقل ذلك عنهم فسقط ما قالوه
وأيضا هو أن أهل النحو أجمعوا على أن كل فاعل مرفوع وكل مفعول به منصوب ولم يسمع ذلك من العرب وإنما عرف ذلك بالقياس والاستدلال وذلك أنهم لما استمروا في كل فاعل ذكروه على الرفع وفي كل مفعول على النصب علم أنهم إنما رفعوا في موضع الرفع لكونه فاعلا ونصبوا في موضع النصب لكونه مفعولا فحملوا عليه كل فاعل وكل مفعول قياسا فهكذا فعلوا في جميع وجوه الإعراب فدل على ما ذكرناه
ولأن الطريق الذي يعلم به الحكم من جهة القياس هو أن ينظر القائس فيما تعلق به الحكم من النصوص ويستدل عليه بالسلب والوجود ثم يجد ذلك في غيره فيحمل عليه وهذا موجود في الاسم فإنا إذا رأينا عصير العنب قبل الشدة لا نسميه خمرا ثم تحدث الشدة فيسمى خمرا ثم تزول الشدة فلا يسمى خمرا علمنا أن الموجب لهذه التسمية وجود الشدة المطربة وهذا المعنى موجود في النبيذ فيجب أن يسمى خمرا
واحتجوا بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها وقيل في الخبر أنه علمه حتى القصعة والقصيعة فدل على أن الرجوع في الأسماء إلى التوقيف
قلنا ليس فيه أنه علمه كلها بالنص ويجوز أن يكون قد علمه البعض بالنص والبعض بالتنبيه والقياس
وعلى أن هذا خاص لآدم عليه السلام ويجوز أن يكون قد علمه ذلك كله نصا ونحن نعرفه قياسا
قالوا ولأنه ما من شيء إلا وله اسم في اللغة فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر

بالقياس كما إذا ثبت للشيء حكم بالنص لا يجوز أن يثبت له حكم آخر بالقياس
قلنا الأحكام تتنافى فإذا ثبت للشيء حكم لم يجز أن يثبت له حكم آخر يخالفه والأسماء لا تتنافى فيكون للشيء اسم ويجعل له اسم آخر يدلك عليه أنه يجوز أن يكون للشيء الواحد اسمان وثلاثة وأكثر من طريق التوقيف ولا يجوز أن يكون للشيء الواحد حكمان متضادان من طريق النص فافترقا
قالوا القياس إنما يصح في اللغة إذا ثبت أنهم وضعوا ذلك على المعنى ثم أذنوا في القياس عليه وهذا لا سبيل إلى إثباته فيجب أن لا يصح القياس فيها
قلنا نحن إنما نقيس فيما وضعوا على المعنى وذلك يعلم باستقراء كلامهم واستمرارهم في الشيء على طريقة واحدة فيعلم بذلك قصدهم كما يعلم قصد صاحب الشرع
وأما الإذن فلا يحتاج إليه مع العلم بالمعنى إذ لا فرق بين أن يقول سميتها خمرا للشدة المطربة وبين أن يقول كل شديد مطرب فهو خمر
قالوا ولأن الاسم لم يوضع على القياس ألا ترى أنهم خالفوا بين المتشاكلين في الاسم فسموا الفرس الأسود أدهم ولم يسموا الحمار الأسود أدهم ويسمون الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض أشهب فدل على أنه لا مجال للقياس فيه
قلنا لو كان هذا طريقا في إبطال القياس في الأسامي في اللغة لكان طريقا في إبطال القياس في الشرعيات فيقال إنها وضعت على غير القياس ألا ترى أنه فرق بين المتشاكلين وهو المذي والمني فأوجب الغسل بأحدهما دون الآخر فيجب أن يبطل القياس ولما بطل هذا في الشرعيات بطل ما قالوه في الأسماء واللغات
قالوا لو جاز إثبات الأسماء المشتبهة بالقياس لجاز إثبات الألقاب ولما لم يجز ذلك لم يجز هذا
قلنا الألقاب لم توضع على المعنى ولا يمكن قياس غيرها عليها والمشتقة وضعت على المعنى فأمكن قياس غيرها عليها فافترقا

مسألة 8
يجوز إثبات القياس على ما ثبت بالإجماع
وقال بعض أصحابنا لا يجوز إلا على ما ثبت بالكتاب والسنة
لنا هو أن الإجماع أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت به كالنص
ولأنه إذا جاز القياس على ما ثبت بخبر الواحد وهو مظنون فلأن يجوز على ما ثبت بالإجماع وهو مقطوع بصحته أولى
واحتجوا بأن الأمة لا تشرع وإنما تجمع عن دليل فيجب طلب ذلك الدليل فإنه ربما يكون لفظا يتناول الفرع فيغني عن القياس وربما كان معنى لا يتعدى موضع الإجماع فيمنع القياس
قلنا لا حاجة بنا إلى النظر في الدليل لأنه إن كان الدليل نطقا بينا بتناول الفرع لم يمنع ذلك من القياس لأن أكثر ما فيه أن يكون قد استدل في المسألة بالقياس مع إمكان الاستدلال بالنص وذلك جائز وإن كان الدليل معنى لا يتعدى موضع الإجماع لم يمنع أيضا القياس لأن الإجماع عن معنى لا يتعدى لا يمنع أن يكون هناك معنى آخر يتعدى إلى الفرع فيقاس عليه وإذا لم يكن في واحد من الحالين ما يمنع القياس لم يجب طلب الدليل
مسألة 9
يجوز القياس على ما ورد به الخبر مخالفا للقياس وهو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة موضع الاستحسان
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز إلا أن يرد الخبر معللا أو مجمعا على تعليله أو هناك أصل آخر يوافقه فيجوز القياس
لنا هو ما ورد به الخبر أصل يجوز العمل به فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس
الدليل عليه إذا لم يكن مخالفا للقياس
ولأنه لا خلاف أن المخصوص من العموم يجوز القياس عليه ولا يمنع منه العموم فكذلك المخصوص من الأصول يجب أن يجوز القياس عليه ولا تمنع منه الأصول

ولأن ما ورد به الخبر لو نص على تعليله جاز القياس عليه فإذا ثبت تعليله بدليل من جهة الاستنباط وجب أن يجوز القياس عليه لأن ما ثبت بالدليل بمنزلة المنصوص عليه
وأيضا فإن ما ورد به الخبر أصل كما أن ما ثبت بالقياس أصل وليس رد هذا الأصل لمخالفته ذلك الأصل بأولى من رد ذلك الأصل لمخالفته هذا الأصل فوجب إجراء كل واحد منهما في القياس عليه على ما يقتضيه
واحتجوا بأن ما ثبت بقياس الأصول مقطوع به وما يقتضيه هذا القياس مظنون فلا يجوز إبطال المقطوع به بأمر مظنون
قلنا هذا يبطل المخصوص من عموم القرآن بخبر الواحد فإنه يجوز القياس عليه وإن كان فيه إبطال مقطوع به بأمر مظنون ويبطل أيضا بالخبر إذا ورد مخالفا للأصول وهو معلل فإنه يثبت من طريق الظن ثم يقاس غيره عليه ويترك له قياس الأصول الذي طريقه القطع

مسألة 10
إذا ثبت الحكم في الفرع بالقياس على أصل جاز أن يجعل هذا الفرع أصلا لفرع آخر يقاس عليه بعلة أخرى في أحد الوجهين وهو قول أبي عبد الله البصري من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو قول أبي الحسن الكرخي
لنا هو أن الفرع لما ثبت الحكم به بالقياس صار أصلا بنفسه فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس عليه غيره كالأصل الثابت بالنص

واحتجوا بأن العلة التي ثبت بها الحكم في الفرع هو المعنى الذي انتزع من الأصل وقيس عليه الفرع وهذا المعنى غير موجود في الفرع الثاني فلا يجوز إثبات الحكم فيه بالقياس
قلنا ليس إذا لم يوجد في الفرع الثاني ما ثبت به الحكم في الفرع الأول لم يجز قياسه عليه ألا ترى أن ما ثبت به الحكم في الأصل من النص غير موجود فيما يقاس عليه ولا يمنع ذلك صحة القياس عليه فكذلك هاهنا يجوز أن لا يوجد في الفرع الثاني معنى الفرع الأول ثم يصح القياس عليه
قالوا ولأنكم إذا عللتم السكر بأنه مطعوم فيحرم فيه الربا كالبر ثم عللتم السكر بأنه موزون وقستم عليه الرصاص خرجتم عن أن تكون العلة في السكر أنه مطعوم
قلنا لا يخرج عن أن يكون الطعم علة فيه بل الطعم علة فيه والوزن علة ويجوز أن يثبت الحكم في العين الواحدة بعلتين

مسألة 11
العلة الواقفة صحيحة
وقال أصحاب أبي حنيفة هي باطلة وهو قول بعض أصحابنا
لنا هو أن القياس أمارة شرعية فجاز أن تكون خاصة وعامة
دليله النص
ولأن كل علة جاز أن تكون متعدية جاز أن تكون واقفة كما لو نص عليها صاحب الشرع
ولأن العلل العقلية آكد من العلل الشرعية بدليل أن العلل العقلية يعتبر فيها الطرد والعكس ولا تعتبر في الشرعية فإذا جاز أن تكون العقلية واقفة فالشرعية بذلك أولى

واحتجوا بأن الواقفة لا تفيد شيئا لأن حكمها ثابت بالنص وما لا فائدة فيه لم يكن لانتزاعه معنى
قلنا يبطل بالواقفة إذا نص عليها فإنها لا تفيد شيئا ومع ذلك فإنها تصح
وعلى أنها وإن لم تفد في فرع يلحق بأصل أفادت بيان علة الأصل ووجه الحكمة والمعنى الذي تتعلق به المصلحة
وأيضا ربما حدث فرع يوجد فيه ذلك المعنى فيلحق به
ولأنه إذا عرف أن العلة واقفة على الأصل منع من قياس غيره عليه كما إذا عرف أنها متعدية استفيد به قياس غيره وهذه فائدة صحيحة

مسألة 12
يجوز أن يجعل الاسم علة للحكم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز
ومنهم من قال يجوز أن يجعل الاسم المشتق علة ولا يجوز أن يجعل الاسم اللقب علة
لنا هو أنه إن ما جاز أن يعلق الحكم عليه نطقا جاز أن يستنبط ويعلق الحكم عليه كالصفات والمعاني
ولأن بالاستنباط يتوصل إلى معرفة قصد صاحب الشريعة وإذا جاز أن ينص صاحب الشريعة على تعليق الحكم بالاسم جاز أن يستنبط ذلك بالدليل ويعلق عليه الحكم
واحتجوا بأن الاسم لا يحتاج إلى الاستنباط فلا يجوز أن يجعل علة الحكم

والجواب أن هذا خطأ لأن تعليق الحكم على الاسم وجعلة علة للحكم يفتقر إلى الاستنباط كما تفتقر سائر الصفات فسقط ما قالوه
وربما قالوا إن الحكم إنما يتعلق بالمعاني والأسماء ليست بمعان
والجواب أن هذه دعوى لا برهان عليها
قالوا ولأن العلل لا تكون إلا حقيقة والأسماء تدخلها الحقيقة والمجاز فلا يجوز أن تجعل علة
قلنا هذا يبطل به إذا نص عليه صاحب الشرع فإنه يجعل علة ويعلق الحكم عليه وإن دخله الحقيقة والمجاز فسقط ما قالوه

مسألة 13
يجوز أن يجعل نفي صفة علة الحكم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وحكى ذلك عن القاضي أبي حامد رحمه الله
لنا هو أن ما جاز أن ينص عليه في التعليل جاز أن يستنبط بالدليل ويعلق الحكم عليه كالإثبات
ولأنه إذا جاز أن يكون الحكم مرة إثباتا ومرة نفيا جاز أن تكون العلة مرة إثباتا ومرة نفيا
واحتجوا بأن الذي يوجب الحكم وجود معنى فأما إذا عدم المعنى فلا يجوز أن يوجب الحكم والنفي عدم معنى فلا يجوز أن يوجب الحكم

والجواب هو أن هذا مجرد الدعوى فلا يقبل من غير دليل
قالوا ولأن من شرط العلة أن يشترك فيها الأصل والفرع والاشتراك في النفي لا يصح
قلنا لا نسلم فإن الاشتراك يصح في النفي كما يصح في الإثبات على أن النفي يتضمن الإثبات والاشتراك فيه فصح

مسألة 14
لا يصح رد الفرع إلا الأصل إلى بعلة مقتضية للحكم أو شبه يدل عليه
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يصح رد الفرع إلى الأصل بضرب من الشبه
لنا هو أنه إثبات حكم من جهة القياس فاعتبر فيه معنى مخصوصا كالقياس في العقليات
ولأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل من غير علة مخصوصة لما احتيج إلى النظر والفكر ولو كان كذلك لاشترك العلماء والعامة في القياس وهذا لا يقوله أحد فدل على أنه لا بد من شبه مخصوص للحكم به يعلق
ولأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بمجرد الشبه لم يكن حمل الفرع على بعض الأصول بأولى من حمله على البعض لأنه ما من فرع تردد بين أصلين إلا وفيه شبه من كل واحد من الأصلين

واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم يعتبروا فيما نقل عنهم من القياس أكثر من مجرد الشبه فدل على أن هذا القدر يكفي
والجواب أن هذا غير مسلم بل اعتبروا المعاني والعلل ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر عليهما السلام رضيك رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا
وقال علي في شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يحد حد المفتري فدل على أنهم اعتبروا المعنى المقتضي للحكم والشبه المؤثر فيه

مسألة 15
الطرد والجريان شرط في صحة العلة وليس بدليل على صحتها
ومن أصحابنا من قال طردها وجريانها يدل على صحتها وهو قول أبي بكر الصيرفي

وقال بعض أصحابنا إذا لم يردها نص ولا أصل دل على صحتها
لنا هو أن العلة هو المعنى المقتضى للحكم في الشرع مأخوذ من قولهم في المرض إنه علة لأنها تقتضي تغير حال المريض ولا نعلم كونها مقتضية للحكم بمجرد الطرد لأنه قد يطرد مع الحكم ويجري معه ما ليس بعلة فلم يكن ذلك دليلا على كونه علة
ولأن الطرد فعل القائس لأنه يزعم أنه يطرد ذلك حيث وجد ولا يتناقض وفعله لا يدل على أحكام الشرع
ولأن الجريان فرع العلة وموجبها فلا يجوز أن يجعل دليلا على صحتها لأن الدليل يجب أن يتقدم المدلول عليه
ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو أن الجريان في الفروع إنما ثبت بالعلة إذا صح أنها علة في الأصل ولهذا إذا قيل له لم جعلت ذلك علة في هذا الفرع قال لأنه تعلق الحكم بها في الأصل فثبت كونها علة في الفرع بثبوته في الأصل وإذا كان كذلك لم يجزه أن يجعل الدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع فيكون الدليل على صحتها في الفرع ثبوتها في الأصل والدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع والدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع كما أن شهادة الشاهدين لما ثبتت بتزكية المزكين لم يجز إذا جهل الحاكم حال المزكين أن يثبت عدالتهما بتزكية الشاهدين ويثبت عدالة الشاهدين بالمزكين وعدالة المزكين بالشاهدين فكذلك هاهنا
ولأن الطرد زيادة في الدعوى لأنه ادعى العلة في الأصل فلما طولب بصحتها دل عليها بأنها علة في الأصل وحيث وجدت فلم ترد إلا دعوى على دعوى

ولأنه لو كان الطرد دليلا على صحة العلة لتكافأت الأدلة لأنه ما من أحد يذكر علة مطردة إلا ويمكن مقابلته بمثلها فلا يكون ما ذكروه أولى مما قابله به الخصم
ولأن أدنى أحوال الدليل أن يوجب الظن وقد رأينا الطرد في علل لا يغلب على الظن تعلق الحكم بها واتباعه لها كقول من قال في إزالة النجاسة إنه مائع لا تبنى عليه القناطر ولا يصاد فيه السمك فأشبه الدهن والمرقة
وكقول من قال من أصحاب أبي حنيفة في مس الذكر إنه طويل مشقوق فاشبه البوق أو معلق منكوس فأشبه الدبوس وغير ذلك مما لا يحسن الاشتغال بذكره فدل على أن الطرد ليس بدليل على الصحة
واحتج المخالف بقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فدل على أن ما ليس فيه اختلاف فهو من عند الله والعلة إذا اطردت فهي متفقة لا اختلاف فيها فوجب أن تكون من عند الله
قلنا إن الآية تدل على أن ما فيه اختلاف فليس من عند الله ونحن نقول به فإن الاختلاف في العلل هو الناقض وذلك يدل على أنه ليس من عند الله وليس فيه أن ما ليس فيه اختلاف فهو من عند الله فلا حجة فيها
قالوا عدم الطرد يدل على فسادها وهو النقض فوجب أن يكون وجود الطرد يدل على صحتها
قلنا عدمه إنما يدل على فساد العلة لأن وجوده شرط في صحتها وهذا لا يدل على أن وجوده يدل على الصحة ألا ترى أن الطهارة لما كانت شرطا في صحة الصلاة دل عدمها على فساد الصلاة ثم لا يدل وجودها على صحة الصلاة حتى ينضم إليها غيرها فكذلك هاهنا
ولأن الشيء يجوز أن يثبت بمعنى ولا يثبت ضده بعدم ذلك المعنى

ألا ترى أن الحكم تثبت صحته بالإجماع ثم لا يثبت فساده بعدمه فكذلك يجوز أن يثبت فساد العلة لعدم الطرد ولا تثبت صحتها لوجوده
قالوا ولأن الطرد والجريان هو الاستمرار على الأصول من غير أن يرده أصل وهذا شهادة من الأصول لها بالصحة فوجب أن يدل على صحتها
قلنا بهذا القدر لا يعلم كونه علة لأنه قد يجري ويستمر مع الحكم ما ليس بعلة
ألا ترى أن العلم يكون المتحرك متحركا يجري مع التحرك ويستمر معه ثم لا يدل على أن ذلك علة في كونه متحركا
قالوا ولأنها إذا اطردت فقد عدم ما يفسدها وإذا علم ما يوجب فسادها وجب أن يحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحيح والفاسد قسم آخر
قلنا لا نسلم أنه عدم ما يفسدها فإن عدم ما يصححها أحد ما يفسدها ثم نقلب عليهم ذلك فنقول إذا لم يدل على صحتها فقد عدم ما يوجب صحتها وإذا عدم ما يوجب صحتها دل على فسادها لأنه ليس بين الصحيح وبين الفاسد قسم
وعلى أنه لو كان هذا دليلا على صحة العلة لوجب إذا ادعى رجل النبوة من غير دليل أن يحكم بصحة نبوته فيقال أنه عدم ما يفسد دعواه فوجب أن يحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحيح وبين الفاسد قسم آخر ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما قالوه أيضا

مسألة 16
إذا أثرت العلة في موضع من الأصول دل على صحتها وإن لم يكن ذلك أصل العلة

ومن أصحابنا من قال يعتبر تأثيرها في الأصل
لنا هو أن العلة هي المعنى المقتضي للحكم ففي أي موضع من الأصول أثرت علم أنها مقتضية للحكم
ولأنه إذا علم تأثيرها في موضع من الأصول علمنا أنها مؤثرة في الأصل حيث وجدت لأنه يجوز أن تكون علة في موضع ولا تكون علة في موضع آخر
واحتج المخالف بأنه إذا لم تؤثر في الأصل لم يكن ذلك علة في الأصل ورد الفرع إلى الأصل بغير علة الأصل لا يجوز
قلنا لا نسلم أنها إذا لم تؤثر في الأصل لم يكن ذلك علة في الأصل بل إذا أثرت في موضع من الأصول دل على أنها علة في الأصل وفي كل موضع وجدت ولكن ربما لم يظهر تأثيرها في الأصل لاجتماعها مع علة أخرى وهذا لا يدل على أنه ليس بعلة
ألا ترى أن الحيض إذا صادف الإحرام أو الردة أو العدة ولم يظهر تأثيره في إثبات التحريم لا يدل على أنه ليس بعلة
قالوا ولأنه إذا ذكر وصفين لم يؤثر أحدهما في الأصل صار ذلك حشوا في الأصل وزيادة في علته فيجب إسقاطه وإذا سقط انتقضت العلة
قلنا إذا أثر في موضع من الأصول ودل الدليل على تأثيره بان بأنه ليس بحشو في الأصل وحيث وجد فلا يجب إسقاطه من العلة يدلك عليه أن الحيض لما ثبت تأثيره في تحريم الوطء كان علة في تحريمه حيث وجد فلا يجب أن يظهر ذلك في بعض المواضع كذلك هاهنا إذا ثبت الوصف في الحكم وجب أن يكون مؤثرا حيث وجد وإن لم يظهر الأصل

مسألة 17
لا يجوز تخصيص العلة المستنبطة وتخصيصها نقض لها
وقال أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك يجوز وتخصيصها ليس بنقض لها وهو قول أكثر المتكلمين

لنا قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فجعل وجود الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله وإذا وجدت العلة من غير حكم فقد وجد الاختلاف فدل على أنه ليس من عند الله
ولأنه علة مستنبطة فكان تخصيصها نقضا لها كالعلل العقليات
فإن قيل العلل العقلية توجب الحكم بنفسها فلم يجز وجودها غير موجبة للحكم وعلل الشرع غير موجبة للحكم بنفسها ألا ترى أنها موجودة قبل الشرع غير موجبة للحكم وإنما صارت بالشرع عللا فجاز أن توجب في موضع دون موضع
قلنا هي وإن صارت عللا بالشرع إلا أنها قد صارت عللا بمنزلة العقلية في إيجاب الحكم بوجودها فوجب أن تكون بمنزلتها في ان تخصيصها يوجب فسادها
ولأنه لو جاز وجود العلة من غير حكم لكان تعلق الحكم في العلة في الأصل لا يوجب تعلقه بها في الفرع إلا بدليل مستأنف يدل على تعلقه بها لأنه ما من فرع نريد أن نثبت فيه حكم العلة إلا ويجوز أن يكون مخصوصا وإذا افتقر ذلك إلى دليل خرج عن أن يكون علة
ولأن وجود التخصيص في العلة يدل على أن المستدل لما لم يذكر الدلالة على الصفة تعلق الحكم بها في الشرع ومتى لم يذكر الدلالة على الوجه الذي علق الحكم

عليه في الشرع لم يجب العمل به لأنه لم يذكر دليل الحكم فلا يجوز أن يثبت المدلول
ولأن القول بتخصيص العلة يؤدي إلى تكافؤ الأدلة وأن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان متضادان وذلك أنه إذا وجدت العلة في أصلين واقتضت التحليل في أحدهما دون الآخر لم ينفصل من علق عليها التحليل في الفرع اعتبارا بأحد الأصلين ممن علق عليها التحريم في ذلك الفرع اعتبارا بالأصل الآخر فيتكافأ الدليلان ويستوي القولان وهذا لا يجوز
واحتج المخالف بأن هذه أمارة شرعية فجاز تخصيصها كالعموم
قلنا العموم لا تسقط دلالته بالتخصيص لأنه إنما كان دليلا لأنه قول صاحب الشرع فإذا خص بعضه بقي الباقي على ظاهره وليس كذلك العلة فإن تخصيصها يسقط دلالتها لأنها تعرف من جهة المستدل فإذا وجدت مع عدم الحكم علمنا أنه لم يستوف الأمارة التي يتعلق الحكم بها في الشرع فسقط الاحتجاج بها
ولأن صاحب الشرع لا يطلق اللفظ العام إلا وقد دل على ما يوجب التخصيص والبيان فأمكن التعلق بظاهره وليس كذلك المجتهد فإنه قد يطلق لفظ العلة وقد أخل بما يقف ثبوت الحكم عليه ولعل ذلك يمنع دخول الفرع فيما أطلق من العلة فلم يصح التعلق به
قالوا ولأنه علة شرعية فجاز تخصيصها كالعلة المنصوص عليها
قلنا من أصحابنا من قال لا يجوز تخصيص العلة المنصوص عليها ومتى وجدناها مع عدم الحكم علمنا أنه بعض العلة غير أن إطلاقها يجوز لأن صاحب الشرع قد ثبتت حكمته أنه لا يتناقض بإطلاقه فإذا أطلق وصفا علمنا أنه أراد ما يقتضي التخصيص والمعلل متى لم تثبت حكمته ويجوز أن يتناقض فإذا أطلق وصفا ودخله التخصيص علمنا أنه لم يستوف دلالة الحكم
ومن أصحابنا من أجاز تخصيص العلل المنصوصة وفرق بينها وبين العلل المستنبطة بما ذكرناه في العموم فلا حاجة إلى إعادته

قالوا العلل الشرعية غير موجبة للحكم بأنفسها وإنما صارت أمارات على الأحكام بجعل جاعل وقصد قاصد فجاز أن يجعلها أمارة للحكم في عين دون عين كما جاز أن يجعلها أمارة للحكم في وقت دون وقت
قلنا هذا هو الحجة عليكم وذلك أنه إذا صارت أمارة بقصد قاصد لم يجز التعلق بها إلا على الوجه الذي جعله أمارة ومتى أخل ببعض الأوصاف لم يأت بما جعله أمارة عن الحكم فيجب أن لا يصح
وعلى أنه إذا تعلق الحكم بالعلل بقصد القاصد وهو يخص مرة ويعم أخرى لم يأمن أن يكون موضع الخلاف مخصوصا من العلة فلا يجوز أن يتعلق الحكم بها على الإطلاق
قالوا إذا جاز أن يصل بالمعنى ما يمنع البعض جاز أيضا أن يؤخره عنه كبيان المدة التي تتعلق بها العبادة
قلنا بيان المدة إنما يراد لإسقاط الحكم فلا حاجة إلى بيانه عند الإيجاب وليس كذلك الوصف المضموم إلى الوصف لأن كل واحد منهما شرط لإيجاب الحكم فلا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر
قالوا لما جاز تأخير الحكم من غير علة جاز وجود العلة أيضا من غير حكم
ألا ترى أن العلل العقلية لما لم يجز وجود العلة من غير حكم لم يجز وجود الحكم من غير علة ولما جاز هاهنا أحدهما وجب أن يجوز الآخر
قلنا وجود الحكم من غير علة لا يمنع كون العلة علة في الموضع الذي جعله علة ووجود العلة من غير حكم يمنع أن يكون ما ذكره علة حتى يضاف إليه وصف آخر لأن وجود الحكم من غير علة يدل على أن للحكم علة أخرى وثبوت علة لا يمنع ثبوت علة أخرى لأن العلة تخلف العلة في إثبات الحكم ووجودها من غير الحكم يدل على أنه ذكر بعض العلة وبعض العلة لا يخلف جميعها في إثبات الحكم فافترقا

مسألة 18
التسوية بين الأصل والفرع في مسألة النقض لا يدفع النقض
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يدفع النقض
ومن أصحابنا من قال إن كان قد صرح بالحكم لم يدفع النقض وإن كان جعل حكم العلة التشبيه دفعت من النقض
لنا هو أن النقض وجود العلة ولا حكم وهذا العنى يوجد وإن استوى الفرع والأصل فيه فوجب أن تنتقض العلة
ولأن ما أفسد العلة إذا لم يستو فيه الأصل والفرع أفسدها وإن استويا فيه الأصل والفرع كالممانعة وعدم التأثير
ولأن التسوية بين الأصل والفرع زيادة نقض على نقض وهذا يقتضي تأكيد الفساد
واحتج أصحاب أبي حنيفة إن من أصلنا أن تخصيص العلة جائز وأن وجود العلة ولا حكم لا يفسدها إلا في القدر الذي التزمنا فيه الاحتراز وما لم نلتزمه يجب أن يبقى على الأصل في جواز التخصيص

قلنا أما هذا الأصل فقد دللنا على بطلانه فلا وجه لإعادته
وعلى أنكم قد تركتم هذه الطريقة ودخلتم معنا في اعتبار الطرد والاحتراز من النقض ولهذا احترزتم من كثير من النقوض فلا يجوز الرجوع إلى التخصيص بعد القول بالطرد والجريان
قالوا ولأن قصد المعلل هو التسوية بين الفرع والأصل وإجراء أحدهما مجرى الآخر وقد سوى بين الفرع والأصل فيما التزم فلا يلزمه شيء
قلنا الذي نقصد إيجاب الحكم بوجود العلة دون التسوية بين الأصل والفرع وقد وجدت العلة ولم يوجد الحكم فبطل ما قالوه
ولأنه إذا كان قصده التسوية بين الأصل والفرع افتقر إلى أصل آخر يستوي فيه حكم الموضعين
واحتج القائل الآخر بأن النقض وجود العلة ولا حكم وإذا كان حكم العلة الشبه بالأصل فقد وجدت العلة مع الحكم في مسألة النقض فإن الفرع قد شابهه الأصل في ذلك ولم توجد حقيقة النقض
قلنا إن كان حكم العلة تشبيه الفرع بالأصل فقد صار الأصل عن تمام الحكم ونقيض العلة من غير أصل وهذا لا يجوز

مسألة 19
لا يجوز للمستدل أن ينقض علة السائل بأصل نفسه
ومن أصحابنا من أجاز ذلك وهو قول الجرجاني من أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن العلة حجة على المستدل في الموضع الذي ينقض به العلة فلا يجوز نقض الحجة بالدعوى
ولأنه لو جاز نقض العلة بمذهبه لجاز أن ينقضها بموضع الخلاف ولما لم يجز هذا لم يجز ذلك
ولأن قوله إن هذه العلة تنتقض بأصلي معناه إني لا أقول بهذه العلة في هذا الموضع وفي موضع آخر وهذا لا يسقط الدليل كما لو استدل عليه بخبر فقال أنا لا أقول بهذا الخبر في هذا الموضع ولا في موضع آخر
واحتج المخالف بأنه لو جاز للمسؤول في الابتداء أن يبني على أصله فيقول إن سلمت هذا الأصل ثبتت علته وإلا دللت عليه جاز أن ينقض على أصله فيقول إن سلمت هذا انتقضت به العلة وإن لم تسلم دللت عليه
قلنا في الابتداء يجوز ذلك لأنه لا يلزم الكلام في موضع بعينه وليس كذلك هاهنا لأنه قد التزم الكلام في موضع بعينه وتعين عليه نصرته فلا يجوز أن ينتقل عنه إلى غيره يدلك عليه أن في الابتداء يجوز له أن يستدل بما شاء

ولو استدل بشيء بعينه ثم أراد أن ينتقل بعد ذلك إلى دليل آخر لم يجز فدل على الفرق بينهما
قالوا ولأنه لما جاز أن ينقض على أصل السائل وحده جاز أن ينقض على أصل المسؤول وحده
قلنا إذا نقض على أصل السائل بأن فساد الدليل على أصله فلا يجوز أن يحتج بما يعتقد فساده وهاهنا لم يبن فساد الدليل على أصله فلزم العمل به يدلك عليه أن السائل لو عارضه بخبر لا يقول به لم تصح معارضته ولو عارضه بخبر لا يقول به المسؤول لم يمنع ذلك معارضته فافترقا

مسألة 20
لا يجوز للسائل أن يعارض المسؤول بعلة منتقضة على أصله
ومن أصحابنا من قال يجوز ذلك
لنا هو أنه إذا انتقضت العلة على قوله فقد اعتقد بطلانها ومن اعتقد بطلان دليل لم يجز أن يطالب الخصم بالعمل به كالمسؤول إذا ذكر علة منتقضة على أصله
واحتج المخالف بأنه لما جاز أن تنتقض علته بما لا يقول به جاز أن يعارضه بما لا يقول به
قلنا الناقض غير محتج بالنقض ولا يثبت الحكم من جهته وإنما يبين فساد دليل على أصل من احتج به وليس كذلك هاهنا فإنه يحتج بالقياس فيثبت الحكم من جهته فلا يجوز أن يثبت من جهة يعتقد بطلانه
قالوا السائل لا مذهب له وإنما هو مسترشد فلا يعتبر فساده عنده
قلنا هذا هو الحجة عليكم فإنه إذا كان مسترشدا يجب أن لا يسأل إلا عما أشبه عليه وهو يعلم فساد هذا الدليل فلا يجوز أن يلتزمه
ولأنه قد جاوز رتبة المسترشد بالاستدلال والمعارضة وحصل في رتبة المستدل فلا يجوز أن يستدل بما يعتقد فساده
مسألة 21
القلب معارضة صحيحة
ومن أصحابنا من قال لا يصح
لنا هو أن المستدل لا يمكنه الجمع بين حكمته وحكم القلب فصار كما لو عارضه من أصل آخر
ولأنه إذا جاز أن يستدل بلفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم يشاركه السائل في الاحتجاج به جاز أن يستدل بعلة ثم يشاركه السائل في الاستدلال بها
واحتج المخالف بأن القلب لا يمكن إلا بفرض مسألة على المستدل وليس للسائل فرض مسألة على المسؤول لأنه تابع له
قلنا هذا يبطل بالمشاركة في الخبر فإنه يجوز وإن لم يمكن ذلك إلا بفرض مسألة على المستدل
قال ولأن هذا وإن كان في حكم آخر إلا أنه في معنى الحكم الذي فرض فيه

الدلالة ألا ترى أنه لا يمكن الجمع بينه وبين حكمه كما لا يمكن الجمع بينه وبين ضده
ولأن أوصاف علة المستدل لا تصلح لحكم القلب ولا تؤثر فيه فيجب أن لا يصح القلب
قلنا إنما يصح القلب إذا كان صلاح الوصف لأحد الحكمين كصلاحه الآخر وتأثيره في أحدهما كتأثيره في الآخر وأما إذا لم يصلح الوصف لحكم القالب ولم يؤثر فيه حكمنا ببطلانه

مسألة 22
قلب التسوية صحيح وذلك مثل أن يقول المخالف في مسألة النية في الوضوء إنها طهارة بمائع فلم تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقول الشافعي رضي الله عنه أقلب علته فأقول طهارة بمائع فاستوى حكمها وحكم الجامد في النية كإزالة النجاسة
ومن أصحابنا من قال لا يصح
لنا هو أن المستدل بالعلة منهما لايمكنه الجمع بين حكمه وحكم القالب كما لو كان مصرحا به ويدل عليه هو أن الأصل والفرع في الحكم المعلق على العلة سواء وهو التسوية وإنما يختلفان في التفصيل ومتى اتفق الأصل والفرع في حكم العلة صح الجمع وإن اختلفا في التفصيل يدل عليه أنه لو صرح بالحكم لصح القياس وإن كان حكم الأصل مخالفا لحكم الفرع في التفصيل فكذلك هاهنا
واحتج المخالف بأن حكم الفرع في مثل هذا مخالف لحكم الأصل

ألا ترى أن فيما ذكرنا من المثال نريد التسوية بين الجامد والمائع في الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجابها ومن حكم القياس أن يتعدى حكم الأصل إلى الفرع
قلنا إن حكم الأصل هو التسوية وقد تعدى ذلك إلى الفرع وإنما يختلفان في كيفية التسوية وكيفية التسوية حكم غير التسوية
يدلك عليه هو أنه يجوز أن يرد الشرع بوجوب التسوية ين الجامد والمائع في باب النية فينقطع فيه حكم الاجتهاد ثم يبقى النظر والاجتهاد في كيفية التسوية بين الإيجاب والإسقاط وإذا ثبت أن كيفية التسوية غير التسوية لم يلزم استواء الأصل والفرع فيهما
قالوا ولأن القصد من هذا القلب معارضة المستدل ومساواته في الدليل وقلب التسوية لا يساوي عليه المستدل لأن حكم المستدل مصرح به وحكم القالب مبهم يحتاج إلى البيان والمصرح أبدا يقدم على المبهم كما فعلنا في ألفاظ صاحب الشرع
قلنا التصريح إنما يعتبر في حكم المطلوب بالدلالة لا في حكم آخر وهاهنا الدلالة هو التسوية وقد صرح بها في حكم العلة كما صرح المعلل بحكمه
وعلى أن المصرح إنما يقدم على المبهم إذا احتمل المبهم الأمرين والمصرح به أمر واحد فيقضى بما لا يحتمل على ما يحتمل كما ذكروه في ألفاظ صاحب الشرع وأما في مسألتنا فإن قلب التسوية لا يحتمل إلا إبطال مذهب المعلل كما لا يحتمل حكم المعلل إلا إبطال مذهب القالب فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية كاللفظين الصريحين إذا تعارضا

مسألة 23
جعل المعلول علة والعلة معلولا لا يمنع من صحة العلة وذلك مثل أن يقول الشافعي رضي الله عنه في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فيقول الحنفي المسلم لم يصح ظهاره لأنه يصح طلاقه بل صح طلاقه لأنه يصح ظهاره
وقال أصحاب أبي حنيفة يمنع هذا صحة العلة وهو مذهب القاضي أبي بكر
لنا أن علل الشرع أمارات على الأحكام بجعل جاعل ونصب ناصب وهو صاحب الشرع وإذا كان كذلك لم يمنع أن يجعل صاحب الشرع كل واحد من الحكمين أمارة للحكم الآخر فيقول متى رأيتم من صح منه الطلاق فاحكموا له بصحة الظهار وإذا رأيتم من صح ظهاره فاحكموا له بصحة طلاقه فأيهما رأينا صحيحا استدللنا به على صحة الآخر ويدل عليه هو أن الشرع قد ورد بمثل هذا ألا ترى أن النبي عليه السلام أمر من أعطى أحد ولديه شيئا أن يعطي الآخر مثله فجعل عطية كل واحد منهما دلالة وأمارة لعطية الآخر فأيهما بدأ بعطيته اقتضى ذلك عطية الآخر فكذلك هاهنا يجوز أن يجعل صحة كل واحد من الحكمين دليلا على صحة الآخر فأيهما رأيناه صحيحا دلنا على صحة الآخر
واحتج المخالف بأنه إذا جعل كل واحد منهما علة للآخر وقف ثبوت كل

واحد منهما على ثبوت الآخر فلا يثبت واحد منهما كما لو قال لا يدخل زيد الدار حتى يدخل عمرو ولا يدخل عمرو حتى يدخل زيد فلا يمكن دخول واحد منهما كذلك هاهنا
قلن إنما يقف ثبوت كل واحد منهما على ثبوت الآخر في العقليات لأن الحكم الواحد منهما لا يجوز أن يثبت بأكثر من علة واحدة فإذا جعل كل واحد منهما علة للآخر وقف كل واحد منهما على الآخر فاستحال ثبوتهما وأما في أحكام الشرع فإنه يجوز أن يثبت الحكم الواحد منهما بعلل فإذا جعل كل واحد منهما علة للآخر لم يقف ثبوت كل واحد منهما على ثبوت الآخر لجواز أن يثبت أحدهما بطريق مستدل به على الحكم الآخر ويخالف هذا ما ذكروه من الدخول فإن هناك منع أن يكون لكل واحد منهما طريق غير دخول الآخر فوقف أحدهما على الآخر وفي مسألتنا يجوز أن يكون لكل واحد من الحكمين أمارة غير الآخر يثبت بها ثم يستدل به على ثبوت الحكم الآخر فوزانه أن نقول إن دخل زيد الدار فليدخل عمرو وإن دخل عمرو فليدخل زيد ثم دخل أحدهما بسبب من الأسباب فيصير دلالة على دخول الآخر فكذلك هاهنا
قالوا إذا جعلتم كل واحد منهما علة للآخر جعلتم الموجب موجبا وذلك لا يجوز
قلنا إنما لا يجوز إذا جعلنا كل واحد منهما علة موجبة للآخر فيصير كل واحد منهما موجبا ونحن لا نفعل ذلك وإنما جعلنا صحة كل واحد من الحكمين أمارة ودلالة على صحة الآخر وفي الدلائل يجوز أن يجعل كل واحد من الأمرين دليلا على الآخر إذا كان طريق ثبوتهما واحدا
ألا ترى أنه إذا كان للرجل ولدان جاز أن يستدل بإرث كل واحد منهما على إرث الآخر فيكون كل واحد منهما دليلا على الآخر حين كان طريقهما في الاستحقاق واحدا فكذلك إذا عرف من عادة الإنسان أنه إذا وهب لأحد بنيه شيئا وهب للآخر مثل ذلك جاز أن يستدل بعطية كل واحد منهما على عطية الآخر فكذلك هاهنا لما كان ثبوت طريق الطلاق والظهار النكاح جاز أن يجعل صحة كل واحد منهما دليلا على صحة الآخر

مسألة 24
إذا تعارضت في الأصل علتان إحداهما تقتضي حمل الفرع عليه والأخرى لا تقتضي حمل الفرع عليه جاز القول بهما إذا لم يتنافيا
ومن أصحابنا من قال لا يجوز
لنا هو أن العلل أمارات وعلامات وأدلة فجاز أن يتفق إثبات عام وخاص على إثبات حكم واحد في عين واحدة كالكتاب والسنة
ولأن الطري التي تدل على صحة العلة من النص والإجماع والتأثير قد وجد في العلتين جميعا فدل على صحتهما
ولأنه إن كانت العلة هي المعنى التي تعلق بها الصلاح في الحكم كما قال بعض الناس فيجوز أن يتعلق العلة بكل واحد من العلتين وإن كانت أمارة على

الحكم كما قال آخرون فيجوز أيضا أن تجتمع أمارات في إثبات الحكم فوجب أن يجوز القول بالعلتين
واحتج المخالف بأنهما يتنافيان في المعنى لأن إحداهما تقتضي حمل الفرع على الأصل والأخرى تمنع من ذلك فصارتا كالعلتين المتنافيتين في الحكم
قلنا لا نسلم أن بينهما تنافيا
وقولهم إن إحداهما تمنع حمل الفرع على الأصل غير حصحي لأن كل واحد منهما يمنع حمل الفرع على الأصل وإنما لا يتعدى إحداهما فأما أن يكون هناك علة أخرى تقتضي حمل الفرع على الأصل فلا يجوز
قالوا ولأن القول بهما يؤدي إلى تنافي الحكم في العلة لأنك إذا عكست إحدى العلتين في الفرع أوجبت ضد حكم المعلل فصار كالعلتين المتنافيتين
قلنا إن العلل الشرعية إنما تقتضي وجود الحكم لوجودها ولا تقتضي انتفاءه بانتفائها فلا يؤدي إلى التنافي في الحكم في العلتين

مسألة 25
إذا تعارضت علتان إحداهما ناقلة والأخرى مبقية على الأصل فالناقلة أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو أن الناقلة تفيد حكما شرعيا والأخرى لا تفيد إلا ما كان قبل ذلك فكان ما تفيد حكما شرعيا أولى لأنهما دليلان تعارضا فقدم الناقل منهما على المبقي كالخبرين
واحتج المخالف بأن الناقلة تفيد تعلق الحكم بمعنى لم يكن متعلقا به قبل ذلك فتعلق الحكم بمعنى مخالف لبقائه بحكم الأصل واستصحاب الحال
ألا ترى أن بقاءه بحكم الأصل لا يقع به تخصيص ولا ترك دليل ونقله بالتعليل يوجب تخصيص ما عارضه من العموم وتأويل ما عارضه من الظواهر
قلنا يبطل بالخبرين إذا تعارضا وأحدهما ناقل والآخر مبق على الأصل فإن المبقي منهما يفيد بقاء الحكم بدليل لا يوجب التخصيص والتأويل ثم يقدم الناقل عليه
ولأن الناقلة ساوتها في جميع ما ذكروه وانفردت بأنها تفيد حكما شرعيا لم يكن قبل ذلك فوجب أن تقدم
مسألة 26
إذا كانت إحدى العلتين تقتضي الحظر والأخرى تقتضي الإباحة فالتي تقتضي الحظر أولى في قول بعض أصحابنا وهو قول أبي الحسن الكرخي
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو أن التعارض إذا حصل اشتبه الحكم عنده ومتى اشتبه المباح بالمحظور غلب الحظر كذكاة المجوسي والمسلم والأخت والأجنبية ويدل عليه هو أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا غلب الحظر على الإباحة كالجارية المشتركة بين الرجلين لا يحل لواحد منهما وطؤها كذلك هاهنا
ولأن الحظر أحوظ لأن في الإقدام على المحظور إثما وليس في ترك المباح إثم
واحتج المخالف بأن تحريم المباح كإباحة المحظور فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية
قلنا هما وإن استويا فيما ذكروه إلا أن للمحظور مزية وهو أنه يأثم بفعله ولا يأثم بترك المباح فكان الحظر أولى
مسألة 27
إذا كانت إحدى العلتين توجب الحد والأخرى تسقطه فهما سواء
ومن أصحابنا من قال المسقط للحد أولى
لنا هو أن الشهبة لا تؤثر في إثبات الحد في الشرع والدليل عليه أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فإذا تعارض فيه علتان وجب أن يكونا سواء كما تقول في سائر الأحكام
واحتج المخالف بقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا الحد ما استطعتم ولأن يخطىء الإمام في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة
قلنا إن هذا إنما ورد عند القضاء والاستفتاء ولهذا قال فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة

قالوا ولأنه لو تعارض بينتان في ذلك سقطتا فكذلك إذا تعارض دليلان
قلنا إحدى البيئتين توجب الاستيفاء والأخرى توجب الإسقاط فجعل ذلك شبهة فأسقطتا وهاهنا إحدى الدليلين دل على أنه شرع والآخر دل على أنه ليس بشرع والشبهة لا تؤثر في ذلك فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية بذلك عليه إذ في الاتسيفاء لا تقبل شهادة واحد وفي إثبات الحدود يقبل خبر الواحد والقياس فافترقا

مسألة 28
إذا كانت إحدى العلتين تقتضي العتق والأخرى لا تقتضيه فهما سواء
وقال بعض المتكلمين التي تقتضي العتق أولى
لنا هو أنه لا مزية للعتق على الرق في كونه شرعا فكان التعارض بينهما كالتعارض في غيرهما
واحتج المخالف بأن العتق مبناه على القوة ألا ترى أنه يسري إلى غيره وإذا وقع لم يلحقه الفسخ فوجب أن يقدم ما يقتضي العتق على ما يقتضي الرق
قلنا قوة العتق على الرق في الوقوع فأما في كونه شرعا في إثبات حكم الشرع فالعتق والرق واحد فلا يقدم أحدهما على الآخر
مسألة 29
إذا كانت إحدى العلتين أكثر فروعا من الأخرى كانت أكثرهما فروعا أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء وهو قول أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن أكثرهما فروعا تفيد من الأحكام مالا تفيد الأخرى فكانت أولى
ولأن كثرة الفروع تجري مجرى شهادة الأصول فيجب أن تكون أولى
واحتج المخالف بأنه لو تعارض لفظان يدخل في أحدهما من المسميات أكثر مما يدخل في الآخر لم يقع بذلك ترجيح فكذلك العلتان
قلنا لو كانتا كاللفظين لوجب أن يكون ما قل فروعه أولى كما كان الأخص من اللفظين أولى من الأعم منهما
ولأن اللفظ الخاص والعام إذا تعارضا أمكن بناء أحدهما على الآخر ولا يمكن ذلك في العلتين فقدم أكثرهما فائدة
مسألة 30
إذا كانت إحدى العلتين أقل أوصافا من الأخرى فالقليلة الأوصاف أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو ما قلت أوصافها أجرى على الأصول وأسلم من الفساد فكانت أولى
ولأن ما قلت أوصافها تشابه العقليات فكانت أولى
واحتج المخالف بأن ذات الأوصاف وذات الوصف الواحد سواء في إثبات الحكم فكانتا سواء عند التعارض
قلنا ينكسر بالخبر والقياس فإنهما يتساويان في إثبات الحكم ثم يقدم الخبر على القياس عند التعارض
مسألة 31
إذا كانت إحدى العلتين منتزعة من أصلين والأخرى من أصل واحد قدمت من أصلين في قول بعض أصحابنا
ومنهم من قال هما سواء
لنا هو أنه إذا كثرت الأصول كثرت شواهد الصحة فيجب أن يكون أولى كما لو عاضد إحداهما ظاهر ولم يعاضد الأخرى
واحتج المخالف بأنه إذا كانت العلة واحدة فكثرة الأصول لا تؤثر ألا ترى أن العلة إذا فسدت فسدت في الأصول كلها ولم تنفع كثرة الأصول
قلنا هذا يبطل به إذا عاضد إحدى العلتين عموم فإنها إذا فسدت لم تنفع معاضدة العموم لها ثم تقدم على الأخرى
مسألة 32
إذا كانت إحدى العلتين صفة ذاتية والأخرى حكمية فالحكمية أولى ومن أصحابنا من قال الذاتية أولى
لنا هو أن المطلوب هو الحكم والحكم أخص بالحكم من الصفة الذاتية فكانت الحكمية أولى
ولأن الصفة الذاتية قد توجد ولا يتعلق بها الحكم وذلك قبل الشرع ولا توجد الحكمية إلا والحكم متعلق بها فكانت الحكمية أولى
واحتج المخالف بأن الصفات معان لا يفتقر وجودها إلى ما تفتقر إليه الأحكام في الشرع فكان تعليق الحكم على الصفات أولى
قلنا الأحكام وإن افتقر ثبوتها إلى الشرع إلا أنها إذا ثبتت كانت كالصفات في الثبوت ولا مزية للصفات عليها من هذا الوجه وقد بينا ترجيح الحكم على الصفة فوجب أن يكون أولى
قالوا ولأن الصفات تشابه العقليات فكانت أقوى
قلنا في العقليات المقصود طلب أحكام العقل والصفات أخص بها وهاهنا المقصود طلب حكم الشرع فكان الحكم أخص به
مسألة 33
القول بالاستحسان باطل وهو ترك القياس لما يستحسن الإنسان من غير دليل
وحكى الشافعي رضي الله عنه وبشر المريسي القول عن أبي حنيفة بالاستحسان وهو ترك القياس لما استحسنه الإنسان من غير دليل

وأنكر المتأخرون ذلك من مذهبه
فقال أبو الحسن الكرخي الاستحسان العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها بدليل يخصها

وقال بعضهم هو القول بأقوى الدليلين
وقال بعضهم هو تخصيص العلة
فإن كان المذهب ما حكاه الشافعي وبشر المريسي فدليلنا قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وما يستحسن من غير دليل لا علم له به
ولأن القياس دليل من أدلة الشرع فلا يجوز تركه لما يستحسنه الإنسان من غير دليل كالكتاب والسنة
ولو جاز الرجوع إلى ما يستحسنه الإنسان من غير دليل لوجب أن يستوي العلماء والعامة في ذلك لأنهم يستحسنون كما يستحسن العلماء
وإن كان الأمر على ما فسره أصحابه فإنه لا مخالفة في معناه فإن ترك أضعف الدليلين لأقواهما واجب وترك القياس بدليل أقوى منه واجب ولكنهم لم يجروا على هذا الطريق فإنهم تركوا القياس في مواضع ليس معهم فيها دليل أقوى مما تركوه وسموها مواضع الاستحسان فمن ذلك إيجاب الحد بشهود الزوايا فإنه ترك اختلاف الشهادات وألفاظها برأيه من غير دليل وأوجب فيها الحد فدل على بطلان ما قاله المتأخرون
واحتجوا بقوله تعالى الله نزل أحسن الحديث
وقوله تعالى اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

قلنا هذا أمر بالاتباع لما أنزل وكلامنا فيما يستحسنه الإنسان من تلقاء نفسه من غير دليل
فإن قيل روى عن ابن عباس أنه قال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
قلنا المراد به ما أجمع الناس عليه ألا ترى أنه علق ذلك على استحسان جميع المسلمين وعندما استحسنه أهل الإجماع فهو حسن عند الله تعالى فيجب المصير إليه والعمل به

مسائل الاجتهاد
مسألة 1
الحق من قول المختلفين في أصول الديانات واحد وما عداه باطل
وحكي عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد مصيب
وحكي عن بعضهم أنه قال ذلك فيما يجري مجرى القول في القدر والإرجاء والآثار

لنا هو أن مسائل الأصول عليها أدلة قاطعة على أن الأمر فيها على صفة واحدة فمن اعتقد فيها خلاف ما هي عليه كان اعتقاده جهلا والخبر عنه كذبا والجهل والكذب قبيحان فلا يجوز أن يكون صوابا
ويدل عليه هو أن كل قولين لا يجوز ورود الشرع بصحة واحدة منهما لم يجز أن يكون القول بهما صوابا كقول المسلمين إن الله تعالى واحد لا شريك له وفي قول النصارى إنه ثالث ثلاثة
واحتج بأنه إذا جاز أن يكون كل مجتهد في الفروع مصيبا جاز مثله في الأصول
قلنا لا نسلم فإن الحق عندنا من قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل
وإن سلمنا ذلك فالفرق بينهما ظاهر وذلك أن الفروع ليس عليها أدلة قاطعة وليس كذلك هاهنا فإن على الأصول أدلة قاطعة فلم يجز أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ولأن في الفروع يجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين فجاز أن يجعل واحد من المجتهدين مصيبا بخلاف الأصول فإنه لا يجوز أن يرد الشرع به بحكمين متضادين فلا يجوز أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا

مسألة 2
الحق من قول المجتهدين في الفروع واحد وعلى ذلك دليل يجب طلبه وإصابته وما سواه باطل وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الحق في واحد ولم يكلف إصابته وإنما كلفنا الاجتهاد في طلبه
وذهب كثير من الأشعرية إلى أن كل مجتهد مصيب وهو قول أكثر المعتزلة وهو مذهب أبي حنيفة غير أنهم اختلفوا في ذلك

فذكر الكرخي أن هناك أشبه مطلوب في الحقيقة ولم يكلف المجتهد إصابته وإنما كلف حكم اجتهاده وذكر أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه
وقال أبو هاشم ليس هناك أشبه مطلوب أكثر من أن الحكم بما هو أولى عنده أن يحكم به وهي إحدى الروايتين عن أبي علي
لنا قوله عليه السلام إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد فدل على أنه يصيب مرة ويخطىء أخرى
فإن قيل المراد به إصابة النص والإجماع والخطأ بهما

قيل اللفظ عام فوجب أن يحمل على عمومه ولأن استحقاق الأجرين لا يختص بإصابة النص والإجماع فإن ما فيه نص وإجماع ومالا نص فيه ولا إجماع في الأجر سواء فدل على أنه عام في الجميع
ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له رجل حضره هذا والله الحق ثم حكم بحكم آخر فقال له الرجل هذا والله هو الحق فقال له عمر رضي الله عنه إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألو جهدا
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان خطأ فمنه وإن كان صوابا فمن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي أجهضت ذا بطنها إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ
وروي أنه قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان

وروي أن عليا رضي الله عنه وابن مسعود وزيدا خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا قد ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث
وروي عن ابن عباس أنه قال ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا
وهذا إجماع ظاهر على تخطئة بعضهم بعضا في مسائل الاجتهاد فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل
ويدل عليه إجماع الأمة على وجوب النظر والاستدلال في ترتيب الأدلة وبناء بعضها على بعض ولو كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر والاجتهاد معنى
وربما عبر عن هذا بأن الناس قد اتفقوا على حسن النظر وعقد المجالس به ولو كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر معنى ولا لعقد المجالس بسببه وجه إذ لا يجوز أن يناظر بعضهم بعضا على أمر هو حق وصواب كما لا يجوز أن يناظر بعضهم بعضا على ترك ما أجمعوا عليه من الأحكام
فإن قيل لا نسلم أن النظر والاجتهاد يجب في مسائل الاجتهاد بل الإنسان عندنا بالخيار بين الأقاويل فيأخذ بما شاء منها كما تقول في الكفارات
قلنا هذا خلاف الكتاب فإن الله عز و جل قال فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله وأمر بالرجوع إلى الدليل

ولأن هذا خلاف الإجماع فإن أحدا لم يقل بالتخيير فالقول مخالف للإجماع
ولأنه لو كان الأمر على ما قال هذا القائل لاشتراك العامي والعالم في جواز الفتوى والحكم وهذا لا يقوله أحد فسقط
فإن قيل إنما يتناظرون ويجتهدون في ذلك لمعرفة النص والإجماع حتى لا يقدموا على مخالفتهما
قلنا هذا خطأ لأنهم يجتهدون فيما لا نص فيه ولا إجماع فدل على أن ذلك كما ذكرناه
فإن قيل يحتمل أن يكون نظرهم في ذلك واجتهادهم لطلب الأحصلح دون معرفة الفاسد والصحيح
قلنا لا يصح لأن الأصلح في المنفعة لا يتعلق بأدلة الشرع والنظر في ترجيح الأصول فبطل أن يكون لما ذكروه
فإن قيل نظرهم لطلب الأشبه
قلنا إن كان الأشبه ما قاله الكرخي من أشبه مطلوب عند الله في الحادثة فقد سلمتم المسألة لأنه إذا كان هاهنا أشبه مطلوب دل على أن الحق واحد وما سواء ليس بحق وإن كان الأشبه ما قاله أبو هاشم وهو أن الحكم بما هو أولى عنده فهذا مالا فائدة فيه في النظر لأجله لأنه إذا كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر بحكم دون حكم معنى أكثر من إتعاب الفكر والنفس وتقطيع الزمان من غير فائدة
ويدل عليه أن القولين المتضادين في مسائل الاجتهاد كالتحليل والتحريم والإيجاب والإسقاط والتصحيح والإفساد لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيحا والآخر فاسدا ولا يجوز أن يكونا صحيحين لأن ذلك يوجب أن يكون الشيء الواحد حلالا وحراما صحيحا فاسدا حسنا قبيحا وذلك مستحيل ولا يجوز أن يكونا فاسدين لأن ذلك يؤدي إلى إجماع الأمة على الخطأ فثبت أن أحدهما صحيح والآخر باطل

فإن قيل إنما لا يجوز أن يكونا صحيحين في حق كل واحد وأما في حق اثنين فلا يمتنع
ألا ترى أنه يحل أكل الميتة للمضطر ويحرم على المختار ويحل الفطر للمسافر ويحرم على الحاظر فكذلك هاهنا يجوز أن يكون الشيء الواحد حلالا في حق من أداه الاجتهاد إلى تحليله حراما في حق من أداه الاجتهاد إلى تحريمه
قلنا هذا يجوز فيما ورد النص فيه على سبيل التفصيل والمخالفة كما ذكروه في الميتة في حق المضطر والمختار والفطر في حق الحائض والمسافر وأما فيما ورد الدليل فيه على سبيل الإطلاق والعموم فلا يجوز
ومعلوم أن ما ورد من الدليل في هذه المسائل عام في حق جميع الناس فلا يجوز أن يقتضي الحكم على سبيل التخصيص والتفصيل
فإن قيل الدليل الذي يدل على الحكم بظن المجتهد فأما الأمارات فإنها تقع متكافئة وظن كل مجتهد يخصه لا يتناول غيره
قلنا هذا خطأ بل الدليل الكتاب والسنة والقياس قال الله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فرد إلى الكتاب والسنة والقياس وقال صلى الله عليه و سلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن بم تقضي فذكر الكتاب والسنة والقياس ولم يذكر الظن
ولأن أهل العلم عند حدوث الحادثة لا يفزعون إلا إلى الكتاب والسنة والقياس فدل على أنها هي الأدلة دون الظن
ولأنه لو كان هذا الدليل هو الظن لما صح احتجاج أحد على أحد بالكتاب والسنة والقياس لأن ذلك كله غير الدليل الذي يلزمه حكمه

ولأنه لو كان الديل هو الظن لاستوى العلماء والعامة في الحكم لأنهم في الظن واحد
فإن قيل لو كان الدليل ما ذكرتم لوجب إذا نظر الحنفي فيما نظر فيه الشافعي من الدليل أن يقع له ما وقع للشافعي
قلنا هذا يبطل بمسائل الأصول فإن كل واحد من الخصمين ينظر فيما ينظر فيه الآخر فلا يقع له ما وقع لخصمه ثم لا يدل على أنه ليس هناك دليل غير النظر
ويرد هذا الدليل على وجه آخر وهو أن تحليل الشيء وتحريمه وإفساده وتصحيحه لا يجوز ورود الشرع به ولو جاز ذلك لورد النص به فيقول النبيذ حلال حرام والنكاح بلا ولي باطل صحيح على هذه الصفة ومالا يجوز ورود الشرع به لم يجز أن يرد عليه النظر والاجتهاد بين صحة هذا أن النظر والاجتهاد نتيجة النص والإجماع فإذا استحال أن يدل النص والإجماع على تحليل الشيء وتحريمه على الإطلاق استحال أن يدل عليهما النظر والاجتهاد إذ لا يجوز أن تدل نتيجة الشيء على مالا يدل عليه أصله
فإن قيل إنما تسحيل ورود الشرع من جهة النص بالتحريم والتحليل والإفساد والتصحيح في حق واحد ومثله يستحيل من جهة النظر والاجتهاد فأما في حق اثنين فلا يستحيل ألا ترى أن النص قد ورد بتحليل الميتة للمضطر وتحريمها على المختار وإحلال الفطر للمسافر وتحريمه على الحاضر فكذلك هاهنا يجوز أن يحل الشيء في حق مجتهد ويحرم في حق غيره ويفسد العقد في حق مجتهد ويصح في حق غيره
قلنا نحن لا ننكر ورود الشيء بتحريم الشيء على شخص وتحليله لغيره

فيقضي فيه بحسب ما تقتضيه الدلالة من التفصيل والتخصيص وإنما ننكر ورود الشرع بتحليل الشيء وتحريمه وإفساد عقد وتصحيحه على سبيل الإطلاق والعموم وذلك لا يجوز من جهة النص والإجماع فكذلك لا يجوز من جهة النظر والاجتهاد
واحتج المخالف بأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفت في مسائل كثيرة وحوادث شتى وأقر بعضهم بعضا على الخلاف ولم يظهر منهم في ذلك تبري ولا تغليظ في القول ولو كان الحق في واحد لما أقر بعضهم بعضا على ذلك كما لم يقروا من أباح الخمر منهم على قوله وأظهروا التغليظ وتبرأ بعضهم من بعض كما فعلوا ذلك في مانعي الزكاة ولما لم ينقل عنهم في الفروع شيء من ذلك دل على أن كل مجتهد مصيب
قلنا إجماع الصحابة حجة عليكم فإنهم صرحوا على أن الحق في واحد وما سواه خطأ وقد بينا ذلك فأغنى عن الإعادة
وأما ترك التبري والتغليظ في القول حسب ما فعلوا في ترك الصلاة فلا يدل على أن الجميع حق كما أن ترك التبري والتغليظ بالقول على من فعل الصغائر من الذنوب والمخالفة بينه وبين من ارتكب الكبائر معهم في ذلك لا يدل على أن ذلك حق وصواب
وعلى أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفت في مسائل أجمعوا فيها بعد الخلاف أن الحق في واحد وما عداه باطل كاختلافهم في معانعي الزكاة ولم يظهروا التبري في حال الاختلاف ولا التغليظ في القول على من خالف منهم ثم لا يدل على أن الجميع حق وصواب
ولأنه إنما يجب التبري والتغليظ فيما يعلم بطريق مقطوع به وصرح بدليله وانقطع عذر من خالف فيه فيجب التغليظ عليه والتبري منه كالأحكام التي ذكروها فأما فيما يعلم بطريق لا يقطع به وكثرت فيه وجوه الشبه وتزاحمت فيه صروف التأويل والترجيح فلا يجب ذلك فيه وما اختلفت فيه الصحابة رضي الله عنهم من هذا القبيل فلهذا تركوا فيه التبري والتغليظ

قالوا ولأنه لو كان الحق في واحد لكان الله تعالى قد نصب عليه دليلا ولو كان فعل ذلك لسقط عذر المخالف فيه ولوجب أن يجعل كل من خالف ذلك آثما فاسقا كما نقول في العقليات
قلنا كذا نقول إن الله تعالى قد نصب على الحق دليلا وأبان به خطأ المخالف ولكنه لا يأثم ولا يفسق لأن طريق المأثم والفسق الشرع وقد ورد الشرع بإسقاط الإثم عن المجتهد وترك تفسيقه
وعلى أنه يحتمل أن يكون قد أسقط عنه المأثم والفسق لخفاء الأدلة بكثرة وجود الشبه فأكمل الله تعالى التفضل على المجتهد بأن أسقط عنه الإثم وأثابه على قصده واجتهاده
قالوا لو كان الحق في واحد لكان ينقض به كل حكم يخالفه كما قال الأصم وبشر المريسي ولما قلتم إنه لا ينقض الحكم بخلافه دل على أن الجميع حق وصواب
والجواب أنه ليس إذا لم ينقض الحكم الواقع بأحد القولين دل على أنه حق وصواب
ألا ترى أن من باع في حال النداء لم ينقض بيعه ولا يدل أن ذلك حق وصواب
ولأنه إذا لم ينقض الحكم لجواز أن يكون هناك آخر لم يؤده اجتهاده إليه فلا يجوز الإقدام على بعضه
وعلى أنه إن كان المنع من نقض الحكم دليلا على أن الكل حق فوجوب

الانتقال إلى غيره عند تغير الاجتهاد دليل على أن الحق واحد فليس لهم أن يتعلقوا بترك النقض إلا ولنا أن نتعلق بوجوب الانتقال عند تغير الاجتهاد
وعلى أنه إنم لم تنقض الأحكام لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يستقر لأحد مالك في الشرع ولا يثبت به حق لأنه متى حكم له حاكم بملك أو حق جاء غيره فنقض ذلك ويجيء آخر فينقض على الثاني وعلى هذا أبدا فلا يستقر لأحد ملك على شيء وهذا فيه فساد عظيم
قالوا لو كان الحق في واحد لما سوغ للعامي تقليد من شاء من العلماء
قلنا نحن لا نسوغ له تقليد من خالف الحق بل نقول له قلد عالما بشرط أن يكون مصيبا كما نقول له قلد عالما بشرط أن يخالف النص
على أنا لو منعنا العامي أن يقلد إلا من معه الصواب لم يجد إلى معرفة ذلك سبيلا إلا بأن يتعلم الفقه وفي إيجاب ذلك على كل أحد مشقة وفساد فسمح له بتقليد الأوثق في نفسه
قالوا لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز استخلاف المخالفين في القضايا والأحكام مع العلم بأنهم يحكمون بخلاف ما يعتقده المستخلف
قلنا نحن لا نستخلف من يعتقد في قضاياه مذهب نفسه فيحكم به وإنما نستخلف من هو من أهل الاجتهاد يجدد اجتهاده في كل قضية فيحكم بما يقتضيه الدليل
قالوا لا خلاف أن المجتهد إذا بذل وسعه في الاجتهاد وطلب الحكم وجب عليه اعتقاد ما أداه الاجتهاد إليه ومتى ترك ذلك استحق الذم فلو لم يكن المأمور به ما أداه اجتهاده إليه لما استحق الذم على تركه وإذا ثبت أن ذلك هو المأمور به وجب أن يكون حقا وصوابا
قلنا لا نسلم أنه يجب عليه بالإجماع وكيف يدعى الإجماع في هذا مع إنكار مخالفته عليهم ومنعهم منه وإظهار الاحتجاج على فساده

ولو سلمنا ذلك تسليم نظر لم يتم الدليل لأنا إنما نوجب ذلك بشرط الصحة والسلامة فإذا أدى إلى خلاف ذلك الحق نسبناه إلى الخطأ كما يجوز الرمي إلى الهدف بشرط السلامة فإذا أدى إلى الهلاك نسبناه إلى التفريط وعلمنا خطأه فيه
ثم هذا يبطل به إذا أداه الاجتهاد إلى خلاف النص مع الجهل به فإنه مأمور بما أدى الاجتهاد إليه ثم لا نقول بأن ذلك حق وصواب
وعلى أن هذا حجة عليهم لأنه متى أداه الاجتهاد إلى شيء وقام الدليل عليه لم يجز له اعتقاد غيره ولو كان الجميع حقا وصوابا لجاز تركه إلى غيره كما يجوز ترك العتق في كفارة اليمين إلى الإطعام والكسوة حيث كان الجميع مأمورا به ولما لم يجز ذلك دل على أن الحق في واحد وما عداه باطل
قالوا ولأنه لا خلاف أن ترجيح الظواهر المتقابلة يجوز لما لا يجوز أن يثبت الحكم بنفسه وهذا يدل على أن دليل الحكم هو الذي وقع له المقابلة وأنه إذا تعارض ظاهران فقد قام دليل كل واحد من الخصمين على الحكم فدل على أن الجميع حق
قلنا لا نسلم فإنه لا يرجح عندنا أحد الدليلين على الآخر إلا بما يجوز أن يجعل دليلا عند الكشف والتقرير
وعلى أن هذا هو الحجة عليهم فإنه لو كان الجميع صوابا لما طلب تقديم أحد اللفظين على الآخر بصروف من الترجيح ولما عدلوا عند التقابل إلى الترجيح دل على أنه لا يجوز أن يكون ما اقتضاه الظاهر أن الجميع حق
قالوا ولأن أدلة الأحكام في مسائل الخلاف تقع متكافئة ليس فيها ما يقتضي القطع
ألا ترى أن كل واحد من الخصمين يمكنه أن يتأول دليل خصمه بضرب من الدليل ويصرف عن ظاهره بوجه من الدليل بحيث لا يكون لأحد منهما على الآخر مزية في البناء والتأويل فوجب أن يكون الجميع حقا وصوابا

قلنا لا نسلم أنهما يتساويان في البناء والتأويل بل لا بد أن يكون لأحدهما على الآخر مزية في البناء والترتيب والاستعمال والترجيح ولهذا إذا تناظر الخصمان بأن لمن يحضر ممن يعتقد أن كل مجتهد مصيب أن أحد الكلامين أظهر من الآخر
وعلى أن هذا لو كان دليلا على أن كل مجتهد مصيب في الفروع لوجب أن يجعل دليلا على أن كل مجتهد مصيب في الأصول فإن الأشعرية والمعتزلة إذا تكلموا في مسألة تخليد الفساق استدل كل واحد منهم بظاهر القرآن ويتأول ظاهر خصمه بضرب من الدليل وكذلك في مسألة إثبات الرؤية وخلق الأفعال وكثير من مسائلهم ثم لا يقال إن الحق في جميع ذلك فإن الظواهر فيها متعارضة والتأويلات فيها متقابلة فكذلك في مسألتنا
قالوا ولأن حمل الناس على مذهب واحد يؤدي إلى التضييق فوجب أن يجعل الجميع حقا ليتوسع الناس فيها
قلنا لو كان هذا دليلا على أن الجميع حق لوجب على أن لا يلزم العمل بما ورد به النص والإجماع من الأحكام المغلقة لأن في ذلك تغليظا وتشديدا ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما ذكروه أيضا
ولأن المصلحة في الشرع لا تتعلق بما يميل إليه الطبع حتى يبني الأمر فيه على ما يميل الطبع إليه بل المصلحة متعلقة بما حكم الله عز و جل به فيجب أن يطلب ذلك بالدليل
وعلى أنا نقلب هذا عليهم فنقول حمل الناس على قول واحد نفع لهم وأصلح فإنهم يتوافرون على طلبه وتمييزه من غيره فيتوفر أجرهم ويعظم ثوابهم فيجب أن يجعل الحق في واحد

مسألة 3
لا يجوز أن يتكافأ دليلان في الحادثة بل لا بد أن يكون لأحدهما مزية على الآخر وترجيح
وقال أبو علي وأبو هاشم يجوز أن يتكافأ دليلان في الحادثة فيتخير المجتهد عند ذلك فيعمل بما شاء
لنا أن المسألة مبنية على أن الحق في قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل وقد دللنا على ذلك وإذا ثبت هذا لم يجز أن تتكافأ فيه الأدلة كالعقليات
واحتج المخالف بأن الحادثة قد تأخذ شبها من أصلين فيكون شبهها بكل واحد منهما كشبهها بالآخر من غير أن يكون لأحد الشبهين مزية فدل على جواز ذلك
قلنا لا نسلم بل لا بد من ضرب من الترجيح يقترن بأحدهما ودليل يدل على تقديم أحدهما على الآخر فلا يصح ما ادعوه
مسألة 4
تخريج الشافعي رضي الله عنه المسألة على قولين جائز
وذهب من لا يعتد بخلافه أن ذلك لا يجوز
وربما قالوا إن ذلك لا يجوز من جهة أنه لا يجوز أن يعتقد المجتهد في الحادثة قولين متضادين ولا سيما على قوله إن الحق من قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل
وربما قالوا إن تخريج المسألة على قولين يدل على نقصان الآلة وقلة العلم حتى لم يعلم الحق من القولين ويحتاج أن يخرج المسألة على قولين
وهذا خطأ

لأن ما ذكر عن الشافعي رحمه الله فيه قولان على وجوه ليس في شيء منها ما يتوجه عليه اعتراض
فمنها أن يذكر قولا في القديم ثم يذكر قولا آخر في الجديد فيكون مذهبه الثاني منهما والأول مرجوع عنه ويكون القولان له رحمه الله كالروايتين عن الإمامين أبي حنيفة ومالك وسائر الفقهاء رحمهم الله
ومنها أن يذكر قولين ثم يدل على تصحيح مذهبه منهما بأن يقول هذا أشبه بالحق وأقرب إلى الصواب أو يفسد الآخر ويقول هو مدخول فيه أو منكسر فيبين أن مذهبه هو الآخر أو يفرع على أحدهما ويترك الآخر فيعلم أنه هو المذهب فما كان منه على هذا الوجوه لا اعتراض عليه فيه لأنه لم يجمع بين القولين في الاختيار فينسب إلى أنه اعتقد قولين متضادين في مسألة واحدة ولا توقف عن القطع بأحدهما فيقال إنه قصر عن إدراك الحق
فإن قيل إذا كان مذهبه أحد القولين على ما ذكرتم فما الفائدة في ذكر القولين
قلنا إنما ذكر ذلك ليعلم أصحابه طرق العلل واستخراجها والتمييز بين الصحيح من الفاسد من الأقاويل وهذه فائدة كبيرة وغرض صحيح وقد يكون من ذلك ما ينص فيه على قولين ولا يبين مذهبه منهما قال القاضي أبو حامد ولا نعرف له ما هذا سبيله إلا في ست عشرة مسألة أو سبع عشرة مسألة فهذا أيضا لا اعتراض عليه فيه لأنه لم يذكرهما على أنه معتقد لهما وكيف يقال هذا وهما

قولان منصوصان وإنما ذكرهما لأن الحادثة تحتمل عنده هذين القولين ولم يرجح بعد إحداهما على الآخر فذكرهما ليطلب منهما الصواب فأدركه الموت قبل البيان وليس في ذلك نقض على المجتهد بل يدلك ذلك على غزارة علمه وكمال فضله حين تزاحمت عنده الأصول وترادفت الشبه حتى احتاج إلى التوقيف إلى أن ينكشف له وجه الصواب منهما فيحكم به
فإن قيل إذا لم يبن له الحق من القولين ولم يكن مذهبه القولين فما الفائدة في ذكر القولين
قلنا فائدته أن الحق في واحد من هذين القولين غير خارج منهما وأن ما عداهما من الأقاويل باطل وفي ذلك فائدة كثيرة وغرض صحيح ولهذا جعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه ليبين أن الإمامة لا تخرج منهم ولا تطلب من غيرهم فكذلك هاهنا

مسألة 5
إذا ذكر في القديم قولا ثم ذكر في الجديد غيره فمذهبه هو الثاني والأول مرجوع عنه
ومن أصحابنا من قال لا يكون رجوعا عن الأول ما لم يصرح بالرجوع
لنا أنهما قولان متضادان فالثاني منهما ترك الأول كما تقول في النصين المتضادين عن النبي صلى الله عليه و سلم
ولأنه إذا أفتى في القديم بإحلال شيء ثم أفتى في الجديد بتحريمه فقد أفتى ببطلان الأول فلا يجوز أن يكون ذلك قولا له كما لو صرح بالرجوع عنه
واحتج المخالف بأنه يجوز أن يجمع بين القولين في حالة واحدة ويكونا قولين له فكذلك يجوز أن يذكر القولين في وقتين ويكون ذلك قولين له
قلنا إذا ذكر في موضع واحد قولين لم يمكن أن يجعل أحدهما رجوعا عن الآخر فيحمل ذلك على أنه ذكرهما لينظر بهما وفي مسألتنا ذكر أحدهما بعد الآخر فجعل الثاني رجوعا عن الأول يدل عليه أن صاحب الشرع لو ذكر قولين متضادين في وقت واحد لم يجعل أحدهما ناسخا للآخر بل يجمع بينهما ويرتب أحدهما على الآخر ولو أنه ذكر ذلك في وقتين مختلفين جعل الثاني ناسخا للأول كذلك في مسألتنا
مسألة 6
إذا نص الشافعي رحمه الله في مسألة على قولين ثم أعاد المسألة وذكر فيها أحد القولين أو فرع على أحد القولين كان ذلك اختيارا للقول المعاد والقول المفرع عليه في قول المزني رحمه الله
ومن أصحابنا من قال ليس في ذلك دليل على الاختيار
لنا أن الظاهر أن مذهبه هو الذي أعاده أو فرع عليه لأنه لو كان مقيما على القولين لأعادهما وفرع عليهما ولما أفرد أحدهما بالإعادة والتفريع دل على أنه هو الذي يذهب إليه ويختاره من القولين
واحتج المخالف بأنه يجوز أن لا يعيد أحد القولين اكتفاء بما عرف له من القولين ويجوز أن يفرع على أحدهما على معنى أن هذا القول أوضح فلا يكون ذلك اختيارا له قطعا
قلنا يحتمل ما ذكروه ولكن الظاهر ما قلناه ولأن الإنسان لا يفتي إلا بما ذهب إليه ولا يفرع إلا على مذهبه
مسألة 7
إذا نص رحمه الله في مسألة على حكم ونص في غيرها على حكم آخر وأمكن الفصل بين المسألتين لم ينقل جواب إحداهما إلى الأخرى بل تحمل كل واحدة منهما على ظاهرها
ومن أصحابنا من قال ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيخرج المسألتين على قولين
لنا أن القول إنما يجوز أن يضاف إلى الإنسان إذا قاله أو دل عليه بما يجري مجرى القول فأما ما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن ينسب إليه
ولأن الظاهر أن مذهبه في إحدى المسألتين خلاف مذهبه في الأخرى لأنه نص فيهما على المخالفة فلا يجوز الجمع بين ما خالف
واحتج المخالف بأنه لما نص في إحدى المسألتين على قول وفي نظائرها على غيره وجب أن تحمل إحداهما على الأخرى
ألا ترى أن الله تعالى لما نص في كفارة القتل على الإيمان وأطلق في كفارة الظهار قسنا إحداهما على الأخرى واعتبرنا الإيمان فيهما كذلك هاهنا
قلنا نص على الإيمان في إحدى الكفارتين وأطلق في الأخرى فقسنا ما أطلق على ما قيد وفي مسألتنا صرح في كل واحدة من المسألتين بخلاف الأخرى فلا يجوز حمل إحداهما على الأخرى كما تقول في صيام الظهار والتمتع لما نص على التتابع في إحداهما وعلى التفريق في الأخرى لم يجعل حمل إحداهما على الآخر
مسألة 8
لا يجوز أن ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه ما يخرج على قوله فيجعل قولا له
ومن أصحابنا من قال يجوز
لنا هو أن قول الإنسان ما نص عليه أو دل عليه بما يجري مجرى النص وما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن يضاف إليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله ولا ينسب إلى ساكت قول
واحتج المخالف بأن ما اقتضاه قياس قوله جاز أن ينسب إليه كما ينسب إلى الله عز و جل وإلى رسوله ما دل عليه قياس قولهما
قلنا ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال إنه قول الله عز و جل ولا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما يقال إن هذا دين الله ودين رسوله عليه السلام بمعنى أنهما دلا عليه ومثل هذه الإضافة لا تصح في قول إلى الشافعي فسقط ما قالوه
قالوا لا خلاف أنه لو قال فيمن باع شقصا مشاعا من دار أن للشفيع فيه الشفعة كان ذلك قوله في الأرض والبستان والحانوت وإن لم يذكرهما فكذلك هاهنا
قلنا إنما جعلنا قوله في الدار قوله في سائر ما ذكرتم من العقار لأن طريق الجمع متساوية والفرق بين الدار وغيرها لا يمكن فجوابه في بعضها جوابه في الجميع وكلامنا في مسألتين يمكن الفرق بينهما فأجاب في إحداهما بجواب فلا يجوز أن يجعل ذلك قوله في الأخرى
مسألة 9
إذا قال الشافعي رحمه الله في مسألة بقول ثم قال ولو قال قائل بكذا كان مذهبا لم يجز أن يجعل ذلك قولا له
ومن أصحابنا من جعل ذلك قولا له
لنا أن قوله ولو قال قائل بكذلك كان مذهبا ليس فيه دليل على أنه مذهبه وإنما هو إخبار عن بيان احتمال المسألة لما فيها من وجوه الاجتهاد فلا يجوز أن يجعل له هذا القول قولا
واحتجوا بأن قوله ولو قال قائل بكذا كان مذهبا ظاهر أنه يحتمل هذا القول ويحتمل ما ذكروه فصار كما لو قال هذه المسألة تحتمل قولين
والجواب أن أكثر ما فيه أنه دل على ذلك فيحتمل في الاجتهاد وهذا لا يدل على أنه مذهب له
ألا ترى أنا نقول أبدا في مسائل الخلاف هذه مسألة يسوغ فيها الاجتهاد ثم لا يقتضي ذلك أن تكون تلك المذهب أقوالا له
مسألة 10 110
يجوز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وقول قول بين المتكلمين
ومن الناس من قال يجوز بالإذن ولا يجوز لغير الإذن
لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة باجتهاده وهو حاضر
وروي أنه أمر عمرو بن العاص أن يحكم بين نفسين على أنه من أصاب فله عشر حسنات فقال يا رسول الله أجتهد وأنت حاضر فقال نعم فدل على جواز ذلك
ولأن ما جاز الحكم فيه في غيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم جاز الحكم به في حضرته كالكتاب والسنة

ولأنه إذا جاز الاجتهاد في غيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وخطؤه لا يستدرك فبحضرته أولى لأنه إذا أخطأ استدرك خطأه فيحضر وينبه عليه
احتجوا بأن الحكم بالاجتهاد يعلم بغالب الظن فلا يجوز مع إمكان الرجوع إلى العلم والقطع
والجواب أنه لا يمتنع أن يحكم الحاكم بغلبة الظن وإن أمكن الرجوع إلى العلم
ألا ترى أنه يجوز العمل بخبر الواحد وإن أمكنه الرجوع إلى خبر جماعة يقع العلم بخبرهم فكذلك يجوز أن يحكم بما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قديما وإن أمكنه الرجوع إلى قوله فيقطع بصحته
وعلى أن الحكم بحضرته بالاجتهاد حكم بالعلم لأنه إن أخطأ منعه فيجب أن يجوز ذلك

مسألة 11
كان للنبي صلى الله عليه و سلم أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام
ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة
لنا قوله عز و جل لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يفرق بين ما أراه بالنص أو بالاجتهاد
ولأن داود وسليمان عليهما السلام حكما باجتهادهما ولم ينكر الله عز و جل عليهما فدل على جوازه
ولأن القياس دليل عن الله عز و جل في الأحكام فجاز لرسوله صلى الله عليه و سلم أن يستفيد الحكم من جهته كالكتاب

ولأن القياس استنباط معنى الأصل ورد الفرع إليه والنبي عليه السلام أعلم بذلك من غيره فهو أولى
ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إذا قرأ الآية وعرف منها الحكم وعلة الحكم لم يخل أما إنه يعتقد ما تقتضيه العلة أو لا يعتقد ذلك
فإن اعتقد ذلك فهو عمل بالاجتهاد وصار إلى ما قلناه
وإن لم يعتقد صار مخطئا وذلك منفي عنه
ولأن الاجتهاد موضع لرفع المنازل والزيادة في الدرجات وأحق الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجب أن يكون له مدخل فيه
واحتجوا بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فدل على أنه لا يحكم إلا عن وحي
والجواب أن الحكم بالاجتهاد حكم عن وحي وليس عن الهوى لأن الهوى ما تهواه النفس وتشتهيه من غير دليل فقد قلنا بموجب الآية
قالوا الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إظهار الحكم على جهة العلم والوحي فلا يجوز أن يصير إلى الظن ولهذا لا يجوز في طلب القبلة لمن عاينها حيث قدر على الإدراك من جهة العلم
قلنا إنما يحكم عند انقطاع الوحي والوحي متعذر في حالة الحكم فيجب أن يجوز له الاجتهاد
وعلى أن اجتهاده عليه السلام مقطوع بصحته لأنه معصوم من الخطأ في الأحكام فلا يكون حكمه بالاجتهاد غلبة ظن بل هو حكم عن علم وقطع
قالوا ولأن من خالف رسول الله صلى الله عليه و سلم في حكمه صار كافرا فلو جوزنا له أن يحكم بالاجتهاد لم يمكن تكفير من خالفه فيه لأن الاجتهاد طريقه الظن فلا يجوز أن يكفر من خالفه فيه ولهذا لما نزل باجتهاده في بعض المنازل خالفه بعض

أصحابه فقيل له في ذلك فرحل عنه وقد أجمعت الأمة على تكفير من خالفه في الحكم فدل على أنه لا يجوز له أن يحكم من طريق الاجتهاد
الجواب أنا نكفر من خالفه في الأحكام
وقولهم إنه لا يمكن تكفيره فيما طريقه الظن غير صحيح لأن ما يحكم به النبي صلى الله عليه و سلم مقطوع بصحته وإن كان عن اجتهاده لأنه معصوم فيه عن الخطأ محروس عن الزلل ويخالف هذا ما ذكروه في أمر المنزل لأن ذلك من أمور الدنيا وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم
قالوا ولأن النبي عليه السلام كان يسأل عن أشياء فيتوقف فيها إلى أن يرد الوحي كالظهار واللعان ولو جاز الاجتهاد لما توقف
والجواب أنه إنما يجوز له أن يجتهد فيما له أصل من الكتاب فيحمل غيره عليه من طريق الاجتهاد وأما فيما لا أصل له فلا سبيل إلى الاجتهاد وأما الظهار واللعان فلم يكن لهما أصل في القرآن فيجتهد في حكمهما فلذلك انتظر النص
وعلى أنه إن كان قد توقف فيما ذكروه فقد اجتهد في مواضع
ألا ترى أنه قضى في أسارى بدر بالفداء من جهة الاجتهاد وقضى في بني قريظة بالاجتهاد فقتل من أنبت منهم واسترق من لم ينبت فليس لهم أن يتعلقوا بما ذكروه إلا ولنا أن نتعلق بما ذكرناه
قالوا ولأن الاجتهاد رد الشيء إلى نظيره وللنبي عليه السلام أن يخالف بين المتفقين في الحكم ويترك موجب القياس وإذا كان كذلك لم يكن للقياس في حقه معنى
والجواب أن تقدير هذا الدليل حجة عليهم لأنه إذا جاز أن يخالف بين متفقين ويحكم بما خالف القياس فلأن يجوز له أن يحكم بما يقتضيه القياس أولى
على أنا لا نسلم هذا الأصل فإنه عليه السلام لا يجمع بين مختلفين ولا يفرق بين متفقين إلا عن نص أو معنى مستنبط من النص وإذا ثبت هذا سقط ما قالوه

مسألة 12
يجوز الخطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم في اجتهاده إلا أنه لا يقرأ عليه بل ينبه عليه
ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ
لنا قوله عز و جل عفا الله عنك لم أذنت لهم وهذا يدل على أنه كان قد أخطأ في الأذن لهم
وأيضا قوله في أهل بدر لما فاداهم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فقال عليه السلام لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا ابن الخطاب فدل على أنه كان أخطأ بالفداء
ولأه يجوز عليهم السهو والنسيان في أفعاله فجاز الخطأ عليه في اجتهاده كآحاد الأمة

واحتجوا بأن تجويز الخطأ عليه يوجب التوقف في قوله والشك عند سماعه وذلك فسق ولهذا قال الله تعالى ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
والجواب أن تجويز الخطأ لا يوجب التوقف في قوله
ألا ترى أن المفتي منا يجوز عليه الخطأ في اجتهاده ثم لا يجوز التوقف في قوله ولا الشك عند سماعه
وليس لقائل أن يقول إن تجويز الخطأ عليه يوجب التوقف في قوله ولا الشك عند سماعه فيجب أن يكون منزها عن الخطأ فكذلك هاهنا
قالوا إذا كانت الأمة معصومة من الخطأ فلأن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوما منه أولى
قلنا هذه دعوى لا دليل عليها لأنه ليس إذا كانت الأمة معصومة عن الخطأ وجب أن يكون النبي عليه السلام بذلك أولى وما الذي يدل على ذلك
ثم نقول لهم ما أنكرتم على من يقول إن الأمة إنما عصمت لانقطاع الوحي عنها فلو جوزنا عليها الخطأ في اجتهادها استمر ذلك ولم يكن للناس من يبين لهم الخطأ فيحكمون في دين الله بغير حكمه وهذا لا يجوز وليس كذلك الرسول عليه السلام فإن الوحي غير منقطع عنه فإذا أخطأ في اجتهاده عرف ذلك ونبه فلا يؤدي إلى أن يحكم في دين الله تعالى بغير حكمه فافترقا

مسألة
استصحاب حكم الإجماع في موضع الخلاف ليس بدليل
وقال المزني وأبو ثور وداود والصيرفي هو دليل
لنا أن موضع الخلاف غير موضع الإجماع فلا يجوز الاحتجاج بالإجماع من غير علة كما لو وقع الخلاف في مسألة لا يجوز الاحتجاج فيها بالإجماع في مسألة أخرى

ولأن الإجماع غير موجود في موضع الخلاف وما كان حجة لا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يوجد فيه كألفاظ صاحب الشرع إذا تناولت موضعا خاصا لم يجز الاحتجاج بها في الموضع الذي تتناوله فكذلك هاهنا
ولأن المستصحب للحال ليس معه في موضع الخلاف دليل من جهة العقل ولا من جهة الشرع ولا يجوز له إثبات الحكم كما لو لم يتقدم موضع الخلاف إجماع
ولأن الاحتجاج لاستصحاب الحال يؤدي إلى التكافؤ والتعارض وذلك أن ما من أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف في صحة فعل وسقوط فرض إلا ولخصمه أن يسصحب حال الإجماع في اشتغال ذمته بالشرع وبقاء العبادة فيتساويان في استصحاب حال الإجماع فيتكافآن وبيان ذلك
أنه من قال في المتيمم إذا رأى الماء في صلاته إن صلاته لا تبطل لأنا أجمعنا على صحة صلاته في انعقاد إحرامه ولا يجوز إبطال ما أجمعوا عليه إلا بدليل قيل قد أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة فلا يجوز إسقاط ما أجمعوا عليه إلا بدليل ولا يكون التعلق بأحد الإجماعين بأولى من التعلق بالإجماع الآخر وما أدى إلى مثل هذا كان باطلا
واحتجوا بقوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا فدل على أن ما ثبت لا يجوز نقضه
والجواب أن الآية تقتضي المنع من نقض ما هو ثابت وما أجمعوا عليه في موضع الخلاف غير ثابت فلا يدخل في الآية
قالوا ولأن الإجماع يقين والخلاف شك فلا يجوز أن يزال اليقين بالشك
ألا ترى أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث لم يزل اليقين بالشك ولهذا

قال عليه السلام إن الشيطان ليأتي أحدكم ينفسخ بين ألييه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فأمر بالبقاء على الأصل والبناء على اليقين فكذلك هاهنا
الجواب أنا لا نسلم أن اليقين لا يزال بالشك غير أنه ليس معنا في موضع الخلاف يقين قد زال بوقوع الخلاف
ويخالف هذا ما ذكروه من يقين الطهارة فإنا قد تيقنا الطهارة ولم نتيقن زوالها والظاهر بقاءها وليس كذلك في مسألتنا لأن ما تيقناه من الإجماع قد تيقنا زواله فوزانه مما قالوه أن نتيقن زوال الطهارة بالحدث فلا يستصحب حكم الطهارة
قالوا ولأن ما أجمعوا عليه من الحكم لا يجوز عليه الغلط والخلاف يجوز عليه الغلط فلا يجوز ترك ما لا يجوز عليه الغلط بما يجوز عليه الغلط كما نقول في ترك الإجماع بالقياس
قلنا فيجب على مقتضى هذا الدليل أن لا يستدل بالقياس أصلا في المواضع التي نقدمها فيقال أن ما أجمعوا عليه لا يجوز عليه الغلط فلا يجوز تركه بالقياس الذي يجوز عليه الغلط ولما جاز هذا بالإجماع سقط ما قالوه
وجواب آخر وهو أن الإجماع لا يترك بالقياس لأن الإجماع موجود والقياس دونه فلا يجوز ترك أعلى الدليلين بأدونهما وليس كذلك في مسألتنا لأن الإجماع قد زال بوقوع الخلاف فلم يجب البقاء على حكمه من غير دليل
قالوا ولأن قول المجمعين حجة فوجب استصحابه في موضع الخلاف والدليل عليه قول النبي عليه السلام

والجواب أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم موجود في موضع الخلاف متناول له فوجب العمل به وليس كذلك في مسألتنا لأن الإجماع قد زال في موضع الخلاف فوزانه من قوله عليه السلام أن يرد اللفظ خاصا في موضع ولا يجب استصحابه في الموضع الذي لا يتناوله
قالوا ولأن الإجماع يصدر عن لفظ وإن لم يظهر ذك فالاستدلال به كالاستدلال باللفظ وقد ثبت أن اللفظ يجب العمل به في موضع الخلاف فكذلك الإجماع
والجواب أن الإجماع قد يصدر عن لفظ فيجب البقاء على حكمه وقد يصدر عن معنى فلا يجب البقاء على حكمه وليس لهم أن يحملوا ذلك على أحد الأمرين إلا ولنا أن نحمله على الأمر الآخر
وعلى أنه إن كان ذلك عن لفظ فيجوز أن يكون ذلك عن لفظ مقصور على موضع الإجماع لا يتعداه فلا يجوز إثبات حكمه في موضع الخلاف بالشك
قالوا ولأن ما ثبت بالعقل من براءة الذمة يجب استصحابه في موضع الخلاف فكذلك ما ثبت بالإجماع
قلنا إنما وجب استصحاب براءة الذمة لأن دليل العقل في براءة الذمم قائم في موضع الخلاف فوجب استصحاب حكمه وليس كذلك هاهنا لأن الإجماع الذي أوجب الحكم قد زال في موضع الخلاف فوجب طلب الدليل على إثبات حكمه

مسألة
النافي للحكم عليه الدليل
ومن الناس من قال لا دليل عليه وهو قول بعض أصحابنا
لنا قوله عز و جل بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فذمهم الله تعالى بأن قطعوا بالنفي من غير دليل
ولأن القطع بالنفي لا يكون إلا عن طريق كما أن القطع في الإثبات لا يكون إلا عن طريق فلما وجب على المثبت إظهار ما اقتضاه الإثبات عنده وجب على النافي إظهار ما اقتضاه النفي عنده
واحتجوا بأن من أنكر النبوة لا دليل عليه وإنما يجب الدليل على مدعي النبوة وكذلك من أنكر الحق لا بينة عليه وإنما البينة على مدعي الحق فكذلك هاهنا يجب أن يكون الدليل على من أثبت الحق دون من نفاه

والجواب أن من ينكر النبوة إذا انقطع بالنفي وقال لست بنبي فإنه يجب عليه إقامة الدلالة على نفيه وهو أن يقول لو كنت نبيا مبعوثا لكان معك دليل على صدقك لأن الله تعالى لا يبعث نبيا إلا ومعه ما يدل على صدقه فلما لم أر معك دليلا دل على أنك لست بنبي وإن لم يقطع بالنفي بل قال لا أعلم أنك نبي أو لست بنبي فهذا لا دليل عليه لأنه لم يقطع بالنفي بل هو شاك والشاك لا دليل عليه وفي مسألتنا قطع بالنفي فلا يجوز أن يقطع بذلك إلا عن طريق يقتضيه ودليل يوجبه فوجب إظهاره
وأما منكر الحق فإنه يجب عليه إقامة البينة على إنكاره وهو اليمين فلا نسلم ما ذكروه
وجواب آخر وهو أنه إن كان المدعى عينا فاليد بينة له وإن كان دينا فبراءة الذمة بالعقل بينة له وليس كذلك هاهنا لأن نفيه لم يقم على نفيه ما يدل على صحته فلم يصح نفيه
قالوا ولأنه لو نفى صلاة سادسة لم يكن عليه دليل فكذلك هاهنا
قلنا لا بد في نفيها من دليل وهو أن يقول إن الله تعالى لا يتعبد الخلق بفرض إلا ويجعل إلى معرفته طريقا من جهة الدليل فلما لم نجد ما يدل على الوجوب دلنا ذلك على أنه لا واجب هناك فيستدل بعدم الدليل على نفي الوجوب

مسألة
الأعيان المنتفع بها قبل أن يرد الشرع على الوقف في قول كثير من أصحابنا فلا نقول إنها مباحة ولا محظورة وهو قول الصيرفي وأبي علي الطبري ومذهب الأشعري
وقال أبو علي بن أبي هريرة هي على الحظر إلا أن يرد الشرع

بإباحتها وهو مذهب المعتزلة البغداديين
وقال القاضي أبو حامد هي على الإباحة وهو قول المعتزلة البصريين
لنا أن المباح ما أذن فيه صاحب الشرع والمحظور ما حرمه صاحب الشرع فإذا لم يرد الشرع وجب أن لا يكون مباحا ولا محظورا فوجب أن يكون على الوقف
ولأن هذه الأعيان ملك لله تعالى له أن يمنع من الانتفاع بها وله أن ينسخ الانتفاع بها وله أن يوجب الانتفاع بها وقبل أن يرد الشرع لا مزية لأحد هذه الوجود على الباقي فوجب التوقف في الجميع
ولأنه لو كان العقل يوجب حكما معينا في هذه الأعيان من تحليل أو تحريم لما جاز ورود الشرع فيها بخلاف ذلك لأنه لا يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما يوجبه العقل ويقتضيه ولما جاز ورود الشرع بالتحليل والتحريم دل على أن العقل لم يوجب فيها حكما معينا
فإن قيل إن كان هذا دليلا على إبطال القول بالحظر والإباحة فيجب أن يكون دليلا على إبطال القول بالوقف لأن الشرع لا يجوز أن يرد بخلاف ما يقتضيه العقل ولما جاز عندكم أن يكون على الوقف لم يرد الشرع بالتحليل والتحريم جاز أن يكون على الحظر ويرد الشرع فيه بالإباحة أو على الإباحة ويرد فيه الشرع بالحظر
قلنا ليس القول بالوقف من القول بالحظر والإباحة بسبيل لأن من قال

بالحظر أو بالإباحة جعل ذلك حكما يوجب بالعقل فيستحيل أن يرد الشرع بما يخالفه وليس كذلك من قال بالوقف بعدم الدليل المقتضي للحظر أو الإباحة والوقف بعدم الدليل يجوز أن يرد عليه ما يزيل الوقف بالكشف عن الدليل
وأيضا إن الشرع ورد أيضا بتحريم أشياء وتحليل أشياء فلو كان الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع الحظر لما ورد الشرع بالإباحة لأن الحظر معلوم بالعقل فلو كانت الأشياء في الأصل على الإباحة لما ورد الاتباع إلا بالحظر لأن الإباحة معلومة بالعقل ولما ورد الشرع بالحظر مرة وبالإباحة أخرى دل على أن العقل ما أوجب حظرا ولا إباحة يدل على ذلك أن من قال الأصل في الأشياء الحظر لا ينفصل عمن قال إن الأصل فيها الإباحة وإذا عارض أحد القولين الآخر بطل الجمع وصح القول بالوقف
واحتج من قال بالحظر أن هذه الأعيان ملك الله تعالى والانتفاع بملك الغير لا يجوز بغير إذنه كما نقول في أملاك الآدميين
والجواب أن أملاك الآدميين إنما لم يجز الانتفاع بها بالشرع وكلامنا فيما لم يرد الشرع به فتكون منزلته من أموال الآدميين قبل أن يرد الشرع فنقول إنها على الوقف
ولأن أملاك الآدميين حجة عليهم فإن ما لا ضرر على المالك فيه لا يمنع من الانتفاع به كالاستظلال بظله والأنس بصحبته والمسير في ضوء سراجه فيجب أن لا يحرم ها هنا الانتفاع بما هو لله عز و جل من الأعيان لأنه لا ضرر عليه في الانتفاع بها وفي هذا إبطال قولهم
ثم نقول إن كان الانتفاع بهذه الأعيان لا يجوز لأنها لله تعالى فلا يجوز الإقدام عليها من غير إذن اعتبارا بأملاك الآدميين والناس عبيد الله تعالى فيجب أن لا يمنعوا من الانتفاع بما يحتاجون إليه لصلاح أبدانهم وأحوالهم اعتبارا بعبيد الآدميين حين لم يمنعوا من الانتفاع بمال الموالي بما يحتاجون إليه لصلاح أبدانهم

وأحوالهم فيلزمهم نقضيه وسبيلهم أن لا يحظروا الانتفاع بهذه الأعيان وفي ذلك إبطال لقولهم وإفساد مذهبهم
قالوا ولأنا إذا أقدمنا على الانتفاع بهذه الأعيان لم نأمن أن يعاقبنا الله تعالى على ذلك فيجب أن نتجنب ذلك خوفا من العقوبة على فعله
قلنا نقلب هذا عليكم فنقول إذا لم نقدم عليه لم نأمن أن يعاقبنا على تركه فإن له أن يعاقب على الترك كما أن له أن يعاقب على الفعل فيجب أن يقدم على الفعل على أن هذا لو كان طريقا صحيحا في إثبات الحظر لوجب أني جعل ذلك دليلا على إيجاب الصوم والحج وسائر العبادات قبل ورود الشرع ويقال إنا لا نأمن من العقاب على تركها فيجب أن يكون ذلك واجبا قبل الشرع ولما لم يصح هذا بالإجماع لم يصح ما ذكروه
واحتج من قال بالإباحة بقوله عز و جل قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة
والجواب أنا نحمل ذلك على ما ورد الشرع بإباحته من الطيبات بدليل ما ذكرناه
وعلى أنه يعارضه قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام فمنع الله تعالى من الحكم في الشيء بأنه حلال أو حرام فدل على أنه متوقف على ما يرد الشرع
قالوا الانتفاع بملك الغير على وجه لا ضرر عليه فيه جائز كالمشي في ضوئه والاستظلال بظله وهذه الأعيان لا ضرر على الله في الانتفاع بها فوجب أن لا يكون الانتفاع بها جائزا
قلنا لو كان هذا طريقا في إباحة الانتفاع بها قبل ورود الشرع لوجب أن يقال لا يجوز ورود الشرع بتحريم الانتفاع بها لأن ما لا ضرر على المالك فيه

لا يجوز أن يمنع من الانتفاع به كما لا يجوز للواحد منا أن يسمي غيره من المشي في ضوئه والاستظلال بظله ولما أجمعنا على جواز المنع من الانتفاع بها دل على بطلان ما ذكروه
واحتجوا بأن الحكيم لا يخلق شيئا إلا لغرض ووجه من الحكمة يقتضي خلقه وقد خلق هذه الأعيان فلا يخلو إما أن يكون خلقها ليضربها وهذا لا يليق بالحكيم أو لينتفع بها فلو يخلو إما أن يكون قصد نفع نفسه وهذا محال لأنه غير محتاج إلى شيء فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها الناس وإلا خرج عن أن يكون خلقها بحكمة وصار عبثا فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وعلى هذا يدل قوله تعالى الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا فأخبر أنه خلق الجميع لنا فدل على ما قلناه
الجواب أنهم بنوا ذلك على أصلهم في تعليل أفعال الله تعالى ونحن لا نقول بذلك ثم هذا يقتضي أن لا يجوز تحريم الخمر والخنزير ويقال إنه لا يخلو من أن يكون خلقهما ليضربهما وهذا لا يجوز في الحكمة بهما أو لينفع نفسه وهو غير محتاج إلى شيء أو لينفع بهما الناس فقد حرمهما عليهم فيجب أن يكون عبثا ولما بطل هذا بعد التحريم بالشرع بطل قبل التحريم بالشرع
وعلى أنه يجوز أن يكون خلقهما ليمتحنهم بالكف عنها ليثبتهم على ذلك أو خلقها ليستدل بها على أن لها خالقا أو خلقها لقوم آخرين يأتون بعدهم أو خلقها ليوصلهم إلى الانتفاع بها على صفة مخصوصة كما خلق لهم الجنة ليوصلهم إليها على صفة مخصوصة وإذا احتمل هذه الوجوه لم يجز أن يحمل الأمر فيها على الإباحة ولا على الحظر ولا على العبث
وأما الآية فنحن نقول بها لأنه خلق ذلك لنا ولكن ليوصله إلينا على الوجه الذي بيناه فسقط ما قالوه
قالوا ولأن المباح ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه

وعندكم أن من فعل شيئا قبل ورود الشرع لم يستحق عليه ثوابا ولا عقابا فهذا اسم له حكم الإباحة
والجواب أن المباح ما أخبر صاحب الشرع بأنه لا ثواب فيه ولا عقاب عليه وهو وإن قلنا إنه لا ثواب عليه فإنا لا نقول إنه مباح لأن الشرع لم يرد فيه بالثواب والعقاب وهذا كما نقول في أفعال البهيمة إنه لا ثواب فها ولا عقاب ثم لا نقول إن ذلك مباح ولا محظور حيث لم يرد الشرع فيها بالثواب والعقاب فكذلك هاهنا
قالوا ولأن القول بالوقف يؤدي إلى ترك الوقف وذلك أن القول به لا يخلو من أن يكون حقا يجب اعتقاده والقول به أو باطلا فلا يجوز اعتقاده
فإن كان حقا يجب اعتقاده بطل القول بالوقف لأنه وجب الاعتقاد
وإن كان باطلا لم يجز القول به
قلنا الوقف هو الحق ومعناه أنه لا عقاب على أحد فيها بفعله ولا ثواب في شيء بفعله ولا وجوب في شيء من الأشياء حتى يرد الشرع به في الوقف الذي قلناه وليس إذا كان ذلك هو الحق وجب فيه الاعتقاد إذا لم يكن على صفة الوجوب فيجب أن يقيم الدليل على ذلك وأنه إذا كان حقا وجب اعتقاده وليس هناك ما يوجب الاعتقاد
وعلى أنه يجوز أن يكون الشيء على صفة من الصفات ثم لا يجب على الإنسان فيه معرفة ولا اعتقاد
ألا ترى أن كثيرا من المخلوقات لها صفات هي عليها في الحقيقة ثم لا يجب البحث عنها والكشف عن حقيقتها وصفتها ثم لا يقال إنه لما لم تجب معرفتها على حقيقتها وصفاتها لم تكن تلك الصفات ثابتة لها في الحقيقة فكذلك هاهنا والله أعلم

أقسام الكتاب
1 2